تفسير سورة طه

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة طه من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات: (١- ٨) [سورة طه (٢٠) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨)
التفسير:
قوله تعالى:
«طه»..
قيل: إن طه، منادى، ومعناه: يا رجل.. وقيل: إن «طه» بمعنى رجل هو فى اللغة النّبطية، وقيل فى السّريانية.. وقيل فى لغة بعض القبائل العربية، واستدلّ القائلون بهذا، بأشعار أوردوها..
والرأى عندنا، أن «طه» حرفان، هى: الطاء والهاء، وقد بدئت السورة بهما، على ما بدئت به بعض السّور.. مثل: حم، ويس..
ولعل أقرب مفهوم لهذين الحرفين هنا، هو أنهما من السهولة، والوضوح، بحيث لا يخفى أمرهما على ناطق باللسان العربي.. وهكذا شأن القرآن الكريم، فى آياته وسوره، وفيما حمل إلى الناس من أحكام، وشرائع، ومواعظ..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى آخر سورة مريم: «فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ»..
777
فهو ميسّر للذكر والفهم، كتيسير طاء وهاء، فى وضوحهما ويسرهما، نطقا، ومدلولا..
قوله تعالى:
«ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى».
فى هذه الآية الكريمة نفحة من نفحات السّماء، وروح من رحمة الرّحمن، يتلقاهما النبىّ الكريم، من ربّه، وهو فى هذا المعترك الصاخب بينه وبين قومه، الذين لج بهم العناد، وأعماهم الضلال، فركبوا رءوسهم، وأبوا إلا خلافا عليه، وسخرية به، وإيذاء له.. وهو البارّ بهم، الحدب عليهم، الحريص على هدايتهم، واستنقاذهم من الضلال والهلاك..
وليس يدرك ما كان يجد النبىّ من خلاف قومه عليه، من أسى وحسرة، إلا من يستمع إلى قوله تعالى فى وصف الله سبحانه للرسول بقوله: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ» (١٢٨: التوبة).
وليس يتصور مدى ما كان يحمل النبىّ من آلام، وما يكابد من مشقات، وهو يدور حول هؤلاء السفهاء من قومه، ليجد منفذا ينفذ منه إلى مواقع الهدى منهم ومواطن الاستجابة فيهم- ليس يتصور هذا، إلا من يستمع إلى قوله تعالى، ناصحا لنبيه داعيا إياه إلى الرفق بنفسه، والمصالحة مع كيانه، الذي كاد يتمزق ألما وضيقا وحسرة عليهم..
إذ يقول سبحانه وتعالى له: «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» (٨: فاطر) ويقول جل شأنه: «وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» (١٣٧: النحل) ويقول جل من قائل: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» (٦: الكهف) ويقول سبحانه:
778
«أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (٩٩: يونس)..
هكذا كان يعيش النبىّ مع قومه، فى عطفه ورحمته، وهم فى غلظتهم وسفاهتهم.. وهكذا كانت تنزل عليه آيات ربه، تدعوه إلى الترفق بنفسه، والتخفف من حرصه.. وهو- صلوات الله وسلامه عليه- بما ملأ الله به قلبه من رحمة، لا يكاد يمسك من نفسه هذا التيار المتدفق من الرحمة والحنان، حتى تغلبه رحمته، وإذا هو على هذا الطريق المسدود.. يهتف ولا مجيب، وينادى ولا مستمع! - وفى قوله تعالى: «ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» أكثر من نصح للنبىّ، إلى الرفق بنفسه.. بل إنه شىء أقرب إلى العتاب واللوم.. ولكنه عتاب فى مقام الفضل والإحسان، ولوم فى موطن المبالغة فى الفضل والإحسان، شبيه بقوله:
تعالى: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ» (١: التحريم)..
فالقرآن الكريم هو رحمة الله المنزلة على عباده.. فكيف يشقى به النبىّ، ويحمل منه هذا العبء الثقيل الذي تنوء به الجبال؟ كيف هذا، وهو الذي من حقّه أن يأخذ من هذه الرحمة النصيب الأوفى، والحظ الأعظم؟
إن الله سبحانه وتعالى، ما أنزل عليه القرآن الكريم، ولا اختصه به، إلا ليسكن به فى قلبه السكينة والمسرة، وإلا ليملأ به كيانه روحا، وأنسا..!
فكيف يشقى به، ويحمل منه هذا العناء الشديد؟
- «ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» فرفقا بنفسك، ودع هؤلاء الغواة الضالين وشأنهم، بعد أن بلغتهم رسالة ربك..
779
قوله تعالى:
«إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى»..
تذكرة مفعول لأجله، للفعل فى قوله تعالى: «ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ» أي ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن يخشى، لا لتشقى به وتحمل نفسك هذا العناء الشديد المتصل، الذي أنت فيه.
فمن كان عنده استعداد لقبول الهدى، فإنه لأول لقاء له مع القرآن الكريم، جدير به أن يؤمن، ويستجيب لله وللرسول.. وأما من كان ممن ختم الله على قلبه، وجعل على سمعه وبصره غشاوة، فإنه لن يهتدى أبدا، ولو قضيت العمر كله، تأتيه من كل جانب. وتلقاه بكل سبيل..
واختصاص أهل الخشية بالتذكرة والانتفاع بالقرآن، لأنهم هم الذين ينظرون إلى عواقب الأمور، ولا يعيشون ليومهم كما يعيش أهل السفاهة والضلال.. فإن من خشى العواقب استعمل عقله، وقلّب وجوه الأمور التي تعرض له.. ، فاستبان له وجه الحق منها.
قوله تعالى:
«تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى».
تنزيلا مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره تنزل، أي تنزل هذا القرآن الذي أنزله الله عليك تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى..
والمراد بالتنزيل أنه نزل منجما، مفرقا، لا دفعة واحدة.. وهذا من أمارات الرفق بالنبيّ الكريم، كما يقول سبحانه: «كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ».
قوله تعالى:
«الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى»..
هو بيان لقدرة الله تعالى، وبسطة سلطانه على هذا الوجود الذي أوجده..
780
فهو سبحانه قد استوى على عرش هذا الوجود، وانفرد بمقام الملك والحكم فيه، لا ينازعه أحد، ولا يشاركه شريك من صاحبة أو ولد!..
وقد كثر القول بين أصحاب المقولات، من فرق المعتزلة، والقدرية، والمجسّدة، وغيرهم- كثر القول والخلاف فى تأويل العرش، والاستواء على العرش.. وخير ما قيل فى هذا المقام قول الإمام مالك وقد سئل عن تأويل الآية، فقال للسائل: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة.. وما أراك إلا مبتدعا».. فمن ذا الذي يعلم العرش؟ ثم من ذا الذي يعرف ذات ربّ العرش؟ وإن كان ذلك فوق العقل، فكيف يعرف شأن ذات لا سبيل إلى أن تعرف؟.
قوله تعالى:
«لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى» هو بيان، لقدرة الله، وسعة سلطانه، ونفوذ أمره إلى كل موجود فى هذا الوجود، علوه وسفله.. وهذا لا يكون إلا لمن ملك هذا الوجود ملك قدرة وحكمة وعلم، بحيث يقوم الوجود كله على ميزان مستقيم، لا يهتزّ أية هزّة، وإلا لما كان لهذا المالك أن يستوى على العرش، وأن يستقرّ عليه، وأن يدوم له استقرار!.
قوله تعالى:
«وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى».
ومن دلائل ما لله سبحانه وتعالى من علم، أنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تنطوى عليه الصدور، وما تتلبس به المشاعر.
والمعنى: إن تجهر بالقول، سمعك السميع العليم، وإن تسرّ به،
781
أو تطوه فى صدرك، فإنه يسمعه ويعلمه.. «فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى» أي وما هو أخفى من السرّ، وهو حديث القلب وهجسات الخاطر.. وذلك هو الله الذي لا إله إلّا هو.. «لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى» أي له من الأسماء كل ما هو كمال كله، وحسن جميعه.. «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى».. فأى اسم يفرد الله بالكمال والجلال، ويخصّه بالربوبية والألوهية، فهو من أسمائه، التي يدعى بها، ويتعبّد له بذكرها.
الآيات: (٩- ١٦) [سورة طه (٢٠) : الآيات ٩ الى ١٦]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦)
التفسير:
فى هذه الآيات، والآيات التي ستأتى بعدها، ذكر لقصة موسى عليه السلام..
والذي ذكر من قصة موسى هنا، يمثّل مقطعا كبيرا من حيلته.. وذلك من بدء اختياره للرسالة، ولقائه فرعون، وما كان بينه وبين السحرة، ثم خروجه مع بنى إسرائيل، وغرق فرعون.. ثم ما وقع لبنى إسرائيل من
782
فتنتهم وعبادتهم العجل، وما جرى بين موسى وأخيه هرون، ثم ما جرى بين موسى والسامرىّ الذي صنع العجل، ودعا القوم إلى عبادته.
أما ذكر ميلاد موسى، وإلقائه فى الميم، وعودته إلى أمه.. فقد جاء فى أثناء القصة، تذكيرا لموسى بنعمة الله عليه، ورعايته له، تلك الرعاية التي نجا بها من فرعون حين أوحى الله إلى أم موسى أن تلقيه فى اليم، فساقه اليمّ إلى يد فرعون، الذي كان يطلب قتله!! فحفظه وربّاه، واتخذه ولدا!.
ومناسبة قصة موسى وفرعون لهذا البدء الذي بدئت به هذه السورة، هو تذكير للنبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- بما تنطوى عليه قلوب الظالمين من ظلم، وما تتلبّس بهم عقولهم من ظلام وضلال، وأنهم فى وجه الآيات المشرقة عمى لا يبصرون، وفى مواجهة الحق السافر يشهرون أسلحة الجدل والعناد، ويصطنعون مع الحق معركة، يلقون فيها بكل مالديهم من سفاهة، وسخرية واستهزاء..
فموقف موسى من فرعون، هو نفس الموقف الذي يقفه النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- من هؤلاء الفراعين، من سادة قريش، وقادة الكفر والضلال فيهم.
وفى هذا جذب للنبىّ من دائرة الضيق والأسى، التي هو فيها، حزنا على قومه، وحسرة على أنه لم يستطع أن يطبّ لدائهم ويشفى العلل المتمكنة منهم.. إنهم ليسوا أحسن حالا من فرعون، الذي لم يستطع موسى بآياته المحسوسة، أن يشفى داءه، ويذهب بعلته.. فليمت هؤلاء الفراعين بدائهم، كما مات فرعون بدائه.. ولن يندبهم أحد، ولن يأسى على مصابهم قريب أو حبيب.
783
وتبدأ القصّة بهذا الاستفهام، الذي يثير أشواق النفس إلى الاستماع للجواب عن هذا السؤال المثير:
«وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً» أي لمحتها، وفى التعبير عن رؤية النار بالفعل «آنست» الذي يدلّ على الأنس بها، والبشاشة بوجودها، ما يشير إلى أن موسى كان فى وحشة ليل بهيم، فى هذه الصحراء التي لا أحد فيها.. فهو فى وحشة الليل، ووحشة الوحدة.. فلما رأى النار، وجد شيئا من الأنس والطمأنينة، لأن النار لا بد أن يكون عندها من أوقدها.. وكان موسى قادما من مدين إلى مصر ومعه زوجه بنت شعيب عليه السلام.
«لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً».. فهو إذ يتجه إلى حيث تشتعل النار، إنما يرجو أن يأتى منها «بقبس» أي شىء من الحطب المتّقد، أو يجد عند النار من يدلّه على الوجهة التي تتجه به إلى مصر..
وفى قوله: «عَلَى النَّارِ» بدلا من «عند النار» إشارة إلى أن الوقت كان بردا، وأن من يوقد النار إنما كان يوقدها ليستدفئ بها ويعلوها..
«فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى».
وما كاد موسى يبلغ النار، حتى نودى من قبل الحقّ جلّ وعلا:
«يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ.. فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» تأدبا، لأنك فى مقام تخاطب فيه ربّك ويخاطبك.. «إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً» أي بالوادي المبارك، المطهّر، الذي باركه الله وطهّره بمناجاتك فيه..
وطوى: هو اسم البقعة من هذا الوادي، أو هو نفس الوادي.
784
- «وَأَنَا اخْتَرْتُكَ» واصطفيتك لرسالتى.. فأنت منذ الآن رسول من رسلى.. «فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى» إليك منى..
«إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ، لا إِلهَ إِلَّا أَنَا، فَاعْبُدْنِي، وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي».
فهذا أول ما يستقبل الرسول من أمر ربّه.. أن يعرف ربّه، ويعرف صفاته، ثم يعبده كما أمره.. «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ» فاعرف من يخاطبك.. «إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ.. لا إِلهَ إِلَّا أَنَا» ليس هناك إله غيرى.. وإذ تقرر ذلك، وعرفته وآمنت به «فاعبدنى» أي كن عبدا لى، وعابدا.. «وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي».. أي اجعل الصلاة هى العبادة التي تذكرنى بها.. وخصّت الصلاة بالذكر من بين العبادات، لأنها هى المناجاة التي يناجى بها العبد ربّه، ويكشف فيها عن ولائه، وما ينطوى عليه قلبه من تعظيم لله، وولاء له، وانقياد وخضوع لجلاله وعظمته..
«إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى».
وممّا ينبغى أن يؤمن به الرسول قبل أن يبدأ رسالته، أن يؤمن بالآخرة، كما آمن بالله، وأن يستيقن أنها آتية لا ريب فيها..
- وفى قوله تعالى: «أَكادُ أُخْفِيها» إشارة إلى أن الساعة غيب من غيوب الله، وأنها محجبة وراء ستر الغيب، وأن الذي يؤمن بها إنما يؤمن إيمان غيب، لا إيمان شهادة ومعاينة.. ومع هذا، فإنّ هناك من الأمارات، والدلائل، ما يجدها العقل بين يديه، ليستدلّ منها على أن الحياة الدنيا ليست هى مبدأ الإنسان، ونهايته، وأنه لا بد أن يكون وراء هذه الحياة حياة أرحب وأوسع، لتجزى فيها كلّ نفس بما عملت فى هذه الدنيا.. وهذا هو السرّ فى قوله تعالى: «أَكادُ أُخْفِيها» ولم يجىء النظم القرآنى «أخفيتها» فهذا التعبير القرآنى يحمل فى طياته إشارة مضيئة إلى أن الإنسان مطالب- بما أودع الله
785
سبحانه وتعالى فى كيانه من قوّى عاقلة مدركة- بأن يتجنب الشر، ويتجه إلى الخير، وأن يتنكب طرق الضلال، ويأخذ طريق الهدى، وبذلك يكون مهيئا تلقائيّا للقاء الآخرة، وللفوز برضوان الله فيها.. أما من زهد فى عقله، وتنكر لفطرته، فركب طريق الغواية والضلال، فإن ما يلقاه فى الآخرة من عذاب وبلاء، هو الجزاء العادل الذي يستحقه.
وهذا يعنى أنه إذا لم تكن هناك آخرة، أو حساب وجزاء- فإنه كان جديرا بالإنسان أن يحاسب نفسه، ويقيمها على ما هو أكرم لإنسانيته، وأحفظ لقدرها وكرامتها..
- وقوله تعالى «أَكادُ أُخْفِيها» أي أكاد ألّا أنبئ أحدا عنها، وألا يقع فى حساب الناس أنها آتية، حتى يعمل كل بما فى طبيعته، وحتى يجزى كل بما هو أهل له، إذا جاء يوم الحساب، على غير حساب أو انتظار من الناس.
ولكن رحمة الله بعباده، قد شملتهم، فأنذروا بهذا اليوم قبل أن يقع، وحذّروا بما فيه من نكال وبلاء للضالين والمنحرفين، ووعدوا بما فيه من خير ونعيم ورضوان، للمؤمنين المتقين..
«فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى» وفى هذا إشارة إلى بنى إسرائيل، وتعريض بإيمانهم بالآخرة، إذ كان إيمانهم بها إيمانا غير مستيقن.. وإنما هو متلبس بالشكّ، والظنون.. ذلك أنهم لا يؤمنون إلّا بما هو مادىّ، يجبه حواسّهم، وفى هذا يقول الله عنهم:
«وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» (٥٥: البقرة) يقولون هذا عن الله وآيات الله تنزل عليهم من السّماء، يرونها رأى العين، ويعيشون فيها، فكيف بيوم القيامة وليس فى أيديهم شىء منه؟
786
الآيات: (١٧- ٢٤) [سورة طه (٢٠) : الآيات ١٧ الى ٢٤]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤)
التفسير:
فى هذه المرحلة من رسالة موسى، يبدأ الاستعداد للمرحلة الثانية، التي هى رسالته إلى قومه بنى إسرائيل، وذلك بعد أن يخلصهم من يد فرعون.
ولكن قبل أن تبدأ هذه المرحلة، وقبل أن يدعى موسى إلى لقاء فرعون، تكون له وقفة بين يدى ربّه، يهيئه فيها لهذا اللقاء المثير المخيف.
وها هو ذا موسى يستمع إلى نداء ربه..
«وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى؟» إن موسى يعرف ما بيمينه، ولهذا قال على الفور:
- «هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها.. وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي.. وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى»..
وهذا الوصف المستغرق لصفات العصا، إنما هو لما وجد موسى من غرابة، السؤال، ووقعه على نفسه.. فليس بين يديه إلا عصا كسائر العصىّ.. يتوكأ عليها، ويهشّ بها على غنمه، ويردّ بها كل عاد عليه، أو يعلق عليها أدواته..
787
أو نحو هذا مما تستخدم له العصىّ فى يد من يحملونها..
وكأنّ موسى قد استشعر من هذا السؤال أنه يحمل شيئا منكرا، لا يليق بمن يخاطبه الله، ويصطفيه لرسالته، أن يحمله.. ولهذا أعطى عصاه كل الأوصاف التي يحملها من أجلها..
وفى هذا الوصف يتحقق موسى أن عصاه هذه ليست إلا عصا من العصىّ التي يحملها الرعاة، والتي يقتطعونها من أغصان الأشجار..
وإذن فليعلم موسى من أمر هذه العصا ما لم يكن يقع له فى حسبان!.
«قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى»..
ولا شك أن موسى قد فزع واضطرب.. وقد فزع واضطرب فعلا، وولّى مدبرا ولم يعقب.. كما يقول سبحانه فى موضع آخر.. «فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ» (٣١: القصص)..
ولهذا جاء قوله تعالى له:
«قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى»..
وهكذا أخذ موسى العصا، فإذا هى على ما كان يعهدها عليه..
«وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ.. آيَةً أُخْرى»..
هو معطوف على قوله تعالى: «خُذْها» أي خذ العصا، «وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ».. ولهذا جاء الأمر هنا غير مسبوق بالقول! - وقوله تعالى: «آيَةً أُخْرى» منصوب باسم فعل محذوف، تقديره: إليك آية أخرى، إلى تلك الآية الأولى، آية العصا، التي عرفتها.. ويمكن أن يكون منصوبا على الحال من قوله تعالى: «تَخْرُجْ بَيْضاءَ» حالة كونها آية أخرى، إلى الآية السابقة، وهى العصا..
788
«لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى» أي فعلنا ذلك لتشهد ما لنا من قدرة، وما بين أيدينا من آيات.. فهذه بعض آياتنا، وإن آياتنا كثيرة لا تنتهى، عظيمة لا تحدّ..!
وإذا عرفت من بعض مظاهر قدرتنا ما قد عرفت، فلا يهولنّك أمر وإن عظم، ما دمت مندوبا من قبلنا، داعيا باسمنا..
«اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى».. ولا يخيقنك طغيانه، ولا يروعنّك سلطانه.. إنك- بتأييدنا لك- أشد منه قوة، وأعز سلطانا..
الآيات: (٢٥- ٤١) [سورة طه (٢٠) : الآيات ٢٥ الى ٤١]
قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩)
هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤)
إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩)
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١)
789
التفسير:
ويتلقى موسى أمر ربه بلقاء فرعون.. ويقع اسم فرعون من نفسه موقعا يثير الرعب والفزع.. إنه فرعون بجبروته، وعتوه!! فيضرع إلى الله أن يعينه على مواجهة هذا البلاء، وأن يذهب ما به من اضطراب وفزع! «قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي» حتى يتّسع لامتثال أمرك، ويتقبله قبولا حسنا، فلا يضيق به، ولا يجد حرجا منه..
«وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي».. فإن الموقف خطير، والأمر عظيم.. فإذا لم يكن منك العون والتيسير، فلا طاقة لى به، ولا حيلة لى فيه..
«وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي» أي امنحني بيانا وقدرة على محاجّة فرعون، وغلبته، حتى يفقه هو والملأ من حوله، قولى، ويعقلوه، وحتى لا تأخذهم العزّة بالإثم، فلا يقبلوا قولا، ولا يتمهلوا حتى أبلغهم ما أرسلت به إليهم، وأسمعهم إياه، بل يعاجلوننى بالردّ، وربما بالعقاب قبل أن أبلّغ رسالة ربى.
«وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي».. أي واجعل لى معينا يعيننى على أداء رسالتى إلى فرعون، وليكن هذا المعين هو هرون، أخى، فهو بحكم عاطفة الأخوة حريص على سلامتى، يقف إلى جانبى فى ساعة العسرة، ولا يتخلّى عنىّ..
والوزير، هو المعين المساعد، وهو من المؤازرة، والمعاونة..
«اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» أي اجعله ردءا لى، يقوّى ظهرى.. واجعله شريكا لى فى هذا الأمر الذي ندبتنى له، وأكرمتنى به..
فلا تخصنى وحدي بالكرامة دون أخى..
790
«كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً» أي بهذا الإحسان الذي تحسن به إلى هرون أخى كما أحسنت إلىّ، تتضاعف نعمك علينا، ويعظم إحسانك إلينا، وبدلا من أن يشكرك لسان واحد، سيشكرك لسانان، لسانى، ولسان أخى.. فأنت أعلم بنا، وبما تريده لنا من فضل وإحسان «إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً».
«قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى».. السّؤل: ما يسأل من خير..
وأوتى سؤله: أي أجيب إلى ما طلبه من ربّه.
«وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً. فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي».
فى هذه الآيات عرض، للفترة الأولى من حياة موسى وهى الفترة التي تخطتها الآيات السابقة، فعرضت موسى وهو فى دور الرجولة التي أصبح أهلا فيها لتلقّى الرسالة من ربّه..
وقد جاءت هذه الآيات حديثا لموسى من ربّه، يذكّره فيها بنعمه عليه، وإحسانه إليه من قبل الرسالة.. فهو سبحانه قد نظر إليه بعين اللطف والرعاية، منذ ولادته، بل ومن قبل أن يولد.. فقد ولد موسى فى حال كان فرعون فيها مضيّقا الخناق على بنى إسرائيل، مسلّطا أعوانه على قتل كل مولود ذكر يولد لهم.. وكانت أم موسى حاملا به، حاملة معه الهمّ الثقيل الذي يؤرّق ليلها، ويشقى نهارها.. إنّها تحمل فى كيانها وليدا تستقبله يد الذابحين إذا أطلّ بوجهه على
791
هذه الدنيا، بل ربّما أخذته يدهم قبل أن يولد، فشقّوا بطنها عنه، وأخذوه حيّا أو ميتا..!
- وفى قوله تعالى: «إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى» إشارة إلى أن ما أوحى به إليها إنما كان مما يناسب هذه الحال التي هى فيها، ولهذا صدّر الوحى بكلمة «ما» الدالة على التعميم، والتي فسّرت بقوله تعالى: «أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ» وهو ما أوحى إليها به..
وفى العدول عن أن يكون النظم القرآنى هكذا: ضعيه فى التابوت ثم ضعيه فى اليم- إلى ما جاء عليه النظم القرآنى: «أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ، فِي الْيَمِّ» - إشارة إلى أن الخطر المطلّ عليها من أعوان فرعون، كان داهما دانيا، وأنها إذا لم تعجّل بهذا العمل أخذ وليدها منها.. ولهذا عطف قذفه فى اليم على قذفه فى التابوت بحرف الفاء، الذي يفيد التعقيب المباشر، دون فاصل زمنى بين الأمرين..
والتابوت، أشبه بالصندوق، يسوّى من خشب أو نحوه.. وفى قوله تعالى:
- «فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ» أمر من الله سبحانه وتعالى إلى اليمّ، وهو النهر، أن يلقى موسى إلى الساحل، وألا يبتلعه فى كيانه.. وهذا إشعار لأم موسى بالطمأنينة على وليدها، وأن اليمّ لن يبتلعه، وقد تلقّى هذا الأمر من صاحب الأمر فيه.
- وكذلك ما جاء فى قوله تعالى: «يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ».. إنه أمر لفرعون أن يأخذ هذا الوليد.. وفرعون هذا عدوّ لموسى.. ومع هذا، فإنه لا يملك من أمر نفسه، إلّا أن يأخذ عدوّه هذا، ويربيه، ويجعله ابنا له!! فما أعظم قدرة الله، وما أمكن سلطانه!.
- وفى قوله تعالى: «وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» إشارة إلى ما صنع الله لموسى، إذ جعل عدوّه الذي يطلب قتله، محبّا له، حبّ الآباء
792
للأبناء! وهكذا يربّى موسى فى ظل من رعاية الله سبحانه وتعالى، تلك الرعاية التي تجعل له من الشرّ خيرا، ومن العدوّ صديقا..! «إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» (١٠٠: يوسف) ثم كان من تدبير الله لموسى، أن أعاده إلى أمه، فجمع بينه وبينها فى بيت فرعون لتكون له مرضعا.. مرضعا لابن فرعون هذا المتبنّى!! ومن لطف الله بموسى أن نجّاه من يد فرعون، وكان فرعون قد طلبه ليقتصّ منه بقتيل قتله.. فنجا موسى، وهرب إلى مدين.. ثم ها هو ذا يعود إلى مصر، ليلقى فرعون مرة أخرى! فهل مع هذا، وبعد هذا، يخشى موسى بأس فرعون وبطشه؟
إنه قد فوّت على فرعون فرصتين كانتا قد سنحتا لقتله من قبل..
فهل كان مع موسى حول أو حيلة يدفع بهما عن نفسه ما كان سينزل به فى كلتا الحالين.. حين كان فرعون يطلبه وليدا، وحين كان يطلبه قاتلا؟
فكيف يخشى فرعون الآن، بعد أن قهره مرتين، وهو لا شىء..
أما الآن فهو يحمل بين يديه آيتين، معجزتين، متحدّيتين.. يحار فرعون فيهما، ويخزى أمامهما، ويفتضح كبره وجبروته بهما، على الملأ من قومه..
ثم كيف يخاف بأس فرعون وجبروته، والله معه.. يخاطبه، ويؤيده؟
ولهذا جاء بعد هذا الإعداد الكامل لموسى، وبعد أن ملأ يديه من السلاح السّماوى القاهر الذي لا يغالب- جاء الأمر إلى موسى بأن يلقى فرعون، وهو أمر قد تلقاه من قبل فى صيغة موجزة، أشبه بالإشارة إلى هذا الأمر المجدّد.. كما سنرى فى الآيات التالية.
793
الآيات: (٤٢- ٥٦) [سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٢ الى ٥٦]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦)
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١)
قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦)
التفسير:
ولا يتوجه الأمر هنا إلى موسى وحده، بل إليه وإلى أخيه هرون..
«اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ» فأنت الآن لست وحدك.. «بآياتى» أي ومعكما آياتي التي وضعتها بين يديكما «وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي» لا تضعفا ولا تفترا
794
فى ذكرى بل اجعلا ذكرى حاضرا فى قلبيكما، جاريا على لسانيكما.. فهو الزاد الذي يمنحكما القوة على اقتحام هذا الهول الذي أنتما مقدمان عليه.
«اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ» فهذه هى وجهتكما.. إنها إلى فرعون..
«إِنَّهُ طَغى» وتكبر، وعلا فى الأرض، وقال لقومه أنا ربكم الأعلى..
«فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى».. فهذا شأن الحكماء مع الجهلاء، وموقف الأطباء من المرضى.. اللين واللطف، والموادعة..
فإن لقاء السفاهة بالسفاهة، والجهل بالجهل، هو نفخ فى النار الموقدة، وإمداد لها بالوقود، الذي يزيدها اشتعالا وتأججا..
«قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى».
كم كان فرعون باغيا متسلطا، وجبارا عنيدا؟ وكم أوقع فى قلوب الناس من فزع ورعب، حتى كاد يكون ذلك طبيعة متمكنة فيهم، لا يمكن مغالبتها إلا باستئصالها بعملية أشبه بتلك العمليات الجراحية، التي تغيّر من خلق ذوى العاهات!؟
وإلّا فما بال موسى، وقد رأى من آيات ربّه ما رأى، فى كل مرحلة من مراحل حياته، ثم أمدّ من السماء بهذه الأسلحة من المعجزات القاهرة المتحدية، ثم كان إلى جانبه أخ له، رفده الله سبحانه وتعالى به، وجعله عونا وظهيرا له- ما باله لا يزال مع هذا كلّه يخشى فرعون، ويرهبه؟ إن ذلك ليس إلا لما كان عليه فرعون من جبروت أوقع به فى قلوب الناس هذا الخوف الرهيب، الذي يندسّ فى كيان الناس، ولا يخرج أبدا!.
ومعنى «يفرط» أي يعجل علينا بالعقوبة، قبل أن يسمع منا ما أرسلنا به إليه، «أَوْ أَنْ يَطْغى» أي يتجاوز هذا إلى العدوان على ذاتك والتطاول على مقامك العلىّ.
795
- «قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى».. وفى ظلّ هذا الوعد الكريم من الله سبحانه، يجد موسى وهرون ما يسكن به خوفهما، وتثبت به أقدامهما.
«فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى».
وهكذا يلقى الله سبحانه وتعالى إليهما بمحتوى الرسالة، ويلقّنهما الكلمات التي يقولانها لفرعون، فى هذا الإيجاز الخاطف، وفى تلك العبارات القصيرة المتتابعة، التي تشبه طلقات المدفع! «إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ.. «فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ.. «وَلا تُعَذِّبْهُمْ.. «قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ.. «وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى..
إن فرعون لا يصبر على الاستماع، وإنّ أحدا لا يجرؤ على أن يجرى معه حديثا ممتدا.. فما اعتادت أذنه أن تسمع كلاما، وإنما هو الذي يتكلم.
وسرعان ما تتحول الكلمات إلى أفعال..
ولهذا كان هذا التدبير الحكيم، بتلخيص الرسالة التي جاءه بها موسى وهرون من ربهما، وإيجازها هذا الإيجاز المعجز! لقد أدى الرسولان رسالة ربهما.. وها هما ذان الآن يستعدان لمواجهة العاصفة..
ولكن لا تزال للرسالة بقية، وإن ظهر أنها أنهيت بهذا السلام الذي ختمت به. وإنه لا بأس من أن يستمع فرعون أو لا يستمع إلى بقية الرسالة، فقد استمع
796
إلى الصميم منها، وما بقي هو أشبه بالتذييل لها، والتعقيب عليها.. ولهذا يقول الرسولان، فى صوت خفيض، وهما يتراجعان إلى الوراء:
«إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى» ! إنه أشبه بالحديث إلى النفس، أكثر منه بالحديث إلى فرعون..! إنهما لا يواجهان فرعون بهذا القول باعتباره مقولا من مقولاتهما، وإنما هو وحي أوحى إليهما به.. وإنهما ناقلان لهذا الوحى.. لا أكثر ولا أقل..
ويدهش فرعون لهذه المفاجأة، التي طلع بها عليه هذان الرسولان، وتضل من وعيه الكلمات التي سمعها، ولا يمسك منها إلا بالكلمة الأولى منها.. «إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ».
ويقلّب هذه الكلمة «ربّك» ويوردها على ذاته الإلهية، فيرى أن الرسولين ينسبانه إلى ربّ.. وهذا هو النكر أعظم النكر؟ أربّ يضاف إلى ربّ؟ إنه إن تكن ثمة إضافة فهو الربّ الأعلى الذي تضاف إليه الأرباب..
وإنه إذا جاز أن يكون للناس رب. فلن يكون له هو رب..
ولهذا اتجه إلى موسى مخاطبا فى تهكم واستنكار..
«قالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى!» إنه لا ينتسب إلى رب، فإذا كان لموسى وهرون رب غير فرعون فليقولا له من هو؟ ولهذا لم يقل فرعون: من ربى هذا؟ بل قال من ربكما أنتما؟
وكان جواب موسى:
«قالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى»..
وفى هذا الجواب، تحدّ لفرعون، وأنه ليس هو ربّا بهذا الادعاء الكاذب الذي يدعيه، ويقبله منه قومه!
797
ربنا خالق كل شىء، ومدبر كل شىء.. فهل لك يا فرعون فى هذه المخلوقات من خلقته ودبرت أمره؟
إن الرب الخليق بهذا الاسم، الجدير بهذا الوصف، هو من يخلق، ويرزق، ويحيى، ويميت.. فمن خلقت يا فرعون؟ ومن أحييت؟
- وقوله: «أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ» أي خلق كل مخلوق على الصورة التي بها يستقيم وجوده.. فكل شىء مخلوق بتقدير، وحساب..
- وقوله: «ثُمَّ هَدى» هو من تمام الخلق، حيث أودع الخالق العظيم، فى كل مخلوق، ما يتهدّى به إلى حفظ ذاته، وبقاء نوعه..
وهذا دليل على أن كل مخلوق- صغر أو كبر- هو عالم بذاته، فى تقدير الله سبحانه وتعالى، وتصويره له، وقيامه على أمره..
وقد وجم فرعون لهذا الجواب المفحم.. فأدار الحديث إلى وجه آخر..
«قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى» ؟..
ولم القرون الأولى؟ وهل فرعت يا فرعون من النظر فى نفسك، وفيمن حولك، وما حولك؟
إنها مماحكة، يراد بها التضليل، والتمويه على من حوله.. ليروا منه أنه قد أخذ بقول موسى، وبوصفه لربه.. وحتى لكأن هذا الوصف ينطبق عليه هو.. وإذن فلا خلاف!! ويجيب موسى على هذا السؤال المماحك:
«قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي.. فِي كِتابٍ.. لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى»..
798
لم يشأ موسى- فى هذا الجواب- أن يجرى مع فرعون فى هذا التيه، وأن يبتعد عن غايته التي جاء من أجلها..
ولهذا جاء إلى فرعون بالجواب على تلك الصورة: «عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي» أي لا أعلم من أمرها شيئا.. وإنما علم ذلك عند ربى.. ثم أتبع ذلك بقوله:
«فِي كِتابٍ» أي أن أخبار هذه القرون السابقة وأحوال الشعوب والأمم الغابرة، مسطورة فى كتاب.. ثم لكى يقطع على فرعون الطريق إلى أن يسأله «وهل ربك ينسى حتى يسجل ما يقع من أحداث؟» - لكى يقطع الطريق إلى هذا، قال: «لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى» أي أن هذا الكتاب الذي تسجل فيه أحداث الوجود، إنما هو بعض علم الله، كما أن هذا الوجود هو بعض قدرته..
أما ربى فإنه لا يضل ولا ينسى..
هذا هو ردّ موسى على فرعون، وجوابه على هذا السؤال المماحك الغبي..
أما قوله تعالى:
«الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى»..
أما هذه الآيات الأربع، فإنها معترضة بين أحداث القصة، لتذكر بنعم الله، وتزيد فى العرض لدلائل قدرته، ثم إنها من جهة أخرى فاصل بين مجرى الأحداث، يخرج فيه الناس من هذا الجو المتأزم، إلى رحاب هذا الوجود، حيث يستمعون فيه إلى هذا النشيد العلوي، المسبح بحمد الله، المحمل بجلائل نعمه وأفضاله على عباده..
799
- «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً» أي مهادا، وبساطا ممتعا، «وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا» أي طرقا تسلكونها فى البر والبحر.. «وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى» أي أخرجنا بهذا الماء عالم النبات كله من حشائس، وزروع، وأشجار.. وهو عالم متزاوج كعالم الحيوان والإنسان، فيقوم التوالد فيه كما يقوم فى عالم الإنسان والحيوان.. باللقاح بين الذكر والأنثى..
- «كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ» إنه أمر يراد به التذكير بهذه النعمة العظيمة، التي تقوم عليها الحياة للناس ولأنعامهم..
- «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ» أي فى هذه المعارض من قدرة الله، المبثوثة فى هذا الوجود آيات مبصرة «لِأُولِي النُّهى» أي العقول الواعية، والبصائر المدركة..
- «مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى»..
أي هذه الأرض التي أنتم عليها، والتي جعلها الله بساطا ومعاشا لكم، هى أمّكم التي خلقكم الله منها، وهى القبر الذي يضمكم، ويعيدكم إلى التراب كما كنتم، وهى التي تنشق عنكم، فتخرجون منها مرة أخرى، إلى الحياة الآخرة..
- «وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى».. وإذا كان فى آيات الله تبصرة لأولى الأبصار، فإن هناك من لا يهتدى بها، ولا يجد فيها هاديا يهديه إلى الله.. ومن هؤلاء أو على رأس هؤلاء- فرعون الذي أراه الله آياته كلها..
فأراه من المحسوس آيات، وأراه من المعقول آيات.. فكذب وأبى أن يستجيب لما دعى إليه من هدى وإيمان..
والآيات المحسوسة هى ما كان بين يدى موسى من معجزات، والآيات
800
المعقولة هى ما حدّثه به موسى عن ربّه، الذي أعطى كل شىء خلقه ثم هدى.
فهذه الآيات بمحسوسها ومعقولها، تمثل الآيات كلّها التي لا تنتهى عدّا.
الآيات: (٥٧- ٧٠) [سورة طه (٢٠) : الآيات ٥٧ الى ٧٠]
قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١)
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦)
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠)
التفسير:
لقد أسقط فى يد فرعون، وبكلمات قليلة موجزة قطع موسى عليه حبل
801
المماحكة والجدل.. فجاء إلى موسى من الجانب الذي يستند فيه إلى جبروته وسلطانه، بعد أن خذله المنطق وأفحمه.. جاء إلى موسى يتّهمه بأنّه ساحر!.
ولم تذكر القصة هنا ما كان من موسى من إلقاء العصا، بين يدى فرعون، فانقلبت حيّة تسعى، وما كان من إدخال يده فى جيبه، ثم إخراجها بيضاء مشرقة من غير سوء! - لم تذكر القصة هذا الحدث، فقد جاء ذكره فى أكثر من موضع من القرآن الكريم..
وهذا يعنى أن تكرار القصة الواحدة، فى القرآن، يعنى ترابط أجزائها، بحيث يكمّل بعضها بعضا، كما سنعرض لذلك، فى بحثنا: «التكرار فى القصص القرآنى»، إن شاء الله عند تفسير سورة القصص.
قلنا: إن فرعون جاء إلى موسى بسلطانه الغشوم، يتهمه بالسّحر، وأن ما بين يديه لا يعدو أن يكون مما يتعامل به كهنة فرعون من سحر! فقال له:
«أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى». ؟
وإذن، فالمعركة لن تكون بين فرعون وموسى.. ولكنها ستكون بين موسى وسحرة فرعون! فهذا هو مكان موسى فى نظر فرعون! ولهذا بادر فرعون بإعلان البدء بالمعركة..
«فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ».. وأدخل فرعون نفسه فى المعركة باعتباره شاهدا متفرجا، يرفّه عن نفسه، بما يرى من ألاعيب السحر وفنونه! «مَكاناً سُوىً» أي واختر مكانا مبسوطا مستويا، يسع الجموع الحاشدة التي ستشهد هذا السّحر، وفنونه، وحيله!!.
«قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ» - هذا الموعد، هو يوم العيد، حيث يخلو الناس، ويفرغون لهذا اليوم.. «وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى» وأن تكون ضحوة العيد
802
هى وقت اللقاء، حيث شباب النهار، وضحوة الشمس، فلا يخفى على المشاهدين شىء! وهكذا تحدّد المكان والزمان لهذا اللقاء المثير.
«فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى» فى هذه الكلمات القليلة المعجزة، قصة طويلة، تضم أحداثا كثيرة، مما كان من فرعون فى جمع السحرة، وحشدهم، وتخيّرهم، واختبار وسائلهم، وتخيّر المناسب القوىّ منها.. كل هذا جمعته كلمة واحدة هى «كيده» فالكيد هنا، هو السحرة، والسّحر، وأدوات السحر..
«قالَ لَهُمْ مُوسى.. وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً.. فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى».
إن كل ما معهم هى مفتريات، وأباطيل، قد لفّقوها، وأخرجوا منها تلك الألاعيب التي تخدع، ولكنها لا تقنع!.
- وقوله: «فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ» أي يأخذكم بعذاب يستأصلكم..
وأصل السّحت: ما يستأصل من قشر الرأس، ومنه السّحت: وهو الحرام، الذي يهلك صاحبه ويورده النار، كما فى الحديث: «كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به».
«فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى».
لقد كثر صخب السّحرة، وضجيجهم، وتضاربت آراؤهم فيما يلقون به موسى.. ثم اختلوا بأنفسهم، حتى لا يفتضح أمرهم.. وكان مما تناجوا به أنهم فى مواجهة ساحرين يريدان أن يفسدا على فرعون وقومه أمرهم، وأن يخرجاهم من أرضهم، وأن يبدّلا دينهم.. وليس لدفع هذا الخطر إلا أن
803
يجمعوا أمرهم، ويوحّدوا كلمتهم، ويلقوا هذين الساحرين صفّا واحدا، وجبهة واحدة.. إنّ الأمر جدّ ليس بالهزل، فإمّا حياة وإما موت!.
«قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى».
وحين اجتمع للسحرة رأيهم، خرجوا على موسى يدعونه إلى النزال..
وجاءوا إليه مستعلين، متمكنين مما فى أيديهم..
فخيّروه بين أن يبدأ هو المعركة، أو يبدءوها هم!.
«قالَ أَلْقُوا».
وهكذا لقيهم موسى.. لقد أعطاهم الجولة الأولى.. وأتاح لهم الفرصة فيه، وأمكنهم منه، إن كانت بين أيديهم القوّة للقضاء عليه..
وهذا التدبير من موسى، وإن يكن مما تقتضيه آداب الحرب، ومقابلة الخصم بمثل ما قابله به من فضل- فإنه هو الموقف الذي كان لا بدّ له أن يتخذه، حيث يفرغ القوم كل ما فى أيديهم، ثم إذا ضربهم الضربة القاضية، لم يكن لقائل أن يقول إنّه لم يتح لهم فرصة كى يعملوا فيه أسلحتهم، ولو أتيح لهم هذا..
فلربما قضوا عليه، قبل أن يقضى عليهم!.
«فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى».
لقد ألقى القوم بكل كيدهم، وإذا حبالهم وعصيّهم، بما عمل فيها من حيل، يخيّل للناظر إليها أنها حيات تسعى.
«فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى».
لقد وقع فى نفس موسى، من هذا الصّخب واللّجب الذي آثاره فرعون وقومه حين ألقى السحرة بعصيّهم- لقد وقع فى نفس موسى شىء من الرهبة والخوف.. حتى ليكاد الأمر يفلت من يده..
804
«قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى».
لقد جاءت نجدة السماء إلى موسى، فربطت على قلبه، وثبتت قدمه، فألقى عصاه، فإذا هى تلقف ما يأفكون..
«فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى».
وهكذا انتهت المعركة فى لحظة خاطفة.. فلا طعن ولا ضرب، ولا كرّ، ولا فرّ.. لقد أعطى السّحرة يدهم لموسى، وآمنوا بالله ربّ العالمين..
إنها ضربة واحدة، انتهى بها كلّ شىء.. وإذا الحبال والعصىّ قد اختفت من الميدان.. إنها جميعا فى جوف الحية.. لم يبق منها فى مرأى العين رأس ولا ذنب!.
وهكذا يشهد فرعون بعينه تلك الهزيمة المنكرة، التي حشد لها كل كيده، والتي جمع لها فى يوم الزينة الجموع الحاشدة لتشهد الضربة القاضية التي يضرب بها فرعون هذا الساحر الذي جرؤ على لقائه وتحديه..
وهكذا يجىء تدبير الله فوق كل تدبير، وتعلو كلمته كل كلمة..
وإذا هذه الجموع الحاشدة كأنما دعاها موسى، واستجلبها من كلّ مكان، لتعلن فى الناس هذه الضربة القاصمة التي تلقاها فرعون على ملأ من الناس!.
ولا يجد فرعون ما يفثأ به غضبه، ويمسح فيه خزيه، إلّا السّحرة..
وها هو ذا يضرب فى وجوههم ضربات مجنونة، ويرميهم بكل ما بين يديه..
ثم يتوعدهم بالموت على أبشع صورة وأشنعها..
805
الآيات: (٧١- ٧٦) [سورة طه (٢٠) : الآيات ٧١ الى ٧٦]
قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥)
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)
التفسير:
والتهمة التي يلقى بها فرعون فى وجه السحرة، ويتهددهم بها، هى أنهم قد تواطئوا مع موسى على هذا الأمر، وأن موسى ليس إلا واحدا منهم، بل إنه كبيرهم الذي علمّهم السحر! وإذن، فإن فرعون لم يغلب فى هذه المعركة، إلا لأنها كلها كانت جبهة واحدة، ولم يكن فرعون فى الجبهة المقابلة التي تلقى هذه الجبهة وتقاتلها، وتقضى عليها..!
إنها جميعا جبهة سحرة تآمروا عليه واتّحدوا ضده! وليس موسى إلا كبيرهم ومعلمهم!..
«قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟».
هذه أول تهمة تدين السحرة عند فرعون.. إنهم آمنوا بموسى قبل أن يأخذوا إذن فرعون وإجازته!! حتى لكأنّ الإيمان بالله، عمل من أعمال
806
السيادة التي فى يد الحاكم، لا يمارسه الإنسان إلا بإذن من السلطان، فهو أشبه بأملاك الدولة، التي تحتاج إلى إذن خاص لتملكها والانتفاع بها..!!
وإذا كان للسلطان أن يملك من الناس ما يملكون من مال ومتاع، ويتسلط على الكلمة ينطقون بها، أو يأخذ عليهم السبيل إلى أي وجه يتجهون إليه- فهل يملك السلطان من الناس، ما تكنّه السرائر وما تنطوى عليه القلوب؟.
هكذا خيل لفرعون أنه يملك من الناس كل شىء، حتى خفقات قلوبهم، وخلجات صدورهم، فأنكر على السحرة أن يؤمنوا قبل أن يأذن لقلوبهم أن تستقبل أنوار الهدى ونفحات الإيمان!!.
«إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ»..
ولهذا تواطأتم معه، وكدتم هذا الكيد، الذي أخرجتم به الناس ليشهدوا تلك المعركة الخاسرة! «فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى».
لقد اختلق فرعون التهمة، ولفق الجريمة، ثم حكم، دون أن يسمع دفاعا، أو يسمح لأحد أن ينطق بكلمة! وعلى تلك النية الشنعاء يعرض فرعون السحرة، ويعدّ العدّة لتنفيذها فيهم..
- وفى قول فرعون: «أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى» إشارة إلى ما تهدد به موسى السحرة، قبل أن تبدأ المعركة، وذلك فى قوله: «وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً.. فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى».
فالعذاب الذي تهددهم به موسى، هو عذاب مؤجل ليوم القيامة.. وهذا
807
العذاب لا يدرك مداه إلا من يؤمنون بالله وباليوم الآخر..
وإذن فالذى وقع فى السحرة من هذا التهديد، هو مجرد توقعات لهذا العذاب، كما تصوره فرعون..
أما العذاب الذي سيأخذهم به فرعون، فهو عذاب حاضر واقع فى الحال، وهو عذاب- على تلك الصورة- فظيع مهول! ولهذا وازن فرعون بين عذابه، والعذاب الذي توعد موسى السحرة به، وأراهم أن عذابه أشد: «وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً» أعذابي الحاضر، أم العذاب الذي يهددكم به موسى؟ وأنا، أم موسى «أبقى» لكم، وأملك لأمركم، وأقدر على التسلط عليكم؟
«قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا.. فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا.. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ.. وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى»..
وهكذا الإيمان إذا جاء إلى الإنسان، أو جاء إليه الإنسان عن طريق النظر، والبحث، والتحليل، والتعليل.. إنه حينئذ إيمان يخالط المشاعر، ويملك القلوب، ويأسر العقول، ويجعل من الإنسان الفقير الضعيف، قوة هائلة، تتحدى الجبابرة، وتستخف بأعظم الأهوال، وأشد الخطوب..
وهل كان يقع فى الحسبان أن جماعة من رعايا فرعون، وعابديه، الذين ولدوا- كما ولد آباؤهم- فى ظل ربوبيته، وسلطان ألوهيته- هل كان يقع فى الحسبان أن يجىء يوم يقف فيه هؤلاء «العباد» فى وجه هذا «الإله» موقف التحدّى، بل والاستخفاف والسخرية؟ ولكنه الإيمان، يفعل المعجزات، ويقلب الأوضاع والمواضعات!
808
وقولهم: «وَالَّذِي فَطَرَنا».. يمكن أن يكون معطوفا على قولهم: «لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ» أي لن نقدمك ونختارك على تلك البينات والدلائل التي كشفت لنا عن وجه الحق، وأرتنا الله ربّ العالمين، الذي فطرنا وأوجدنا، والذي حجبتنا عن رؤيته الضلالات والأباطيل التي كنا نعيش فيها.. ويمكن أن يكون هذا قسما منهم بالله الذي عرفوه منذ الآن، وآمنوا به..
- وقولهم: «وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى» هو رد على قول فرعون لهم: «وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى»..
قوله تعالى:
«إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى»..
هذه الآيات، هى تعقيب، على هذا المشهد من مشاهد القصّه..
وفى هذا التعقيب، إلفات إلى مواقع الإيمان من قلوب المؤمنين، وإلى ما يحصّله المؤمنون من ثمرات لهذا الإيمان.. كما يجد فيه المشاهدون لموقف فرعون من السحرة، ما أعد الله للمحرمين من عذاب ونكال..
وإذن فالقضية هكذا:
«مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ.. لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى».. فهذا هو جزاء المجرمين، الذين يلقون الله بجرمهم، ولم يتطهروا منه بالإيمان والتوبة.. إن لهم جهنم، لا شىء لهم غيرها.. وهم فيها بين الموت والحياة..
«لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها..» (٣٦: فاطر).
وأما «مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى»
809
وتلك الدرجات هى «جَنَّاتُ عَدْنٍ» أي جنات خلود، «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.. خالِدِينَ فِيها» لا يبغون عنها حولا.. «وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى» وتطهر من ذنوبه وآثامه، بالإيمان، والعمل الصالح، فأصبح أهلا لأن ينزل منازل الطهر والنور، فى جنات النعيم.
الآيات: (٧٧- ٨٢) [سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٧ الى ٨٢]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)
التفسير:
بعد هذا التعقيب، يجىء فصل جديد من فصول القصة، حيث تنتقل الأحداث إلى مسرح آخر.. تتغير فيه المشاهد، وتنطلق فى اتجاه غير الاتجاه الذي كانت تسير فيه..
فهذا موسى، عليه السلام، يتلقى وحيا من ربه بأن يسرى ليلا ببني إسرائيل، متخذا وجهته نحو الشرق إلى سيناء، ويعبر بهم البحر، صانعا لهم طريقا يبسا
810
بعصاه التي يضرب بها البحر، فينشق، وينحسر ماؤه عن الأرض.. فإذا هى طريق يبس، كأن لم يمسسه الماء من قبل..
وقبل أن ينطلق موسى بقومه، يسمع كلمات ربّه: «لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى» فيمتلىء قلبه طمأنينة وأمنا إنه لا يخاف (دركا) أي لحاقا من فرعون وجنوده.. وإنه لا يخشى البحر، حين يلقاه معترضا طريقه إلى النجاة من يد فرعون الذي يجدّ فى طلبه..
فالخوف، هو مما يجيئه من ورائه.. والخشية، مما يلقاه من أمامه.. وإنه لا خوف ولا خشية، مع عون الله، وتأييده! وها هو ذا فرعون يحث السير بجنوده، طلبا للحاق بموسى.. ويمضى فى طريقه، حتى يركب الطريق اليبس الذي ركبه موسى وقومه منذ قليل..
وقد أعماه الغيظ، وحبّ الانتقام، من أن يقف على رأس هذا الطريق قليلا، ويسأل نفسه: كيف قام هذا الطريق وبأى يد أقيم إنه ليعلم عن يقين أن لا طريق بين عبرى هذا البحر؟ أفلا تلفته هذه الظاهرة إلى هذه المعجزة التي بين يدى موسى؟ ولكن أنّى للعمى أن يبصروا؟ «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ».
لقد أورد فرعون نفسه وقومه موارد الحتوف: «فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ».. أي غطاهم من البحر ما غطاهم من مائه الغمر.. «وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى» ! وهكذا يسدل الستار على هذه المأساة، التي طوت فرعون وقومه فى لمحة خاطفة..!
ولا تذكر القصة ما صنع فرعون بالسحرة، وهل أمضى حكمه فيهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلّبهم فى جذوع النخل.. أم أنهم أفلتوا من يديه، ونجوا فى زحمة هذه الأحداث؟
811
يمكن أن يكون فرعون قد ألقى بالسحرة فى السجن، وانتظر تنفيذ حكمه فيهم حتى يفرغ من موسى وقومه.. كما يمكن أن يكون قد أمضى فيهم حكمه..
إن الأمرين يستويان.. فإن يكن السحرة قد هلكوا بيد فرعون، فليسوا هم بأول أو آخر مستشهدين فى سبيل العقيدة.. وإن يكونوا قد نجوا من هذا البلاء، فقد نجا كثير غيرهم من المؤمنين، وأفلتوا من يد البغاة والمتجبرين..
فليس المهم إذن هو أن يهلك المؤمنون أو يسلموا، وإنما المهم هو أن يثبتوا على إيمانهم، ويوطدوا النفس على احتمال كل بلاء، وملاقاة كل شدة.. ثم لا عليهم أن يسلموا أو يعطبوا، مادام قد سلم لهم إيمانهم، وظل بمكانه المكين من قلوبهم..
ثم هاهم أولاء بنو إسرائيل، قد وجدوا نعمة الله وخلصوا من يد فرعون، ونجوا من هذا العذاب المهين الذي جعله طعاما وشرابا لهم..
«يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ».. فاذكروا هذه النعمة، وارعوها، ولا تفسدوها بالمكر بها، والتنكر لها..
«وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ» أي هذا هو موعد لقائى بكم، حيث تنزلون بالجانب الأيمن من الطور، وحيث يتلقى نبيكم موسى ما أوحى به إليه من كلماتى.. فاستمعوا له، وخذوا بما يوحى إليه، واستقيموا عليه..
«وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى».. وفى هذا المكان الجديب القفر..
ستجدون طعامكم طيبا حاضرا.. «إنه الْمَنَّ وَالسَّلْوى»..
والمن: هو مادة كالعسل تنزل من السماء كالندى، فتنعقد على ما تعلق به من شجر أو حجر..
812
والسلوى: طائر يشبه السّمانى..
«كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى»..
فمن هذا الطعام الطيب- المن والسلوى- كلوا، وانعموا، واشكروا لله الذي رزقكم.. ولا تطغوا فى هذا الرزق، الذي جاءكم من غير عمل..
- وفى قوله تعالى: «وَلا تَطْغَوْا فِيهِ» إشارة إلى هذا الرزق الذي أفاضه الله عليهم، بلا حساب، حتى لقد كان ظرفا يحتويهم، ويشتمل عليهم، ويحفّ بهم من كل جانب.. إنه خير كثير، ورزق غدق.
وهذا الرزق الغدق، إذا صادف نفوسا خبيثة، بشمت به، وتداعت عليها العلل والأسقام، وتحول به الإنسان إلى حيوان ضار شرس.. كما يقول سبحانه: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» (٦- ٧: العلق)..
- وفى قوله تعالى: «فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى» تحذير لبنى إسرائيل، وتهديد لهم من أن تبطرهم هذه النعمة، ويغرّهم بالله الغرور.. والويل لمن تعرض لغضب الله.. إنه يهوى إلى مكان سحيق، حيث الهلاك والبلاء.
وقد بطر بنو إسرائيل، ومكروا بآيات الله، وكفروا بنعمه، فحلّ عليهم غضبه، ونزلت بهم لعنته.. كما أخبر الله تعالى عنهم فى آيات كثيرة..
فهم المغضوب عليهم فى كل موضع من القرآن الكريم، ذكر فيه غضب الله..
فمن ذلك قوله تعالى: «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ (٦١: البقرة) وقوله تعالى: «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ
813
مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ»
(١١٢: آل عمران).
«وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً.. ثُمَّ اهْتَدى»..
فالله سبحانه وتعالى يمدّ للظالمين، ويمهلهم، ليكون لهم فى ذلك فسحة من الحياة، يراجعون فيها أنفسهم، ويرجعون إلى الله، تائبين مستغفرين..
وعندئذ يجد هؤلاء الراجعون إلى الله أبواب القبول مفتحة لهم، ويد الرحمة ممدودة إليهم..
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ اهْتَدى».. إشارة إلى أن التوبة لا تقبل إلّا إذا صحّت نيّة التائب، وصدّق نيّته العمل.. فاستقام على طريق الهدى، ولم يلتفت إلى طريق الضلال الذي قطع مسيرته فيه، وجاء إلى الله تائبا..
الآيات: (٨٣- ٩٨) [سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٣ الى ٩٨]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢)
أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧)
إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨)
814
التفسير:
وبهذه الآية تختم القصة.. وفى ختامها ينكشف بنو إسرائيل، حيث يرون بأعينهم المنحدر الذي انحدروا إليه، فلقد كفروا بالله، وجعلوا من العجل إلها يعبدونه من دون الله! فما أجدت معهم هذه الآيات، ولا رفعت عن أعينهم ما عليها من الغشاوة، ولا أزاحت عن قلوبهم ما ران عليها من الضلال..!
لقد كان موسى على موعد مع ربّه، ليتلقّى الألواح، وما كتب له فيها..
وفى قوله تعالى:
«وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى» إشارة إلى أن حدثا قد حدث فيهم
815
من بعده، وأنه وقد جاء يستعجل لهم الخير، قد طعنوه من وراء ظهره، وأفسدوا كل ما أصلحه منهم! ولكنه لم يكن يدرى ماذا حدث..
ولهذا جاء جواب موسى:
«هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي» أي أنهم على ما تركتهم عليه، يسيرون على المنهج الذي رسمته لهم، ويتأثرون خطاى فى طاعتك وابتغاء مرضاتك..
«وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى» - هذا هو الجواب عما سأل الله سبحانه وتعالى موسى عنه.. أما ما سبق ذلك، فهو جواب عما استشعره موسى من ذكر قومه فى سياق هذا السؤال..
وتلقى موسى ما أذهله، وأشعل نار غضبه:
«قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ».
فهؤلاء هم قومه.. وما أحدثوا.. إنهم ليسوا على أثره كما كان يظن..
لقد ضلوا، ووقعوا فى فتنة عمياء!.
- وفى قوله تعالى: «فَتَنَّا قَوْمَكَ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى خلّى بينهم وبين أنفسهم، وما ينضح منها من مكر وضلال، فتركهم ليد السامرىّ يضلّهم ويذهب بهم فى مذاهب الضلال كيف يشاء!..
«فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ؟ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ؟ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي؟» والأسف، هو الحزين الذي يكاد يقتله الحزن..
والوعد الحسن الذي وعد الله بنى إسرائيل، هو أنه أنزلهم هذا المنزل من جانب الطور الأيمن، وأنزل عليهم المنّ والسلوى..
816
وفى قول موسى:
«أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ؟» استفهام إنكارى، يراد به أن العهد الذي بينهم وبين الله لم يطل، حتى ينسوه. وأنه ليس هذا عهدا تلقوه عن آبائهم وأجدادهم، بل هو عهد معقود مع هذا الجيل نفسه! فكيف ينسى هكذا سريعا؟
وفى قوله:
«أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ» ؟.
هو إنذار لهم بتلك العاقبة السيئة التي تنتظرهم من هذا الفعل الذي فعلوه، ولم ينظروا فى عواقبه..
وقوله:
«فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي».. معطوف على محذوف، تقديره، أم ظننتم بي الظنون فأخلفتم موعدى معكم الذي واعدتكم عليه، وهو أن أعود إليكم بعد مناجاة ربى؟..
ويجىء جواب القوم فى هذا الأسلوب الخبيث:
«قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا..»
إنهم يلقون التهمة عنهم بهذا الاعتذار الصبيانى: «ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا!» أي بإرادتنا، واختيارنا، فقد كنا إزاء أمر لاخيار لنا فيه.. وإليك ما حدث فاحكم..
«وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ.. فَقَذَفْناها..»
وزينة القوم هى الحلي التي كانوا قد سلبوها من المصريين، ليلة خروجهم من مصر..
والأوزار: الأحمال جمع وزر..
817
وعبّروا عن الحلىّ، بالأوزار، لأنها كانت كثيرة من جهة، ولأنها كانت نهبا واختطافا من جهة أخرى.. فتحرّجوا من أن يحملوا هذا الحلىّ، وقد رزقهم الله كفايتهم من المنّ والسلوى.. هذا إلى أنه لم تكن بهم من حاجة إلى المال، فى هذا المكان الذي اعتزلوا فيه الناس..
وانتهزها السامري فرصة، فألقى بما فى يديه على هذا الحلي الذي قذف به القوم.. «فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ» أي عجلا مجسدا، فيه حياة وله خوار.. أي يخرج من فمه هذا الصوت المعروف للبقر..
«فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى.. فَنَسِيَ»..
إنه ما كاد ينظر القوم إلى هذا العجل، الذي خرج من هذا الحلي، حتى فتنوا به، وحتى أطلّ عليهم منه وجه العجل الذي كان يعبده فرعون وقومه..
فقالوا: «هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى» الذي ذهب إليه، ليلقاه هناك بعيدا عنا، فنسى نفسه هناك.. وفاته أن يدرك حظه من لقاء ربه معنا هنا!! وفى الانتقال بالحديث من الخطاب إلى الغيبة، إشارة إلى أن الذين واجهوا موسى أولا بقولهم: «ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها» - هؤلاء هم الذين سبقوا إلى أن يبرئوا ساحتهم.. وأن كل ما فعلوه هو أنهم تخلصوا من هذا الحلي المغتصب الذي كان معهم!! - أما قوله تعالى: «فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ» - فهو مما نطق به لسان الحال، وكشف عنه الواقع..
وهو ردّ على هؤلاء الذين جاءوا فى جلود الحملان الوادعة.. قائلين إنهم لم يفعلوا منكرا، بل فعلوا ما يحمدون عليه.. وهو التخلص من هذا المال الحرام!!
818
قوله تعالى:
«أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً».
هو تعقيب على هذا الحدث، وفيه تسخيف لعقول القوم، وتسفيه لأحلامهم وإنهم لو كانت بهم مسكة من عقل لما رأوا فى هذا الحيوان إلها، يعبدونه، ويرجون منه ما يرجو العابدون من ربهم! فهل إذا تحدثوا إلى هذا الحيوان.. يرجع إليهم قولا، ويرد إليهم جوابا؟ وهل لهذا الحيوان حول وطول يقدر به على النفع لعابديه، أو الضر لذابحيه؟ فما أحط الإنسان، وما أنزل قدره، حين يتخلى عن عقله..
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي»..
هو تعقيب أيضا على هذا الحدث، يذكر فيه لهرون موقفه من هذا الأمر المنكر، وأنه وقف للقوم، وأنكر عليهم ما هم فيه، وأنهم وقعوا فى فتنة عمياء، وأن هذا ليس ربهم، وإنما ربهم الرحمن، الذي لو لم يأخذهم برحمته لمسخهم على هذه الفعلة، قردة وخنازير!! ولكن القوم مضوا فى ضلالهم، وأبوا أن يستمعوا لهرون..
وكان ردهم عليه أن: «قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى».. وإنهم ليقولون هذا، وقد قطعوا من قبل بأن موسى قد ضل طريقه، فهلك، ولن يهود! ومن عجب أن التوراة تذكر فى صراحة أن الذي صنع العجل ودعا القوم إلى عبادته، هو هرون عليه السلام..
819
تقول التوراة فى الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر الخروج:
«ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ فى النزول من الجبل، اجتمع الشعب على هارون، وقالوا له: قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا، لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه.. فقال لهم هارون انزعوا أقراط الذهب التي فى آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتونى بها.. فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي فى آذانهم وأتوا بها إلى هارون، فأخذ ذلك من أيديهم وصوّره بالإزميل وصنعه عجلا مسبوكا..»
أهذا فعل يكون من نبى من أنبياء الله، ورسول من رسله؟ «سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ» (١٦: النور) وليس هذا الذي تقوله «التوراة» عن «هرون» إلا واحدة من تلك الشناعات الكثيرة التي سوّد بها اليهود وجه التوراة، بما حملوا إليها من مفتريات وأباطيل، على الله، وعلى أنبياء الله، وعلى عباد الله!! ثم تعود أحداث القصة إلى التحريك من جديد..
فها هو ذا موسى- عليه السلام- يتجه إلى أخيه هرون، ويأخذ برأسه وبلحيته فى عنف وقوة.. قائلا:
«يا هارُونُ.. ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ.. أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي؟» أي ما منعك أن تأخذ الجانب الذي أنا عليه من الإيمان بالله، وأن تنحاز إليه أنت ومن اتبعك؟ «أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي؟»..
والأمر الذي أمره به موسى، هو قوله له، حين ذهب لمناجاة ربّه: «اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» (١٤٢: الأعراف).. وجاء جواب هرون:
820
الَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي.. إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي»
..
إنه لم يلق أخاه بالشدّة التي لقيه هو بها، وإنما عرف لأخيه قدره ومقامه، وأنه كليم الله، وأن هرون وزيره.. فقال فى لطف ورقة: َا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي»
بل أطلق سراحى، ودعنى أبين لك ما حدث..
إنى خشيت أن أعتزل القوم أنا ومن كان معى، ممن لم يرض ما فعله القوم- فتقول لى: إنك فرقت بين بنى إسرائيل، ولم تتبع ما قلت لك حين دعوتك إلى أن تخلفنى فيهم، وأن تصلح، ولا تتبع سبيل المفسدين.. وقد رأيت أن الفرقة بين القوم ستحدث تصدعا وشقاقا، وربما قتالا.. فرأيت أن أدع الأمر على ما هو عليه، بعد أن نصحت واجتهدت فى النصح، حتى تأتى أنت وتعالج هذا الدعاء بما ترى، أو بما يريك الله! ويدع موسى أخاه. ويتلفت إلى السامري:
«قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ؟» أي ما شأنك؟ وماذا فعلت؟
«قالَ «بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ.. فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ.. فَنَبَذْتُها.. وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي».
- قوله: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ».. أي رأيت ما لم ير القوم.. وهو أنى رأيت أثرا من آثار الملك الذي كان يتحدث إليك.. فقبضت قبضة من التراب حيث موضع قدمه.. وعلمت أن الملك روح خالص، وأن فى آثاره على الأرض أثرا من الروح.. هكذا قدرت.. وقد رأيت أن أجرّب الأمر فصنعت من الحلىّ تمثالا على هيئة عجل.. ثم ألقيت فيه بهذا الأثر، فدبت فيه الحياة، وانطلق منه الخوار.. ففتن القوم به.. وعبدوه!
821
وكان ردّ موسى على السامري:
«قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ».
هذا هو عقابك فى الدنيا، أن تتحاشى الناس، ويتحاشاك الناس..
وألا تمسّهم، ولا يمسّوك، فإن فعلت أو فعل بك، أصبت بالحمى، أو مسّك شواظ من نار.. وهذا هو عقاب الدنيا.. وهو من جنس عمله، فقد أراد بالعجل الذي صنعه، أن يجمع الناس حوله، وأن يكون ذا سلطان فيهم..
فكان أن حرمه الله هذا السلطان، بل وأخرجه من أن يعيش مع أحد، أو يتصل بأحد، بهذا الداء الذي الذي رماه به..
وقوله: «وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ».. الموعد، هو الوعد، وهو يوم القيامة.. وهو موعد الناس جميعا للحساب والجزاء.. ومن بين الناس السامرىّ هذا، فإنه سيبعث، ويحاسب، ويجازى على ما كسب.
وقوله: «وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً».. هو خطاب من موسى إلى السامري، وإلى بنى إسرائيل جميعا.. وخصّ السامرىّ بالخطاب، لأنه رأس الفتنة، ومدبرها، ومخرج هذا الإله للناس، فى العجل الذي صوّره..
فهذا الإله والعجل الذي ظلّ عليه القوم عاكفين، يعبدونه، ويقدمون القرابين إليه- سيمثل به موسى أشنع تمثيل أمام أعينهم.. إنه سيحرقه، ثم يطحنه طحنا، وينسفه نسفا، حتى يصير رمادا.. ثم يلقى به فى اليم.. فهل بمثل هذا يفعل بالإله؟ وهل يكون إلها من لا يدفع عن نفسه ما يفعل به من مكروه؟
وقوله تعالى: «إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً».. هو من قول موسى، تعقيبا على هذا الفعل الذي فعله بالعجل، وأرى القوم منه بأنه ليس إلا شيئا من هذه الأشياء القائمة بينهم، من جماد أو حيوان.. وبأنهم
822
كانوا على ضلال مبين، وجهل غليظ، حين عبدوا هذا الكائن، واتخذوه إلها..
ولكن هل ينتفع القوم بهذه التجربة الحيّة؟ وهل تخلص نفوسهم للإيمان بالله والاستقامة على سبيله؟
إن الأيام ستكشف منهم عن أخبث طباع، والأم نفوس ركبت فى الناس!
الآيات: (٩٩- ١٠٤) [سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٩ الى ١٠٤]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤)
التفسير:
بدأت قصة موسى بتوجيه الخطاب إلى النبىّ ﷺ بقوله تعالى.. «وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى..» ثم جاءت الآيات بعد هذا تحدّث بهذا الحديث.. فهو إذن حديث مساق إلى النبىّ، صلوات الله وسلامه عليه..
تسرية له، وتثبيتا لفؤاده، بما يشهد من مواقف النبيين مع أقوامهم، ومواقف أقوامهم منهم، وما يلقى النبيون من معاندين، وضالّين، وسفهاء..
823
ثم إذا انتهت القصة، عاد الخطاب إلى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- توكيدا للخطاب الأول، وتذكيرا به، وأن هذه القصة، وغيرها من القصص القرآنى، إنما كانت من أجل النبىّ.. ثم إنه من جهة أخرى إيناس له صلوات الله وسلامه عليه، بهذه الصلة الدائمة بينه وبين ربّه، بهذا الخطاب الذي يخاطب به من ربّه.. ، فى ثنايا الآيات التي تتنزل عليه.
وقوله تعالى:
«كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً»..
إشارة إلى أنه بمثل هذا القصص يقصّ الله على النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- أنباء ما قد سبق من أحوال الرسل والأمم.. وأن قصة موسى هذه ليست إلا واحدة من القصص الذي سيقصه الله سبحانه وتعالى على النبىّ، فيما سينزل من القرآن بعد هذا..
- وفى قوله تعالى: «وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً» - إشارة أخرى إلى أن القرآن الذي بين يدى النبىّ، وما فيه من آيات، دالّة على قدرة الله، وما فيه من شرائع وأحكام- هو ذكر لمن يتذكر، وعظة لمن يعتبر، وأن هذا القصص ليس إلا من بعض آيات الله التي تحمل العظة والعبرة..
قوله تعالى:
«مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا»..
أي من أعرض عن هذا القرآن، ولم يقبل عليه، وينتفع به، ويأخذ بما فيه من عبر وعظات، وأحكام وشرائع- من أعرض عن هذا «الذكر» فإنه قد خاب وخسر، وجاء يوم القيامة حاملا «وزرا» أي إثما عظيما، ينوء به
824
كاهله، ويعيا به جهده.. لأنه يحيا بغير نور، ويسعى على غير هدى..
ثم يتجه الخطاب بعد هذا إلى المعرضين جميعا عن هذا الذكر.. إنهم سيحملون هذا الوزر أبدا، لا يتخلّى عنهم، ولا يرفع عن كواهلهم.. وهو حمل يسوء حامليه يوم القيامة، ويصبّ عليهم البلاء صبّا..
والسرّ فى إفراد الخطاب أولا، ثم فى جمعه ثانيا «مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ...
وَساءَ لَهُمْ»
، هو- والله أعلم- أن الإعراض عن الذكر حال من أحوال الإنسان فيما بينه وبين نفسه.. لا ينكشف لغيره من الناس، إلا ما شفّ عنه عن ظاهره، أما ما انطوى عليه باطنه- وهو الذي يمثل الحقيقة، فإنه سرّ بين الإنسان وخالقه..
أما يوم القيامة، فلا سرّ، حيث تفضح الأعمال، وينكشف المستور..
وهنا يجتمع المجرمون إلى المجرمين.. وإذا هم جميعا على حال سواء..
قوله تعالى:
«يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً»..
الظرف هنا «يوم» هو بدل من الظرف فى قوله تعالى: «وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا» فيوم القيامة، هو يوم النفخ فى الصور، حيث يحشر المجرمون يومئذ زرقا، أي زرق الوجوه، لما يركبهم يومئذ من همّ وكرب، وما يظهر على وجوههم من آثار هذا الهم، وذلك الكرب، إذ كانت الوجوه هى التي تكشف عما يقع على مشاعر الإنسان من سوء أو مسرة.. كما يقول سبحانه وتعالى: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها.. فاقِرَةٌ» (٢٢- ٢٥: القيامة).
وكما يقول سبحانه فى وجوه أهل النعيم «تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ» (٢٤: المطففين) وفى وجوه أهل الشقوة والجحيم: «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
825
عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ»
(٤٠- ٤٢: عبس).
والزرقة التي تعلو الوجوه، هى أولى الدلالات على انحباس الدم وتجمده فى كيان الإنسان، مما يعانى من ضيق وبلاء! قوله تعالى:
«يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ.. إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً»..
يتخافتون: أي يتحدثون بحديث خافت، يسترونه بينهم.. فيقول بعضهم لبعض «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً» أي: ما لبثتم إلا عشرا، أي عشر ليال فى دنياكم هذه التي كنتم فيها..
- وقوله تعالى: «نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ» إشارة إلى علم الله سبحانه وتعالى بكل ما يسرّ به بعضهم إلى بعض، وبكل ما يجرى فى خواطرهم..
- وقوله تعالى: «إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً» أي ونحن أعلم بما يقوله «أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً» أي أعدلهم قولا، وأقربهم إلى الحال التي يجدونها فى أنفسهم: «إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً» أي ما لبثتم إلا يوما.. فهذه الدنيا، وما تقلّب فيه أهلها، من نعيمها، وسلطانها، لا تبدو لأهلها يوم القيامة إلا أشبه بيوم، طلعت شمسه، ثم غربت.. «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» (١٨٥: آل عمران)..
الآيات: (١٠٥- ١١٤) [سورة طه (٢٠) : الآيات ١٠٥ الى ١١٤]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤)
826
التفسير:
ذكرت الآيات السابقة على هذه الآيات، يوم القيامة، وما يقع للظالمين فيه، وما يجرى بينهم من أحاديث متخافتة.. وكان مما يسأل عنه من شأن هذا اليوم.. هذه الجبال.. وهل تبقى على ما هى عليه؟ فكان السؤال، وكان الجواب:
«وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ» أي ما شأنها يوم القيامة؟ وهل تظلّ قائمة؟
وهلّا يجد الناس فيها يومئذ عاصما يعتصمون به فى مغاراتها وكهوفها، من هول هذا اليوم.. «فَقُلْ يَنْسِفُها. رَبِّي نَسْفاً» أي يدكها دكّا، ويهدّها هدّا، فإذا هى تراب على هذا التراب: «فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً» أي يتركها، ويصيرها، «قاعا» كهذه القيعان التي كانت تعلوها..
والقاع: الأرض المنخفضة.. والصفصف: المستوي من الأرض..
827
«لا تَرى فِيها عِوَجاً» حيث تسوى بوجه الأرض، فتكون هى والأرض بساطا واحدا، لا عوج فيه، لأن العوج إنما يبدو فى الأماكن البارزة..
«وَلا أَمْتاً» أي لا ارتفاعا ولا انخفاضا، بل كلها على سواء..
وقوله تعالى:
«يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ.. وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً»..
أي فى هذا اليوم، يستجيب الناس- بعد أن يبعثوا من قبورهم- يستجيبون لصوت الداعي الذي يدعوهم إلى المحشر، دون أن ينحرفوا أو يتلبثوا..
«وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ» أي سكتت الأصوات، خشية وجلالا لله سبحانه وتعالى «فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً» فلا يكون هناك إلا الهمس والتخافت..
قوله تعالى:
«يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا».
أي فى هذا اليوم لا تنفع الإنسان شفاعة فى نفسه إلا من أذن له الرحمن بالقول، والمحاجّة عن نفسه.. ثم كان قوله هذا مقبولا عند الله، مرضيا عنه..
والمراد بالقول، هو القول الذي يعرض فيه الإنسان أعماله فى الدنيا، من خير وشر، وحسن وقبيح.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا.. لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً» (٣٨: النبأ)..
828
قوله تعالى:
«يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً»..
أي أن الله سبحانه يعلم من أمر عباده كل شىء.. فما ينطقون به، وما لم ينطقوا به، هو فى علم الله، لا يعزب عنه شىء.. أما هم فإنهم لا يحيطون علما بالله سبحانه وتعالى، ولا يدركون كنهه وحقيقته..
قوله تعالى:
«وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً»..
أي فى هذا اليوم تعنو الوجوه، وتخضع الرقاب لله الحي القيوم..
لا تملك نفس لنفس شيئا.. «وَقَدْ خابَ» وخسر فى هذا اليوم «مَنْ حَمَلَ ظُلْماً» أي من جاء وهو يحمل على كاهله «ظلما» أي منكرا من المنكرات وأفدح الظلم وأبهظه، هو الشرك بالله كما يقول سبحانه:
«إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ».. وذلك هو البلاء العظيم، والخسران المبين.
قوله تعالى..
«وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً» أي أما من جاء بالصالحات من الأعمال، وكان مؤمنا بالله، فإنه فى أمان من أهوال هذا اليوم.. «فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً».. بل سيجد الجزاء الحسن لما عمل، ويوفّى أجره كاملا، بل ويضاعف له أجره.. «وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً»..
والهضم: هو الجور على الحقوق، وبخسها ونقصانها..
قوله تعالى:
829
«وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً»..
أي بمثل هذا التّصريف، والتنويع، فى عرض ما يعرض من صور الوعيد لهذا اليوم، والتخويف منه- صرّفنا، وعرضنا هذه المعارض من أهوال الآخرة، وما يلقى الظالمون فيها.. وذلك ليكون للناس من ذلك ما يحملهم على اتقاء أهوال هذا اليوم، بالإيمان بالله، والأعمال الصالحة التي تنال مرضاته..
فإن لم يتقوا هذا اليوم، ويعملوا له، فلا أقلّ من أن يحدث لهم هذا التصريف والعرض لعذاب هذا اليوم- ذكرا، أي تذكرا له، وإحساسا به.. فإذا صحبهم هذا الإحساس، كان من شأنه أن يحيد بهم عن طريق الضلال يوما إلى طريق الهدى والإيمان..
أما من لا يكون لهم من هذا التصريف ما يبعثهم على التقوى، أو استصحاب الخوف من عذاب الله- فهم الخاسرون الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة..
- وفى قوله تعالى: «أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا» إشارة إلى هؤلاء المشركين من قريش، وأن هذا التصريف من الوعيد، قد جاءهم بلسان عربىّ مبين، بحيث لا نخفى عليهم دلالاته، وإذن فلا عذر لهم، إذا هم عموا عن النظر فى آياته البينات! قوله تعالى:
«فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ.. وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً»..
«فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ» أي تنزّه، وعلا، وعظم، سبحانه وتعالى
830
جلّ شأنه.. فهو «الْمَلِكُ الْحَقُّ» له الملك وحده، لا يشاركه فيه غيره، ولا يملك معه أحد شيئا.. فهو- سبحانه- المالك ملكا حقيقيا لكل موجود..
وفى هذا المقطع من الآية تمجيد لله، وتنزيه له.. لأنه سبحانه وحده المستحق للتنزيه والتمجيد، والحمد، إذ خلق الوجود، وأقام كل مخلوق فيه، وهداه إلى ما هو أصلح له، ورسم للناس طريق الهدى، وأبان لهم معالمها، وبعث فيهم رسله، مبشرين ومنذرين.. «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» (١٦٥: النساء) «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ»..
هو دعوة للنبى ﷺ ألّا يعجل بقراءة ما ينزل عليه من القرآن، من قبل أن ينتهى جبريل- مبلّغ القرآن- من الإفضاء بكل ما أمر بتبليغه..
وقد كان النبىّ صلوات الله وسلامه عليه، كلّما سمع آية أو بعض آية من جبريل ردّدّها خوفا من نسيانها.. ثم يصل ما سمع بما يسمع.. وذلك حرصا منه صلى الله عليه وسلم، على ألا يفوته شىء من كلمات ربّه..
- فجاء قوله تعالى: «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» - إرشادا، وتعليما، للنبىّ، وتوجيها كريما لحسن الاستماع لآيات الله.. كما يقول سبحانه: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا» (٢٠٣: الأعراف)..
وقد جاء فى موضع آخر، قوله تعالى: «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ»
(١٦- ١٩:
القيامة)..
وجاء فى موضع ثالث قوله سبحانه: «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى» (٦: الأعلى)
831
وهذا كلّه تطمين للنبىّ، وإزالة لمخاوفه من أن يفوته شىء من كلام ربّه..
فالله سبحانه وتعالى سيقرئه، والله سبحانه وتعالى، سيحفظ عليه ما قرأ، فلا ينسى..
- وفى قوله تعالى: «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً».. أي اطلب المزيد من العلم، فيما ينزل عليك من آيات ربك.. فهذا الذي أخذته من كتاب الله، هو قليل بالنسبة إلى الكثير الذي لم ينزل عليك بعد.. فلا تعجل!! وصبرا، فإن ما عند الله لك، كثير..
الآيات: (١١٥- ١٢٧) [سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٥ الى ١٢٧]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤)
قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧)
832
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية السابقة عليها، قد جاءت إلى النبىّ الكريم منبهة له ألا يعجل بالقرآن، وألا يسبق الوحى، حتى ينتهى جبريل من أدائه..
وهذا الذي ينزل من القرآن الكريم، هو عهد بين النبىّ وربّه، وأن من واجبه أن يتثبت منه، وأن يقف طويلا عند آياته وكلماته، حتى يقوم بالوفاء بهذا العهد، على أكمل كماله، وأتم تمامه..
وهذا عهد كان بين الله سبحانه وتعالى، وبين آدم.. وقد نسى آدم هذا العهد، فكان أن وقع فى المعصية..!
والله سبحانه وتعالى يريد أن يعصم النبي- صلوات الله وسلامه عليه- مما وقع فيه آدم.. ولهذا، فهو سبحانه، يدعوه إلى التثبت من الوحى.. ثم يعرض له صورة يمكن أن تحدث له، إذا لم يتثبت مما يتلقى من آيات ربّه..
والعهد الذي عهد به سبحانه وتعالى إلى آدم، هو قوله سبحانه وتعالى:
«وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ» (٣٥: البقرة).
- وقوله تعالى: «فَنَسِيَ» أي نسى آدم عهد ربّه، وأكل من الشجرة!
833
وفى التعبير عن مخالفة أمر ربّه وأكله من الشجرة، بالنسيان، إشارة إلى ما شمل الله سبحانه وتعالى به آدم من لطفه ورحمته.. فتاب عليه، وغفر له، وجعل معصيته تلك من قبيل ما يقع من الإنسان من سهو ونسيان! - وقوله تعالى: «وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» إشارة إلى أن آدم قد ضعف أمام إغراء الشيطان له، ولم يجد العزم الذي يمضى به أمر ربّه، ويخزى به الشيطان الرجيم، ويكبته! قوله تعالى:
«وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى».
هو استعراض لقصة آدم، وعهد الله إليه..
وفى القصة تقديم وتأخير. فقد قدمت خاتمتها على أحداثها، فقوله تعالى:
- «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ..» هو ختام القصة، أو التعقيب عليها، وقدّم للاهتمام به، ولإلفات النبىّ إليه، لأنه هو المقصود من القصة هنا..
قوله تعالى:
«فَقُلْنا يا آدَمُ.. إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى»..
وتوجيه الخطاب إلى آدم فى قوله تعالى: «فَتَشْقى» إشارة إلى أن آدم هو الذي يحمل العبء الأكبر فى مواجهة الحياة، إذا هو خرج من الجنة..
قوله تعالى:
«إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى».
تلك هى جنة آدم..!
إنها غابة من تلك الغابات الكثيفة، التي تكثر فيها الفاكهة والظلّ والماء.
834
فمن فاكهة تلك الجنة يأكل هو وزوجه.. فلا يجوع.. ومن ماء الينابيع يشرب، فلا يظمأ.. وفى أكناف الغابة يستكن، ولا يخرج للعراء..
وفى ظلال الأشجار، يتّقى أشعة الشمس.. فلا يضحى.. أي لا يجد الحرّ الذي يتسلط عليه من الشمس، حين يكون بالضّحّ، أي العراء..
تلك- فى رأينا- هى جنة آدم، وهى جنة أرضية، وآدم فى هذه الجنة، أو الغابة لم يكن إلا الثمرة الأولى التي نضجت على هذه الأرض، من شجرة الحياة..
وقد عرضنا لهذه القضية فى مبحث خاص، فى الجزء الأول من كتابنا هذا:
«التفسير القرآنى للقرآن»..
قوله تعالى:
«فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ.. هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ.. وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى»..
ولقد استجاب آدم لإغراء الشيطان، ولدوافع نفسه للكشف عن هذا السر المضمر فى تلك الشجرة، التي نهى عن الأكل منها.. فأكل منها هو وزوجه.
وهنا تكشفت لهما الحقيقة من أمرهما، ونظرا إلى وجودهما- لأول مرة- نظرة واعية مدركة، فرأيا أنهما على حال من العرى، لا تليق بهما.. فأخذا يخصفان عليهما من ورق الجنة، ليسترا به عورتيهما..
- وقوله تعالى: «وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى» إشارة إلى موقف آدم بعد أكله من الشجرة.. لقد عصى ربه، عصاه لأنه أصبح ذا إرادة،
835
تجىء منها الطاعة، كما يجىء منها العصيان! وهو بهذا العصيان قد «غوى» أي ضلّ، إذ اتبع الجانب المنحرف من إرادته، ولم يتبع الجانب المستقيم منها.
قوله تعالى:
«ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى»..
إشارة إلى أن الله سبحانه، قد تجاوز لآدم هذا، عن فعلته تلك..
إذ كانت أول زلّة له، وهو يضع أول قدم له على طريق الإنسانية.. ثم هداه ربّه بعد هذا، وثبت قدمه على الأرض، بما فتح له عقله من آفاق واسعة فيها، لا تزال نتسع يوما بعد يوم.. إلى ما شاء الله.
قوله تعالى:
«قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى» والهبوط هنا، هو الخروج من الجنة أو الغابة، إلى حيث الحياة الواسعة الرحيبة..
والخطاب هنا للآدميين، الذين خرجوا من عالم الغابة، إلى عالم الإنسان فى شخص آدم وزوجه.. وهم فى هذا العالم، متنافسون، متنازعون، متعادون..
تنفرق بهم السبل، وتنحرف الاتجاهات.. وقد كان من رحمة الله بهم أن بعث فيهم رسله، يحملون فى أيديهم مصابيح الهدى.. فمن اتبع هدى الله، فلا يضلّ ولا يشقى.. ومن أبى، وأعرض عن ذكر الله والاستقامة على هداه، فإنه سيحيا فى هذه الدنيا حياة تعسة ضالة، يضرب فيها فى ظلام، لا يرى فيه بصيصا من الأمل والرجاء.. ثم يحشر يوم القيامة أعمى، حيث يشتد به
836
الكرب، وتغيم فى وجهه المرئيات، فلا يرى إلا ظلاما وضلالا.
قوله تعالى:
«قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى».
وفى ذلة وانكسار، يسأل الظالم ربه: «لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟» فى الدنيا.. ويأتيه الجواب من الحق سبحانه وتعالى: «كَذلِكَ» أي كهذا العمى الذي أنت عليه فى الآخرة، كنت فى الدنيا، إذ أتتك آياتنا فعميت عنها، وأهملت النظر فيها.. «وَكَذلِكَ الْيَوْمَ» أي فى هذا اليوم، يوم القيامة «تنسى» أي تترك فيما أنت عليه من عمى..
قوله تعالى:
«وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى».
أي بمثل هذا الجزاء نجزى من أسرف على نفسه، ودفع بها فى متاهات الضلال، ولم يؤمن بآيات ربه التي عرضت عليه.. إنه يحشر يوم القيامة أعمى.. ثم إن وراء هذا عذابا هو أشدّ من هذا العمى، وأبقى أثرا.
الآيات: (١٢٨- ١٣٥) [سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٨ الى ١٣٥]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢)
وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥)
837
التفسير:
قوله تعالى:
«أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى»..
الاستفهام هنا للإيجاب والتقرير.. ويهدى: يبيّن.. والنّهى العقول، حيث تنهى أصحابها عن المنكرات من الأمور..
ويكون المعنى.. أن القرآن الكريم قد بين لهؤلاء المشركين ما حل بالأمم السابقة قبلهم، وما صار إليه أمرهم، بعد أن عمروا الأرض أكثر مما عمرها هؤلاء المشركون، وقد كان فى ذلك عبرة لمن يدير نظره، ويلفت عقله إلى هذه العبر والمثلات.. ولكن القوم فى غفلة معرضون..
- وقوله تعالى: «يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ» جملة حالية، وصاحب الحال ضمير الغائب العائد على المشركين فى قوله تعالى: «قَبْلَهُمْ»
838
قوله تعالى:
«وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى».
الكلمة التي سبقت من الله سبحانه وتعالى، هى قوله تعالى للنبى الكريم:
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» فلولا هذه الكلمة التي أعطاها الله سبحانه وعدا لنبيه الكريم «لَكانَ لِزاماً» أي لكان أمرا لازما لا محيص عنه، وهو أن يحلّ بهؤلاء المشركين، الذين عصوا رسول الله ما حلّ بغيرهم من القرون السابقة، الذين عصوا رسل الله..
- وقوله تعالى: «وَأَجَلٌ مُسَمًّى» معطوف على قوله تعالى: «كَلِمَةٌ سَبَقَتْ».. أي لولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمّى لكان لزاما..
وقدّم جواب لولا على بقية الشرط، للاهتمام به، والإلفات إليه.. وأن كلمة الله هى الرحمة التي رحمهم بها بفضل مقام النبىّ الكريم فيهم.. فلعلّ هؤلاء المشركين يعرفون نعمة الله فيهم، ومقام النبي بينهم..
والأجل المسمى، هو ما قدّر لهم من آجال فى هذه الدنيا..
قوله تعالى:
«فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى».
الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم، وهو دعوة له بالصبر على ما يكره من أقوال المشركين المنكرة التي يرمونه.. بها وليجعل من تسبيح ربّه، وذكره وحمده وشكره، غذاءه الذي يتغذّى به، ودواءه الذي يتداوى به، فى أوقات
839
مختلفة من الليل والنهار.. قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، وفى أجزاء من الليل، وأطراف من النهار.. وبذلك تسكن نفسه ويطمئنّ قلبه..
«أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» (٢٨: الرعد).
قوله تعالى:
«وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا.. لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ.. وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى».
والخطاب هنا أيضا للنبى، ومن ورائه كل من اتّبعه، وسلك سبيله..
- وقوله تعالى: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» نهى يراد به النصح والإرشاد، وذلك بألا يلتفت النبىّ والمؤمنون إلى ما بين أيدى هؤلاء المشركين من أموال وبنين وألا يقع فى نفسه، أو أنفس المؤمنين، أن ذلك الذي أمدّ الله بعض المشركين، به، من نعمة، هو تكريم لهم، وإحسان منه سبحانه وتعالى إليهم.. بل هو ابتلاء وامتحان لهم، ليرى منهم سبحانه أيشكرون أم يكفرون؟.. وها هم أولاء قد كفروا به، وحادّوه، وحاربوا رسوله، وبهذا تحولت هذه النعم إلى سيئات وأوزار، تضاف إلى رصيدهم مما كسبوا من سيئات وأوزار..
- وفى قوله تعالى: «أَزْواجاً مِنْهُمْ» إشارة إلى أن ما يتمتع به المشرك من عطاء الله هو شركة بينه وبين زوجه، التي هى متعة من متعه وهو متعة لها..
فالمرأة كالرجل هنا، فى أنها مبتلاة بنعم الله، ومحاسبة عليها.. فإن شكرت، وآمنت، وعملت صالحا أخذت بحظها من رضوان الله، وإن جحدت وكفرت، وخالطت الآثام، فعليها وزر ما عملت، وستلقى جزاءها من عذاب الله.
- وفى قوله تعالى: «زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا» إشارة إلى أن ذلك المتاع الذي فى
840
أيدى الناس، هو زهرة من زهرات الحياة الدنيا، يبهج العين، ويسرّ القلب..
ولكنّه لا يعمّر طويلا، بل سرعان ما يذبل ويجفّ، ثم يصير حطاما.. تماما كالزهرة. تملأ العين بهجة ومسّرة، ثم تموت وشيكا!! و «زهرة» منصوب على أنه مفعول ثان للفعل: «متّعنا» لتضمنه معنى «أعطينا».
- وفى قوله تعالى: «وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى» - إشارة إلى ما بين يدى النبىّ الكريم من رزق عظيم.. هو القرآن الكريم، ثم تلك الرسالة الشريفة التي اصطفاه الله لها، وتخيّره لتبليغها عنه إلى عباده! فأى رزق خير من هذا الرزق؟ وأي عطاء أكرم وأوفر من هذا العطاء؟ إنه أشرف قدرا، وأعظم أثرا، وأخلد ذكرا من كلّ ما فى هذه الدنيا من مال ومتاع! قوله تعالى:
«وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها.. لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً.. نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى»..
هو دعوة للنبى الكريم أن يدعو أهله من زوج وولد، وكلّ مؤمن ومؤمنة، إذ كانوا جميعا أهله، وهو القيّم عليهم، والمدبّر لأمرهم- أن يدعوهم جميعا للصلاة، إذ هى الصورة المثلى الكاملة لذكر الله، وحمده وشكره..
- وقوله تعالى: «وَاصْطَبِرْ عَلَيْها» أمر بالمداومة عليها، وإن كان فى تلك المداومة شىء من العناء.. فذلك تكليف، وللتكاليف أعباؤها وأثقالها، وإلا ما استحقّ القائمون بها حمدا، ولا استوجبوا أجرا..
- وفى قوله تعالى: «لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً» - إشارة إلى أن الصّلاة التي يؤديها النبىّ ومن معه من المؤمنين لله- ليست سدّا لحاجة الله سبحانه وتعالى إليها،
841
فالله سبحانه فى غنى عن العالمين.. وكلّ ما يتقدم به المؤمنون والمتقون إلى الله من طاعات وقربات عائد إليهم، حيث تطهر به قلوبهم، وتزكو به نفوسهم، وفى هذا يقول الله تعالى: «ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» (٥٧- ٥٨: الذاريات) ويقول سبحانه فى هدى الأضاحى: «لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ» (٣٧: الحج).
- وفى قوله تعالى: «نَحْنُ نَرْزُقُكَ» مقابلة لقوله تعالى: «لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً» أي بل نحن نرزقك، ونتفضّل عليك ابتداء وانتهاء..
- وقوله تعالى: «وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى» - إشارة إلى أن ما يؤديه النبىّ والمؤمنون لله سبحانه وتعالى من عبادات، وقربات، هو مما يدّخر لهم، ويبقى.. كما يقول سبحانه: «وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا» (٤٦: الكهف).
وفى إسناد العاقبة إلى التقوى، لا إلى الأعمال الصالحة، إشارة إلى أن الأعمال الصالحة هى وسائل إلى غاية، والغاية هى التقوى.. التي هى ثمرة الأعمال الصالحة..
قوله تعالى:
«وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ؟ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى؟»..
القائلون هذا القول هم المشركون.. وفى حكاية قولهم، إعلان لهم بتلك التهمة، وعرضهم فى ساحة الاتهام بها، والحساب عليها..
والآية التي يطلبونها، ويلحّون فى طلبها، هى آية مادية، يرونها رأى
842
العين، ولو كانت عذابا يسقط عليهم من السماء، أو بلاء يطلع عليهم من الأرض..
وفى قولهم: «مِنْ رَبِّهِ» استهزاء بالنبيّ وسخرية به، وسفاهة عليه منهم..
وقد ردّ الله عليهم بقوله: «أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى؟» والبيّنة هى القرآن الكريم، والنبىّ الكريم معا.. كما يقول سبحانه:
«لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ» (١- ٣: البينة).
والصحف الأولى، هى صحف إبراهيم وموسى، كما يقول الله تعالى: «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى» (١٨- ١٩: الأعلى).
والقرآن والرسول هما بينة لما فى الصحف الأولى، أي هما بيان لها، ومعلم لما جاء فيها.. فهو المصدّق لها، والمهيمن عليها..
قوله تعالى:
«وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى».
هو تهديد للمشركين، وأنهم فى معرض العذاب بعد أن نزل عليهم القرآن، وبلّغهم الرسول آيات ربّه.. وأنهم لا حجة لهم إذا هم وقعوا تحت عذاب الله، وأخذوا بما أخذ به الظالمون قبلهم.. فهم- والأمر كذلك- لا يستطيعون أن يقولوا: ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولا قبل أن تأخذنا بهذا العذاب؟ إنك لو أرسلت إلينا رسولا لآمنا به، ولما حلّ بنا الذل والخزي، ولما نزل بنا ما نزل من بلاء!
843
لقد قطعت حجتهم.. فهذا رسول الله بينهم، وهذا كتاب الله يتلى عليهم.. فماذا هم قائلون لو أخذهم الله ببأسه، وأوقع بهم عذابه؟
قوله تعالى:
«قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ.. فَتَرَبَّصُوا.. فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى»..
وبهذه الآية تختم السورة الكريمة، لتنهى موقفا من مواقف الدعوة، بين النبىّ والمشركين..
إنهم قد أبلغوا رسالة ربّهم، وقد صرّفت لهم الآيات، وضربت لهم الأمثال، وأقيمت الحجج والبراهين.. وها هم أولاء على مفترق الطرق.. فإما أن يأخذوا يمينا أو شمالا.. إما أن يؤمنوا بالله، ويستجيبوا لرسول الله، فتسلم لهم دنياهم وآخرتهم جميعا.. وإما أن يصدّوا عن سبيل الله، ويأخذوا طريقهم مع أهوائهم وشياطينهم، فيخسروا الدنيا والآخرة معا.. وستكشف الأيام ما يكون منهم..
وسيعلم الظالمون لمن عقبى الدار! بعون الله تم الكتاب الثامن، ويليه الكتاب التاسع إن شاء الله.
وفيه تفسير الجزءين السابع عشر والثامن عشر.. وعلى الله قصد السبيل، ومنه سبحانه السداد والتوفيق، وله الحمد فى الأولى والآخرة.
844
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
راحوا فما بكت الدنيا لمصرعهم ولا تعطّلت الأعياد والجمع