تفسير سورة الفتح

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

٤٨ – سورة الفتح
سميت به لدلالتها على فتح البلاد والحجج والمعجزات والحقائق، وقد ترتب على كل واحد منها المغفرة وإتمام النعمة والهداية والنصر العزيز. وكل هذه أمور جليلة – أفاده المهايميّ-.
وآيها تسع وعشرون، وهي مدنية. نزلت مرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية سنة ست من الهجرة، عدة له بالفتح. قال أنس :( لما رجعنا من الحديبية، وقد حيل بيننا وبين نسكنا، فنحن بين الحزن والكآبة، فنزلت ). واختلف في المكان الذي نزلت فيه، فوقع عند محمد بن سعد ( بضَجْنان ) وهي بفتح المعجمة وسكون الجيم ونون خفيفة. وعند الحاكم في – ( الإكليل ) - بكراع الغميم. وعن أبي معشر ( بالجحفة ).
قال الحافظ ابن حجر : والأماكن الثلاثة متقاربة. وروى البخاري أن ( النبي صلى الله عليه وسلم قال- وهو في بعض أسفاره – لعمر : لقد أنزلت عليّ الليلة سورة، لهي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس ).
وأخرج أيضا عن عبد الله بن مغفّل قال :( قرأ النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة سورة الفتح، فرجّع فيها ).

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١)
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قال الرازيّ: في الفتح وجوه:
أحدها- فتح مكة، وهو ظاهر.
وثانيها- فتح الروم وغيرها.
وثالثها- المراد من الفتح، صلح الحديبية.
ورابعها- فتح الإسلام بالحجة والبرهان، والسيف والسنان.
وخامسها- المراد منه الحكم، كقوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الأعراف: ٨٩]، وقوله ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ [سبأ: ٢٦]. انتهى.
ولا يخفى أن الوجوه المذكورة كلها، مما يصدق عليها الفتح الربانيّ، وجميعها مما تحقق مصداقه. إلا أن سبب نزول الآية، الذي حفظ الثقات زمنه، يبين المراد من الفتح بيانا لا خلاف معه، وهو أنه الوجه الثالث المذكور.
قال الإمام ابن كثير: نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية، في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، حين صدّه المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام، ليقضي عمرته فيه، وحالوا بينه وبين ذلك، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا، ثم يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك، على تكرّه من جماعة من الصحابة، منهم عمر بن الخطاب، رضي الله عنهم، كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى. فلما نحر صلّى الله عليه وسلّم هديه حيث أحصر ورجع، أنزل الله عز وجل هذه السورة، فيما كان من أمره وأمرهم، وجعل ذلك الصلح فتحا، باعتبار ما فيه من المصلحة، وما آل الأمر إليه، كما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية. وعن جابر رضي الله عنه قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم
482
الحديبية. روى البخاريّ «١» عن البراء رضي الله عنه قال: (تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان، يوم الحديبية).
وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال: نزلت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ مرجعه من الحديبية. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لقد أنزلت عليّ آية أحب إليّ مما على الأرض»، ثم قرأها عليهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم- أخرجاه في الصحيحين «٢» من رواية قتادة به-.
وروى الإمام أحمد «٣» عن مجمّع بن جارية الأنصاريّ رضي الله عنه- وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن- قال: شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا عنها، إذا الناس ينفرون الأباعر. فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ قالوا: أوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرجنا مع الناس نرجف، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه، فقرأ عليهم إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً.
قال، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي رسول الله! أو فتح هو؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: أي والذي نفس محمد بيده! إنه لفتح. ورواه أبو داود في الجهاد.
ثم قال ابن كثير: فالمراد بقوله إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً- أي بينا ظاهرا- هو صلح الحديبية، فإنه حصل بسببه خير جزيل، وأمن الناس، واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان. انتهى.
وقال الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) في الكلام على ما في غزوة الحديبية من الفقه واللطائف، ما مثاله:
كان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس به، وكلّم بعضهم بعضا، وناظره في الإسلام، وتمكّن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه، والدعوة إليه، والمناظرة عليه، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام. ولهذا سماه الله فتحا في قوله إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً نزلت في الحديبية، فقال عمر:
يا رسول الله! أو فتح هو؟ قال: نعم. وأعاد سبحانه ذكر كون ذلك فتحا قريبا. وهذا شأنه سبحانه أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها،
(١) أخرجه البخاري في: المغازي، ٣٥- باب غزوة الحديبية، حديث ١٦٨٦.
(٢) أخرجه مسلم في: الجهاد، حديث ٩٧.
(٣) أخرجه في المسند ٣/ ٤٢٠.
483
المنبئة لها وعليها، كما قدم بين يدي قصة المسيح وخلقه من غير أب، قصة زكريا، وخلق الولد له، مع كونه كبيرا، لا يولد لمثله. وكما قدم بين يدي نسخ القبلة، قصة البيت وبنائه وتعظيمه والتنويه به، وذكر بانيه، وتعظيمه ومدحه. ووطأ قبل ذلك كله بذكر النسخ وحكمته المقتضية له، وقدرته الشاملة له. وهكذا ما قدم بين يدي مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قصة الفيل، وبشارات الكهان به، وغير ذلك. وكذلك الرؤيا الصالحة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانت مقدمة بين يدي الوحي في اليقظة. وكذلك الهجرة، كانت مقدمة بين يدي الأمر بالجهاد. ومن تأمّل أسرار الشرع والقدر، رأى من ذلك ما تبهر حكمته أولي الألباب. انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ٢]
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢)
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ قال أبو السعود: غاية للفتح، من حيث إنه مترتب على سعيه عليه الصلاة والسلام في إعلاء كلمة الله تعالى، بمكابدة مشاقّ الحروف، واقتحام موارد الخطوب. ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ أي جميع ما فرط منك، من ترك الأولى. وتسميته ذنبا، بالنظر إلى منصبه الجليل.
قال ابن كثير: هذا من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم التي لا يشاركه فيها غيره. وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال كغيره، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جميع أموره على الطاعة والبرّ والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه، لا من الأولين، ولا من الآخرين. وهو صلّى الله عليه وسلّم أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة. ولما كان أطوع خلق الله تعالى لله، وأشدهم تعظيما لأوامره ونواهيه، قال حين بركت به الناقة: حبسها حابس الفيل. ثم
قال صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده! لا يسألوني اليوم شيئا يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها، فلما أطاع الله في ذلك، وأجاب إلى الصلح، قال الله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً... الآيات».
وقوله تعالى: وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ أي بإظهاره إياك على عدوّك، ورفعه ذكرك.
وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي ويرشدك طريقا من الدين لا عوج فيه. قال أبو السعود: أصل الاستقامة، وإن كانت حاصلة قبل الفتح، لكن حصل بعد ذلك من اتضاح سبيل الحق، واستقامة مناهجه، ما لم يكن حاصلا قبل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ٣]
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣)
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً أي قويّا منيعا، لا يغلبه غالب، ولا يدفعه دافع، للبأس الذي يؤيدك الله به، والظفر الذي يمدك به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ٤]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ أي السكون والطمأنينة إلى الإيمان والحق. لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أي يقينا منضما إلى يقينهم.
قال القاشاني: السكينة نور في القلب يسكن به إلى شاهده ويطمئن. وهو من مبادئ عين اليقين، بعد علم اليقين، كأنه وجدان يقينيّ معه لذة وسرور.
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أنصار ينتقم بهم ممن يشاء من أعدائه.
وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً أي في تقديره وتدبيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ٥]
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥)
واللام في قوله تعالى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها متعلق بمحذوف، نحو: أمر بالجهاد ليدخل... إلخ. أو دبّر ما دبّر مما ذكر لذلك، أو متعلق ب فَتَحْنا على تعلق الأول به مطلقا، وهذا مقيدا، أو بقوله لِيَزْدادُوا. وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ٦]
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦)
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ أي ظن الأمر السوء، وهو أن لا ينصر تعالى رسوله والمؤمنين. عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ أي بالتعذيب في الدنيا بأنواع الوقائع، كالقتل والإهانة والإذلال. وقرئ دائِرَةُ السَّوْءِ بالضم، وهما لغتان من (ساء) كالكره والكره. وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي بالقهر والحجب. وَلَعَنَهُمْ أي بالطرد والإبعاد في الآخرة. وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ٧]
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧)
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً قيل في سر التكرير: إنه ذكر سابقا على أن المراد به أنه المدبر لأمر المخلوقات بمقتضى حكمته، فلذلك ذيله بقوله عَلِيماً حَكِيماً، وهنا أريد به التهديد بأنهم في قبضة قدرة المنتقم، فلذا ذيله بقوله عَزِيزاً حَكِيماً فلا تكرار. وقيل: إن الجنود جنود رحمة، وجنود عذاب، وأن المراد هنا الثاني، ولذا تعرّض لوصف العزة. وقال القاشاني: كررها ليفيد تغليب الجنود الأرضية على السماوية في المنافقين والمشركين، بعكس ما فعل بالمؤمنين. وبدّل عَلِيماً بقوله عَزِيزاً ليفيد معنى القهر والقمع، لأن العلم من باب اللطف، والعزة من باب القهر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ٨]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً أي على أمتك بما أجابوك فيما دعوتهم إليه وَمُبَشِّراً أي لمن استجاب لك بالجنة وَنَذِيراً أي لمن خالفك بالنار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ٩]
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩)
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ أي تؤيدوا دينه وتقرّوه وَتُوَقِّرُوهُ أي تعظّموه وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي غدوة وعشيا- على ظاهره- أو دائما، بجعل طرفي النهار كناية عن الجميع، كما يقال (شرقا وغربا) لجميع الدنيا. والضمائر كلها- على ما ذكرنا- لله، وجوّز إعادة الأولين للرسول، والأخير لله إلا أن فيه تفكيكا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠)
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ أي على قتال قريش تحت الشجرة، وأن لا يفرّوا عند لقاء العدوّ، ولا يولوهم الأدبار. إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أي لأن عقد الميثاق مع رسول الله، كعقده مع الله، من غير تفاوت، لأن المقصود من توثيق العهد مراعاة أوامره تعالى ونواهيه. يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ تأكيد لما قبله. أي أن يد الله عند البيعة فوق أيديهم، كأنهم يبايعون الله ببيعتهم نبيّه صلّى الله عليه وسلّم. وقال القاشاني: أي قدرته البارزة في يد الرسول، فوق قدرتهم البارزة في صور أيديهم، فيضرهم عند النكث، وينفعهم عند الوفاء.
فَمَنْ نَكَثَ أي نقض عهده فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ أي لعود ضرر ذلك عليه خاصة. وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وهو الجنة.
تنبيه:
هذه البيعة هي بيعة الرضوان. وكانت تحت شجرة سمرة بالحديبية. وكان الصحابة الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ ألفا وأربعمائة، وقيل: وثلاثمائة، وقيل:
خمسمائة. والأول أصح- على ما قاله ابن كثير- وقد اقتص سيرتها غير واحد من الأئمة. ولما كانت هذه السورة الجليلة كلها في شأنها، لزم إيرادها مفصلة.
قال ابن إسحاق: خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في ذي القعدة معتمرا، لا يريد حربا. واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الأعراب ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدّوه عن البيت. فأبطأ عليه كثير من الأعراب. وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمن معه من المهاجرين والأنصار، ومن لحق به من العرب، وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت، ومعظما له.
وقال الإمام ابن القيّم: قصة الحديبية كانت سنة ست في ذي القعدة. وكان معه ألف وخمسمائة. هكذا في الصحيحين «١» عن جابر.
وفيهما «٢» عن عبد الله بن
(١) أخرجه البخاري في: المغازي، ٣٥- باب غزوة الحديبية، حديث ١٦٨٥.
(٢) أخرجه البخاري في: المغازي، ٣٥- باب غزوة الحديبية، حديث ١٨٩٤.
487
أبي أوفى: كنا ألفا وثلاثمائة. وعن جابر فيهما «١» : كانوا ألفا وأربعمائة- والقلب إلى هذا أميل- وهو قول البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع. ثم لما كانوا بذي الحليفة قلّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الهدي وأشعر وأحرم بالعمرة، وبعث عينا له بين يديه من خزاعة، يخبره عن قريش، حتى إذا كان قريبا من عسفان، أتاه عينه فقال: إني تركت كعب بن لؤيّ، قد جمعوا لك الأحابيش، وجمعوا لك جموعا، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت. واستشار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أصحابه وقال: أترون أن نميل إلى ذراريّ هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا يكن عنق قطعها الله؟ أم ترون أن نؤم البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه؟ قال أبو بكر: الله ورسوله أعلم! إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد. ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: فروحوا إذن. فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إن خالد بن الوليد بالغميم، في خيل لقريش، فخذوا ذات اليمين، فو الله! ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بعترة الجيش. فانطلق يركض نذيرا لقريش. وسار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا كان بالثنيّة التي يهبط عليهم، بركت راحلته. فقال الناس: حل حل، فألحّت: فقالوا: خلأت القصواء! خلأت القصواء! فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل! ثم قال: والذي نفسي بيده! لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتموها. ثم زجرها فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء إنما يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبث الناس أن نزحوه، فشكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوها فيه. قال، فو الله! ما زال يجيش لهم بالريّ، حتى صدروا عنه. وفزعت قريش لنزوله عليهم، فأحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث إليهم رجلا من أصحابه، فدعا عمر بن الخطاب ليبعثه إليهم، فقال: يا رسول الله! ليس بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عثمان بن عفان، فأرسله إلى قريش وقال: أخبرهم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عمّارا، وادعهم إلى الإسلام. وأمره أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات، فيدخل عليهم، ويبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجلّ مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفي فيها بالإيمان. فانطلق عثمان، فمر على قريش ببلدح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، ونخبركم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عمّارا. فقالوا:
(١) أخرجه البخاري في: المغازي، ٣٥- باب غزوة الحديبية، حديث ١٦٨٥.
488
قد سمعنا ما تقول، فانفذ لحاجتك. وقام إليه أبان بن سعيد بن العاص، فرحب به، وأسرج فرسه. فحمل عثمان على الفرس وأجاره، وأردفه أبان حتى جاء مكة. وقال المسلمون قبل أن يرجع عثمان: خلص عثمان قبلنا إلى البيت وطاف به. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون! فقالوا: وما يمنعه يا رسول الله، وقد خلص قال: ذاك ظني به أن لا يطوف بالكعبة حتى نطوف معا. واختلط المسلمون بالمشركين في أمر الصلح، فرمى رجل من أحد الفريقين رجلا من الآخر، وكانت معركة، وتراموا بالنبل والحجارة، وصاح الفريقان كلاهما، وارتهن كل واحد من الفريقين بمن فيهم. وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن عثمان قد قتل. فدعا إلى البيعة، فثار المسلمون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو تحت الشجرة، فبايعوه على أن لا يفروا. فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيد نفسه وقال: هذه عن عثمان. ولما تمت البيعة رجع عثمان. فقال المسلمون: اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت؟ فقال: بئس ما ظننتم بي! والذي نفسي بيده! لو مكثت بها سنة، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقيم بالحديبية، ما طفت بها، حتى يطوف بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت! فقال المسلمون: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان أعلمنا بالله، وأحسننا ظنا. وكان عمر أخذ بيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للبيعة تحت الشجرة، فبايعه المسلمون كلهم، إلا الحرّ بن قيس، وكان معقل بن يسار آخذا بغصنها يرفعه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكان أول من بايعه أبو سنان الأسديّ، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات، في أول الناس وأوسطهم وآخرهم. فبينا هم كذلك إذ جاء بديل ورقاء الخزاعيّ في نفر من خزاعة، وكانوا عيبة نصح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أهل تهامة فقال: إني تركت كعب بن لؤيّ وعامر بن لؤيّ نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك، وصادوك عن البيت.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنا لم نجئ لقتال أحد. ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب، وأضرت بهم: فإن شاؤوا أماددهم ويخلّوا بيني وبين الناس. وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جمّوا. وإن أبوا إلا القتال، فو الذي نفسي بيده! لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره قال بديل: سأبلغهم ما تقول. فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، وسمعته يقول قولا، فإن شئتم عرضته عليكم. فقال سفهاؤهم:
لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته. قال سمعته يقول كذا وكذا. فقال عروة بن مسعود الثقفيّ: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوني آته. فقالوا: ائته. فأتاه، فجعل يكلمه. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نحوا من
489
قوله لبديل. فقال له عروة عند ذلك: أي محمد! أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك؟ وإن تكن أخرى، فو الله إني لأرى وجوها، وأرى أوشابا من الناس، خليقا أن يفروا ويدعوك! فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات! أنحن نفر عنه وندعه! قال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: أما والذي نفسي بيده! لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك! وجعل يكلم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكلما كلمه أخذ بلحيته. والمغيرة بن شعبة على رأس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومعه السيف، وعليه المغفر. فكلما أهوى عروة إلى لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ضرب يده بنعل السيف وقال: أخّر يدك عن لحية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرفع عروة رأسه وقال: من ذا؟ قال: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر! أو لست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية. فقتلهم، وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شيء.
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فو الله! ما تنخم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها جلده ووجهه، وإذا أمرهم ابتدروا إلى أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيما له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم! لقد وفدت على الملوك: على كسرى وقيصر والنجاشي، والله ما رأيت ملكا يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمد محمدا. والله! إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيما له. وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذا فلان، وهو من قوم يعظّمون البدن فابعثوها له، فبعثوها له، واستقبله القوم يلبّون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه فقال: رأيت البدن قد قلّدت وأشعرت، وما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام مكرز بن حفص، فقال: دعوني آته.
فقالوا: ائته. فلما أشرف عليهم قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: هذا مكرز بن حفص، وهو رجل فاجر فجعل يكلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبينا هو يكلّمه، إذ جاء سهيل بن عمرو، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: قد سهل لكم من أمركم، فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا. فدعا الكاتب، فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: أما الرحمن، فو الله ما ندري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم، كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: اكتب: باسمك اللهم. ثم
490
قال: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: فو الله! لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله.
فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إني رسول الله وإن كذبتموني! اكتب: محمد بن عبد الله. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به فقال سهيل: والله! لا تتحدث العرب أننا أخذنا ضغطة، ولكن لك من العام المقبل، فكتب فقال سهيل: على أن لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك، إلا رددته إلينا. فقال المسلمون سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين، وقد جاء مسلما؟! فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل ابن سهيل يرسف في قيوده، قد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين. فقال سهيل: هذا يا محمد أول من قاضيتك عليه أن ترده، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنا لم نقض الكتاب بعد، فقال: فو الله! إذن لا أصالحك على شيء أبدا. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: فأجره لي قال: ما أنا بمجيره لك، قال: بلى، فافعل. قال ما أنا بفاعل. قال مكرز: قد أجزناه لك. فقال أبو جندل: يا معشر المسلمين! أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما، ألا ترون ما لقيت- وكان قد عذب عذابا شديدا في الله- قال عمر ابن الخطاب: والله! ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله! ألست نبيّ الله؟ قال: بلى! قلت: ألسنا على الحق، وعدوّنا على الباطل؟
قال: بلى! فقلت: على م نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا؟ فقال: إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه. قلت: أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى! أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا! قال: فإنك آتيه، وتطوف به! قال فأتيت أبا بكر، فقلت له كما قلت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وردّ عليه أبو بكر كما ردّ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سواء، وزاد: فاستمسك بغرزه حتى تموت فو الله! إنه لعلى الحق. قال عمر: فعملت لذلك أعمالا. فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قوموا وانحروا ثم احلقوا. فو الله! ما قام منهم رجل حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا رسول الله! أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلق لك. فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم، حتى فعل ذلك: نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه. فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غمّا. ثم جاءت نسوة مؤمنات. ، فأنزل الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ [الممتحنة: ١٠]، حتى بلغ بِعِصَمِ الْكَوافِرِ فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك. فتزوج إحداهما معاوية، والأخرى صفوان بن أمية.
491
ثم رجع إلى المدينة، وفي مرجعه أنزل الله عليه: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً... الآيات. فقال لعمر: أفتح هو يا رسول الله؟ قال: نعم! فقال الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله! فما لنا! فأنزلنا الله عزّ وجلّ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ.... [الفتح: ٤]، الآية. ولما رجع إلى المدينة جاءه أبو بصير- رجل من قريش- مسلما، فأرسلوا في طلبه رجلين، وقالوا: العهد الذي جعلت لنا! فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به، حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا جيدا، فاستله الآخر، فقال: أجل! والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت. فقال أبو بصير أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفرّ الآخر يعدو، حتى بلغ المدينة، فدخل المسجد، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين رآه: لقد رأى هذا ذعرا. فلما انتهى إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: قتل، والله! صاحبي، وإني لمقتول. وجاء أبو بصير فقال: يا نبيّ الله! قد أوفى الله ذمتك، وقد رددتني إليهم، فأنجاني الله منهم. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ويل أمّه! مسعر حرب لو كان له أحد. فلما سمع ذلك علم أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، وتفلّت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فلا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة. فو الله! لا يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم، وأخذوا أموالهم. وأرسلت قريش إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تناشده الله والرحم لمّا أرسل إليهم، فمن أتاه فهو آمن، فأنزل الله عز وجلّ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [الفتح: ٢٤] الآية
. وجرى الصلح بين المسلمين وأهل مكة على وضع الحرب عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض، وأن يرجع عنهم عامهم ذلك، حتى إذا كان العام المقبل، قدمها، وخلّوا بينه وبين مكة، فأقام بها ثلاثا، وأنه لا يدخلها إلا سلاح الراكب، والسيوف في القرب، وأن من أتانا من أصحابكم لم نردّه عليك، ومن أتاك من أصحابنا رددته علينا، وأن بيننا وبينك عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال. فقالوا: يا رسول الله! نعطيهم هذا؟ فقال: من أتاهم منا، فأبعده الله، ومن أتانا منهم فرددناه إليهم، جعل الله له فرجا ومخرجا.
هذا ولينظر تتمة ما في فوائد هذه الغزوة ولطائفها في (زاد المعاد).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ١١]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١)
492
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا قال مجاهد: هم أعراب المدينة، كجهينة ومزينة، استتبعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لخروجه إلى مكة، فقالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاءوه، فقتلوا أصحابه، فنقاتلهم. فاعتلوا بالشغل. أي سيقولون لك إذا عاتبتهم على التخلف عنك: شغلنا عن الخروج معك معالجة أموالنا، وإصلاح معايشنا، والخوف على أهلنا من الضيعة، فاستغفر لنا ربنا.
وقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ تكذيب لهم في اعتذارهم، وأن الذي خلفهم ليس بما يقولون، وإنما هو الشك في الله، والنفاق.
وكذا طلبهم للاستغفار أيضا، ليس بصادر عن حقيقة، لأنه بغير توبة منهم. ولا ندم على ما سلف منهم من معصية التخلف. وفيه إيذان بأن اللسان لا عبرة به، ما لم يكن مترجما عن الاعتقاد الحق.
قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً أي لا أحد يمنعه تعالى من ذلك، لأنه لا يغالبه غالب. إشارة إلى عدم فائدة استغفاره لهم، مع بقائهم على كذبهم ونفاقهم، ولذا هددهم بقوله سبحانه بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي فيجازيكم عليه.
لطيفة:
قال الناصر: لا تخلو الآية من الفن المعروف عند علماء البيان باللف. وكان الأصل- والله أعلم-: فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا، ومن يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعا. لأن مثل هذه النظم يستعمل في الضر. وكذلك ورد في الكتاب العزيز مطردا، كقوله: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [المائدة: ١٧]، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [المائدة: ٤١]، فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ [الأحقاف: ٨]. ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلّم في بعض الحديث «١» : إني لا أملك لكم شيئا-
يخاطب عشيرته- وأمثاله كثيرة. وسر اختصاصه بدفع المضرة أن الملك مضاف في هذه المواضع باللام، ودفع المضرة نفع يضاف للمدفوع عنه، وليس كذلك حرمان المنفعة، فإنه ضرر عائد عليه، لا له. فإذا ظهر ذلك، فإنما انتظمت الآية على هذا الوجه، لأن القسمين يشتركان في أن كل واحد منهما نفي لدفع المقدر من خير
(١) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ٣٥٠. [.....]
493
وشر، فلما تقاربا أدرجهما في عبارة واحدة. وخص عبارة دفع الضر، لأنه هو المتوقع لهؤلاء، إذ الآية في سياق التهديد، أو الوعيد الشديد. وهي نظير قوله: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً [الأحزاب: ١٧]، فإن العصمة إنما تكون من السوء لا من الرحمة. فهاتان الآيتان يرامان في التقرير الذي ذكرته- والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١٢ الى ١٣]
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣)
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ أي اعتقدتم أنه لن يرجع الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً أي بل تستأصلهم قريش. وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ أي حسّن الشيطان ذلك وصححه، حتى حبب لكم التخلف. وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وهو عدم نصر الرسول، وعدم رجوعهم من سفرهم هذا. وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً هالكين، مستوجبين لسخط الله، أو فاسدين في أعمالكم ونياتكم.
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً أي: من النار تسعتر عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ١٤]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً قال ابن جرير: هذا من الله جل ثناؤه حثّ لهؤلاء الأعراب المتخلفين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، على التوبة والمراجعة إلى أمر الله، في طاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم. يقول لهم:
بادروا بالتوبة من تخلفكم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن الله يغفر للتائبين، لأنه لم يزل ذا عفو عن عقوبة التائبين إليه من ذنوبهم ومعاصيهم من عباده، وذا رحمة بهم أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد توبتهم منها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ١٥]
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ أي بعذر الاشتغال بأموالهم وأهليهم بعد طلبهم الاستغفار لهم إِذَا انْطَلَقْتُمْ أي قصدتم السير إِلى مَغانِمَ أي أماكنها. قال ابن جرير: وذلك ما كان وعد الله أهل الحديبية من غنائم خيبر ذَرُونا أي اتركونا في الانطلاق إليها نَتَّبِعْكُمْ أي نشهد معكم قتال أهلها يُرِيدُونَ أي بعد ظهور كذبهم في الاعتذار، وطلب الاستغفار أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ
قال ابن جرير: أي وعد الله الذي وعد أهل الحديبية، وذلك أن الله جعل غنائم خيبر لهم، ووعدهم ذلك عوضا من غنائم أهل مكة، إذ انصرفوا عنها على صلح، ولم يصيبوا منهم شيئا.
وقال آخرون: بل عنى بقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ إرادتهم الخروج مع نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة. وقد قال الله تبارك وتعالى في سورة التوبة: فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [التوبة: ٨٣]، والأكثرون على الأول. وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رجع من الحديبية في ذي الحجة من سنة ست، وأقام بالمدينة بقيتها وأوائل المحرم، ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية، ففتحها وغنم أموالا كثيرة، فخصها بهم.
قال الشراح: وكان ذلك بوحي. ثم كانت غزوة تبوك بعد فتح خيبر، وبعد فتح مكة أيضا. وفي منصرفه من تبوك نزل قوله تعالى: فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ...
[التوبة: ٨٣] الآية. فكيف يحمل على ما كان في غزوة الحديبية، وقد نزل بعدها بكثير؟ - والله أعلم-.
قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا أي إلى خيبر إذا أردنا السير إليهم. وهو نفي في معنى النهي.
قال الشهاب: فالخبر مجاز عن النهي الإنشائي، وهو أبلغ.
كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ قال ابن جرير: أي من قبل مرجعنا إليكم. إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا، ولستم ممن شهدها، فليس لكم أن تتبعونا إلى خيبر، لأن غنيمتها لغيركم فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا أي أن نصيب معكم مغنما إن نحن شهدنا معكم، فلذلك تمنعوننا من الخروج معكم. قال الشهاب: وهو
إضراب عن كونه بحكم الله. أي بل إنما ذلك من عند أنفسكم حسدا.
بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ أي عن الله تعالى ما لهم وعليهم من أمر الدين إِلَّا قَلِيلًا أي فهما قليلا، وهو ما كان في أمور الدنيا، كقوله تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الروم: ٧].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ١٦]
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ أي عن المسير معك سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أي يفوق قتال من أقاتلهم، بحيث لا دخل للصلح والأمن فيه، بل تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ أي يدخلون في الدنيا من غير حرب ولا قتال. وقرئ شاذا أو يسلموا بمعنى إلا أن يسلموا، أو حتى يسلموا. فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً يعني الغنيمة في الدنيا، والجنة في الآخرة وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ أي عن الحديبية يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً أي لتضاعف جرمكم.
ثم خص من هذا الوعيد أصحاب الأعذار، وإن حدثت بعد التخلف الأول، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ١٧]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ قال المهايمي: وإن أمكنة القتال بإحساس صوت مشي العدوّ، ومشي فرسه، لكن يصعب عليه حفظ نفسه عنه. وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ أي وإن أمكنه القتال قاعدا، لكن لا يمكنه الكرّ والفرّ، ولا يقوى قوة القائم وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ أي فإنه وإن أمكنه الإبصار والقيام، فلا قوة له في دفع العدوّ، فضلا عن الغلبة عليه.
ثم أشار تعالى إلى أن هؤلاء، وإن فاتهم الجهاد، لا ينقص ثوابهم إذا أطاعوا الله ورسوله، بقوله سبحانه: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
وَمَنْ يَتَوَلَ
أي عن إطاعتهما، وإن كان أعمى أو أعرج أو مريضا يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً أي بالمذلة دنيا، والنار أخرى.
تنبيه:
اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين هم (أولو بأس شديد) - على أقوال:
أحدها- أنهم هوازن.
الثاني- ثقيف، وكلاهما غزاه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
الثالث- بنو حنيفة الذين تابعوا مسيلمة الكذاب، وغزاهم أبو بكر رضي الله عنه.
الرابع- أهل فارس والروم، الذين غزاهم عمر رضي الله عنه.
ومثار الخلاف هو عموم ظاهر الآية، وشمول مصداقها لكل الغزوات المذكورة. ولو عدّ من الأوجه كفار مكة، لم يبعد، بل عندي هو الأقرب، لأن السين للاستقبال القريب، فإن هذه السورة نزلت عدة بفتح مكة، منصرفه صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية، وعلى أثرها كانت غزوة الفتح الأعظم، التي لم يتخلف عنها من القبائل الشهيرة أحد، إذ دعاهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى قتال قريش أو يسلموا، فكان ما كان من إسلامهم طوعا أو كرها- والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ١٨]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ يعني بيعة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية، حين بايعوه على مناجزة قريش الحرب، وعلى أن لا يفرّوا، ولا يولوهم الدبر، تحت شجرة هناك.
وقد أجمع الرواة في الصحاح على أن الشجرة لم تعلم بعد. ففي الصحيحين «١» من حديث أبي عوانة عن طارق، عن سعيد بن المسيّب قال: كان أبي ممن بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت الشجرة. قال: فانطلقنا من قابل حاجّين، فخفي علينا مكانها، وإن كان بينت لكم، فأنتم أعلم.
(١) أخرجه البخاري في: المغازي، ٣٥- باب غزوة الحديبية، حديث ١٨٩٨.
497
وفيهما أيضا عن سفيان قال: إنهم اختلفوا في موضعها.
وروى ابن جرير عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب قال: كان جدي يقال له (حزن)، وكان ممن بايع تحت الشجرة، فأتيناها من قابل، فعمّيت علينا.
ثم قال ابن جرير: وزعموا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة فقال: أين كانت؟ فجعل بعضهم يقول: هنا، وبعضهم يقول:
ها هنا! فلما كثر اختلافهم قال: سيروا، هذا التكلّف، فذهبت الشجرة، وكانت سمرة، إما ذهب بها سيل، وإما شيء سوى ذلك. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : روى ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوما يأتون الشجرة، فيصلّون عندها، فتوعّدهم، ثم أمر بقطعها، فقطعت!.
ولا ينافي ما تقدم، لاحتمال أن هؤلاء علموا مكانها، أو توهّموها، فاتخذوها مسجدا، ومكانا مقدسا، فقطعها عمر حالتئذ، صونا لعقيدتهم من الشرك، لأن الاجتماع على العبادة حولها يفضي إلى عبادتها بعد، كما أفضى نصب الأوثان إلى عبادتها، وكان أول أمرها لتعظيم مسمياتها، وإجلال مثال أصحابها.
وقال في (الفتح) أيضا في شرح حديث ابن عمر، وقوله: رجعنا من العام المقبل، فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها. كانت رحمة من الله، ما مثاله:
وقد وافق المسيّب بن حزن، والد سعيد، ما قاله ابن عمر من خفاء الشجرة.
والحكمة في ذلك أن لا يحصل بها افتتان، لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجّهال لها، حتى ربما أفضى بهم إلى اعتقاد أن لها قوة نفع أو ضر، كما نراه الآن مشاهدا فيما هو دونها. وإلى ذلك أشار ابن عمر بقوله (كانت رحمة من الله) أي كان خفاؤها عليهم، بعد ذلك، رحمة من الله تعالى. انتهى.
وهذه البيعة تسمى بيعة الرضوان، سميت لهذه الآية، وتقدمت قصتها مفصلة.
فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ أي من الصدق والعزيمة على الوفاء بالعهد فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ أي في الصبر والطمأنينة والوقار. وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً قال ابن جرير: أي وعوّضهم في العاجل مما رجوا الظفر به من غنائم أهل مكة، بقتالهم أهلها، فَتْحاً قَرِيباً، وذلك- فيما قيل- فتح خيبر.
498
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ١٩]
وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩)
وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وهي مغانم خيبر، وكانت أرضا ذات عقار وأموال، فقسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أهل بيعة الرضوان خاصة. وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً أي ذا عزة في انتقامه من أعدائه، وحكمة في تدبير خلقه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٠]
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها يعني ما يفيء عليهم من غنائم الكفار في سبيل الجهاد. فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ يعني غنائم خيبر. وأما الغنائم المؤخرة فسائر فتوح المسلمين بعد ذلك الوقت، إلى قيام الساعة. وقيل: المعجلة هي صلح الحديبية. والصواب هو الأول، كما قاله ابن جرير، لأن المسلمين لم يغنموا بعد الحديبية غنيمة، ولم يفتحوا فتحا أقرب من بيعتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية إليها، من فتح خيبر وغنائمها. وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أي أيدي أهل خيبر، فانتصرتم عليهم، أو أيدي المشركين من قريش عنكم في الحديبية. واختار ابن جرير الأول.
قال: لأن الثاني سيذكر في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ... الآية. أي والتأسيس خير من التأكيد. ولك أن تقول: لا مانع من التأكيد، لا سيما في مقام التذكير بالنعم، والتنويه بشأنها. وتكون الآية الثانية بمثابة التفسير للأولى، والتبيين لمطلقها- والله أعلم-.
وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أي ولتكون تلك الكفة أو الغنيمة عبرة للمؤمنين، يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان، وأنه ضامن نصرهم، والفتح لهم. وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي ويزيدكم بصيرة ويقينا وثقة بفضل الله. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ٢١]
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١)
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها معطوف على هذِهِ أي فعجّل لكم هذه المغانم، ومغانم أخرى، وهي مغانم هوازن في غزوة حنين، لأنه قال: لَمْ
تَقْدِرُوا عَلَيْها
وهذا يدل على ما تقدم محاولة لها. وقال الحسن: هي فارس والروم.
قال القرطبيّ: وكونها معجلة، وإن كانت لم تحصل إلا في عهد عمر، بالنسبة لما بعدها من الغنائم الإسلامية.
وعن قتادة: هي مكة. قال ابن جرير: وهذا القول الذي قاله قتادة، أشبه بما دلّ عليه ظاهر التنزيل. وذلك أن الله أخبر هؤلاء الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت الشجرة أنه محيط بقرية لم يقدروا عليها. ومعقول أنه لا يقال لقوم، لم يقدروا على هذه المدينة، إلا أن يكونوا قد راموها فتعذرت عليهم. فأما وهم لم يروموها فتتعذر عليهم، فلا يقال إنهم لم يقدروا عليها. فإذا كان ذلك كذلك، وكان معلوما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يقصد قبل نزول هذه الآية عليه، خيبر لحرب، ولا وجّه إليها لقتال أهلها جيشا ولا سرية، علم أن المعنى بقوله وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها غيرها، وأنها هي التي عالجها ورامها فتعذرت، فكانت مكة وأهلها كذلك. وأخبر الله تعالى نبيّه والمؤمنين، أنه أحاط بها وبأهلها. وأنه فاتحها عليهم. انتهى.
وقال القرطبي: معنى قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها أي أعدها لكم، فهي كالشيء الذي أحيط به من جميع جوانبه، فهو محصور لا يفوت. فأنتم، وإن لم تقدروا عليها في الحال، فهي محبوسة عليكم لا تفوتكم. وقيل: أَحاطَ اللَّهُ بِها علم أنها ستكون لكم، كما قال وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً. وقيل: حفظها الله عليكم، ليكون فتحها لكم. انتهى.
وقد جوّز في أُخْرى أن تكون معطوفة على مَغانِمَ المنصوب ب وَعَدَكُمُ وأن تكون مرفوعة بالابتداء ولَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها صفتها وقَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها خبر. وأوجه أخر.
وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً أي: لا يبعد عليه إذا شاءه.
ثم أشار تعالى إلى تبشير أهل بيعة الرضوان بالظفر والنصر المستمر، لصدق إيمانهم إخلاصهم في ثباتهم، وإيثارهم مرضاة الله ورسوله على كل محبوب، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٢٣)
وَلَوْ قاتَلَكُمُ أي بعد هذا الفتح والنصر المعجل الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ
أي ولوكم أعجازهم في الحرب، فعل المنهزم من قرنه في الحرب. ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي من يواليهم على حربكم، وينصرهم عليكم.
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ أي مضت في كفار الأمم السالفة مع مؤمنيها.
وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي تغييرا.
قال ابن جرير: بل ذلك دائم. للإحسان جزاؤه من الإحسان، وللإساءة والكفر العقاب والنكال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٤]
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤)
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أي قضى بينهم وبينكم المكافّة والمحاجزة، بعد ما خولكم الظفر عليهم والغلبة. إشارة إلى منة الصلح ونعمته في الحديبية، وأن ذلك عناية منه تعالى بما حفظ من أنفسهم وأموالهم، ولطف بهم يومئذ لما ادخر لهم بعده.
وقد ذهب بعضهم إلى أنه عنى بهذا الكف، ما كان يوم الفتح. ونظر فيه بأن السورة نزلت قبله.
وقال ابن إسحاق: حدثني من لا أتهم عن عكرمة مولى ابن عباس أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطوفوا بعسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصيبوا من أصحابه أخذا، فأخذوا أخذا. فأتى بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعفا عنهم، وخلى سبيلهم. وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحجارة والنبل. قال ابن إسحاق: ففي ذلك قال: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ... الآية.
وروى ابن جرير عن مجاهد قال: أقبل معتمرا نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم. فأخذ أصحابه ناسا من أهل الحرم غافلين، فأرسلهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فذلك الإظفار ببطن مكة.
قال قتادة: بطن مكة، الحديبية.
وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً أي فيجازيكم عليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٥]
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي هؤلاء المشركون من قريش، هم الذي جحدوا توحيد الله وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ أي وصدوا الهدي أيضا، وهو ما يهدى إلى مكة من النعم مَعْكُوفاً أي محبوسا. قال السمين: يقال: عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته عنها. وأنكر الفارسي تعدية (عكف) بنفسه، وأثبتها ابن سيده والأزهريّ وغيرهما، وهو ظاهر القرآن، لبناء اسم المفعول منه. انتهى.
وقوله تعالى: أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ قال ابن جرير: أي محل نحره. وذلك دخول الحرم، والموضع الذي إذا صار إليه حلّ نحره، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ساق معه حين خرج إلى مكة في سفرته تلك، سبعين بدنة.
وفي الآية دليل على أن محل ذبح الهدي، الحرم.
وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ أي موجودون بمكة مع الكفار لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أي بصفة الإيمان وهم بمكة، حبسهم المشركون بها عنكم، فلا يستطيعون من أجل ذلك الخروج إليكم. أَنْ تَطَؤُهُمْ أي تقتلوهم مع الكفار، لو أذن لكم في الفتح بدل الصلح. قال السمين: أَنْ تَطَؤُهُمْ يجوز أن يكون بدلا من (رجال ونساء) غلب الذكور، وأن يكون بدلا من مفعول تَعْلَمُوهُمْ. فالتقدير على الأول (ولولا وطء رجال ونساء غير معلومين). وتقدير الثاني (لم تعلموا وطأهم) والخبر محذوف تقديره (ولولا رجال ونساء موجودون، أو بالحضرة).
انتهى.
فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ أي إثم وغرامة. من (عرّه) إذا عراه ما يكرهه. وقوله بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من الضمير المرفوع في تَطَؤُهُمْ أي تطئوهم غير عالمين بهم.
وفي جواب لَوْلا أقوال:
أحدها- أنه محذوف لدلالة الكلام عليه. والمعنى ولولا كراهة أن تهلكوا ناسا مؤمنين بين ظهراني المشركين، وأنتم غير عارفين بهم، فيصيبكم بإهلاكهم
502
مكروه ومشقة، لما كف أيديكم عنهم، ولأذن لكم في دخول مكة مقاتليهم.
والثاني- أنه مذكور، وهو لَعَذَّبْنَا وجواب (لو) هو المحذوف. فحذف من الأول لدلالة الثاني، ومن الثاني لدلالة الأول.
والثالث- أن قوله لَعَذَّبْنَا جوابهما معا، وهو بعيد إن أريد حقيقة ذلك.
وذكر الزمخشريّ قريبا من هذا فإنه قال: ويجوز أن يكون لَوْ تَزَيَّلُوا كالتكرير ل لَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ لمرجعهما لمعنى واحد، ويكون لَعَذَّبْنَا هو الجواب. ومنع الشيخ رجوعهما لمعنى واحد، قال: لأن ما تعلق به الأول غير ما تعلق به الثاني- أفاده السمين-.
وأجاب الناصر بقوله: وإنما كان مرجعهما هاهنا واحدا، وإن كانت (لولا) تدل على امتناع لوجود، و (لو) تدل على امتناع لامتناع. وبين هذين تناف ظاهر، لأن (لولا) هاهنا دخل على وجود، و (لو) دخلت على قوله تَزَيَّلُوا وهو راجع إلى عدم وجودهم. وامتناع عدم الوجود وجود. فآلا إلى أمر واحد من هذا الوجه. قال:
وكان جدّي رحمه الله يختار هذا الوجه الثاني، ويسميه تطرية. وأكثر ما تكون إذا تطاول الكلام، وبعد عهد أوله، واحتيج إلى ردّ الآخر على الأول، فمرة يطري بلفظه، ومرة بلفظ آخر يؤدي مؤداه وقد تقدمت لهما أمثال.
تنبيه:
فسر ابن إسحاق (المعرة) بالدية، ذهابا إلى أن دار الحرب لا تمنع من ذلك.
وهو مذهب الشافعيّ. وذهب غيرهما إلى أنها تمنع من ذلك، ومنهم ابن جرير حيث قال: (المعرة) هي كفارة قتل الخطأ، وذلك عتق رقبة مؤمنة لمن أطاق ذلك، ومن لم يطق فصيام شهرين. قال: وإنما اخترت هذا القول، دون القول الذي قاله ابن إسحاق، لأن الله إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب- إذا لم يكن هاجر منها، ولم يكن قاتله علم إيمانه- الكفارة دون الدية فقال فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لم يوجب على قاتله خطأ ديته، فلذلك قلنا: عنى بالمعرة في هذا الموضع الكفارة. انتهى.
لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ متعلق بما يدل عليه الجواب المحذوف، كأنه قيل عقيبه: لكن كفها عنهم، ولم يأذن لكم في مقاتلتهم، ليدخلكم في رحمته الكاملة بحفظكم من المعرة. وقد جوز أن يكون مَنْ يَشاءُ عبارة عمن رغب في الإسلام من المشركين، وعليه اقتصر ابن جرير، قال: أي ليدخل الله في
503
الإسلام من أهل مكة من يشاء، قبل أن تدخلوها. وناقش فيه أبو السعود بأن ما بعده من فرض التنزيل وترتيب التعذيب عليه، يأباه.
لَوْ تَزَيَّلُوا أي لو تميز مشركو مكة من الرجال المؤمنين، والنساء المؤمنات، الذين لم تعلموهم منهم لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي بالقتل أو الأسر أو نوع آخر من العذاب الآجل.
تنبيه:
قال إلكيا الهرّاسي: في الآية دليل على أنه لا يجوز حرق سفينة الكفار، إذا كان فيها أسرى من المسلمين، وكذلك رمي الحصون إذا كانوا بها، والكفار إذا تترسوا بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٦]
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ قال ابن جرير: وذلك حين جعل سهيل بن عمرو في قلبه الحمية، فامتنع أن يكتب في كتاب المقاضاة الذي كتب بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمشركين (بسم الله الرحمن الرحيم)، وأن يكتب فيه مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وامتنع هو وقومه من دخول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عامه ذلك. والعامل في الظرف إما (لعذبنا) أو (صدوكم) أو (اذكر) مقدرا، فيكون مفعولا به. و (الحمية) الأنفة، وهي الاستكبار والاستنكاف، مصدر من (حمى من كذا) حمية.
وقوله تعالى فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ عطف على منويّ.
أي: فهمّ المسلمون أن يأبوا ذلك، ويقاتلوا عليه، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين. يعني: الوقار والتثبت، حتى صالحوهم على أن يعودوا من قابل، وعلى ما تقدم.
وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى أي اختارها لهم، فالإلزام مجاز عما ذكر من اختيارها لهم، وأمرهم بها.
وَكانُوا أَحَقَّ بِها قال أبو السعود: أي متصفين بمزيد استحقاق لها. على أن صيغة التفضيل للزيادة مطلقا. وقيل: أحق بها من الكفار. وَأَهْلَها أي المستأهل لها. وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً. قال أبو السعود: أي فيعلم حق كل شيء، فيسوقه إلى مستحقه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٧]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ.
قال ابن جرير: أي لقد صدق الله رسوله محمدا رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين، لا يخافون أهل الشرك، مقصرا بعضهم رأسه، ومحلقا بعضهم. ثم روي عن مجاهد أنه قال: أري بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية: أين رؤيا محمد صلّى الله عليه وسلّم؟
وعن ابن زيد قال: قال لهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إني قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رؤوسكم مقصرين، فلما نزل بالحديبية، ولم يدخل ذلك العام، طعن المنافقون في ذلك فقالوا: أين رؤياه؟ فقال الله لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ...
الآية، إني لم أره يدخلها هذا العام، وليكونن ذلك. والرُّؤْيا منصوب بنزع الخافض، أي صدقه في رؤياه. أي حقق صدقها عنده، كما هو عادة الأنبياء عليهم السلام، ولم يجعلها أضغاث أحلام. أو منصوب على أنه مفعول ثان، وهو ما قاله الكرمانيّ، وعبارته: (كذب) يتعدى إلى مفعولين، يقال: كذبني الحديث، وكذا (صدق) كما في الآية. وهو غريب لتعدي المثقل لواحد، والمخفف لمفعولين.
وقوله بِالْحَقِّ حال من الرؤيا. أي متلبسة بالحق، ليست من قبيل أضغاث الأحلام.
وقوله لَتَدْخُلُنَّ جواب قسم محذوف. أي: والله! لتدخلن.
وقوله إِنْ شاءَ اللَّهُ تعليق للعدة بالمشيئة، لتعليم العباد. أو للإشعار بأن
505
بعضهم لا يدخل، فهو في معنى: ليدخلنّه من شاء الله دخوله منكم. أو حكاية لما قاله ملك الرؤيا، أو النبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه.
وقوله مُحَلِّقِينَ حال مقدرة، لأن الدخول في حال الإحرام، لا في حال الحلق والتقصير. وفي الكلام تقدير، أو هو من نسبة ما للجزء إلى الكل. والمعنى: ملحقا بعضكم، ومقصرا آخرون. والقرينة عليه: أنه لا يجتمع الحلق والتقصير، فلا بد من نسبة كل منهما لبعض منهم.
وثبت في الصحيح «١» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: رحم الله المحلقين! قالوا:
والمقصرين يا رسول الله؟ قال: رحم الله المحلقين؟ قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: رحم الله المحلقين! قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: والمقصرين!
وقوله تعالى لا تَخافُونَ حال مؤكدة لقوله آمِنِينَ أو مؤسسة، لأن اسم الفاعل للحال والمضارع للاستقبال، فيكون أثبت لهم الأمن حال الدخول. ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد، لا يخافون من أحد.
قال الحافظ ابن كثير: وهذا كان في عمرة القضاء، في ذي القعدة سنة سبع، فإن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة، رجع إلى المدينة، فأقام بها ذا الحجة والمحرم، وخرج في صفر إلى خيبر، ففتحها الله عليه. بعضها عنوة، وبعضها صلحا، وهي إقليم عظيم كثير النخل والزروع، فاستخدم من فيها من اليهود عليها، على الشطر، وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم، ولم يشهدها أحد غيرهم، إلا الذين قدموا من الحبشة: جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وأبو موسى الأشعريّ وأصحابه رضي الله عنهم، ولم يغب منهم أحد. قال ابن زيد: إلا أبا دجانة سماك بن خرشة، كما هو مقرر في موضعه. ثم رجع المدينة، فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع، خرج صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة معتمرا، هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة، ساق معه الهدي. قيل: كان ستين بدنة. فلبى، وسار وأصحابه يلبون، قريبا من مرّ الظهران، بعث محمد بن سلمة بالخيل والسلاح أمامه، فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا، وظنوا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يغزوهم، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه، من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا فأخبروا أهل مكة. فلما جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزل بمر الظهران، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، بعث السلاح من القسيّ والنبل والرماح إلى بطن يأجج، وسار بالسيوف إلى مكة مغمدة في قربها، كما شارطهم
(١) أخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم ٣١٨.
506
عليه. فلما كان في أثناء الطريق، بعثت قريش مكرز بن حفص فقال: يا محمد! ما عرفناك تنقض العهد! فقال صلّى الله عليه وسلّم: وما ذاك؟ قال: دخلت علينا بالسلاح، القسيّ والرماح! فقال صلّى الله عليه وسلّم: لم يكن ذلك، وقد بعثنا به إلى يأجج؟ فقال: بهذا عرفناك، بالبرّ والوفاء
. وخرجت رؤوس الكفار من مكة، لئلا ينظروا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلى أصحابه رضي الله عنه، غيظا وحنقا. وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت، ينظرون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فدخلها عليه الصلاة والسلام، وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى، وهو راكب ناقته القصواء، التي كان راكبها يوم الحديبية، وعبد الله بن رواحة الأنصاريّ آخذ بزمام ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يقول:
باسم الذي لا دين إلا دينه باسم الذي محمد رسوله
خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله قد أنزل الرّحمن في تنزيله
في صحف تتلى على رسوله بأن خير القتل في سبيله
يا رب! إني مؤمن بقيله
وروى الإمام أحمد «١» من طريق أبي الطفيل عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما نزل مرّ الظهران في عمرته، بلغ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن قريشا تقول: ما يتباعثون من العجف؟ فقال أصحابه: لو انتحرنا، من ظهرنا، فأكلنا من لحمه، وحسونا من مرقه، أصبحنا غدا حين ندخل على القوم، وبنا جمامة. قال صلّى الله عليه وسلّم: لا تفعلوا، ولكن اجمعوا لي من أزوادكم، فجمعوا له، وبسطوا الأنطاع، فأكلوا حتى تولوا، وحثا كل واحد منهم في جرابه. ثم أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى دخل المسجد، وقعدت قريش نحو الحجر فاضطبع صلّى الله عليه وسلّم بردائه، ثم قال: لا يرى القوم فيكم غميزة، فاستلم الركن، ثم دخل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود، فقالت قريش: ما يرضون بالمشي إنهم لينقزون نقز الظباء؟ ففعل ذلك ثلاثة أطواف، فكانت سنّة.
قال أبو الطفيل: فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعل ذلك في حجة الوداع.
(١) أخرجه في المسند ١/ ٣٠٥، والحديث رقم ٢٧٨٣.
507
وروى أحمد «١» من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمّى يثرب، ولقوا منها سوءا، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها شرا، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحجر، فأطلع الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم على ما قالوا، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، ليرى المشركون جلدهم. قال، فرملوا ثلاثة أشواط، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين، حيث لا يراهم المشركون.
وفي رواية: ولم يمنع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم.
وفي ابن كثير زيادة من الأحاديث في هذا الباب، فليراجعها من أحب الزيادة.
وقوله تعالى فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا أي من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة، ودخولكم إليها، عامكم ذلك.
قال ابن جرير: وذلك علمه تعالى ذكره بما بمكة من الرجال والنساء المؤمنين لم يعلمهم المؤمنون، ولو دخلوها في ذلك العام لوطئوهم بالخيل والرّجل، فأصابتهم منهم معرة بغير علم، فردهم الله عن مكة من أجل ذلك. وليدخل في رحمته من يشاء ممن يريد أن يهديه. فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ أي قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَتْحاً قَرِيباً يعني الصلح الذي جرى بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين مشركي قريش، أو فتح خيبر، لتستروح إليه قلوب المؤمنين، إلى أن يتيسر الفتح الموعود. وإلى الأول ذهب الزهريّ، قال: يعني صلح الحديبية. وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس. فلما كانت الهدنة، وضعت الحرب وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا، فالتقوا، فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلّم أحد بالإسلام، يعقل شيئا، إلا دخل فيه. فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر. ووافقه مجاهد وإلى الثاني ذهب ابن زيد.
قال ابن جرير: والصواب أن يعم فيقال: جعل الله من دون ذلك كليهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٨]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٢٨)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى أي البيان الواضح وَدِينِ الْحَقِّ أي الإسلام.
(١) أخرجه في المسند ١/ ٣٩٥، والحديث رقم ٢٦٨٦
وقال المهايميّ: بِالْهُدى أي الدلائل القطعية وَدِينِ الْحَقِّ أي الاعتقادات الصائبة المطابقة لما هو الواقع أشد مطابقة.
وقال ابن كثير: أي بالعلم النافع، والعمل الصالح، فإن الشريعة تشتمل على شيئين: علم وعمل. فالعلم الشرعيّ صحيح، والعمل الشرعيّ مقبول، فإخباراتها حق، وإنشاءاتها عدل. لِيُظْهِرَهُ أي ليعليه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ قال ابن جرير: أي ليبطل به الملل كلها، حتى لا يكون دين سواه. وذلك حين ينزل عيسى ابن مريم، فيقتل الدجال، فحينئذ تبطل الأديان كلها، غير دين الله الذي بعث به محمدا صلّى الله عليه وسلّم، ويظهر الإسلام على الأديان كلها. انتهى.
وقال ابن تيمية: قد أظهره الله علما وحجة وبيانا على كل دين، كما أظهره قوة ونصرا وتأييدا، وقد امتلأت الأرض منه ومن أمته في مشارق الأرض ومغاربها، وسلطانهم دائم لا يقدر أحد أن يزيله، كما زال ملك اليهود، وزال ملك من بعدهم عن خيار الأرض وأوسطها. انتهى.
وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي على أن ما وعده من إظهار دينه على جميع الأديان أو الفتح أو المغانم كائن. قال الحسن: شهد لك على نفسه أنه سيظهر دينك على الدين كله.
قال ابن جرير: وهذا إعلام من الله تعالى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، والذين كرهوا الصلح يوم الحديبية من أصحابه أن الله فاتح عليهم مكة وغيرها من البلدان، مسلّيهم بذلك عما نالهم من الكآبة والحزن، بانصرافهم عن مكة قبل دخولها، وقبل طوافهم بالبيت.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٩]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أي أصحابه أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ أي لهم شدة وغلظة على الكفار المحاربين لهم، الصادّين عن سبيل الله، وعندهم
509
تراحم فيها بينهم، كقوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [المائدة: ٥٤].
لطائف:
الأولى- جوز في مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أن يكونا مبتدأ وخبرا، وأن يكون رَسُولُ اللَّهِ صفة، أو عطف بيان، أو بدلا، وَالَّذِينَ مَعَهُ عطف عليه. وخبرهما أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ.
الثانية- قال الشهاب: قوله تعالى رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تكميل، لو لم يذكر لربما توهم أنهم لاعتيادهم الشدة على الكفار قد صار ذلك لهم سجية في كل حال، وعلى كل أحد. فلما قيل رُحَماءُ بَيْنَهُمْ اندفع ذلك التوهم، فهو تكميل واحتراس، كما في الآية المتقدمة، فإنه لما قيل أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ربما توهم أن مفهوم القيد غير معتبر، وأنهم موصوفون بالذل دائما، وعند كل أحد، فدفع بقوله أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ فهو كقوله:
حليم إذا ما الحلم زيّن أهله على أنه عند العدوّ مهيب
الثالثة- قال المهايميّ: تفيد الآية أن دين الحق قد ظهر في أصحابه صلوات الله عليه، إذ اعتدلت قوتهم الغضبية! بتبعية اعتدال المفكرة والشهوية، إذ هم أشداء على الكفار، لرسوخهم في صحة الاعتقاد، بحيث يغارون على من لم يصح اعتقاده، رحماء بينهم، لعدم ميلهم إلى الشهوات. هذا باعتبار الأخلاق، وأما باعتبار الأعمال، فأنت تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً قال ابن كثير: وصفهم بكثرة العمل، وكثرة الصلاة، وهي خير الأعمال. ووصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل، والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب، وهو الجنة المشتملة على فضل الله عز وجل، وهو سعة الرزق عليهم ورضاه تعالى عنهم! وهو أكبر من الأولى، كما قال جل وعلا وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: ٧٢] انتهى.
سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مبتدأ وخبر، أي علامتهم كائنة فيها. وقوله تعالى مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ بيان للسيما، كأنه قيل: سيماهم التي هي أثر السجود. أو حال من المستكنّ في (وجوههم).
قال الشهاب: وهي على ما قبله خبر مبتدأ تقديره: هي من أثر السجود.
انتهى.
510
وهل الوجوه مجاز عن الذوات، أو حقيقة؟ في معناها تأويلان للسلف، فعن ابن عباس سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ يعني السمت الحسن. وقال مجاهد وغير واحد، يعني الخشوع والتواضع. وقال منصور لمجاهد: ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه، فقال مجاهد، ربما كان بين عيني من هو أقسى قلبا من فرعون. وقال بعض السلف:
من كثرت صلاته بالليل، حسن وجهه بالنهار. وقد رفعه ابن ماجة. والصحيح أنه موقوف. وقال بعضهم: إن للحسنة لنورا في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس. وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه، وفلتات لسانه. وروى الطبرانيّ مرفوعا: ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر- وإسناده واه، لأن فيه العرزميّ وهو متروك-.
وروى الإمام أحمد «١» عن أبي سعيد الخدريّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء، ليس لها باب ولا كوة، لخرج عمله للناس كائنا ما كان.
وأخرج أيضا «٢» عن ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الهدى الصالح، والسمت الصالح والاقتصاد، جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة. ورواه أبو داود أيضا.
والتأويل الثاني في الآية، أن ذلك آثار ترى في الوجه من ثرى الأرض، أو ندى الطهور. روي ذلك عن ابن جبير وعكرمة. وقد كان ذلك في العهد النبويّ، حيث لا فراش للمسجد إلا ترابه وحصباؤه.
وكل من المعنيين من (سيماهم) رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقوله تعالى ذلِكَ أي الوصف مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ أي صفتهم العجيبة فيها وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ أي فراخه أو سنبله أو نباته فَآزَرَهُ أي قوّاه فَاسْتَغْلَظَ أي فغلظ الزرع واشتد. فالسين للمبالغة في الغلظ، أو صار من الدقة إلى الغلظ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ أي استقام على قصبه. و (والسوق) جمع ساق يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ أي يعجب هذا الزرع الذي استغلظ فاستوى على سوقه في تمامه، وحسن نباته، وبلوغه وانتهائه، الذين زرعوه. وقوله تعالى لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ
(١) أخرجه في المسند ٣/ ٢٨.
(٢) أخرجه في المسند ١/ ٢٩٦، والحديث رقم ٢٦٩٨.
511
تعليل لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وقوتهم، كأنه قيل: إنما قوّاهم وكثّرهم ليغيظ بهم الكفار.
لطائف:
الأولى: يجوز في قوله تعالى وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ وجهان:
أحدهما- أنه مبتدأ، وخبره كَزَرْعٍ فيوقف على قوله فِي التَّوْراةِ فهما مثلان، وإليه ذهب ابن عباس.
والثاني- أنه معطوف على مَثَلُهُمْ الأول، فيكون مثلا واحدا في الكتابين، ويوقف حينئذ على فِي الْإِنْجِيلِ، وإليه نحا مجاهد والفرّاء، ويكون قوله كَزَرْعٍ في هذا فيه أوجه:
أحدهما- أنه خبر مبتدأ مضمر. أي مثلهم كزرع، فسر به المثل المذكور في الإنجيل.
الثاني- أنه حال من الضمير في مَثَلُهُمْ أي مماثلين زرعا هذه صفته.
الثالث- أنه نعت مصدر محذوف، أي تمثيلا كزرع- ذكره أبو البقاء-.
قال الزمخشريّ: ويجوز أن يكون ذلِكَ إشارة مبهمة أوضحت بقوله كَزَرْعٍ كقوله وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ [الحجر: ٦٦]، - أفاده السمين-.
الثانية- قال السمين: الضمير المستتر في فَآزَرَهُ للزرع، والبارز للشطء.
وعكس النسفيّ، فجعل المستتر للشطء، والبارز للزرع. أي فقوي الشطء بكثافة الزرع وكثافته كثرة فروعه وأوراقه. قال الجمل: وما صنعه النسفي أنسب، فإن العادة أن الأصل يتقوّى بفروعه، فهي تعينه وتقوّيه.
الثالثة- قال السمين: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ حال. أي حال كونه معجبا، وهنا تمّ المثل.
الرابعة- قال الزمخشريّ: هذا مثل ضربه الله لبدء أمر الإسلام، وترقّيه في الزيادة، إلى أن قوي واستحكم، لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قام وحده، ثم قوّاه الله بمن آمن معه، كما يقوّي الطاقة الأولى من الزرع، ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزراع.
512
وهذا ما قاله البغويّ من أن (الزرع) محمد، و (الشطء) أصحابه والمؤمنون، فجعلا التمثيل للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأمته.
وأما القاضي فجعله مثالا للصحابة فقط. وعبارته: وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة، قلّوا في بدء الإسلام، ثم كثروا واستحكموا، فترقّى أمرهم، بحيث أعجب الناس.
قال الشهاب: ولكل وجهة.
الخامسة- قال ابن كثير: من هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه، في رواية عنه، تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم. قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة، فهو كافر لهذه الآية. ووافقه طائفة من العلماء على ذلك- انتهى كلام ابن كثير-.
ولا يخفاك أن هذا خلاف ما اتفق عليه المحققون من أهل السنة والجماعة من أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة، كما بسط في كتب العقائد، وأوضحه النوويّ في شرح (مقدمة مسلم)، وقبله الإمام الغزاليّ في كتابه (فيصل التفرقة). وقد كان من جملة البلاء في القرون الوسطى التسرع من الفقهاء بالتكفير والزندقة. وكم أريقت دماء في سبيل التعصب لذلك، كما يمر كثير منه بقارئ التاريخ. على أن كلمة الأصوليين اتفقت على أن المجتهد كيفما كان، مأجور غير مأزور، ناهيك بمسألة عدالتهم المتعددة أقوالها، حتى في أصغر كتاب في الأصول كمثل (جمع الجوامع).
نعم، إن التطرف والغلوّ في المباحث ليس من شأن الحكماء المنصفين. وإذا اشتد البياض صار برصا.
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي صدقوا الله ورسوله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً أي عفوا عما مضى من ذنوبهم، وسيء أعمالهم بحسنها. وَأَجْراً عَظِيماً أي ثوابا جزيلا، وهو الجنة.
513

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الحجرات
قال المهايميّ: سميت بها لدلالة آيتها على سلب إنسانية من لا يعظم رسول الله غاية التعظيم، ولا يحترمه غاية الاحترام. وهو من أعظم مقاصد القرآن.
وهي مدنية، وآيها ثمان عشرة.
وقد انفردت هذه السورة بآداب جليلة، أدّب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، من التوقير والتبجيل.
514
Icon