تفسير سورة الفتح

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ
سورة الفتح
مدنية. وهي تسع وعشرون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله تعالى :﴿ وأنتم الأعلون والله معكم ﴾ [ محمد : ٣٥ ] ؛ فإنه بشارة بالفتح الذي أشار إليه سبحانه بقوله :
بسم الله الرحمان الرحيم :
﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾*﴿ لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾*﴿ وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً ﴾.

يقول الحق جلّ جلاله :﴿ إِنَّا فتحنا لك ﴾ الفتح عبارة عن الظفر بالبلدة عنوةً أو صُلحاً، بحرب أو بدون، فإنه ما لم يقع الظفر مُنْغَلِقٌ، مأخوذ من : فتح باب الدار. وإسناده إلى نون العظمة لإسناد الفعل إلى الله تعالى خلقاً وإيجاداً. قيل : المراد به فتح مكة، وهو المروي عن أنس رضي الله عنه، بُشِّر به صلى الله عليه وسلم عند انصرافه من الحُديبية. والتعبير عنه بصيغة الماضي على سَنَن الأخبار الإلهية المحققة الوقوع، للإيذان بتحققه، تأكيداً للتبشير، وتصدير الكلام بحرف التحقيق لذلك، وفيه من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبَر به - وهو الفتح - ما لا يخفى. وقيل : هو فتح الحديبية، وهو الذي عند البخاري١ عن أنس، وهو الصحيح عند ابن عطية، وعليه الجمهور. وفيها أُخذت البيعة على الجهاد، وهو كان سبب إظهار الإسلام وفشوه، وذلك أنّ المشركين كانوا ممنوعين من مخالطة أهل الإسلام، للحرب التي كانت بينهم، فلما وقع الصلح اختلط الناسُ بعضهم مع بعض، وجعل الكفارُ يرون أنوارَ الإسلام، ويسمعون القرآن، فأسلم حينئذ بشر كثير قبل فتح مكة.
وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن رجلاً قال : ما هذا بفتح، لقد صَدُّونا عن البيت، ومَنعونا، قال :" بل هو أعظم الفتوح، وقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح، ويسألوكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما يكرهون " ٢. وعن الشعبي أنه قال : نزلت سورة الفتح بالحديبية، وأصاب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة، حيث بُويع بيعة الرضوان، وغُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وبلغ الهَديُ مَحِلَّه، وبُشِّروا بخيبر، وظهرت الروم على فارس، ففرح به المسلمون، وكان في فتح الحديبية آية عظيمة، وهي أنه نزح ماؤها حتى لم يبقَ فيها قطرة، فتمضمض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم مجّه فيها، فدرّت بالماء، حتى شرب جميع مَن كان معه٣، وقيل : جاش بالماء حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها بعدُ٤. وقيل : هو جميع ما فتح له صلى الله عليه وسلم، من الإسلام، والدعوة، والنبوة، والحجة، والسيف، ولا فتح أبين منه وأعظم، وهو رأس الفتوح كافة ؛ إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا هو شعبة من شُعبه، وفرع من فروعه. وقيل : الفتح : بمعنى القضاء، والمعنى : قضينا لك على أهل مكة أن تدخلها من قابل، وأيّاً ما كان فحذف المفعول للقصد إلى نفس الفعل، والإيذان بأنّ مناط التبشير هو نفس الفتح الصادر عنه سبحانه، لا خصوصية المفتوح. قاله أبو السعود.
﴿ فتحاً مبيناً ﴾ ظاهر الأمر، مكشوف الحال، فارقاً بين الحق والباطل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة :﴿ إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ﴾ بأن كشفنا لك عن أسرار ذاتنا، وأنوار صفاتنا، وجمال أفعالنا، فشاهدتنا بنا، ليغفر لك الله، أي : ليُغيبك عن وجودك في شعور محبوبك، ويستر عنك حسك ورسمك، حتى تكون بنا في كل شيء، قديماً وحديثاً، قال القشيري : وذنب الوجود هو الشرك في الوجود، وغفره : ستره بنور الوحدة، لمحو ظلمة الأثينية هـ. ويُتم نعمته عليك بالجمع بين شهود الربوبية، والقيام بآداب العبودية، ودلالة الخلق على شهود قيام الديمومية، ويهديك طريقاً مستقيماً تُوصل إلى حضرتنا، فتسلكها وتُبينها لمَن يكون على قدمك، وينصرك الله نصراً عزيزاً، بالتمكُّن في شهود ذاتنا، والعكوف في حضرتنا، محفوفاً بالنصرة والعناية، محمولاً في محفَّة الرعاية.

١ انظر البخاري في تفسير سورة ٤٨، حديث ٤٨٣٤..
٢ أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٦/٥٨..
٣ أخرجه البخاري في المغازي حديث ٤١٥٠..
٤ في هامش النسخة الأصلية ما يلي: قلت: هذه القصة تكررت منه ص عدة مرات، وفي مواطن متعددة، فلا خصوصية للحديبية بذلك..
وقوله تعالى :﴿ ليغفر لك اللّهُ ﴾ غاية للفتح، من حيث إنه مترتب على سعيه صلى الله عليه وسلم في إعلاء كلمة الله، بمكابدة مشاق الحروب، واقتحام موارد الخطوب، أي : جعلنا الفتح على يديك، وبسبب سعيك، ليكون سبباً لغفران الله لك ﴿ ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر ﴾ أي : جميع ما فرط منك من ترك الأولى، وما سيقع، وتسميته ذنباً بالنظر إلى منصبه الجليل، وتقدم قريباً تحقيقه١. وقول الجلال٢ :" اللام للعلة الغائبة فمدخولها مسبب لا سبب، لا يريد التعليل على حقيقته العقلية، فإنه عليه تعالى محال، وإنما يُريد صورة التعليل، الذي هو حكمة الشيء، وفائدته العائدة على خلقه، فضلاً وإحساناً، فالحِكمُ والمصالح غاية لأفعاله تعالى، ومنافع راجعة إلى المخلوقات، وليس شيء منها غرضاً وعلة غائية لفعله، بحيث يكون سبباً لإقدامِه على الفعل، وعلة غائية للفعل ؛ لغناه تعالى، وكماله في ذاته عن الاستكمال بفعل من الأفعال، وما ورد في الآيات والأحاديث مما يُوهم الغرض والعلة فإنه يُحمل على الغايات المترتبة والحكمة، فاحتفظ بذلك. قاله صاحب الحاشية الفاسية. واللائق أن المعنى : إنا فتحنا لك وقضينا لك بأمرٍ عاقبته أن جَمَعَ الله لك بين سعادة الدنيا والآخرة، بأن غفر لك، وأتمّ نعمته عليك وهداك، ونصرك. فاللام لام العاقبة لا لام العلة ؛ فإن إفضال الله على رسوله لا يُعلل ولا يُوازي بعمل. ه.
﴿ ويُتم نعمتَه عليك ﴾ بإعلاء الدين، وضم المُلك إلى النبوة، وغيرها مما أفاض عليه من النعم الدينية والدنيوية، ﴿ ويهديَكَ صراطاً مستقيماً ﴾ أي : يُثبتك على الطريق القويم، والدين المستقيم، والاستقامة وإن كانت حاصلة قبل الفتح، لكن حاصل بعد ذلك من اتضاح سبيل الحق، واستقامة مناهجه، ما لم يكن حاصلاً قبلُ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة :﴿ إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ﴾ بأن كشفنا لك عن أسرار ذاتنا، وأنوار صفاتنا، وجمال أفعالنا، فشاهدتنا بنا، ليغفر لك الله، أي : ليُغيبك عن وجودك في شعور محبوبك، ويستر عنك حسك ورسمك، حتى تكون بنا في كل شيء، قديماً وحديثاً، قال القشيري : وذنب الوجود هو الشرك في الوجود، وغفره : ستره بنور الوحدة، لمحو ظلمة الأثينية هـ. ويُتم نعمته عليك بالجمع بين شهود الربوبية، والقيام بآداب العبودية، ودلالة الخلق على شهود قيام الديمومية، ويهديك طريقاً مستقيماً تُوصل إلى حضرتنا، فتسلكها وتُبينها لمَن يكون على قدمك، وينصرك الله نصراً عزيزاً، بالتمكُّن في شهود ذاتنا، والعكوف في حضرتنا، محفوفاً بالنصرة والعناية، محمولاً في محفَّة الرعاية.

١ انظر تفسير الآية ١٩ من سورة محمد..
٢ الجلال: هو جلال الدين محمد بن أحمد بن محمد المحلي، ولد سنة ٧٩٠هـ، وتوفي سنة ٨٦٤ هـ.
انظر كشف الظنون ٦/٢٠٢. وقوله: في تفسير الجلالين..

﴿ ويَنصُرَك اللّهُ ﴾ أي : يُظهر دينك، ويُعزّك، فإظهار الاسم الجليل لكونه خاتمة الغايات، ولإظهار كمال العناية، بشأن النصر، كما يُعرب عنه تأكيده بقوله :﴿ نصراً عزيزاً ﴾ أي : نصراً فيه عزة ومنعة، أو : قوياً منيعاً، على وصف المصدر بوصف صاحبه، مجازاً، للمبالغة، أو : عزيزاً صاحبه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة :﴿ إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ﴾ بأن كشفنا لك عن أسرار ذاتنا، وأنوار صفاتنا، وجمال أفعالنا، فشاهدتنا بنا، ليغفر لك الله، أي : ليُغيبك عن وجودك في شعور محبوبك، ويستر عنك حسك ورسمك، حتى تكون بنا في كل شيء، قديماً وحديثاً، قال القشيري : وذنب الوجود هو الشرك في الوجود، وغفره : ستره بنور الوحدة، لمحو ظلمة الأثينية هـ. ويُتم نعمته عليك بالجمع بين شهود الربوبية، والقيام بآداب العبودية، ودلالة الخلق على شهود قيام الديمومية، ويهديك طريقاً مستقيماً تُوصل إلى حضرتنا، فتسلكها وتُبينها لمَن يكون على قدمك، وينصرك الله نصراً عزيزاً، بالتمكُّن في شهود ذاتنا، والعكوف في حضرتنا، محفوفاً بالنصرة والعناية، محمولاً في محفَّة الرعاية.
ولما نزل قوله :﴿ ليغفر لك الله ﴾ قال المؤمنون : هذا لك يا رسول الله، فما لنا ؟ فأنزل الله١ :
﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾*﴿ لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً ﴾*﴿ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾*﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ هو الذي أنزل السكينةَ ﴾ أي : السكون والطمأنينة، فعلة، من : السكون، كالبهيتة من البهتان، ﴿ في قلوب المؤمنين ﴾ حتى لم يتضعضعوا من الشروط التي عقدها صلى الله عليه وسلم مع المشركين، مَن رَدّ مَن أسلم منهم، وعدم ردهم مَن رجع إليهم، ومِن دخول مكة قابلاً بلا سلاح، وغير ذلك مما فعله صلى الله عليه وسلم معهم بالوحي، وما صدر عن عمر رضي الله عنه فلشدة قوته وصلابته، وما زال يعتق ويفعل أموراً كفارة لذلك. وقيل :﴿ السكينة ﴾ : الصبر على ما أمر به الله من الشرائع والثقة بوعد الله، والتعظيم لأمر الله، ﴿ ليزدادوا إيماناً مع إِيمانهم ﴾ أي : يقيناً إلى يقينهم، أو : إيماناً بالشرائع مع إيمانهم بالعقائد.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : بعث الله نبيه بشهادة " ألا إله إلا الله " فلما صدَّقوه فيها، زادهم الصلاة، فلام صدّقوه، زادهم الزكاة، فلما صدّقوه، زادهم الحج، فلما صدّقوا زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم دينهم٢، فذلك قوله :﴿ ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ولله جنودُ السماوات والأرض ﴾ يُدبرها كما يريد، يُسلط بعضها على بعض تارة، ويوقع الصلح بينهما أخرى، حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحِكَم والمصالح، ﴿ وكان الله عليماً ﴾ مبالغاً في العلم بجميع الأمور ﴿ حكيماً ﴾ في تدبيره وتقديره٣.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المتوجهين، حتى سكنوا لصدمات تجلِّي الجلال، وأنوار الجمال، وسكنوا تحت مجاري الأقدار، كيفما برزت، بمرارة أو حلاوة. قال القشيري : والسكينةُ : ما يسكن إليه القلبُ من أنوار الإيمان والإيقان، أو العرفان بمشاهدة العيان، بل الاستغراق في بحر العين بلا أين. هـ. ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، فيترقُّوا من مقام الإسلام إلى مقام الإيمان، ومن مقام الإيمان إلى مقام الإحسان، أو من علم اليقين إلى عين اليقين، ومن عين اليقين إلى حق اليقين، أو من المراقبة إلى المشاهدة، أو من رؤية الأسباب إلى مسبب الأسباب.
﴿ ولله جنودُ السماوات والأرض ﴾ وهي الجنود التي يمد الله بها الروح في محاربتها للنفس، حتى تغلبها وتستولي عليها، وهي اليقين، والعلم، والذكر، والفكر، والواردات الإلهية، التي تأتي من حضرة القهّار، فتدمغ كل ما تُصادمه من الأغيار والأكدار، وكان الله عليماً بمَن يستحق هذه الواردات، حكيماً في ترتيبها وتدبيرها، ليُدخل مَن تأيّد بها جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم والحِكَم، ويغطي عنهم مساوئهم حتى يصلوا إليه، بما منه إليهم، لا بما منهم إليه وهذا هو الفوز العظيم، يفوز صاحبه بالنعيم المقيم، في جوار الكريم. ويُعذب أهل النفاق المنتقدين على أولياء الله، المتوجهين إليه، الظانين بالله ظن السوء، وهو أن خصوصية التربية انقطعت. ﴿ ولله جنود السماوات والأرض ﴾ أي : جنود الحجاب، وهو جند النفس، من الهوى والشيطان، والدنيا والناس، يُسلطها على مَن يشاء من عباده، إن يبقى في ظلمة الحجاب، والله غالب على أمره.


١ أخرجه البخاري في المغازي حديث ٤١٧٢..
٢ أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٦/٦٢..
٣ في هامش النسخة الأصلية ما يلي: قلت: هذا يقتضي أن الحج فرض قبل الجهاد. وليس كذلك، بل الجهاد فرض قبل الزكاة، فينبغي أن لا يكون هذا صحيحا..
﴿ ليُدخل المؤمنين والمؤمنات ﴾ اللام متعلق بما يدل عليه ما ذكر من قوله :﴿ ولله جنود السماوات والأرض ﴾ من معنى التصرُّف، أي : دَبّر ما دَبَّر من تسليط المؤمنين، ليعرفوا نعمة الله ويشكروها، فيدخلهم ﴿ جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها ويُكَفِّرَ عنهم سيئاتهم ﴾ أي : يُغطّي عنهم مساوئهم، فلا يظهرها لهم ولا لغيرهم. وتقديم الإدخال على التكفير، مع أن الترتيب في الوجود على العكس ؛ للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى. ﴿ وكان ذلك ﴾ أي : ما ذكر من الإدخال والتكفير ﴿ عند الله فوزاً عظمياً ﴾ لا يُقادر قدره ؛ لأنه منتهى ما امتدت إليه أعناق الهمم من جلب نفع ودفع ضر. و " عند الله " : حال من " فوزاً عظيماً " لأنه صفته في الأصل، فلما قُدّم عليه صار حالاً، أي : كائناً عند الله في علمه وقضائه. والجملة : اعتراض مقُرِّرٌ لما قبله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المتوجهين، حتى سكنوا لصدمات تجلِّي الجلال، وأنوار الجمال، وسكنوا تحت مجاري الأقدار، كيفما برزت، بمرارة أو حلاوة. قال القشيري : والسكينةُ : ما يسكن إليه القلبُ من أنوار الإيمان والإيقان، أو العرفان بمشاهدة العيان، بل الاستغراق في بحر العين بلا أين. هـ. ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، فيترقُّوا من مقام الإسلام إلى مقام الإيمان، ومن مقام الإيمان إلى مقام الإحسان، أو من علم اليقين إلى عين اليقين، ومن عين اليقين إلى حق اليقين، أو من المراقبة إلى المشاهدة، أو من رؤية الأسباب إلى مسبب الأسباب.
﴿ ولله جنودُ السماوات والأرض ﴾ وهي الجنود التي يمد الله بها الروح في محاربتها للنفس، حتى تغلبها وتستولي عليها، وهي اليقين، والعلم، والذكر، والفكر، والواردات الإلهية، التي تأتي من حضرة القهّار، فتدمغ كل ما تُصادمه من الأغيار والأكدار، وكان الله عليماً بمَن يستحق هذه الواردات، حكيماً في ترتيبها وتدبيرها، ليُدخل مَن تأيّد بها جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم والحِكَم، ويغطي عنهم مساوئهم حتى يصلوا إليه، بما منه إليهم، لا بما منهم إليه وهذا هو الفوز العظيم، يفوز صاحبه بالنعيم المقيم، في جوار الكريم. ويُعذب أهل النفاق المنتقدين على أولياء الله، المتوجهين إليه، الظانين بالله ظن السوء، وهو أن خصوصية التربية انقطعت. ﴿ ولله جنود السماوات والأرض ﴾ أي : جنود الحجاب، وهو جند النفس، من الهوى والشيطان، والدنيا والناس، يُسلطها على مَن يشاء من عباده، إن يبقى في ظلمة الحجاب، والله غالب على أمره.

﴿ ويُعذِّب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ﴾ لِما أغاظهم من ذلك وكرهوه، وهو عطف على " يدخل "، وفي تقديم المنافقين على المشركين ما لا يخفى من الدلالة على أنهم أحق منهم بالعذاب. ﴿ الظانين بالله ظَنَّ السَّوءِ ﴾ أي : ظن الأمر السَّوء، وهو ألا ينصر الله رسولَه والمؤمنين، ولا يُرجعهم إلى مكة، فالسَّوء عبارة عن رداءة الشيء وفساده، يقال : فِعْلُ سَوُءٍ، أي : مسخوط فاسد. ﴿ عليهم دائرةُ السَّوءِ ﴾ أي : ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين، وهو دائر عليهم وحائق بهم. وفيه لغتان : فتح السين وضمها، كالكَره والكُره، والضَّعف والضَّعف، غير أن المفتوح غلب عليه أن يُضاف إليه ما يُراد ذمّه من كل شيء، وأما السُوء فجارٍ مجرى الشيء الذي هو نقيض الخير، أي : الدائرة التي يذمونها ويسخطونها دائرة عليهم، ولاحقة بهم، ﴿ وغَضِبَ اللّهُ عليهم ولعنهم وأعدَّ لهم جهنم وساءت مصيراً ﴾ لهم، وهو عطف لما استوجبوه في الآخرة على ما استوجبوه في الدنيا، وعطفَ " ولعنهم " وما بعده بالواو، مع أن حقهما الفاء المفيدة للسببية ؛ إيذاناً باستقلال كل واحد منهما بالوعيد، وأصالته، من غير اعتبار استتباع بعضها لبعض.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المتوجهين، حتى سكنوا لصدمات تجلِّي الجلال، وأنوار الجمال، وسكنوا تحت مجاري الأقدار، كيفما برزت، بمرارة أو حلاوة. قال القشيري : والسكينةُ : ما يسكن إليه القلبُ من أنوار الإيمان والإيقان، أو العرفان بمشاهدة العيان، بل الاستغراق في بحر العين بلا أين. هـ. ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، فيترقُّوا من مقام الإسلام إلى مقام الإيمان، ومن مقام الإيمان إلى مقام الإحسان، أو من علم اليقين إلى عين اليقين، ومن عين اليقين إلى حق اليقين، أو من المراقبة إلى المشاهدة، أو من رؤية الأسباب إلى مسبب الأسباب.
﴿ ولله جنودُ السماوات والأرض ﴾ وهي الجنود التي يمد الله بها الروح في محاربتها للنفس، حتى تغلبها وتستولي عليها، وهي اليقين، والعلم، والذكر، والفكر، والواردات الإلهية، التي تأتي من حضرة القهّار، فتدمغ كل ما تُصادمه من الأغيار والأكدار، وكان الله عليماً بمَن يستحق هذه الواردات، حكيماً في ترتيبها وتدبيرها، ليُدخل مَن تأيّد بها جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم والحِكَم، ويغطي عنهم مساوئهم حتى يصلوا إليه، بما منه إليهم، لا بما منهم إليه وهذا هو الفوز العظيم، يفوز صاحبه بالنعيم المقيم، في جوار الكريم. ويُعذب أهل النفاق المنتقدين على أولياء الله، المتوجهين إليه، الظانين بالله ظن السوء، وهو أن خصوصية التربية انقطعت. ﴿ ولله جنود السماوات والأرض ﴾ أي : جنود الحجاب، وهو جند النفس، من الهوى والشيطان، والدنيا والناس، يُسلطها على مَن يشاء من عباده، إن يبقى في ظلمة الحجاب، والله غالب على أمره.

﴿ ولله جنودُ السماوات والأرض ﴾ إعادة لما سبق، وفائدتها : التنبيه على أن لله جنود الرحمة وجنود العذاب، كما ينبئ عنه التعرُّض لوصف العزة في قوله :﴿ وكان اللّهُ عزيزاً ﴾ أي : غالباً فلا يُردّ بأسه ﴿ حكيماً ﴾ فلا يعترض صنعه. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المتوجهين، حتى سكنوا لصدمات تجلِّي الجلال، وأنوار الجمال، وسكنوا تحت مجاري الأقدار، كيفما برزت، بمرارة أو حلاوة. قال القشيري : والسكينةُ : ما يسكن إليه القلبُ من أنوار الإيمان والإيقان، أو العرفان بمشاهدة العيان، بل الاستغراق في بحر العين بلا أين. هـ. ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، فيترقُّوا من مقام الإسلام إلى مقام الإيمان، ومن مقام الإيمان إلى مقام الإحسان، أو من علم اليقين إلى عين اليقين، ومن عين اليقين إلى حق اليقين، أو من المراقبة إلى المشاهدة، أو من رؤية الأسباب إلى مسبب الأسباب.
﴿ ولله جنودُ السماوات والأرض ﴾ وهي الجنود التي يمد الله بها الروح في محاربتها للنفس، حتى تغلبها وتستولي عليها، وهي اليقين، والعلم، والذكر، والفكر، والواردات الإلهية، التي تأتي من حضرة القهّار، فتدمغ كل ما تُصادمه من الأغيار والأكدار، وكان الله عليماً بمَن يستحق هذه الواردات، حكيماً في ترتيبها وتدبيرها، ليُدخل مَن تأيّد بها جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم والحِكَم، ويغطي عنهم مساوئهم حتى يصلوا إليه، بما منه إليهم، لا بما منهم إليه وهذا هو الفوز العظيم، يفوز صاحبه بالنعيم المقيم، في جوار الكريم. ويُعذب أهل النفاق المنتقدين على أولياء الله، المتوجهين إليه، الظانين بالله ظن السوء، وهو أن خصوصية التربية انقطعت. ﴿ ولله جنود السماوات والأرض ﴾ أي : جنود الحجاب، وهو جند النفس، من الهوى والشيطان، والدنيا والناس، يُسلطها على مَن يشاء من عباده، إن يبقى في ظلمة الحجاب، والله غالب على أمره.

ثم شهد لرسوله بالرسالة، بعد بشارته بالفتح والعصمة، فقال :
﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾*﴿ لِّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾*﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ إِنّا أرسلناك شاهداً ﴾ تشهد على أمتك يوم القيامة، كقوله :
﴿ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] وهو حال مقدَّرة، ﴿ ومبشِّراً ﴾ لأهل الطاعة بالجنة، ﴿ ونذيراً ﴾ لأهل المعصية بالنار.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : لكل جيل من الناس يبعث اللّهُ مَن يُذكِّرهم، ويدعوهم إلى الله، بمعرفته، أو بإقامة دينه، ليدوم الإيمان بالله ورسوله، ويحصل النصر والتعظيم للدين إلى يوم الدين، ولولا هؤلاء الخلفاء لضاع الدين، وقوله تعالى :﴿ إنَّ الذين يُبايعونك ﴾ الآية، قال الورتجبي : ثم صرَّح بأنه عليه السلام مرآة لظهور ذاته وصفاته، وهو مقام الاتصاف بأنوار الذات والصفات في نور الفعل، فصار هو هو، إذا غاب الفعل في الصفة، وغابت الصفة في الذات. فقال :﴿ إن الذين يُبايعونك... ﴾ الآية. وإلى ذلك يُشير الحلاّج وغيره. وقال في القوت : هذه أمدح آية في كتاب الله عزّ وجل، وأبلغ فضيلة فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه جعله في اللفظ بدلاً عنه، وفي الحكم مقامه، ولم يدخل فيه كاف التشبيه، فيقول : كأنما، ولا لام الملك، فيقول : لله، وليس هذا من الربوبية للخلق سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم. هـ.
وقال الحسن بن منصور الحلاج : لم يُظهر الحق تعالى مقام الجمع على أحد بالتصريح إلا على أخص نسَمِهِ وأشرفه، فقال :﴿ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ﴾.
قال القشيري : وفي هذه الآية تصريحٌ بعين الجمع، كما قال :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ﴾
[ الأنفال : ١٧ ] وقال في مختصره : يُشير إلى كمال فنائه وجوده عليه السلام في الله وبقائه بالله. هـ. فالآية تُشير إلى مقام الجمع، المنبه عليه في الحديث :" فإذا أحببته كنت سمعه، وبصره، ويده " ٢ وسائر قواه، الذي هو سر الخلافة والبقاء بالله وهذا الأمر حاصل لخلفائه صلى الله عليه وسلم من العارفين بالله، أهل الفناء والبقاء، وهم أهل التربية النبوية في كل زمان، فمَن بايعهم فقد بايع الله، ومَن نظر إليهم فقد نظر إلى الله، فمَن نكث العهد بعد عقده معهم فإنما ينكثه على نفسه، فتيبس شجرةُ إرادته، ويُطمس نور بصيرته، فيرجع إلى مقام عامة أهل اليمين ومَن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً شهود ذاته المقدسة على الدوام، والظفر بمقام المقربين، ثبتنا الله على منهاجه القويم، من غير انتكاص ولا رجوع، آمين.

﴿ لتؤمنوا بالله ورسوله ﴾ والخطاب للرسول والأمة، ﴿ وتُعزِّروه ﴾ تقوُّوه بنصر دينه، ﴿ وتُوقِّروه ﴾ أي : تُعظِّموه بتعظيم رسوله وسائر حرماته، ﴿ وتُسبِّحوه ﴾ تُنزِّهوه، أو تُصلوا له، من : السبحة، ﴿ بكرةً وأصيلاً ﴾ غدوة وعشية، قيل : غدوة : صلاة الفجر، وعشية : الظهر والعصر والمغرب والعشاء. والضمائر لله تعالى. ومَن فرّق ؛ فجعل الأولين للنبي صلى الله عليه وسلم والأخير لله تعالى، فقد أبعد. وقرأ المكي والبصري بالغيب في الأربعة، والضمائر للناس، وقرأ ابن السميفع :" وتُعززوه " بزاءين، أي : تنصروه وتُعِزُّوا دينه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : لكل جيل من الناس يبعث اللّهُ مَن يُذكِّرهم، ويدعوهم إلى الله، بمعرفته، أو بإقامة دينه، ليدوم الإيمان بالله ورسوله، ويحصل النصر والتعظيم للدين إلى يوم الدين، ولولا هؤلاء الخلفاء لضاع الدين، وقوله تعالى :﴿ إنَّ الذين يُبايعونك ﴾ الآية، قال الورتجبي : ثم صرَّح بأنه عليه السلام مرآة لظهور ذاته وصفاته، وهو مقام الاتصاف بأنوار الذات والصفات في نور الفعل، فصار هو هو، إذا غاب الفعل في الصفة، وغابت الصفة في الذات. فقال :﴿ إن الذين يُبايعونك... ﴾ الآية. وإلى ذلك يُشير الحلاّج وغيره. وقال في القوت : هذه أمدح آية في كتاب الله عزّ وجل، وأبلغ فضيلة فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه جعله في اللفظ بدلاً عنه، وفي الحكم مقامه، ولم يدخل فيه كاف التشبيه، فيقول : كأنما، ولا لام الملك، فيقول : لله، وليس هذا من الربوبية للخلق سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم. هـ.
وقال الحسن بن منصور الحلاج : لم يُظهر الحق تعالى مقام الجمع على أحد بالتصريح إلا على أخص نسَمِهِ وأشرفه، فقال :﴿ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ﴾.
قال القشيري : وفي هذه الآية تصريحٌ بعين الجمع، كما قال :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ﴾
[ الأنفال : ١٧ ] وقال في مختصره : يُشير إلى كمال فنائه وجوده عليه السلام في الله وبقائه بالله. هـ. فالآية تُشير إلى مقام الجمع، المنبه عليه في الحديث :" فإذا أحببته كنت سمعه، وبصره، ويده " ٢ وسائر قواه، الذي هو سر الخلافة والبقاء بالله وهذا الأمر حاصل لخلفائه صلى الله عليه وسلم من العارفين بالله، أهل الفناء والبقاء، وهم أهل التربية النبوية في كل زمان، فمَن بايعهم فقد بايع الله، ومَن نظر إليهم فقد نظر إلى الله، فمَن نكث العهد بعد عقده معهم فإنما ينكثه على نفسه، فتيبس شجرةُ إرادته، ويُطمس نور بصيرته، فيرجع إلى مقام عامة أهل اليمين ومَن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً شهود ذاته المقدسة على الدوام، والظفر بمقام المقربين، ثبتنا الله على منهاجه القويم، من غير انتكاص ولا رجوع، آمين.

﴿ إِنَّ الذين يُبايعونك ﴾ على الجهاد، بيعة الرضوان ﴿ إِنما يُبايعون اللّهَ ﴾ لأنه خليفة عنه، فعقد البيعة معه صلى الله عليه وسلم كعقدها مع الله من غير تفاوت بينهما، كقوله :
﴿ مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه ﴾ [ النساء : ٨٠ ] ثم أكّد ذلك بقوله :﴿ يدُ اللهِ فوق أيديهم ﴾ يعني : أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله، من باب مبالغة التشبيه، ﴿ فمَن نكث ﴾ نقض البيعة، ولم يفِ بها ﴿ فإِنما يَنكُثُ على نفسه ﴾ فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه، قال جابر رضي الله عنه :" بايعنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على الموت، وعلى ألاَ نفرّ، فما نكث أحدُ منا البيعةَ، إلا جَدّ بن قَيْسٍِ المنافق، اختبأ تحت إبطِ بعيره، ولم يَسر مع القوم " ١. ﴿ ومَن أوفى بما عاهد عليه اللّهَ ﴾ يقال : وفيت بالعهد وأوفيت. وقرأ حفص بضم الهاء من " عليه " توسُّلاً لتفخيم لام الجلالة، وقيل : هو الأصل، وإنما كسر لمناسبة الياء. أي : ومَن وفَّى بعهده بالبيعة ﴿ فسيؤتيه أجراً عظيماً ﴾ الجنة وما فيها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : لكل جيل من الناس يبعث اللّهُ مَن يُذكِّرهم، ويدعوهم إلى الله، بمعرفته، أو بإقامة دينه، ليدوم الإيمان بالله ورسوله، ويحصل النصر والتعظيم للدين إلى يوم الدين، ولولا هؤلاء الخلفاء لضاع الدين، وقوله تعالى :﴿ إنَّ الذين يُبايعونك ﴾ الآية، قال الورتجبي : ثم صرَّح بأنه عليه السلام مرآة لظهور ذاته وصفاته، وهو مقام الاتصاف بأنوار الذات والصفات في نور الفعل، فصار هو هو، إذا غاب الفعل في الصفة، وغابت الصفة في الذات. فقال :﴿ إن الذين يُبايعونك... ﴾ الآية. وإلى ذلك يُشير الحلاّج وغيره. وقال في القوت : هذه أمدح آية في كتاب الله عزّ وجل، وأبلغ فضيلة فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه جعله في اللفظ بدلاً عنه، وفي الحكم مقامه، ولم يدخل فيه كاف التشبيه، فيقول : كأنما، ولا لام الملك، فيقول : لله، وليس هذا من الربوبية للخلق سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم. هـ.
وقال الحسن بن منصور الحلاج : لم يُظهر الحق تعالى مقام الجمع على أحد بالتصريح إلا على أخص نسَمِهِ وأشرفه، فقال :﴿ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ﴾.
قال القشيري : وفي هذه الآية تصريحٌ بعين الجمع، كما قال :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ﴾
[ الأنفال : ١٧ ] وقال في مختصره : يُشير إلى كمال فنائه وجوده عليه السلام في الله وبقائه بالله. هـ. فالآية تُشير إلى مقام الجمع، المنبه عليه في الحديث :" فإذا أحببته كنت سمعه، وبصره، ويده " ٢ وسائر قواه، الذي هو سر الخلافة والبقاء بالله وهذا الأمر حاصل لخلفائه صلى الله عليه وسلم من العارفين بالله، أهل الفناء والبقاء، وهم أهل التربية النبوية في كل زمان، فمَن بايعهم فقد بايع الله، ومَن نظر إليهم فقد نظر إلى الله، فمَن نكث العهد بعد عقده معهم فإنما ينكثه على نفسه، فتيبس شجرةُ إرادته، ويُطمس نور بصيرته، فيرجع إلى مقام عامة أهل اليمين ومَن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً شهود ذاته المقدسة على الدوام، والظفر بمقام المقربين، ثبتنا الله على منهاجه القويم، من غير انتكاص ولا رجوع، آمين.


١ أخرجه مسلم في الإمارة حديث ٦٨، ٦٩..
ثم ذكر من تخلف عن البيعة، فقال :
﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾*﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً ﴾*﴿ وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً ﴾*﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَات وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ سيقولُ لك ﴾ يا محمد إذا رجعت من الحديبية ﴿ المخلَّفون من الأعراب ﴾ وهم الذين تخلّفوا عن الحديبية، وهم أعراب غِفَار، ومُزَيْنةُ، وجهينة، وأسلم، وأشجع، والديل، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة، عام الحديبية، معتمراً، استنفر مَن حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي، ليخرجوا معه، حذراً من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدُّوه عن البيت، وأحرم صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدي ؛ لِيُعْلمَ أنه لا يريد حرباً، فتثاقل كثير من الأعراب، وقالوا : نذهب إلى قوم غَزوهُ في داره بالمدينة، وقتلوا أصحابه، فنقاتلهم، وظنوا أنه لا ينقلب إلى المدينة، فأوحى الله تعالى إليه ما قالوا، حيث تعلّلوا وقالوا :﴿ شَغَلتنا أموالُنا وأهلُونا ﴾ ولم يكن تخلُّفنا عنك اختياراً، بل عن اضطرار، ﴿ فاستغفر لنا ﴾ فأكذبهم الله بقوله :﴿ يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ﴾ فليس تخلُّفهم لأجل ذلك، وإنما تخلَّفوا شكّاً ونفاقاً، وطلبُهم الاستغفار أيضاً ليس بصادرٍ عن حقيقة.
﴿ قل ﴾ لهم :﴿ فمَن يملك لكم من الله شيئاً ﴾ فمَن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه ﴿ إِن أراد بكم ضَرّاً ﴾ أي : ما يضركم من هلاك الأهل، والمال وضياعها، حتى تخلّفتم عن الخروج لحفظها، ﴿ أو أراد بكم نفعاً ﴾ أي : مَن يقدر على ضَرَركم إن أراد بكم نزول ما ينفعكم، من حفظ أموالكم وأهليكم، فأيّ حاجة إلى التخلُّف لأجل القيام بحفظهما والأمر كله بيد الله ؟ ﴿ بل كان الله بما تعملون خبيراً ﴾ إضراب عما قالوه، وبيان لكذبه بعد بيان فساده على تقدير صدقه، أي : ليس الأمر كما يقولون، بل كان الله خبيراً بجميع الأعمال، التي من جملتها تخلُّفكم وما هو سببه، فلا ينفعكم الكذب مع علم الله بجميع أسراركم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هذه الآية تَجُر ذيلها على مَن تخلّف من المريدين عن زيادة المشايخ من غير عُذر بيِّن، واعتذر بأعذار كاذبة، يقول بلسانه ما ليس في قلبه، وما زالت الأشياخ تقول : كل شيء يُسمح فيه إلا القدوم ؛ إذ به تحصل التربية والترقية، وتقول أيضاً : مَن جلس عنا لعذر صحيح عذرناه، وربما يصل إليه المدد في موضعه، ومَن جلس لغير عذر لا نُسامح له، بل يُحرم من زيادة الإمداد، ومن الترقي في المقامات والأسرار، وما قطع الناس عن الله إلا أموالهم وأهلوهم اشتغلوا بهم، وحُرموا السير والوصول، فكل مريد شغله عن زيادة شيخه أهلُه ومالُه لا يأتي منه شيء. قل : فمَن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضرّاً، بأن قطعكم عنه بعلة الأهل والمال، أو : أراد بكم نفعاً، بأن وصلكم إليه، وغيَّب عنكم أهلكم ومالكم، بل كان الله بما تعملون خبيراً، يعلم مَن تخلّف لعذر صحيح، أو لعذر باطل، وبالله التوفيق.
﴿ بل ظننتم أن لن ينقلب الرسولُ والمؤمنون إِلى أهليهم أبداً ﴾ بأن يستأصلهم المشركون بالموت، فخشيتم إن كنتم معهم أن يُصيبكم ذلك، فتخلّفتم لأجل ذلك، لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة، ﴿ وزُيِّنَ ذلك في قلوبكم ﴾ زيّنه الشيطانُ وقبلتموه، واشتغلتم بشأن أنفسكم، غير مبالين بهم، ﴿ وظننتم ظنَّ السَّوء ﴾ والمراد به الظن الأول، والتكرير لتشديد التوبيخ والتسجيل عليه بالسوء، أو ما يعمه وغيره من الظنون الفاسدة، كعلو الكفر، وظهور الفساد، وعدم صحة رسالته صلى الله عليه وسلم، فإن الجازم بصحتها لا يحول حول فكره هذه الظنون الباطلة، ﴿ وكنتم قوماً بُوراً ﴾ هالكين عند الله، مستوجبين لسخطه وعقابه، جمع : بائر، كعائذ وعُوذ، من بار الشيء : هلك وفسد، أي : كنتم قوماً فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونيّاتكم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هذه الآية تَجُر ذيلها على مَن تخلّف من المريدين عن زيادة المشايخ من غير عُذر بيِّن، واعتذر بأعذار كاذبة، يقول بلسانه ما ليس في قلبه، وما زالت الأشياخ تقول : كل شيء يُسمح فيه إلا القدوم ؛ إذ به تحصل التربية والترقية، وتقول أيضاً : مَن جلس عنا لعذر صحيح عذرناه، وربما يصل إليه المدد في موضعه، ومَن جلس لغير عذر لا نُسامح له، بل يُحرم من زيادة الإمداد، ومن الترقي في المقامات والأسرار، وما قطع الناس عن الله إلا أموالهم وأهلوهم اشتغلوا بهم، وحُرموا السير والوصول، فكل مريد شغله عن زيادة شيخه أهلُه ومالُه لا يأتي منه شيء. قل : فمَن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضرّاً، بأن قطعكم عنه بعلة الأهل والمال، أو : أراد بكم نفعاً، بأن وصلكم إليه، وغيَّب عنكم أهلكم ومالكم، بل كان الله بما تعملون خبيراً، يعلم مَن تخلّف لعذر صحيح، أو لعذر باطل، وبالله التوفيق.
﴿ ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإِنّا أعتدنا ﴾ أعددنا ﴿ للكافرين ﴾ أي : لهم، فأٌقيم الظاهر مقام المضمر للإيذان بأن مَن لم يجمع بين الإيمان بالله وبرسوله فهو كافر مستوجب العسير. ونكَّر ﴿ سعيراً ﴾ لأنها نار مخصوصة، كما نكَّر ﴿ نَاراً تَلَظَّى ﴾ [ الليل : ١٤ ]. وهذا كلام وارد من قِبله تعالى، غر داخل في الكلام المتقدم، مُقرر لبوارهم، ومُبيّن لكيفيته، أي : ومَن لم يؤمن كهؤلاء المتخلفين، فإنا أعتدنا له سعيراً يحترق بها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هذه الآية تَجُر ذيلها على مَن تخلّف من المريدين عن زيادة المشايخ من غير عُذر بيِّن، واعتذر بأعذار كاذبة، يقول بلسانه ما ليس في قلبه، وما زالت الأشياخ تقول : كل شيء يُسمح فيه إلا القدوم ؛ إذ به تحصل التربية والترقية، وتقول أيضاً : مَن جلس عنا لعذر صحيح عذرناه، وربما يصل إليه المدد في موضعه، ومَن جلس لغير عذر لا نُسامح له، بل يُحرم من زيادة الإمداد، ومن الترقي في المقامات والأسرار، وما قطع الناس عن الله إلا أموالهم وأهلوهم اشتغلوا بهم، وحُرموا السير والوصول، فكل مريد شغله عن زيادة شيخه أهلُه ومالُه لا يأتي منه شيء. قل : فمَن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضرّاً، بأن قطعكم عنه بعلة الأهل والمال، أو : أراد بكم نفعاً، بأن وصلكم إليه، وغيَّب عنكم أهلكم ومالكم، بل كان الله بما تعملون خبيراً، يعلم مَن تخلّف لعذر صحيح، أو لعذر باطل، وبالله التوفيق.
﴿ ولله مُلكُ السماوات والأرض ﴾ يُدبره تدبير قادر حكيم، ويتصرف فيهما وفيما بينهما كيف يشاء، ﴿ يغفر لمن يشاء ويُعذِّب من يشاء ﴾ بقدرته وحكمته، من غير دخل لأحد في شيء، ومن حكمته : مغفرته للمؤمنين وتعذيبه للكافرين. ﴿ وكان الله غفوراً رحيماً ﴾ مبالغاً في المغفرة والرحمة لمَن يشاء، أي : لمَن تقتضي الحكمة مغفرته ممن يؤمن به وبرسوله، وأما مَن عداه من الكفر فبمعزل من ذلك قطعاً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هذه الآية تَجُر ذيلها على مَن تخلّف من المريدين عن زيادة المشايخ من غير عُذر بيِّن، واعتذر بأعذار كاذبة، يقول بلسانه ما ليس في قلبه، وما زالت الأشياخ تقول : كل شيء يُسمح فيه إلا القدوم ؛ إذ به تحصل التربية والترقية، وتقول أيضاً : مَن جلس عنا لعذر صحيح عذرناه، وربما يصل إليه المدد في موضعه، ومَن جلس لغير عذر لا نُسامح له، بل يُحرم من زيادة الإمداد، ومن الترقي في المقامات والأسرار، وما قطع الناس عن الله إلا أموالهم وأهلوهم اشتغلوا بهم، وحُرموا السير والوصول، فكل مريد شغله عن زيادة شيخه أهلُه ومالُه لا يأتي منه شيء. قل : فمَن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضرّاً، بأن قطعكم عنه بعلة الأهل والمال، أو : أراد بكم نفعاً، بأن وصلكم إليه، وغيَّب عنكم أهلكم ومالكم، بل كان الله بما تعملون خبيراً، يعلم مَن تخلّف لعذر صحيح، أو لعذر باطل، وبالله التوفيق.
ثم قال :
﴿ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَالِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾*﴿ قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ سيقول المخلِّفون ﴾ المذكورون آنفاً ﴿ إِذا انطلقتم إِلى مغانمَ ﴾ أي : مغانم خيبر ﴿ تأخذونها ﴾ حسبما وعدكم الله بها، وخصَّكم بها، عِوض ما فاتكم من مغانم مكة. و﴿ إذا ﴾ : ظرف لما قبله، لا شرط لما بعده، أي : سيقولون عند انطلاقكم إلى مغانم خيبر :﴿ ذَرونا نتَّبِعكم ﴾ إلى خيبر، ونشهد معكم قتال أهلها ﴿ يريدون إن يُبدِّلوا كلامَ الله ﴾ الذي وعد به أهل الحديبية بأن يخصّهم بغنائم خيبر ولا يشاركهم فيها أحد، فأراد المخلَّفون أن يُشاركوهم ويُبدلوا وعد الله. وكانت وقعة الحديبية في ذي الحجة سنة ست، فلما رجع إلى المدينة أقام بها بقية ذي الحجة، ثم غزا في أول السابعة خيبر، ففتحها، وغنم أموالاً كثيرة، فخصصها بأهل الحديبية، بأمره تعالى، ﴿ قل ﴾ لهم إقناطاً لهم :﴿ لن تتبعونا ﴾ إلى خيبر، وهو نفي بمعنى النهي، للمبالغة، أي : لا تتبعونا، أو : نفي محض، إخبار من الله تعالى بعدم اتباعهم وألا يبدّل القول لديه.
﴿ كذلكم قال اللّهُ من قبلُ ﴾ أي : من قبل انصرافهم إلى الغنيمة، وأنَّ غنيمة خيبر لَمن شهد الحديبية فقط، ﴿ فسيقولون ﴾ للمؤمنين عند سماع هذا النهي :﴿ بل تحسدوننا ﴾ أي : ليس ذلك النهي من عند الله، بل تحسدوننا أن نشارككم في الغنائم، ﴿ بل كانوا لا يفقهون ﴾ كلام الله ﴿ إِلا قليلاً ﴾ شيئاً قليلاً، يعني : مجرد اللفظ، أو : لا يفهمون إلا فهماً قليلاً ؛ وهو فطنتهم لأمور الدنيا دون الدين، وهو ردٌّ لقولهم الباطل، ووصف لهم بسوء الفهم والجهل المفرط. والفرق بين الإضرابين : أن الأول ردَّ أن يكون حكم الله ألا يتبعوهم وإثبات الحسد، والثاني إضرابٌ عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى وصفهم بما هو أعظم منه، وهو الجهل وقلة الفقه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : سيقول المخلِّفون عن السير بترك مجاهدة النفوس، التي بها يتحقق سير السائرين : ذرونا نتبعكم في السير إلى الله من غير مجاهدة ولا تجريد، يريدون أن يُبدلوا كلامَ الله، وهو قوله :﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [ العنكبوت : ٦٩ ]، فخصّ الهداية إلى الوصول بالمجاهدة، لا بالبقاء مع حظوظ النفوس، قل : لن تتبعونا في السير، ولو فعلتم ما فعلتم بلا مجاهدة، كذلك حكم الحكيم العليم، فإن قالوا : حسدتمونا، حيث لم تسيرونا على ما نحن عليه، فقد دلّ ذلك على جهلهم، وعدم فهمهم، قل للمخلفين على السير، بالبقاء مع حظوظهم : ستُدعون إلى مجاهدة قوم أُولي بأس شديد، وهو النفس، بتحميلها ما يثقل عليها، كالذل، والفقر، والهوى بمخالفته، والدنيا بالزهد فيها ورميها وراء الظهر، والناس بالفرار منهم جملة، إلا مَن يدلّ على الله، تقاتلوهم، أو يُسلمون، بأن ينقادوا لكم، ويصيروا طوع أيديكم، فإن تُطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً، وهو لذة الشهوة، ورؤية الملك الودود، عاجلاً وآجلاً، وإن تتولوا كما توليتم في زمان البطالة، وبقيتم مع هوى نفوسكم، يُعذِّبكم عذاباً أليماً، بغم الحجاب وسوء العقاب.
قال القشيري : قوله تعالى ﴿ فإن تُطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً ﴾ دلت الآية على أنه يجوز أن تكون للعبد بداية غير مُرْضية، ثم تتغير للصلاح، وأنشدوا :
إذا فَسَدَ الإنسانُ بعد صلاحه فَرَجِّ له بعد الفساد صلاحا
قلت : وجه الاستدلال : أن طاعتهم كانت بعد التخلُّف والعصيان، فقُبلت منهم.

﴿ قل للمخلَّفين من الأعراب ﴾ وهم الذين تخلّفوا عن الحديبية :﴿ ستُدْعَوْن إِلى قومٍ أُولي بأسٍ شديدٍ ﴾ يعني : بني حنيفة، قوم مسيلمة الكذاب، وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر رضي الله عنه، لأن المشركين وأهل الردة هم الذين لا يُقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. واستُدل بالآية على حقيّة خلافة أبي بكر، وأخذها من القرآن بقوله :﴿ سَتُدعون ﴾ فكان الداعي لهؤلاء الأعراب إلى قتال بني حنيفة، وكانوا أولي بأس شديد، هو أبو بكر، بلا خلاف، قاتلوهم ليُسلموا لا ليُعطوا الجزية بأمر الصدّيق، وقيل : هم فارس، والداعي لقتالهم " عمر "، فدلّت على صحة إمامته، وهو يدل على صحة إمامة أبي بكر. ﴿ تُقاتلونهم أو يُسلمون ﴾ أي : يكون أحد الأمرين، إما المقاتلة أو الإسلام، ومعنى " يُسلمون " على هذا التأويل : ينقادون ؛ لأن فارس مجوس، تُقبل منهم الجزية، ﴿ فإِن تُطيعوا ﴾ مَن دعاكم إلى قتالهم ﴿ يُؤتكم اللّهُ أجراً حسناً ﴾ هو الغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة، ﴿ وإِن تتولوا ﴾ عن الدعوة، كما توليتم من قبل في الحديبية، ﴿ يُعذبكم عذاباً أليماً ﴾ لتضاعف جُرمكم. وقد تضمنت الآية إيجاب طاعة الأمراء بالوعد بالثواب عليها، والوعيد بالعقاب على التولي، وقد تقدّم في النساء١.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : سيقول المخلِّفون عن السير بترك مجاهدة النفوس، التي بها يتحقق سير السائرين : ذرونا نتبعكم في السير إلى الله من غير مجاهدة ولا تجريد، يريدون أن يُبدلوا كلامَ الله، وهو قوله :﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [ العنكبوت : ٦٩ ]، فخصّ الهداية إلى الوصول بالمجاهدة، لا بالبقاء مع حظوظ النفوس، قل : لن تتبعونا في السير، ولو فعلتم ما فعلتم بلا مجاهدة، كذلك حكم الحكيم العليم، فإن قالوا : حسدتمونا، حيث لم تسيرونا على ما نحن عليه، فقد دلّ ذلك على جهلهم، وعدم فهمهم، قل للمخلفين على السير، بالبقاء مع حظوظهم : ستُدعون إلى مجاهدة قوم أُولي بأس شديد، وهو النفس، بتحميلها ما يثقل عليها، كالذل، والفقر، والهوى بمخالفته، والدنيا بالزهد فيها ورميها وراء الظهر، والناس بالفرار منهم جملة، إلا مَن يدلّ على الله، تقاتلوهم، أو يُسلمون، بأن ينقادوا لكم، ويصيروا طوع أيديكم، فإن تُطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً، وهو لذة الشهوة، ورؤية الملك الودود، عاجلاً وآجلاً، وإن تتولوا كما توليتم في زمان البطالة، وبقيتم مع هوى نفوسكم، يُعذِّبكم عذاباً أليماً، بغم الحجاب وسوء العقاب.
قال القشيري : قوله تعالى ﴿ فإن تُطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً ﴾ دلت الآية على أنه يجوز أن تكون للعبد بداية غير مُرْضية، ثم تتغير للصلاح، وأنشدوا :
إذا فَسَدَ الإنسانُ بعد صلاحه فَرَجِّ له بعد الفساد صلاحا
قلت : وجه الاستدلال : أن طاعتهم كانت بعد التخلُّف والعصيان، فقُبلت منهم.


١ انظر تفسير الآية ٥٩ من سورة النساء..
ثم استثنى أهل الأعذار الصحيحة، فقال :
﴿ لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ليس على الأعمى حرجٌ ﴾ في التخلُّف عن الغزو ﴿ ولا على الأعرج حرجٌ ولا على المريض ﴾ الذي لا يقدر على الحرب ﴿ حرج ﴾ لأن الجهاد منوط بالاستطاعة ونفي الحرج، وهؤلاء أعذارهم ظاهرة صحيحة، فلا حرج عليهم في التخلُّف. وفي التصريح بنفي الحرج مع كل طائفة مزيد اعتناء بأمرهم، وتوسيع لدائرة الرخصة. ﴿ ومَن يُطع الله ورسوله ﴾ فيما ذكر من الأوامر والنواهي، ﴿ يُدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومَن يتولّ ﴾ يُعرض عن الطاعة ﴿ يُعذبه عذاباً أليماً ﴾ لا يقادر قدره. وقرأ نافع والشامي بنون العظمة، والباقي بيان الغيبة.
الإشارة : أصحاب هذه الأعذار إن صحبوا الرجال، وحطُّوا رؤوسهم لهم، وبذلوا نفوسهم وفلوسهم، سقط عنهم السفر إلى صحبة أشياخهم، ووصفت الواردات والأمداد إليهم في أمكانهم، ونالوا مراتب الرجال، حيث حبسهم العذر من العمى والعرج والمرض المزمن، والله يزرق العبدَ على قدر نيته وهمته.
ثم ذكر شأن بيعة الرضوان، فقال :
﴿ لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ﴾*﴿ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾*﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾*﴿ وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ لقد رَضِي اللّهُ عن المؤمنين ﴾ وهم الذين ذكر شأن مبايعتهم بقوله :﴿ إن الذين يبايعونك. . . ﴾ الآية، وبهذه الآية سميت بيعة الرضوان و " إذ " منصوب ب " رَضِيَ "، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة العجيبة، و﴿ تحت الشجرة ﴾ : متعلق به، أو : بمحذوف، حال من مفعوله، أي : رَضِيَ عنهم وقت مبايعتهم لك ﴿ تحت الشجرة ﴾ أو : حاصلاً تحتها.
رُوي : أنه صلى الله عليه وسلم لمّا نزل الحديبية، بعث خِراش بن أمية الخزاعي، رسولاً إلى أهل مكة، فَهَمُّوا به، وأنزلوا عن بعيره، فمنعته الأحابيش، فلما رجع دعا بعُمر ليبعثه، فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عدي أحدٌ يمنعني، ولكن عثمان أعزّ بمكة مني، فبعث عثمان إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه صلى الله عليه وسلم جاء زائراً إلى البيت، مُعظِّماً لحُرمته، ولم يُرد حرباً، فوقروه، وقالوا : إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل، فقال : ما كنت لأطوف قبلَ أن يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتبس عندهم، فأُرجِفَ بأنهم قتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم :" لا نبرح حتى نناجز القوم " ودعا الناسَ إلى البيعة، فبايعوه تحت الشجرة – وكانت سمرة وقيل : سِدرة – على أن يُقاتلوا قريشاً، ولا يفرُّوا١، وأول مَن بايع " أبو سنان الأسدي "، واسمه : وهب بن عبد الله بن محصن، ابن أخي عكاشة بن مِحصن. وقيل : بايعوه على الموت عنده٢، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنتم اليوم خير أهل الأرض " ٣ وقال أيضاً :" لا يدخل النارَ أحد ممن بايع تحت الشجرة " ٤ وكانوا ألفاً وخمسمائة وخمسةً وعشرين، وقيل : ألفاً وأربعمائة. والحديبية بتخفيف الياء، قاله في المصباح، وهي على عشرة أميال من مكة.
﴿ فعَلِمَ ما في قلوبهم ﴾ من الإخلاص، وصدق الضمائر فيما بايعوا عليه. وقال القشيري : عِلِمَ ما في قلوبهم من الاضطراب والتشكيك، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين، فبشّر أصحابه، فلما صُدُّوا خامر قلوبَهم شكٌّ، ﴿ فأنزل ﴾ اللّهُ ﴿ السكينةَ عليهم ﴾ أي : اليقين والطمأنينة، فذهب عنهم. ثم قال : وفي الآية دليلٌ على أنه قد يخطر ببال الإنسان خواطر مشكِّكة، وفي الرَّيب مُوقعة، ثم لا عبرة، فإن الله تعالى إذا أراد بعبده خيراً ألزم التوحيد قلبَه، وقارن التحقيق سِرَّه، فلا يضرُّه كيدُ الشيطان. قال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ. . . ﴾ [ الأعراف : ٢٠١ ] الآية.
﴿ فأنزل السكينة عليهم ﴾ أي : الطمأنينة والأمن، وسكون النفس، بالربط على قلوبهم، ﴿ وأثابهم ﴾ أي : جازاهم ﴿ فتحاً قريباً ﴾ وهو فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية كما تقدّم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : مشايخ التربية خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم فحين بايعهم على عقد الإرادة فكأنما بايع الرسول، فيقال على طريق الإشارة : لقد رضي الله عن المؤمنين المتوجهين، إذ يبايعونك أيها العارف تحت الشجرة، تحت ظل شجرة همتك، فعَلِمَ ما في قلوبهم من الصدق، فأنزل السكينة عليهم، حتى سكنوا تحت مشاق التربية والرياضة، وأثابهم فتحاً قريباً، وهو الوصول إلى حضرة العيان، ومغانم كثيرة ؛ فتوحات ومكاشفات، وأسرار، وترقيات كثيرة، إلى ما لا نهاية له، يأخذونها. ووعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها بعد الفتح، من الرجوع إلى البقاء وبقاء البقاء، والتوسُّع في المقامات، والترقِّي في معارج المكاشفات، فعَجَّل لكم هذه، هو مقام الفناء، وكفَّ أيدي القواطع عنكم، لتتوجهوا إلى مولاكم، لتكون عبرة للمؤمنين المتخلفين عن السير، يهتدون بهديكم، ويهديكم صراطاً مستقيماً : طريق الوصول إلى حضرة القدس، ومحل الأنس، وأخرى لم تقدروا عليها في الدنيا، ادخرها لكم يوم القيامة، وهو المُقام في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وقال الورتجبي :﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين ﴾ أي : رَضِيَ عنهم في الأزل، وسابق علم القدم، ويبقى رضاه إلى الأبد ؛ لأن رضاه صفة الأزلية الباقية الأبدية، لا تتغير بتغيُّر الحدثان، ولا بالوقت والزمان، ولا بالطاعة والعصيان، فإذا هم في اصطفائيته باقون إلى الأبد، لا يسقطون من درجاتهم بالزلات ولا بالبشرية، ولا بالشهوات، لأن أهل الرضا محروسون برعايته، لا تجري عليهم نعوت أهل البُعد، وصاروا متصفين بوصف رضاه، فرضوا عنه كما رضي عنهم، قال تعالى :﴿ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ [ المائدة : ١١٩ ] وهذا بعد قذف نور الأنس في قلوبهم بقوله :﴿ فأنزل السكينة عليهم ﴾ فسكنت قلوبهم إليه، واطمأنت به ؛ لِتنزُّل اليقين. هـ.
قلت : هذا لمَن تحققت محبوبيته ممن رسخت قدمه في شهود الحق، واطمأن به، وأما قبل هذا فالأمر مُبهم.
قال اللجائي، في كتابه " قطب العارفين " : وإياك أن تعتقد أنّ في الناس شرّاً منك، وإن كان عاصياً وأنت مطيع، فإنّ الأمر يحدث بعد الأمر، وسِرُّ الله تعالى في خلقه غامض، لا يُدرى مَن يبوء بالشقاوة، ولا مَن يفوز بالسعادة، وقد يتلقى العبدُ رضا الله تعالى بحسنة واحدة، ويتلقى سخطه بذنب واحد، فإنَّ أمر الله خفي في غموض المشيئة... الخ.


١ أخرجه البخاري في الجهاد حديث ٢٩٥٨، ومسلم في الإمارة حديث ٦٧، ٦٨، ٦٩، ٧٧٠..
٢ أخرجه البخاري في المغازي حديث ٤١٦٩، ومسلم في الإمارة حديث ٨١..
٣ أخرجه البخاري في المغازي حديث ٤١٥٤، ومسلم في الإمارة حديث ٧١..
٤ أخرجه أبو داود في السنة حديث ٤٦٥٣، والترمذي في المناقب حديث ٣٨٦٠، وأحمد ٣/٣٥٠..
﴿ ومغانمَ كثيرةً يأخذونها ﴾ وهي مغانم خيبر، وكانت أرضاً ذات عقار وأموال، فقسمها بينهم، ﴿ وكان الله عزيزاً ﴾ منيعاً فلا يغالب، ﴿ حكيماً ﴾ فيما يحكم به فلا يعارَض.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : مشايخ التربية خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم فحين بايعهم على عقد الإرادة فكأنما بايع الرسول، فيقال على طريق الإشارة : لقد رضي الله عن المؤمنين المتوجهين، إذ يبايعونك أيها العارف تحت الشجرة، تحت ظل شجرة همتك، فعَلِمَ ما في قلوبهم من الصدق، فأنزل السكينة عليهم، حتى سكنوا تحت مشاق التربية والرياضة، وأثابهم فتحاً قريباً، وهو الوصول إلى حضرة العيان، ومغانم كثيرة ؛ فتوحات ومكاشفات، وأسرار، وترقيات كثيرة، إلى ما لا نهاية له، يأخذونها. ووعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها بعد الفتح، من الرجوع إلى البقاء وبقاء البقاء، والتوسُّع في المقامات، والترقِّي في معارج المكاشفات، فعَجَّل لكم هذه، هو مقام الفناء، وكفَّ أيدي القواطع عنكم، لتتوجهوا إلى مولاكم، لتكون عبرة للمؤمنين المتخلفين عن السير، يهتدون بهديكم، ويهديكم صراطاً مستقيماً : طريق الوصول إلى حضرة القدس، ومحل الأنس، وأخرى لم تقدروا عليها في الدنيا، ادخرها لكم يوم القيامة، وهو المُقام في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وقال الورتجبي :﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين ﴾ أي : رَضِيَ عنهم في الأزل، وسابق علم القدم، ويبقى رضاه إلى الأبد ؛ لأن رضاه صفة الأزلية الباقية الأبدية، لا تتغير بتغيُّر الحدثان، ولا بالوقت والزمان، ولا بالطاعة والعصيان، فإذا هم في اصطفائيته باقون إلى الأبد، لا يسقطون من درجاتهم بالزلات ولا بالبشرية، ولا بالشهوات، لأن أهل الرضا محروسون برعايته، لا تجري عليهم نعوت أهل البُعد، وصاروا متصفين بوصف رضاه، فرضوا عنه كما رضي عنهم، قال تعالى :﴿ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ [ المائدة : ١١٩ ] وهذا بعد قذف نور الأنس في قلوبهم بقوله :﴿ فأنزل السكينة عليهم ﴾ فسكنت قلوبهم إليه، واطمأنت به ؛ لِتنزُّل اليقين. هـ.
قلت : هذا لمَن تحققت محبوبيته ممن رسخت قدمه في شهود الحق، واطمأن به، وأما قبل هذا فالأمر مُبهم.
قال اللجائي، في كتابه " قطب العارفين " : وإياك أن تعتقد أنّ في الناس شرّاً منك، وإن كان عاصياً وأنت مطيع، فإنّ الأمر يحدث بعد الأمر، وسِرُّ الله تعالى في خلقه غامض، لا يُدرى مَن يبوء بالشقاوة، ولا مَن يفوز بالسعادة، وقد يتلقى العبدُ رضا الله تعالى بحسنة واحدة، ويتلقى سخطه بذنب واحد، فإنَّ أمر الله خفي في غموض المشيئة... الخ.

﴿ وعَدَكُمْ اللّهُ مغانِمَ كثيرةً تأخذونها ﴾ هو ما فتح على المؤمنين، وغنموه مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعده إلى يوم القيامة. والالتفات إلى الخطاب لتشريفهم في مقام الامتنان. ﴿ فعجَّلَ لكم هذه ﴾ المغانم، يعني مغانم خيبر، ﴿ وكفَّ أيديَ الناس عنكم ﴾ أي : أيدي أهل خيبر وحُلفاءهم من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب فانصرفوا، وقيل : أيدي أهل مكة بالصلح، ﴿ ولِتكون ﴾ هذه الكفَّة ﴿ آيةً للمؤمنين ﴾ وعبرةً يعرفون أنهم من الله بمكان، وأنه ضامن لنصرتهم والفتح عليهم، أو : لتكون آية يعرفون بها صدقَ الرسول صلى الله عليه وسلم من وعده إياهم عند رجوعه من الحديبية بما ذكر من المغانم، ودخول مكة، ودخول المسجد الحرام آمنين. واللام إما متعلقة بمحذوف مؤخر، أي : وليكون آية لهم فعل ما فعل من التعجيل والكف، وإما يتعلق بعلة أخرى محذوفة من أحد الفعلين، أي : فعجَّل لكم هذه وكفَّ أيدي الناس عنكم لتغنموها ولتكون. . . الخ، ﴿ ويهديكم صراطاً مستقيماً ﴾ أي : يزيدكم بصيرةً ويقيناً وثقةً بوعد الله حتى تثقوا في أموركم كلها بوعد الله تعالى.
قال الثعلبي، ولمّا فتح النبيُّ صلى الله عليه وسلم حصونَ خيبر سمع أهل فدك ما صنع عليه السلام بأهل خيبر، فأرسلوا له يسألونه أن يُسيرَهم ويحقن دماءهم، ويخلُّوا له الأموال، ففعل، ثم صالح أهلَ خيبر، على أن يعملوا في أموالهم على النصف، على أنه إن شاء أجلاهم متى شاء، ففعلوا، فكانت خيبر فيئاً للمسلمين، وكانت فدك خالصة له صلى الله عليه وسلم، إذ لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، ولما اطمأن صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر أهدت له زينب الحارث اليهودية شاة مصليَّة مسمومة، أكثرت في ذراعها السم، فأخذ صلى الله عليه وسلم الذراع، فأكل منه، ثم كلّمه، فأمسك، وأكل معه بشر بن البراء بن معرور، فمات من ساعته، وسَلِمَ صلى الله عليه وسلم حتى قام عليه بعد سنتين، فمات به، فجُمع له بين الشهادة والنبوة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : مشايخ التربية خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم فحين بايعهم على عقد الإرادة فكأنما بايع الرسول، فيقال على طريق الإشارة : لقد رضي الله عن المؤمنين المتوجهين، إذ يبايعونك أيها العارف تحت الشجرة، تحت ظل شجرة همتك، فعَلِمَ ما في قلوبهم من الصدق، فأنزل السكينة عليهم، حتى سكنوا تحت مشاق التربية والرياضة، وأثابهم فتحاً قريباً، وهو الوصول إلى حضرة العيان، ومغانم كثيرة ؛ فتوحات ومكاشفات، وأسرار، وترقيات كثيرة، إلى ما لا نهاية له، يأخذونها. ووعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها بعد الفتح، من الرجوع إلى البقاء وبقاء البقاء، والتوسُّع في المقامات، والترقِّي في معارج المكاشفات، فعَجَّل لكم هذه، هو مقام الفناء، وكفَّ أيدي القواطع عنكم، لتتوجهوا إلى مولاكم، لتكون عبرة للمؤمنين المتخلفين عن السير، يهتدون بهديكم، ويهديكم صراطاً مستقيماً : طريق الوصول إلى حضرة القدس، ومحل الأنس، وأخرى لم تقدروا عليها في الدنيا، ادخرها لكم يوم القيامة، وهو المُقام في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وقال الورتجبي :﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين ﴾ أي : رَضِيَ عنهم في الأزل، وسابق علم القدم، ويبقى رضاه إلى الأبد ؛ لأن رضاه صفة الأزلية الباقية الأبدية، لا تتغير بتغيُّر الحدثان، ولا بالوقت والزمان، ولا بالطاعة والعصيان، فإذا هم في اصطفائيته باقون إلى الأبد، لا يسقطون من درجاتهم بالزلات ولا بالبشرية، ولا بالشهوات، لأن أهل الرضا محروسون برعايته، لا تجري عليهم نعوت أهل البُعد، وصاروا متصفين بوصف رضاه، فرضوا عنه كما رضي عنهم، قال تعالى :﴿ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ [ المائدة : ١١٩ ] وهذا بعد قذف نور الأنس في قلوبهم بقوله :﴿ فأنزل السكينة عليهم ﴾ فسكنت قلوبهم إليه، واطمأنت به ؛ لِتنزُّل اليقين. هـ.
قلت : هذا لمَن تحققت محبوبيته ممن رسخت قدمه في شهود الحق، واطمأن به، وأما قبل هذا فالأمر مُبهم.
قال اللجائي، في كتابه " قطب العارفين " : وإياك أن تعتقد أنّ في الناس شرّاً منك، وإن كان عاصياً وأنت مطيع، فإنّ الأمر يحدث بعد الأمر، وسِرُّ الله تعالى في خلقه غامض، لا يُدرى مَن يبوء بالشقاوة، ولا مَن يفوز بالسعادة، وقد يتلقى العبدُ رضا الله تعالى بحسنة واحدة، ويتلقى سخطه بذنب واحد، فإنَّ أمر الله خفي في غموض المشيئة... الخ.

ثم قال تعالى :﴿ وأُخرى لم تَقْدِروا عليها ﴾ أي : وعجّل لكم مغانم أخرى، وهي مغانم هوازن في غزوة حنين. ووصفها بعدم القدرة عليها لما كان فيها من الجَوْلة. ﴿ قد أحاط اللّهُ بها ﴾ قَدَرَ عليها واستولى، وأظهركم عليها، وهي صفة أخرى ل " أخرى " مفيدة لسهولة بأسها بالنسبة إلى قدرته تعالى، بعد بيان صعوبة مَنَالها بالنظر إلى حِذرهم. ويجوز في " أُخرى " النصب بفعل مضمر، يُفسره ﴿ قد أحاط الله بها ﴾ أي : وقضى الله أخرى، ولا ريب في أن الإخبار بقضاء إياها بعد اندراجها في جملة الغنائم الموعودة بقوله :﴿ وعدكم الله مغانم كثيرة ﴾ فيه مزيد فائدة، وإنما الفائدة في بيان تعجيلها وتأخير هذه.
وقال ابن عباس والحسن ومقاتل :﴿ وأخرى لم تقدروا عليها ﴾ هي فارس والروم. وقال مجاهد : ما فتحوا حتى اليوم. ه. قلت : بل إلى يوم القيامة وهذا أظهر الأقوال أي : لم تقدروا على أخذها الآن وستأخذونها، ﴿ وكان الله على كل شيء قديراً ﴾ لأن قدرته تعالى عامة التعلُّق، لا تختص بشيء دون شيء.
قال ابن عرفة : مذهبنا أن المستحيل لا يصدق عليه شيء، فيبقى النظر : هل يطلق على الواجب شيء، لقوله تعالى :﴿ قُلْ أَيُّ شيء أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ] أم لا يطلق عليه شيء ؟ فإن قلنا : يصلح الإطلاق وجب التخصيص في الآية، فيكون عامّاً مخصوصاً، وإن قلنا بعدم صحته، فيبقى النظر : هل المراد بالقدرة الإحداث أو الصلاحية، فإن أريد الإحداث فهي مخصوصة، وإن أريد الصلاحية فهو عام غير مخصوص. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : مشايخ التربية خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم فحين بايعهم على عقد الإرادة فكأنما بايع الرسول، فيقال على طريق الإشارة : لقد رضي الله عن المؤمنين المتوجهين، إذ يبايعونك أيها العارف تحت الشجرة، تحت ظل شجرة همتك، فعَلِمَ ما في قلوبهم من الصدق، فأنزل السكينة عليهم، حتى سكنوا تحت مشاق التربية والرياضة، وأثابهم فتحاً قريباً، وهو الوصول إلى حضرة العيان، ومغانم كثيرة ؛ فتوحات ومكاشفات، وأسرار، وترقيات كثيرة، إلى ما لا نهاية له، يأخذونها. ووعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها بعد الفتح، من الرجوع إلى البقاء وبقاء البقاء، والتوسُّع في المقامات، والترقِّي في معارج المكاشفات، فعَجَّل لكم هذه، هو مقام الفناء، وكفَّ أيدي القواطع عنكم، لتتوجهوا إلى مولاكم، لتكون عبرة للمؤمنين المتخلفين عن السير، يهتدون بهديكم، ويهديكم صراطاً مستقيماً : طريق الوصول إلى حضرة القدس، ومحل الأنس، وأخرى لم تقدروا عليها في الدنيا، ادخرها لكم يوم القيامة، وهو المُقام في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وقال الورتجبي :﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين ﴾ أي : رَضِيَ عنهم في الأزل، وسابق علم القدم، ويبقى رضاه إلى الأبد ؛ لأن رضاه صفة الأزلية الباقية الأبدية، لا تتغير بتغيُّر الحدثان، ولا بالوقت والزمان، ولا بالطاعة والعصيان، فإذا هم في اصطفائيته باقون إلى الأبد، لا يسقطون من درجاتهم بالزلات ولا بالبشرية، ولا بالشهوات، لأن أهل الرضا محروسون برعايته، لا تجري عليهم نعوت أهل البُعد، وصاروا متصفين بوصف رضاه، فرضوا عنه كما رضي عنهم، قال تعالى :﴿ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ [ المائدة : ١١٩ ] وهذا بعد قذف نور الأنس في قلوبهم بقوله :﴿ فأنزل السكينة عليهم ﴾ فسكنت قلوبهم إليه، واطمأنت به ؛ لِتنزُّل اليقين. هـ.
قلت : هذا لمَن تحققت محبوبيته ممن رسخت قدمه في شهود الحق، واطمأن به، وأما قبل هذا فالأمر مُبهم.
قال اللجائي، في كتابه " قطب العارفين " : وإياك أن تعتقد أنّ في الناس شرّاً منك، وإن كان عاصياً وأنت مطيع، فإنّ الأمر يحدث بعد الأمر، وسِرُّ الله تعالى في خلقه غامض، لا يُدرى مَن يبوء بالشقاوة، ولا مَن يفوز بالسعادة، وقد يتلقى العبدُ رضا الله تعالى بحسنة واحدة، ويتلقى سخطه بذنب واحد، فإنَّ أمر الله خفي في غموض المشيئة... الخ.

ثم بشرهم بالنصر، فقال :
﴿ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾*﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴾*﴿ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ﴾*﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ. . . ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ولو قاتلكم الذين كفروا ﴾ من أهل مكة ولم يُصالحوا، أو من خلفاء خيبر، الذين جاؤوا لنصرهم ﴿ لَوَلَّوا الأدبارَ ﴾ منهزمين ﴿ ثم لا يجدون وليّاً ﴾ يلي أمرهم، ﴿ ولا نصيراً ﴾ ينصرهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يُقال لمَن سبقت لهم العناية، وحَفّت بهم الرعاية : لو قاتلكم الذين كفروا من النفس الأمّارة، والشيطان، والهوى، وسائر القواطع، لَوَلُّوا الأدبار، ثم لا يجدون تسلُّطاً عليكم أبداً، سُنَّة الله التي قد خلت فيمن توجه إليه بصدق الطلب، ودخل تحت تربية الرجال، فإن همتهم دائرة عليه، ولن تجد لسنَّة الله تبديلاً. وهو الذي كفّ أيدي الأعداء من القواطع عنكم، وكَفّ أيديكم عنهم، من بعد أن أظفركم عليهم، فإنّ النفس إذا تعذّبت واطمأنت وجب الكفُّ عن مجاهدتها، ووجب البرور بها، وتصديقها فيما تحدثه، وكذا سائر القواطع تجب الغيبة عنها، وعدم الالتفات إليها غيبةً في الله واشتغالاً بشهوده. وقيل لبعضهم : متى ينتهي سير الطالبين ؟ قال :" الظفر بنفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا ". وأيضاً : لا تجتمع المجاهدة مع المشاهدة، فإذا تحققت المشاهدة فلا مجاهدة. هم الذين كفروا من النفوس المتمردة، والهوى، وصدُّوكم عن مسجد الحضرة، والهديَ معكوفاً، وحبسوكم عن التقرُّب إلى الله بالنفس والمال أن يبلغ محله، بأن تمنعكم من إعطائه، أو تُشِيبُه بما يُفسده من الرياء والعجب، لئلا تبلغ محل الإخلاص.
﴿ سُنَّةَ الله التي قد خَلَتْ من قبل ﴾ مصدر مؤكد، أي : سنَّ الله غلبة أنبيائه سنة ماضية، وهو قوله :﴿ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ﴾ [ المجادلة : ٢١ ] ﴿ ولن تجد لسنة الله تبديلاً ﴾ تغيُّراً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يُقال لمَن سبقت لهم العناية، وحَفّت بهم الرعاية : لو قاتلكم الذين كفروا من النفس الأمّارة، والشيطان، والهوى، وسائر القواطع، لَوَلُّوا الأدبار، ثم لا يجدون تسلُّطاً عليكم أبداً، سُنَّة الله التي قد خلت فيمن توجه إليه بصدق الطلب، ودخل تحت تربية الرجال، فإن همتهم دائرة عليه، ولن تجد لسنَّة الله تبديلاً. وهو الذي كفّ أيدي الأعداء من القواطع عنكم، وكَفّ أيديكم عنهم، من بعد أن أظفركم عليهم، فإنّ النفس إذا تعذّبت واطمأنت وجب الكفُّ عن مجاهدتها، ووجب البرور بها، وتصديقها فيما تحدثه، وكذا سائر القواطع تجب الغيبة عنها، وعدم الالتفات إليها غيبةً في الله واشتغالاً بشهوده. وقيل لبعضهم : متى ينتهي سير الطالبين ؟ قال :" الظفر بنفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا ". وأيضاً : لا تجتمع المجاهدة مع المشاهدة، فإذا تحققت المشاهدة فلا مجاهدة. هم الذين كفروا من النفوس المتمردة، والهوى، وصدُّوكم عن مسجد الحضرة، والهديَ معكوفاً، وحبسوكم عن التقرُّب إلى الله بالنفس والمال أن يبلغ محله، بأن تمنعكم من إعطائه، أو تُشِيبُه بما يُفسده من الرياء والعجب، لئلا تبلغ محل الإخلاص.
﴿ وهو الذي كفَّ أيديَهم عنكم ﴾ أي : أيدي كفار أهل مكة ﴿ وأَيْدِيَكم عنهم ﴾ عن أهل مكة ﴿ ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم ﴾ أي : أقدركم وسلَّطكم عليهم، يعني : قضى بينهم وبينكم المكافَّة والمحاجزة بعدما خوّلكم الظفر عليهم والغلبة، وذلك أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية، يطلب غرة بالمسلمين، فبعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالدَ بن الوليد على جند، فهزمهم، حتى أدخلهم حيطان مكة، ثم عاد ثانياً فهزمه، ثم عاد فهزمه، هكذا نقله الثعلبي وغيره. فانظره مع ما في الاكتفاء للكلاعي : أن خالداً كان مع المشركين في الحديبية، وإنما أسلم بعد الحديبية قبل الفتح، وكان في السنة الثامنة، والحديبية في السادسة، والذي ذكر النسفي أنه عليه السلام بعث مَن هزمهم، ولم يسمه، وهزمُ خالد لبعض قريش إنما كان في الفتح، لا في الحديبية، فلعل الراوي غلط. وقال أنس : إن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر، عام الحديبية، ليقاتلوا المسلمين، فأخذهم النبي صلى الله عليه وسلم سِلْماً، فأعتقهم، فنزلت الآية١.
ووجه المنّة في كفّ أيدي المؤمنين عن الكافرين : ما ذكر بعد من قوله :﴿ ولولا رجال مؤمنون ﴾. . . الآية، أو : ما تطرق بسببه من الصلح وانقيادهم إليه، فإنهم لما رأوا أصحابهم انهزموا أذعنوا للصلح، وقال القشيري : بعد أن اضطرهم المسلمون إلى بيوتهم، أنزل الله هذه الآية يمنُّ عليهم، حيث كفّ أيديَ بعضهم عن بعض، عن قدرة من المسلمين، لا عن عجز، فأما الكفار فكفُّوا أيديهم رُعباً وخوفاً، وأما المسلمون فنهياً من قِبل الله، لما في أصلابهم من المؤمنين. ه. ﴿ وكان الله بما تعملون ﴾ من مقاتلتهم وهزمهم أولاً، والكفّ عنهم ثانياً، لتعظيم بيته الحرام، وقرأ البصري بياء الغيب، أي : بما يعمل المشركون ﴿ بصيراً ﴾ فيجازي كُلاًّ بما يستحقه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يُقال لمَن سبقت لهم العناية، وحَفّت بهم الرعاية : لو قاتلكم الذين كفروا من النفس الأمّارة، والشيطان، والهوى، وسائر القواطع، لَوَلُّوا الأدبار، ثم لا يجدون تسلُّطاً عليكم أبداً، سُنَّة الله التي قد خلت فيمن توجه إليه بصدق الطلب، ودخل تحت تربية الرجال، فإن همتهم دائرة عليه، ولن تجد لسنَّة الله تبديلاً. وهو الذي كفّ أيدي الأعداء من القواطع عنكم، وكَفّ أيديكم عنهم، من بعد أن أظفركم عليهم، فإنّ النفس إذا تعذّبت واطمأنت وجب الكفُّ عن مجاهدتها، ووجب البرور بها، وتصديقها فيما تحدثه، وكذا سائر القواطع تجب الغيبة عنها، وعدم الالتفات إليها غيبةً في الله واشتغالاً بشهوده. وقيل لبعضهم : متى ينتهي سير الطالبين ؟ قال :" الظفر بنفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا ". وأيضاً : لا تجتمع المجاهدة مع المشاهدة، فإذا تحققت المشاهدة فلا مجاهدة. هم الذين كفروا من النفوس المتمردة، والهوى، وصدُّوكم عن مسجد الحضرة، والهديَ معكوفاً، وحبسوكم عن التقرُّب إلى الله بالنفس والمال أن يبلغ محله، بأن تمنعكم من إعطائه، أو تُشِيبُه بما يُفسده من الرياء والعجب، لئلا تبلغ محل الإخلاص.

١ أخرجه مسلم في الجهاد حديث ١٣٣..
ثم ذكر حكمة منعهم من دخول مكة عام الحديبية، فقال :
﴿. . . وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾.
قلت :﴿ أن تطؤوهم ﴾ : بدل اشتمال من رجال ونساء، ومن ضمير " تعلموهم " وبغير متعلق بتطؤوهم، وجواب " لولا " محذوف، أغنى عنه جواب " لو " أي : لما كفّ أيديكم عنهم.
﴿ هم الذين كفروا وصدُّوكم عن المسجد الحرام ﴾ ﴿ و ﴾ صدُّوا ﴿ الهدْيَ ﴾ حال كونه ﴿ معكوفاً ﴾ أي : محبوساً عن ﴿ أن يبلغ مَحِلَّهُ ﴾ أي : مكانه الذي يحلّ به نحره، وهو منىً وكان صلى الله عليه وسلم ساق سبعين بدنة، فلما صُدّ، نَحَرَها بموضعه، وبه استدل مَن قال : إنّ المحصَر ينحر هداياه بموضعه، وروي أن خيامه صلى الله عليه وسلم كانت في الحل، ومصلاّه في الحرم، وهناك نحرت هداياه صلى الله عليه وسلم. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ولولا رجالٌ مؤمنون ونساء مؤمناتٌ ﴾ بمكة، ضَعُفوا عن الهجرة ﴿ لم تعلموهم ﴾ لم تعرفوهم بأعيانهم لاختلاطهم مع المشركين، ﴿ أن تطأوهم بغير علمٍ ﴾ أي : غير عالِمين بهم ﴿ فتُصيبَكم منهم معرَّة ﴾ أي : مشقة ومكروه. وفي تفسير المحلي " المعرة " بالإثم نظر، مع فرض عدم العلم، إلا أن يُحمل على صورة الإثم، وهو الخطأ، وفيه الكفارة. والمعرة : مفعلة من : عراهُ : إذا دهاه ما يكرهه وشقّ عليه، وهو هنا الكفارة إذا قتله خطأ، وسوء مقالة المشركين أنهم فعلو بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز، والإثم إذا قصد قتله. والوطء عبارة عن الإيقاع والإبادة. والحاصل أنه كان بمكة قوم مسلمون مختلطون بالمشركين، غير متميّزين منهم، فقيل : ولولا كراهة أن تُهلكوا ناساً من المؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم، فتُصيبكم بإهلاكهم مشقة ومكروه، ولما كففنا أيديكم عنهم، ولسلطانكم عليهم.
وكان ذلك الكفّ ﴿ ليُدخل اللّهُ في رحمته ﴾ أي : في توفيقه لزيادة الخير والطاعة لمؤمنيهم، أو : ليدخلهم في الإسلام مَن رغب فيه من مشركيهم ﴿ مَن يشاء ﴾ زيادته أو هدايته، فاللام متعلقة بمحذوف، تعليل لما دلت عليه الآية، وسيقت له، من كفّ الأيدي عن أهل مكة، والمنع من قتلهم، صوناً لما بين أظهرهم من المؤمنين. ﴿ لو تزيّلوا ﴾ أي : تفرّقوا وتميّز المسلمون من الكافرين، ﴿ لعذَّبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً ﴾ بقتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم. ويجوز أن يكون :" لو تزيّلوا " كالتكرير ل " لولا. . " ؛ لمرجعهما لمعنى واحد ويكون ﴿ لعذَّبنا. . . ﴾ الخ، هو جواب " لولا " والتقدير : ولولا أن تطؤوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمناتٍ من غير علم، ولو كانوا متميزين لعذبناهم بالسيف.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يُقال لمَن سبقت لهم العناية، وحَفّت بهم الرعاية : لو قاتلكم الذين كفروا من النفس الأمّارة، والشيطان، والهوى، وسائر القواطع، لَوَلُّوا الأدبار، ثم لا يجدون تسلُّطاً عليكم أبداً، سُنَّة الله التي قد خلت فيمن توجه إليه بصدق الطلب، ودخل تحت تربية الرجال، فإن همتهم دائرة عليه، ولن تجد لسنَّة الله تبديلاً. وهو الذي كفّ أيدي الأعداء من القواطع عنكم، وكَفّ أيديكم عنهم، من بعد أن أظفركم عليهم، فإنّ النفس إذا تعذّبت واطمأنت وجب الكفُّ عن مجاهدتها، ووجب البرور بها، وتصديقها فيما تحدثه، وكذا سائر القواطع تجب الغيبة عنها، وعدم الالتفات إليها غيبةً في الله واشتغالاً بشهوده. وقيل لبعضهم : متى ينتهي سير الطالبين ؟ قال :" الظفر بنفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا ". وأيضاً : لا تجتمع المجاهدة مع المشاهدة، فإذا تحققت المشاهدة فلا مجاهدة. هم الذين كفروا من النفوس المتمردة، والهوى، وصدُّوكم عن مسجد الحضرة، والهديَ معكوفاً، وحبسوكم عن التقرُّب إلى الله بالنفس والمال أن يبلغ محله، بأن تمنعكم من إعطائه، أو تُشِيبُه بما يُفسده من الرياء والعجب، لئلا تبلغ محل الإخلاص.

الإشارة : إذا اختلط أهل الانتقاد مع أهل الاعتقاد، لا يعم البلاء المعدّ لأهل الانتقاد، ولو تزيّلوا لعذبنا المنكرين عذاباً أليماً، وكذلك إذا اختلط الفجّار مع الأبرار، وغلب جمع الأبرار، لا يعم البلاء، ويُصرف عن الجميع، فلو تزيّل الفجّار لعُذبوا عذاباً أليماً.
قال القشيري : قد تكون في النفس أوصاف مستحسنة، تليق بالفيض الإلهي، مع أوصاف مذمومة، فلو سلطناكم على إهلاكها بالمرة، لفاتكم ما فيها من الأوصاف الحسنة، فتُصيبكم معرة، ليدخل الله في رحمته بالوصول إلى حضرته من يشاء من النفوس، بتصفية ما فيها من الرذائل. لو تزيّلوا تميز ما يصلح قلعه، كالكبر، والشر، والحرص والحقد، أو ما يصلح تبديله، كالبخل بالسخاء، والحرص بالقناعة، والغضب بالحلم، والجبن بالشجاعة، والشهوة بالعفة، لعذَّبنا النفوس المتمردة عذاباً أليماً، بإهلاكها بالكلية. بالمعنى.
ثم وصف أهل الكفر المتقدمين الآن بالحمية، فقال :
﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله : واذكر ﴿ إِذ جعلَ الذين كفروا ﴾ من قريش أي : ألقوا ﴿ في قلوبهمُ الحميِّة ﴾ أي : الأنفَة والتكبُّر، أو : صيّروا الحميةَ راسخة في قلوبهم ﴿ حميةَ الجاهليةِ ﴾ بدل، أي : حَميّة الملة الجاهلية، أو الحميّة الناشئة من الجاهلية، ووضع الموصول موضع ضميرهم، إذ تقدّم ذكرهم، لذمِّهم بما في حيز الصلة، وتعليل الحكم به. والجعل بمعنى الإلقاء، فلا يتعدّى إلى مفعولين، أو : بمعنى التصيير، فالمفعول الثاني محذوف، كما تقدّم. و " الذين " : فاعل، على كل حال. ﴿ فأنزل اللّهُ سكينتَه على رسوله وعلى المؤمنين ﴾ أي : أنزل في قلوبهم الطمأنينة والوقار، فلم يتضعضعوا من الشروط التي شرطت قريش.
رُوي : أن رسول الله لمَّا نزل الحديبية بعثت قريشٌ سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العُزَّى، ومِكْرَز بن حفص، على أن يعرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع من عامه ذلك، على أن تخلي له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام، ففعل ذلك، وكتب بينهم كتاباً، فقال صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه :" اكتب : بسم الله الرحمان الرحيم " فقال سهيل وأصحابه : ما نعرف هذا، ولكن اكتب : باسمك اللهم، ثم قال :" اكتب : هذا ما صالح عليه رسولُ الله أهلَ مكة " فقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك، ولكن اكتب : هذا ما صالح عليه محمدٌ بن عبد الله أهلَ مكة، فقال صلى الله عليه وسلم :" اكتب ما يريدون، فأنا أشهد أنّي رسول، وأنا محمد بن عبد الله " فهمّ المسلمون أن يأبَوا ذلك، ويبطشوا بهم، فأنزل الله السكينة عليهم، فتوقّروا وحلُموا١. وفي رواية البخاري : فكتب عليّ رضي الله عنه :" هذا ما قضى عليه محمد رسول الله " فلما أَبَوا ذلك، قال صلى الله عليه وسلم لعليّ :" امح رسول الله، واكتب : محمد بن عبد الله "، فقال : والله لا أمحوك أبداً، فأخذ صلى الله عليه وسلم الصحيفة وكتب ما أرادوا. قيل : كتب بيده معجزةً، وقيل : أَمَرَ من كتب، وهو الأصح.
﴿ وألزمهم كلمةَ التقوى ﴾ شهادة " لا إله إلا الله " ٢ وقيل : بسم الله الرحمان الرحيم، وقيل : محمد رسول الله، وقيل : الوفاء بالعهد، والثابت عليه. وإضافتها إلى التقوى ؛ لأنها سببها وأساسها، وقيل : كلمة أهل التقوى. ﴿ وكانوا أحقَّ بها ﴾ أي : متصفين بمزيد استحقاق بها، على أن صيغة التفضيل للزيادة مطلقاً، أو : أحق بها من غيرهم من سائر الأمم ﴿ و ﴾ كانوا أيضاً ﴿ أهلها ﴾ المتأهلون لها بتأهيل الله إياهم. قال القشيري : كلمة التقوى هي التوحيد عن قلبٍ صادق، وأن يكون مع الكلمة الاتقاءُ الشرْك، وكانوا أحق بها في سابق حكمه، وقديم علمه، وهذا إلزام إكرام ولطف، لا إلزام إكراهٍ وعنف، وإلزامُ بر، لا إلزام جبر. ه. ﴿ وكان الله بكل شيء عليماً ﴾ فيجري الأمور على مساقها، فيسوق كلاًّ إلى ما يستحقه.
الإشارة : لا يصل العبد إلى مولاه حتى تكون نفسه أرضية، وروحه سماوية، يدور مع الحق أينما دار، ويخضع للحق أينما ظهر، ولأهله أينما ظهروا، لم تبقَ فيه حَميّة ولا أَنفة، بل يكون كالأرض يطأها البار والفاجر، ولا تميز بينهما، وأما مَن فيه حمية الجاهلية، فهو من أهل الخذلان، وأما أهل العناية، فأشار إليهم بقوله :﴿ فأنزل الله سكينته على رسوله ﴾ فكان متواضعاً سهلاً ليناً، كما قال تعالى :﴿ وَإِنكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [ القلم : ٤ ] وعلى المؤمنين فأخبر عنهم بقوله :﴿ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [ الفتح : ٢٩ ] الآية، و " ألزمهم كلمة التقوى "، " لا إله إلا الله " لأنها تهذِّب الأخلاق، وتُخرج ما في القلب من الأمراض والنفاق ؛ لأن النفي : تنزيه وتخلية، والإثبات : نور وتحلية، فلا يزال النفي يخرج مِنَ القلب ما فيه هي الظلمة والمساوئ، حتى يتطهّر ويتصف بكمال المحاسن.
قال في نوادر الأصول، لمّا تكلم على ﴿ وألزمهم كلمة التقوى ﴾ : هو " لا إله إلا الله "، وجه تسميتها بذلك : أنه اتقى بها ونفى ما أحدث من الشرك، حميةً للتوحيد وعصبيةً وغيرةً، اقتضاها نورُ التوحيد والمحبة، فنفى القلبُ كلَّ رب ادعى العبادُ ربوبيته، وولِهت قلوبهم إليه، فابتدأ هذا القلب - الذي وصفنا - بالنفي لأرباب الأرض، ثم سَما عالياً حتى انتهى إلى الرب الأعلى، فوقف عنده، وتذلّل وخشع له، واطمأن وولِه إليه. وقال لنبيه :﴿ سَبْحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ﴾ [ الأعلى : ١ ] أي : إن هذه أرباب متفرقون، والرب الله الواحد القهار، فهداه إلى الرب الأعلى، وقال :﴿ وَأنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ﴾ [ النجم : ٤٢ ]. ثم قال : ألزم قلوبَهم هذه الكلمة بنور المحبة، كما قال :﴿ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُم ﴾ [ الحجرات : ٧ ]، فبحلاوة الحب، وزينة البهاء، صارت الكلمة لازمةً لقلوبهم.
وأما قوله :﴿ وكانوا أحق بها وأهلها ﴾ فإنما صاروا كذلك ؛ لأن الله كان ولا شيء، فخلق المقادير، وخلق الخلق في ظلمة، ثم رشّ عليهم من نوره، فمَن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومَن أخطأه ضلّ، فقد علم مَن يخطئه ممن يصيبه. ثم ذكر أحاديث، من ذلك : حديث ابن عمرو :" إن الله خلق خلقه، ثم جعلهم في ظلمة، ثم أخذ من نوره ما شاء، فألقاه عليهم، فأصاب النور مَن شاء أن يُصيبه، وأخطأ مَن شاء أن يخطئه. . . " ٣ الحديث. ثم قال بعد كلام طويل : ثم لمّا نفخ الروح في آدم أخرج نَسَمَ بنيه، أهل اليمين، من كتفه الأيمن في صفاء وتلألؤ، وأصحاب الشمال كالحمَّة سُود من كتفه الأيسر، والسابقون أمام الفريقين، المقربون، وهم الرسل والأنبياء والأولياء، فقرّبهم كلهم، وأخذ عليهم ميثاق على الإقرار بالعبودية، وأشهدهم على أنفسهم، وشهد عليهم بذلك. ثم ردّهم إلى الأصلاب ليخرجهم تناسلاً إلى الأرحام. ه.
وقال الجنيد رضي الله عنه في قوله :﴿ وكانوا أحقَّ بها وأهلَها ﴾ : مَن أدركه عناية السبق في الأزل جرى عليه عنوان المواصلة، وهو أحق بها، لِما سبق إليه من كرامة الأزل. ه. والحاصل : أنهم أحق بها بالسبق بالاصطفائية، وبقيت نعوتها وأنوارها في قلوبهم، دون الذين حجبهم الله عن رؤية نورها. قاله في الحاشية.
١ حديث قصة الحديبية أخرجه البخاري في الصلح حديث ٢٦٩٨، ومسلم في الجهاد حديث ٩٠..
٢ أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٤٨، حديث ٣٢٦٥، وأحمد في المسند ٥/١٣٨..
٣ أخرجه الترمذي في الإيمان حديث ٢٦٤٢..
ثم بشرهم بفتح مكة، وصدق الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال :
﴿ لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ لقد صَدَقَ اللّهُ رسولَه الرؤيا ﴾ أي : صدَقه في رؤياه ولم يكذبه - تعالى الله عن الكذب - فحذف الجارَ وأوصل الفعل ؛ كقوله :﴿ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾ [ الأحزاب : ٢٣ ] يقال : صدقه الحديث : إذا حققه وبيّنه له، أو : أخبره بصدق رُوي أنه صلى الله عليه وسلم رأى في النوم، قبل خروجه إلى الحديبية، كأنّه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين، وقد حلقوا وقصّروا، فقصّ الرؤيا على أصحابه، ففرحوا، وحسِبوا أنهم داخلوها، وقالوا : إن رؤيا رسول الله حق. والله تعالى قد أبهم الأمر عليهم لينفرد بالعلم الحقيقي، فلما صُدوا، قال عبد الله بن أُبيّ وغيرُه من المنافقين : والله ما حلقنا ولا قصّرنا، ولا رأينا المسجد الحرام، فنزلت :﴿ لقد صَدَقَ اللّهُ رسوله ﴾ فيما أراه، وما كذب عليه، ولكن في الوقت الذي يريد.
وقوله :﴿ بالحق ﴾ إما صفة لمصدر محذوف، أي : صدقاً ملتبساً بالحق، أي : بالغرض الصحيح، والحكمة البالغة التي تُميز بين الراسخ في الإيمان، والمتزلزل فيه، أو : حال من الرؤيا، أي : ملتبسة بالحق ليست من قبيل أضغاث الأحلام، ويجوز أن يكون قسَماً، أي : أقسم بالحق ﴿ لَتدخُلُنَّ المسجدَ الحرامَ ﴾ وعلى الأول : جواب القسم محذوف، أي : والله لتدخلن المسجد الحرام، والجملة القسمية : استئناف بياني، كأن قائلاً قال : ففيم صَدَقَه ؟ فقال :﴿ لتدخلن المسجد إن شاء الله ﴾ وهو تعليق للعِدة بالمشيئة لتعليم العبادة. قال ثعلب : استثنى الله فيما يعلم ؛ ليستثني الخلق فيما لا يعلمون. وقال في القوت : استثنى الله معلماً لعباده ورَادّاً لهم إلى مشيئته، وهو أصدقُ القائلين، وأعلمُ العالمين. ه. أو : للإشعار بأن بعضهم لا يدخلونه، لموت، أو غيبة، أو غير ذلك، أو : هو حكاية لِما قاله ملَك الرؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لِما قاله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، حين قصّ عليهم، أي : والله لتدخلنها ﴿ آمنين ﴾ من غائلة العدو، فهو حال من فاعل " لتدخلن " والشرط معترض. ﴿ مُحلِّقين رؤوسَكم ومقصِّرين ﴾ أي : محلقاً بعضكم، ومقصراً آخرون، ﴿ لا تَخافون ﴾ بعد ذلك أبداً، فهو حال أيضاً، أو استئناف، ﴿ فَعِلمَ ما لم تعلموا ﴾ من الحكمة في تأخير فتح مكة إلى العام القابل، ﴿ فجعل من دون ذلك ﴾ فتح مكة ﴿ فتحاً قريباً ﴾ وهو فتح خيبر، لتستروح إليه قلوبُ المؤمنين، إلى أن يتيسر الفتح الموعود. والله تعالى أعلم.
الإشارة : العارف الكامل لا يركن إلى شيء دون الله تعالى، فلا يطمئن إلى وعد، ولا يخاف من وعيد، بل هو عبد بين يدَي سيده، ينظر ما يبرز من زمن عنصر قدرته، فإن بُشِّر بشيء في النوم أو اليقظة، لا يركن إليه، ولا يقف معه ؛ لأن غيب المشيئة غامض، وإن خُوّف بشيء في النوم أو غيره، لا يفزع ولا يجزع ؛ لأن الغنى بالله والأُنس به غيَّبه عن كل شيء، وفي الله خلف من كل تلف " ماذا فقد من وجدك ؟ " والله يتولى الصالحين، ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً. . . ﴾ [ الطلاق : ٢ ] الآية.
قال في الإبريز : الرؤيا المُحْزِّنة إنما هي اختبار من الله للعبد، هل يبقى مع ربه أو ينقطع عنه، فإن كان العبد متعلقاً به تعالى، ورأى الرؤيا المحزنة، لم يلتفت إليها، ولما يُبال بها ؛ لعلمه بأنه منسوب إلى مَن بيده تصاريف الأمور، وأنَّ ما اختاره تعالى سبقت به المشيئة، فلا يهوله أمر الرؤيا، ولا يلقي إليها بالاً، وهذه لا تضره بإذن الله تعالى : وإذا كان العبد غير متعلق بربه، ورأى رؤيا محزنة، جعلها نصب عينيه، وعمّر بها باطنه، وانقطع بها عن ربه، ويُقدِّر أنها لا محالة نازلة به، فهذا هو الذي تضره ؛ لأنَّ مَن خاف من شيء سلّطه عليه. ه.
وسُئل سهل التستري رضي الله عنه عن الاستثناء في هذه الآية، فقال : تأكيداً في الافتقار إليه، وتأديباً لعباده في كل حال ووقت. ه. أي : أدّبهم لئلاّ يقفوا مع شيء دونه.
ثم رد حمية الجاهلية في عدم إقرارهم برسالته صلى الله عليه وسلم، فقال :
﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ﴾*﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ هو الذي أرسل رسولَه بالهُدى ﴾ بالتوحيد، أي : ملتبساً به، أو : بسببه، أو : لأجْله، ﴿ ودينِ الحق ﴾ وبدين الإسلام، وبيان الإيمان والإحسان. وقال الورتجبي : ودين الحق : هو بيان معرفته والأدب بين يديه. ه. ﴿ ليُظهره على الدين كله ﴾ ليُعْلِيَه على جنس الدين، يريد الأديان كلها من أديان المشركين وأهل الكتاب، وقد حقّق ذلك سبحانه، فإنك لا ترى ديناً قط إلا والإسلام فوقه بالعزة والغلبة، إلا ما كان من النصارى بالجزيرة١، حيث فرّط أهل الإسلام، وقيل : هو عند نزول عيسى عليه السلام حين لا يبقى على وجه الأرض كافر. وقيل : هو إظهاره بالحجج والآيات. ﴿ وكفى بالله شهيداً ﴾ على أن ما وعده كائن. وعن الحسن : شهد على نفسه أنه سيُظهر دينه، أو : كفى به شهيداً على نبوة محمد صلى عليه وسلم وهو تمييز، أو حال.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هو الذي أرسل رسوله بالهدى : بيان الشرائع، ودين الحق : بيان الحقائق، فمَن جمع بينهما من أمته ظهر دينُه وطريقته، وهذا هو الوليّ المحمدي، أعني : ظاهره شريعة، وباطنه حقيقة، وما وصَف به سبحانه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم هو وصْفُ الصوفية، أهل التربية النبوية، خصوصاً طريق الشاذلية، حتى قال بعضهم : مَن حلف أن طريق الشاذلية عليها كانت بواطنُ الصحابة ما حنث. وقوله تعالى :﴿ يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ﴾ قال الورتجبي : أي : يطلبون مزيدَ كشف في الذات والدنو والوصالِ والبقاء مع بقائه بلا عتاب ولا حجاب، وهذا محل الرضوان الأكبر. هـ.
وقوله تعالى :﴿ سيماهم في وجوههم ﴾ أي : نورهم في وجوههم، لتوجهِهم نحو الحق، فإنَّ مَن قَرُب من نور الحق ظهرت عليه أنورا المعرفة، وجمالُها وبهاؤها، ولو كان زنجيّاً أو حبشيّاً، وفي ذلك قيل :
وعلى العارفين أيضاً بهاءُ وعليهم من المحبّة نورُ
ويقال : السيما للعارفين، والبَهجة للمحبين، فالسيما هي الطمأنينة، والرزانة، والهيبة، والوقار، كل مَن رآهم بديهةً هابَهم، ومَن خالطهم معرفةً أحبهم، والبهجة : حسن السمت والهَدْي، وغلبة الشوق، والعشقُ، واللهج بالذكر اللساني. والله تعالى أعلم.
وروى السلمي عن عبد العزيز المكي : ليس السيما النُحولة والصفرة، ولكنه نور يظهر على وجوه العابدين، يبدو من باطنهم على ظاهرهم، يتبين ذلك للمؤمنين، ولو كان ذلك في زنجي أو حبشي. وعن بعضهم : ترى على وجوههم هيئة لقُرب عهدِهم بمناجاة سيدهم. وقال ابن عطاء : ترى عليهم طِلع الأنوار لائحة. وقال الورتجبي : المؤمن وجهٌ لله بلا قفا، مقبلاً عليه، غير معرض عنه، وذلك سيما المؤمن. هـ. وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.


١ الجزيرة: أي الأندلس..
﴿ محمد رسولُ الله ﴾ أي : ذلك المرسَل بالهدى ودين الحق هو محمد رسول الله، فهو خبر عن مضمر، و " رسول " : نعت، أو : بدل، أو : بيان، أو :" محمد " : مبتدأ و " رسول " : خبر، ﴿ والذين معه ﴾ مبتدأ، خبره :﴿ أشداءُ على الكفار رُحماءُ بينهم ﴾ أو :" الذين " : عطف على " محمد "، و " أشداء " : خبر الجميع، أي : غِلاظ شِداد على الكفار في حَرْبهم، رُحماء متعاطفون بينهم، يعني : أنهم كانوا يُظهرون لمَن خالف دينهم الشدة والصلابة، ولمَن وافقَ دينهم الرأفةَ والرحمةَ، وهذا كقوله تعالى :﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [ المائدة : ٥٤ ]، وبلغ من تشديدهم على الكفار أنهم كانوا يتَحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثياب الكفار، ومن أبدانهم أن تمسّ أبدانهم، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم : أنهم كانوا لا يرى مؤمنٌ مؤمناً إلا صافحه وعانقه.
وهذا الوصف الذي مَدَحَ اللّهُ به الصحابةَ رضي الله عنهم مطلوبٌ من جميع المؤمنين، لقوله صلى الله عليه وسلم :" ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحُمَّى " ١. رواه البخاري، وقال أيضاً :" نَظَرُ الرجل إلى أخيهِ شوقاً خير من اعتكاف سَنَة في مسجدِي هذا " ٢، ذكره في الجامع.
﴿ تراهم رُكَّعاً سجداً ﴾ أي : تُشاهدُهم حال كونهم راكعين ساجدين ؛ لمواظبتهم على الصلوات، أو : على قيام الليل، كما قال مَن شاهد حالهم : رهبان بالليل أُسدٌ بالنهار، وهو استئناف، أو : خبر، ﴿ يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ﴾ أي : ثواباً ورضا وتقريباً ﴿ سِيماهم ﴾ علامَاتهم ﴿ في وجوههم ﴾ في جباههم ﴿ من أثر السجود ﴾ أي : من التأثير الذي يؤثّره كثرة السجود. وما رُوي عنه عليه السلام :" لا تُعلموا صوَركم " ٣ أي : لا تسمُوها، إنما هو فيمن يتعَمد ذلك باعتماد جبهته على الأرض، ليحدث ذلك فيها، وذلك رياء ونفاق، وأما إن حَدَثَ بغير تعمُّد، فلا ينهى عنه، وقد ظهر على كثير من السلف الصالح غُرة في جباههم مع تحقُّق إخلاصهم.
وقال منصور : سألت مجاهداً عن قوله :﴿ سيماهم في وجوههم ﴾ أهو الأثر يكون بين عيني الرجل ؟ قال : لا ربما يكون بين عيني الرجل مِثلُ ركبة البعير، وهو أقسى قلباً من الحجارة، ولكنه نورٌ في وجوهم من الخشوع. وقال ابن جريج : هو الوقار والبهاء، وقيل : صفرة الوجوه، وأثر السهر. وقال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى، وما هم مرضى. وقال سفيان وعطاء : استنارت وجوههم من طول ما وصلُّوا بالليل، لقوله عليه السلام :" مَن كَثُرت صلاتُه بالليل حَسُن وجْههُ بالنَّهار " ٤ وقال ابن عطية : إنه من قول شريك لا حديث، فانظره، وقال ابن جبير : في وجوههم يوم القيامة يُعرفون به أنهم سجدوا في الدنيا لله تعالى. ه.
﴿ ذلك مَثَلُهم في التوراة ﴾ الإشارة إلى ما ذكر من نعوتهم الجليلة، وما فيها من معنى البُعد مع قُرب العهد للإيذان بعلو شأنه، وبُعد منزلته في الفضل، أي : ذلك وصفهم العجيب الجاري في الغرابة مجرى الأمثال، هو نعتهم في التوراة، أي : كونهم أشدّاء على الكفار، رحماء بينهم، سيماهم في وجوههم.
ثم ذكر وَصْفَهم في الإنجيل فقال :﴿ ومَثَلُهم في الإِنجيل كزرعٍ. . ﴾ الخ، وقيل عطفٌ على ما قبله، بزيادة " مَثَلَ "، أي : ذلك مثلُهم في التوراة والإنجيل، ثم بيَّن المثل فقال : هم كزرع ﴿ أخرج شطأه ﴾ فِرَاخَه، يقال : أشْطأ الزرع : أفرخ، فهو مُشْطِئ، وفيه لغات : شطأه بالسكون والفتح، وحذف الهمزة، كقضاة. و " شطَهُ "، بالقصر. ﴿ فآزره ﴾ فقوّاه، من : المؤازرة، وهي الإعانة، ﴿ فاستغلظ ﴾ فصار من الرقة إلى الغلظ، ﴿ فاستوى على سُوقه ﴾ فاستوى على قصبه، جمع : ساق، ﴿ يُعجِبُ الزُّرَّاع ﴾ يتعجبون من قوّته، وكثافته، وغِلظه، وحُسن نباتِه ومنظره. وهو مَثَلٌ ضربه الله لأصحابه صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام، ثم كثروا واستحكموا، بتَرَقي أمرُهم يوماً بيوم، بحيث أعجب الناسَ أمرهم، فكان الإسلام يتقوّى كما تقوى الطاقة من الزرع، بما يحتفّ بها مما يتولّد منها.
وقيل : مكتوب في الإنجيل : سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف، وينْهون عن المنكر. وعن عكرمة : أخرج شطأه بأبي بكر، فآزره بعمر، فاستغلظ بعثمان، فاستوى على سوقه بعليّ. وحكى النقاش عن ابن عباس، أنه قال : الزرعُ النبي صلى الله عليه وسلم، فآزره عليّ بن أبي طالب، فاستغلظ بأبي بكر، فاستوى على سوقه بعمر. ه.
واختار ابن عطية : أن المَثَل شامل للنبي صلى الله عليه وسلم وللصحابة، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم بُعِث وحده، فهو الزرع، حَبّة واحدة، ثم كثُر المسلمون، فهم كالشطْءِ، تَقَوّى بهم صلى الله عليه وسلم.
﴿ ليغيظ بهم الكفار ﴾ تعليل لما يُعرب عنه الكلامُ من تشبيههم بالزرع في ذكائه واستحكامه، أي : جعلهم كذلك ليغيظ بهم مَن كَفَر بالله.
﴿ وَعَدَ اللّهُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرةً وأجراً عظيماً ﴾ استئناف مُبيِّن لما خصَّهم به من الكرامة في الآخرة، بعد بيان ما خصَّهم به في الدنيا، ويجوز أن يرجع لقوله :﴿ ليغيظ بهم. . . ﴾ الخ : أي : ليغيظ بهم وعَدهم بالمغفرة والأجر العظيم ؛ لأن الكفار إذا سمعوا ما أُعدّ لهم في الآخرة مع ما خصَّهم في الدنيا من العزة والنصر غاظهم ذلك أشد الغيظ، و " من " في " منهم " للبيان، كقوله :﴿ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ ﴾ [ الحج : ٣٠ ] أي : وعد الله الذين آمنوا من هؤلاء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : هو الذي أرسل رسوله بالهدى : بيان الشرائع، ودين الحق : بيان الحقائق، فمَن جمع بينهما من أمته ظهر دينُه وطريقته، وهذا هو الوليّ المحمدي، أعني : ظاهره شريعة، وباطنه حقيقة، وما وصَف به سبحانه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم هو وصْفُ الصوفية، أهل التربية النبوية، خصوصاً طريق الشاذلية، حتى قال بعضهم : مَن حلف أن طريق الشاذلية عليها كانت بواطنُ الصحابة ما حنث. وقوله تعالى :﴿ يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ﴾ قال الورتجبي : أي : يطلبون مزيدَ كشف في الذات والدنو والوصالِ والبقاء مع بقائه بلا عتاب ولا حجاب، وهذا محل الرضوان الأكبر. هـ.
وقوله تعالى :﴿ سيماهم في وجوههم ﴾ أي : نورهم في وجوههم، لتوجهِهم نحو الحق، فإنَّ مَن قَرُب من نور الحق ظهرت عليه أنورا المعرفة، وجمالُها وبهاؤها، ولو كان زنجيّاً أو حبشيّاً، وفي ذلك قيل :
وعلى العارفين أيضاً بهاءُ وعليهم من المحبّة نورُ
ويقال : السيما للعارفين، والبَهجة للمحبين، فالسيما هي الطمأنينة، والرزانة، والهيبة، والوقار، كل مَن رآهم بديهةً هابَهم، ومَن خالطهم معرفةً أحبهم، والبهجة : حسن السمت والهَدْي، وغلبة الشوق، والعشقُ، واللهج بالذكر اللساني. والله تعالى أعلم.
وروى السلمي عن عبد العزيز المكي : ليس السيما النُحولة والصفرة، ولكنه نور يظهر على وجوه العابدين، يبدو من باطنهم على ظاهرهم، يتبين ذلك للمؤمنين، ولو كان ذلك في زنجي أو حبشي. وعن بعضهم : ترى على وجوههم هيئة لقُرب عهدِهم بمناجاة سيدهم. وقال ابن عطاء : ترى عليهم طِلع الأنوار لائحة. وقال الورتجبي : المؤمن وجهٌ لله بلا قفا، مقبلاً عليه، غير معرض عنه، وذلك سيما المؤمن. هـ. وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.


١ أخرجه البخاري في الأدب حديث ٦٠١١، ومسلم في البر حديث ٦٦..
٢ أخرجه السيوطي في الجامع الصغير حديث ٩٢٦٦..
٣ في هامش الأصل ما يلي: هذا حديث لا أصل له..
٤ أخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة حديث ١٣٣٣..
Icon