تفسير سورة الفتح

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن .
لمؤلفه زكريا الأنصاري . المتوفي سنة 926 هـ

قوله تعالى :﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ﴾ [ الفتح : ١ ].
نزل قبل فتح مكة، وجيء بالفعل ماضيا، لأنه في علمه تعالى كالواقع، لتحقّق وقوعه.
قوله تعالى :﴿ ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ويُتمّ نعمته عليك ﴾ [ الفتح : ٢ ].
إن قلتَ : كيف قال ذلك والنبي معصوم من الذنوب ؟
قلتُ : المراد ذنب المؤمنين( ١ )، أو ترك الأفضل، أو أراد الصغائر، على ما قاله به جمع، أو المراد بالمغفرة العصمة.
ومعنى قوله :﴿ ما تقدّم وما تأخّر ﴾ ما فرط منك فرضا، قبل النبوة وبعدها، أو قبل فتح مكة وبعده، أو المراد بما تأخّر العموم والمبالغة، كقولهم : فلان يضرب من يلقاه، ومن لا يلقاه، بمعنى يضرب كلّ أحد، مع أن من لا يلقاه، لا يمكنه ضربه.
قوله تعالى :﴿ ويهديك صراطا مستقيما ﴾ [ الفتح : ٢ ].
أي يزيدك هدى، وإلا فهو مهديّ صلى الله عليه وسلم.
١ - هذا التأويل بعيد، والأولى أن يقال: ليغفر لك الله ما فرط منك، من ترك الأولى، سمي ذنبا بالنظر إلى منصبه الجليل، ولا يجوز أن الرسول صلى الله عليه وسلم عصى الله، أو ارتكب ذنبا، متعمدا للمعصية. فإن الرسل معصومون من الذنوب والآثام، لأن الله جعلهم قُدوة للخلق، وإنما يجتهد الرسول في بعض الأمور، فمنها ما يقرّه الله عليها، ومنها ما ينبّهه على خطئه فيها، كاستغفاره لعمه أبي طالب، وأخذه الفداء في أسرى بدر، وأمثال ذلك..
قوله تعالى :﴿ وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحقّ بها وأهلها ﴾ [ الفتح : ٢٦ ].
إن قلتَ : ما فائدة قوله :﴿ وأهلها ﴾ بعد قوله :﴿ أحقَّ بها ﴾ ؟
قلتُ : الضمير في " بها " لكلمة التوحيد، وفي أهليّتهما للتقوى، فلا تكرار( ١ ).
١ - المعنى: كان أصحاب محمد أحقّ بهذه الفضيلة من كفار مكة، وأهلا لها، حيث اختارهم الله لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم..
قوله تعالى :﴿ لقد صدق الله رسوله الرّؤيا بالحقّ لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله... ﴾ [ الفتح : ٢٧ ].
إن قلتَ : ما وجه التعليق بمشيئة الله تعالى في إخباره ؟
قلتُ :( إنْ ) بمعنى ( إذْ ) كما في قوله تعالى :﴿ وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ﴾ [ البقرة : ٢٧٨ ].
أو أنه استثناء منه تعالى فيما يَعلم، تعليما لعباده، أن يستثنوا فيما لا يعلمون.
أو أنه على سبيل الحكاية لرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه رأى أن قائلا يقول :﴿ لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ﴾( ١ ).
قوله تعالى :﴿ مُحلّقين رؤوسهم ومُقصّرين لا تخافون... ﴾ [ الفتح : ٢٧ ].
إن قلتَ : ما فائدة ذكر ﴿ لا تخافون ﴾ بعد قوله :﴿ آمنين ﴾ ؟
قلتُ : المعنى آمنين في حال الدخول، لا تخافون عدوّكم أن يُخرجكم منه في المستقبل.
١ - هذا القول بعيد، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم، رأى في منامه رؤيا حسنة، رأى أنه دخل مكة معتمرا، هو وأصحابه، فطافوا حول البيت العتيق، آمنين مطمئنين، بعضهم حلق رأسه، وبعضهم قصّر من شعره، بعد الانتهاء من مناسك العمرة، فحدّث بذلك أصحابه، ففرحوا واستبشروا، فلما وقع (صلح الحديبية) صَعُب على نفوس الصحابة، أن لا تتحقّق الرؤيا، ودخل إلى نفوسهم الهلع والجزع، فنزلت الآية الكريمة: ﴿لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحقّ﴾ فنسب تعالى صدق الرؤيا إليه، ولم يجعلها رؤيا على سبيل الحكاية..
قوله تعالى :﴿ يُعجِب الزّراع ليغيظ بهم الكفار... ﴾ [ الفتح : ٢٩ ].
تعليل لما دلّ عليه تشبيههم بالزرع، من نمائهم وقوّتهم، كأنه قيل : إنما قوّاهم وكثّرهم ليغيض بهم الكفار( ١ ).
قوله تعالى :﴿ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ﴾ [ الفتح : ٢٩ ].
" ومنهم " أي من الذين مع محمد صلى الله عليه وسلم وهم " الصحابة " مغفرة وأجرا عظيما ف " مِنْ " هنا لبيان الجنس، كما في قوله تعالى :﴿ فاجتنبوا الرّجس من الأوثان ﴾ [ الحج : ٣٠ ] لا للتبعيض، لأن الصحابة كلّهم موصوفون بالإيمان، والعمل الصالح.
١ - هذا مثل بديع، ضربه الله تعالى لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثّل تعالى لهم بالزرع ينمو، ويقوى. ويشتدّ بفراخه، حتى يصبح قويا صُلبا، يقف على ساقه، فالزرع محمد صلى الله عليه وسلم، والشّطأ: يعني الأفراخ، هم أصحابه رضوان الله عليهم، كانوا قليلين فكثروا، وضعفاء فقوُوا، حتى صَلُب بهم أمر الزمن واشتد، وثبت الإسلام فصار كالطّود الراسخ، يملأ الأرض خيرا، وبرّا، ونورا، وهو مثل في غاية الإبداع والجمال. من التفسير الواضح الميسّر..
Icon