تفسير سورة الفتح

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ الْفَتْحِ
قوله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١)﴾
قالوا: التأكيد بـ (إِنَّا) إما لأن المخاطب منكر أو عليه [مخايل*] الإنكار، فإن لم يكن منكرا فالأظهر عليه [مخايل الإنكار*]، فالتأكيد لمجرد التعظيم والتفخيم لهذه الآية، وأجمعوا على أن السورة مدنية، وإنما اختلفوا في محل نزولها، وحاصل الجميع أنها نزلت بعد الهجرة.
قوله تعالى: ﴿مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ... (٢)﴾
قال: الذنب ما استلزم الذم والعتب أو العقوبة، وعذابه بمعنى المؤاخذة وعدم المؤاخذة يبطل لازمه فيبطل الذنب فلا ذنب هنالك ونظيره، قوله تعالى: (وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) وليست الدار دار تكليف فليس فيها ذنب يغفر؛ بل هو راجع لعدم المؤاخذة بما يفعلون، فهو دليل لما قلناه.
وقيل: المغفرة تطلق على ستر المعصية بمعنى الحفظ منها، وعلى ستر المرتب عليها بمعنى التجاوز عنه.
قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ... (٤)﴾
إشارة إلى شدة ثبوتها واستقرارها في القلب؛ لأن الإنزال يقتضي الثبوت لَا سيما من موضع مرتفع بعيد.
قوله تعالى: (لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ).
احتج بها الفخر على أن الإيمان يزيد وينقص، وأجيب: بأن زيادته بحسب متعلقات، يزيد بزيادة الأعمال، قال: المزيد غير المزيد عليه وليس مثله، بدليل قوله تعالى: (مَعَ إِيمَانِهِمْ) ولم يقل: إلى إيمانهم، كما في التوبة (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ).
قوله تعالى: ﴿وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ... (٥)﴾
مع أن تكفير السيئات سابق على دخول الجنة؟ وأجيب: بأن المراد تكفيرها سترها، فمعناه يستر عنهم سيئاتهم حتى لَا يرونها ولا يتأسفوا عليها.
قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ... (١١)﴾
السين للاستقبال أو التحقيق، فإِن قلت: هلا قال: (الْمُخَلِّفُونَ) لأن العبارة باسم الفاعل أبلغ في الذم؟ والجواب: أنه قصد التنبيه على الاستغناء عنهم، وأن الله تعالى خلقهم، كما قال تعالى (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) وإن كان التخلف في ظاهر الحال منهم فهو في الباطن منسوب إلى المؤمنين بمعنى أنهم تركوهم ولم ينالوهم.
قوله تعالى: (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ).
فيه سؤالان:
الأول: قال في آل عمران: (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) قلب القول للأفواه كما لا لَلألسنة؟ فالجواب: أن قولهم هنالك أكثر وأعظم وأشنع لأنهم قالوا: (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ)، وبدليل قول الله تعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكتُمُونَ) فدل على كثرة قولهم، فنسب الكثير للأفواه إذ هي أوسع من الألسنة.
الثاني: قالوا يؤخذ من الآية الرد على إمام الحرمين، في قوله:
إن الْكَلَام فِي [الْفُؤَاد*] وَإِنَّمَا... جعل اللّسانُ على الْفُؤَاد دَلِيلا
وردوا عليه بأن ابن العربي إنما يحتج بقوله: فيما ينطق فيه بطبعه من رفع ونصب وخفض، أما ما يحكم فيه فلا، وأجيب: بأن هذا حكم على اللغة والعربي إذا تكلم بكلمة ويقول: معناها عندي كذا، فالمرجع لقوله على وجه الدليل من الآية، أن الله تعالى قال (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) والضمير في [(لَيْسَ)] عائد على القول، فلولا أن ذلكَ القول قابل لأن يكون قال (فِي قُلُوبِهِمْ) والضمير عائد على المذكور، والمذكور إنما هو القول، قال: ونسبها لقول اللسان مع أن مخارج الحروف غير منحصرة في اللسان لكنه هو أعمها.
قوله تعالى: (إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا).
يقال: بفتح الضاد وضمها، وهما راجعان لمعنى واحد، أحدهما حسِّي والأخرى معنوي.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ... (١٨)﴾
ابن عطية: كان سبب هذه الآية كذا وكذا، ثم قال: وحيث جعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يده على يده، وقال: "هذه عن عثمان وهو خير من يد عثمان".
قال ابن عرفة: أراد بذلك إزالة النقص المتقدم بحق عثمان من كونه لم يحضر ولم يبايع، فمعناه أن بيعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عنه خير من بيعته هو لنفسه مباشرة.
فإن قلت: وإنما بايعوا على الموت وعثمان قد شاع عندهم حينئذ موته، فكيف يبايع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عنه على الموت وهو يعتقد أنه ميت؟
قلنا: قد يكون سبب البيعة [إثر سماعهم*] الخبر بموت عثمان، ثم في أثناء الأمر ورد [**يحيونه].
قوله تعالى: ﴿وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا... (٢١)﴾
فيها حجة على المجبرة القائلين: بأن العبد لَا قدرة له ولا كسب لأجل نفي القدرة عنهم في هذه، فمفهومه ثبوت القدرة لهم على غيرها، وإلا فلا فائدة لتخصيص هذه بنفي القدرة، والمراد غنيمة أخرى أو نعمة أخرى.
ابن عرفة: أي غنيمة مغايرة الأولى، أو غنيمة مغايرة لها، أو سابقة عنها في الزمان، كقوله: [... ].
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ... (٢٤)﴾
قال ابن عرفة: يؤخذ منه أن القدم الإضافي متعلق به القدرة، وتقدم لنا مثله في قوله تعالى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) قيل [لا حجة فيه؛ لاحتمال*] أن يرجع إلى الإرادة، فقال: والإرادة مؤثرة؛ لأن من شأنها الاختصاص.
قيل له: الأشهر عندهم أنها غير مؤثرة، قال: وعادتهم يقولون: الآية خرجت مخرج الامتنان والنعمة في كف أيدي الكفار عن المسلمين ظاهرة، وأما كف أيدينا عنهم ففيه عكس النعمة، وأجيب: بأن المراد لازم ذلك وهو إسلامهم فبإسلامهم وانقيادهم [حصل*] كف أيدينا عنهم؛ لَا بالعجز عن قتالهم.
* * *
Icon