تفسير سورة الفتح

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
[ سورة الفتح مدنية ]١
١ في م، ذكر أن سورة الفتح مدنية، في الأصل: سورة الفتح..

سُورَةُ الْفَتْحِ
ذكر أن سورة الفتح مدنية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٢) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (٧).
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) قَالَ بَعْضُهُمْ: هو فتح مكة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو صلح الحديبية الذي بين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبين أهل مكة حين صدوهم عن دخولهم مكة، وحالوا بينه وبين زيارة البيت، وكان له فيها -أعني: في قصة الحديبية- أمران وآيتان ظاهرتان عظيمتان:
أحدهما: أنه أصابه ومن معه من أصحابه عطش، فأتى بإناء ماء، فنبع من ذلك الإناء من الماء مقدار ما شرب منه زهاء ألف وخمسمائة، حتى رووا جميعًا؛ فذلك آية عظيمة حسية على رسالته.
والثاني: أخبر بغلبة الروم فارس، وذلك علم غيب، وكان كما ذكر وأخبر؛ فدل أنه إنما علم ذلك باللَّه تعالى.
وقصة الحديبية: روي عن رجل يقال له: مجمع بن حارثة قال: شهدت الحديبية مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فلما انصرفنا عنها إذ الناس يوجفون الأباعر، فقال بعض الناس لبعض: ما للناس؟ قال: أوحي إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: فخرجنا نوجف مع الناس حتى وجدنا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - واقفًا عند كراع الغميم -اسم موضع- فلما اجتمع إليه بعض ما يريد من الناس قرأ عليهم: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) قال: قال رجل من أصحاب رسول اللَّه: أو فتح هو يا رسول اللَّه؟ قال: " إي والذي نفسي بيده إنه بفتح " قال: ثم قسمت الحديبية على ثمانية
290
عشر سهمًا، وكان الجيش ألفًا وخمسمائة.
وفي بعض الأخبار؛ أنه الصلح الذي كان بين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبين المشركين، ولم نر قتالا، ولو نرى لقاتلنا، قال: فنزلت سورة الفتح، فأرسل رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأقرأها إياه، فقال: يا رسول اللَّه، فتح هو؟ قال: " نعم ".
وعن عامر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان بالحديبية، فأنزل اللَّه - تعالى -: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) فقال رجل: إنه فتح هو؟ قال: " نعم ".
وعن جابر أنه قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية.
وكذلك روي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: نزلت هذه الآية: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) بالحديبية.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لم يكن في الإسلام فتح أعظم من صلح الحديبية، وضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس كلهم، ودخل في الإسلام في السنتين أكثر مما كان دخل قبيل ذلك، فلما رجع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة من الحديبية... وفي الحديث طول تركنا ذكره، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) يخرج على وجوه ثلاثة:
أحدها: أي: إنا قضينا ذلك قضاء بينًا بالحجج والبراهين على رسالتك ونبوتك؛ ليعلم أنك محق على ما تدعي، صادق في قولك؛ (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ) بما أكرمك، وعظم أمرك بالرسالة والنبوة؛ أي: أعطاك ذلك وأكرمك به؛ ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.
والثاني: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) ما لم يطمع أحد من الخلائق أنه يفتح عليك أمثال ذلك الفتح (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ).
والثالث: إنا فتحنا لك جميع أبواب الحكمة والعلوم وجميع أبواب الخيرات والحسنات (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ) بما أكرمك من أبواب الحكمة والخيرات.
يخرج على هذه الوجوه الثلاثة، واللَّه أعلم.
291
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ... (٢) يخرج على وجهين:
أحدهما: يرجع إلى ذنبه؛ أخبر أنه غفر له.
ثم لا يجوز لنا أن نبحث عن ذنبه ونتكلف أنه ما كان ذنبه؟ وأيش كانت زلته؟ لأن البحث عن زلته مما يوجب التنقص فيه، فمن تكلف البحث عن ذلك يخاف عليه الكفر، لكن ذنبه وذنب سائر الأنبياء - عليهم السلام - ليس نظير ذنبنا؛ إذ ذنبهم بمنزلة فعل مباح منا، لكنهم نهوا عن ذلك، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) أي: يغفر ذنبه ابتداء غفران؛ أي: عصمه عن ذلك، وذلك جائز في اللغة، واللَّه أعلم.
والوجه الثاني يرجع إلى ذنوب أمته؛ أي: ليغفر لك اللَّه ذنوب أمتك، وهو ما يشفع لأمته، فيغفر له؛ أي: لشفاعته، وهو كما روي في الخبر: " يغفر للمؤذن مدّ صوته " أي: يجعل له الشفاعة، فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ) أي: يغفر لأمته بشفاعته، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) يحتمل إتمام نعمته عليه هو ما ذكرنا من الرسالة والنبوة، وفتح ما ذكر من أبواب الخيرات والحكمة في الدنيا والآخرة، والشفاعة له في الآخرة، أو إظهار دينه على الأديان كلها، وإياس أُولَئِكَ الكفرة عن عوده إلى دينهم؛ كقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ...) الآية، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (٣) يحتمل: أي: ينصرك نصرًا عزيزًا بالغلبة عليهم، والقهر، والظفر، لا صلحًا، ولا موادعة، وعلى ذلك يخرج قول أهل التأويل: نصرًا عزيزًا لا يستذل ولا يسترذل، وظاهر الآية ليس على ذلك؛ لأنه قال على إثره: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ)؛ لأن الخيرات والحسنات تكون سببًا للمغفرة؛ فجائز أن يكون ما ذكر من الفتح له والمغفرة هذا، لا ما ذكره أهل التأويل، إلا أن يقال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يسأل منه الفتح لما أقدم على أسباب الفتح، وهو القتال مع الكفرة، ونحو ذلك، وذلك من الخيرات التي تكون سبب المغفرة، إلا أن اللَّه أضاف الفتح إلى نفسه، والقتال منهم، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون ما ذكر من الفتح له ليغفر له هو أن اللَّه جعل رسوله بحيث لا يخط بيده خطًّا، ولا يكتب كتابًا، ولا يفهم كتابه، وهو ما وصفه اللَّه - جل وعلا - بقوله: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) لدفع ارتياب المبطلين فيه على ما ذكر، ثم مع أنه جعله هكذا أحوج جميع حكماء الخلق إليه،
الآية ٣ وقوله تعالى :﴿ وينصرك الله نصرا عزيزا ﴾ يحتمل أن ينصرك نصرا عزيزا بالغلبة عليهم والقهر والظّفر لا صُلحًا ولا مُواعدةً.
وعلى ذلك يخرّج قول أهل التأويل :﴿ نصرا عزيزا ﴾ لا يُستذلّ، ولا يُسترذلُ.
وظاهر الآية ليس على ذلك لأنه [ قاله على إثر قوله ]١ :﴿ ليغفر لك الله ﴾ لأن الخيرات والحسنات تكن سببا للمغفرة.
فجائز أن يكون ما ذكر من الفتح له والمغفرة هذا لا لما ذكره إلا أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُسأل عن الفتح لما أقدم على أسباب الفتح، وهو القتال مع الكفرة ونحو ذلك، وذلك من الخيرات التي تكون سبب المغفرة. إلا أن الله تعالى أضاف الفتح إلى نفسه [ بقوله :﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ﴾ لما أنه هو الخالق لتلك الأسباب والمُنشئ لعمل الجهاد ]٢ والقتال معه، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون ما ذكر من الفتح له هو أن الله جعل رسوله بحيث لا يخطّ بيده خطًّا، ولا يكتب كتابا، ولا يفهم كتابة، وهو ما وصفه الله، جل، وعلا، بقوله :﴿ وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخُطّه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ﴾ [ العنكبوت : ٤٨ ] لدفع ارتياب المبطلين فيه على [ ما ]٣ ذكر.
ثم مع أنه جعله هذا أحوج جميع حكماء الخلق إليه، وأحوج أيضا جميع أهل الكتب السالفة إليه في معرفة ما ضمّن كتابه المنزّل عليه، وجعله رسولا إليهم، فيكون كأنه قال :﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ﴾ [ النبوّة ]٤ والحكمة وأنواع العلوم والخيرات والحسنات ﴿ ليغفر لك ﴾ أي إنما فتح لك ما ذكر ليغفر لك ﴿ ويُتمّ نعمته عليك ﴾ من النبوّة والحكمة وإظهار دينه على الأديان كلها ﴿ ويهديك صراطا مستقيما ﴾ ﴿ وينصرك الله نصرا عزيزا ﴾ أعطاه ما ذكرنا، وذلك كله النصر العزيز، والله أعلم.
وجائز أن يكون قوله ﴿ ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ﴾ أي ما تقدّم من ذنب أمّتك وما تأخّر من ذنبهم على ما قال بعض أهل التأويل ﴿ ويُتمّ نعمته ﴾ عليهم من أنواع الخيرات والأمن لهم والإياس لأولئك الكفرة عنهم، ويهديهم صراطا مستقيما، وينصرهم نصرا عزيزا ؛ أي فتحنا لك ما ذكر ليكون لأمتك ما ذكرنا من المغفرة لهم وإتمام النعمة والهداية لهم الصراط المستقيم والنصر لهم النصر العزيز، أي نصرا يُعزّون به في حياتهم وبعد وفاتهم في الدنيا والآخرة، والله أعلم.
ومن الناس من يقول : إن الله، جلّ، وعلا، امتحن رسوله عليه السلام في الابتداء بالخوف حين قال :( وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم ) [ أحمد ‍١/٢٣٧ ] وجد النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وجْدًا شديدا، ونز بعده ﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ﴾ ﴿ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ﴾ إلى آخره.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك :( نزلت عليّ آية أحبّ إلي مما على الأرض ) [ ابن أبي شيبة في المصنف ١٤/٥٠١ ] ثم قرأها النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : هنيئا مريئا لك يا نبيّ الله قد بيّن الله لك ما يفعل بك، ولم يبين ماذا يفعل بنا، فنزل قوله تعالى :﴿ ليُدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ الآية [ الفتح : ٥ ] والله أعلم.
١ في الأصل وم: قال على أثره..
٢ من نسخة الحرم المكي..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ من م، ساقطة من الأصل..
وأحوج - أيضًا - جميع أهل الكتب السالفة إليه في معرفة ما ضمن كتابه المنزل عليه، وجعله رسولا إليهم؛ فيكون كأنه قال: إنا فتحنا لك النبوة، والحكمة، وأنواع العلوم، والخيرات، والحسنات؛ (لِيَغْفِرَ لَكَ)؛ أي: إنما فتح لك ما ذكر ليغفر لك ويتم نعمته عليك من النبوة، والحكمة، وإظهار دينه على الأديان كلها، ويهديه صراطًا مستقيمًا، وينصره نصرًا عزيزًا، أعطاه ما ذكرنا، وذلك كله النصر العزيز، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون قوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) أي: من ذنب أمتك وما تأخر من ذنبهم؛ على ما قال بعض أهل التأويل، ويتم نعمته عليهم من أنواع الخيرات، والأمن لهم، والإياس لأُولَئِكَ الكفرة عنهم، ويهديهم صراطًا مستقيمًا، وينصرهم نصرًا عزيزًا، أي: فتحنا لك ما ذكر؛ ليكون لأمتك ما ذكرنا من المغفرة لهم، وإتمام النعمة والهداية لهم: الصراط المستقيم، والنصر لهم: النصر العزيز، أي: نصرًا يعزون به في حياتهم وبعد وفاتهم في الدنيا والآخرة، واللَّه أعلم.
ومن الناس من يقول: إن اللَّه - جل وعلا - امتحن رسوله - عليه الصلاة والسلام - في الابتداء بالخوف حين قال: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ)، وجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لذلك وجدًا شديدًا، ونزل بعده (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ...) إلى آخره، قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عند ذلك: " نزلت عليَّ آية أحب إلي مما على الأرض "، ثم قرأها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: هنيئًا مريئًا يا نبي اللَّه، قد بين لك ماذا يفعل بك، ولم يبين ماذا يفعل بنا؟ فنزل قوله - تعالى -: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ...) الآية، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (٤).
قَالَ بَعْضُهُمْ: السكينة: هي كهيئة الريح لها جناحان، ولها رأس كرأس الهرّ؛ لكن هذا ليس بشيء، فإنه - عَزَّ وَجَلَّ - قال: (أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) بحقيقة الدِّين، وهو تفسير العلم، وهذا يدل على أن خالق العلم الاستدلالي ومنزله ومنشئه هو اللَّه - تعالى - وهم يقولون: إن خالقه هو المستدل؛ فيكون حجة عليهم.
قال بعض المعتزلة: إضافة إنزال السكينة إلى نفسه على سبيل المجاز، ليس على التحقيق، كما يقال: فلان أنزل فلانًا في منزله أو مسكنه وإن لم يكن منه حقيقة إنزاله إياه في المنزل، لكن أضيف إليه ذلك؛ لأنه وجد منه سبب به يصل ذلك إلى نزوله في منزله ومسكنه، فعلى ذلك أضاف إنزال السكينة في قلوب المؤمنين؛ ليزدادوا إيمانًا؛ فلا يقال في مثله لأمر كان منه أو بسبب جعل له ذلك؛ وهو كقوله - تعالى -: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ...)، وإنما يقال ذلك لتحقيق إنزال ذلك؛ ليكون ما ذكر
على ما أخبر أنه فتح؛ ليغفر له ما ذكر، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ) يخرج على وجوه:
أحدها: ما قال أبو حنيفة - رحمه اللَّه -: ليزدادوا إيمانًا بالتفسير على إيمانهم بالجملة.
والثاني: ليزدادوا إيمانًا بمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وبكتابه مع إيمانهم بسائر الرسل والكتب التي كانوا آمنوا بها وصدقوها، وهذا في أهل الكتاب خاصة.
والثالث: ليزدادوا إيمانًا في حادث الوقت مع إيمانهم فيما مضى من الأوقات، فإذا وصل هذا بالأول فيكون بحكم الزيادة، وإن شئت جعلته بحكم الابتداء؛ إذ للإيمان حق التجدد والحدوث في كل وقت، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فإن كان نزوله على إثر قول ذلك المنافق على ما ذكر بعض أهل التأويل؛ حيث قال لأصحابه: يزعم مُحَمَّد أن اللَّه قد غفر له، وأن له على عدوه ظفرًا، ويهديه صراطًا مستقيمًا، وينصره نصرًا عزيزًا، هيهات هيهات، لقد بقي له من العدو أكثر وأكثر، فأين أهل فارس والروم؟! هم أكثر عددًا، فعند ذلك نزل: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فمعناه: أي: لله تدبير جنود السماوات والأرض، ينصر من يشاء على من يشاء، ويجعل الأمر لمن يشاء على ما يشاء، ليس لهم التدبير وإنفاذ الأمر على من شاءوا، ولكن ذلك إلى اللَّه - تعالى - وهو كقوله: (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا)، أي: لله تدبير مكرهم، لا ينفذ مكرهم إلا باللَّه - تعالى - فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) أي: عن علم بما يكون منهم من إيثارهم عداوة اللَّه على ولايته، واختيار الخلاف له - أنشأهم لا عن جهل، ليعلم أنه لم ينشئهم ولم يأمرهم بما أمرهم وامتحنهم بما امتحن؛ لحاجة نفسه، أو لمنافع ترجع إليه، ولكن لحاجة أُولَئِكَ ولمنافعهم؛ ولذلك قال: (حَكِيمًا)؛ لأن الحكيم هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير، فإذا كان إنشاؤه إياهم وما أمرهم به، ونهاهم عنه، لا لحاجة له في نفسه ولا منفعة، ولكن لحاجتهم ومنفعتهم - كان حكيمًا في إنشائه إياهم على علم منه بما يكون منهم من إيثار العداوة له على ولايته، واختيار الخلاف له والمعصية، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (٥).
كان هذا صلة قوله - تعالى -: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ
إِيمَانِهِمْ)، (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ...) الآية، أنزل السكينة في قلوبهم؛ أي: أنزل ما تسكن به قلوبهم؛ ليزدادوا إيمانًا، وأنزل السكينة - أيضًا - ليدخلهم فيما ذكر، كما ذكر في رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ) فتح له ليغفر له، فعلى ذلك أنزل السكينة في قلوبهم؛ ليزداد لهم الإيمان، وليدخلهم الجنات التي وصف، ثم أخبر أن ذلك لهم عند اللَّه فوز عظيم لا هلاك بعده، ولا تبعة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٦) ذكر للمنافقين والمشركين من العذاب مقابل ما ذكر للمؤمنين من إنزال السكينة عليهم، وإدخالهم الجنة، حرم هَؤُلَاءِ السكينة التي ذكر أن قلوب المؤمنين بها تسكن؛ لما علم أنهم يختارون عداوته، ويؤثرون عداوة أوليائه على ولايتهم، وعلم من المؤمنين أنهم يؤثرون ولايته على عداوته، وولاية أوليائه على عداوتهم فأنزل السكينة في قلوبهم ولم ينزل على أُولَئِكَ هذا؛ ليعلم أن من بلغ في الإيمان الحد الذي ذكر إنما بلغ ذلك باللَّه - تعالى - وبفضله، وبرحمته، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله: (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ) جائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ) المنافقون الذين ذكرهم في آية أخرى؛ حيث قال: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) ظنوا أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لا يرجع إلى أهله، وكذلك المؤمنون لا يرجعون إلى أهليهم أبدًا، ثم أخبر أن ذلك الظن منهم ظن السوء، فيحتمل ما ذكر - هاهنا - (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ) هذا ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون قوله: (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ): هم المشركون.
ثم إن كانوا من المنافقين فيكون ظنهم باللَّه ظن السوء: ألا يرجع هو وأصحابه إلى أهليهم أبدًا وإن كانوا من مكذبي الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فيكون ظنهم باللَّه ظن السوء ألا يكرم محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالرسالة، ولا يعظمه بالنبوة، لا يختاره ولا يؤثره، على غيره من الناس الذين يختارونهم؛ كقولهم: (لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)، فيكون ظنهم باللَّه ظن السوء على هذا: ألا يكرم اللَّه - تعالى - محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولا يختاره لرسالته ونبوته، واللَّه أعلم.
وإن كان ذلك من مكذبي البعث ومنكريه، فيكون ظنهم باللَّه ظن السوء هو ألا يقدر على البعث والإحياء بعد الموت.
ثم أخبر أن عليهم دائرة السوء الذي ظنوا ألا يرجع إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فصار عليهم ما
ظنوا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حيث تفرقوا من أوطانهم، وهتك أستارهم، ونحو ذلك.
وإن كانوا من مكذبي الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه لا يرسله، فظنهم كان ما ظنوا؛ لأنه بعث هو رسولا ولم يبعث من اختاروا هم.
وإن كانوا من منكري البعث فعليهم كان عذاب اليوم، وفيه هلاكهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنهم استوجبوا غضب اللَّه ولعنه بالذي كان منهم من سوء ظنهم باللَّه ورسوله، وأعد لهم جهنم بذلك، وساءت مصيرًا لهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (٧) ذكر على إثر ما ذكر (عَزِيزًا حَكِيمًا)؛ ليعلم أن عزه ليس بما ذكر من الجنود الذين له في السماوات والأرض، ولكنه عزيز بذاته، له العز الذاتي الأزلي، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١٠).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا) قوله: (شَاهِدًا) لله ما لله - تعالى - على عباده، وما لبعضهم على بعض؛ فعلى هذا التأويل يكون قوله: (شَاهِدًا) أي: مبينًا؛ أي لتبين ما لله عليهم، وما لبعضهم على بعض؛ وهو قول أبي بكر الأصم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: شاهدًا للرسل - عليهم السلام - بالتبليغ بالإجابة لمن أجابهم، وشاهدًا على من أبي الإجابة بالإباء والرد، فعلى هذا التأويل يكون قوله: (شَاهِدًا) على حقيقة الشهادة؛ على ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: أرسلناك شاهدًا على أمتك وعلى الأنبياء - عليهم السلام - بالتبليغ ومن ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا): البشارة: هي تذكر عواقب الخيرات والحسنات، والإخبار عن أحوالها: أنها إلى ماذا يفضي أربابها وعما لهم؛ ليرغبهم فيها.
والنذارة: هي تذكر عواقب الشرور والسيئات، والإخبار عن أحوالها أنها إلى ماذا يفضي أربابها ومرتكبيها؛ ليزجرهم عنها، واللَّه أعلم.
الآية ٨ وقوله تعالى :﴿ إنا أرسلناك شاهدا ومُبشّرا ونذيرا ﴾ قوله :﴿ شاهدا ﴾ لله عما لله تعالى على عباده وما١ لبعضهم على بعض فعلى هذا التأويل يكون قوله ﴿ شاهدا ﴾ أي مبينا، أي يبيّن ما لله عليهم وما لبعضهم على بعض، وهو قول أبي بكر الأصمّ.
وقال بعضهم : أي شاهدا للرسل عليهم السلام بالتبليغ بالإجابة لمن أجابهم، وشاهدا على من أبى الإجابة بالإباء والرّد. فعلى هذا التأويل يكون قوله :﴿ شاهدا ﴾ على حقيقة الشهادة على ما ذكرنا، والله أعلم.
وقال بعضهم : أي أرسلناك شاهدا على أمّتك على الأنبياء عليهم السلام بالتبليغ٢ والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ومبشّرا ونذيرا ﴾ البشارة هي بذكر عواقب الخيرات والحسنات والإخبار عن أحوالها أنها إلى ماذا يُفضي أربابُها وعمّالها ليُرغّبهم فيها. والنّذارة بذكر عواقب الشرور والسيئات والإخبار عن أحوالها أنها إلى ماذا يُفضي أربابها ومُرتكبوها٣ ليزجرهم [ عنها ]٤ والله أعلم.
١ الواو ساقطة من الأصل وم..
٢ أدرج بعدها في الأصل وم: ومن ذكرنا..
٣ في الأصل وم: ومرتكبها..
٤ من م، ساقطة من الأصل..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٩) خاطب بهذا البشر كلهم وفي الأول خاطب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، كأنه يقول على الجمع بينهما في الخطاب: أرسلناك رسولا شاهدًا؛ لتؤمنوا أنتم باللَّه ورسوله.
ويحتمل أن يكون على الإضمار؛ أي: إنا أرسلناك مبشرًا ونذيرا، وقل لهم: إنما أرسلت لتؤمنوا باللَّه ورسوله، وهو كقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)، معناه: يَا أَيُّهَا النبي، قل لهم: إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن، فعلى ذلك جائز ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقرئ بالياء، وهي ظاهرة.
ثم الإيمان باللَّه - تعالى - هو أن يشهد له بالوحدانية والألوهية، وأن له الخلق والأمر في كل شيء وكل أمر.
والإيمان برسوله: هو أن يشهد له بالصدق في كل أمر، وبالعدالة له فيما يحكم ويقضي، ويصدقه في كل ما يقوله، ويجيبه في كل ما يدعو إليه، ويطيعه في كل أمر يأمر به، وينهى عنه؛ واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتُعَزِّرُوهُ) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: تنصروه وتعينوه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: تطيعوه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أي: تعظموه.
فمن يقول: إن قوله: (وَتُعَزِّرُوهُ) ليس على النصر والإعانة، ولكن على التعظيم، أو على الطاعة - استدل بما قال في آية أخرى: (وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ)، ذكر التعزير وعطف النصر عليه؛ والمعطوف غير المعطوف عليه، فدل أنه غير النصر، ولكن جائز أن يذكر الشيء الواحد بلفظين مختلفين ومعناهما واحد على التأكيد، وكذلك من يقول بالتعظيم يقول: أمرهم بتعظيمه في الحرفين؛ أعني: قوله: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) وذلك جائز في الكلام.
ويحتمل أن يكون التعزير هو الطاعة له، والتوقير هو التعظيم، وفي الطاعة له تعظيمه، واللَّه أعلم.
ومن قال بالنصر والمعونة في التبليغ تبليغ الرسالة إلى الخلق، والدفع عنه، والذب،
والتعظيم له في قلبه وجميع جوارحه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) والتسبيح، أجمع أهل التأويل أن قوله - تعالى -: (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً) راجع إلى اللَّه - تعالى - وكذلك ذكر في بعض القراءة (ويسبحون اللَّه بكرة وأصيلا)، والتسبيح هو التنزيه في الأفعال والأقوال، فجائز نسبة ذلك إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه كان [بريئًا] من العيوب في أفعاله وأقواله لا يدخل في أفعاله وأقواله عيب، وإن كان هو تنزيهًا عن الحدثية، والفناء، وآفات كل في نفسه، فذلك لا يجوز إضافته ونسبته إلا إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - فأما غيره لا يجوز إضافة ذلك إليه.
وأصله ما ذكر أهل التأويل من صرفه إلى اللَّه تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بُكْرَةً وَأَصِيلًا) صرف أهل التأويل البكرة إلى صلاة الفجر، والأصيل إلى صلاة المغرب والعشاء، ولكن جائز أن تكون البكرة كناية عن النهار، والأصيل كناية وعبارة عن الليل، فكأنه يقول: سبحوه بالليل والنهار جملة في كل وقت، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١٠) أجمع أهل التأويل أو عامتهم على أن المبايعة المذكورة في هذه الآية هي البيعة التي كانت بالحديبية، بايعوه على ألا يفروا إذا لقوا عدوا.
قال معقل بن يسار: " لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يبايع الناس، وأنا رافع غصنًا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة؛ أي: ألف وأربعمائة نفر، وقال: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على ألا نفر ".
وجائز أن تكون المبايعة على ألا يفروا كما ذكر في آية أخرى: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ)، والمبايعة هي المعاهدة؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ) ذكر في أول الآية المبايعة، وفي آخرها المعاهدة؛ ليعلم أن المبايعة والمعاهدة سواء، واللَّه أعلم.
ثم إضافة مبايعتهم رسوله إلى نفسه يحتمل وجهين:
أحدهما: لما بأمره يبايعونه.
أو ذكر ونسب إلى نفسه؛ لعظيم قدره، وجليل منزلته عنده، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: يد اللَّه في جزاء المبايعة فوق أيديهم في المبايعة؛ أو كلام نحوه.
وجائز أن يكون قوله (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) أي: يد اللَّه في الجزاء إذا وفوا بالعهد فوق
298
أيديهم عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه لما بايعوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كانت لهم عنده يد، فيخبر أن جزاء اللَّه الذي يجزيهم بوفاء تلك المبايعة فوق أيديهم التي عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ويحتمل أن يكون ما ذكر من يد اللَّه وإضافتها إليه يريد بها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كأنه يقول: يد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عندكم فيما بايعكم فوق أيديكم عنده؛ لما يحتمل أن يقع عندهم أن يكون لهم يد عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بما بايعوه؛ كقوله - تعالى -: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا...) الآية؛ فيخبر أن يد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فوق أيديكم عنده بالمبايعة التي بايعتم، واللَّه أعلم.
ويحتمل: أي: يد رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالمد والبسط بالمبايعة فوق أيديهم، واللَّه أعلم.
ويحتمل قوله: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) أي: توفيق اللَّه - تعالى - إياكم ومعونته على مبايعتكم رسوله فوق وخير من وفائكم ببيعته وعهده، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون قوله: (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) أي: يد اللَّه في النصر لرسوله فوق أيديهم؛ كقوله - تعالى - (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)، حقيقة النصر إنما يكون باللَّه تعالى، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) أي: من نكث فعليه ضرر نكثه، وإليه يرجع ذلك الضرر لا إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - رضوان اللَّه عليهم أجمعين - لأن اللَّه - جل وعلا - وعد النصر له والظفر بأُولَئِكَ، فمن نكث فإنما يرجع ضرر نكثه إليه؛ إذ اللَّه يفي لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما وعد اللَّه من النصر له، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
299
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (١٧).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ... (١١).
قوله - تعالى -: (الْمُخَلَّفُونَ) سماهم: مخلفين، ولم يخلفهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولا أصحابه، ولكن اللَّه تعالى خلفهم عن ذلك بأن أحدث منهم فعل التخلف؛ لما علم منهم ما كان من اختيارهم التخلف، كقوله تعالى: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ)، أي: منعهم، فعلى ذلك ما ذكر من المخلفين أن اللَّه - سبحانه وتعالى - خلفهم عن ذلك، وهم اكتسبوا فعل التخلف في أنفسهم؛ دل أن خالق أفعال العباد هو الله تعالى، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - خبرا عنهم: (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا).
هذا القول منهم قول اعتذار وطلب العذر من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقولهم: (فَاسْتَغْفِرْ لَنَا) طلبوا منه الاستغفار مع إظهارهم العذر في التخلف بقولهم: (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) يقولون: وإن حبستنا أموالنا وأهلونا لم يكن لنا التخلف عنك، فاستغفر لنا، ولكن مع هذا لم يقبل عذرهم؛ لأنهم كانوا لا يحققون في طلبهم الاستغفار منه؛ لأنهم أهل نفاق لا يؤمنون برسالته ولا بالبعث كي ينفعهم المغفرة في الآخرة؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ...) الآية؛ دل هذا الفعل منهم على أنهم كانوا غير محققين طلب الاستغفار منه بقولهم: (فَاسْتَغْفِرْ لَنَا)؛ حيث قال: (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)، أي: يقولون بألسنتهم قولهم: (فَاسْتَغْفِرْ لَنَا) ما ليس في قلوبهم حقيقة ذلك.
ولا جائز أن يصرف قولهم: (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) إلى قولهم: (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) أي: كاذبين في العذر، ولكن طلبوا الاستغفار حقيقة، لا يقال هذا؛ لأنهم كانوا صادقين في أن أموالهم وأهليهم شغلتهم عن ذلك؛ فلا يمكن صرف الآية إلى ذلك، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا).
قد ذكرنا أن حرف الاستفهام من اللَّه تعالى يكون على الإيجاب، فينظر أن لو كان ذلك السؤال من مستفهم كيف يجاب له؟ فيكون من اللَّه تعالى على الإيجاب: أن لا أحد يملك لكم نفعًا إن كان اللَّه أراد بكم ضرا، ولا أحد يملك لكم ضرا إن كان اللَّه أراد بكم نفعًا، يخبر أنكم وإن تخلفتم لحفظ أموالكم وأهليكم، فإن اللَّه تعالى لو أراد بكم ضرًّا لا
تملكون دفعه عن أنفسكم، وإن تتخلفوا ولكن خرجتم معه، فلا يملك أحد الضرر لكم، غير أنه لا عذر له في التخلف عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ثم أوعدهم فقال: (بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) جعل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أنفس المنافقين وصنيعهم آية ودلالة على رسالة رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في حق المنافقين، حين كان يطلع رسوله على جميع ما أسروا في أنفسهم وأضمروا في قلوبهم؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك باللَّه - جل وعلا - وجعل الآية له في حق غيرهم من الكفرة من غير صنيعهم وأنفسهم حتى علموا بذلك أنه باللَّه قدر على ذلك، واللَّه أعلم.
وقال أهل التأويل: (إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا) أي: الهزيمة (أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا) ظهورا على عدوكم وغنيمة، يحتمل أن يكون الخطاب بهذا لأهل الإيمان والوعظ لهم بذلك؛ لأن أهل النفاق كانوا لا يصدقون رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولا يقبلون ما يقول من المواعظ وغيره.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (١٢).
فَإِنْ قِيلَ: ما الذي حملهم على الظن الذي ظنوا أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والمؤمنين لا يرجعون إلى أهليهم أبدا إذا كان ذلك في خروجهم إلى الحديبية -على ما قال أهل التأويل: إن ذلك كان في خروجهم إلى الحديبية- وكان خروجهم للحج وقضاء المناسك لا للقتال والحرب معهم، حتى يقع عندهم أنهم لا يرجعون، بل يهلكون في ذلك، وأهل مكة لم يكونوا يتبعون أحدا من أهل الإيمان يدخل مكة للحج وقضاء المناسك.
قيل: لأن أهل النفاق كانوا قد كتبوا إلى أهل مكة وأعلموهم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - رضي اللَّه عنهم - خرجوا إليكم للحج وزيارة البيت، فقالوا: إنا لا ندعهم يدخلون مكة بل نقاتلهم ونحاربهم ولا نتركهم يدخلونها، فإذا كان منهم ما ذكرنا، فجائز أن يكونوا ظنوا ما ذكرنا من ظنهم، فأما على غير ذلك فلا يحتمل مع اجتماع أهل التأويل على أن ذلك كان في أمر الحديبية، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ).
أي: ظننتم برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - رضي اللَّه عنهم - ظن السوء أنهم لا يرجعون إلى أهليهم.
ويحتمل ظننتم باللَّه ظن السوء أنه لا ينصر رسوله ولا يعينه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (بُورًا) أي: هلكى، أي: تصيرون قوما هلكى؛ فيه دليل أنهم يموتون على نفاقهم.
وقال الحسن: (وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا) أي: فاسدون لا خير فيهم، وكذلك يقول ابن عباس - رضي اللَّه عنهما -: إن البور هو الفاسد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: البور في كلام العرب: لا شيء.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: البور: الهلكى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (١٣) فهو ظاهر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... (١٤) قيل فيه بوجوه:
أحدها: ولله خزائن السماوات والأرض، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود - رضي اللَّه عنه - أنه كان يقرؤه: (ولله خزائن السماوات والأرض).
والثاني: ولله ملك كل ملك في السماوات والأرض، أي: لله حقيقة ملك كل ملك في السماوات والأرض.
والثالث: ولله ولاية أهل السماوات والأرض وسلطانه، أي: الولاية والسلطان له على أهل السماوات والأرض.
ثم يحتمل ذكره هذا وجهين:
أحدهما: يخبر أنه فيما يأمرهم وينهاهم ويمتحنهم بأنواع المحن إنما يأمرهم وينهى ويمتحن لا لحاجة نفسه ولا لمنفعة له؛ إذ له ملك السماوات والأرض، ولا يحتمل من له ملك ما ذكر أن يقع له الحاجة إلى ما ذكر أو المنفعة؛ لأنه غني بذاته؛ ولكن يأمرهم وينهاهم، ويمتحنهم بما امتحن؛ لحاجتهم ولمنفعتهم، واللَّه أعلم.
والثاني: يذكر هذا ليقطعوا الرجاء عما في أيدي الخلق، ويصرفوا الطمع والرجاء إلى اللَّه - تعالى - ومنه يرون كل نفع وخير يصل إليهم، ومنه يخافون في كل أمر فيه خوف، لا يخافون سواه، ولا يطمعون غيره، وهو ما أخبر: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) يقول - واللَّه أعلم -: هو يغفر لمن يشاء، وهو المالك لذلك، وهو يعذب من يشاء؛ أي ليس يملك أحد مغفرة ذنوب أحد سواه ولا تعذيبه، إنما ذلك منه، وله ملك ذلك، وله الفعل دون خلقه؛ ليصرفوا طمعهم ورجاءهم في كل أمر إلى اللَّه - تعالى - ومنه يخافون في كل أمر فيه خوف، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)، وكان اللَّه لم يزل رحيما، لا أنه حدث ذلك له بخلقة، واللَّه الموفق.
الآية ١٤ وقوله تعالى :﴿ ولله ملك السماوات والأرض ﴾ قيل فيه بوجوه :
أحدها : ولله خزائن السماوات والأرض، وكذلك ذُكر في حرف ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرؤُه : ولله خزائن السماوات والأرض.
والثاني : ولله ملك كل ملك في السماوات والأرض، أي لله حقيقة مُلك كل مُلكٍ في السماوات والأرض.
والثالث : ولله ولاية أهل السماوات والأرض وسلطانه، أي الولاية والسلطان له على أهل السماوات والأرض. ثم يحتمل ذكرُه هذا وجهين :
أحدهما : يخبر أنه في ما يأمُرهم، وينهاهم، ويمتحنُهم بأنواع المحن، بما يأمرهم [ وينهاهم، ويمتحُنهم ]١ لا لحاجة نفسه ولا لمنفعة له ؛ إذ له ملك السماوات والأرض، ولا يحتمل من له ملك ما ذكر [ أن تقع له الحاجة إلى ما ذكر ]٢ أو المنفعة، لأنه غنيّ بذاته، ولكن يأمرهم، وينهاهم، ويمتحنهم بما امتحن لحاجتهم ولمنفعتهم، والله أعلم.
والثاني : يذكر هذا ليقطعوا الرجاء عما في أيدي الخلق، ويصرفوا الطّمع والرجاء إلى الله تعالى ؛ ومنه يرون كل نفع وخير، يصل إليهم، ومنه يخافون في كل أمر، فيه خوف، لا يخافون سواه، ولا يطمعون غيره، وهو ما أخبر :﴿ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيّ الحميد ﴾ ولا قوة إلا بالله.
وقوله تعالى :﴿ يغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء ﴾ يقول، والله أعلم : هو يغفر لمن يشاء، وهو المالك لذلك، وهو يعذّب من يشاء، أي ليس يملك أحد مغفرة ذنوب أحد سواه ولا تعذيبه، إنما ذلك منه، وله ملك ذلك، وله الفعل دون خلقه، ليصرفوا طمعهم ورجاءهم في كل أمر [ إلى الله تعالى، ومنه يخافوا٣ في كل أمر٤ ] فيه خوف، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وكان الله غفورا رحيما ﴾ أي وكان الله، ولم٥ يزل، غفورا رحيما، لا أنه حدث ذلك له بخلقه، والله الموفّق.
١ في الأصل وم: وينهى ويمتحن..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ في م: يخافون..
٤ من م، ساقطة من الأصل..
٥ الواو ساقطة من الأصل وم..
وقوله: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ... (١٥) من الحديبية، خلفهم اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - لما علم منهم من اختيار التخلف.
وقوله: (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ...) الآية.
ذكر أهل التأويل: أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - لما صالح أهل مكة عام الحديبية ورجع اشتد ذلك على أصحابه - رضي اللَّه عنهم - لما كانوا طمعوا دخول مكة والزيارة لبيته، فبشره ربه بفتح خيبر والغنيمة لهم، فعند ذلك لما انتهى إلى المنافقين المخلفين عن الحديبية تلك البشارة له بفتح خيبر عليهم - قالوا: ذرونا نتبعكم؛ فنصيب معكم الغنائم؛ وإنما رغبوا في اتباعهم معهم؛ لما علموا أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يصدق فيما يخبر من البشارة له والفتح والغنيمة له بلا مؤنة قتال ولا حرب تقع هنالك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ)؛ لأن البشارة بفتح خيبر، وجعله غنيمة لمن شهد الحديبية، فأما من تخلف عنها، فليس له في ذلك من نصيب، فأخبر اللَّه - تعالى - أنهم يريدون أن يبدلوا ما وعد اللَّه - تعالى - للمؤمنين الذين شهدوا الحديبية - فتح خيبر خاصة؛ بأن يشركوا فيها، وفي ذلك تبديل ما وعد؛ إذ لم يشهدوا هم الحديبية، والبشارة بالفتح لمن شهدها، فأما من تخلف عنها فلا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: تبديل كلام اللَّه ما قال في سورة براءة: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا)، فلما سألوا الخروج إلى خيبر والاتباع لهم، وقد نهاهم عن الخروج معهم أبدا، يريدون أن يبدلوا ذلك النهي الذي نهوا في سورة براءة؛ فيحتمل الأمرين جميعًا؛ كذا ذكر الشيخ - رحمه اللَّه - وعامة أهل التأويل على أن قوله: (فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا)، نزل في غزوة تبوك، وأنها بعد خيبر، فلم يكن خروجهم مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بخيبر تبديل النهي الذي نهوا عن الخروج معه، لكن كأنه لم يثبت عنده نزول الآية في غزوة تبوك، أو وقع الخطأ من الذين تلقنوا منه وكتبوه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ)، يحتمل قوله: قوله تعالى: (كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ) هي البشارة التي ذكرنا لمن شهد الحديبية، قال: إن مغانم خيبر لمن شهد الحديبية، وأمَّا من لم يشهد فلا.
ويحتمل قوله: (مِنْ قَبْلُ) ما ذكر في سورة براءة: (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا)
واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) كانوا يقيسون أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بأنفسهم؛ لأنهم إذا أصابوا شيئًا -أعني: المنافقين- كانوا يحسدون أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأرادوا ألا يكون لهم في ذلك نصيب ولا حظ؛ حسدًا منهم لهم، فلما منعهم المؤمنون عن الخروج إلى خيبر وقالوا: إن اللَّه نهاكم أن تخرجوا معنا، وقد بشروا بالفتح، قالوا عند ذلك: بل تحسدوننا في إصابة تلك الغنائم، لم ينهنا اللَّه - تعالى - عن الخروج معكم؛ قاسوا المؤمنين بأنفسهم، (بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) الفقه هو الاستدلال بما عرفوه وشهدوه على الذي لم يعلموه وغاب عنهم؛ يخبر أن هَؤُلَاءِ لا يعرفون الاستدلال.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الفقه هو معرفة الشيء بنظيره الدال على غيره، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٦) وهم الذين تخلفوا عن الحديبية (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) على قول ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومقاتل: وهَؤُلَاءِ هم بنو حنيفة، وفيهم مسيلمة الحنفي الكذاب، استقرت إليهم الأعراب بعد نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فدعاهم أبو بكر الصديق إلى قتالهم.
وقال الحسن: هم أهل فارس والروم.
وقال قتادة وغيره: دعوا إلى قتال هوازن وثقيف يوم حنين.
ويروى عن جابر بن عبد اللَّه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: دعوا يوم حنين إلى هوازن وثقيف، فمنهم من أحسن الإجابة ورغب في الجهاد، ومنهم من أبى.
لكن ما قال قتادة غير محتمل؛ لأن قتال هوازن وثقيف يوم حنين كان في زمن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وهو تولى ذلك، وقال في آية أخرى: (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا...) الآية، فلا يحتمل أن يدعوا إلى قتال هَؤُلَاءِ وهو تولى قتالهم، وقد قال اللَّه - تعالى - خبرًا عنه: (وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا)، فإذا لم يحتمل هذا رجع التأويل إلى ما قال ابن عَبَّاسٍ ومقاتل - رضي اللَّه عنهما - أنهم إنما دعوا إلى قتال أهل اليمامة
وهم بنو حنيفة، دعاهم أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لكن لو كان ما قال أهل التأويل أن قوله - تعالى -: (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا)، نزل في غزوة تبوك، وهي بعد يوم حنين، فيكون ما قاله قتادة محتملا، واللَّه أعلم.
أو أن يكون قوله: (وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا)، في قوم خاص، وهو ما قال: (اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ)، أي: أهل الغناء والثروة، إنما قال ذلك لأولي الطول الذين استأذنوه القعود مع القاعدين، واللَّه أعلم.
ويحتمل قوله - تعالى -: (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) في أهل فارس والروم؛ على ما قال الحسن، وذلك إنما فتح في زمن عمر، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ)، ومن قرأها: (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُوا) وبالألف فيكون تأويله: تقاتلونهم حتى يسلموا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا) أي: إن تطيعوا فيما دعيتم إلى الجهاد يؤتكم اللَّه أجرًا حسنًا، ذكر أنه يؤتيهم أجرًا حسنًا؛ لأن توبتهم تكون فيما كان كفرهم وكان نفاقهم إنما ظهر بتخلفهم عن الجهاد، فعلى ذلك تكون توبتهم في تحقيق الجهاد.
وقوله: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) وفيما دعيتم إليه (كَمَا تَوَلَّيْتُمْ) عن الحديبية وغيره (يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).
ثم عذر أهل العذر منهم بقوله - تعالى -: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ... (١٧) كما عذر أهل العذر من المؤمنين بقوله: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ...) الآية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا)؛ لأنهم إذا تولوا عادوا إلى ما كانوا.
* * *
قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (١٨) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٩) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٢٠) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (٢١) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٢٢) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (٢٣).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) يحتمل قوله: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) لما عزموا على الوفاء على ما بايعوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -
305
والصدق لذلك، والتحقيق لما عهدوا من الوفاء لذلك - أخبر اللَّه أن قد رضي اللَّه عنهم لذلك، فنحن نستدل به على صدق ذلك وتحقيقه وإن لم يخبرنا اللَّه تعالى أنهم قد عزموا على ذلك، فيجوز لنا أن نشهد أنهم قد عزموا على الوفاء لذلك والصدق له، وقد يكون من الاستدلال ما تكون الشهادة له بالحق والصدق إذا كان في الدلالة مثل ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) هذا يحتمل وجوهًا:
أحدها: ما ذكرنا: علم ما في قلوبهم من العزم على الوفاء والصدق؛ لما أعطوا بأيديهم من أنفسهم.
والثاني: علم ما في قلوبهم من الخوف والخشية، وذلك يتوجه وجهين:
أحدهما: أنهم خشوا ألا يتهيأ لهم القيام بأهل مكة؛ لأنهم كانوا مستعدين للحرب والقتال، وهم كانوا خرجوا لقضاء المناسك وزيارة البيت، خشوا ألا يقوموا لهم؛ فلم يفوا ما عاهدوا.
والثاني: خشوا ألا يقدروا على وفاء ما بايعوا وأعطوه؛ لأن في ذلك مناصبة جميع أهل الأديان والمذاهب، واللَّه أعلم.
والثالث: علم ما في قلوبهم من الكراهة التي يذكرها أهل التأويل، لكن تلك الكراهة كراهة الطبع، لا كراهة الاختيار؛ لأنهم طمعوا الوصول إلى البيت، ورجوا دخولها، فلما جرى الصلح بينهم على ألا يدخلوا عامهم ذلك، فانصرفوا، فاشتد ذلك عليهم، فكرهوا ذلك، لكن كراهة الطبع، لا كراهة الاختيار، وقد يكره طبع الإنسان شيئًا والخيار غيره؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)، وكقول يوسف: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)، محبة الاختيار، لا محبة الطبع، بل الطبع إلى ما يدعونه أميل من السجن.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) أي: أنزل عليهم ما يسكن به قلوبهم؛ لما علم تحقيق الوفاء لما بايعوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وصدق ما أعطوا من أنفسهم، وأثابهم مكان ما كانوا يرجون ويطمعون من دخول مكة، وما كرهت أنفسهم من الرجوع - فتحًا قريبًا، وهو فتح مكة، أو فتح خيبر، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا. وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا) اختلف فيه:
306
الآية ١٨ وقوله تعالى :﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ﴾ يحتمل قوله تعالى :﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين ﴾ لما عزموا من الوفاء على ما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والتصديق لذلك والتحقيق لما عاهدوا من الوفاء. لذلك أخبر الله أن قد رضي الله عنه لذلك.
فنحن نستدل به على تصديق ذلك وتحقيقه، وإن لم يخبرنا الله تعالى أنهم قد عزموا على ذلك. فيجوز لنا أن نشهد أنهم قد عزموا على الوفاء لذلك والتصديق له.
وقد يكون من الاستدلال ما تكون الشهادة له بالحق والصدق إذا كان في الدلالة مثل ما ذكرنا، الله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فعلم ما في قلوبهم ﴾ هذا يحتمل وجوها :
أحدها : ما ذكرنا : علم ما في قلوبهم من العزم على الوفاء والتصديق لما أعطوا بأيديهم من أنفسهم.
والثاني : علم ما في قلوبهم من الخوف والخشية. وذلك يتوجه وجهين :
أحدهما : أنهم خشُوا ألا يتهيأ لهم القيام لأهل مكة لأنهم كانوا مستعدّين للحرب والقتال، وهم كانوا خرجوا لقضاء المناسك وزيارة البيت، خشوا ألا يقوموا لهم، فلم يفوا ما عاهدوا.
والثاني : خشوا ألا يقدروا على وفاء ما بايعوا، وأعطوا، لأن في ذلك مناصبة جميع أهل الأديان والمذاهب [ العِداء ]١ والله أعلم.
والثالث : علم ما في قلوبهم من الكراهة التي يذكرها أهل التأويل. لكن تلك الكراهة كراهة الطبع لا كراهة الاختيار لأنهم طمِعوا الوصول إلى البيت، ورَجَوا دخولها. فلما جرى الصلح بينهم على ألاّ يدخلوا عامهم ذلك، فانصرفوا. فاشتدّ ذلك عليهم، فكرِهوا ذلك كراهة٢ الطبع لا كراهة الاختيار. وقد يكره طبع الإنسان شيئا، والخيار غيره كقوله عز وجل :﴿ وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ﴾ [ النساء : ١٩ ] وكقول يوسف :﴿ رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه ﴾ [ الآية : ٣٣ ] محبة الاختيار لا محبّة الطبع إلى ما يدعونه.
وقوله تعالى :﴿ فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ﴾ /٥١٩-أ/ أي أنزل عليهم ما يسكُن به قلوبهم لما علم تحقيق الوفاء لما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق ما أعطوا من أنفسهم ﴿ وأثابهم ﴾ فكان ما كانوا يرجون، ويطمعون، من دخول مكة وما كرهت أنفسهم من الرجوع ﴿ فتحا قريبا ﴾ وهو فتح مكة، أو فتح خبير، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ أدرج قبلها في الأصل وم: لكن..
منهم من صرف الفتح القريب المذكور في الآية إلى فتح خيبر، وإِلَى مغانم خيبر حين بشروا بالحديبية بفتح خيبر، وجعل المغانم لهم مكان ما منعوا من دخول مكة وحيل بينهم وبين ما قصدوا، أو في الطريق بعد منصرفهم من الحديبية على ما ذكر في القصة، والله أعلم.
ومنهم من صرف الفتح إلى مكة؛ لأنه ذكر في القصة أنهم بشروا في الطريق بعد انصرافهم من الحديبية بفتح مكة، ويكون قوله: (وَأَثَابَهُمْ) على هذا التأويل بمعنى: ويثيبهم، وذلك جائز في اللغة: فعل بمعنى: يفعل، كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ...)، كذا، يعني: يقول له، وقوله - تعالى -: (وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٩) على هذا ينصرف إلى غيره من المغانم؛ لأنه لم يكن بمكة غنائم، واللَّه أعلم.
ومنهم من قال: (وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) الفتوح كلها التي كانت لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولأمته، وكذلك قوله: (وَمَغَانِمَ).
وجائز أن يكون الكفرة جملة، أي: لو قاتلوكم لولوا الأدبار، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ... (٢٣) ما سن في كل أمة من هلاك، لم يجعل ذلك الهلاك في غيرها من الأمم؛ نحو ما جعل هلاك قوم نوح الغرق، وكذلك قوم فرعون، وكذلك جعل هلاك عاد بريح صرصر، وثمود بالطاغية؛ جعل اللَّه - تعالى - هلاك كل أمة بنوع لم يجعل ذلك لغيرها؛ يقول: لم يكن لذلك تبديل إلى غيره.
وجائز أن يكون قوله: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) أي: جعل عاقبة الأمر للمؤمنين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) في أمتك، ولكن جعل عاقبة الأمر لهم كما جعل عاقبة الأمر في سائر الأمم للمؤمنين.
* * *
قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٢٦) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ
الآية ٢٠ وقوله تعالى :﴿ وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها ﴾ على هذا ينصرف إلى غيره من المغانم لأنه لم يكن بمكة غنائم، والله أعلم.
ومنهم من قال :﴿ وأثابهم فتحا قريبا ﴾ الفتوح كلها التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمته، وكذلك قوله :﴿ وعدكم الله مغانم كثيرةً تأخذونها ﴾.
وجائز أن تكون بالكَفَرة جملة، أي لو قاتلوكم لولّوا الأدبار، والله أعلم [ وذلك
في قوله تعالى :﴿ وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا ﴾ ﴿ ولو قاتلكم الذين كفروا لولّوا الأدبار ثم لا يجدون وليّا ولا نصيرا ﴾ ]١.
١ ساقطة من الأصل وم..
الآيتان ٢١ و٢٢ في قوله تعالى :﴿ وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا ﴾ ﴿ ولو قاتلكم الذين كفروا لولّوا الأدبار ثم لا يجدون وليّا ولا نصيرا ﴾ ]١.
١ ساقطة من الأصل وم..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢١:الآيتان ٢١ و٢٢ في قوله تعالى :﴿ وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا ﴾ ﴿ ولو قاتلكم الذين كفروا لولّوا الأدبار ثم لا يجدون وليّا ولا نصيرا ﴾ ]١.
١ ساقطة من الأصل وم..

الآية ٢٣ وقوله تعالى :﴿ سُنّة الله التي قد خلت من قبل ﴾ ما سنّ في كل أمة من هلاك، لم يجعل من ذلك الهلاك في غيرها من الأمم نحو ما جعل هلاك قوم نوح الغَرَق، وهلاك [ قوم ]١ عاد بريح صرصر [ وهلاك قوم ]٢ ثمود بالطاغية ؛ جعل الله تعالى هلاك كل أمّة بنوع، لم يجعل ذلك لغيرها [ ﴿ ولن تجد لسُنّة الله تبديلا ﴾ ]٣ يقول : لم يكن لذلك تبديل إلى غيره. وكذلك ما جعل لكل أمة من هلاك لم يبدّل ذلك، ولم يجعل ذلك في غيره.
وجائز٤ أن يكون قوله تعالى :﴿ سُنّة الله التي قد خلت من قبل ﴾ أن جعل عاقبة الأمر للمؤمنين.
١ من م، ساقطة من الأصل..
٢ في الأصل وم: و..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ الواو ساقطة من الأصل..
رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (٢٨).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ... (٢٤) مع كثرة أُولَئِكَ، وقوتهم، وتأهبهم للقتال، وضعف هَؤُلَاءِ وقلة عددهم؛ لأن أُولَئِكَ كانوا خرجوا للقتال والحرب، مستعدين لذلك، متأهبين، وهَؤُلَاءِ كانوا خرجوا لقضاء المناسك وزيارة البيت، فكف أيدي أُولَئِكَ مع عدتهم وقوتهم وكثرتهم عن هَؤُلَاءِ مع ضعفهم وقلة عددهم، حتى أظفرهم بأُولَئِكَ بما ذكر في القصة أن المسلمين كانوا اشتغلوا بالترامي بالنبل والحجارة حتى هزموهم وأدخلوهم بطن مكة؛ على ما ذكر، ثم أظفرهم بهم، كف أيدي هَؤُلَاءِ عنهم ويتم لهم الظفر بهم؛ ليعلم هَؤُلَاءِ أن التدبير في الأمر إلى اللَّه - تعالى - دونهم، وله السلطان على الخلق جميعًا، لا سلطان لأحد في سلطانه، ولا قوة إلا باللَّه.
وأما ما ذكر من الامتنان هو ما ذكر من كف أيدي أُولَئِكَ عن هَؤُلَاءِ عند شدة خوفهم منهم وفزعهم بما ذكرنا من قوة أُولَئِكَ وكثرتهم، وضعف هَؤُلَاءِ وقلة عددهم، حتى أظفرهم؛ يذكر منته عليهم؛ ليستأدي شكره، ويكف أيدي هَؤُلَاءِ عنهم.
فَإِنْ قِيلَ: ما كف أيدي أُولَئِكَ عن هَؤُلَاءِ، المنة ظاهرة، ولكن أية منة تكون في كف أيدي المؤمنين عن أُولَئِكَ الكفرة؟ فيقال: جائز أن تكون المنة في كف أيدي المؤمنين عن أُولَئِكَ الكفرة؛ ليستأدي منهم شكره بذلك، وهو الإسلام لله - تعالى - على جميع خلقه منة؛ ليستأدي منهم شكرًا على الكافرين والمسلمين جميعًا.
ويحتمل أن تكون المنة في كف أيدي المؤمنين عن أُولَئِكَ على المؤمنين - أيضًا - هو ما ذكر على إثره: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أنه لو لم يكف أيدي المؤمنين عنهم حتى يتم لهم الظفر بهم فدخلوا مكة وهنالك مؤمنون لأصابهم ما ذكر من المعرة وغيره، فكان في كف أيدي المؤمنين عن أُولَئِكَ منة عظيمة عليهم؛ لما بينا من قبل من فيها من المؤمنين من غير علم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بِبَطْنِ مَكَّةَ) وهم لم يكونوا في بطن مكة، إنما كانوا بالحديبية، وبينها وبين مكة أميال، لكن يخرج على وجهين:
أحدهما: أظفرهم بهم وقهرهم وهزمهم حتى أدخلهم بطن مكة؛ على ما ذكر أنهم هزموهم حتى أدخلوهم في بيوت مكة.
والثاني: ببطن مكة؛ أي: بقرب مكة.
وجائز أن يكنى ببطن مكة؛ أي: قربها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِبَطْنِ مَكَّةَ) أي: الحرم، والحرم كله مكة، والوجه فيه ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) لم يزل اللَّه - تعالى - عالمًا بأعمالهم، بصيرًا.
وفيه دلالة خلق أفعالهم؛ لأنه ذكر أنه كف أيدي هَؤُلَاءِ عن أُولَئِكَ وأيدي أُولَئِكَ عن هَؤُلَاءِ، ثم قال: هو عالم بما تعملون بصيرًا؛ ليعلم أن له في فعلهم صنعًا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ... (٢٥) أي: صدوهم عما قصدوا، وهو الطواف بالبيت والزيارة له، وذلك في المسجد الحرام؛ ذكر صدهم عن المسجد الحرام وصدوهم عما فيه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) وقوله: (مَعْكُوفًا) هو أي: محبوسًا، والمعكوف هو الحبس، ومنه سمي العاكف والمعتكف.
ثم قوله: (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) محل دم هدي المتعة هو مكة أو منى، فأما الحرم نفسه فليس هو محله؛ فكأنه قال: وصدوا الهدي عن أن يبلغ محله الذي جعل لهدي المتعة وهو منى أو مكة؛ لأنه ذكر في الخبر أنه كان - عليه السلام - معتمرًا، وذكر أنه كان متمتعًا، وفيه أن دم المتعة إن منع عن محله سقط، وخرج عن حكم المتعة، ويعود إلى مكة، وله أن يصرفه إلى ما شاء؛ ألا ترى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - نحر تلك البدن التي ساقها عن الإحصار في الحرم؛ دل أن هدي المتعة إذا منع عن المحل سقط، ويخرج عن حكم المتعة.
وفيه أن دم الإحصار لا يجوز إراقته إلا في الحرم؛ إذ الحديبية تجمع الحرم والحل جميعًا عندنا، فإنما كان نحرها في الحرم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ) أي: تقتلوهم وتهلكوهم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي: لولا ما فيها -أعني: في مكة- من رجال مؤمنين ونساء مؤمنات، لأتم لكم الظفر بهم، ودخلتم عليهم، لكن منعكم عن دخولكم مكة؛ لما ذكر.
ثم اختلف في قوله - تعالى -: (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: لزمكم الدية بقتلهم، وكذا روي عن مُحَمَّد بن إسحاق.
309
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الكفارة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإثم والذنب؛ أي: يصيبكم منهم الإثم بقتلكم إياهم؛ وهذا لا يحتمل؛ لأنهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون، لا يلحقهم الإثم والذنب؛ لأن اللَّه - تعالى - وضع الإثم عنا فيما لا نعلمه، ولم يضع طريق العلم به، قال اللَّه - تعالى -: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ).
وعندنا يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: فيصيبكم من الكفرة وأهل النفاق ما يسوءكم بقتلكم إياهم من اللائمة، والتعيير، وغير ذلك من القيل والقال؛ يقولون: إنهم قتلوا أصحابهم ومن كان على دينهم من أهل الإسلام؛ فيجدون بذلك سبيلا إلى ما ذكرنا، فيسوءكم ذلك، واللَّه أعلم.
والثاني: يصيبكم الأسف والحزن والندامة الدائمة بقتلكم أهل الإيمان وأهل الإسلام إذا علمتم أنكم قتلتم أصحابكم وأهل دينكم، واللَّه أعلم.
ثم المخالف لنا تعلق بهذه الآية في مسألتين:
إحداهما: فيمن أسلم ولم يهاجر إلينا: أنه تجب الدية في قتله؛ لقوله - تعالى -: (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وهي غرم الدية.
والثانية: هل يباح الرمي على حصون المشركين إذا كان فيها أسارى المسلمين وأطفال المسلمين، وإحراق الحصون أو الرمي على الكفار الذين تترسوا بأطفال المسلمين؟
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومُحَمَّد وزفر والثوري: لا بأس برمي حصون المشركين وإن كان فيهم أسارى المسلمين وأطفالهم، ولا بأس بأن يحرقوا الحصن ويقصدوا به المشركين دون المسلمين، وكذلك إحراق سفينة الكفار إذا كان فيها أسارى المسلمين.
وقال مالك: لا يحرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسارى المسلمين.
وقال الأوزاعي: إذا تترس الكفار بأطفال المسلمين، لم يرموا، ولا يحرق الحصن، ولكن لا بأس بأن يرمى الحصن بالمنجنيق، ونحو ذلك.
وقال الشافعي: لا بأس بأن يرمى الحصن وفيه أسارى وأطفال المسلمين، ولو تترسوا بهم فله قولان.
واحتج هَؤُلَاءِ بأن من عادتهم أنهم كانوا يعبدون ما يهوون ومالت إليهم أنفسهم من الأصنام والأوثان وغيرها، وينصرون من عبدوها، ويدفعون عنهم فيذبون عنها، فجائز أن
310
يكون الذي حملهم على ذلك هو نصرهم أُولَئِكَ الأصنام وعبادها، والذب عنهم حمية الجاهلية، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٢٦) وجائز أن يكون ما ذكر من السكينة التي أخبر أنه أنزلها على رسوله ومن ذكر: هو شيء أنزله من السماء؛ لطفًا منه عليهم حتى سكنت لذلك قلوبهم.
وجائز أن يكون لا على حقيقة إنزال شيء من مكان إلى مكان، ولكن أنشأ في قلوبهم ما يسكن به قلوبهم؛ كقوله - تعالى -: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)، أي: أنشأ لكم من الأنعام ما ذكر، وخلقها لهم، ليس أن أنزلها عليهم من مكان إلى مكان، ولكن على الإنشاء والخلق، فعلى ذلك الأول، واللَّه أعلم.
ثم السكينة تحتمل أسبابًا له بها تسكن قلوبهم وأنفسهم، والأسباب تختلف.
ويحتمل شيئًا آخر سوى ذلك، وهو اللطف الذي جعل لهم، فسكن قلوبهم بذلك اللطف، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا).
يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: ألزمهم كلمة بها يتقون النار.
ثم يحتمل (كَلِمَةَ التَّقْوَى): كلمة الإخلاص وغيرها وما يقيهم النار، واللَّه أعلم.
ويحتمل قوله: (وَأَلْزَمَهُمْ): إظهار كلمة التقوى حتى تصير ظاهرة في الخلق أبدًا إلى يوم القيامة، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (كَلِمَةَ التَّقْوَى) هي " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، وذلك أنه لما كتب كتاب الصلح فيما بين أهل مكة وبين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كتب: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، فقال ذلك: اكتب كذا، لا ندري ما الرحمن الرحيم. وذلك كلمة التقوى، واللَّه أعلم.
والوجه فيه ما ذكرنا.
وقوله: (وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) أي: بتلك الكلمة، وكانوا أهلا لها (وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا).
وقال بعض أهل التأويل: (كَلِمَةَ التَّقْوَى) هي كلمة الإخلاص (وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا
وَأَهْلَهَا) من الأمم السالفة وأهلها، واللَّه أعلم.
أو كانوا أحق بها في الإظهار في الخلق والقيام بذلك، وكانوا أحق بها في إلزامها في أنفسهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (٢٧).
قال أهل التأويل: قوله: (صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ) أي: حقق اللَّه لرسوله الرؤيا التي أراها إياه بالحق؛ أي: بالوفاء لذلك.
ويحتمل: أي: صير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - صادقًا عندهم فيما أخبرهم أنه رأى، وجعله صادقًا في ذلك؛ والأول أشبه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: على الأمر: أن ادخلوا المسجد الحرام، وإن كان في الظاهر خبرًا؛ كرؤيا إبراهيم - عليه السلام - حيث قال: (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ)، ثم قال اللَّه - تعالى -: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ)، دل على أن ما رأى إبراهيم - صلوات اللَّه عليه - من الذبح هو أمر بذلك، فإن كان التأويل هذا فيخرج الثنيا المذكور فيه على أثره، كأنه يقول: ادخلوا المسجد الحرام محلقين ومقصرين إن شاء اللَّه أن تأمنوا في دخولكم، وإذا لم تأمنوا لم يشأ أن تدخلوه، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون قوله: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) على الوعد، فيخرج الثنيا المذكور على وجهين:
أحدهما: على التبرك والتيمن، كما يتبرك بذكر اسمه في فعل يفعله، واللَّه أعلم.
والثاني: على الأمر لكل في نفسه إذا أخبر غيره أنه يدخل أن يقول: إن شاء اللَّه، كما يؤمر بالثنيا من أخبر شيئًا أنه يفعله، كقوله - تعالى -: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ).
ويحتمل أن يذكر الثنيا؛ لأن الوعد في الظاهر وإن كان للجملة كقوله: (لَتَدْخُلُنَّ)، فجائِز أن يكون المراد منه بعض منهم، ليس الجملة؛ لاحتمال أن يموت بعض منهم وألا يكون هو مرادًا والمراد، الجملة، فذكر الثنيا؛ لئلا يكون خلف في الوعد من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ثم ما ذكر من رؤيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وأخبر أنه حققها يحتمل ما ذكر من دخول المسجد الحرام على أثره، فإن كان ذلك؛ فيكون قوله تعالى: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) هو تفسير لتلك الرؤيا.
312
وجائز أن تكون الرؤيا في غير ذلك.
وقوله: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) ابتداء وعد وأمر من اللَّه تعالى، وكذلك ما ذكر من قوله حيث قال: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ).
يحتمل ما ذكر في هذه الآية: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ...) إلى آخر ما ذكر.
ويحتمل غير هذا أيضاً، وقد أخبر أنه حققها وصدقها، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ).
يخبر أنهم يدخلون المسجد الحرام محلقين مقصرين.
ثم يخرج على وجهين:
أحدهما: في ابتداء الإحرام، يخرج على التزين على ما يزين المحرم في ابتداء إحرامه من نحو التطيب واللباس والحلق والتقصير، ونحو ذلك، يخبر أنهم يدخلون على التزين في المسجد الحرام آمنين من الكفار، فإن كان على ذلك فهو على الثياب والطيب وغير ذلك.
وذكر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان معتمرا، فسميت تلك عمرة القضاء؛ حيث منع في عام الحديبية وكان معتمرا فسميت، تلك عمرة وإن كان حاجا فيكون قوله: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) بعد رجوعهم من منى إلى طواف الزيارة في ذلك الوقت يكونون محلقين مقصرين، والله أعلم.
فَإِنْ قِيلَ: ما الحكمة في أمره رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالخروج للحج عام الحديبية على علم منه أنه لا يصل إلى مكة وأنه يحال بينه وبين دخول مكة وقضاء النسك، ولا يحتمل إلى ذلك إلا بأمر من اللَّه تعالى، ليس هو كغيره من الناس أنهم يفعلون أفعالا بلا أمر، ثم يمنعون أو ينهون عن ذلك، فأما رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فلا يفعل شيئاً إلا عن أمر منه له بذلك.
قيل: يحتمل إنما أمر بذلك مع علمه بأنهم يمنعون عن ذلك؛ تعليما منه رسوله وأمته حكم الإحصار: أن من حصر عن الحج، ومنع عن دخول مكة؛ لقضاء النسك، ماذا يلزمه؟
وبم يخرج منه؟ ولله تعالى أن يعلم خلقه أحكام شريعته مرة بأمر يأمرهم بذلك، أو بخبر يخبرهم، ومرة بفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يمتحنهم بما شاء، له الحكم والأمر في الخلق، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَخَافُونَ).
أي: تدخلون مكة آمنين، لا تخافون عدوكم، ولا منعهم إياكم.
313
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا).
هذا يخرج على وجوه:
أحدها: أي: علم ما وعد لكم من فتح خيبر وغنائمه ما لم تعلموا.
ويحتمل: أي: علم ما أرى وصوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الرؤيا وتحقيقها ما لم تعلموا.
ويحتمل: أي: علم في رجوعكم عن الحديبية أشياء لم تعلموها أنتم من إظهار ما أظهر من نفاق أهل النفاق فيهم، وأهل الاضطراب من المحققين والمصدقين وغير ذلك، واللَّه أعلم.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله تعالى: (فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا) يقول: إن ذلك الدخول أي سنة؟ ولم تعلموا أنتم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: جعل من قبل أن يدخلوا مكة (فَتْحًا قَرِيبًا)، أي: عاجلا فتح خيبر، واللَّه أعلم.
وقول أهل التأويل: إنه اشتد على الناس رجوعهم من الحديبية وصدهم المشركون عما قصدوا، بعدما أخبرهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه رأى في المنام أنهم يدخلون على ما وقع عندهم أن رؤيا الأنبياء - عليهم السلام - حق كالوحي.
لكن هذا لا يحتمل من المسلمين ما يحتمل من المنافقين على ما ذكر أنهم قالوا حين أخبر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية أن الرؤيا كذب أو كلام نحوه؛ فكل هذا يحتمل من المنافقين، فأما من المسلمين فلا يحتمل أن يقع في قلوبهم شيء من ذلك؛ لما لم يكن في الآية بيان ولا توقيت أنهم متى يدخلون؟ بل فيها الوعد بالدخول ليس فيها أنه متى؟ ألا ترى أن يوسف - عليه السلام - رأى رؤيا وخرجت بعد أربعين سنة أو أقل أو أكثر؛ فعلى ذلك لا يحتمل أن يخفى عليهم إذا لم يكن في الوعد توقيت أنه يجوز أن يتأخر أو يتقدم، واللَّه أعلم.
ثم فيما ذكرنا من أمر الحديبية وصد المشركين إياهم عن دخول مكة والحيلولة بينهم وبين ما قصدوا - أنه لا يحتمل أن يخرج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لقصد الحج وزيارة البيت مع أصحابه بلا أمر منه بذلك؛ لما ذكرنا، ثم إن ثبت له الأمر بذلك على علم من اللَّه تعالى أنه لا يصل إلى تحصيل المأمور به وما قصدوا من دخول مكة زائرين، وما يكون من المشركين من المنع لهم والصد عن ذلك، وما أرادوا تحصيل ما أمرهم بذلك، فهذا دليل على أن اللَّه تعالى قد يأمرهم ويريد غير الذي أمر به، وأنه يريد ما علم أنه يكون منهم
314
الذي أمر به، وهو كما أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، ثم كان حقيقة المراد بالأمر بذبح الولد ذبح الشاه والكبش؛ دل أن الأمر بالشيء لا يدل على أنه أراد الذي أمره به، بل يريد ما علم أنه يكون منهم من خلافه وضده، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (٢٨).
أي: أرسله بالهدى من كل ضلال أو حيرة.
أو أرسله بالبيان من كل عمى وشبهة، وهو هذا القرآن الذي سماه مرة: هدى، ورحمة، ونورا، ونحو ذلك، وهو ما وصفه - عَزَّ وَجَلَّ - أن من تمسك به يكون ما ذكر هدى من كل ضلالة وحيرة، ونورا من كل ظلمة، وبيانا من كل عمى وشبهة، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَدِينِ الْحَقِّ).
جائز أن يكون الحق هو نعَت الدِّين وهو الإسلام، وهو الدِّين الحق، وسائر الأديان باطلة.
ويحتمل أن يكون قوله تعالى: (وَدِينِ الْحَقِّ)؛ أي: دين الإله الذي هو الإله الحق، وهو الإله المستحق الألوهية وغيره من الأديان دين الشيطان، ولا قوة إلا باللَّه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ).
الإظهار: هو الغلبة، ثم تخرج غلبته على الدِّين كله على وجهين:
أحدهما: أي: غلب هذا الدِّين على الأديان كلها بالحجج والبراهين أنه حق، وأنه من عند اللَّه جاء، وقد كان بحمد اللَّه كما ذكر، حتى عرف أهل الأديان كلها بالحجج والبراهين أنه حق إلا من كابر عقله وعاند الحق أو غفل عن دلائله، ولا قوة إلا باللَّه.
والثاني: يغلب على الأديان كلها، أي: يغلب على أهل الأديان كلهم حتى يصير أهل الإسلام ظاهرين غالبين من بين غيرهم، ويتوارى جميع أهل الأديان ويختفوا، ولكن ذلك في وقت دون وقت، وهو الوقت الذي ذكره بعض أهل التأويل، وهو في وقت خروج عيسى - عليه السلام - يصير أهل الأديان كلهم أهل دين واحد وهو الإسلام.
وجائز أن يكون قوله: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)، أي: يظهر ما يحتاج أهل هذا الدِّين كله وما يحدث لهم من الحاجة - على الأديان كلها، بما ضمن في القرآن معاني تقع الكفاية بها في الحوادث كلها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا).
هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) بأن ما جاء به سيدنا مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، إنما جاء به من عند اللَّه، فإن كان التأويل هذا، فإنما تكون هذه الشهادة في الآخرة.
والثاني: يحتمل قوله تعالى: (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) بما أنشأه له من الآيات والحجج شهادة منه على رسالته ونبوته، وذلك في الدنيا، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (٢٩)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ).
من الناس من احتج على تفضيل مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على غيره من الأنبياء - عليهم السلام - بهذه الآية وبغيرها من الآيات يقول: لم يُذكر مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في القرآن إلا وخاطبه باسم الرسالة والنبوة؛ كقوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ)، و (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ)، وقوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) ونحو ذلك، وسائر الأنبياء - عليهم السلام - إنما خاطبهم بأسمائهم التي جعلت لهم خلقة دون ختم الرسالة والنبوة، كقوله: (يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا)، و (يَا لُوطُ)، و (يَا مُوسَى)، و (يَا هَارُونُ)، و (يَا هُوُدُ)، و (يَا صَالِحُ)؛ جميع من ذكرهم سواه إنما ذكرهم بأسمائهم الموضوعة في أصل الخلقة، ولم يجلُّوا ولم يسموا بأسماء الرسالة والنبوة؛ وذلك لفضل جعل له من بين غيره، وكذلك يحتج لتفضيل أمته وأصحابه على سائر الأمم حيث خاطب هذه الأمة بأحسن الأسماء فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، وقوله: (أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ)، وقال في سائر الأمم: (يَا بَنِي آدَمَ)، ونحو ذلك، ومما يدل على فضيلتهم قوله - تعالى -: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ...) الآية؛ أي: كنتم خير أمة في الكتب المتقدمة بما ذكر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ...) الآية، ما وصفهم ونعتهم يرجع إلى أصحابه على الاجتماع، أي: الكل موصوفون بهذه الصفات التي ذكر في الآية، وأنها كلها فيهم، وهو كقوله - تعالى - في صفتهم: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، أي: أشداء على الكفار، ورحماء على المؤمنين، وصفهم بذلك جملة، فعلى ذلك هاهنا.
316
ويحتمل أن يكون ذلك وصف بعضهم دون بعض، أو وصف عامتهم، فأما الكل فلا، وذلك نحو ما روي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث قال: لولا قوله - تعالى -: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا)، ما كنا نعرف أحدًا من أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يريد الدنيا، فإنما يكون ذلك وصف أمثال عبد اللَّه بن مسعود، رضي الله عنه.
ثم قد جعل اللَّه - تعالى - الرحمة والرأفة نعتًا للمؤمنين، يتراحم بعضهم بعضًا، وكذلك روي في الخبر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " لا تدخلوا الجنة حتى تراحموا " قالوا: كلنا نتراحم ولده، فقال: " ليس ذلك برحمة، إنما الرحمة أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ولولده "، أو كلام نحوه.
وروي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " المؤمنون كلهم كرجل واحد، إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى "، وليس فيما وصفهم بالشدة على الكفار دليل على أن ليس لهم شفقة عليهم، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - له شفقة عظيمة عليهم، حتى كادت تهلك نفسه، لذلك قال اللَّه - تعالى -: (فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)، وقال: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، فعلى ذلك أصحابه، رضوان اللَّه عليهم أجمعين.
ثم القتال الموضوع فيما بينهم رحمة في الحقيقة، وإن كان في الظاهر ليس برحمة؛ لأنه وضع ليضطرهم ذلك إلى قبول الإسلام والتوحيد، وفي قبولهم ذلك نجاتهم، وما وصفهم بالرحمة على المؤمنين، ليس فيه أنهم ليسوا بأشداء عليهم إذا عاينوا منهم المناكير والفواحش حتى يتركوا التغيير عليهم؛ بل من الشفقة لهم عليهم ما يغيرون عليهم المنكر؛ إذ في ذلك نجاتهم، وذلك لا يزيل عنهم الرحمة التي وصفهم بها؛ بل ذلك من الشفقة لهم والرحمة، واللَّه أعلم.
ثم نعتهم وقال: (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) أن يحتمل وجهين:
أحدهما: وصف لهم بالمداومة في إقامة الصلوات بالجماعات، وأراد بالركوع والسجود: هو الصلاة على طريق الكناية.
والثاني: عبارة عن الخضوع لربهم، والتواضع للمؤمنين، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) يحتمل قوله: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ)
317
أي: الجنة؛ أي: يبتغون بكل ما وصفهم من الرحمة، والشدة، والركوع، والسجود الجنة، والفضل يذكر عبارة عن الجنة في القرآن في غير موضع.
وجائز أن يكون ما ذكر من ابتغائهم الفضل من اللَّه - تعالى - ما يتعايشون به.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ) أي: يبتغون ما يتعيشون به.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ) أي: يبتغون معيشة يتقوون بها على طاعة اللَّه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرِضْوَانًا) أي: رضا ربهم، وهو بمعنى الفضل - أيضًا - على التكرار للتأكيد؛ كقوله - تعالى -: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، لكنه أخبر أنهم يبتغون ذلك الفضل والرضوان من اللَّه - تعالى - واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) اختلف فيه:
قال الحسن وغيره: أي: أثر الخشوع والصلاة في وجوههم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الرجل إذا قام من الليل فأطال القيام والسهر، تبين سهر الليل في وجهه إذا أصبح من الصفرة، وتغير اللون، وذلك كله في الدنيا.
وكذلك روي عن الحسن قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: " رحم اللَّه قومًا يحسبهم الناس مرضى وما هم بمرضى " قال الحسن: أجهدتهم العبادة.
وقال قتادة: أثر الصلاة في وجوههم، وهو أثر التراب؛ لكن ذلك بعيد.
وقال: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) يوم القيامة، وهو بياض وجوههم من أثر السجود والوضوء.
وكذلك روي في الخبر عن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " إني أعرف أمتي من بين غيرها من الأمم " قيل: وكيف تعرف يا رسول اللَّه أمتك من بين الأمم؟ فقال: " أمتي غر محجلون يوم القيامة من أثر السجود " ولا يكون ذلك لأحد من الأمم غيرهم، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون على غير ذلك، يجعل اللَّه - تعالى - في وجوههم من آثار العبادة له، والجهد فيها من النور والحلاوة والحسن ما يعرفون أنهم أهل عبادة اللَّه - تعالى - وطاعته، واللَّه أعلم.
318
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) يحتمل وجوهًا:
أحدها: أي: شبههم في التوراة والإنجيل الآحاد والأفراد منهم المختارون من بين غيرهم الذين يعظمونهم الأتباع والملوك ويحلونهم، فما بالكم لا تعظمون أنتم هَؤُلَاءِ ولا تتبعونهم كاولئك، واللَّه أعلم.
والثاني: يحتمل: (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) أي: ذلك نعتهم ووصفهم في التوراة والإنجيل؛ أي: على ذلك نعتوا ووصفوا في التوراة والإنجيل، وقد عرفتم ذلك، فهلا اتبعتموهم إذا نعتوا ووصفوا في القرآن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ) مقطوع مقصود، وهو ما تقدم من قوله: (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ...) إلى قوله: (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ)، ثم ابتدأ فقال: (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ...) الآية، وهذا يحتمل ووجه حسن، وعلى التأويلين الأولين ما ذكرنا من وصفهم، كأنه في التوراة والإنجيل جميعًا، ثم نعتهم - أيضًا - بقوله - تعالى -: (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ)، واللَّه أعلم.
ثم ذكر نعت أصحابه - رضي اللَّه عنهم - في هذه الآية، ولم يذكر نعت رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وإِنَّمَا ذكر نعته في آية أخرى، وهو قوله - تعالى -: (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ...) الآية، ذكر نعته وصفته في الآية - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ونعت أصحابه - رضي اللَّه عنهم - في هذه السورة، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ...) الآية دلالة الرسالة؛ لأنه أخبر أن نعتهم في الكتب المتقدمة كما ذكر في القرآن، ثم لم يقل أحد من أهل الكتب المتقدمة: أن ليس ذلك نعتهم أو شبههم في تلك الكتب، ثبت أنه بالله عرف، ولا قوة إلا باللَّه.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ...) الآية، شبههم بالزرع الذي ذكر - واللَّه أعلم - لأنهم أحيوا سنن الدِّين وشرائعه التي كانت من قبل بعدما درست، وانقطع أثرها؛ لأنه لم يكن فيما بين عيسى ومُحَمَّد - عليهما الصلاة والسلام - رسول فقد انقرض ذلك واندرس، ثم جاء مُحَمَّد - عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات - بعد دروس ذلك وانقراضه كالزرع الذي يخرج وحده، وهو النبت الواحد في أول ما يخرج، فأعانه أصحابه وآزروه كانوا إليه كالخلفة التي تنبت حول الساق تؤازر الخلفة والنبت، فأما (شَطْأَهُ) فقيل: هو مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - خرج وحده كما خرج أول النبت وحده، وأما الوالية التي تنبت حول الشطأة فاجتمعت، فهم المؤمنون كانوا في
319
قلة كما كان أول الزرع دقيقًا، ثم زاد نبت الزرع، فغلظ، (فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ)، كما آزر المؤمنون بعضهم بعضًا حتى استغلظوا واستووا على أمرهم كما استغلظ هذا الزرع واستوى على سوقه.
ثم اختلقوا في الشطاة:
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: هو قصب الزرع؛ أي: صار له واسط الزرع؛ أي صار له ورق، (فَآزَرَهُ) أي: قواه، (سُوقِهِ) جمع: ساق.
وقال أبو عبيدة: شطأ الزرع: فراعه وصغاره؛ يقال: قد أشطأ الزرع فهو مشطئ إذا فرع.
وقال الفراء: (شَطْأَهُ) أي: سنبله، ينبت الحبة عشرًا وتسعًا وثمانيًا (فَآزَرَهُ) أي: أعانه وقواه.
وقوله: (فَاسْتَغْلَظَ) أي: غلظ (فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) جمع ساق، ومنه يقال: قام كذا على سوقه إذا آذرته وتناهى وبلغ الغاية؛ يقول - واللَّه أعلم -: كما أن الزرع إذا قام على السوق فقد استحكم، فهذا مثل ضربه اللَّه - تعالى - لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أي: خرج وحده، فأيده بأصحابه، فقوى واشتد كما قويت الساق من الزرع بما نبت منها حتى غلظت وعظمت واستحكمت، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) قَالَ بَعْضُهُمْ: الزراع هو محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - يعجب محمدًا ما رأى من أصحابه والمؤمنين، ويغيظ الكفار ذلك، من الغيظ، وهو كقوله - تعالى -: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ...) إلى قوله: (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الزراع: هو صاحب الزرع، إذا كثر جوانبه ووالياته، وينبت (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ)؛ أي: يغيظ ذلك سائر الزراعين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كما يعجب الزراع حسن زرعه حين استوى قائمًا على ساقه، فكذلك يغيظ الكفار كثرة المؤمنين واجتماعهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هم الزراع، سموا كفارًا؛ لأنهم يكفرون، أي: يسترون البذر في الأرض، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ) من بين غيرهم من الناس (مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)، واللَّه أعلم.
وفيه نقض قول الباطنية والروافض - لعنهم اللَّه - لقولهم: إنهم بعد وفاة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -
320
كفروا وارتدوا عن الإسلام جميعًا، أو كلام نحوه؛ في الآية ردٌّ لقولهم؛ لأنه وعد لهم المغفرة وما ذكر من الأجر العظيم، فلا يحتمل أن يكونوا على ما ذكر أُولَئِكَ، ثم تكون لهم المغفرة وما ذكر من الأجر العظيم؛ فدل ما ذكر من الوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم أنهم ثبتوا على ما كانوا من قبل في زمن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وفي حياته، واللَّه أعلم، وصلى اللَّه على سيدنا مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
* * *
321
Icon