مقصودها مدلول اسمها الذي يعم فتح مكة وما تقدمه من صلح الحديبية وفتح خيبر ونحوهما، وما وقع تصديق الخبر به من غلب الروم على أهل فارس وما تفرع من فتح مكة المشرفة من إسلام أهل جزيرة العرب وقتال أهل الردة وفتوح جميع البلاد الذي يجمعه كله إظهار الدين على الدين كله، وهذا كله في غاية الظهور بما نطق به ابتداؤها وأثناؤها في مواضع منها ﴿ لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق ﴾ الآية وانتهاؤها ﴿ ليظهر على الدين كله ﴾ ﴿ محمد رسول الله ﴾ إلى قوله ﴿ ليغيظ بهم الكفار ﴾ أي بالفتح الأعظم وما دونه من٢ الفتوحات ﴿ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة- كما كان في أولها للرسول صلى الله عليه وسلم-[ و-٣ ] أجرا عظيما كذلك٤ ٥بسائر الفتوحات وما حوت من الغنائم للثواب الجزيل على ذلك في دار الجزاء٦ { بسم الله ﴾ ٧الملك الأعظم٨ المحيط بكل شيء قدرة وعلما ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم المكلفين بنعمة الوعد والوعيد ﴿ الرحيم ﴾ الذي اختص أهل حزبه لإقامة دينه الحق فأظهرهم على سائر العبيد.
٢ سقط من ظ..
٣ زيد من مد..
٤ من مد، وفي الأصل و ظ: لذلك..
٥ سقط ما بين الرقمين من مد..
٦ سقط ما بين الرقمين من مد..
٧ سقط ما بين الرقمين من ظ ومد..
٨ سقط ما بين الرقمين من ظ ومد..
ﰡ
ولما كانت منفعة ذلك له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن إعلاء كلمة الله يكون به فيعليه ويمتلىء الأرض من أمنه، فلا يعمل منهم أحد حسنة
بل غلبوا وقهروا، ثم أيدك بأنصار أبرار أخيار فكنتم على قلتكم كالليوث الكواسر والبحار الزواخر، ما ملتم على جهة إلا غمرتموها، وفزتم بالنصف من أربابها قتلتموها أو أسرتموها ولم تزالوا تزدادون وتقوون، وهم ينقصون ويضعفون، حتى أتيتموهم في بلادهم التي هم قاطعون بأنهم ملوكها، يتعذر على غيرهم غلبهم عليها بل سلوكها، فما دافعوكم عن دخول عليهم إلا بالراح، وسألوكم في وضع الحرب للدعة والإصلاح، فقد ظهرت أعلام الفتح أتم ظهور، وعلم أرباب القلوب أنه لا بد أن تكون في امتطائكم الذرى وسموكم إلى رتب المعالي
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: ارتباط هذه السورة بالتي قبلها واضح من جهات - وقد يغمض بعضها - منها أن سورة القتال لما أمروا فيها بقتال عدوهم في قوله تعالى ﴿فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب﴾ الآية، وأشعروا بالمعونة عند وقوع الصدق في قوله ﴿إن تنصروا الله ينصركم﴾ استدعى ذلك تشوف النفوس إلى حالة العاقبة فعرفوا ذلك في هذه السورة فقال تعالى ﴿إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً﴾ - الآيات، فعرف تعالى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعظيم صنعه له، وأتبع ذلك بشارة المؤمنين العامة فقال ﴿هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين﴾ - الآيات، والتحمت إلى التعريف بحال من نكث من مبايعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
﴿يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه﴾ [المائدة: ٥٤] وأشار إلى ذلك عليه الصلاة والسلام: «ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» - وعقد السبابة بالإبهام، أشار عليه الصلاة والسلام
- انتهى.
ولما أخبر سبحانه بالفتح عقب سورة ﴿الذين كفروا﴾ بشارة بظهور أهل هذا الدين وإدبار الكافرين - كما سيأتي في إيلاء سورة النصر بسورة الكافرين، لذلك علل الفتح بالمغفرة وما بعدها رمزاً إلى وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بروحي هو وأبي وأمي - وإيماء إلى أن المراد من إخراجه إلى دار الفناء إنما هو إظهار الدين
ولما كان تمام النعمة يتحقق بشيئين: إظهار الدين والتقلة إلى مرافقة النبيين، قال تعالى مخبراً بالشيئين: ﴿ويتم نعمته عليك﴾ بنقلك من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، ومن عالم الكون والفساد إلى عالم الثبات والصلاح، الذي هو أخص بحضرته وأولى برحمته وإظهار أصحابك من بعدك على جميع أهل الملل، ويدحضون شبه الشيطان، ويدمغون كل كفران، وينشرون رايات الإيمان في جميع البلدان، بعد إذلال أهل العدوان، ومحو كل طغيان.
ولما كانت هدايتهم من هدايته، أضافها سبحانه إليه إعلاماً له أنها هداية تليق بجانبه الشريف سروراً له فقال: ﴿ويهديك﴾ أي بهداية جميع قومك ﴿صراطاً مستقيماً *﴾ أي واضحاً جليلاً جلياً موصلاً إلى
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبر المؤمنين برؤياه أنه يطوف بالكعبة الشريفة، وعز على العمرة عام الحديبية، وخرج صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخرج معه خلاصة أصحابه ألف وخمسمائة، فكانوا مؤقنين أنهم يعتمرون في وجههم ذلك، وقر ذلك في صدورهم وأشربته قلوبهم، فصار نزعه منها أشق شيء يكون، قصدهم المشركون بعد أن بركت ناقته وصالحهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أن يرجع عنهم في ذلك العام ويعتمر في مثل ذلك الوقت من القابل، وكان ذلك - بل أدنى منه - مزلزلاً للاعتقاد مطرقاً للشيطان الوسوسة في الدين، وقد كان مثله في الإسراء ولم يكن صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر بما يوهم في أمره فارتد ناس كثير بسببه، قال تعالى دالاً على النصر بتثبيت المؤمنين في هذا المحل الضنك إظهاراً لتمام قدرته ولطيف حكمته:
ولما أخبر بما لا يقدر عليه غيره، علله بقوله: ﴿ليزدادوا﴾ أي بتصديق الرسول حين قال لهم: إنهم لا بد أن يدخلوا مكة ويطوفوا بالبيت العتيق، وحلهم الله به من الشبهة بتذكرهم أنه لم يقل لهم: إنهم
ولما كان ربما ظن شقي من أخذ الأمور بالتدريج شيئاً في القدرة قال: ﴿ولله﴾ أي الذي أنزل السكينة عليهم ليكون نصرهم في هذه العمرة بالقوة ثم يكون عن قريب بالفعل والحال أنه له وحده ﴿جنود السماوات والأرض﴾ أي جميعها، ومنها السكينة، يدبرهم بلطيف صنعه وعجيب تدبيره، فلو شاء لنصر المؤمنين الآن بالفعل، ودمر على أعدائهم بجنود من جنوده أو بغير سبب، لكنه فعل ذلك ليكون النصر بكم، فيعلوا أمركم ويعظم أجركم، ويظهر الصادق في نصره من الكاذب، فإن الدار دار البلاء، وبناء المسببات على الأسباب على وجه الأغلب فيه الحكمة، لا القهر وظهور الكلمة، فاسمه الباطن هو الظاهر في هذه الدار، فلذلك ترى المسببات مستورات بأسبابها، فلا يعلم الحقائق إلا البصراء ألا ترى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نزلت عليه هذه السورة فتلاها
ولما كان مبنى ما مضى كله على القدرة بأمور خفية يظهر منها
ولما كان السامع لهذا ربما ظن أن فعله ذلك باستحقاق، قال إشارة إلى أنه لا سبب إلا رحمته: ﴿ويكفر﴾ أي يستر ستراً بليغاً شاملاً ﴿عنهم سيئاتهم﴾ التي ليس من الحكمة دخول الجنة دار القدس قبل تكفيرها، بسبب ما كانوا متلبسين به منها من الكفر وغيره، فكان ذلك التكفير سبباً لدخولهم الجنة ﴿وكان ذلك﴾ أي الأمر العظيم من الإدخال والتكفير المهيىء له، وقدم الظرف تعظيماً لها فقال تعالى: ﴿عند الله﴾ أي الملك الأعظم ذي الجلال والإكرام ﴿فوزاً عظيماً *﴾
ولما كان من أعظم الفوز إقرار العين بالانتقام من العدو وكان العدو المكاتم أشد من العدو المجاهر المراغم قال تعالى: ﴿ويعذب المنافقين﴾ أي يزيل كل ما لهم من العذوبة ﴿والمنافقات﴾ بما غاظهم من ازدياد الإيمان ﴿والمشركين والمشركات﴾ بصدهم الذي كان سبباً للمقام الدحض الذي كان سبباً لإنزال السكينة الذي كان سبباً لقوة أهل الإسلام بما تأثر عنه من كثرة الداخلين فيه، الذي كان سبباً لتدمير أهل الكفران، ثم بعد ذلك عذاب النيران.
ولما أخبر بعذابهم، أتبعه وصفهم بما سبب لهم ذلك فقال تعالى: ﴿الظانين بالله﴾ أي المحيط بجميع صفات الكمال ﴿ظن السوء﴾ من أنه لا يفي بوعده في أنه ينصره رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأتباعه المؤمنين أو أنه لا يبعثهم. أو أنه لا يعذبهم لمخالفة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومشاققة أتباعه. ولما أخبر سبحانه وتعالى بعذابهم فسره بقوله: ﴿عليهم﴾ أي في الدنيا والآخرة بما يخزيهم الله به من كثرة جنوده وغيظهم منهم وقهرهم بهم ﴿دائرة السوء﴾ التي دبروها وقدروها للمسلمين لا خلاص لهم منها، فهم مخذولون في كل موطن خذلاناً ظاهراً يدركه
ولما كان من دار عليه السوء قد لا يكون مغضوباً عيه، قال: ﴿وغضب الله﴾ أي الملك الأعظم بما له من صفات الجلال والجمال فاستعلى غضبه ﴿عليهم﴾، وهو عبارة عن أنه يعاملهم معاملة الغضبان بما لا طاقة لهم به. ولما كان الغضب قد لا يوجب الإهانة والإبعاد قال: ﴿ولعنهم﴾ أي طردهم طرداً سفلوا به أسفل سافلين، فبعدوا به عن كل خير.
ولما قرر ما لهم في الدارين، وكان قد يظن أنه يخص الدنيا فلا يوجب عذاب الآخرة، أتبعه بما يخصها فقال: ﴿وأعد﴾ أي هيأ الآن ﴿لهم جهنم﴾ تلقاهم بالعبوسة والغيظ والزفير والتجهم كما كانوا يتجهمون عباد الله مع ما فيها من العذاب بالحر والبرد والإحراق، وغير ذلك من أنواع المشاق. ولما كان التقدير: فساءت معداً، عطف عليه قوله: ﴿وساءت مصيراً *﴾.
ولما كان هذا معلماً بأن الكفار - مع ما يشاهد منهم من الكثرة الظاهرة والقوة المتضافرة المتوافرة - لا اعتبار لهم لأن البلاء
ولما كان ما ذكر من عذاب الأعداء وثواب الأولياء متوقفاً على تمام العلم ونهاية القدرة التي يكون بها الانتقام والسطوة قال تعالى: ﴿وكان الله﴾ الملك الذي لا أمر لأحد مع أزلاً وأبداً ﴿عزيزاً﴾ يغلب ولا يغلب ﴿حكيماً *﴾ يضع الشيء في أحكم مواضعه، فلا يستطاع نقض شيء مما ينسب إليه سبحانه وتعالى.
ولما تبين أنه ليس لغيره مدخل في إيجاد النصر، وكانت السورة من أولها حضرة مخاطبة وإقبال فلم يدع أمر إلى نداء بياء ولا غيرها. وكان كأنه قيل: فما فائدة الرسالة إلى الناس؟ أجيب بقوله تقريراً لما ختم به من صفتي العزة والحكمة. ﴿إنا﴾ بما لنا من العزة والحكمة ﴿أرسلناك﴾ أي بما لنا من العظمة التي هي معنى العزة
ولما كانت البشارة محبوبة إلى النفوس رغبهم فيما عنده من الخيرات وحببهم فيه بصوغ اسم الفاعل منها مبالغة فيه فقال تعالى: ﴿ومبشراً﴾ أي لمن أطاع بأنواع البشائر. ولما كانت لنذارة كريهة جداً، لا يقدم على إبلاغها إلا من كمل عرفانه بما فيها من المنافع الموجبة لتجشم مرارة الإقدام على الصدع بها، أتى بصيغة المبالغة فقال تعالى: ﴿ونذيراً *﴾.
ولما كان الإيمان أمراً باطناً، فلا يقبل عند الله إلا بدليل، وكان الإيمان بالرسول إيماناً بمن أرسله، والإيمان بالمرسل إيماناً بالرسول، وحد الضمير فقال: ﴿ويعزروه﴾ أي يعينوه ويقووه وينصروه على كل من ناواه ويمنعوه عن كل من يكيده، مبالغين في ذلك باليد واللسان والسيف، وغير ذلك من الشأن فيؤثروه على أنفسهم وغيرها، تعظيماً له وتفخيماً - هذا حقيقة المادة، وما خالفه فهو إما من باب الإزالة كالعزور بمعنى الديوث، وإما من باب الأول كاللوم والضرب دون الحد، فإنه يوجب للملوم والمضروب وتجنب ما نقم عليه فيعظم، فهو من إطلاق الملزوم على اللازم، وهو من وادي ما قيل:
عداي لهم فضل عليّ ومنة | فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا |
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها | وهم نافسوني فاقتنيت المعاليا |
ولما كانت محبة الله ورسوله ترضى منها بدون النهاية قال كائناً عن ذلك: ﴿بكرة وأصيلاً *﴾ أي وعشياً إيصاناً لما بين النهار والليل بذلك.
ولما ذكر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أرسله له، وختم الآية بأنه لا يرضى من ذكره وذكر رسوله إلا بالمداومة بالفعل أو بالقوة مع توحيده الضمير إشارة إلى وحدة الإرادة والمداوة بالفعل أو بالقوة مع توحيده الضمير إشارة إلى وحدة الإرادة والمحبة من الرسول والمرسل، أوضح المراد بتوحيد الضمير بقوله مرغباً في اتباعه ومرهباً لأتباعه عن أدنى فترة أو توان فيما دخلوا فيه من الإيمان
ولما كان المضارع قد يراد به مطلق الوقوع لا بقيد زمن معين كما نقلته في أول سورة البقرة عن أبي حيان وغيره، عبر به ترغيباً في تجديد مثل ذلك والاستمرار عليه فقال: ﴿يبايعونك﴾ أي في بيعة الرضوان وقبلها وبعدها على ما جئت به من الرسالة التي مقصودها الأعظم النذارة التي مبناها على المخالفة التي تتقاضى الشدائد التي عمادها الثبات والصبر، وسميت «مبايعة» لأنهم بايعوا أنفسهم فيها من الله بالجنة وهذا معنى الإسلام، فكل من أسلم فقد باع نفسه سبحانه منه ﴿إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم﴾ [التوبة: ١١١]، الآية. ﴿إنما يبايعون الله﴾ أي الملك الأعظم لأن عملك كله من قول وفعل له ﴿وما ينطق عن الهوى﴾ [النجم: ٣].
ولما عظم بيعته بما رغب فيها ترغيباً مشعراً بالترهيب، زادها تعظيماً بما الترهيب فيه أظهر من الأول، فقال مبيناً للأول: ﴿يد الله﴾ أي
ولما كان كلام الله تعالى - وإن جرى مجرى الشرط والتهديد لا بد أن يقع منه شيء وإن قل، وكان من سر التعبير بالمضارع «يبايعونك» الإشارة إلى نكث الجد بن قيس أصل بيعته على الإسلام
ولما أتم الترهيب لأنه مقامه للحث على الوفاء الذي به قيام الدين على أبلغ وجه، أتبعه على عادته الترغيب إتماماً للحث فقال تعالى: ﴿ومن أوفى﴾ أي فعل الإتمام والإكثار والإطالة ﴿بما عهد﴾ وقدم الظرف اهتماماً به فقال: ﴿عليه الله﴾ أي الملك المحيط بكل
ولما كان قد تخلف بالجسد من خلص الأنصار وغيرهم من كان حاضراً معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالقلب أخرجهم بقوله: ﴿من الأعراب﴾ أي أهل البادية كذباً وبهتاناً جرأة على الله ورسوله ﴿شغلتنا﴾ أي عن إجابتك في هذه العمرة ﴿أموالنا وأهلونا﴾ أي لأنا لو تركناها ضاعت، لأنه لم يكن لنا من يقوم بها وأنت قد نهيت عن إضاعة المال والتفريط في العيال، ثم سببوا عن هذا القول المراد به السوء قولهم: ﴿فاستغفر﴾ أي اطلب المغفرة ﴿لنا﴾ من الله إن كنا أخطأنا أو قصرنا.
ولما كان هذا ربما يغتر به من لا خبرة له، رده تعالى بقوله منبهاً
ولما كان فعلهم هذا من تخلفهم واعتلالهم وسؤالهم الاستغفار ظناً منهم أنهم يدفعون عن أنفسهم بذلك المكروه ويحصلون لها المحبوب وكان كأنه قيل: قد علم كذبهم، فماذا يقال لهم؟ استأنف سبحانه الجواب بقوله: ﴿قل﴾ أي لهؤلاء الأغبياء واعظاً لهم مسبباً عن مخادعتهم لمن لا يخفى عليه خافية إشارة إلى أن العاقل يقبح عليه أن يقدم على ما هو بحيث تخشى عاقبته: ﴿فمن يملك لكم﴾ أيها المخادعون ﴿من الله﴾ أي الملك الذي لا أمر لأحد معه لأنه لا كفوء له ﴿شيئاً﴾ يمنعكم منه ﴿إن أراد بكم﴾ أي خاصة ﴿ضراً﴾ أي نوعاً من أنواع الضرر عظيماً أو حقيراً، فأهلك الأموال والأهلين وأنتم محتاطون في حفظهما
ولما كان التقدير قطعاً: لا أحد يملك منه سبحانه لهم شيئاً من ذلك بل هو قادر على كل ما يريد منه، فعلكم لما عندكم من الجلافة والغباوة والكثافة فعل من يظن أنه لا يقدر عليكم ولا يعلم كثيراً مما تعملون، فيخفى عليه كذبكم، وليس الأمر كما ظننتم فإنه لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، بنى عليه ما أرشد إلى تقديره فقال تعالى: ﴿بل كان الله﴾ أي المحيط أزلاً وأبداً بكل شيء قدرة علماً ﴿بما تعملون﴾ أي الجهلة ﴿خبيراً *﴾ أي يعلم بواطن أموركم هذه وغيرها كما يعلم ظواهرها.
ولما أضرب عن ظنهم أن كذبهم يخفى عليه بأمر عام، وقدمه لأنه أعم نفعاً بما فيه من الشمول، أتبعه الإضراب عن مضمون كلامهم فقال: ﴿بل﴾ أي ليس تخلفكم لما أخبرتم به من الاشتغال بالأهل والأموال ﴿ظننتم﴾ وأنتم واقفون مع الظنون الظاهرة، ليس لكم نفوذ إلى البواطن، وأشار إلى تأكد ظنهم على زعمهم فقال: ﴿أن لن ينقلب﴾ ولما كان الكلام فيما هو شأن الرسول من الانبعاث
ولما كان الإنسان قد يظن ما لا يجب، قال مشيراً بالبناء للمفعول إلى أن ما حوته قلوبهم مما ينبغي أن ينزه سبحانه وتعالى عن نسبته إليه وإن كان هو الفاعل له في الحقيقة: ﴿وزين ذلك﴾ أي الأمر القبيح الذي خراب الدنيا ﴿في قلوبكم﴾ حتى أحببتموه.
ولما علم أن ذلك سوء، صرح به على وجه يعم غيره فقال: ﴿وظننتم﴾ أي بذلك وغيره مما يترتب عليه من إظهار الكفر وما يتفرع منه ﴿ظن السوء﴾ أي الذي لم يدع شيئاً مما يكره غاية الكراهة إلا أحاط به. ولما انكشف جميع أمره كشف أثره فقال: ﴿وكنتم﴾ أي بالنظر إلى جمعكم من حيث هو جمع في علمنا قبل ذلك بما جبلناكم عليه وعلى ما كشفه الحال عنه من له بصيرة ﴿قوماً﴾
ولما كان التقدير: ذلك لأنكم لم تؤمنوا، فمن آمن منكم ومن غيركم وأخلص، أبحناه جنة وحريراً، عطف عليه قوله معمماً: ﴿ومن لم يؤمن﴾ منكم ومن غيركم ﴿بالله﴾ أي الذي لا موجود في الحقيقة سواه ﴿ورسوله﴾ أي الذي أرسله لإظهار دينه وهو الحقيق بالإضافة إليه، معبراً عنه بالاسم الأعظم، وللزيادة في تعظيمه وتحقير شانئه وتوهية كيد التفت إلى مقام التكلم بمظهر العظمة فقال: ﴿فإنا﴾ أي على ما لنا من العظمة ﴿أعتدنا﴾ له أو لهم هكذا كان الأصل، ولكنه قال معلقاً للحكم بالوصف إيذاناً بأن من لم يجمع الإيمان بهما فهو كافر، وإن السعير لمن كان كفره راسخاً فقال تعالى: ﴿للكافرين﴾ أي الذين لا يجمعون الإيمان بالمرسل والرسول فيكونون بذلك كفاراً، ويستمرون على وصف الكفر لأنهم جبلوا عليه ﴿سعيراً *﴾ أي ناراً شديدة الإيقاد والتلهب، فهي عظيمة الحر توجب الجنون
ولما انقضى حديث الجنود عامة ثم خاصة من المنتدبين والمخلصين وختم بعذاب الكافرين، وكان المتصرف في الجنود ربما كان بعض خواص الملك، فلا يكون تصرفه فيهم تاماً، وكان الملك قد لا يقدر على عذاب من أراد من جنوده، وكان إذا قدر قد لا يقدر على العذاب بكل ما يريده من السعير الموصوف وغيره لعدم عموم ملكه قال تعالى عاطفاً على آية الجنود: ﴿ولله﴾ أي الملك الأعظم وحده ﴿ملك السماوات والأرض﴾ أي من الجنود وغيرها، يدبر ذلك كله كيف يشاء لا راد لحكمه ولا معقب.
ولما لم يكن في هؤلاء من عذب بما عذب الأمم الماضية من الريح وغيرها، لم يذكر ما بين الخافقين، وذكر نتيجة التفرد بالملك
ولما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحيث لا مطمع لأحد فى أن يظفر منه بشيء من خلاف الأمر الله، أسقط ما عبر به في ذكرهم أولاً من خطابه وقال: ﴿المخلفون﴾ أي لمن يطمعون فيه من الصحابة أن يسعى في تمكينهم من المسير في جيشه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخفاء الحكم عليه ونحو ذلك، ولم يقيدهم بالأعراب ليعم كل من كان يتخلف من غيرهم ﴿إذا انطلقتم﴾ بتمكين الله لكم ﴿إلى مغانم﴾.
ولما أفهم اللفظ الأخذ، والتعبير بصيغة منتهى الجموع كثرتها، صرح بالأول رفعاً للمجاز فقال: ﴿لتأخذوها﴾ أي من خيبر ﴿ذرونا﴾ أي على أي حالة شئتم من الأحوال الدنية ﴿نتبعكم﴾ ولما كان يلزم من تمكينهم من ذلك إخلاف وعد الله بأنها تخص أهل الحديبية، وأنه طرد المنافقين وخيب قصدهم، علل تعالى قولهم بقوله: ﴿يريدون﴾ أي بذهابكم معكم ﴿أن يبدلوا كلام الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة
ولما كان السامع جديراً بأن يسأل عما يقال لهم، قال مخاطباً لأصدق الخلق عليه الصلاة والسلام: ﴿قل﴾ أي يا حبيب لهم إذا بلغك كلامهم أنت بنفسك، فإن غيرك لا يقوم مقامك في هذا الأمر المهم، قولاً مؤكداً: ﴿لن تتبعونا﴾ وإن اجتهدتم في ذلك، وساقه مساق النفي وإن كان المراد به النهي، لأنه مع كونه آكد يكون علماً من أعلام النبوة، وهو أزجر وأدل على الاستهانة.
ولما أذن هذا التأكيد أنه من عند من لا يخالف أصلاً في مراده، بينه تعالى بقوله: ﴿كذلكم﴾ أي مثل هذا القول البديع الشأن العلي الرتبة ﴿قال الله﴾ أي الذي لا يكون إلا ما يريد وليس هو كالملوك الذين لا قدرة لهم على الغفران لمن شاؤوا والعقاب لمن شاؤوا ﴿من قبل﴾ هذا الوقت، وهو الذي لا يمكن الخلف في قوله، فإنه قضى أن لا يحضر «خيبر» المرادة بهذه الغنائم إلا من حضر الحديبية،
ولما كانوا منافقين لا يعتقدون شيئاً من هذه الأقوال، بل يظنون أنها حيل على التوصل إلى المرادات الدنيوية، سبب عن قولهم له ذلك تنبيهاً على جلافتهم وفساد ظنونهم: ﴿فسيقولون﴾ : ليس الأمر كما ذكر مما ادعى أنه قول الله ﴿بل﴾ إنما ذلكم لأنكم ﴿تحسدوننا﴾ فلا تريدون أن يصل إلينا من مال الغنائم شيء. ولما كان التقدير: وليس الأمر كما زعموا، رتب عليه قوله: ﴿بل كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً ﴿لا يفقهون﴾ أي لا يفهمون فهم الحاذق الماهر ﴿إلا قليلاً *﴾ في أمر دنياهم، ومن ذلك إقرارهم بالإيمان لأجلها، وأما أمور الآخرة فلا يفهمون منها شيئاً.
ولما أفهم التعبير بذلك أن لهم قوة وشدة على ما يحاولونه، أوضح المعنى بقوله: ﴿أولي بأس﴾ أي شدة في الحرب وشجاعة مع مكر ودهاء ﴿شديد﴾. ولما كان المعنى كأنه قيل: لماذا؟ قال تعالى: ﴿تقاتلونهم﴾ أي بأمر إمامكم ﴿أو يسلمون﴾ أي يدعوكم إليهم ليكون أحد الأمرين المظهرين لأن كلمة الله هي العليا: المقاتلة منكم أو الإسلام منهم، فإن لم يسلموا كان القتال لا غير، وإن أسلموا لم يكن قتال، لأن الإمام لا غرض له إلا إعلاء كلمة الله، ولا يكون شيء غير هذين الأمرين من إبقاء بجزية أو مصالحة أو متاركة إلى مدة، ونحو ذلك، وهذا الداعي هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه والقوم بنو حنيفة وغيرهم من أهل الردة الذين كان الدعاء لهم أول خلافة الصديق رضي الله عنه، وأما قول من قال: إنهم ثقيف، فضعيف، لأن الدعاء لم يكن إليهم إنما كان المقصود بالذات فتح مكة، وكان أمر هوازن وثقيف وغيرهما تبعاً له في غزوته، لم يكن بينهم شيء، وأيضاً فإن ثقيف لما عسر أمرهم تركهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أسلموا بعد ذلك، وترك أيضاً فلاّل هوازن فلم يتبعهم ولم يؤمر باتباعهم، فظاهر الآية أنه إذا انتشب القتال لم يترك إلا أن حصل الإسلام، والقول بأنهم فارس والروم ضعيف أيضاً، فإن كلاًّ منهم
ولما توعد المتخلفين بتخلفهم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم توعدهم في التقاعد عن هذا الإمام القائم بعده بالحق، وكان أهل الأعذار لا يتيسر لهم ما أريد بهذا الدعاء، وكان الدين مبنياً على الحنيفية السمحة، استأنف قوله تعالى مسكناً لما اشتثاره الوعيد من روعهم: ﴿ليس على الأعمى﴾ أي في تخلفه عن الدعاء إلى الخروج مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو مع غيره من أئمة الدعاء ﴿حرج﴾ أي ميل بثقل الإثم لأجل أن عماه موهن لسعيه وجميع بطشه، ولأجل تأكيد المعنى تسكيناً لما ثار من روع المؤمن كرر النافي والحرج في كل جملة مستقلة تأكيداً لهذا الأمر فقال: ﴿ولا على الأعرج﴾ وإن كان
ولما ذكر هذين الأثرين الخاصين المزيد ضررهما في العاقة عن كمال الجهاد، عم بقوله: ﴿ولا على المريض﴾ أي بأيّ مرض ﴿حرج﴾ فلم يخرج أهل هذه الأعذار الذين لم يمنعهم إلا إعذارهم عن أهل الحديبية، وأطلب الحرج المنفي ليقبل التقدير بالتخلف ولا حاجة لأن حضورهم لا يخلو عن نفع في الجهاد، وذكر هكذا دون أسلوب الاستثناء إيذاناً بأنهم لم يدخلوا في الوعيد أصلاً حتى يخرجوا منه.
ولما بشر المطيعين لتلك الدعوة وتوعد القاعدين عنها وعذر المعذورين، وكانت إجابة المعذورين جائزة، بل أرفع من قعودهم، ولذلك لم ينف إجابتهم إنما نفى الحرج، قال معمماً عاطفاً على ما تقديره: فمن تخلف منهم فتخلفه مباح له: ﴿ومن يطع الله﴾ أي المحيط بجميع صفات الكمال المفيض من آثار صفاته على من يشاء ولو كان ضعيفاً، المانع منها من يشاء وإن كان قوياً ﴿ورسوله﴾ من المعذورين وغيرهم فيما ندبا إليه من أي طاعة كانت إجابته ﴿يدخله﴾ أي الله الملك الأعظم جزاء له ﴿جنات تجري﴾ ونبه على قرب منال الماء بإثبات الجار في قوله: ﴿من تحتها الأنهار﴾ أي ففي أي موضع أردت أجريت نهراً ﴿ومن يتول﴾ أي كائناً من كان من المخاطبين الآن وغيرهم، عن
ولما ذكر الرضى، ذكر وقته للدلالة على سببه فقال: ﴿إذ﴾ أي حين، وصور حالهم إعلاماً بأنها سارة معجبة شديدة الرسوخ في الرضى فقال: ﴿يبايعونك﴾ في عمرة الحديبية لما صد المشركون عن الوصول إلى البيت، فبعثت عثمان رضي الله عنه إليهم ليخبرهم بأنك لم تجىء
ولما دل على إخلاصهم بما وصفهم، سبب عنه قوله: ﴿فعلم﴾ أي لما له من الإحاطة ﴿ما في قلوبهم﴾ أي من مطابقته لما قالوا بألسنتهم في البيعة، وأن ما حصل لبعضهم من الاضطراب في قبول الصلح والكآبة منه إنما هو لمحبة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإيثار ما يريد من إعلاء دينه وإظهاره لا عن شك في الدين، وسبب عن هذا العلم ترغيباً في مثل هذا المحدث عنهم قوله: ﴿فأنزل السكينة﴾ أي بثبات القلوب وطمأنيتها في كل حالة ترضي الله ورسوله، ودل على عظمها بحيث إنها تغلب الخوف وإن عظم بقوله: ﴿عليهم﴾ فأثر ذلك أنهم لم يخافوا عاقبة القتال لما ندبوا إليه وإن كانوا في كثرة الكفار كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، لا أثر الصلح بما يتراءى فيه من الضعف وغيره من مخايل النقص في قلوبهم في ذلك المقام الدحض
ولما ذكر منّه سبحانه وتعالى عليهم بما هو الأصل الذي لا يبنى إلا عليه، أتبعه آثاره فقال: ﴿وأثابهم﴾ أي أعطاهم جزاء لهم على ما وهبهم من الطاعة والسكينة فيها جزاء، مقبلاً عليهم، يملأ مواضع احتياجهم، هو أهل لأن يقصده الإنسان ويتردد في طلبه لما له من الإقبال والمكنة والشمول ﴿فتحاً﴾ بما أوقع سبحانه من الصلح المترتب على تعجيز قريش عن القتال ﴿قريباً *﴾ بترك القتال الموجب بعد راحتهم وقوتهم وجمومهم لاختلاط بعض الناس ببعض فيدخل في الدين من كان مباعداً له لما يرى من محاسنه، فسيكون الفتح الأعظم فتح المكة المشرفة الذي هو سبب لفتح جميع البلاد.
ولما ذكر الفتح ذكر بعض ثمرته فقال: ﴿ومغانم﴾ فنبه بصيغة منتهى الجموع إلى أنها عظيمة، ثم صرح بذلك في قوله: ﴿كثيرة﴾ ولما كان الشيء ربما أطلق على ما هو بالقوة دون الفعل، أزال ذلك بقوله تعالى ﴿يأخذونها﴾ وهي خيبر. ولما كان ذلك مستبعداً لكثرة الكفار وقلة المؤمنين، بين سببه فقال عاطفاً على ما تقديره: بعزة الله وحكمته: ﴿وكان الله﴾ أي الذي لا كفوء له ﴿عزيزاً﴾ أي يغلب ولا يغلب ﴿حكيماً *﴾ يتقن ما يريد فلا ينقض.
ولما كان التقدير: رحمة لكم على طاعتكم لله ورسوله وجزاء لتقوى أيديكم، وتروا أسباب الفتح القريبة بما يدخل من الناس في دينكم عند المخاطبة بسبب الإيمان، عطف عليه قوله: ﴿ولتكون﴾ أي هذه
ولما سرهم سبحانه بما بشرهم به من كون القضية فتحاً
ولما كان عدم نصرهم بعد التولية مستبعداً أيضاً لما لهم من كثرة الإمداد وقوة الحمية، قال معبراً بأداة البعد: ﴿ثم﴾ أي بعد طول الزمان وكثرة الأعوان ﴿لا يجدون﴾ في وقت من الأوقات ﴿ولياً﴾ أي يفعل معهم فعل القريب من الحياطة والشفقة والحراسة من عظيم ما يحصل من رعب تلك التولية ﴿ولا نصيراً *﴾.
ولما كانت هذه عادة جارية قديمة مع أولياء الله تعالى حيثما كانوا من الرسل وأتباعهم، وأن جندنا لهم الغالبون، قال تعالى: ﴿سنة الله﴾ أي سن المحيط بهذا الخلق في هذا الزمان وما بعده كما كان محيطاً بالخلق في قديم الدهر، ولذلك قال: ﴿التي قد خلت﴾ أي سنة مؤكدة لا تتغير، وأكد الجار لأجل أن القتال ما وقع الزمان الماضي إلا بعد نزول التوراة فقال: ﴿من قبل﴾ وأما قبل ذلك فإنما كان يحصل الهلاك بأمر من عند الله بغير أيدي المؤمنين ﴿ولن تجد﴾ أيها
ولما تقرر أن الكفار مغلوبون وإن قاتلوا، وكان ذلك من خوارق العادات مع كثرتهم دائماً وقلة المؤمنين حتى يأتي أمر الله موقعاً للعلم القطعي بأنه ما دبره إلا الواحد القهار القادر المختار، عطف عليه عجباً آخر وهو عدم تغير أهل مكة في هذه العمرة للقتال بعد تعاهدهم وتعاقدهم عليه مع ما لهم من قوة العزائم وشدة الشكائم، فقال عاطفاً على ما تقديره: هو الذي سن هذه السنة العامة: ﴿وهو الذي كف﴾ أي وحده من غير معين له على ذلك ﴿أيديهم﴾ أي الذين كفروا من أهل مكة وغيرهم، فإن الكل شرع واحد ﴿عنكم وأيديكم﴾ أيها المؤمنون ﴿عنهم﴾.
ولما كان الكفار لو بسطوا أيديهم مع ما حتمه الله وسنه من تولية الكفار دخلوا مكة قال: ﴿ببطن مكة﴾ أي كائناً كل منكم ومنهم في داخل مكة هم حالاً وأنت مآلاً، وعن القفال أنه قال: يجوز أن يراد به الحديبية لأنها من الحرم - انتهى.
وعبر بالميم دون الباء كما في آل عمران إشارة إلى أنه فعل هنا ما اقتضاه مدلول هذا الاسم من الجمع والنقض والتنقية، فسبب لهم أسباب الاجتماع والتنقية من الذنوب -
ولما كان هذا ليس مستغرقاً لجميع الزمان الآتي، بل لا بد أن يبسط أيدي المؤمنين بها يوم الفتح، أدخل الجار فقال تعالى: ﴿من بعد أن أظفركم﴾ أي أوجد فوزكم بكل ما طلبتم منهم وجعل لكم الطول والعز ﴿عليهم﴾ وذلك فيما رواه أصحاب. السير قالوا: ودعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خراش بن أمية الخزاعي رضي الله عنه فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له فقال له التغلب: ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له فعقروا جمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأرادوا قتله، فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعثت قريش أربعين رجلاً منهم أو خمسين وأمروهم أن يطوفوا بعسكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً فأخذوا أخذاً فأتى بهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعفا عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكره بالحجارة والنبل، ثم ذكروا إرساله صلّى الله عليه وسلم
ولما كان هذا ونحوه من عنف أهل مكة وغلظتهم وصلابتهم وشدتهم ورفق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولينه لهم مما أحزن أغلب الصحابة رضي الله تعالى عنهم قال تعالى يسليهم: ﴿وكان الله﴾ أي المحيط بالجلال والإكرام ﴿بما يعملون﴾ أي الكفار - على قراءة أبي عمرو بالغيب، وأنتم - على قراءة الباقين بالخطاب في ذلك الوقت وفيما بعده كما كان قبله ﴿بصيراً *﴾ أي محيط العلم ببواطن ذلك كما هو محيط بظواهره فهو يجريه في هذه الدار التي ربط فيها المسببات بأسبابها على أوثق الأسباب في نصركم وغلبكم لهم وقسركم، وستعلمون ما دبره من دخولكم مكة المشرفة آمنين لا تخافون في عمرة القضاء صلحاً ثم في الفتح بجحفل جرار قد نيطت أظفار المنايا بأسنة رماحه، وعادت
ولما كان ما مضى من وصفهم على وجه يشمل غيرهم من جميع الكفار، عينهم مبيناً لسبب كفهم عنهم مع استحقاقهم في ذلك الوقت للبوار والنكال والدمار فقال: ﴿هم﴾ أي أهل مكة ومن لافهم ﴿الذين كفروا﴾ أي أوغلوا في هذا الوصف بجميع بواطنهم وتمام ظواهرهم ﴿وصدوكم﴾ زيادة على كفرهم في عمرة الحديبية هذه ﴿عن المسجد الحرام﴾ أي مكة، ونفس المسجد الحرام، والكعبة، للإخلال بما أنتم فيه من شعائر الإحرام بالعمرة ﴿والهدي﴾ أي وصدوا ما أهديتموه إلى مكة المشرفة لتذبحوه بها وتفرقوه على الفقراء، ومنه أربعون، وفي رواية: سبعون بدنة، كان أهداها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿معكوفاً﴾ أي حال كونه مجموعاً محبوساً مع رعيكم له وإصلاحه لما أهدى لأجله ﴿أن يبلغ محله﴾ أي الموضع الذي هو أولى المواضع لنحره، وهو الذي إذا أطلق انصرف الذهن إليه، وهو في العمرة المروة، ويجوز الذبح في الحج والعمرة في أي موضع كان من الحرم، فالموضع الذي نحر فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه
ولما كان التقدير: فلولا ما أشار إليه من ربط المسببات بأسبابها لسلطكم عليهم فغلبتموهم على المسجد وأتممتم عمرتكم على ما أردتم، ثم عطف عليه أمراً أخص منه فقال: ﴿ولولا رجال﴾ أي مقيمون بين أظهر الكفار بمكة ﴿مؤمنون﴾ أي عريقون في الإيمان فكانوا لذلك أهلاً للوصف بالرجولية ﴿ونساء مؤمنات﴾ أي كذلك حبس الكل عن الهجرة العذر لأن الكفار لكثرتهم استضعفوهم فمنعوهم الهجرة، على أن ذلك شامل لمن جبله الله على الخير وعلم منه الإيمان وإن كان في ذلك الوقت مشركاً ﴿لم تعلموهم﴾ أي لم يحط علمكم بهم من جميع الوجوه لتميزوهم بأعيانهم عن المشركين لأنهم ليس لهم قوة التمييز زمنهم بأنفسهم وأنتم لا تعرفون أماكنهم لتعاملوهم بما هم له أهل ولا سيما في حال الحرب والطعن والضرب، ثم أبدل من «الرجال والنساء» قوله: ﴿أن تطؤهم﴾ أي تؤذوهم بالقتل أو ما يقاربه من الجراح والضرب والنهب ونحوه من الوطء الذي هو الإيقاع بالحرب منه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«آخر وطأة وطئها الله بوج» يكون ذلك الأذى منكم لهم على ظن أنهم مشركون أذى الدائس لمدوس
ولما دل السياق على أن جواب «لولا» محذوف تقديره: لسلطكم عليهم وما كف أيديكم عنهم، ولكنه علم ذلك، وعلم أنه سيؤمن ناس من المشركين فمن عليكم بأن رفع حرج إصابتهم بغير علم عنكم، وسبب لكم أسباب الفتح الذي كان يتوقع بسبب تسليطكم عليهم بأمر سهل، وكف أيديكم ولم يسلطكم عليه ﴿ليدخل الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال ﴿في رحمته﴾ أي إكرامه وإنعامه ﴿من يشاء﴾ من المشركين بأن يعطفهم إلى الإسلام، ومن المؤمنين بأن يستنقذهم منهم على أرفق وجه، ولما كان ذلك، أنتج قوله تعالى: ﴿لو تزيلوا﴾ أي تفرقوا فزال أحد الفريقين عن الآخر زوالاً عظيماً بحيث لا يختلط صنف
ولما كان هذا عاماً لجميع من اتصف بالكفر من أهل الأرض، صرح بما دل عليه السياق فقال: ﴿منهم﴾ أي الفريقين وهم الصادون ﴿عذاباً أليماً *﴾ أي شديد الإيجاع بأيديكم أو من عندنا لنوصلكم إلى قصدكم من الاعتمار والظهر على الكفار، ففيه اعتذار وتدريب على تأدب بعضهم مع بعض، وفي الإشارة إلى بيان سر من أسرار منع الله تعالى لهم من التسليط عليهم حث للعبد على أن لا يتهم الله في قضائه فربما عسر عليه أمراً يظهر له أن السعادة كانت فيه وفي باطنه سم قاتل، فيكون منع الله له منه رحمة في الباطن وإن كان نقمة في الظاهر، فألزم التسليم مع الاجتهاد في الخير والحرص عليه والندم على فواته وإياك والاعتراض، وفي الآية أيضاً أن الله تعالى قد يدفع عن الكافر لأجل المؤمن.
ولما كانت هذه الحمية مع الكثرة موجبة ولا بد ذل من تصوب إليه ولا سيما إن كان قليلاً، بين دلالة على أن الأمر تابع لمشيئته لا لجاري العادة أنه تأثر عنها ضد ما تقتضيه عادة، فقال مسبباً عن هذه الحمية: ﴿فأنزل الله﴾ أي الذي لا يغلبة شيء وهو يغلب كل شيء بسبب حميتهم ﴿سكينته﴾ أي الشيء اللائق إضافته إليه سبحانه من الفهم عن الله والروح الموجب لسكون القلب المؤثر للإقدام على العدو والنصر عليه، إنزالاً كائناً ﴿على رسوله﴾ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي عظمته من عظمته،
ولما كان من الكفار من يستحقها في علم الله فيصير مؤمناً، عبر فأفعل التفضيل فقال تعالى: ﴿أحق بها﴾ أي كلمة التقوى من الكفار والأعرب وغيرهم من جميع الخلق، ولمثل هذا التعميم أطلق الأمر بحذف المفضل عليه. ولما كان الأحق بالشيء قد لا يكون أهله من أول الأمر قال تعالى: ﴿وأهلها﴾ أي ولاتها والملازمون لها ملازمة العشير بعشيره والدائنون لها والآلفون لها. ولما كان الحكم بذلك لا يكون إلا لعالم قال عاطفاً على ما تقديره: لما علم الله من صلاح قلوبهم وصفائها: ﴿وكان الله﴾ أي المحيط بالكائنات كلها علماً وقدرة ﴿بكل شيء﴾ من ذلك وغيره ﴿عليماً *﴾ أي محيط العلم الدقيق والجلي، والآية من الاحتباك: ذكر حمية الجاهلية أولاً دليلاً على ضدها ثانياً، وكلمة التقوى ثانياً دليلاً على ضدها أولاً، وسره أنه ذكر مجمع الشر أولاً ترهيباً منه ومجمع الخير ثانياً ترغيباً فيه. ولما قرر سبحانه وتعالى علمه بالعواقب لإحاطة علمه ووجه أسباب كفه أيدي الفريقين وبين ما فيه من المصالح وما في التسليط من المفاسد من قتل من حكم بإيمانه من المشركين وإصابة
ولما كان للنظر إلى الرؤيا اعتباران: أحدهما من جهة الواقع وهو غيب عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين: والآخر من جهة الإخبار وهو مع الرؤيا شهادة بالنسبة إليه سبحانه وتعالى، عبر بالصدق والحق فقال تعالى: ﴿صدق الله﴾ أي الملك الذي لا كفوء له المحيط بجميع صفات الكمال ﴿رسوله﴾ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو أعز الخلائق عنده وهو غني عن الإخبار عما لا يكون أنه يكون، فكيف إذا كان المخبر رسوله ﴿الرؤيا﴾ التي هي من الوحي لأنه سبحانه يرى الواقع ويعلم مطابقتها في أنكم تدخلون المسجد الحرام آمنين يحلق بعض ويقصر آخرون، متلبساً خبره ورؤيا رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿بالحق﴾ لأن مضمون الخبر إذا وقع فطبق بين الواقع وبينه، وكان الواقع يطابقه لا يخرم شيء منه عن شيء منه، والحاصل أنك إذا نسبتها للواقع طابقته فكان صدقاً، وإذا نسبت الواقع إليها طابقها فكانت حقاً.
ولما كان لا يجب عليه سبحانه وتعالى شيء وإن وعد به، أشار إلى ذلك بقوله تأديباً لهم أن يقول منهم بعد ذلك: ألم يقل أننا ندخل البيت ونحو ذلك، ولغيرهم أن يقول: نحن ندخل: ﴿إن شاء الله﴾ أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال، حال كونكم ﴿آمنين﴾ لا تخشون إلا الله منقسمين بحسب التحليق والتقصير إلى قسمين ﴿محلقين رءوسكم﴾ ولعله أشار بصيغة التفعيل إلى أن فاعل الحق كثير، وكذا ﴿ومقصرين﴾ غير أن التقديم يفهم أن الأول أكثر.
ولما كان الدخول حال الأمن لا يستلزم الأمن بعده قال تعالى: ﴿لا تخافون﴾ أي لا يتجدد لكم خوف بعد ذلك إلى أن تدخلوا عليهم عام الفتح قاهرين لهم بالنصر. ولما كان من المعلوم أن سبب هذا الإخبار إحاطة العلم، فكان التقدير، هذا أمر حق يوثق غاية
ولما كان في سياق إحاطة العلم، وكان التقدير: شهد ربه سبحانه بتصديقه في كل ما قاله بإظهار المعجزات على يده، بنى عليه قوله تعالى
ولما كان هذا بخلاف ما وصفت به الأمم الماضية من أنهم ما اختلفوا إلا من بعدما جاءهم العلم بغياً بينهم، فكان عجباً، بين الحامل عليه بقوله: ﴿تراهم﴾ أي أيها الناظر لهم ﴿ركعاً سجداً﴾ أي دائمي الخضوع فأكثر أوقاتهم صلاة قد غلبت صفة الملائكة على صفاتهم الحيوانية، فكانت الصلاة آمرة لهم بالخير مصفية عن كل نقص وضير.
ولما كانت الصلاة مما يدخله الرياء، بين إخلاصهم بقوله: ﴿يبتغون﴾ أي يطلبون بذلك وغيره من جميع أحوالهم بغاية جهدهم وتغليباً لعقولهم على شهواتهم وحظوظهم ﴿فضلاً﴾ أي زيادة في الخير ﴿من الله﴾ أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال والجمال الذي أعطاهم ملكة الغلظة على الكفار بما وهبهم من جلاله والرقة على أوليائه بما أعطاهم من
ولما ذكر كثرة عبادتهم إخلاصهم فيها اهتماماً به لأنه لا يقبل عملاً بدونه، دل على كثرتها بقوله: ﴿سيماهم﴾ أي علامتهم التي لا تفارقهم ﴿في وجوههم﴾ ثم بين العلامة بقوله: ﴿من أثر السجود﴾ فهي نور يوم القيامة - رواه الطبراني عن أبي بن كعب رضي الله عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا مع ما لهم من مثل ذلك في الدنيا من أثر الخشوع والهيبة بحيث إنه إذا رئي أحدهم أورث لرائيه ذكر الله، وإذا قرأ أورثت قراءته حزناً وخشوعاً وإخباتاً وخضوعاً، وإن كان رث الحال رديء الهيئة، ولا يظن أن من السيما ما يصنعه بعض المرائين من هيئة أثر سجود في جبهته، فإذا ذلك من سيما الخوارج، وفي نهاية ابن الأثير في تفسير الثفن: ومنه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: رأى رجلاً بين عينيه مثل ثفنة العنز، فقال: لو لم يكن هذا لكان خيراً - يعني كان على جبهته أثر السجود، وإنما كرهها خوفاً من الرياء بها، وقد روى صاحب الفردوس
ولما أتم وصفهم بهذا الأمر الذي لا يقدر عليه أحد إلا من صفاه الله من جميع حظوظه وشهواته، أشار إلى علوه فقال: ﴿ذلك﴾ أي هذا الوصف العالي جداً البديع المثال البعيد المنال ﴿مثلهم في التوراة﴾ فإنه قال فيها: أتانا ربنا من سببنا وشرق لنا من جبل ساعير، وظهر لنا من جبل فاران، معه ربوات الأطهار على يمينه، أعطاهم وحببهم إلى الشعوب وبارك على جميع أطهاره وهم يتبعون آثارك. فظهوره من فاران صريح في نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لم يأت منها - وهي جبال مكة باتفاقهم - بعد نزول التوراة بالنبوة غيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وربوات الأطهار إشارة إلى كثرة أمته، وأنهم في الطهارة كالملائكة، وأيد ذلك جعلهم من أهل اليمين، ووصفهم بالتحبيب إلى الشعوب، فكل ذلك دال على ما وصفوا به منا من شهادة الوجود - هذا مع ما وجدته في التوراة بعد تبديلهم لما بدلوا منها وإخفائهم كما قال الله تعالى لكثير، وروى أصحاب فتوح البلاد في فتح بيت المقدس عن كعب الأحبار أن سبب إسلامه أن أباه كان أخبره أنه ذخر
وأصله في الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وفي الدارمي عن كعب هذا، ولأصحاب الفتوح عن سمرة بن حوشب عن كعب قال: قلت لعمر رضي الله عنه وهو بالشام عند انصرافه: يا أمير المؤمنين! إنه مكتوب في كتاب الله «إن هذه البلاد التي كان فيها بنو إسرائيل وكانوا أهلها مفتوحة على رجل من الصالحين، رحيم بالمؤمنين شديد على الكافرين، سره مثل علانيته، وعلانيته مثل سره، وقوله لا يخالف فعله، والقريب والبعيد عنده في الحق سواء، أتباعه رهبان بالليل أسد بالنهار، متراحمون متباذلون» فقال عمر: ثكلتك أمك أحق ما تقول؟ قلت: أي والذي
ولما ذكر مثلهم في الكتاب الأول، أتبعه الكتاب الثاني الذي هو ناسخ ليعلم أنه قد أخذ على كل ناسخ لشريعته أن يصفهم لأمته ليتبعوهم إذا دعوهم فقال: ﴿ومثلهم في الإنجيل﴾ أي الذي نسخ الله به بعض أحكام التوراة ﴿كزرع﴾ أي مثل زرع ﴿أخرج شطأه﴾ أي فراخه وورقه وما خرج حول أصوله، فكان ذلك كله مثله.
ولما ذكر هذا الإخراج سبب عنه قوله ﴿فآزره﴾ أي فأحاط به الشطأ، فقواه وطهره من غير نبتة نبتت عنه فتضعفه وساواه وحاذاه وعاونه، ويظهر أن قراءة الهمزة بالمد على المفاعلة أبلغ من قراءة ابن عامر بالقصر، لأن الفعل إذا كان بين اثنين يتجاذبانه كان الاجتهاد
ولما أنهى سبحانه مثلهم، ذكر الثمرة في جعلهم كذلك فقال: ﴿ليغيظ﴾ معلقاً له بما يؤخذ من معنى الكلام وهو جعلهم
ولما ثم مثلهم وعلة جعلهم كذلك، بشرهم فقال في موضع وعدهم لتعليق الوعد بالوصف على عادة القرآن ترغيباً في التمسك به وترهيباً من مجانبته: ﴿وعد الله﴾ أي الملك الأعظلم ﴿الذين آمنوا﴾ ولما كان الكلام في الذين معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت المعية ظاهرة في الاتحاد في الدين لم تكن شاملة للمنافقين، فلم يكن الاهتمام بالتقييد بمنهم هنا
ولما كان الإنسان وإن اجتهد مقصراً عن بلوغ ما يحق له من العبادة، أشار إلى ذلك بقوله: ﴿مغفرة﴾ أي لما يقع منهم من الهفوات أو الذنوب والسيئات ﴿وأجراً عظيماً *﴾ بعد ذلك الستر، وقد جمعت هذه الآية الخاتمة لهذه السورة جميع حروف المعجم بشارة تلويحية مع ما فيها من البشائر التصريحية باجتماع أمرهم وعلو نصرهم، وذلك أنه لما كانت هذه العمرة قد حصل لهم فيها كسر لرجوعهم قبل وصولهم إلى قصدهم من الدخول إلى مكة المشرفة والطواف بالبيت العتيق، ولم يكن ذلك بسبب خلل أتى من قبلهم كما كان في غزوة أحد على ما مضى من بيانه في آل عمران التي هي سورة التوحيد الذي كلمته
مقصودها الإرشاد إلى مكارم الأخلاق بتوقير النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بالأدب معه في نفسه وفي أمته، وحفظ ذلك من إجلاله بالظاهر ليكون دليلا على الباطن فيسمى إيمانا، كما أن الإيمان بالله يشترط فيه فعل الأعمال الظاهرة والإذعان لفعلها بشرائطها وأركانها وحدودها لتكون بينة على الباطن وحجة شاهدة له) الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) [العنكبوت: ٢] فحاصل مقصودها مراقبة النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في الأدب مغعه لأتها أول المفصل الذي هو ملخص