تفسير سورة الفتح

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

فضائل صلح الحديبية على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣)
الإعراب:
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ لام «يغفر» متعلقة بقوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً وهي لام «كي» وهي حرف جر، وإنما حسن دخولها على الفعل، لأن «أن» مقدرة بعدها، ولهذا كان الفعل بعدها منصوبا، وأن مع الفعل في تقدير الاسم، فلم تدخل في الحقيقة إلا على اسم.
وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً تقديره: إلى صراط مستقيم، فلما حذف حرف الجر، اتصل الفعل بقوله: صِراطاً فنصبه.
البلاغة:
ما تَقَدَّمَ وَما تَأَخَّرَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً الفتح في أصل اللغة: إزالة الأغلاق، والفتح في باب الجهاد: هو الظفر بالبلد عنوة أو صلحا، بحرب أو بغيره، لأن البلد قبل ذلك منغلق ما لم يظفر به، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح: والمراد: قضينا لك بفتح مكة وغيرها في المستقبل عنوة بجهادك، فتحا بينا ظاهرا. أو هو وعد بفتح مكة، والتعبير عنه بالماضي للدلالة على تحققه وصيرورته في حكم الواقع.
والمراد بالفتح هنا في رأي الجمهور: هو صلح الحديبية (والحديبية بئر سمي المكان بها) وسمي هذا الصلح فتحا، لأنه كان سببا لفتح مكة من قبيل المجاز المرسل بإطلاق السبب على المسبب. قال
148
الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، اختلط المشركون بالمسلمين، وسمعوا كلامهم، فتمكن الإسلام من قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير كثر بهم سواد الإسلام، فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاؤوا إلى مكة في عشرة آلاف، ففتحوها.
وقال جماعة: المراد فتح مكة، وعد اللَّه به قبل حدوثه بطريق البشارة من اللَّه تعالى لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وللمؤمنين، قال الزمخشري «١» : هو فتح مكة، وقد نزلت السورة مرجع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عن مكة عام الحديبية، عدة له بالفتح، وجيء به على لفظ الماضي على عادة رب العزة سبحانه في أخباره، لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علوّ شأن المخبر ما لا يخفى، أهـ.
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ.. يجوز أن يكون الفتح فتح مكة من حيث إنه جهاد للعدو سببا أو علة للغفران والثواب، وكذلك فتح الحديبية وإن لم يكن فيه قتال شديد، لكن وقع فيه ترام بين القوم بسهام وحجارة أو كونه سببا لفتح مكة، يكون لما تضمنه من مجاهدة سببا للمغفرة.
فإن لم يجعل الفتح علة للمغفرة، فيكون ذكر اللام- كما قال الزمخشري- لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة، وهي المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز، أي لتحصيل مجموع هذه الأمور كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة أو الحديبية ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين عز الدارين، وغايات العاجل والآجل.
ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ أي جميع ما فرط منك مما يصح أن يعاتب عليه، وبما أن الأنبياء معصومون عن الذنوب الكبائر والصغائر، فالمراد بالذنب هنا: فعل ما هو خلاف الأولى والأفضل بالنسبة لمقام الأنبياء، فهو من قبيل: حسنات الأبرار سيئات المقرّبين. أو أن المراد ما هو ذنب في نظره العالي، وإن لم يكن في الواقع كذلك. وفي هذا ترغيب للأمة في الجهاد.
وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ أي ويتم بالفتح المذكور إنعامه عليك، بإعلاء الدين، واجتماع الملك مع النبوة وفتح البلاد وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي يثبتك بالفتح على الطريق القويم، وهو دين الإسلام وتبليغه وإقامة شعائره وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً أي وينصرك اللَّه بالفتح نصرا فيه عز ومنعة: وهو الذي لا ذلّ بعده، أو يعز به المنصور وهو الذي لا يناله كل أحد، فوصف الشخص بالنصر العزيز للمبالغة.
(١) تفسير الكشاف: ٣/ ١٣٥
149
سبب النزول:
نزول الآية (١) :
إِنَّا فَتَحْنا: أخرج الحاكم وغيره عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها.
نزول الآية (٢) :
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ..:
أخرج أحمد والشيخان والترمذي والحاكم عن أنس قال: أنزلت على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ مرجعه من الحديبية، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على الأرض»، ثم قرأها عليهم، فقالوا: هنيئا مريئا لك يا رسول اللَّه، قد بيّن اللَّه لك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ حتى بلغ فَوْزاً عَظِيماً. وقال ابن عباس: إن اليهود شمتوا بالنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والمسلمين لما نزل قوله: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ وقالوا: كيف نتبع رجلا لا يدري ما يفعل به، فاشتد ذلك على النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأنزل اللَّه تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ.. الآية.
التفسير والبيان:
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً أي إنا فتحنا لك أيها الرسول فتحا ظاهرا لا شك فيه، وهو صلح الحديبية الذي كان سببا لفتح مكة وانتشار العلم النافع والإيمان، أو فتح مكة، وعده اللَّه به قبل حصوله، وذكره بلفظ الماضي لتحققه، وكانت بشارة عظيمة من اللَّه تعالى لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وللمؤمنين، كما بينت في تفسير المفردات.
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ أي لكي يجتمع لك مع
150
المغفرة: تمام النعمة في الفتح، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز، فيتحقق لك عز الدارين وسعادة الدنيا والآخرة. والمغفرة تشمل جميع ما فرط منك قبل الرسالة وبعدها من الهفوات التي تعد خلاف الأولى بالنظر إلى مقامك العالي، وذاك بالنظر لمن سواك لا يسمى ذنبا، فهو من قبيل ما يسمى: حسنات الأبرار سيئات المقرّبين. وفي هذا تشريف عظيم للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو من خصائصه التي لا يشاركه فيها غيره.
أخرج الجماعة (أحمد والأئمة الستة إلا أبا داود) عن المغيرة بن شعبة رضي اللَّه عنه يقول: كان النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يصلي حتى ترم قدماه، فقيل له: أليس قد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «أفلا أكون عبدا شكورا».
وأخرج أحمد ومسلم عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا صلّى، قام حتى تتفطّر رجلاه، فقالت له عائشة رضي اللَّه عنها: يا رسول اللَّه، أتصنع هذا، وقد غفر لك اللَّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم:
«يا عائشة، أفلا أكون عبدا شكورا».
وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً، وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً أي ولكي يتمم إنعامه عليك بإعلاء شأن الدين وانتشار الإسلام وفتوح البلاد شرقا وغربا ورفع شأنك في الدنيا والآخرة، وليرشدك إلى الطريق القويم بما يشرعه لك من الشرع العظيم، ويثبتك على الهدى إلى أن يقبضك إليه، ولينصرك اللَّه على أعدائك نصرا غالبا منيعا، لا يتبعه ذل، أو هو عزيز المنال فريد المثال.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يلي:
١- بشّر اللَّه نبيه والمؤمنين بفتح عظيم مبين واضح، وهو في رأي الجمهور كما
151
تقدم صلح الحديبية الذي كان سببا لفتح مكة وانتشار العلم النافع والإيمان، واختلاط الناس مع بعضهم بعضا، وتكلّم المؤمن مع الكافر. قال موسى بن عقبة: قال رجل عند منصرفهم من الحديبية: ما هذا بفتح، لقد صدّونا عن البيت،
فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «بل هو أعظم الفتوح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح، ويسألوكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا».
وتساءل الزمخشري بقوله: كيف يكون فتحا، وقد أحصروا، فنحروا، وحلقوا بالحديبية؟ ثم أجاب: كان ذلك قبل الهدنة، فلما طلبوها، وتمت، كانت فتحا مبينا.
وقال الشعبي في قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قال: هو صلح الحديبية، لقد أصاب فيها ما لم يصب في غزوة، غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبويع بيعة الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محلّه، وظهرت الروم على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس. وقد سبق كلام الزهري. والخلاصة: تحقق في هذا الصلح أمور ثلاثة: هي معرفة قوة العدو ومدى كفايته في السلم والسياسة والصلح، وتمييز المؤمنين من المنافقين، واختلاط المسلمين بالمشركين الذي أدى إلى الدخول في الإسلام.
وقيل: إنه فتح مكة، وهو مناسب لآخر السورة التي قبلها، حيث حث تعالى على الجهاد بالنفس وبالمال والإنفاق في سبيل اللَّه، ونهى عن طلب الصلح، فقال: لا تسألوا الصلح من عندكم، بل اصبروا، فإنهم يسألون الصلح ويجتهدون فيه، كما كان يوم الحديبية.
٢- كانت ثمار الفتح الأعظم أربعة أمور هي:
الأول- البراءة المطلقة للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بمغفرة جميع ذنوبه المتقدمة والمتأخرة التي تعد بمثابة خلاف الأولى والأفضل بالنظر لمقامه الشريف.
152
الثاني- إتمام النعمة عليه بالجمع بين النبوة والملك، وبين سعادة الدنيا والآخرة.
الثالث- الإرشاد والهداية إلى الطريق المستقيم بتبليغ الرسالة والثبات على الحق.
الرابع- النصر المؤزر العزيز المنيع الذي لا ذل بعده.
ويمكن القول بالتعبير الحديث: تحقق بهذا الفتح مفهوم سيادة الدولة الإسلامية الداخلية والخارجية، واستقلالها، وظهور النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بصفة كونه حاكما وإماما في السياسة والحكم إلى جانب كونه نبيا، كما تحقق له عز الدنيا والآخرة، وثباته على دين الحق ونشره في أرجاء الدنيا.
وعقد صلح الحديبية، كما أنه أثبت صفة الحاكم السياسي للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم على الأمة الإسلامية وعاصمتها المدينة، أدى إلى اعتراف المشركين بالدولة الإسلامية في المدينة المنورة، والإقرار بسيادتها واستقلالها.
آثار صلح الحديبية في المؤمنين والمنافقين والمشركين
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٤ الى ٧]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧)
153
الإعراب:
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ.. لا بد من تقدير فعل قبله، فإن من قال ابتداء: لتكرمني، لا يصح ما لم يقل قبله: جئتك أو نحوه، والتقدير هنا إما: إنا فتحنا ليدخل، كما في قوله: ليغفر لك اللَّه، وإما: أنزل السكينة ليدخل، أو أمر بالجهاد، ونحو ذلك.
عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عِنْدَ حال من الفوز.
البلاغة:
يُكَفِّرَ وَيُعَذِّبَ بينهما طباق.
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ بينهما ما يسمى بالمقابلة.
المفردات اللغوية:
أَنْزَلَ خلق وأوجد السَّكِينَةَ الثبات والطمأنينة مأخوذ؟؟ من السكون فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ أوجد السكينة في القلوب في مواضع القلق والاضطراب لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ يقينا مع يقينهم، أو ليزدادوا إيمانا بالشرائع، ومنها الدين، مع إيمانهم بالله واليوم الآخر وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يدبر أمرها، فيسلط بعضها على بعض تارة، ويسالم فيما بينها تارة أخرى، كما تقتضي حكمته، وجنود السموات والأرض: الأسباب السماوية والأرضية وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً عليما بالمصالح، حكيما فيما يقدّر ويدبر، والمعنى: أنه ما يزال متصفا بذلك.
وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يغطيها ولا يظهرها وَكانَ ذلِكَ أي التكفير للسيئات وإدخال الجنات عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً أي أن دخول الجنات فوز عظيم عند اللَّه السَّوْءِ بفتح السين وضمها، وهو المساءة، وظن السوء: اي ظن الأمر السوء، وهو الا ينصر اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم والمؤمنين عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ دائرة ما يظنونه وينتظرونه بالمؤمنين، فلا يتخطاهم، وهو العذاب والهزيمة والشر. والدائرة في الأصل: الخط الدائري المحيط بالمركز، ثم استعملت في الحادثة المحيطة بالإنسان، كإحاطة الدائرة بالمركز، وكثر استعمالها في السوء والمكروه وَغَضِبَ اللَّهُ سخط وَلَعَنَهُمْ أبعدهم وطردهم من رحمته طردا نزلوا به إلى أعماق جهنم وَساءَتْ مَصِيراً مرجعا.
عَزِيزاً قويا في ملكه يغلب ولا يغلب حَكِيماً في صنعه. والمراد: أنه لم يزل متصفا بالعزة والحكمة.
154
سبب النزول: نزول الآية (٥) :
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ: سبق بيانه في الآيات السابقة.
المناسبة:
بعد أن أخبر اللَّه تعالى بفضله على نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم وبأنه ينصر رسوله، أبان بعض أفضاله على المؤمنين من أصحابه وبعض أسباب النصر، وهو تثبيت أقدام المؤمنين واطمئنان قلوبهم في ميادين المعارك، وأردفه ببيان سنته في تسليط بعض جنوده على بعض، ثم رفع معنويات الجند المؤمنين بوعدهم بالخلود في الجنان، وإيعاد الكافرين والمنافقين المعادين للمؤمنين بالعذاب الشديد، والغضب عليهم وطردهم من رحمته.
التفسير والبيان:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أي إن اللَّه عز وجل هو الذي خلق وأوجد السكون والطمأنينة والثبات في قلوب المؤمنين وهم الصحابة رضي اللَّه عنهم يوم الحديبية الذين استجابوا لله تعالى ولرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وانقادوا لحكم اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، واستعدوا للقتال بإخلاص دون فرار، لئلا تضطرب نفوسهم في وقت المحنة، وليزيدهم اللَّه يقينا جديدا على يقينهم الحاصل من قبل. وهذا يسمى حديثا رفع الروح المعنوية للجيش.
وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بالآية على زيادة الإيمان وتفاضله في
155
القلوب. ويصح تأويل زيادة الإيمان بأنه الإيمان بالشرائع بعد إيمانهم بالله، قال ابن عباس: إن أول ما أتاهم به النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم التوحيد، فلما آمنوا بالله وحده أنزل الصلاة ثم الزكاة ثم الجهاد ثم الحج.
ثم ذكر اللَّه تعالى أنه لو شاء لانتصر من الكافرين، فقال:
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً أي إن اللَّه تعالى يدبر أمر جنوده في هذا العالم كيف يشاء، من الملائكة والإنس والجن والشياطين، والقوى الكونية في السماء والأرض كالزلازل والبراكين والأعاصير والبحار والأنهار ونحوها، فالله قادر على إرسال ملك واحد، يبيد الجبال والبلاد، ولكنه تعالى شرع لعباده الجهاد والقتال لحكمة بالغة ومصلحة عالية، لذا قال تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أي كان اللَّه ولا يزال عليما بمصالح خلقه، حكيما في صنعه وتقديره وتدبيره. وهذا منسجم مع موقف أبي بكر الذي عرف برسوخ الإيمان، أما عمر بن الخطاب فتساءل عن عدم التكافؤ الظاهري في شروط الصلح، وقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل فعلام نعطي الدنية في ديننا؟
ولكن إيمانه لم يتزعزع، بل إن ذلك يدل على مزيد الإيمان والغيرة على مصالح المسلمين في تقديره، ثم أنزل اللَّه الطمأنينة على قلبه وقلوب أمثاله، وشرحها لما رآه النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وصدقت الأيام رأيه.
ثم ذكر اللَّه تعالى ما وعد به أهل الإيمان، فقال:
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ، وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً أي يبتلي اللَّه بجنوده من شاء ليدخل المؤمنين ويعذّب غير المؤمنين، أو أنزل السكينة أو إنا فتحنا ليترتب عليه دخول المؤمنين والمؤمنات جنات (بساتين) تجري الأنهار من
156
تحت قصورها، وهم ماكثون فيها أبدا، ويستر عنهم خطاياهم وذنوبهم ولا يظهرها ولا يعذّبهم بها، بل يعفو ويصفح ويستر ويرحم وكان ذلك الوعد بإدخالهم الجنة وتكفير سيّئاتهم عند اللَّه وفي حكمه فوزا عظيما كبيرا ونجاة من كل غمّ، وظفرا بكل مطلوب، وذلك كقوله جلّ وعلا: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ، وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ، فَقَدْ فازَ [آل عمران ٣/ ١٨٥]. وذكر تكفير السيئات بعد الإدخال في الجنة، مع أنه يكون قبله، لأن الواو لا تقتضي الترتيب، ولأن الأصل الإدخال، والتكفير تابع.
عن جابر رضي اللَّه عنه قال: قال النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة».
وقد نصّ اللَّه تعالى على المؤمنات هنا مع أن أغلب الآيات يكون فيها خطاب الرجال شاملا للنساء، لئلا يتوهم أحد أن النساء لا يدخلن الجنات، لأن المرأة لا جهاد عليها. وهكذا في كل موضع يوهم اختصاص المؤمنين بالجزاء الموعود به، مع كون المؤمنات يشتركن معهم، ذكرهنّ اللَّه صريحا «١».
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ أي وليعذّب أهل النفاق وأهل الشرك بالهمّ والغمّ بسبب ما يشاهدونه من انتشار الإسلام وانتصار المسلمين وقهر المخالفين، وبما يصابون به من القهر والقتل والأسر في الدنيا، وبعذاب جهنم في الآخرة، لظنهم السيء بالله وحكمه وهو أن النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه يغلبون ويبادون، وأن كلمة الكفر تعلو كلمة الإسلام، كما حكى تعالى عنهم في آية أخرى وهي: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً [الفتح ٤٨/ ١٢]. وإنما قدم المنافقين على المشركين، لأن ضررهم أشد، وخطرهم أعظم.
(١) تفسير الرازي: ٢٨/ ٨٢
157
عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلَعَنَهُمْ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً أي أن ما يظنونه بالمؤمنين دائر عليهم لا خروج لهم منه، واقع بهم من قتل وأسر ونحوهما، وسخط اللَّه عليهم، وأعدّ لهم جهنم يصلونها، وساءت مرجعا ومنزلا يصيرون إليه، وبذلك جمع بين جزائهم وحالهم في الدنيا وفي العقبى.
ثم قال تعالى مؤكدا لقدرته على الانتقام من أعداء الإسلام من الكفرة والمنافقين:
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً أي لله في السموات والأرض جنود لا حصر لها من الملائكة والإنس والجنّ والشياطين وغيرها من كل ما فيه قوة ومقدرة على قهر أعدائه، وكان اللَّه وما يزال قويا لا يغلب، ولا يردّ بأسه، حكيما في صنعه وتدبيره لخلقه.
وفائدة إعادة هذه الآية بيان أن لله جنود الرحمة وجنود العذاب، فذكرهم أولا لبيان الرحمة بالمؤمنين، فقال تعالى: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ثم ذكرهم ثانيا لبيان إنزال العذاب بالكافرين. وعبّر أولا بقوله: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ليتناسب مع إنزال الرحمة، ثم عبّر بقوله: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً للإشارة إلى شدة العذاب، وذكر العزّة يتناسب مع العقاب والتهديد، وذكر العلم يتلاءم مع التدبير التام لأمر الخلق وتوزيع الرحمة، وأن إنزال السكينة وزيادة الإيمان وترتيب الفتح على ذلك، كله ثابت في علم اللَّه، منسجم مع الحكمة. وذكر جنود السموات والأرض قبل إدخال المؤمنين الجنة، لأن اللَّه تعالى ينزل جنود الرحمة، فيدخل المؤمنين مكرمين معظمين الجنة، ثم تكون لهم القربى والزلفى بقوله: وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً وذكر الجنود بعد تعذيب الكفار، وإعداد جهنم للدلالة على كون الغضب على الكفار والإبعاد والطرد من الرحمة أولا، فيدخلون جهنم، ثم يسلّط عليهم ملائكة العذاب وهم جنود اللَّه تعالى.
158
روي أنه لما جرى صلح الحديبية قال ابن أبيّ: أيظنّ محمد أنه إذا صالح أهل مكة أو فتحها لا يبقى له عدوّ، فأين فارس والروم؟ فبيّن اللَّه عزّ وجلّ أن جنود السموات والأرض أكثر من فارس والروم.
فقه الحياة أو الأحكام:
كان من فضائل صلح الحديبية وآثاره أربعة أشياء في حقّ كل من النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والمؤمنين والكفار.
أما فضائله الأربعة في حقّ النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فهي كما تقدّم: مغفرة الذنوب، واجتماع الملك والنّبوة، والهداية إلى الصراط المستقيم، والعزّة والمنعة.
وأما أفضاله الإلهية الأربعة في حقّ المؤمنين أصحاب النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فهي الطمأنينة والسكينة، وزيادة الإيمان، ودخول الجنان، وتكفير السيّئات.
وأما آثاره الأربعة في حقّ أهل النّفاق وأهل الشرك، فهي العذاب الأليم، وغضب اللَّه، واللعنة أو الطرد من الرحمة، ودخول جهنم.
ودلّ قوله تعالى: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ على أن الإيمان يزيد وينقص.
وقوله تعالى: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. في الموضعين تخويف وتهديد، فلو أراد تعالى إهلاك المنافقين والمشركين، لم يعجزه ذلك، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمّى.
159
وظائف النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وفائدة بعثته ومعنى بيعته في الحديبية
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٨ الى ١٠]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠)
الإعراب:
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً هذه المنصوبات الثلاثة منصوبة على الحال من كاف أَرْسَلْناكَ وهو العامل فيها، كما عمل في صاحب الحال.
يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ حال أو استئناف كلام جديد، وهو مؤكد قوله: إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ على طريق التخييل والتمثيل، ولا جارحة هناك.
البلاغة:
بين قوله: مُبَشِّراً ونَذِيراً وبين نَكَثَ وأَوْفى طباق.
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ استعارة تصريحية تبعية، شبّه المعاهدة على الجهاد بالأنفس بدفع السلع مقابل الأموال، وأستعير اسم المشبّه به للمشبّه، واشتقّ من البيع يبايعون، بمعنى يعاهدون على دفع أنفسهم في سبيل اللَّه، فوجه الشّبه اشتمال كل على المبادلة.
يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ استعارة مكنية، شبه اطّلاع اللَّه على مبايعتهم بملك وضع يده على أيدي رعيته، وطوى ذكر المشبّه، ورمز بشيء من لوازمه وهو اليد على طريق الاستعارة المكنية، أي أن اللَّه شبّه بالمبايع، وذكر اليد قرينة، وإسنادها له تخييل، وفي ذكر اليد مع أيدي الناس مشاكلة.
المفردات اللغوية:
شاهِداً على أمتك في القيامة بتبليغ الرسالة، لقوله تعالى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة ٢/ ١٤٣]. وَمُبَشِّراً بالثواب والجنة لمن أطاعك. وَنَذِيراً ومنذرا مخوفا
160
بالعقاب والنار لمن عصاك. لِتُؤْمِنُوا الخطاب للنّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والأمة، وقرئ بالياء ليؤمنوا أي الناس وكذا الفعلان بعده. وَتُعَزِّرُوهُ تنصروه وتؤيّدوه وتقوّوه بتقوية دينه ورسوله.
وَتُوَقِّرُوهُ تعظموه من التوقير: وهو الاحترام والتعظيم، والضمير فيهما لله تعالى- وهو الأولى- أو لرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم. وَتُسَبِّحُوهُ تنزّهوا اللَّه عما لا يليق به من الشرك والولد، من التسبيح، أو تصلوا له من السّبحة: وهي صلاة التطوع. بُكْرَةً وَأَصِيلًا غدوة وعشيا، أي أول النهار وآخره، أو دائما.
يُبايِعُونَكَ بيعة الرضوان يوم الحديبية، بايعوه على الموت في نصرته والدفاع عنه، أو على ألا يفرّوا من قريش، وأصل المبايعة أو البيع: مبادلة المال بالمال، ثم أطلق هنا على المعاهدة على الثبات في محاربة الكفار في مقابل ضمان الجنة لهم. وكانت المبايعة تحت شجرة بالحديبية (وهي قرية صغيرة بينها وبين مكة حوالي مرحلة، وهي في حدود الحرم). إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ لأن اللَّه هو المقصود بالبيعة، مثل: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء ٤/ ٨٠] أي أن المقصود من بيعة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وطاعته طاعة اللَّه وامتثال أوامره، والمراد بآية يُبايِعُونَ اللَّهَ: أي صفقتهم إنما يمضيها ويمنح الثمن فيها اللَّه عزّ وجلّ، وأن عقد الميثاق مع الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم كعقده مع اللَّه تعالى من غير تفاوت.
يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ مؤكد معنى البيعة، والمراد أنه تعالى مطّلع على مبايعتهم، فيجازيهم عليها، ونصرته إياهم أقوى وأعلى من نصرتهم إياه. واستعمال اليد هنا بمعنى الغلبة والنصرة ونعمة الهداية، فهو مجاز، واللَّه تعالى منزّه عن الجوارح وعن صفات الأجسام. ويعتقد السلف بوجود يد لله تعالى، لا كالأيدي، لأنه ليس كمثله شيء، وهذا أسلم، وإن كان المجاز أولى عقلا وأحكم رأيا، ونفوّض الأمر لله مع الإيمان بما ورد في القرآن والسّنّة الصحيحة.
نَكَثَ نقض العهد، وضدّه: أوفى بالعهد ووفّى به: إذا أتّمه. فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ يرجع وبال وضرر نقضه عليه. وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ وفّى في مبايعته، وقرأ الجمهور بكسر الهاء، وقراءة حفص بضم الهاء، لأنها هاء «هو» وهي مضمومة، فاستصحب ذلك، كما في «له، وضربه». أَجْراً عَظِيماً هو الجنة.
قال جابر بن عبد اللَّه: بايعنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تحت الشجرة على الموت، وعلى ألا نفرّ، فما نكث أحد منّا البيعة إلا جدّ بن قيس، وكان منافقا اختبأ تحت إبط ناقته، ولم يثر مع القوم.
المناسبة:
بعد بيان فضائل الفتح- صلح الحديبية على النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وعلى أصحابه
161
المؤمنين، أعقبه ببيان خصائصهما، فذكر وظائف الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم الثلاث (وفي الأحزاب: الخمس) ومدحه وأبان فائدة بعثته ليرتب عليه ذكر البيعة، فذكر بيعة الرضوان بين النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والمؤمنين، وأشاد بإخلاص المبايعين ونصرة دين اللَّه تعالى، وأوضح جزاء ناقض العهد، ومن أوفى بالعهد.
التفسير والبيان:
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً أي إننا أرسلناك يا محمد رسولا شاهدا تشهد على الخلق وعلى أمتك تبليغ الرسالة، ومبشّرا بالجنة المؤمنين المطيعين، ومنذرا مخوّفا بالنار الكافرين العصاة.
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتُعَزِّرُوهُ، وَتُوَقِّرُوهُ، وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي إنا أرسلناك لتؤمنوا بالله ورسوله- والخطاب لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ولأمته- وتقووا وتؤيدوا اللَّه بنصرة دينه ورسوله، وتعظّموه، وتنزّهوا اللَّه عما لا يليق به من الشرك والولد والصاحبة والتّشبيه بالمخلوقات، على الدوام، أو في الغداة والعشي، أي أول النهار وآخره، والمراد صلاة الفجر وصلاة الظهر والعصر، كما قال ابن عباس. والمراد بتعزير اللَّه: تعزير دينه ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
قال الزمخشري: والضمائر- في الأفعال الثلاثة غير الأول- لله عزّ وجلّ، ومن فرّق الضمائر فقد أبعد.
وبعد بيان أنه مرسل، قال اللَّه عزّ وجلّ تشريفا وتعظيما وتكريما ليبيّن أن من بايعه فقد بايع اللَّه تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ أي إن الذين يبايعونك أيها النّبي بيعة الرضوان بالحديبية تحت الشجرة على قتال قريش، إنما يبايعون اللَّه، أي يطيعونه ويعاهدونه على امتثال أوامره، لأنهم
162
باعوا أنفسهم من اللَّه بالجنة، ولأن طاعة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم هي طاعة اللَّه تعالى في الحقيقة.
ثم أكّد هذا المعنى بقوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ أي أن عقد الميثاق مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كعقده مع اللَّه سبحانه على السواء، وأن اللَّه هو حاضر معهم يسمع أقوالهم ويرى مكانهم ويعلم ضمائرهم وظواهرهم، وهو تعالى المبايع بواسطة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ، فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ، وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة ٩/ ١١١]. وأن نعمة اللَّه عليهم بالهداية فوق إجابة البيعة، كما قال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا، قُلْ: لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الحجرات ٤٩/ ١٧]. والخلاصة:
أن قوله: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ استئناف مؤكد للكلام السابق من أن مبايعة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم مبايعة لله تعالى.
فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ، فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً أي يتفرّع عن البيعة مع اللَّه أنه من نقض العهد مع النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإنما وبال ذلك وضرره على الناقض نفسه، لا يجاوزه إلى غيره.
ومن وفّى بالعهد وثبت عليه، ونفّذ ما عاهد عليه الرّسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في البيعة، فسيؤتيه اللَّه ثوابا جزيلا، ويدخله الجنة، كما قال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الفتح ٤٨/ ١٨].
وهذه البيعة كما تقدّم هي بيعة الرّضوان التي كانت تحت شجرة سمرة بالحديبية، وكان الصحابة رضي اللَّه عنهم الذين بايعوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يومئذ على الأصح ألفا وأربع مائة، وقيل: ثلاث مائة أو خمس مائة.
163
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
١- إن مهام النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المذكورة هنا هي ثلاث:
أ- الشهادة على الخلق وعلى أمته بالبلاغ، فهو يشهد على الناس بأن رسولهم وأنبياءهم بلغوهم رسالة اللَّه بما أخبره اللَّه به في القرآن، ويشهد على أمته بتبليغهم الرسالة الإلهية، وقد أعلن ذلك في حجة الوداع: «اللهم قد بلّغت، اللهم فاشهد».
ب- وتبشير من أطاعه بالجنة.
ج- وإنذار من عصاه بالنار.
والمذكور في سورة الأحزاب خمس: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً، وَمُبَشِّراً، وَنَذِيراً، وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، وَسِراجاً مُنِيراً [٤٥- ٤٦] وهذا لأن المقام في الأحزاب مقام ذكر الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، لأن أكثر السورة في ذكر الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وأحواله، ففصل في مهامه، واقتصر في سورة الفتح على الثلاث المتقدمة، ثم ذكر بعدئذ ما يدل على كونه داعيا وكونه سراجا في قوله: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ...
٢- إن الغاية من إرسال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم هو الوصول إلى الإيمان بالله تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، ونصرة دين اللَّه ورسوله، وتعظيم اللَّه وإجلاله، وتسبيحه بالقول وتنزيهه من كل قبيح على الدوام، أو في أول النهار وآخره، أو فعل.
الصلاة التي فيها التسبيح.
٣- إن الذين بايعوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالحديبية على قتال قريش ومناصرته فقد بايعوا اللَّه تعالى، فبيعتهم للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إنما هي بيعة اللَّه تعالى، كما قال تعالى:
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء ٤/ ٨٠].
164
واللَّه تعالى مطّلع على بيعتهم ومجازيهم خيرا، فيده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء، ويديه في المنّة عليهم بالهداية فوق أيديهم في الطاعة، ونعمة اللَّه عليهم فوق ما صنعوا من البيعة، وقوة اللَّه ونصرته فوق قوّتهم ونصرتهم.
ومذهب السلف رضوان اللَّه عليهم: الإيمان الظاهري بما يسمى يد اللَّه، مع تنزيه المولى عن مشابهة الحوادث وصفات الأجسام وإثبات الجوارح (الأعضاء) له، ويقولون: إن معرفة حقيقة اليد هنا فرع عن معرفة حقيقة الذات، ولن يستطيع المخلوق ذلك، فالأولى التفويض في معرفة الحقيقة لله تعالى، مع الإيمان الكامل بكل ما جاء في القرآن والسّنّة الثابتة. ومذهب الخلف: تأويل اليد بالقدرة أو القوة أو النصرة أو النعمة، على طريق الاستعارة بالكناية، كما تقدّم في البلاغة.
٤- إن الناكث ناقض العهد بعد البيعة يرجع ضرر النكث والنقض عليه، لأنه حرم نفسه الثواب وألزمها العقاب.
٥- وإن من أوفى بعهده الذي عاهد اللَّه تعالى عليه في البيعة، سيمنحه اللَّه تعالى في الآخرة ثوابا جزيلا، ويدخله الجنة.
أحوال المتخلفين عن الحديبية
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١١ الى ١٧]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧)
165
الإعراب:
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ أَنْ مخففة من الثقيلة، أي ظننتم أنهم لا يرجعون.
تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ تُقاتِلُونَهُمْ: حال مقدرة، ويُسْلِمُونَ: إما معطوف على تُقاتِلُونَهُمْ أو مستأنف، تقديره: أو هم يسلمون. وقرئ: أو يسلموا: بتقدير أن.
و «أو» بمعنى «إلا» وقيل بمعنى «حتى».
البلاغة:
بين الضر والنفع في قوله: إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً طباق.
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ إطناب بتكرار نفي الحرج والإثم عن أصحاب الأعذار للتأكيد.
166
المفردات اللغوية:
الْمُخَلَّفُونَ المتخلفون، جمع مخلّف: وهو المتروك في المكان خلف الخارجين عنه، والمراد بهم هنا قبائل حول المدينة من الأعراب هم أسلم وجهينة ومزينة وغفار وأشجع والدّيل، استنفرهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الحديبية ليخرجوا معه إلى مكة للعمرة، فتخلفوا، واعتذروا بالشغل في أموالهم وأهليهم، وإنما خلفهم الخذلان وضعف العقيدة والخوف من مقاتلة قريش إن صدّوهم. مِنَ الْأَعْرابِ قبائل من الأعراب سكان البوادي حول المدينة. شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا عن الخروج معك، إذ لم يكن لنا من يقوم بأشغالنا، وقرئ بالتشديد شَغَلَتْنا للتكثير، وهذا كذب منهم.
فَاسْتَغْفِرْ لَنا اللَّه من التخلف أو ترك الخروج معك، وطلب الاستغفار خبث منهم وإظهار أنهم مؤمنون عاصون، ومصانعة من غير توبة ولا ندم.
يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ هذا تكذيب من اللَّه تعالى لهم في الاعتذار والاستغفار، فهم يطلبون الاستغفار وغيره في الظاهر، وهم كاذبون في اعتذارهم. فَمَنْ يَمْلِكُ؟ استفهام بمعنى النفي، أي لا أحد يمنعكم من مشيئته وقضائه، والملك: إمساك الشيء بقوة وضبط.
ضَرًّا بفتح الضاد وضمها، والضر: الضرر اللاحق بالأهل والمال والنفس، كقتل وهزيمة وهزال وسوء حال وضياع. نَفْعاً النفع: ما يفيد من حفظ النفس والمال والأهل. بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي كان ولم يزل متصفا بذلك، فهو يعلم تخلفكم وقصدكم فيه، وبَلْ للانتقال من غرض إلى آخر.
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً لظنكم أن المشركين يستأصلونهم. ويَنْقَلِبَ يرجع، والأهلون: العشائر وذوو القرابة، جمع أهل، وقد يجمع على أهلات، مثل أرضات على أن أصله أهلة. وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ الظن السيء، وهو الظن المذكور. بُوراً جمع بائر، أي هلكى أو هالكين عند اللَّه بهذا الظن وفساد العقيدة وسوء النية.
فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً وضع الكافرين موضع الضمير إيذانا بأن من لم يجمع بين الإيمان بالله تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، فهو كافر مستوجب للسعير بكفره، والسعير: نار ملتهبة شديدة، وتنكيرها للتهويل، أو لأنها نار مخصوصة.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يدبره كيف يشاء. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ إذ لا وجوب عليه. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي ولم يزل متصفا بذلك، والغفران والرحمة من ذاته، جاء في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة: «سبقت رحمتي غضبي».
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ المذكورون. مَغانِمَ هي مغانم خيبر، فإنه عليه الصلاة والسلام رجع من الحديبية في ذي الحجة، من سنة ست، وأقام بالمدينة بقيتها وأوائل المحرم، ثم هاجم خيبر بمن شهد الحديبية بسبب اعتداءات اليهود المتكررة، ففتحها وغنم أموالا كثيرة، ثم خصها بأهل
167
الحديبية. ذَرُونا اتركونا. نَتَّبِعْكُمْ لنأخذ منها. يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ ويقرأ: كلم لله، أي يريدون أن يغيروا كلام اللَّه، وهو وعده لأهل الحديبية أن يعوضهم عن مغانم مكة مغانم خيبر، فهم يريدون الشركة في المغانم دون أن ينصروا دين اللَّه تعالى.
لَنْ تَتَّبِعُونا نفي في معنى النهي. كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ أي مثل ذلك قال اللَّه من قبل استعدادهم للخروج إلى خيبر، وقبل عودنا. بَلْ تَحْسُدُونَنا أي تحسدوننا أن نصيب معكم شيئا من الغنائم. لا يَفْقَهُونَ لا يفهمون. إِلَّا قَلِيلًا إلا فهما قليلا وهو فهمهم لأمور الدنيا دون الدين. ومعنى الإضراب الأول. بَلْ تَحْسُدُونَنا رد منهم أن يكون حكم اللَّه ألا يتبعوهم، وإثبات الحسد، والثاني: بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ رد من اللَّه تعالى لذلك، وإثبات لجهلهم بأمور الدين.
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ كرر ذكرهم بهذا الوصف مبالغة في الذم وإشعارا بشناعة التخلف. سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أي أصحاب بأس شديد أي قوة في القتال، وهم بنو حنيفة أصحاب اليمامة، أو غيرهم من ارتدوا بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أو فارس والروم. ولا دليل على التعيين. تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ أي يكون أحد الأمرين: إما المقاتلة أو الإسلام، لا غير.
فَإِنْ تُطِيعُوا في قتالهم يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً هو الغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة. وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ عن الحديبية. أَلِيماً مؤلما، لعظم جرمكم.
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ.. أي إثم وذنب في ترك الجهاد، ويلاحظ أنه تعالى لما أوعد على التخلف، نفى الحرج عن أصحاب الأعذار (الأعمى والأعرج والمريض) استثناء لهم من الوعيد.
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فصّل الوعد وأجمل في الوعيد مبالغة في الوعد لسبق رحمته. وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً هذا تعميم بعد تفصيل الوعد، إذ الترهيب هنا أنفع من الترغيب.
سبب نزول الآية (١٧) :
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى..: قال ابن عباس: لما نزلت: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ.. الآية، قال أهل الزّمانة: كيف بنا يا رسول اللَّه؟ فأنزل اللَّه: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ...
168
المناسبة:
بعد بيان حال المنافقين، بيّن اللَّه تعالى حال المتخلفين، وهم قوم من الأعراب امتنعوا عن الخروج مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، لظنهم أنه يهزم، وقد ذكر تعالى أحوالا ثلاثا لهم: هي الاعتذار عن التخلف عن الحديبية بانشغالهم في الأموال والأهل، وطلب المشاركة في وقعة خيبر وغنائمها، ودعوتهم إلى قتال قوم أولي بأس شديد، ثم استثنى تعالى أصحاب الأعذار لترك الجهاد.
التفسير والبيان:
الاعتذار عن التخلف: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ: شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا، فَاسْتَغْفِرْ لَنا أخبر تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم أثناء عودته من الحديبية بما يعتذر به المخلفون الذين اختاروا المقام في أهليهم وشغلهم، وتركوا السير مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم حين خرج إلى مكة معتمرا عام الحديبية، وهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة وهم أسلم وجهينة ومزينة وغفار وأشجع والدّيل، وإنما قال:
الْمُخَلَّفُونَ لأن اللَّه خلّفهم عن صحبة نبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم. والمخلّف: المتروك. والآية من إعجاز القرآن، لإخباره عن الغيب، وقد وقع الأمر مطابقا لخبر القرآن.
ولقد اعتذروا بشغلهم بالأموال والأهل، وسألوا أن يستغفر لهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، ليغفر اللَّه لهم ما وقع منهم من التخلف عنه بسبب الانشغال، لا بسبب العصيان ومخالفة الأمر. وذلك في الحقيقة قول منهم، لا على سبيل الاعتقاد، بل على وجه التقية والمصانعة، لذا رد اللَّه عليهم وكذّبهم بقوله:
يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ أي إنهم ليسوا صادقين في الاعتذار، فهم يتصنعون ذلك بظواهر ألسنتهم، أما في أعماق قلوبهم فهم يعتقدون أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم وصحبه سينهزمون، ويخافون من مقاتلة قريش وثقيف
169
وكنانة والقبائل المجاورة لمكة، وهم الأحابيش، بدليل قوله تعالى: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً.
قُلْ: فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً، بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي قل أيها النبي لهم: فمن يمنعكم مما أراده اللَّه بكم من خير أو شر؟ أي لا يقدر أحد أن يرد ما أراده اللَّه فيكم، وإن صانعتمونا ونافقتمونا، سواء بإنزال ما يضركم من ضياع الأموال وهلاك الأهل، أو بتحقيق النفع لكم من نصر وغنيمة.
بل في الحقيقة، إن تخلفكم ليس لما زعمتم، فإن اللَّه خبير بجميع ما تعملونه من الأعمال، وقد علم أن تخلفكم لم يكن للانشغال بالمال والأهل، بل للشك والنفاق والخذلان وسوء الاعتقاد والخوف من قريش وأعوانهم وما خطر لكم من الظنون الفاسدة، الناشئة عن عدم الثقة بالله تعالى، ثم افتضح شأنهم، فقال تعالى:
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً، وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ، وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ، وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً أي لم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا عاص، بل تخلف نفاق، وقد اعتقدتم أن العدو يقتل ويستأصل المؤمنين نهائيا، فلا يرجع أحد منهم إلى أهله إلى الأبد، وزين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم، فقبلتموه، وظننتم أن اللَّه سبحانه لا ينصر رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكنتم قوما هالكين عند اللَّه تعالى، وصرتم بما فعلتم لا تصلحون لشيء من الخير، تستحقون شديد العقاب.
ثم أخبر اللَّه تعالى عن عقاب الكفار، فقال:
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً أي من لم يصدّق بالله تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، ولم يخلص العمل في الظاهر والباطن لله، كما
170
صنع هؤلاء المخلفون، فجزاؤهم ما أعده اللَّه لهم من عذاب السعير والنار الشديدة الالتهاب جزاء الكفر.
ثم أبان تعالى مدى قدرته الشاملة لكل شيء، فقال:
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي لله سلطة التصرف المطلق في أهل السموات والأرض، يتصرف فيهم كيف يشاء، لا رادّ لحكمه، ولا معقب لقضائه، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه.
يغفر لمن يشاء أن يغفر له ذنوبه، ويعذب بالنار من يريد أن يعذبه على كفره ومعصيته، واللَّه ما يزال غفورا لذنوب عباده التائبين، رحيما يرحم جميع خلقه، ويخص بمغفرته ورحمته من يشاء من عباده.
وفي هذا حث عام على الإصلاح، وترغيب لهؤلاء المتخلفين وأمثالهم من المقصرين بالتوبة والإنابة والرجوع إلى أمر اللَّه تعالى وطاعة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وفي الآية أيضا بيان واضح أنه تعالى يغفر للمبايعين بمشيئته، ويعذب الآخرين بمشيئته، وغفرانه ورحمته أعم وأشمل، وأتم وأكمل، وأن عظيم الملك يكون أجره في غاية السعة، وعذابه وعقوبته في غاية النكال والألم.
طلب المشاركة في وقعة خيبر:
ثم أوضح اللَّه تعالى كذب المتخلفين في ادعائهم الانشغال بالمال والأهل، بدليل طلبهم السير مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى خيبر، لما توقعوا من مغانم يأخذونها، فقال:
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها: ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ أي سيقول هؤلاء الأعراب الذين تخلفوا عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في عمرة الحديبية، إذا انطلقتم أيها المسلمون إلى مغانم خيبر لتأخذوها وتحوزوها: اتركونا نتبعكم في
171
السير، ونشهد معكم غزو خيبر، لأنهم علموا أن اللَّه وعد المسلمين فتح خيبر وتخصيص من شهد الحديبية بغنائمها.
والخلاصة: أنه لو كان اعتذارهم بالانشغال صحيحا، لما طلبوا السير مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى خيبر.
يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ أي يريدون تبديل وعود اللَّه لأهل الحديبية بتخصيصهم بمغانم خيبر، فقد أمر اللَّه رسوله ألا يسير معه إلى خيبر أحد من غير أهل الحديبية، ووعد أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم، لا يشاركهم فيها غيرهم من الأعراب المتخلفين، فلا يقع غير ذلك شرعا ولا قدرا.
ثم صدر قرار المنع صراحة، فقال تعالى:
قُلْ: لَنْ تَتَّبِعُونا، كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ أي قل لهم أيها الرسول صراحة: لن تسيروا معنا في خيبر، وهكذا أخبرنا اللَّه تعالى من قبل رجوعنا من الحديبية ووصولنا إلى المدينة: أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية خاصة، ليس لغيرهم فيها نصيب. والخلاصة: وعد اللَّه أهل الحديبية قبل سؤالكم الخروج معهم.
وهذا نحو قوله تعالى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ، فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ، فَقُلْ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً، وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا، إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ؟؟ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ [التوبة ٩/ ٨٣] «١».
ثم أخبر اللَّه تعالى عن ردهم على ذلك بقوله:
فَسَيَقُولُونَ: بَلْ تَحْسُدُونَنا أي فسيقول المخلفون عند سماع هذا القول:
(١) وهذا لمجرد إيراد التشابه في الحكم، وإن كانت هذه الآية في براءة نزلت في غزوة تبوك، وهي متأخرة عن عمرة الحديبية. [.....]
172
بل إنكم تحسدوننا في المشاركة في الغنيمة، والحسد لا غيره هو الذي يمنعكم من الإذن لنا في الخروج معكم.
فأجابهم اللَّه تعالى بقوله:
بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي ليس الأمر كما زعموا أمر حسد منكم على أخذهم شيئا من الغنيمة، بل لأنهم لا يفهمون إلا فهما قليلا، والمراد:
لا يفهمون شيئا من أمور الدين وهو جعل القتال لله تعالى، وإصلاح النية له، وصدق الإيمان به، وإن كانوا يعلمون ويفهمون أمور الدنيا.
وهذا دليل على أن محاولتهم نقض حكم اللَّه تعالى، واتهام المؤمنين بالحسد صادر عن جهل وقلة تدبر ووعي، وإنهم قوم ماديون لا يعرفون إلا الدنيا.
وقد دعوتهم إلى القتال باستثناء أصحاب الأعذار إن كانوا صادقين في طلب المشاركة مع المؤمنين.
ثم أبان اللَّه تعالى أن ميدان القتال متسع ما يزال مفتوحا إن أرادوا إثبات إخلاصهم مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم والذين آمنوا، فقال:
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ أي قل أيها النبي لهؤلاء المخلفين من الأعراب إن أرادوا الانتماء إلى الصف الإسلامي بحق وصدق: ستندبون إلى قتال قوم أولي شدة وصلابة ونجدة، تخيرونهم بين أحد أمرين: إما المقاتلة أو الإسلام لا ثالث لهما، وهذا حكم الكفار الذين لا عهد بينهم وبين المسلمين بعقد الجزية ونحوها، ويشمل مشركي العرب والمرتدين وغير العرب.
أما المفسرون فذكروا أربعة أقوال في تعيين أولئك القوم وهي:
أ- هوازن وغطفان يوم حنين، وكان قتالهم بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة.
173
ب- ثقيف.
ج- بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة، وكان قتالهم بعد ذلك أيام أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه. وأكثر المفسرين على أن القوم هم بنو حنيفة وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر، لأنه تعالى قال: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ومشركو العرب والمرتدون هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، ومن عداهم من مشركي العجم وأهل الكتاب والمجوس تقبل منهم الجزية عند أبي حنيفة. وأما الشافعي فعنده لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس دون مشركي العجم والعرب.
د- أهل فارس والروم وأهل الأوثان.
قال ابن جرير: إنه لم يقم دليل من نقل ولا من عقل على تعيين هؤلاء القوم، فلندع الأمر على إجماله دون حاجة إلى التعيين.
ثم وعدهم اللَّه تعالى بالثواب إن أطاعوا، وأوعدهم بالعذاب إن عصوا، فقال:
فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ، يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً أي فإن تستجيبوا، وتنفروا في الجهاد، وتؤدوا ما عليكم، يعطكم اللَّه ثوابا حسنا، وهو الغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة.
وإن تعرضوا كما أعرضتم من قبل زمن الحديبية، حيث دعيتم فتخلفتم، يعذبكم عذابا شديدا مؤلما بالقتل والأسر والقهر في الدنيا، وبعذاب النار في الآخرة، لعظم جرمكم.
ثم استثنى اللَّه تعالى أصحاب الأعذار من فرضية الجهاد ومن الوعيد على التخلف، فقال:
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ أي ليس على هؤلاء المعذورين بهذه الأعذار وهي العمى والعرج المستمر
174
والمرض المزمن، أو الطارئ أياما حتى يبرأ إثم وذنب في التخلف عن الجهاد، لعدم استطاعتهم. وقدم الأعمى على الأعرج، لأن عذره دائم مستمر.
قال مقاتل: هم أهل الزمانة الذين تخلفوا عن الحديبية، وقد عذرهم.
ثم رغّب سبحانه وتعالى في الجهاد وطاعة اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال:
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً أي يطع اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بإخلاص، فيجاهد مع المؤمنين لإعلاء كلمة اللَّه تعالى والدفاع عن دينه، يدخله اللَّه في الآخرة جنات تجري من تحت قصورها الأنهار تتدفق عذوبة وتتلألأ بياضا، ومن يعرض عن الطاعة، ويعص اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، فيتخلف عن القتال، يعذبه اللَّه عذابا شديد الألم، في الدنيا بالمذلة، وفي الآخرة بالنار.
وبالرغم من أن طاعة كل واحد من اللَّه والرسول طاعة الآخر، فإنه جمع بينهما بيانا لطاعة اللَّه غير المرئي وغير المسموع كلامه، فقال: طاعته عز وجل في طاعة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكلامه سبحانه يسمع من رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات الإخبار عن أحوال ثلاث للمتخلفين:
الحال الأولى- اعتذارهم بالأموال والأهل: وهذا يدل على الأمور التالية:
١- إن اعتذار جماعة من الأعراب كانوا حول المدينة كان بعذر سطحي واه هو الانشغال بالأموال والأهل، أي ليس لهم من يقوم بهم، بعد أن استنفرهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ليخرجوا معه حذرا من قريش، وأحرم بعمرة وساق معه الهدي (شاة ونحوها) ليعلم الناس أنه لا يريد حربا، فتثاقلوا عنه واعتلوا بالشغل، فنزلت الآية في شأنهم، وسموا بالمخلّفين أي المتروكين.
175
وأحسوا بضعف موقفهم، فقالوا لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: فَاسْتَغْفِرْ لَنا يعني فنحن مع إقامة العذر معترفون بالإساءة، فاستغفر لنا واعف عنا في أمر الخروج.
وهذا إن قبل مع الناس فلا يقبل مع اللَّه تعالى المطلع على حقائق الأمور، لذا دل هذا الموقف على قصور النظر، فضلا عن سوء الاعتقاد والجهل.
٢- لقد فضحهم اللَّه تعالى أيضا، وكذبهم بأنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وهذا هو النفاق المحض، فهم قوم منافقون، ينطبق عليهم العذاب المذكور في الآية السابقة: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ.. [٦].
٣- وردّ اللَّه تعالى عليهم أيضا حين ظنوا أن التخلف عن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم يدفع عنهم الضّر، ويعجل لهم النفع. والضّر: اسم لما ينال الإنسان من الهزال وسوء الحال. والنفع: ضد الضر.
ومضمون الرد بإيجاز: لن يستطيع أحد دفع ما أراده اللَّه في عباده من خير أو شر.
٤- وزيّف اللَّه تعالى مدّعاهم، وافتضح شأنهم، وأبان سوء ظنهم حين قالوا: إن محمدا وأصحابه أكلة رأس «١» لا يرجعون، وزعموا أن الرسول والمؤمنين سيقتلون ويستأصلون، ولن يعودوا إلى أهليهم أبدا، لأنهم قالوا: أهل مكة يقاتلون عن باب المدينة، فكيف يكون حالهم إذا دخل المسلمون بلادهم، وأحاطوا بهم؟! وزيّن الشيطان النفاق في قلوبهم، وظنوا ظنا سيئا أن اللَّه تعالى لا ينصر رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وبذلك جمعوا بين النفاق وسوء الظن وسوء التقدير.
(١) أي هم قليل يشبعهم رأس واحد.
176
لكل هذا أخبر اللَّه تعالى عن حكمه فيهم وهو أنهم قوم بور، أي هلكى فاسدون لا يصلحون لشيء من الخير.
٥- ثم أوعدهم اللَّه تعالى بعذاب السعير، وأبان أنهم كفروا بالنفاق.
٦- وأخبر تعالى عن قدرته الفائقة بتصرفه في أهل السموات والأرض، وأنه غني عن عباده، وإنما ابتلاهم بالتكليف بالجهاد وغيره ليثيب من آمن، ويعاقب من كفر وعصى.
الحال الثانية- طلب المسير إلى خيبر: وهذا يشير إلى ما يأتي:
١- إنهم قوم أغبياء جهلة كذبة: فكيف اعتذروا سابقا بالانشغال بالأموال والأهل، والآن يطلبون المشاركة في السير إلى خيبر؟! ٢- إنهم قوم ماديون: يفرون من مواطن الخوف والخطر واحتمال القتال، ويحرصون على أخذ غنائم الحرب حينما يحسون بضعف الأعداء وهم يهود خيبر.
٣- إنهم قوم كفرة: يريدون أن يغيروا كلام اللَّه وحكمه، وقدره ووعده الذي وعد لأهل الحديبية، لأن اللَّه تعالى جعل لهم غنائم خيبر، عوضا عن فتح مكة إذا رجعوا من الحديبية على صلح.
٤- إنهم جماعة يستحقون النبذ والعزل المدني: لذا حكم اللَّه تعالى بمنعهم من الخروج مع المسلمين إلى خيبر.
٥- إنهم مرضى القلوب لانطوائها على الحقد والحسد، ومن حقد على الآخرين أو حسدهم ظن أن الآخرين مثله، لذا حاولوا اتهام المسلمين زورا وبهتانا بأنهم يحسدونهم على أخذ شيء من الغنائم. وربما فهموا ذلك من
قول رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن خرجتم لم أمنعكم، إلا أنه لا سهم لكم»
فقالوا: هذا حسد،
177
فقال المسلمون: قد أخبرنا اللَّه في الحديبية بما سيقولونه، وهو قوله تعالى:
فَسَيَقُولُونَ: بَلْ تَحْسُدُونَنا.
٦- إنهم قوم لا يفهمون: فلا يعلمون من الدين شيئا أو قليلا بسبب ترك القتال، وإن كانوا يعلمون أمور الدنيا.
الحال الثالثة- حقل التجربة بالمعارك القادمة: وهذا يدل على ما يأتي:
١- أخبر تعالى زيادة في تكذيبهم وافتضاح أمرهم أن ميدان القتال مفتوح، فإن كانوا مسلمين صادقين فليجربوا أنفسهم في ملاقاة أقوام ذوي بأس شديد، ومراس ونجدة.
٢- فتح اللَّه تعالى باب الأمل أمامهم، وأفادهم بأنهم إن أطاعوا أمر اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وجاهدوا بحق يعطهم الغنيمة والنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة، وإن أعرضوا في المستقبل عن الجهاد كما أعرضوا في الماضي عام الحديبية، يعذبهم بعذاب مؤلم موجع وهو عذاب النار.
وقد استدل بعض المفسرين بآية: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ على صحة إمامة أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، لأن أبا بكر دعاهم إلى قتال بني حنيفة، وعمر دعاهم إلى قتال فارس والروم.
واستدلوا بآية تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ على حكم من لا تؤخذ منهم الجزية، وهم مشركو العرب والمرتدون، فالخيار مقيد فيهم بأمرين: إما المقاتلة وإما الإسلام، لا ثالث لهما.
واستدل الفقهاء بآية لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ.. على إعفاء أصحاب الأعذار من فريضة الجهاد، وهم الأعمى والأعرج عرجا دائما، والمريض المزمن أو المريض مرضا مؤقتا يمنع من الخروج من المنزل إلى أن يبرأ. واقتصر النص القرآني
178
على الأصناف الثلاثة، لأن العذر إما بسبب اختلال القوة أو إخلال في عضو، فيقاس عليهما ما في معناهما، كالفقر الذي يمنع من إحضار السلاح حال التطوع بالجهاد ودون تقديمه من الدولة، والاشتغال بذوي الحاجة والضعف كطفل ومريض، ونحو ذلك مما يعرف في الفقه. وقد ضبط الفقهاء الأعذار المانعة من الجهاد بأن المانع إما عجز حسي أو عجز حكمي.
فمن الأول: الصغر والجنون والأنوثة والمرض المانع من الركوب للقتال، والعرج البيّن، وفقد الصبر، وعدم وجدان السلاح وآلات القتال.
ومن الثاني: الرق والدّين الحالّ بلا إذن رب الدين، وعدم إذن أحد الأبوين المسلمين.
ودل قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.. على الحث على الجهاد والترهيب من ترك القتال، فإن من أطاع اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وجاهد في سبيل اللَّه، أدخله اللَّه جنات تجري من تحتها الأنهار، ومن أعرض عن المشاركة في الجهاد، عذّبه عذابا شديد الألم، لعظم جرمه، وإساءته للمجتمع الإسلامي.
فإن الجهاد سبيل لدحر العدوان، وطرد المعتدين، والتخلص من أذاهم، وهو طريق العزة والكرامة، وصون الاستقلال، وحماية حرمات البلاد والأوطان، والحفاظ على كيان الأمة، ولو لاه لذابت الأمم، وزالت الأديان والقيم، وانصهرت الجماعات، ولحق الذل والهوان والاستعباد بالشعوب إلى الأبد، أو إلى أن تصحو وتستيقظ من رقادها وسباتها، وتنفض الذل عن هاماتها.
لذا جعله اللَّه فريضة على المؤمنين، وإن كان مكروها على النفس، ليعلم الصادق في إيمانه، الصابر على تحمل مشاق التكاليف، واختبار أعمال الناس حسنات أو سيئات، فيجازيهم بها.
179
وهو ذروة سنام الإسلام، وسبيل إلى جنان الخلد، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وهم في درجة الأنبياء والصدّيقين، وحسن أولئك رفيقا.
جزاء أهل بيعة الرضوان
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١٨ الى ١٩]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩)
البلاغة:
إِذْ يُبايِعُونَكَ التعبير بصيغة المضارع المفيد للحال عن الماضي لاستحضار صورة المبايعة.
المفردات اللغوية:
رَضِيَ الرضى: ما يقابل السخط عَنِ الْمُؤْمِنِينَ أهل الحديبية، ورضي اللَّه عنهم لمبايعتهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكان عددهم على الأصح ألفا وأربع مائة إِذْ يُبايِعُونَكَ يبايعون الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم على أن يقاتلوا قريشا، ولا يفرّون منهم، ولا يخشون الموت تَحْتَ الشَّجَرَةِ هي سمرة (وهي شجرة الطلح أو السنط) وَأَثابَهُمْ كافأهم على عملهم.
فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ علم اللَّه ما في قلوبهم من الصدق والوفاء وإخلاص البيعة فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ الطمأنينة والأمن وسكون النفس بالتشجيع أو الصلح وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً جازاهم على بيعة الرضوان بفتح خيبر، بعد انصرافهم من الحديبية.
وَمَغانِمَ كَثِيرَةً أي وأثابهم أيضا مغانم خيبر يأخذونها، وكانت خيبر ذات بساتين نخيل ومزارع، قسمها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بين أهل الحديبية المقاتلة، فأعطى الفارس سهمين، والراجل سهما عَزِيزاً حَكِيماً أي كان اللَّه وما يزال غالبا قويا، مراعيا مقتضى الحكمة في تدبير خلقه.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال:
180
«بينا نحن قائلون «١»، إذ نادى منادي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، يا أيها الناس، البيعة البيعة، نزل روح القدس، فسرنا إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو تحت شجرة سمرة، فبايعناه، فأنزل اللَّه: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ الآية.
فبايع لعثمان بإحدى يديه على الأخرى، فقال الناس: هنيئا لك لابن عفان، يطوف بالبيت ونحن هنا،
فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لو مكث كذا وكذا سنة، ما طاف حتى أطوف».
وروي أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم لما نزل الحديبية بعث حراش بن أمية الخزاعي إلى أهل مكة، فهمّوا به، فمنعه الأحابيش، فرجع، فبعث عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه، فحبسوه، فأرجف بقتله، فدعا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أصحابه، وكانوا ألفا وثلث مائة أو أربع مائة أو خمس مائة، وبايعهم على أن يقاتلوا قريشا ولا يفرّوا منهم، وكان جالسا تحت سمرة أو سدرة.
وأخرج الشيخان عن يزيد بن عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع: «على أي شيء بايعتم رسول اللَّه؟ قال: على الموت».
وأخرج مسلم عن معقل بن يسار قال: «لقد رأيتني يوم الشجرة- التي كانت تحتها بيعة الرضوان بالحديبية- والنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يبايع الناس، وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة، قال: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على ألا نفرّ».
ووفّق العلماء بين الروايتين، فجماعة كانت مع سلمة، وجماعة مع معقل.
وأرى أن الغاية من الحديثين واحدة هي الثبات في مواجهة قريش، لذا قال جابر بن عبد اللَّه: بايعنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تحت الشجرة على الموت، وعلى ألا
(١) نائمون نوم القيلولة.
181
نفرّ، فما نكث أحد منا البيعة إلا جدّ بن قيس، وكان منافقا اختبأ تحت إبط ناقته، ولم يثر مع القوم. ويلاحظ أن جابر جمع بين الروايتين.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن جابر أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة».
المناسبة:
بعد أن بيّن اللَّه تعالى حال المخلفين عام الحديبية، عاد إلى بيان حال الذين بايعوا تحت الشجرة، وذكروا فيما تقدم في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ.. فأبان جزاءهم في الدنيا والآخرة، وهو الظفر بغنائم كثيرة من خيبر، وأخبر اللَّه عن رضاه عن أهل تلك البيعة في الآخرة، لصدق إيمانهم، وإخلاصهم في بيعتهم، وإنزال السكينة (الطمأنينة) عليهم وتثبيت قلوبهم وأقدامهم. والخلاصة: لما ذكر تعالى حال من تخلف عن السفر مع الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم ذكر حال المؤمنين الخلّص الذين سافروا معه. والآية دالة على رضى اللَّه تعالى عنهم، ولذا سميت بيعة الرضوان.
التفسير والبيان:
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ أي تاللَّه لقد رضي اللَّه عن المؤمنين المخلصين الذين بايعوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تحت الشجرة بيعة الرضوان، بالحديبية، على أن يقاتلوا قريشا ولا يفروا، وروي أنه بايعهم على الموت، وكان عددهم في الأصح ألفا وأربع مائة. وسميت بيعة الرضوان، لقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ...
روى البخاري أن عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنه قال: انطلقت حاجا، فمررت بقوم يصلّون، فقلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة
182
حيث بايع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بيعة الرضوان، فأتيت سعيد بن المسيب، فأخبرته، فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان ممن بايع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم تحت الشجرة، قال:
فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها، فلم نقدر عليها، فقال سعيد: إن أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم لم يعلموها، وعلمتموها أنتم، فأنتم أعلم!! وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن نافع قال: بلغ عمر أن أناسا يأتون الشجرة التي بويع تحتها، فأمر بها، فقطعت.
فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً أي فعلم اللَّه ما في قلوبهم من الإيمان والصدق، والإخلاص والوفاء، والسمع والطاعة، فأنزل الطمأنينة وسكون النفس عليهم، وجازاهم فتح خيبر بعد انصرافهم من الحديبية، ثم أتبعه بفتح مكة وفتح سائر البلاد والأقاليم.
وفاء فَعَلِمَ للتعقيب، والفعل متعلق بقوله: إِذْ يُبايِعُونَكَ..
وبما أن العلم بما في القلوب قبل الرضى، فيكون المراد كما يقول القائل: فرحت أمس إذ كلّمت زيدا، فقام إلي، أو إذ دخلت عليه فأكرمني، فيكون الفرح بعد الإكرام ترتيبا في المعنى، والآية كذلك إشارة إلى أن الرضا لم يكن عند المبايعة فحسب، بل عند المبايعة التي كان معها علم اللَّه بصدقهم. وفاء فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ.. للتعقيب الواقعي، فإنه تعالى رضي عنهم، فأنزل السكينة عليهم.
وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً أي: وأثابهم أيضا مغانم كثيرة، وهي غنائم خيبر، وكان توزيع الغنائم تعويضا لهم عما تأملوه من غنائم أهل مكة، ومخصصا بأهل بيعة الرضوان.
وكان اللَّه وما يزال غالبا كامل القدرة، مدبرا أمور خلقه على وفق الحكمة والسداد، وقد حقق لأهل بيعة الرضوان العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة.
183
فقه الحياة أو الأحكام:
جازى اللَّه تعالى أهل بيعة الرضوان بجزاءين: مادي ومعنوي، أما المعنوي: فهو إسباغ الرضى الإلهي عليهم، وإنزال السكينة والطمأنينة على قلوبهم، بسبب ما عمله في نفوسهم من الصدق والوفاء، والسمع والطاعة.
وأما الجزاء المادي: فهو فتح خيبر أو فتح مكة، وغنائم خيبر وأموالها، فقسمها عليهم، وكانت خيبر ذات عقار وأموال، وكانت بين الحديبية ومكة، أو غنائم فارس والروم.
مغانم وفتوحات ونعم كثيرة أخرى للمؤمنين
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٢٠ الى ٢٤]
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤)
الإعراب:
وَلِتَكُونَ أي المعجلة، وهو عطف على مقدر، أي لتشكروه.
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها أُخْرى: في موضع نصب بالعطف على مَغانِمَ وتقديره: وعدكم ملك مغانم كثيرة وملك أخرى، لأن المفعول الثاني وهو: مَغانِمَ لا يكون إلا
184
منصوبا، لأن الأعيان لا يقع الوعد عليها، إنما يقع على تملكها وحيازتها. ويصح أن تكون مبتدأ، ولَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها: صفة لها، وجاز الابتداء بها لكونها موصوفة، وقَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها:
خبر المبتدأ.
سُنَّةَ اللَّهِ مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله، أي سن اللَّه ذلك سنة.
البلاغة:
لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ كناية عن الهزيمة، لأن المنهزم يدير ظهره للعدو عند الهرب.
المفردات اللغوية:
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً هي ما وعد به المؤمنون إلى يوم القيامة إثر الفتوحات فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ أي غنائم خيبر وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أيدي قريش بالصلح، وأيدي أهل خيبر وحلفائهم من بني أسد وغطفان، وأيدي اليهود عن المدينة إذ همّوا بعيالكم، بعد خروج الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم منها إلى الحديبية، بأن قذف في قلوبهم الرعب وَلِتَكُونَ أي الغنائم المعجلة آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي أمارة للمؤمنين في نصرهم يعرفون بها صدق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في وعدهم فتح خيبر والمغانم وغير ذلك، وحراسة اللَّه لهم في غيبتهم ومشهدهم، وحفظ كيان المؤمنين الآتين بعدهم ما داموا على الاستقامة وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً يوفقكم ويرشدكم إلى الثقة بفضل اللَّه والتوكل عليه في كل الأمور.
وَأُخْرى أي ومغانم أخرى هي مغانم فارس والروم لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها الآن، لما تتطلب من الإعداد الأقوى قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها علم أنها ستكون لكم، وقد أعدها لكم وغنمكوها وأظهركم عليها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً أي ولم يزل متصفا بذلك، لأن قدرته ذاتية لا تختص بشيء دون شيء.
وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالحديبية لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ لهربوا وانهزموا ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا حارسا حاميا يحرسهم وَلا نَصِيراً معينا ينصرهم. سُنَّةَ اللَّهِ حكم اللَّه وقانونه القديم فيمن مضى من الأمم غلبة أنبيائه، ونصر المؤمنين، وهزيمة الكافرين، كما قال: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة ٥٨/ ٢١] أي سنّ اللَّه ذلك سنة ثابتة دائمة وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا تغييرا.
كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أيدي كفار مكة بِبَطْنِ مَكَّةَ في داخل مكة بالحديبية أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أظهركم عليهم وجعلكم متغلبين عليهم، فإن ثمانين منهم طافوا بعسكركم ليصيبوا منكم، فأخذوا وأتي بهم إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فعفا عنهم، وخلّى سبيلهم، فكان ذلك سبب الصلح وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً أي ولم يزل مطلعا على جميع الأمور.
185
سبب النزول: نزول الآية (٢٤) :
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ..: أخرج مسلم والترمذي والنسائي عن أنس قال: لما كان يوم الحديبية هبط على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه ثمانون رجلا في السلاح من جبل التنعيم «١»، يريدون غرّة «٢» رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأخذوا، فأعتقهم، فأنزل اللَّه: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ الآية.
وأخرج مسلم ونحوه من حديث سلمة بن الأكوع، وكذا أحمد والنسائي نحوه من حديث عبد اللَّه بن مغفل المزني، وابن إسحاق نحوه من حديث ابن عباس.
وحديث أحمد عن عبد اللَّه بن مغفل المزني رضي اللَّه عنهما هو: قال: «كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في أصل الشجرة التي قال اللَّه في القرآن، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وكان علي بن أبي طالب وسهيل بن عمرو بين يديه، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لعلي رضي اللَّه عنه: اكتب بسم اللَّه الرحمن الرحيم، فأخذ سهيل بيده وقال: ما نعرف الرحمن الرحيم، اكتب في قضيتنا ما نعرف، قال: اكتب باسمك اللهم.
وكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أهل مكة، فأمسك سهيل بن عمرو بيده، وقال: لقد ظلمناك إن كنت رسوله، اكتب في قضيتنا ما نعرف، فقال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللَّه.
فبينا نحن كذلك، إذ خرج علينا ثلاثون شابّا، عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا، فدعا عليهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأخذ اللَّه بأبصارهم، فقمنا إليهم
(١) التنعيم: موضع في الحل بين مكة وسرف.
(٢) الغرّة: الغفلة، أي يريدون أن يصادفوا منه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن أصحابه غفلة من التأهب لهم.
186
فأخذناهم، فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: هل جئتم في عهد أحد؟ وهل جعل لكم أحد أمانا؟ فقالوا: لا، فخلّى سبيلهم، فأنزل اللَّه تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ، وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ، بِبَطْنِ مَكَّةَ، مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ الآية.
المناسبة:
بعد أن وعد اللَّه تعالى أهل الحديبية بمغانم خيبر، أردفه بذكر نعم كثيرة أخرى:
أولها- أنّ ما أتاهم من الفتح والمغانم ليس هو كل الثواب، بل وعدهم مغانم كثيرة من غير تعيين، وكل ما غنموه كان منها، واللَّه كان عالما بها.
وثانيها- وعدهم بغنائم هوازن وفارس والروم وغيرها من البلاد التي ستفتح.
وثالثها- الوعد بنصر المؤمنين وخذلان الكافرين، وتلك سنّة اللَّه القديمة.
ورابعها- امتنان اللَّه على عباده المؤمنين بكفّ أيدي المشركين عنهم في الحديبية.
التفسير والبيان:
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها، فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ، وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ، وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي وعدكم اللَّه أيها المؤمنون مغانم كثيرة من المشركين والكفار على ممرّ الدهر إلى يوم القيامة، ولكن عجّل لكم غنائم خيبر، وكفّ أيدي قريش عنكم يوم الحديبية بالصلح، وأيدي اليهود أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان عن قتالكم، وقذف في قلوبهم الرعب، فلم ينلكم سوء مما أضمره أعداؤكم لكم من المحاربة والقتال.
187
كل ذلك لتشكروه، ولتكون تلك النعم علامة للمؤمنين يعلمون بها صدق رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في جميع ما يعدهم به، وأن اللَّه حافظهم وناصرهم على سائر الأعداء، مع قلة العدد، وليزيدكم بتلك الآية أو العلامة هدى، أو يثبّتكم على الهداية إلى طريق الحقّ، والانقياد لأمر اللَّه تعالى وطاعة رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
- وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً أي وعدكم اللَّه غنائم أخرى وفتوحات أخرى غير صلح الحديبية وفتح خيبر، لم تكونوا تقدرون عليها في حالتكم الراهنة، قد أحاط اللَّه بها علما أنها ستصير أو ستكون لكم، وتفتحونها وتأخذونها، مثل غنائم هوازن في غزوة حنين، وفتوحات فارس والروم، وكان اللَّه وما يزال على كل شيء قديرا مقتدرا، لا يعجزه شيء.
- وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ، ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي لو بادركم بالقتال كفار قريش بالحديبية، لنصر اللَّه تعالى رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم وعباده المؤمنين عليهم، ولا نهزم جيش الكفر فارّا هاربا، ثم لا يجدون حارسا وحاميا يحرسهم ويواليهم على قتالكم، ولا ناصرا معينا ينصرهم عليكم.
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي تلك سنّة اللَّه القديمة وعادته في خلقه بنصر جيش الإيمان على جيش الكفر، ورفع الحق ووضع الباطل، وغلبة أوليائه على أعدائه، بالرغم من عدم تكافؤ القوى، مثل نصر اللَّه يوم بدر أولياءه، على أعدائه من المشركين، وتلك السّنة مستمرة ثابتة، لا تغيير لها.
- وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ، مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً أي واللَّه سبحانه وتعالى هو الذي
188
كفّ أيدي المشركين عن المسلمين، وأيدي المسلمين عن المشركين، لما جاؤوا يصدّون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ومن معه عن البيت الحرام عام الحديبية، في داخل مكة وحدودها، فإن ثمانين رجلا من أهل مكة- كما تقدّم في سبب النزول- هبطوا على النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من قبل جبل التنعيم، متسلحين، يريدون غرّة النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فأخذهم المسلمون، ثم تركوهم. وهذا امتنان من اللَّه تعالى على عباده المؤمنين بكفّ المشركين عنهم، وكفّ المسلمين عن الكفار.
وكان اللَّه وما يزال بصيرا بأعمال عباده المؤمنين والمشركين، لا يخفى عليه من ذلك شيء. وعلى هذا، ليس المراد من قوله: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ فتح مكة، فالصحيح أن هذه الآية نزلت في الحديبية قبل فتح مكة، وأن مكة فتحت عنوة، وإنما المراد: ما بعد الأسر لم يحدث قتل.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات البيّنات إلى ما يأتي:
١- وعد اللَّه تعالى المؤمنين الصادقين مغانم الأعداء إلى يوم القيامة، ومغانم خيبر المعجلة جزء منها.
٢- إتماما للمنّة والفضل الإلهي، منع اللَّه تعالى عباده المؤمنين وحماهم من أذى وحرب أهل مكة، وكفّهم عنهم بالصلح، كما كفّ أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إلى الحديبية وخيبر، وأيدي اليهود وحلفائهم من أسد وغطفان عن قتال المسلمين في خيبر. وكان قد جاء عيينة بن حصن وعوف بن مالك النّضري ومن كان معهما لينصروا أهل خيبر، والمسلمون محاصرون لهم، فألقى اللَّه في قلوبهم الرعب، وكفّهم عن المسلمين، وزاد اللَّه هؤلاء هدى، وثبّتهم على الهداية.
189
٣- وعد اللَّه عباده المؤمنين مغانم وفتوحات أخرى إلى يوم القيامة، منها غنائم هوازن، وغنائم فارس والروم، وذلك قبل حدوثها، ولم يكونوا يرجونها، حتى أخبرهم اللَّه بها. وهو إخبار بالمغيبات دالّ على إعجاز القرآن، وأنه من عند اللَّه تعالى، وأن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم صادق في نبوته.
٤- ومن أفضاله تعالى على المؤمنين أنه كفّ عنهم شرّ أعدائهم، فإنه سواء قاتلت غطفان وأسد والذين أرادوا نصرة أهل خيبر، أم لم يقاتلوا، لا ينصرون، والغلبة واقعة للمسلمين، وذلك أمر إلهي محكوم به مختوم، ولن يجد الكفار مواليا ينفعهم باللطف، ولا ناصرا يدفع بالعنف، وليس للذين كفروا شيء من ذلك، وطريقة اللَّه وعادته السالفة نصر أوليائه على أعدائه، وهي سنّة ثابتة مستمرة لا تقبل التغير.
٥- وتأكيدا لنصر المؤمنين وطّد اللَّه تعالى دعائم الصلح والسلم قبل اللقاء وبعده، ومنع حدوث القتال بين المسلمين والكفار، حتى ولو قاتل الكفار، فإنهم سينهزمون ويولّون الدّبر، وحتى بعد ظفر المسلمين بهم، فإنه تعالى كفّ أيدي المؤمنين عنهم. وهذا هو المراد من قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أي من بعد ما أخذتموهم أسارى، وتمكنتم منهم لم يقع القتل، فإنه متى ظفر الإنسان بعدوه يبعد انكفافه عنه، مع أن اللَّه كفّ اليدين.
وكفّ أيدي المؤمنين عن الكفار: هو إطلاقهم من الأسر، وسلامتهم من القتل.
190
ذمّ المشركين وحكمة المصالحة يوم الحديبية
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦)
الإعراب:
وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ الْهَدْيَ: منصوب بالعطف على الكاف والميم في صَدُّوكُمْ. ومَعْكُوفاً حال، وأَنْ يَبْلُغَ في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: عن أن يبلغ محله، أو بدل اشتمال.
وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ رِجالٌ: مبتدأ مرفوع، وَنِساءٌ: معطوف عليهم، وخبر المبتدأ محذوف، ولا يجوز إظهار خبر المبتدأ إذا وقع بعدلطول الكلام بجوابها.
لَمْ تَعْلَمُوهُمْ في موضع رفع، لأنه صفة ل رِجالٌ، وَنِساءٌ.
وأَنْ تَطَؤُهُمْ أي تقتلوهم، وفي موضع أَنْ وجهان: الرفع على البدل بدل اشتمال من رِجالٌ، أي ولولا وطؤكم رجالا مؤمنين لم تعلموهم، أو النصب على البدل بدل اشتمال من الهاء والميم في تَعْلَمُوهُمْ أي ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموا وطأهم.
وجوابمحذوف أغنى عنه جواب لَوْ في قوله تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا.. واللام في لِيُدْخِلَ اللَّهُ متعلق بمحذوف، دلّ عليه قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ
191
ولا تتعلق ب كَفَّ هذه لأنها صلة الَّذِي، ووقع فصل طويل في الكلام بين كَفَّ واللام، ولا يجوز الفصل بينهما.
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِذْ: متعلق ب «عذبنا».
حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ بدل من الْحَمِيَّةَ.
المفردات اللغوية:
وَصَدُّوكُمْ منعوكم عن الوصول إليه. وَالْهَدْيَ أي وصدّوا الهدي: وهو ما يهدى إلى مكة، أو ما يقدّم قربانا لله تعالى إلى الحرم ويذبح فيه، حين زيارة البيت الحرام في الحج أو العمرة، وهو سنّة. مَعْكُوفاً محبوسا عن الوصول للحرم. أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ أن يصل مكانه الذي ينحر فيه عادة، وهو منى أو الحرم المكي. وليس المراد مكانه الذي يحل فيه نحره، وإنما المراد مكانه المعهود، وهو منى، وإلا لما نحره الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم حيث أحصر، قال البيضاوي:
فلا ينتهض حجة للحنفية على أن مذبح هدي المحصر، هو الحرم.
وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ موجودون بمكة مع الكفار. لَمْ تَعْلَمُوهُمْ لم تعرفوهم بأعيانهم لاختلاطهم بالمشركين. أَنْ تَطَؤُهُمْ مأخوذ من الوطء: الدوس، والمراد به هنا الإهلاك،
جاء في الحديث: «اللهم اشدد ووطأتك على مضرّ»
أي أن تبيدوهم مع الكفار لو أذن لكم في الفتح. فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ من جهتهم. مَعَرَّةٌ مكروه ومشقّة، وإثم بالتقصير في البحث عنهم، والمكروه كوجوب الدّية والكفارة بقتلهم، والتأسف عليهم، وتعيير الكفار بذلك. مأخوذ من عرّه: إذا عراه ودهاه ما يكرهه. بِغَيْرِ عِلْمٍ منكم، متعلق ب أَنْ تَطَؤُهُمْ غير عالمين بهم. وضمائر الغيبة للصنفين بتغليب الذكور. وجوابمحذوف، لدلالة الكلام عليه، تقديره: لأذن لكم في الفتح أو لما كفّ أيديكم عنهم. والمعنى: لولا كراهة أن تبيدوا أناسا مؤمنين بين الكفار، جاهلين بهم، فيصيبكم بإهلاكهم أو إبادتهم مكروه، لما كفّ أيديكم عنهم.
لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ علة لكف أيدي أهل مكة، صونا للمؤمنين، أي كان ذلك ليدخل اللَّه في توفيقه لزيادة الخير، أو الإسلام. مَنْ يَشاءُ من المؤمنين أو المشركين.
لَوْ تَزَيَّلُوا تميّزوا عن الكفار أو تفرّقوا عنهم. لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أي لعذّبنا الكافرين من أهل مكة حينئذ بالقتل والسّبي. عَذاباً أَلِيماً مؤلما شديد الألم.
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي اذكر حين ذاك، أو ظرف لَعَذَّبْنَا، أو صَدُّوكُمْ.
الْحَمِيَّةَ الأنفة من الشيء. حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ التي تمنع إذعان الحق، وهي صدّهم النّبي وأصحابه عن المسجد الحرام، فهي حمية في غير موضعها، لا يؤيدها دليل ولا برهان. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي أنزل عليهم الثبات والوقار، وصالحوا أهل مكة على أن يعودوا من
192
قابل، ولم يلحقهم من الحمية ما لحق الكفار، حتى يقاتلوهم. وَأَلْزَمَهُمْ أي المؤمنين. كَلِمَةَ التَّقْوى كلمة الشهادة: «لا إله إلا اللَّه، محمد رسول اللَّه»، وقيل: هي بسم اللَّه الرحمن الرحيم، أي اختارها لهم، أو ألزمهم الثبات والوفاء بالعهد، وإضافة الكلمة إلى التقوى، لأنها سبب التقوى وأساسها. أَحَقَّ بِها أولى بالكلمة من الكفار. وَأَهْلَها المستأهلين لها، وهو عطف تفسيري لكلمة أَحَقَّ بِها. وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أي ولم يزل متّصفا بذلك، فيعلم من هو أهل كل شيء، وييسره له.
سبب النزول: نزول الآية (٢٥) :
وَلَوْلا رِجالٌ..: أخرج الطبراني وأبو يعلى عن أبي جمعة جنيد بن سبع «١» قال: قاتلت النّبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أول النهار كافرا، وقاتلت معه آخر النهار مسلما، وكنّا ثلاثة رجال وسبع نسوة، وفينا نزلت: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ. وفي رواية ابن أبي حاتم: «كنا ثلاثة رجال، وتسع نسوة، وفينا نزلت: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ.. الآية».
المناسبة:
بعد أن ذكر اللَّه تعالى امتنانه العظيم على المؤمنين إذ كف عنهم أيدي الكافرين من قريش، وكف أيدي المؤمنين عن الكافرين، وأبرم بينهم ميثاق صلح الحديبية، أبان تعالى أسباب هذا الكفّ المتبادل، وأوضح حكمة المصالحة بقوله: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ حفاظا عليهم، ومن أجل نشر دين الإسلام ودخول الناس فيه، وتبديد آثار الأنفة والحمية الجاهلية التي لا تستند إلى برهان معقول، وإنزال السكينة والطمأنينة والثبات على قلب الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وأتباعه المؤمنين، وإلزامهم الوفاء بالعهود.
(١) قال ابن كثير: والصواب أبو جعفر حبيب بن سبع.
193
وقد بيّنت سابقا كيف تمّ الصلح الذي جاء في بعض رواياته: أنه لما همّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بقتال كفار قريش، بعثوا سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزّى، ومكرز بن حفص، ليسألوه أن يرجع في عامه، على أن تخلي قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام، فأجابهم، وكتبوا بينهم كتابا، على النحو المذكور آنفا.
التفسير والبيان:
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ أي إن مشركي العرب من قريش وحلفائهم هم الكفار الجاحدون توحيد اللَّه دون غيرهم، وهم منعوكم أيها المسلمون من الطواف بالبيت الحرام، وأنتم أحقّ به وأنتم أهله، وصدّوا الهدي (ما يهدى إلى الحرم من الأنعام) محبوسا في مكانه عن بلوغ محلّه بغيا وعنادا، وكان الهدي سبعين بدنة (ناقة) ومحلّه: منحره الذي يذبح فيه عادة، وهو حيث يحلّ نحره من الحرم، وهو منى أو الحرم المكي، فرخّص اللَّه سبحانه لهم بجعل ذلك الموضع الذي وصلوا إليه وهو الحديبية مكان الإحصار (المنع من دخول مكة) محلّا للنحر، وكانوا خارج الحرم.
وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ، فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي ولولا وجود المستضعفين من المؤمنين والمؤمنات بمكة، الذين يكتمون إيمانهم ويخفونه خيفة على أنفسهم من قومهم، لأذنّا لكم بالفتح، ولما كففنا أيديكم عنهم، ولكنّا سلّطناكم عليهم، فقتلتموهم واستأصلتموهم، ولكن يقع بينهم فريسة القتل أقوام من المؤمنين والمؤمنات لم تعرفوهم ولم تعلموا أنهم مؤمنون حالة القتل، فتطؤوهم بالقتل، فتصيبكم من جهتهم مشقة وتأسف، وإثم وكفّارة على القتل الخطأ، لوقوع القتل جهلا بغير علم منكم بهم، وحينئذ يقول المشركون: إن المسلمين قد قتلوا أهل دينهم.
194
لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ أي ولكن كف أيديكم عنهم وحال بينكم وبين قتالهم ليخلص المؤمنين من أسرهم، وليرجع كثير منهم إلى الإسلام.
لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي لو تميز الذين آمنوا من الذين كفروا، وانفصل بعضهم عن بعض بما يسمى اليوم بفك الارتباط، لعذبنا الذين كفروا عذابا مؤلما وهو القتل، بأن نسلطكم عليهم، فتقتلوهم قتلا ذريعا. والخلاصة: لو تزيل المؤمنون من الكفار لعذبهم اللَّه عذابا أليما بقتلهم إياهم.
ثم بيّن اللَّه تعالى ظرف العذاب أو وقته، فقال:
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى، وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أي لعذبناهم حين جعلوا في قلوبهم أنفة الجاهلية التي لا تذعن للحق ولا تعرف منطقا ولا تعتمد دليلا مقنعا، وهي قولهم: واللات والعزى لا يدخلونها علينا، وإباؤهم كتابة البسملة ووصف محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم بأنه رسول اللَّه في مقدمة صلح الحديبية.
فأنزل اللَّه الطمأنينة والثبات والصبر على رسوله وعلى المؤمنين، حيث لم يدخلهم ما دخل أهل الكفر من الحمية، وثبّتهم على الرضا والتسليم، وألزمهم كلمة الشهادة أو التوحيد وهي «لا إله إلا اللَّه، محمد رسول اللَّه» أو ألزمهم تعظيم الحرم، وترك القتال فيه، ولم يستفزهم صنيع الكفرة، لينتهكوا حرمة الحرم.
وكان المؤمنون أحق بهذه الكلمة وأجدر بها وأهلا لها من دون الكفار، إذ هم أهل الخير والصلاح والعقيدة الصحيحة، على نقيض الكفار ذوي العقيدة الفاسدة.
وكان اللَّه وما يزال عليما بمن يستحق الخير، ممن يستحق الشر.
195
روى النسائي عن أبي بن كعب رضي اللَّه عنه أنه كان يقرأ: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ، حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ ولو حميتم كما حموا، لفسد المسجد الحرام، فبلغ ذلك عمر رضي اللَّه عنه، فأغلظ له، فقال- أي أبي-: إنك لتعلم أني كنت أدخل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فيعلمني مما علّمه اللَّه تعالى، فقال عمر رضي اللَّه عنه: بل أنت رجل عندك علم وقرآن، فاقرأ وعلّم مما علّمك اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- ذمّ اللَّه تعالى قريشا إذ كفروا بتوحيد اللَّه، ومنعوا المؤمنين دخول المسجد الحرام عام الحديبية، حين أحرم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مع أصحابه بعمرة، ومنعوا الهدي وحبسوه عن أن يبلغ محلّه، ولم يكن هذا من اعتقادهم، ولكنه حملتهم الأنفة، ودعتهم حميّة الجاهلية إلى أن يفعلوا ما لا يعتقدونه دينا، فوبخهم اللَّه على ذلك وتوعدهم عليه، وآنس رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ببيانه ووعده.
٢- إن حرمة المؤمن عند اللَّه عظيمة، فقد كان صلح الحديبية من أجل ثلاثة رجال وسبع أو تسع نسوة حتى لا يقتلوا في زحمة المعركة لو حدث قتال، فيعاب المسلمون، ويقول المشركون: قد قتلوا أهل دينهم، وتلزمهم كفارة القتل الخطأ، لأن اللَّه تعالى إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يكن هاجر منها، ولم يعلم بإيمانه الكفارة دون الدّية في قوله: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النساء ٤/ ٩٢].
٣- دل قوله تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ على تفضيل الصحابة، واتصافهم بصفات كريمة من العفة عن المعصية، والعصمة عن التعدّي، حتى لو أنهم أصابوا
196
من ذلك أحدا، لكان من غير قصد. وهذا مشابه لوصف النملة جند سليمان عليه السلام في قولها: لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ، وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل ٢٧/ ١٨].
٤- لم يأذن اللَّه للمسلمين في قتال المشركين عام الحديبية ليسلم بعد الصلح الموفّق للإسلام من أهل مكة، وقد أسلم الكثير منهم، وحسن إسلامهم، ودخلوا في رحمة اللَّه، أي جنته.
٥- لو تميز المؤمنون عن الكفار لعذّب الكفار بالسيف، ولكن اللَّه تعالى يدفع بالمؤمنين عن الكفار.
٦- آية وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ.. دليل على وجوب مراعاة حرمة المؤمن والامتناع من قتله إذا اختلط بالكفار، إلا لمصلحة ضرورية قطعية كلية، كما في قتل التّرس، أي المسلمين المتترس بهم من قبل العدو، فيتخذهم دريئة تحمي نفوسهم، وحيلة تمكنهم من التقدم.
ومعنى كونها ضرورية: أنها لا يحصل الوصول إلى الكفار إلا بقتل الترس.
ومعنى أنها كلية. أنها قاطعة مفيدة لكل الأمة، حتى يحصل من قتل الترس مصلحة كل المسلمين، فإن لم يفعل قتل الكفار الترس، واستولوا على كل الأمة.
ومعنى كونها قطعية: أن تلك المصلحة حاصلة من قتل الترس قطعا.
والمصلحة بهذه القيود لا خلاف في اعتبارها، لأن الفرض أن الترس مقتول قطعا، إما بأيدي العدو، فتحصل المفسدة العظيمة التي هي استيلاء العدو على كل المسلمين، وإما بأيدي المسلمين، فيهلك العدو وينجو المسلمون أجمعون.
ولا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز تعمد المسلمين المتترس بهم بالقتل، وهل تجب الدية والكفارة؟ اختلف العلماء:
197
فقال الحنفية: لا دية ولا كفارة.
وقال الشافعية والثوري: تجب الدية والكفارة «١».
٧- لم يكن منع أهل مكة المشركين من دخول المؤمنين المسجد الحرام لسبب معقول، وإنما بدوافع الأنفة أو الحمية الجاهلية التي لا يؤيدها دليل ولا برهان، دفعتهم عصبيتهم لآلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون اللَّه تعالى، والأنفة من أن يعبدوا غيرها.
كذلك حملتهم تلك العصبية لوثنية الجاهلية على الامتناع من كتابة «بسم اللَّه الرحمن الرحيم» و «محمد رسول اللَّه» في مقدمة الصلح.
٨- أما المؤمنون فقد أنزل اللَّه عليهم الطمأنينة والوقار، وثبّتهم على الرضى والصبر والتسليم، ولم يدخل قلوبهم ما أدخل في قلوب أولئك من الحمية والغضب، وألزمهم كلمة «لا إله إلا اللَّه» لأنهم كانوا أحق بها من كفار مكة، لأن اللَّه تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه.
تصديق رؤيا الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم عام الفتح
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٢٨)
(١) أحكام القرآن للجصاص: ٤/ ٣٩٥
198
الإعراب:
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ... الرُّؤْيا بحذف مضاف أي تأويل الرؤيا، لأن الرؤيا مخايل ترى في النوم، فلا تحتمل صدقا ولا كذبا، وإنما يحتمل الصدق والكذب تأويلها. وبالحق: إما صفة مصدر محذوف أي صدقا ملتبسا بالحق، أو قسم باسم اللَّه أو بنقيض الباطل. ولَتَدْخُلُنَّ أصله: لتدخلون، إلا أنه لما دخلت نون التوكيد حذفت النون التي هي نون الإعراب، لتوالي الأمثال، والفعل معرب عند الجمهور، ويرى ابن الأنباري أن النون المحذوفة للبناء.
وآمِنِينَ مُحَلِّقِينَ مُقَصِّرِينَ كلها منصوبات على الحال من الضمير المحذوف في لَتَدْخُلُنَّ وكذلك قوله: لا تَخافُونَ جملة في موضع الحال، وتقديره: غير خائفين.
وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً تقديره: كفاكم اللَّه شهيدا، فحذف مفعولي كَفى، وكَفى يتعدى إلى مفعولين، قال تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة ٢/ ١٣٧].
وشَهِيداً منصوب على التمييز، أو الحال.
البلاغة:
مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا صدّقه في رؤياه ولم يكذبه، فحذف الجار وهو «في» ووصل الفعل، كقوله تعالى: صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الفتح ٤٨/ ٢٧] بِالْحَقِّ يرى الزمخشري أنه متعلق ب صَدَقَ، أي صدقه فيما رأى وفي كونه وحصوله صدقا ملتبسا بالحق، أي بالغرض الصحيح والحكمة البالغة، ويجوز أن يتعلق ب الرُّؤْيا حالا منها، أي صدقه الرؤيا ملتبسا بالحق، على معنى أنها لم تكن أضغاث أحلام، ويجوز أن يكون بِالْحَقِّ قسما إما بالحق الذي هو نقيض الباطل، أو بالحق الذي هو من أسماء اللَّه تعالى.
لَتَدْخُلُنَّ جواب القسم على أن بِالْحَقِّ قسم، وعلى الرأي الأول والثاني هو جواب قسم محذوف إِنْ شاءَ اللَّهُ تعليق للوعد (أو للعدة) بالمشيئة، تعليما للعباد مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ محلقا بعضكم جميع شعورهم، ومقصرا آخرون بعض شعورهم لا تَخافُونَ أبدا فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا من الحكمة في تأخير ذلك فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ جعل من دون دخول المسجد، أو من دون فتح مكة فَتْحاً قَرِيباً هو فتح خيبر، ثم تحققت الرؤيا في العام القابل.
199
بِالْهُدى ملتبسا بالهدى وَدِينِ الْحَقِّ دين الإسلام لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ليعليه على جنس الدين كله بنسخ ما كان حقا، وإظهار فساد ما كان باطلا، وفيه تأكيد الوعد بالفتح وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على أن ما وعده كائن، أو على نبوته بإظهار المعجزات.
سبب النزول: نزول الآية (٢٧) :
لَقَدْ صَدَقَ: أخرج الفريابي وعبد بن حميد والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال: أري النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، وهو بالحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، فلما نحر الهدي بالحديبية قال أصحابه: أين رؤياك يا رسول اللَّه، فنزلت: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا الآية.
وقال قتادة: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأي في المنام أنه يدخل مكة على هذه الصفة، فلما صالح قريشا بالحديبية، ارتاب المنافقون حتى قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: إنه يدخل مكة، فأنزل اللَّه تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ
فأعلمهم أنهم سيدخلون في غير ذلك العام، وأن رؤياه صلّى اللَّه عليه وسلّم حق.
وقصة الرؤيا: أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى في المنام- وهو في المدينة «١» - أن ملكا قال له:
لَتَدْخُلُنَّ إلى قوله: لا تَخافُونَ فأخبر أصحابه بالرؤيا، ففرحوا وجزموا بأنهم داخلون في عامهم، فلما صدّوا عن البيت، واستقر الأمر على الصلح، قال بعض الضعفة المنافقون: واللَّه ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا البيت.
وقالوا أيضا: أليس كان يعدنا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أن نأتي البيت، فنطوف به؟
فقال لهم أهل البصيرة: هل أخبركم أنكم تأتونه العام؟ فقالوا: لا، قال: فإنكم تأتونه وتطوفون بالبيت، فأنزل اللَّه تصديقه.
(١) الظاهر أن مكان الرؤيا في المدينة أصح من القول بأنها في الحديبية.
200
وجاء في السيرة: أن عمر بن الخطاب قال: أتيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فقلت: ألست نبي اللَّه حقا؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: إني رسول اللَّه، ولست أعصيه وهو ناصري، قلت: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر: أليس هذا نبي اللَّه حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال:
بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا؟.
قال: أيها الرجل، إنه رسول اللَّه، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه «١»، فو اللَّه إنه لعلى الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنه سيأتي البيت ويطوف به؟ قال: بلى، قال: فأخبرك أنه آتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك تأتيه وتطوف به «٢».
التفسير والبيان:
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ، لا تَخافُونَ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا، فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً أي تاللَّه لقد صدّق اللَّه تعالى تأويل رؤياه التي رآها تصديقا مقترنا بالحق، أنكم ستدخلون المسجد الحرام بمشيئة اللَّه في العام القابل، وليس في هذا العام عام الحديبية، حالة كونكم آمنين من العدو، ومحلقا بعضكم جميع شعره، ومقصرا بعضكم الآخر، وأنكم غير خائفين.
وهذا تأكيد للأمن، فإنه تعالى أثبت لهم الأمن حال الدخول، ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد، لا يخافون من أحد. وكان ذلك في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، فإن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة إلى
(١) أي سر على نهجه.
(٢) انظر تفسير ابن كثير: ٤/ ١٩٤- ٢٠٠
201
المدينة، أقام بها ذا الحجة والمحرم، وخرج في صفر إلى خيبر، ففتحها اللَّه عليه بعضها عنوة، وبعضها صلحا.
فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع خرج صلّى اللَّه عليه وسلّم معتمرا هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة، وساق معه الهدي، قيل: كان ستين بدنة، فلبّى، وسار أصحابه يلبّون. ثم دخل مكة بالسيوف مغمدة في قربها، كما شارط أهل مكة في صلح الحديبية.
ثم رتب اللَّه تعالى على التصديق وسوء ظن القوم قوله: فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا «١» من الحكمة والمصلحة في تأخير الفتح إلى العام القابل، فجعل من دون ذلك الفتح فتحا آخر قريب الحصول، وهو فتح خيبر.
وقوله: إِنْ شاءَ اللَّهُ لتعليم العباد وإرشادهم إلى تعليق كل أمر بمشيئة اللَّه.
ثم أكّد تعالى صدق الرؤيا بتصديق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في كل شيء بقوله:
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي إن اللَّه عز وجل هو الذي أرسل رسوله محمدا بالعلم النافع والعمل الصالح، وبما يرشد إلى طريق الهداية الصحيح، ودين الإسلام، ليعليه على كل الأديان، بنسخ سائر الديانات السابقة، وإظهار فساد العقائد الزائفة، وكفى بالله شهيدا على هذا الوعد من إظهار دينه على جميع الأديان، وعلى أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم رسوله، وهو ناصره. وفي هذا رد على سهيل بن عمرو الذي أبي أن يكتب في مقدمة صلح الحديبية: «محمد رسول اللَّه» وتسلية لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم،
(١) الفاء لعطف فَعَلِمَ على صَدَقَ وبما أن العلم متقدم على الرؤيا، فإن المراد بالتعقيب والترتيب علم الوقوع والشهادة لا علم الغيب.
202
وتأكيد لصدق رؤياه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتبشير بفتح مكة لقوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.
فقه الحياة أو الأحكام
إن رؤيا الأنبياء حق لا شك فيه، ولكن توقيت حدوث مقتضى الرؤيا بعلم اللَّه، لا بعلم البشر، ولم يكن في إخبار النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه وصحبه سيدخلون المسجد الحرام في زمن محدد معين، ففهم الصحابة أن ذلك سيكون عام الحديبية، ولكن لله الحكمة البالغة، يفعل الأشياء، حسبما يرى من المصلحة والخير والحكمة، وصدّق الرؤيا في العام القابل. وجعل في الفترة ما بين العامين فتح خيبر.
وكان دخولهم آمنين من العدو، غير خائفين أثناء استقرارهم في مكة لأداء العمرة.
والتحليق والتقصير جميعا للرجال، وكلاهما جائز،
ثبت في الصحيحين أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «رحم اللَّه المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول اللَّه؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: رحم اللَّه المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول اللَّه؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: رحم اللَّه المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول اللَّه؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: والمقصرين»
في الثالثة أو الرابعة.
واللَّه تعالى تأكيدا لتصديق رؤيا رسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، أبان أنه صدّق الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم في كل شيء، فأرسله رسول الهدى، ورسول الدين الحق: دين الإسلام، ليعليه على كل الأديان، وكفى بالله شاهد عدل وحق لنبيه صلّى اللَّه عليه وسلّم على صحة نبوته بالمعجزات، وعلى أنه رسول من عند اللَّه، وعلى إظهار دينه على جميع الأديان.
203
أوصاف الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم والمرسل إليهم
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٩]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩)
الإعراب:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّدٌ: مبتدأ، ورَسُولُ اللَّهِ: خبر المبتدأ، أو عطف بيان وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ مبتدأ أيضا وخبر، ورُحَماءُ خبر ثان، وما بعده أخبار عن الذين مع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ويجوز أن يكون رَسُولُ اللَّهِ وصف محمد، والَّذِينَ مَعَهُ عطف على مُحَمَّدٌ، وأَشِدَّاءُ خبر عن الجميع، ورُحَماءُ خبر ثان عنهم، والنبي داخل في جميع ما أخبر به عنهم.
ورُكَّعاً سُجَّداً منصوبان على الحال من الهاء والميم في تَراهُمْ لأنه من رؤية البصر، ويَبْتَغُونَ جملة فعلية إما في موضع رفع على أنها خبر بعد خبر، أو في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في تَراهُمْ وتقديره: تراهم ركعا سجدا مبتغين فضلا.
وسِيماهُمْ مبتدأ، وخبره: إما فِي وُجُوهِهِمْ أو مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ.
وذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ مبتدأ وخبر. ومَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ إما معطوف على «مثل» الأول ويكون كَزَرْعٍ خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم كزرع، أو هما مبتدأ وخبر كالجملة السابقة، فيكون لهم على هذا الوجه مثلان وصفوا بهما، أحدهما: في التوراة والآخر: في الإنجيل، وعلى الوجه الأول لهم مثلان كلاهما في التوراة والإنجيل.
البلاغة:
أَشِدَّاءُ ورُحَماءُ بينهما طباق.
204
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ، فَاسْتَغْلَظَ، فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ تشبيه تمثيلي، وجه الشب فيه منتزع من متعدد.
ويلاحظ مراعاة الفواصل في كل آيات السورة على وتيرة واحدة من قوله تعالى: مُبِيناً مُسْتَقِيماً إلى قوله: عَظِيماً.
المفردات اللغوية:
وَالَّذِينَ مَعَهُ أصحابه المؤمنون أَشِدَّاءُ غلاظ قساة جمع شديد رُحَماءُ متعاطفون متوادّون في قلوبهم رحمة، كالوالد مع الولد، جمع رحيم، والمعنى: أنهم يغلظون في القتال على أعدائهم، ويتراحمون فيما بينهم، كقوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [المائدة ٥/ ٥٤].
تَراهُمْ تبصرهم رُكَّعاً سُجَّداً لأنهم مشتغلون بالصلاة في أكثر أوقاتهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً يطلبون الثوب والرضى سِيماهُمْ علامتهم، والمراد: السمة التي تحدث في جباههم من كثرة السجود، أو هي نور وبياض يعرفون به بالآخرة أنهم سجدوا في الدنيا مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ كائنة منه ذلِكَ الوصف المذكور مَثَلُهُمْ صفتهم العجيبة الجارية مجرى الأمثال في الغرابة شَطْأَهُ فراخه أو فروعه التي تنبت حول الأصل فَآزَرَهُ أعانه وقوّاه، من المؤازرة: المعاونة فَاسْتَغْلَظَ فغلظ فَاسْتَوى قوي واشتد واستقام عَلى سُوقِهِ أصوله وقضبانه، جمع ساق يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لحسنه جمع زارع، مثّل الصحابة رضي اللَّه عنهم بذلك، لأنهم بدؤوا في قلة وضعف، فكثروا وقووا، فترقى أمرهم بحيث أعجب الناس.
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ متعلق بمحذوف، دل عليه ما قبله، أي شبهوا بذلك، فهو علة لتشبيههم بالزرع في زكائه واستحكامه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ لما سمع الكفار بهذا غاظهم ذلك، وقوله مِنْهُمْ لبيان الجنس أي الصحابة، لا للتبعيض، لأنهم كلهم بالصفة المذكورة وَأَجْراً عَظِيماً الجنة. والمغفرة والأجر هما أيضا لمن بعدهم من المؤمنين والمؤمنات.
المناسبة:
بعد بيان كون النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم مرسلا بالهدى ودين الحق، بيّن حال الرسول والمرسل إليهم، فأكد الشهادة في قوله: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بقوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ثم وصف صحابته بأوصاف عجيبة: هي الشدة على الأعداء، والرحمة بالمؤمنين، وكثرة العبادة، والحرص على الثواب والرضى من اللَّه، والتميز
205
بالنور والضياء في الدنيا والآخرة، وبيان صفاتهم في كل من التوراة والإنجيل، والانتقال من الضعف إلى القوة والكثرة، وكونهم موعودين من اللَّه بالمغفرة والجنة.
التفسير والبيان:
- مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أي إن محمدا رسول من عند اللَّه حقا بلا شك ولا ريب.
- وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ، رُحَماءُ بَيْنَهُمْ أي إن صحابته يمتازون بالشدة والغلظة والصلابة على من جحد بالله وعاداهم، وبالرقة والرحمة على بعضهم بعضا، كقوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [المائدة ٥/ ٥٤]. وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة ٩/ ١٢٣].
وكما
جاء في الحديث الصحيح عند أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى»
وفي حديث الشيخين والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا».
وقال الحسن البصري: بلغ من تشدّدهم على الكفار: أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم، فكيف بأبدانهم؟ وبلغ من تراحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه. والمصافحة جائزة بالاتفاق. وأما المعانقة والتقبيل فقد كرههما أبو حنيفة رضي اللَّه عنه، وإن كان التقبيل على اليد، ومن حق المؤمنين: أن يراعوا هذه السنة أبدا، فيتشدّدوا على مخالفيهم، ويرحموا أهل دينهم.
206
- تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً أي تشاهدهم يكثرون الصلاة بإخلاص، فتبصرهم غالبا راكعين ساجدين، يلتمسون ويطلبون الثواب والرضا، ويحتسبون عند اللَّه تعالى جزيل الثواب وهو الجنة، ورضا اللَّه تعالى عنهم، والرضا أكبر من الجنة: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة ٩/ ٧٢].
- سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ أي علامتهم المميزة لهم وجود النور والبهاء والوقار في الوجه والسمت الحسن والخشوع. قال السّدّي: الصلاة تحسن وجوههم. وقال بعض السلف: من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار،
وقد أسنده ابن ماجه عن جابر رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من كثرت صلاته بالليل، حسن وجهه بالنهار»
والصحيح أنه موقوف.
وقال بعضهم: إن للحسنة نورا في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس. وقال أمير المؤمنين عثمان رضي اللَّه عنه: ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها اللَّه تعالى على صفحات وجهه، وفلتات لسانه. والمراد أن أثر العبادة والصلاح والإخلاص مع اللَّه تعالى يظهر على وجه المؤمن، لذا قال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه: «من أصلح سريرته، أصلح اللَّه تعالى علانيته».
وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أنه قال: «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صمّاء، ليس لها باب ولا كوّة، لخرج عمله للناس، كائنا ما كان».
وروى أحمد أيضا وأبو داود عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن الهدي الصالح، والسّمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة».
- ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ، كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ، فَآزَرَهُ
207
فَاسْتَغْلَظَ، فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ، يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ
أي ذلك الوصف المذكور للصحابة هو وصفهم الذي وصفوا به في التوراة ووصفوا به في الإنجيل، وهم كانوا ضعافا قليلي العدد، فازدادوا وكثروا وتقووا، مثل الزرع الذي أخرج فروخه وفروعه على جوانبه، فاشتد وقوي وأعانه وشدّه، أي إن الزرع قوّى الشطء، لأنه تغذى منه واحتمى به، وتحول من الدقة إلى الغلظ، واستقام على أعواده، يعجب هذا الزرع الزرّاع لقوّته وحسن منظره، كما هو معروف.
وهذا مثل ضربه اللَّه تعالى للصحابة، كانوا في الابتداء قلّة، ثم زادوا وكثروا وتقووا، كالزرع تكون فراخه في الابتداء ضعيفة، ثم تتقوى تدريجيا حتى يغلظ ساقه.
وقد كثّر اللَّه الصحابة وقواهم ليكونوا غيظا للكافرين.
وهكذا يكون إيمان المسلم إذا دخل في الإسلام ضعيفا، ثم يتقوى بصحبته وملازمته لأهل العلم والإيمان حتى يستوي ويكون مثلهم، وربما أقوى منهم.
- وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً أي وعد اللَّه تعالى الذين آمنوا بالله تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم، وعملوا صالح الأعمال أن يغفر ذنوبهم، ويجزل أجرهم وثوابهم، ويدخلهم الجنة، ووعد اللَّه حق وصدق وكائن لا محالة، ولن يخلف اللَّه وعده.
وهذا يشمل الصحابة وكل من اقتفى أثرهم، وسار على منهجهم من أفواج الإيمان وجند الإسلام، وتلاحق الأجيال.
روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لا تسبّوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا، ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه».
208
فقه الحياة أو الأحكام:
أثبتت الآية صفتي النبوة والرسالة لمحمد بن عبد اللَّه صلوات اللَّه وسلامه عليه. ووصفت أصحابه بثماني صفات هي:
١- ٢: الشدة والصلابة والعنف على الأعداء الكفار، والرحمة والرأفة والرفق والبر بالمؤمنين، فهم أسود غضاب عبوسون في وجه الكفار الذين يعادونهم، ضحوكون بشوشون في وجوه إخوتهم المؤمنين.
٣- ٤: يمتازون بكثرة العمل وكثرة الصلاة وهي خير الأعمال، مع وصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل، واحتساب جزيل الثواب وهو الجنة عند اللَّه تعالى المشتملة على فضل اللَّه وهو سعة الرزق عليهم، ورضاه تعالى عنهم، فهم يطلبون بعملهم المخلص الجنة ورضا اللَّه تعالى.
٥- علامتهم المميزة لهم النور والضياء في الدنيا والآخرة، والسمت الحسن، والخشوع والتواضع لله تعالى.
٦- تلك الأوصاف وصفوا بها في كل من التوراة والإنجيل والقرآن.
٧- كثرة الخير والبركة والنماء فيهم، فإنهم كانوا قلة ضعافا، ثم صاروا كثرة أشداء أقوياء، كمثل الزرع الذي ينبت من حوله الفراخ، ثم تقوى وتشتدّ وتكبر. ولقد فعل اللَّه هذا لمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم وأصحابه ليغيظ بهم الكفار.
٨- وعدهم اللَّه تعالى جميعا وأمثالهم المتبعين لهم بإحسان وهم المؤمنون الذين أعمالهم صالحة بمغفرة الذنوب والثواب الذي لا ينقطع وهو الجنة. وقد وردت آيات أخرى وأحاديث كثيرة في فضل الصحابة، والنهي عن التعرض لهم بالإساءة، والصحابة كلهم عدول، وهم أولياء اللَّه تعالى وأصفياؤه، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله. وفيما سبق ذكرت بعض الأحاديث، ومن قرأ الآية
209
السابقة: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [١٨] والآية: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب ٣٣/ ٢٣] وآيات سورة الحشر: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ.. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ [٨- ٩] من قرأ ذلك عرف مدى ثناء اللَّه عليهم، والشهادة لهم بالصدق والفلاح.
وقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما أخرجه أحمد والشيخان والترمذي عن ابن مسعود: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم».
وقد استدل الإمام مالك رحمه اللَّه بهذه الآية وَالَّذِينَ مَعَهُ.. على تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي اللَّه عنهم، قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة رضي اللَّه عنهم، فهو كافر لهذه الآية، قال ابن كثير: ووافقه طائفة من العلماء رضي اللَّه عنهم على ذلك. والظاهر أنهم فسّاق.
قال بعض العلماء عن خلافات الصحابة والاقتتال الذي حدث بينهم:
«تلك دماء قد طهّر اللَّه منها أيدينا، فلا نلوّث بها ألسنتنا، وسبيل ما جرى بينهم كسبيل ما جرى بين يوسف وإخوته».
210

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الحجرات
مدنيّة، وهي ثماني عشرة آية.
تسميتها:
سميت سورة الحجرات لأن اللَّه تعالى ذكر فيها تأديب أجلاف العرب الذين ينادون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من وراء الحجرات وهي حجرات (بيوت) نسائه المؤمنات الطاهرات رضي اللَّه عنهن، وكانت تسعا، لكل واحدة منهن حجرة، منعا من إيذاء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وتوفيرا لحرمة بيوت أزواجه.
وتسمى أيضا سورة «الأخلاق والآداب» فقد أرشدت إلى آداب المجتمع الإسلامي وكيفية تنظيمه، وأشادت بمكارم الأخلاق وفضائل الأعمال، ونودي فيها بوصف الإيمان خمس مرات، وأصول تلك الآداب خمسة وهي:
طاعة اللَّه والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتعظيم شأن الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم، والتثبت من الأخبار المنقولة، وتحريم السخرية بالناس، وتحريم التجسس والغيبة وسوء الظن.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي سورة الفتح من نواح ثلاث، هي:
١- في السورة المتقدمة حكم قتال الكفار، وفي هذه حكم قتال البغاة (أهل الثورة الداخلية).
211
٢- ختمت السابقة بقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وافتتحت هذه ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. تذكيرا لهم بحرمتهم عند اللَّه عند ما وصفهم بكونهم أشداء رحماء، مما يقتضي محافظتهم على هذه الدرجة بطاعة اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم.
٣- في كلتا السورتين تشريف وتكريم لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، خصوصا في مطلع كل منهما، والتشريف يقتضي من المؤمنين الرضا بما رضي به الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم من صلح الحديبية، وألا يتركوا شيئا من احترامه قولا وفعلا.
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كسابقتها أحكام شرعية لكونهما مدنيتين، وهي أحكام تتعلق بتنظيم المجتمع الإسلامي على أساس متين من التربية القوية، والأخلاق الرصينة، حتى إنها سميت «سورة الأخلاق» فهي في الأمر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب. وآدابها نوعان: خاص وعام.
أما الآداب الخاصة: فهي ماله علاقة بين النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وأمته. وقد ابتدأت السورة بها، فأوجبت طاعة اللَّه تعالى والرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وحذرت من المخالفة.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا.. ثم أمرت بخفض الصوت أثناء خطاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم إجلالا له وهيبة منه وتعظيما لقدرة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ.. ثم طالبت المؤمنين بخطاب الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بصفة النبوة والرسالة، لا باسمه وكنيته تعظيما واحتراما له، وجعلت خفض الصوت عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم من التقوى، وذمّت من يناديه من وراء حجرات نسائه كعيينة بن حصن وأشباهه، وذكرت السورة في آخرها ذمّ الامتنان على اللَّه تعالى ورسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم بالإيمان: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ...
212
ثم تحدثت عن الآداب الاجتماعية العامة: وهي المتصلة بعلاقات الناس بعضهم مع بعض، مما فيه تقرير فضيلة وذم رذيلة، لإقامة دعائم المجتمع الفاضل.
فأمرت المؤمنين بالتثبّت من الأخبار وعدم الإصغاء للإشاعات التي يروجها الفسّاق ويتناقلونها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ.. وأشادت بمقتضى الإيمان، وكرّهت الكفر والفسوق والعصيان.
ثم أبانت طريق فض المنازعات الداخلية بين فئتين متقاتلتين من المؤمنين وهو الإصلاح، وقتال الفئة الباغية (البغاة) حتى تعود لصف الجماعة والوحدة:
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وأعلنت قيام رابطة الإخاء والود بين المؤمنين، وحذرت من تفكك الجماعة المؤمنة وإثارة النزاع بين أفرادها، وتوليد الأحقاد والضغائن والكراهية بسبب السخرية والهمز واللمز والتنابز بالألقاب، سواء بين الرجال أو النساء، أو بسبب سوء الظن بالمسلم والتجسس (تتبع العورات) والغيبة والنميمة.
ثم أعلنت مبدأ الإخاء الإنساني، والمساواة بين الشعوب والأفراد من مختلف الأجناس والألوان والعناصر، فلا عداوة ولا طبقية ولا عنصرية، وإنما التفاضل بالتقوى والعمل الصالح ومكارم الأخلاق.
وختمت السورة بالكلام عن الأعراب، فميّزت بين الإيمان والإسلام، وذكرت غرر صفات المؤمنين وشروط المؤمن الكامل (الإيمان بالله ورسوله، والجهاد بالمال والنفس في سبيل اللَّه) وعابت المنّ على الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم بالإسلام، ووضعت ضابط احترام القيم الدينية والأخلاقية، وهو رقابة اللَّه جل جلاله لعباده، وعلمه بغيب السموات والأرض وأهلهما، وبصره بجميع أعمال الخلق.
213
Icon