تفسير سورة الإنسان

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب لطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ
قوله جل ذكره :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾.
" بسم الله " اسم جبار توحد في آزاله بوصف جبروته، وتفرد في آباده بنعت ملكوته ؛ فأزله أبده، وأبده أزله، وجبروته ملكوته، وملكوته جبروته.
أحدي الوصف، صمدي الذات، مقدس النعت، واحد الجلال، فرد التعالي، دائم العز، قديم البقاء.

قوله جلّ ذكره :﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً ﴾.
في التفسير : قد أتى على الإِنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً له خَطَرٌ ومقدار. قيل : كان آدم عليه السلام أربعين سنة مطروحاً جَسَدُه بين مكة والطائف. ثم من صلصالٍ أربعين سنة، ثم من حمإ مسنون أربعين سنة، فتمَّ خَلْقُه بعد مائة وعشرين سنةٍ.
ويقال :﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهَرِ. . . ﴾ : أي لم يأتِ عليه وقتٌ إلا كان مذكوراً إليَّ.
ويقال : هل غَفلْتُ ساعةً عن حِفْظِك ؟ هل ألقيتُ - لحظةً - حَبْلَكَ على غارِبِك ؟ هل أخليتُك - ساعةً - من رعاية جديدة وحمايةٍ مزيدة.
قوله جلّ ذكره :﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾.
﴿ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ : أي من قطرة ماءٍ، ﴿ أَمْشَاجٍ ﴾ : أَخلاط من بين الرجل والمرأة.
ويقال : طوراً نطفة، وطوراً عَلَقَة، وطوراً عَظْماً، وطوراً لَحْماً.
﴿ نَّبْتَلِيهِ ﴾ : نمتحنه ونختبره. وقد مضى معناه.
﴿ فَجَعَلْنَهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾.
أي : عَرَّفْناه الطريقَ ؛ أي طريقَ الخيرِ والشرِّ.
وقيل : إمَّا للشقاوة، وإمَّا للسعادة، إمَّا شاكراً من أوليائنا، وإما أن يكون كافراً من أعدائنا ؛ فإنْ شَكَرَ فبالتوفيق، وإنْ كَفَرَ فبالخذلان.
قوله جلّ ذكره :﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلا وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً ﴾.
أي : هَيَّأْنا لهم سلاسلَ يُسْحَبون فيها، ﴿ وَأغْلاَلاً ﴾ لأعناقهم يُهانون بها، ﴿ وَسَعِيراً ﴾ : ناراً مستعرة.
قيل : البَرُّ : الذي لا يُضْمِرُ الشَّرَّ، ولا يؤذي الذَّرّ.
وقيل :﴿ الأَبْرَارَ ﴾ : هم الذين سَمَتْ هِمَّتهُم عن المستحقرات، وظهرت في قلوبهم ينابيع الحكمة فاتّقوا عن مُسَاكنةٍ الدنيا.
﴿ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ ﴾ رائحتها كرائحة الكافور، أو ممزوجة بالكافور.
ويقال : اختلفت مشاربهُم في الآخرة ؛ فكلٌّ يُسْقَى ما يليق بحاله. . . وكذلك في الدنيا مشاربهُم مختلفة ؛ فمنهم مَنْ يُسقَى مَزْجاً، ومنهم من يُسقَى صِرْفاً، ومنهم من يسقى على النُّوَب، ومنهم من يُسقى بالنُّجُب ومنهم من يُسْقى وحدَه ولا يُسقي مما يُسقى غيره، ومنهم مَنْ يسقى هو والقوم شراباً واحداً. . . وقالوا :
إن كنت من ندماي فبالأكبر اسْقِني ولا تَسْقِني بالأصغر المتثلم
وفائدة الشرابِ - اليومَ - أن يشغلهم عن كل شيءٍ فيريحُهم عن الإحساس، ويأخذهم عن قضايا العقل. . كذلك قضايا الشراب في الآخرة، فيها زوالُ الأرَبِ، وسقوطُ الطلبِ، ودَوَامُ الطَّرَب، وذَهَابُ الحَرَب، والغفلة عن كلِّ سبب.
ولقد قالوا :
عاقِرْ عقارك واصْطبِحْ واقدَحْ سرورَك بالقَدحَ
واخلع عذارك في الهوى وأَرِحْ عذولَك واسترحْ
وافرَحْ بوقتِك إنما عُمْرُ الفتى وقتُ الفَرَح
قوله جلّ ذكره :﴿ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ﴾.
يُشَقَّقونها تشقيقاً، ومعناه أَن تلك العيون تجري في منازلهم وقصورهم على ما يريدون. واليومَ - لهم عيونٌ في أسرارهم من عين المحبة، وعين الصفاء، وعين الوفاء، وعين البسط، وعين الروح. . وغير ذلك، وغداً لهم عيون.
ثم ذكر أحوالهم في الدنيا فقال : يوفون بالعهد القديم الذي بينهم وبين الله على وجهٍ مخصوص :
﴿ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ﴾.
قاسياً، منتشراً، ممتداً.
أي : على حُبِّهم للطعام لحاجتهم إليه. ويقال : على حُبِّ الله، ولذلك يُطْعِمون.
ويقال : على حُبِّ الإطعام.
وجاء في التفسير : أَن الأسير كان كافراً - لأنَّ المسلَم ما كان يُستأسَرُ في عهده - فطاف على بيت فاطمة رضي الله عنها وقال : تأسروننا ولا تطعموننا !
إنما نطعمكم ابتغاءَ مرضاةِ الله، لا نريد من قبِلكُم جزاءً ولا شكراً.
ويقال : إنهم لم يذكروا هذا بألسنتهم، ولكن كان ذلك بضمائرهم.
أي : يوم القيامة.
﴿ وَلَقَّاهُمْ ﴾ أي : أعطاهم ﴿ نَضْرَةً وَسُرُواً ﴾.
كافَأَهُم على ما صبروا من الجوع ومقاساته جنَّةً وحريراً.
واحدها أريكة، وهي السرير في الحجال.
﴿ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ﴾.
أي : لا يتَأَذْون فيها بِحَرًٍّ ولا بَرْدٍ.
يتمكنون من قطافها على الوجه الذي هم فيه من غير مشقة ؛ فإِن كانوا قعوداً تُدلَّى لهم، وإن كانوا قياماً - وهي على الأرض - ارتقت إليهم.
الاسم فضة، والعين لا تشبه العين.
﴿ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيراْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ﴾.
أي : في صفاء القوارير وبياض الفضة. . . قَدَّرَ ذلك على مقدار إرادتهم.
المقصود منه الطِّيب. فقد كانوا ( أي العرب ) يستطيبون الزنجبيل، ويستلذون نكهته، وبه يشبِّهون الفاكهة، ولا يريدون به ما يقرص اللسان.
أي : يُسْقَوْنَ من عين - أثبت المَسْقِيَّ وأَجْمَلَ مَنْ يسقيهم ؛ لأنَّ منهم من يسقيه الحقُّ - سبحانه - بلا واسطة.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتُهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً ﴾.
أي : يخدمهم ﴿ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ﴾ وصفا لا يجوز واحد منهم حدَّ الوصائف.
وجاء في التفسير : لا يَهْرَمون ولا يموتون. وجاء مُقَرَّطون.
إذا رأيتهم حسبتهم من صفاء ألوانهم لؤلؤاً منثوراً.
وفي التفسير : ما من إنسانٍ من أهل الجنة إلا ويخدمه ألف غلام.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ﴾.
﴿ ثُمَّ ﴾ : أي في الجنة.
﴿ وَمُلْكاً كَبِيراً ﴾ : في التفاسير أن الملائكة تستأذن عليهم بالدخول.
وقيل : هو قوله :﴿ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا ﴾ [ ق : ٣٥ ] ويقال : أي لا زوالَ له.
يحتمل أن يكون هذا الوصف للأبرار. ويصح أن يكون للولدان وهو أَوْلَى، والاسم يوافق الاسم دون العين.
﴿ شََراباً طَهُوراً ﴾ : الشراب الطهورُ هو الطاهر في نفسِه المُطَهَّرُ لغيره.
فالشراب يكون طهوراً في الجنة - وإنْ لم يحصل به التطهيرُ لأن الجنة لا يُحتاجُ فيها إلى التطهير.
ولكنه - سبحانه - لمَّا ذَكَرَ الشرابَ - وهو اليومَ في الشاهد نجَسٌ - أخبر أنَّ ذلك الشرابَ غداً طاهرٌ، ومع ذلك مُطَهِّر ؛ يُطَهِّرُهم عن محبة الأغيار، فمن يَحْتسِ من ذلك الشرابِ شيئاً طَهَّرَه عن محبة جميع المخلوقين والمخلوقات.
ويقال : يُطَهِّرُ صدورهم من الغِلِّ والغِشِّ، ولا يُبْقِي لبعضهم مع بعض خصيمة ولا عداوة ولا دَعْوَى ولا شيء.
ويقال : يُطهِّرُ قلوبهم عن محبة الحور العين.
ويقال : إن الملائكة تعرض عليهم الشرابَ فيأبون قبولَه منهم، ويقولون :
لقد طال أَخْذُنا مِنْ هؤلاء، فإذا هم بكاساتٍ تُلاقِي أفواهَهَم بغير أكُفٍّ ؛ من غيبٍ إلى عَبْدٍ.
ويقال : اليومَ شرابٌ وغداً شراب. . . اليوم شرابُ الإيناس وغداً شرابُ الكاس، اليومَ شرابٌ من اللُّطْفِ وغداً شرابٌ يُدار على الكفّ.
ويقال : مَنْ سقاه اليومَ شرابَ محبَّتهِ آنسَه وشَجَّعُه ؛ فلا يستوحِش في وقته من شيء، ولا يَضِنُّ بروحه عن بَذْل. ومن مقتضى شُرْبه بكأسِ محبته أن يجودَ على كلِّ أحدٍ بالكونين من غير تمييز، ولا يَبْقَى على قلبه أثرٌ للأخطار.
ومن آثارِ شُرْبِه تذلُّلُه لكلِّ أحدٍ لأجل محبوبه، فيكون لأصغرِ الخَدم تُرَابَ القَدَم، لا يتحرَّكُ فيه للتكبُّر عرْقٌ.
وقد يكون من مقتضى ذلك الشارب أيضاً في بعض الأحايين أَنْ يَتِيه على أهل الدارين.
ومن مقتضى ذلك الشراب أيضاً أَنْ يمْلِكَه سرورٌ ولا يَتَمَالَكُ معه من خَلْعِ العذار وإلقاء قناع الحياء ويظهر ما هو به من المواجيد :
يخلع فيك العذارَ قومٌ فكيف مَنْ مالَه عذارُ ؟
ومن موجِبات ذلك الشراب سقوط الحشمة، فيتكلم بمقتضى البسط، أو بموجب لفظ الشكوى، وبما لا يَستخرجُ منه - في حال صَحْوه - سفيه بالمناقيش. . . وعلى هذا حَمَلُوا قول موسى :﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾ [ الأعراف : ١٤٣ ].
فقالوا : سَكِرَ من سماع كلامه، فَنَطَقَ بذلك لسانُه. وأمَّا مَنْ يسقيهم شرابَ التوحيد فَيَنْفي شهودَ كلِّ غَيْرِ فَيهيمون في أودية العِزِّ، ويتيهون في مفاوزِ الكبرياء، وتتلاشى جملتهُم في هواء الفردانية. . . فلا عقلَ ولا تمييزَ ولا فَهْمَ ولا إدراك. . . فكلُّ هذه المعاني ساقطة.
فالعبدُ يكون في ابتداء الكَشْفِ مُستوْعَباً ثم يصير مستغْرقاً ثم يصيرُ مُسْتَهْلَكا. . .
﴿ وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ﴾ [ النجم : ٤٢ ].
قوله جلّ ذكره :﴿ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً ﴾.
يقال لهم : هذا جزاءٌ لكم، ﴿ مَّشْكُوراً ﴾ : وشُكْرُه لسعيهم تكثيرُ الثوابِ على القليل من العمل - هذا على طريقة العلماء، وعند قومٍ شُكْرُهم جزاؤهم على شكرهم.
ويقال : شُكْرُه لهم ثناؤه عليهم بذكر إحسانهم على وجه الإكرام.
قوله جلّ ذكره :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلاً ﴾.
في مُدَّةٍ سنين.
أي : ارْضَ بقضائه، واستسلمْ لِحُكْمِه.
﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾ : أي : ولا كفوراً، وهذا أمرٌ له بإفرادِ ربِّه بطاعته.
الفَرْضُ في الأول، ثم النَّفْل.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٥:الفَرْضُ في الأول، ثم النَّفْل.
﴿ إِنَّ هَؤلاءِ. . . ﴾.
أي كفَّار قريش :
﴿ يُحِبُّونَ الْعَاجِلََةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِِيلاً ﴾.
أي : لا يعلمون ليوم القيامة.
قوله جلّ ذكر ه :﴿ نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ﴾.
أعدمناهم، وخلقنا غيرَهم بدلاً عنهم. ويقال : أخذنا عنهم الميثاق.
﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ. . . . ﴾.
أي : القرآن تذكرة.
﴿ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾.
بطاعته.
أي : عذاباً أليماً موجِعاً يخلص وَجَعُه إلى قلوبهم.
Icon