تفسير سورة البلد

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة البلد من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحدادي اليمني .

﴿ لاَ أُقْسِمُ بِهَـاذَا الْبَلَدِ ﴾ ؛ يعني مكَّة، أقسَمَ اللهُ بها إعْظَاماً لها، وحرف (لاَ) زائدةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـاذَا الْبَلَدِ ﴾ ؛ أي وأنتَ - يا مُحَمَّدُ - حِلٌّ بمكَّة، يعني : وأنتَ مقيمٌ فيها، وقيل : أنتَ حَلالٌ فيها، تصنعُ ما تريدُ من القتلِ والأسرِ، يعني : وأنتَ حلالٌ لكَ أن تتصرَّفَ فيها، وذلك أنَّ اللهَ تعالى أحلَّ لنبيِّه عليه السلام مكَّة يومَ الفتحِ حتى قاتلَ، وقتَلَ ابن خَطَل وهو متعلِّقٌ بأستار الكعبَة، ومِقْيَسُ بن صُبَابَة وغيرَهُما.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾ ؛ فهذا قسَمٌ بآدمَ وذريَّته، وجوابُ القسَمِ :﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ ؛ أي في شدَّةٍ من حين يَنفُخ فيه الروحَ إلى أن يصلَ إلى الآخرةِ، ليعلم أنَّ الدُّنيا دارُ كَدٍّ ومشقَّة، والجنةُ دار الراحةِ والنعمة. والمكابدَةُ في اللغة : هو أن يُكَابدَ الإنسان أمرَ المعاشِ والمعاد، قال الحسنُ :((تَكَادُ مَصَائِبُ الدُّنْيَا، وَشَدَائِدُ الآخِرَةِ، لاَ تَلْقَى ابْنَ آدَمَ إلاَّ يُكَابدُ أمْرَ الدُّنْيَا فِي مَشَقَّةٍ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ﴾ ؛ كنايةٌ عن الإنسان، وقد جاءَ في التفسيرِ : أنه نزلَ في أبي الأشَدِّ بن كَلَدَةَ الْجُمَحِيِّ، كان قويّاً شَديداً يضعُ الأديمَ العُكاظيَّ فيقفُ عليه ويقولُ : من أزَالَني عنه فلَهُ كذا وكذا، فيجتمعُ عليه عشرةُ أقوياءٍ ويجرُّون الأديمَ، فكان ينقطعُ الأديمُ ولا تزولُ قدمَاهُ عن مكانِهما.
والمعنى : يظنُّ هذا الكافرُ بشدَّتهِ وقوَّته أنْ لن يقدرَ عليه أحدٌ ؛ أي على أخذهِ وعقوبته أحدٌ، وأنْ لَنْ يُبعَثَ، واللهُ قادرٌ عليه، فيقالُ : إنه لَمَّا نزلَ ذلك حُصِرَ بطنهُ وانحصرَ بولهُ فكان يتمرَّغُ في التراب ويقولُ : قتَلَنِي ربُّ مُحَمَّدٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً ﴾ ؛ يعني هذا الكافرَ المذكورَ يقولُ : أهلكتُ مَالاً كثيراً في عداوةِ مُحَمَّدٍ وأصحابهِ فلم ينفَعني ذلك. واللُّبَدُ : كلُّ ما لُبدَ بعضهُ على بعضٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ﴾ ؛ معناه : أيظنُّ أنه لم يُحْصِ عليه ما أنفقَ، وأنه لا يُسأل عنه مِن أين اكتسبَهُ، وفيمَ أنفقَهُ؟
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ ﴾ ؛ ذكرَ الله مِنَّتَهُ عليه فقال : ألَمْ نجعل له عينَين يبصرُ بهما، ولِسَاناً يتكلَّمُ به، وشفتَين يستعينُ بهما على الكلامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ﴾ ؛ أي وبيَّنا له وعرَّفناهُ الخير والشرَّ، ليسلكَ طريقَ الخيرِ، ويجتنبَ طريق الشرِّ، وعن رسولِ الله ﷺ :" أنَّهُ قَرَأ ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ﴾ وَقَالَ :" أيُّهَا النَّاسُ إنَّهُمَا نَجْدَانِ : نَجْدُ الْخَيْرِ، وَنَجْدُ الشَّرِّ " ".
وَقِيْلَ : معنى ﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ﴾ : ألْهَمنَاهُ مصَّ الثَّديَين، والثديَان هما النَّجدان، وهذا قولُ سعيدِ بن المسيَّب والضحاك، وروايةٌ عن ابنِ عبَّاس.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴾ ؛ معناهُ : فلا جادَ بمالهِ بإنفاقه في طاعةِ الله، وهلاَّ دخلَ في عملِ البرِّ، وانفقَ مالَهُ في فكِّ الرِّقاب وإطعامِ الجياعِ ليجاوزَ العقبةَ، فيكون خَيراً له من إنفاقهِ في عداوة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهدُ والضحَّاك والكلبيُّ :((يَعْنِي بالْعَقَبَةِ الصِّرَاطَ، يُضْرَبُ عَلَى جَهَنَّمَ كَحَدِّ السَّيْفِ مَسِيرَةَ ثَلاَثَةِ آلاَفٍ سَنَةٍ سَهْلاً وَصُعُوداً وَهُبُوطاً، بجَنْبَيْهِ كَلاَلِيبُ وَخَطَاطِيفُ كَأَنَّهَا شُوْكُ السَّعْدَانِ، فَنَاجٍ سَالِمٌ، وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ، وَمُكَرْدَسٌ فِي النَّار مَنْكُوسٌ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ كَالْفَارسِ، وَمِنْهُمْ كَالرَّجُلِ يَعْدُو، وَمِنْهُمْ كَالرَّجُلِ يَمْشِي، وَمِنْهُمُ مَنْ يَزْحَفُ وَمِنْهُمُ الزَّالِقُ. وَاقْتِحَامُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ إلَى الْعِشَاءِ)).
وقال قتادةُ :((هَذا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ تَعَالَى، يُقَالُ : إنَّ الْمُعْتِقَ وَالْمُطْعِمَ يُقَاحِمُ نَفْسَهُ وَشَيْطَانَهُ مِثْلَ مَنْ يَتَكَلَّفُ صُعُودَهُ))، قال ابنُ زيدٍ :((مَعْنَى الآيَةِ : فَهَلاَّ سَلَكْتَ الطَّرِيقَ الَّذِي فِيهَا النَّجَاةُ)).
ثُمَّ بيَّن ما هي، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ﴾ ؛ تعظيمُ لشأنِ العقبةِ، تقولُ : ما أعلمَكَ يا مُحَمَّدُ بأيِّ شيء تجاوزُ عقبةَ الصِّراط، قال سُفيان بن عُيَينة :((كُلُّ شَيْءٍ قَالَ اللهُ فِيْهِ :﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ ﴾ فَإنَّهُ أخْبَرَ بهِ، وَمَا قَالَ فِيْهِ :(وَمَا يُدْريكَ) فَإنَّهُ لَمْ يُخْبرْهُ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَكُّ رَقَبَةٍ ﴾ ؛ من قرأ بضمِّ الكافِ فمعناهُ : اقتِحامُها فكُّ رقبَة من رقٍّ أو شر أو ظُلمِ ظالِم أو من سُلطان جائرٍ. والاقتحامُ : الدُّخول في الشَّيء على الشدَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ ﴾ ؛ منكَ، ﴿ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ﴾ ؛ لاصِقاً بالتُّراب من الجهدِ والفاقة، ويقالُ : إن الْمَتْرَبَةَ شدَّةُ الحاجةِ إذا افتقرَ. وَمن قرأ (فَكَّ) بالنصب (أوْ أطْعِمْ) فمعناهُ : أفلاَ فكَّ الرقبةَ وهلاَّ أطعَمَ في يومٍ ذي مَسغَبة.
وعن البراءِ بن عازبٍ قال :" جَاءَ أعْرَابيٌّ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ عَلِّمْنِي عَمَلاً يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ :" لَئِِنْ كُنْتَ أقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ : فُكَّ الرَّقَبَةَ وَأعْتِقِ النَّسْمَةَ " قَالَ : أوَلَيْسَا سَوَاءً يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ :" عِتْقُ النِّسْمَةِ أنْ تَنْفَرِدَ بعِتْقِهَا، وَفَكُّهَا أنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا، فَإنْ لَمْ تُطِقْ ذلِكَ فَكُفَّ لِسَانَكَ إلاَّ مِنْ خَيْرٍ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ ﴾ ؛ معناهُ : إنَّ أفعالَ القُرْب إنما تنفعهُ إذا كان معَ ذلك من الذين آمَنُوا. وحرفُ (ثُمَّ) ههنا للتَّرادُف في الإخبار، لا للترادُفِ في المحالِّ، كأنه قالَ : وكان مُؤمناً قبلَ ذلك مِن الذين يتواصَون بالصبرِ. ويجوزُ أن يكون معناهُ : فعَلَ ذلك ثُمَّ ثبتَ على الإيمانِ إلى أنْ يلقَى اللهَ تعالى.
وقولهُ تعالى :﴿ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ ﴾ أي وصَّى بعضُهم بعضاً بالصبرِ على طاعةِ الله، والصبرِ عن معاصيه، ﴿ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ ﴾ أي وأوصَى بعضُهم بعضاً بالتَّراحُم على الناسِ واليتَامَى والمساكين والضعيفِ والمظلوم، وفي الحديثِ :" مَنْ لَمْ يَرْحَمِ النَّاسَ لَمْ يَرْحَمْهُ اللهُ ".
وقولهُ تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴾ معناهُ : أولئكَ الذين اجتمَعت فيهم هذه الخصالُ هم أصحابُ اليُمْنِ والبركةِ، وهم الذين يُعطَون كُتبَهم بأيمانِهم، ويؤخذُ بهم ذاتَ اليمينِ إلى الجنَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ﴾ ؛ أي هم أصحابُ الشُّؤم على أنفُسِهم، وهم الذين يُعطَون كُتبَهم بشمائلِهم، ويؤخذُ بهم ذاتَ الشِّمال " إلى " النار. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ ﴾ ؛ أي مُطبَقة أبوابُها عليهم مسدودةٌ، من قولِكَ : أوصدتُ البابَ وأوصدْتهُ إذا أطبقتَهُ، ومَنه سُمِّيَ البابُ الوصيدَ.
قال ﷺ :" مَنْ قَرَأ سُورَةَ الْبَلَدِ أعْطَاهُ اللهُ الأَمَانَ مِنْ غَضَبهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
Icon