تفسير سورة التين

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة التين من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة. مدنية. وهي ثماني آيات، وأربع وثلاثون كلمة، ومائة وخمسون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الذي له الملك كله ﴿ الرحمن ﴾ الذي وسع الخلائق عدله ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أولياءه بتوفيقه فظهر عليهم جوده وفضله.

وقوله تعالى :﴿ والتين والزيتون ﴾ قسم وتقدّم نظائر ذلك أقسم بهما لأنهما عجيبتان من بين أصناف الأشجار المثمرة، روي أنه «أهدي للنبيّ صلى الله عليه وسلم طبق من تين فأكل منه، وقال لأصحابه : كلوا فلو قلت : إنّ فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه » لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير، وتنفع من النقرس، ومرّ معاذ بن جبل بشجرة الزيتون فأخذ منها قضيباً واستاك به وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة ». وسمعته يقول :«هي سواكي وسواك الأنبياء من قبلي ». وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هو تينكم هذا الذي تأكلون وزيتونكم هذا الذي تعصرون منه الزيت. وقال عكرمة : هما جبلان من الأرض المقدّسة يقال لهما بالسريانية طور تيناً وطور زيتاً ؛ لأنهما منبتا التين والزيتون.
وقيل : التين جبال ما بين حلوان وهمدان، والزيتون جبال الشام لأنها منابتهما، كأنه قيل : ومنابت التين والزيتون. وقال محمد بن كعب : التين مسجد أصحاب الكهف والزيتون مسجد إيليا. وقال الضحاك : مسجدان بالشام. وقال ابن زيد : التين مسجد دمشق، والزيتون مسجد بيت المقدس، وحسن القسم بهما لأنهما موضع الطاعة. وقيل : التين مسجد نوح عليه السلام الذي بناه على الجودي، والزيتون مسجد بيت المقدس.
﴿ وطور سينين ﴾، أي : الجبل الذي ناجى عليه موسى عليه السلام ربه عز وجل، وسينين وسيناء اسمان للموضع الذي هو فيه فأضيف الجبل إلى المكان الذي هو فيه. وقال مقاتل والكلبيّ : سينين كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسيناء بلغة النبط، ولم ينصرف سينين كما لا ينصرف سيناء لأنه جعل اسماً للبقعة أو الأرض، ولو جعل اسماً للمكان أو للمنزل، أو اسم مذكر لانصرف، لأنك سميت مذكراً بمذكر، وإنما أقسم بهذا الجبل لأنه بالشام وهي الأرض المقدّسة، وقد بارك فيها قال الله تعالى :﴿ إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ﴾ [ الإسراء : ١ ] ولا يجوز أن يكون سينين نعتاً للطور لإضافته إليه.
﴿ وهذا البلد الأمين ﴾، أي : الآمن، من أمن الرجل أمانة فهو أمين، وهي مكة حرسها الله تعالى ؛ لأنها الحرم الذي يأمن الناس فيه في الجاهلية والإسلام، لا ينفر صيده ولا يعضد ورقه، أي : شجره، ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد أو المأمون فيه يأمن فيه من دخله.
قال الزمخشريّ : ومعنى القسم بهذه الأشياء الإبانة عن شرف البقاع المباركة وما ظهر منها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والصالحين، فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم عليه السلام، ومولد عيسى عليه السلام ومنشؤه والطور المكان الذي نودي منه موسى عليه السلام، ومكة البيت الذي هو هدى للعالمين ومولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه اه.
وقوله تعالى :﴿ لقد خلقنا ﴾، أي : قدّرنا وأوجدنا بما لنا من العظمة والقدرة التامّة ﴿ الإنسان ﴾ جواب القسم والمراد بالإنسان : الجنس الذي جمع فيه الشهوة والعقل، وفيه من الإنس بنفسه ما ينسيه أكثر مهمه الشامل لآدم عليه السلام وذريته. وقيل : نزلت في منكري البعث. وقيل : في الوليد بن المغيرة وقيل : كلدة بن أسيد. وقوله تعالى :﴿ في أحسن تقويم ﴾ صفة لمحذوف، أي : في تقويم أحسن تقويم. وقال أبو البقاء : في أحسن تقويم في موضع الحال من الإنسان، وأراد بالتقويم القوام ؛ لأن التقويم فعل وذاك وصف للخالق لا للمخلوق، ويجوز أن يكون التقدير في أحسن قوام التقويم فحذف المضاف، ويجوز أن تكون في زائدة، أي : قومناه أحسن تقويم اه.
وأحسن تقويم أعدله ؛ لأنه تعالى خلق كل شيء منكباً على وجهه وخلق الإنسان مستوياً، وله لسان ذلق ويد وأصابع يقبض بها. قال ابن العربي : ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإنّ الله تعالى خلقه حياً عالماً قادراً مريداً متكلماً سميعاً بصيراً مدبراً حكيماً، وهذه صفات الله تعالى وعبر عنها بعض العلماء، ووقع البيان بقوله :«إن الله تعالى خلق آدم على صورته » يعني : على صفاته المتقدّم ذكرها.
وفي رواية " على صورة الرحمن "، ومن أين يكون للرحمن صورة شخصية فلم تكن إلا معاني.
وروي أنّ عيسى بن يوسف الهاشميّ كان يحب زوجته حباً شديداً، فقال لها يوماً : أنت طالق ثلاثاً إن لم تكوني أحسن من القمر، فنهضت واحتجبت عنه، وقالت : طلقتني، فبات بليلة عظيمة، فلما أصبح غدا إلى دار المنصور فأخبره الخبر، فاستحضر الفقهاء واستشارهم، فقال جميع من حضر : قد طلقت، إلا رجلاً واحداً من أصحاب أبي حنيفة فإنه كان ساكتاً، فقال له المنصور : ما لك لا تتكلم، فقال الرجل : بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ والتين والزيتون ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ﴾ يا أمير المؤمنين فالإنسان أحسن الأشياء، ولا شيء أحسن منه، فقال المنصور لعيسى : الأمر كما قال الرجل، فأقبل على زوجتك، فأرسل المنصور إليها : أطيعي زوجك فما طلقك. وهذا يدل على أنّ الإنسان أحسن خلق الله تعالى، ولذلك قيل : إنه العالم الأصغر، إذ كل ما في المخلوقات اجتمع فيه.
﴿ ثم رددناه ﴾ أي : بعض أفراده بما لنا من القدرة الكاملة ﴿ أسفل سافلين ﴾ أي : إلى الهرم وأرذل العمر فيضعف بدنه وينقص عقله، والسافلون هم الضعفاء والزمنى والأطفال، والشيخ الكبير أسفل من هؤلاء جميعاً ؛ لأنه لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلاً، فقوس ظهره بعد اعتداله، وأبيض شعره بعد اسوداده، وكل بصره وسمعه وكانا حديدين، وتغير كل شيء منه فمشيه دليف، وصوته خفات، وقوّته ضعف، وشهامته خرف. وقيل : ثم رددناه إلى النار ؛ لأنها دركات بعضها أسفل من بعض.
فقوله تعالى :﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا ﴾ أي : تصديقاً لدعواهم الإيمان ﴿ الصالحات ﴾ أي : الطاعات استثناء متصل على الثاني على أنّ المعنى : رددناه أسفل من سفل خلقاً وتركيباً، يعني : أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة، وهم أهل النار وأسفل من سفل من أهل الدركات. فالاتصال على هذا واضح، وعلى الأوّل منقطع، أي : لكن الذين كانوا صالحين من الهرمى ﴿ فلهم ﴾ أي : فتسبب عن ذلك أن كان لهم ﴿ أجر غير ممنون ﴾ أي : ثواب دائم غير منقطع على طاعاتهم وصبرهم على ابتلاء الله تعالى لهم بالشيخوخة والهرم، وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة على تخاذل نهوضهم، وفي الحديث :«إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز عن العمل كتب له ما كان يعمل ». وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إلا الذين قرؤوا القرآن، وقال : من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر.
ثم قال تعالى إلزاماً للحجة :﴿ فما يكذبك ﴾ أي : أيها الإنسان الكافر ﴿ بعد ﴾ أي : بعد ما ذكر من خلق الإنسان من نطفة، وتقويمه بشراً سوياً، وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يستوي ويكمل، ويصير في أحسن تقويم، ثم يردّ إلى أرذل العمر الدال على القدرة على البعث، فيقول : إنّ الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني فما سبب تكذيبك أيها الإنسان ﴿ بالدين ﴾ أي : الجزاء بعد هذا الدليل القاطع ؟ وقيل : الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا يكون المعنى : فما الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء أو البعث بعد هذه العبر التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت ؟
وقوله تعالى :﴿ أليس الله ﴾ أي : الملك الأعظم على ما له من صفات الكمال ﴿ بأحكم الحاكمين ﴾ أي : بأقضى القاضين. وعيد للكفار وأنه يحكم عليهم بما هم أهله. وفي الحديث :«من قرأ التين إلى آخرها فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ».
Icon