مدنية
وآياتها تسع وعشرون
كلماتها : ٥٦٠ ؛ حروفها : ٢٤٣٨.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا( ١ ) ﴾.نزلت هذه الآية الكريمة منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلح الحديبية في أواخر السنة السادسة من الهجرة النبوية، ومع أنهم صدّوا النبي ومن معه من المؤمنين عن أداء عمرتهم التي خرجوا لها فإنه كان فتحا ظاهرا بينا، أليس قد سألوا المسلمين أن يعتمروا في العام الثاني ؟.. أو ليسوا قد رغبوا في الأمان ؟. وما طلبوا الصلح إلا بعد أن ظهر المسلمون عليهم.
قال الزهري ما حاصله : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليها في ألف وأربعمائة، فلما اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم، تمكن الإسلام من قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، وكثر بهم سواد الإسلام. وما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه.
[ وأصل الفتح إزالة الإغلاق ؛ وفتح البلد :... الظفر به عنوة أو صلحا بحرب أو بغيره، لأنه منغلق ما لم يُظفر به وحصل في اليد فقد فتح.. ويجوز أن يكون ذلك إخبارا عن جعل المشركين في الحديبية مغلوبين خائفين طالبين للصلح، ويكون الفتح مجازا عن ذلك، وإسناده إليه تعالى حقيقة... والتأكيد بإنّ للاعتناء لا لرد الإنكار ]١.
نقل ابن كثير عن البخاري بسنده عن البراء رضي الله عنه قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية. كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشر مائة، والحديبية بئر، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركائبنا.
أخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري في تاريخه، وأبو داوود والنسائي وجماعة عن ابن مسعود قال : أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي عام ست بعد الهجرة، وكان قد خرج إليها عليه الصلاة والسلام يوم الاثنين هلال ذي القعدة، فأقام بها بضعة عشر يوما، وقيل : عشرين يوما، ثم قفل عليه الصلاة والسلام، فبينما نحن نسير أتاه الوحي- وكان إذ أتاه اشتد عليه- فسري عنه وبه من السرور ما شاء الله تعالى، فأخبرنا أنه أنزل عليه :﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ﴾ وأخرج أحمد، والبخاري، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يردّ عليّ، فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل فيّ القرآن، فما نشبت إذ سمعت صارخا يصرخ بي فوجفت وأنا أظن أنه نزل فيّ شيء ؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( لقد أنزلت عليّ الليلة سورة أحب إليّ من الدنيا وما فيها ﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا. ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ﴾ ).
مما نقل النيسابوري : وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة أحب أن يزور بيت الله الحرام بمكة فخرج قاصدا نحوه في سنة ست من الهجرة وخرج معه أولو البصيرة وتخلف من كان في قلبه مرض ظنا منه أنه لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا واصطحب سبعين بدنة لينحرها بمكة، ولما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأحرم بالعمرة لتعلم قريش أنه لم يأت لقتال، وكانوا ألفا وثلاثمائة أو أربعمائة أو خمسمائة... فجاءه عروة بن مسعود لإيقاع صلح، فلما رأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : أي محمد !. رأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله ؟. فلما عاد إلى قريش قال : لقد وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم من الملوك، وما رأيت ملكا يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا.. وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها منه ؛ فلما اتفقوا على الصلح جاء سهيل بن عمرو المخزومي وتصالحوا على أن لا يدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة سنته بل يعود في القابل ويقيم ثلاثة أيام ثم ينصرف. اه
والعاقبة : غفران الذنب ما سبق منه وما لحق، وتمام النعمة بانتشار الإسلام، وهدايتك في تبليغ الرسالة وإنفاذ الشريعة ؛ يقول صاحب الجامع لأحكام القرآن : لكي يجمع لك مع الفتح المغفرة، فيجمع الله لك ما تقر به عينك في الدنيا والآخرة.
[ ﴿ ليغفر لك الله ﴾ مذهب الأشاعرة القائلين بأن أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض أن مثل هذه اللام للعاقبة، أو لتشبيه مدخولها بالعلة الغائية في ترتبه على متعلقها، وترتب المغفرة على الفتح من حيث إن فيه سَعْيًا منه صلى الله عليه وسلم في إعلاء كلمة الله تعالى بمكابدة مشاق الحروب، واقتحام موارد الخطوب ؛ والسلف- كما قال ابن القيم وغيره- يقولون بتعليل أفعاله عز وجل.. وأنا أقول بما ذهب إليه السلف لوجود التعليل فيما يزيد على عشرة آلاف آية وحديث، والتزام تأويل جميعها خروج عن الإنصاف ]. ١
[ وقال أبو علي الروذباري : يقول لو كان لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه ]٢.
[ والمراد بالذنب ما فرط من خلاف الأوْلى بالنسبة إلى مقامه عليه الصلاة والسلام، فهو من قبيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين ]٣.
[ ﴿ ويتم نعمته عليك ﴾... وقيل : بخضوع من استكبر، وطاعة من تجبر ]٤.
٢ القرطبي ج١٦ـص٢٦٣..
٣ الألوسي..
٤ القرطبي..
ويؤيدك الله ويظهرك على عدوك، ويخزيهم، ويرفع لواءكم رفعة منيعة لا ذل بعدها ؛ ولا يشبهه نصر.
الله الذي وعدك تمام النعمة وعزة النصر هو سبحانه الذي أحل السكون والوقار، واليقين والثبات في قلوب المؤمنين، والركون إلى تأييد الله تعالى ومدده ليزدادوا يقينا على يقينهم، وتعظم ثقتهم في رعاية ربهم لهم، ونصرهم على عدوهم ؛ ولربنا الكبير المتعال، ذي السلطان المحيط والجلال، جنود السماوات والأرض وما بين ذلك وما وراء ذلك ﴿ وما يعلم جنود ربك إلا هو ﴾ فكل قُوَى الكون يسلطها الله على من يشاء إذا يشاء، ويؤيد بها من يريد ؛ وكان ربنا ولا يزال واسع العلم عظيم الحكمة.
وقال الراغب : إنزال الله تعالى نعمته على عبد إعطاؤه تعالى إياها، وذلك إما بإنزال الشيء نفسه كإنزال القرآن، أو بإنزال أسبابه والهداية إليه كإنزال الحديد ونحوه.
[.. وذهب جمهور الأشاعرة.. والفقهاء والمحدثون والمعتزلة إلى أن الإيمان يزيد وينقص، ونُقل ذلك عن الشافعي ومالك. وقال البخاري : لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، واحتجوا على ذلك بالعقل والنقل، أما الأول فلأنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة المنهمكين في الفسق والمعاصي مساويا لإيمان الأنبياء عليهم السلام مثلا، واللازم باطل فكذا الملزوم ؛ وأما الثاني فلكثرة النصوص في هذا المعنى، منها الآية المذكورة، ومنها ما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما قلنا : يا رسول الله ؟ إن الإيمان يزيد وينقص ؟ قال :( نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار )، ومنها ما روي عن عمر، وجابر رضي الله تعالى عنهما- مرفوعا- :( لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة لرجح )..
وقال النووي وجماعة محققون من علماء الكلام : إن الإيمان بمعنى التصديق القلبي يزيد وينقص أيضا بكثرة النظر ووضوح الأدلة، وعدم ذلك ؛ ولهذا كان إيمان الصدّيقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشبه ؛ ويؤيده أن كل واحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها، فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها.. ومراتب اليقين متفاوتة : إلى علم اليقين، وحق اليقين، وعين اليقين، مع أنها لا شك معها.. ]١.
فتحنا لك ليدخل الله المؤمنين والمؤمنات دار النعيم المقيم والسرور الخالد، ويتجاوز عن خطاياهم فلا يؤاخذهم بها ؛ ومضاعفة جزاء الحسنات، والعفو عن الأوزار والزلات فوز وفلاح عند ربنا المليك المقتدر الغفور الشكور.
أخرج ابن جرير عن أنس بن مالك في قوله :﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ﴾، قال : نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم مرجعه من الحديبية وقد حيل بينه وبين نسكه فنحر الهدي بالحديبية وأصحابه مخالطو الكآبة والحزن فقال : لقد أنزلت عليّ آية أحب إليّ من الدنيا جميعا فقرأ :﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا. ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ﴾إلى قوله ﴿ عزيزا ﴾ فقال له أصحابه هنيئا لك يا رسول الله قد بين الله لنا ماذا يفعل بك. فماذا يفعل بنا ؟ فأنزل الله الآية بعدها :﴿ ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾إلى قوله :﴿ وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ﴾.
لكن أخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن حبان وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يردّ عليّ. فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل فيّ القرآن فما نشبت إذ سمعت صارخا يصرخ بي فوجفت وأنا أظن أنه نزل فيّ شيء فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( لقد أنزلت عليّ الليلة سورة أحب إلي من الدنيا وما فيها :﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا. ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ﴾ ).
أقول : حديث عمر رضي الله تعالى عنه- وممن أخرجه البخاري وكفى به موثقا- يشهد بأن السورة نزلت جملة، بينما ما روي عن أنس قد يفهم منه أن الآيات الثلاث نزلت فلما قال الناس ما قالوا نزلت ﴿ ليدخل المؤمنين والمؤمنات ﴾ لكن الصحيح أولى ؛ ويمكن حمل القول فيما نقل عن أنس على أنه كان بلسان الحال وليس بلسان المقال.
[ وقال بعض العلماء : ضم المؤمنات هاهنا إلى المؤمنين بخلاف قوله :﴿ قد أفلح المؤمنون ﴾ ﴿ وبشر المؤمنين ﴾ ونحو ذلك، والسر فيه : أن كل موضع يوهم اختصاص الرجال به مع كون النساء مشاركات لهم ذكرهن صريحا، نفيا لهذا التوّهم، وكل موضع لا يوهم ذلك اكتفى فيه بذكر الرجال لأنهم الأصل في أكثر الأحكام والتكاليف ؛ مثلا : من المعلوم أن البشارة والنذارة عامة للناس قاطبة فلم يحتج فيهما إلى ذكر النساء بخلاف هذه الآية فإن إدخال الجنة يوهم أنه لأجل الجهاد مع العدو والفتح على أيديهم، والمرأة لا جهاد عليها فكان يظن أنهن لا يدخلن الجنات، فنفى الله تعالى هذا الوهم، وكذا الكلام في تعذيب المشركين والمشركات ].
قضى الله الحكيم ما قضى ليغفر لك ويتم نعمته ويهديك وينصرك، وليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات، وليعذب المنافقين والمنافقات فهم أشد بلاء على المسلمين ؛ وليعذب المشركين الذين ساء ظنهم بالله تعالى، فهم لا يوحدونه ولا يتّقونه، ولا يصدقون بكلماته ولا برسوله ولا بالآخرة، وعليهم تدور المساءة ويتنزل غضب الله، ومصيرهم أسوء مصير، فليس لهم في الآخرة إلا عذاب الخلود في السعير ؛ نقل الألوسيّ : والكلام إما أخبار عن وقوع السوء بهم، أو دعاء عليهم.
وأورد القرطبي :﴿ عليهم دائرة السوء ﴾ في الدنيا بالقتل والسبي والأسر، وفي الآخرة بجهنم.
[.. وليعذب كذلك أيضا المشركين والمشركات الظانين بالله أنه لن ينصرك وأهل الإيمان بك على أعدائك، ولن يظهر كلمته فيجعلها العليا على كلمة الكافرين به ؛ وذلك كان السوء من ظنونهم التي ذكرها الله في هذا الموضع ]١.
ربنا القوي المتين له جند شداد، يؤيد بمن شاء منهم أهل الحق والإيمان، ويسلط من شاء منهم على أهل الكفر والنفاق ليهزمهم ويذيقهم العذاب والهوان، والله الملك المهيمن يَقْهَر ولا يُقْهر، ويدبر الأمر وفق حكمته، [ ولم يزل الله ذا عزة لا يغلبه غالب، ولا يمتنع عليه مما أراده ممتنع لعظيم سلطانه وقدرته ؛ حكيم في تدبيره خلقه ]١.
نقل القرطبي :.. لما جرى صلح الحديبية قال ابن أبيّ : أيظن محمد أنه إذا صالح أهل مكة أو فتحها لا يبقى له عدوّ ؟ فأين فارس والروم ؟ فبيّن الله عز وجل أن جنود السماوات والأرض أكثر من فارس والروم.
شهد الله الحق أنه بعث رسوله محمدا خاتم النبيين شاهدا على أمته، ومبشرا المتقين بأن لهم من الله فضلا كبيرا، ومنذرا المعاندين والمفسدين بأن لهم خزيا وسلاسل وأغلالا وسعيرا.
فلتؤمن ولتؤمن الأمة بالله ورسوله، ولتنصروا الله سبحانه بنصرة دينه ورسوله، ولتعظموه – تبارك اسمه- فهو أهل التعظيم والتكبير.
﴿ وتسبحوه بكرة وأصيلا( ٩ ) ﴾.
أثنوا على الله تعالى ونزهوه عن الشبيه والنظير وما لا يليق بجلاله وقدسوه دائما، ﴿ بكرة ﴾ في البكور أول النهار ﴿ وأصيلا ﴾ في آخر النهار- وهي أخبار يراد بها الأمر-.
مما نقل القرطبي في معنى قوله – تبارك اسمه- :﴿ وتعزروه ﴾ : وقال ابن عباس وعكرمة : تقاتلون معه بالسيف ؛ وقال بعض أهل اللغة : تطيعوه.
﴿ وتوقروه ﴾ أي تسوّدوه.. وقيل تعظّموه.. والهاء فيهما للنبي صلى الله عليه وسلم. وهنا وقف تام ثم تبتدئ ﴿ وتسبحوه ﴾ أي تسبحوا الله ﴿ بكرة وأصيلا ﴾ أي عشيا ؛ وقيل : الضمائر كلها لله تعالى : فعلى هذا يكون تأويل :﴿ وتعزروه وتوقروه ﴾أي تثبتوا له صحة الربوبية، وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك.
إن من بايع النبي صلى الله عليه وسلم فقد بايع ربه- تبارك اسمه- كما في الآية الكريمة :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله.. ﴾١. والله معكم يسمع ويرى ويشهد ﴿ وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه.. ﴾٢ ﴿ .. وهو معكم أين ما كنتم.. ﴾٣ فمن بدّل عهد الله من بعد ميثاقه فقد خسر، ومن أتم وصدق ما عاهد الله تعالى عليه ولم يهن ولا بدّل، ولا ضعف ولا استكان، فبشرى له بالنور والسرور في دار الحبور ﴿ .. والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم.. ﴾٤.
عن ابن جرير قال : وفي قوله ﴿ يد الله فوق أيديهم ﴾ وجهان من التأويل : أحدهما- يد الله فوق أيديهم عند البيعة لأنهم كانوا يبايعون الله ببيعتهم نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ والآخر- قوة الله فوق قوتهم في نصرة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وعن القرطبي :﴿ يد الله فوق أيديهم ﴾ قيل : يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء، ويده في المنة عليهم بالهداية فوق أيديهم في الطاعة ؛ وقال الكلبي : معناه نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا من البيعة ؛ وقال ابن كيسان : قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم٥.
وصاحب روح المعاني- بعد أن ساق قريبا مما ساقه القرطبي في هذا المقام- قال : والسلف يُمِرُّون الآية كما جاءت مع تنزيه الله عز وجل عن الجوارح وصفات الأجسام ؛ وكذلك يفعلون في جميع المتشابهات، ويقولون : إن معرفة حقيقة ذلك فرع معرفة حقيقة الذات ؛ وأنّى لهم ؟ وهيهات هيهات !.
٢ سورة يونس. من الآية ٦١..
٣ سورة الحديد. من الآية ٤..
٤ سورة الحديد. من الآية ١٩..
٥ الجزء السادس عشر ص٢٦٧، ٢٦٨...
[ المخلف ] : المتروك ؛ ويقابله المقدم.
﴿ الأعراب ﴾ سكان البادية من العرب، لا واحد له من لفظه.
استنفر النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه إلى العمرة التي صُدّ عنها وعقد مع كفار صلح الحديبية-استنفر الأعراب الذين كانوا حول المدينة ليخرجوا معه فتهابهم قريش لكثرة عددهم فلا يقع قتال في مكة ؛ وأحرم النبي صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدي ليعلم الناس أنه لا يريد حربا ؛ لكن الأعراب جبنوا واعتذروا بانشغالهم برعاية أموالهم وأهلهم- وجاء قولهم في صيغة المضارع استحضارا للصورة والحال التي كانوا عليها- وسألوا النبي أن يستغفر لهم فبيّن العليم الخبير كذبهم ونفاقهم، وأنهم يبطنون غير ما يظهرون، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكرهم بسلطان ربنا القدير البصير، وأن الله حين يُنْزِلَ بهم نقمته فما لهم من ولي ولا نصير.
ما أقعدكم الشغل، ولكن حسبتم أن قريشا ومن شايعها ستقضي على الرسول ومن معه ويستأصلونهم، وحسّن الشيطان ذلك في قلوبكم.
[ وظننتم أن الله لن ينصر محمدا- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه المؤمنين على أعدائهم، وأن العدو سيقهرونهم ويغلبونهم فيقتلونهم ]١ ؛ وكنتم قوما هلكى فاسدين لا تصلحون لخير.
بنفاقهم وقعودهم عن الجهاد، وتكذيبهم وعد الله بنصر النبي والمؤمنين :﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾١ ؛ بارتيابهم في هذا الوعد الحق حرموا شرف الإيمان، وتوعدهم مولانا بالعذاب في دار الحريق والهوان.
ربنا مالك الكون وما فيه ومن فيه، فهو يصفح ويستر ويتجاوز عمن يريد –سبحانه- أن يرحمه، ويُذِل ويُخْزي ويعذب من شاء أن يعاقبه ؛ والله لم يزل كثير الغفران عظيم الرحمة ؛ ولقد شاء- تبارك اسمه- أن يغفر للمؤمنين، ويدخل في رحمته الواسعة أهل التقوى والإنابة ﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي.. ﴾، كما أراد – الذي لا مستكره له- أن يعذب المشركين والمشركات، والمنافقين والمنافقات، والذين كفروا من أهل الكتاب.
أي هو غني عن عباده، وإنما ابتلاهم بالتكليف ليثيب من آمن ويعاقب من كفر وعصى١.
[.. ومن لم يؤمن أيها الأعراب بالله ورسوله منكم ومن غيركم فيصدقه على ما أخبر به ويقر بما جاء به من الحق من عند ربه فإنا أعددنا لهم جميعا سعيرا من النار تسعر عليهم في جهنم إذا وردوها يوم القيامة.. ومنه قولهم : إنه لمسعر حرب ؛ يراد به : موقدها ومهيجها ؛ وقوله :﴿ ولله ملك السماوات والأرض.. ﴾ يقول تعالى ذكره : ولله سلطان السماوات والأرض فلا أحد يقدر أيها المنافقون على دفعه عما أراد بكم من تعذيب على نفاقكم، إن أصررتم عليه، أو مَنْعِهِ عن عفوه عنكم إن عفا إن أنتم تبتم من نفاقكم وكفركم ؛ وهذا من الله جل ثناؤه حث لهؤلاء الأعراب المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على التوبة والمراجعة إلى أمر الله في طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن الله يغفر للتائبين ؛ ﴿ وكان الله غفورا رحيما ﴾ يقول ولم يزل الله ذا عفو عن عقوبة التائبين إليه من ذنوبهم ومعاصيهم من عباده، وذا رحمة بهم أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد توبتهم منها ]٢.
٢ جامع البيان. لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفي سنة ٣١٠ هـ..
في الآيات الكريمات : ٢١، ٢٠، ١٩، ١٨. بشريات بأن مولانا الحق سيهب النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من أهل بيعة الرضوان مغانم كثيرة- وسيأتي تفسيرها-والجمهور على أن هذا ما وعدهم الله من النصر على يهود خيبر، وأخذ أرضهم وأموالهم ؛ فلما أُذِنَ للنبي- عليه الصلوات والتسليم- أن يخرج لقتال اليهود كان ما أخبر به القرآن، وقال الذين تخلفوا عنه يوم الحديبية : دعونا يا معشر الجند المؤمن نخرج معكم لنشارككم حرب أعدائكم في خيبر ؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغهم حكم الله فيهم بأن غنائم خيبر لن تقسم إلا بين من خرجوا في غزوة الحديبية، فاغتاظ المنافقون لهتك أستارهم وحرمانهم، فدمغ الله أهل النفاق بأنهم عمى البصيرة، ولو عقلوا ما حرموا خيرا ولا غنيمة، وما كان فهمهم إلا للقليل من شئون الدنيا ومتعها.
قال ابن إسحق : وكان المتولي للقسمة بخيبر جبار بن صخر الأنصاري من بني سلمة، وزيد بن ثابت النجار، كانا حاسبين قاسمين.
أمر الله تعالى نبيه محمدا أن يبين للذين تخلفوا عن الخروج معه يوم الحديبية ما قضى الله في شأنهم، وأنهم سيدعون لملاقاة قوم أشداء في الحرب ليقاتلوهم حتى يهزموهم أو يدخلوا في الإسلام، فإن أطعتم أمري وخرجتم لجهاد عدوي فزتم بالنصر والغنيمة في الدنيا والثواب العظيم في الآخرة، وإن أعرضتم أو فررتم أو قعدتم عن القتال كما فعلتم يوم الحديبية فلا عاقبة إلا الخزي والعذاب الموجع.
أورد ابن جرير نقولا كثيرة مختلفة في ذكر المعنيين بقوله – تبارك اسمه-﴿ أولي بأس شديد ﴾ من هم، ثم قال : وأولي الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء المخلفين من الأعراب أنهم سيدعون إلى قتال قوم أولي بأس في القتال ونجدة في الحروب، ولم يوضع لنا الدليل من خبر ولا عقل على أن المعنى بذلك هوازن ولا بنو حنيفة ولا فارس ولا الروم ولا أعيان بأعيانهم، وجائز أن يكون عنى بذلك بعض هذه الأجناس وجائز أن يكون عنى به غيرهم، ولا أقول فيه أصح من أن يقال كما قال الله جل ثناؤه : إنهم سيدعون إلى قوم أولي بأس شديد ؛ وقوله :﴿ تقاتلونهم أو يسلمون ﴾ يقول تعالى ذكره للمخلفين من الأعراب : تقاتلون هؤلاء الذين تُدْعَوْنَ إلى قتالهم أو يسلمون من غير حرب ولا قتال ؛ وقوله :﴿ فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا ﴾ يقول تعالى ذكره : فإن تطيعوا الله في إجابتكم إياه إذا دعاكم إلى قتال هؤلاء القوم الأولي البأس الشديد فتجيبوا إلى قتالهم والجهاد مع المؤمنين... يعطكم الله على إجابتكم إياه إلى حربهم الجنة وهي الأجر مع الحسن ؛ ﴿ وإن تتولوا كما توليتم من قبل ﴾.. وإن تعصوا ربكم فتُدبروا عن طاعته وتخالفوا أمره فتتركوا قتال الأولي البأس الشديد إذا دعيتم إلى قتالهم.. كما عصيتموه في أمره إياكم بالمسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة من قبل أن تُدْعَوْا إلى قتال أولي البأس الشديد ﴿ يعذبكم عذابا أليما ﴾ يعني وجيعا، وذلك عذاب النار على عصيانكم إياه وترككم جهادهم وقتالهم مع المؤمنين.
ومن قعد عن الجهاد لعلة جسدية كالعمى والمرض والضعف الشديد فلا إثم عليه، ومن يستجيب لنداء الله تعالى ويتبع ما دعا إليه رسوله صلى الله عليه وسلم ينعّمه ربنا في جنات نضرات موفورة الماء والنماء، ومن يفِر من تكاليف الدين، ويعرض عن هدى رب العالمين، فله الخزي والعذاب الموجع المهين.
أسبغ المولى نعمه على المؤمنين الصادقين المجاهدين، فأحل رضوانه – الذي هو خير من كل متاع- أحله على الذين بايعوا النبي حين كانوا معه في طريقهم إلى مكة لأداء العمرة، وصدّتهم قريش فبعث الله إليهم عثمان رضي الله تعالى عنه ليطمئنهم أن المؤمنين لم يجيئوا لقتال، لكنهم أمسكوا به ولم يمكنوه من العودة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وطال احتباس عثمان حتى شاع بين الناس أنه قد قتل، فعرض النبي على من معه أن يبايعوه على الثبات للقاء الأعداء، وأن لا يفر منهم أحد، وكان ذلك تحت شجرة قريبة من بئر الحديبية فبايعوا على ذلك- وقيل بايعوا على الموت- وبعدها رجع عثمان وجاءت رسل قريش تعرض الصلح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعقد معهم عهد المصالحة، ورجع المسلمون فائزين برضوان ربنا ووعده الذي لا يخلف- بالفتح القريب الذي لن يتأخر.
ووعد كريم صادق من الملك الحق أن يغنمهم نعما كثيرة وخيرات وفيرة- وتلك غنائم خيبر مما اكتنز اليهود فيها وجمعوا- وكان ربنا ولم يزل قويا قاهرا يَغْلِبْ ولا يُغْلَب، ويدبر كل أمر وفق الصواب والحكمة.
كتب لكم الله الحياة الطيبة والنصر على الأعداء إلى يوم القيامة، وأن يورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم، وأسرع ما تغنمون ما وعدتم به من عقار وأموال خيبر، ومع فوزكم بالغنائم لن ينال منكم الكفرة بل ستسْلَمون، لتكون نصرتكم علامة يزيد بها إيمان المتقين بأن الله مع الصادقين، وهو يتولى الصالحين، ويهديكم إلى الطريق المنيرة والمنهاج السوي المستقيم.
ولكم من ربكم وعد حق أن يمكّن لكم في مواطن أخرى كثيرة، وأن تجبى لكم خيرات وثمرات وفيرة، لم تقدروا عليها الآن، ولكن المولى القدير مهيمن عليها حتى تظفروا بها- سنة ماضية إلى يوم القيامة- ولم يزل الله القوي مقتدرا لا يفوته ولا يتعذر عليه ولا يعجزه شيء.
وجائز أن يكون معنى ﴿ أحاط الله بها ﴾ أحاط بها علما، وأحاط بها قدرة فهو يحفظها لكم ويمنعها من غيركم.
نقل عن ابن عباس : هي الفتوح التي فتحت على المسلمين، وعن مجاهد : هي ما يكون إلى يوم القيامة ؛ وعن القرطبي : ومعنى :﴿ قد أحاط الله بها ﴾ : أي أعدها لكم، فهي كالشيء الذي أحيط به من جوانبه، فهو محصور لا يفوت، فأنتم وإن لم تقدروا عليها في الحال فهي محبوسة عليكم ولا تفوتكم.
﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ﴾١ فلو لم تقبل قريش مصالحة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين واختاروا الحرب، لجعل الله الخزي والسوء على الكافرين، ولفرّوا هاربين أمام جند الحق والدين :﴿ ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ﴾٢.
٢ سورة محمد. الآية ١١..
فعل الله تعالى بالمعاندين للحق المستكبرين عن الهدى أن يغلبهم ويعلي كلمته والداعين إليها، وهذا قضاء ربنا في الأولين، ولن يُردّ بأسه عن المجرمين ؛ حتى يقوم الناس لرب العالمين، ولن يتغير هذا الوعد ولن يتحول.
و﴿ سنة ﴾ نصب على المصدرية من معنى الكلام السابق لا من لفظه، أي : لو قاتلكم كفاركم لهزموا، وسننت فيهم أن يُغلبوا غلبة أمثالهم من الذين قاتلوا أهل الإيمان من الأمم من قبلهم.
[ ولعل المراد أن سننه تعالى أن تكون العاقبة لأنبيائه عليهم السلام، لأنهم كلما قاتلوا الكفار غلبوهم وهزموهم ]١.
نقل ابن جرير بسنده عن أنس بن مالك أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقهم، فأنزل الله :﴿ وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم.. ﴾ إلى آخر الآية ؛ وكان قتادة يقول في ذلك... قال : بطن مكة : الحديبية ؛ وروى نحوه في صحيح مسلم.
كفّ الله تعالى – بقدرته- أيدي الكفار فلم ينالوا من المؤمنين شيئا، ولا أصابوا منهم، وشاء الله أن يجنح المؤمنون إلى السلم فلم يقتلوا من وقع في أيديهم من المشركين يوم الحديبية، وربنا بصير بأعمال العباد لا يغيب عن علمه ما خفي منها أو ظهر.
ذم الله الكفار الذين جحدوا نعمة الله إذ جعلهم جيران بيته العتيق فمنعوا نبيه وجنده الأكرمين أن يصلوا إلى الكعبة أو يطوفوا بالبيت العتيق.
﴿ والهدي معكوفا أن يبلغ محله ﴾.
ومنعوا الهدي وأبقوه محبوسا عن بلوغ الحرم- وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق معه حين خرج في سفره هذا سبعين بدنة- ناقة-.
﴿ ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء ﴾.
ولولا كراهة أن تقتلوا مسلمين ومسلمات، يقيمون ويقمن مع المشركين فيلحقكم من أذى إخوانكم – دون علم منكم- ما تكرهون ويشق عليكم ؛ لولا ذلك لما كف أيديكم عن الكفار، ولكن الله أراد أن يكفكم ثم يفتح لكم ليأمن إخوانكم، ويفرحوا بالنصر وتطيب نفوسهم.
﴿ لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما( ٢٥ ) ﴾.
لو افترق المؤمنون وتميزوا عن الكفار ولم يخالطوهم لعجلنا بطشتنا بمن كفروا، وأوجعناهم وأخزيناهم، وشفينا صدوركم منهم دون إمهال.
صيّر الكفار باعثَهم على عنادكم وصدكم الأنفة والاستكبار الجاهلي، فلا حجة لهم في الصدّ عن الهدى الذي جاءهم، وإنما هو التقليد الأعمى الذي حكاه عنهم الكتاب الحكيم :﴿ .. إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ﴾١ ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ؛ فأنزل ربنا الطمأنينة والصبر والوقار والحلم على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى جنده المباركين من صحبه الأكرمين، فثبتوا على الحق، ورضوا أن يعاهدوا على عدم الفرار، وباعوا ربهم أنفسهم وأموالهم يبتغون فضله ونصرة دينه، واختار لهم واختارهم لقول لا إله إلا الله [.. ولعل هذا من باب الاكتفاء، والمراد : لا إله إلا الله محمد رسول الله ]٢. وكان النبي والمؤمنين متصفون بكلمة التقوى بمزيد استحقاق، ومستأهلين لها، وكان ربنا ولم يزل محيط العلم بمن هو أولى بالفتح والسكينة والتقوى والصلح، كما هو سبحانه محيط علما بكل شيء ؛ [ ولعلمه أيها الناس بما يحدث من دخولكم مكة وبها رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم، لم يأذن لكم بدخول مكة سفرتكم هذه ]٣.
٢ ما بين العارضتين مقتبس من روح المعاني..
٣ ما بين العارضتين مقتبس من جامع البيان..
لقد حقق ربنا لرسوله ما أراه إياه في منامه- قبل أن يذهب إلى الحديبية أنه هو وأصحابه دخلوا مكة آمنين، وقد حلقوا وقصروا شعر رؤوسهم، -فقصّ النبي الرؤيا على أصحابه ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم - ورؤيا النبي حق، فليست من أضغاث الأحلام وأخلاطها- وقد كانت الرؤيا بشرى وعِدَة أن يدخلوا البيت العتيق حال كونهم آمنين من عدوهم، ومحلقين أو مقصرين شعر رؤوسهم، ولن يخيفهم أحد ؛ علم الله أن بمكة من المؤمنين والمؤمنات من لا يعرفهم المؤمنون، ولو فتحوا مكة يومئذ لقتلوا أو آذوا إخوانهم وأخواتهم في الإيمان- وهم لا يدرون- فيلحقهم من ذلك منقصة وحسرة، فيسّر لهم المولى- قبل أن يتمكنوا من دخول مكة-أن يتصالحوا مع قريش، وأن تُفْتَح عليهم خيبر.
روى ابن جرير بسنده عن الزهري : ما فتح الله في الإسلام فتحا كان أعظم منه- يعني صلح الحديبية- إنما كان القتال حين تلتقي الناس ؛ فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس بعضهم بعضا، فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة، فلم يُكلّم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر.
[ يدلك على ذلك أنهم كانوا سنة ست يوم الحديبية ألفا وأربعمائة- أو ألفا وخمسمائة في رواية- وكانوا بعد عام الحديبية سنة ثمان في عشرة آلاف ]١.
الله الخلاق العليم العزيز الحكيم هو الذي بعث خاتم أنبيائه محمدا صلى الله عليه وسلم بالإسلام الذي ارتضاه سبحانه ولا يقبل سواه، ومراده جل علاه أن يعلو هذا الدين على كل دين، وكفى أن يشهد الله الحق أن الوحي وحيه وأن كلمته هي العليا، والله متم نوره.
و﴿ الدين ﴾ اسم بمعنى المصدر، ويستوي لفظ الواحد والجمع فيه :
[ ﴿ بالهدى ﴾ أي ملتبسا به.... والتباسه بالهدى بمعنى أنه هاد. وقيل : أي مصاحبا للهدى، والمراد به : الدليل الواضح، والحجة الساطعة ؛ أو القرآن.. ﴿ ودين الحق ﴾ وبدين الإسلام.. والظاهر أن المراد بالحق نقيض الباطل.. ﴿ ليظهره على الدين كله ﴾ ليعليَه على جنس الدين، فيشمل الحق والباطل.. وإظهاره على الحق بنسخ بعض أحكامه المتبدلة بتبدل الأعصار، وعلى الباطل ببيان بطلانه.. ]١.
محمد بن عبد الله مبعوث ربنا إلى المكلفين كافة- الجن والإنس- وأصحابه وأتباعه شداد على الأعداء ؛ متآخون متحابون فيما بينهم، يرحم بعضهم بعضا.
[.. ﴿ محمد رسول الله ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة.. مبنية للمشهود به١ ؛ أما على كونه الرسالة فظاهر، وأما على كونه محقق الوعد٢ فقيل : لأن كينونة ما وعده لازمة لكونه عليه الصلاة والسلام رسول الله، إذ هو لا يوعد إلا بما هو مُحقّق، ولا يخبر إلا عن كل صدق ]٣.
يقول الحافظ عماد الدين : وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدا عنيفا على الكفار ؛ رحيما برا بالأخيار ؛ غضوبا عبوسا في وجه الكافر، ضحوكا بشوشا في وجه أخيه المؤمن ؛ كمال قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين ﴾٤، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ). وقال صلى الله عليه وسلم :( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا )، وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه ؛ كلا الحديثين في الصحيح.
[ وبلغ من تراحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه، والمصافحة لم يختلف فيها الفقهاء، أخرج أبو داوود عن البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا الله واستغفراه غفر لهما )، وفي رواية الترمذي :( ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا ) ؛ وفي الأذكار النووية أنها مستحبة عند كل لقاء، وأما ما اعتاده الناس بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل له ولكن لا بأس به، فإن أصل المصافحة سنة، وكونهم محافظين عليها في بعض الأحوال ومفرطين في كثير منها لا يخرج ذلك البعض عن كونه من المصافحة التي ورد الشرع بأصلها، وجعل ذلك العز بن عبد السلام في قواعده من البدع المباحة... وأما المعانقة فقال الزمخشري : كرهها أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، وكذلك التقبيل، قال : لا أحب أن يقبل الرجل من الرجل وجهه ولا يده ولا شيئا من جسده، ورخص أبو يوسف-عليه الرحمة- المعانقة ؛ ويؤيد ما روي عن الإمام ما أخرجه الترمذي عن أنس قال : سمعت رجلا يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ! الرجل منا يلاقي أخاه أينحني له ؟ قال :" لا ". قال : أفيلتزمه ويقبله ؟ قال :" لا ". قال : أيأخذ بيده ويصافحه ؟ قال :" نعم " وفي الأذكار : التقبيل وكذا المعانقة لا بأس به عند القدوم من سفر ونحوه، ومكروه كراهة تنزيه في غيره، وللأمرد الحسن حرام بكل حال ؛ أخرج الترمذي – وحسنه- عن عائشة قالت : قدم زيد بن خالد بن حارثة المدينة ورسول الله في بيتي فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر ثوبه فاعتنقه وقبله ؛ وزاد رزين في حديث أنس-السابق- بعد قوله : ويقبله ؟ قال :" لا. إلا أن يأتي من سفره ". وروى أبو داود : سأل أبو ذر : هل كان صلى الله عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه ؟ قال : ما لقيته قط إلا صافحني، وبعث إليّ ذات يوم ولم أكن في أهلي، فجئت فأُخْبِرْتُ أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إليّ فأتيته وهو على سريره فالتزمني فكانت أجود أجود ؛ وهذا يؤيد الإطلاق المحكي عن أبي يوسف، وينبغي التأسي بهم- رضي الله تعالى عنهم- في التشدد على أعداء الدين، والرحمة على المؤمنين ؛ وقد أخرج ابن أبي شيبة، وأبو داوود عن عبد الله بن عمر-مرفوعا- :( ومن لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا )، وأخرجاهما وأحمد وابن حبان والترمذي – وحسنه- عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( لا تنزع الرحمة إلا من شقي ) ؛ ولا بأس بالبر والإحسان على عدو الدين إذا تضمن مصلحة شرعية كما أفاد ذلك ابن حجر في فتاويه الحديثية فليراجع ]٥.
﴿ تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ﴾.
يحافظون على الصلاة ويستكثرون منها بركوعها وسجودها يرجون بذلك أن يتفضل المولى عليهم بثواب جزيل، ويهبهم فوق ذلك رضاه- تبارك اسمه- علاماتهم تبدو عليهم، فصلاتهم نهتهم عن الفحشاء والمنكر، وكساهم ربهم بخشوعهم مهابة ووقارا، هكذا أوحى الله مثل المؤمنين وصفتهم العجيبة في التوراة.
[ وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة- وفيه-( حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يُخْرِج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يُخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ).. وقال ابن عباس ومجاهد : السيما في الدنيا، وهو السمت الحسن ؛ وعن مجاهد أيضا : هو الخشوع والتواضع ؛ قال منصور : سألت مجاهدا عن قوله تعالى :﴿ سيماهم في وجوههم ﴾ أهو أثر يكون بين عيني الرجل ؟ قال : لا، ربما يكون بين عيني الرجل مثل ركبة العنز وهو أقسى قلبا من الحجارة ! ولكنه نور في وجوههم من الخشوع ؛ وقال ابن جرير : هو الوقار والبهاء ]٦.
﴿ ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ﴾.
﴿ شطأه ﴾ فراخه وأولاده.
﴿ فآزره ﴾فأعانه وقواه.
﴿ فاستغلظ ﴾مبالغة في الغلظ، كما في قوله سبحانه :﴿ فاستعصم ﴾.
مثلٌ ساقه الله تعالى لأهل الإيمان وأُوحِيَ إلى عيسى عليه السلام من قبل : أن أتباع هذا الدين يتكاثرون ويتناصرون ؛ وقال قتادة : مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوب : إنه سيخرج من قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
[ وهذا مثل ضربه الله تعالى لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : يعني أنهم يكونون قليلا ثم يزدادون ويكثرون، فكان النبي صلى الله عليه وسلم حين بدأ بالدعاء إلى دينه ضعيفا، فأجابه الواحد بعد الواحد حتى قوي أمره، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفا، فيقوى حالا بعد حال، حتى يغلظ نباته وأفراخه ]٧
أقول : ولعل الأولى أن يبقى اللفظ على عمومه، وأن صفة المؤمن أن يرعى الضعيف، ويأخذ بيد الفاقد حتى يقوى، فينضم العود إلى العود، فإذا هُم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، يفرح بهم المحبون، ويغتاظ لتآزرهم الكافرون ؛ والأخوة أخو الإيمان، والتفرق أخو الكفر :﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ﴾٨.
﴿ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما( ٢٩ ) ﴾.
إذا أريد بمن أشير إليهم في بداية هذه الآية الكريمة كل من آمن واتبع محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه تقرير لجزاء ومصير المؤمنين الصالحين، وبشرى لهم بالثواب الكريم والنعيم المقيم ؛ وإن أريد بهم الصحب الكرام عليهم رضوان الله ف﴿ منهم ﴾ لبيان الجنس وليست للتبعيض [ كما في قول الله – تبارك اسمه- :﴿ .. فاجتنبوا الرجس من الأوثان.. ﴾٩.. ويقصد به كل الرجس، إذا كان الرجس، يقع من أجناس شتى، منها الزنا، والربا، وشرب الخمر، والكذب، فأدخل – ( من )- يفيد بها الجنس، وكذا ﴿ منهم ﴾ أي من هذا الجنس، يعني الصحابة ؛ ويقال : أنفق نفقتك من الدراهم ؛ أي اجعل نفقتك من هذا الجنس ]١٠.
٢ يريد الوعد الذي تضمنته الآية الكريمة السابقة:﴿.. أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله..﴾..
٣ نقله الألوسي عن أبي حيان..
٤ سورة التوبة. الآية ١٢٣..
٥ روح المعاني جـ٢٦ص، ١٢٣، ١٢٤..
٦ الجامع لأحكام القرآن. جـ١٦، ص ٢٩٣، ٢٩٤..
٧ ما بين العارضتين أورده القرطبي..
٨ سورة آل عمران..
٩ سورة الحج. من الآية ٣٠..
١٠ سورة الدخان. من الآية ٨..