تفسير سورة الإسراء

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب لطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

قوله تعالى وتقدس :﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾.
كلمة ما سمعها عابد إلا شكر عصمته، وما سمعها سالك إلا وجد رحمته، وما تحققها عارف إلا تعطر قلبه بنسيم قربته، وما شهدها موحد إلا تقطر دمه لخوف فرقته.
افتتح السورةَ بِذِكْرِ الثناء على نَفْسه فقال :﴿ سُبْحَانَ الَّذِي ﴾ [ الإسراء : ١ ] : الحقُّ سبَّحَ نَفْسَه بعزيزِ خطابِه، وأخبر عن استحقاقه لجلال قَدْرِه، وعن توحُّده بعلوِّ نُعُوتِه.
ولمَّا أراد أَنْ يَعْرفَ العبِادُ خَصَّ به رسولَه - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ المعراجِ من عُلوٍّ ما رقَّاه إليه، وعِظَمِ ما لَقَّاه به أَزالَ الأعُجوبةَ بقوله :﴿ أَسْرَى ﴾، ونفى عن نبيِّه خَطَرَ الإعجاب بقوله :﴿ بِعَبْدِهِ ﴾ ؛ لأَنَّ مَنْ عَرَفَ ألوهيته، واستحقاقَه لكمالِ العِزِّ فلا يُتَعَجَّبُ منه أن يفعل ما يفعل، ومَنْ عرف عبوديةَ نَفْسِه، وأَنَّه لا يَمْلِكُ شيئاً من أمره فلا يُعْجَبُ بحاله. فالآية أوضحت شيئين اثنين : نَفَى التعجَّبِ من إظهارِ فِعْلِ اللَّهِ عزَّ وجل، ونفَى الإعجاب في وصف رسول الله عليه السلام.
ويقال أخبر عن موسى عليه السلام - حين أكرمه بإسماعه كلامه من غير واسطة - فقال :﴿ وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا ﴾ [ الأعراف : ١٤٣ ]، وأخبر عن نبينا صلى الله عليه وسلم بأنه ﴿ أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ وليس مَنْ جاءَ بنفْسِه كمنْ أَسْرَى به ربُّه، فهذا مُحتَمَلٌ وهذا محمول، هذا بنعت الفَرْقِ وهذا بوصف الجمع، هذا مُرِيدٌ وهذا مُرَادٌ.
ويقال جعل المعراجَ بالليل عند غَفْلَةِ الرُّقَبَاءِ وغَيْبَةِ الأجانب، ومن غير ميعاد، ومن غير تقديم أُهْبَةٍ واستعداد، كما قيل :
ويقال جعل المعراجَ بالليل ليُظْهرَ تصديقَ مَنْ صَدَّقَ، وتكذيبَ مَنْ تعجَّب وكَذَّّبَ أو أنكر وجحد.
ويقال لما كان تعبُّدهُ صلى الله عليه وسلم وتهجُّدُه بالليل جَعَلَ الحقُّ سبحانه المعراجَ بالليلِ.
ويقال :
ليلةُ الوَصْلِ أَصْفَى*** من شهور ودهور سواها.
ويقال أرسله الحقُّ - سبحانه - ليتعلَّم أهلُ الأرضِ منه العبادة، ثم رَقَّاه إلى السماءِ ليتعلَّمَ الملائكةُ منه آدابَ العبادة، قال تعالى في وصفه - صلى الله عليه وسلم - :﴿ مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ [ النجم : ١٧ ]، فما التَفَتَ يميناً وشمالاً، وما طمع في مقامٍ ولا في إكرام ؛ تجرَّد عن كلِّ طلبٍ وأَرَبٍ.
قوله :﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَآتِنَا ﴾ : كان تعريفه بالآيات ثم بالصفات ثم كَشّفٌ بالذات. ويقال من الآيات التي أراها له تلك الليلة أنه ليس كمثله - سبحانه - شيءٌ في جلالهِ وجماله، وعِزِّه وكبريائه، ومجده وسنائه.
ثم أراه من آياته تلك الليلة ما عَرَفَ به صلوات الله عليه - أنه ليس أحدٌ من الخلائق مثْلَه في نبوته ورسالته وعلوِّ حالته وجلال رتبته.
أرسل موسى عليه السلام بالكتاب كما أرسل نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكنَّ نَبِيَّنَا - صلوات الله عليه - كان أوفى - سماعاً - ؛ فإنَّ الشمسَ في طلوعها وإشراقها تكون أقربَ ممن طلعت له من حقائقها.
أي يا ذريةَ مَنْ حملنا مع نوح - على النداء. . إنه كان عبداً شكوراً.
وكان يضرب في كل (. . . ) كما في القصة - سبعين مرة، وكان يشكر. كما أنه كان يشكر الله ويصبر على قومه إلى أن أوحى الله إليه : أنه لن يؤمن إلا من قد آمن، وأُمِرَ حين دعا عليهم فقال :﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً ﴾ [ نوح : ٢٦ ]
ويقال الشكور هو الذي يكون شكره على توفيقِ اللَّه له لِشُكْرِه، ولا يتقاصر عن شكره لِنِعَمِه.
ويقال الشكور الذي يشكر بماله، ينفقه في سبيل الله ولا يدََّخِره، ويشكر بنفْسِه فيستعملها في طاعة الله، لا يُبْقِي شيئاً من الخدمة يدخره، ويشكر بقلبِه ربَّه فلا تأتي عليه ساعةٌ إلا وهو يذكره.
القضاءُ ها هنا بمعنى الإعلام، والإشارة في تعريفهم بما سيكون في المُسْتَأنَفِ منهم وما يستقبلهم، ليزدادوا يقيناً إذا لقوا ما أُخْبِروا به، وليكونَ أبلغَ في لزوم الحُجَّةِ عليهم، وليحترزوا من مخالفة الأمر بجحدهم، وليعلموا أن ما سَبَقَ به القضاءُ فلا محالةَ يحصل وإنْ ظُنَّ التباعدُ عنه
إن الله سبحانه يُعِدُّ أقواماً لأحوالٍ مخصوصةٍ حتى إذا كان وقتُ إرادته فيهم كان هؤلاء موجودين.
يدلُّ على أنه مُقَدِّرُ أعماله العباد، ومدبِّرُ أفعالِهم ؛ فإِنَّ انتصارَهم على أعدائهم من جملة أكسابهم، وقد أخبر الحقُّ أنه هو الذي تولاَّه بقوله :﴿ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ﴾.
إنْ أحسنتُم فثوابِكم كسبتم، وإنْ أسأتم فعداءَكم جَلَبْتُم - والحقُّ أعزُّ مِنْ أَنْ يعودَ إليه من أفعال عبادِه زَيْنٌ أو يلحقه شَيْنٌ.
كلمةُ ﴿ عَسَى ﴾ فيها ترجية وإطماع، فهو - سبحانه - وقفهم على حد الرجاء والأمل والخوف والوجل.
وقوله ﴿ عَسَى ﴾ : ليس فيه تصريح بغفرانهم، ورحمتهم، وإنما فيه للرجاء موجِبٌ قويٌّ ؛ فبلطفه وعد أن يرحمكم.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلّكَافِرِينَ حَصِيراً ﴾.
أي إنْ عُدْتُم إلى الزَّلَّة عُدْنا إلى العقوبة، وإن استقمتم في التوبة عدنا إلى إدامة الفضل عليكم والمثوبة.
ويقال إن عُدْتُم إِلَى نَقْضِ العَهْد عُدنا إلى تشديد العذاب.
ويقال : إن عُدْتُم للاستجارة عدنا للإجارة.
ويقال إن عُدتُم إلى الصفاء عدنا إلى الوفاء.
ويقال إن عُدْتُمْ إلى ما يليق بكم عُدْنا إلى ما يليق بكرمنا.
﴿ جَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلّكَافِرِينَ حَصِيراً ﴾ لأنهم (. . . ) وهم ناس كثير فهذه جهنم ومن يسكنها من الكافرين.
و ﴿ حَصِيراً ﴾ أي محبساً ومصيراً. فالمؤمنُ - وإنْ كان صاحبَ ذنوب وإنْ كانت كبيرة - فإنَّ مَنْ خرج من دنياه على إيمانه فلا محالةَ يصل يوماً إلى غفرانه.
القرآنُ يدل على الحقِّ والصواب. و ﴿ أَقْوَمُ ﴾ : هنا بمعنى المستقيم الصحيح كأكبر بمعنى الكبير ؛ فالقرآن يدل على الحق والصواب، ولكنَّ الخللَ من جهة المُسْتَدِلِّ لا الدليل، إذ قد يكون الدليل ظاهراً ولكنَّ المستدِلَّ مُعْرِضُ، وبآداب النظر مُخِلٌّ، فيكون العيبُ في تقصيره لا في قصور الدليل.
والقرآنُ نورٌ ؛ مَنْ استضاء به خَلَصَ من ظُلُماتِ جَهْلِه، وخرج من غمار شَكِّه. ومَنْ رَمَدَتُ عيونُ نظرِه التبس رُشْدُه.
ويقال الحَوَلُ ضَرَرُه أشدُّ من العَمَى ؛ لأَنَّ الأعمى يعلم أنه ليس يُبْصِر فَيَتْبَعُ قائدَه، ولكن الأحول يتوهَّمُ الشيء شيئين فهو بتخيُّلِه وحسبانه يماري مَنْ كان سليماً. . كذلك المبتدِعُ إذا سَلَكَ طريقَ الجَدَل، ولم يضع النظر موضعه بَقِيَ في ظُلُماتِ جَهْلِه، وصال بباطل دعواه على خَصْمِه، كما قيل :
بأطرافِ المسائلِ كيف يأتي - ولا أَدْرِي لَعَمْرُكَ - مُبْطِلُوها ؟
من الأدب في الدعاء أََلاَّ يسألَ العبدُ إلاَّ عند الحاجة، ثم ينظر فإنْ كان شيءٌ لا يعنيه ألا يتعرَّضَ له ؛ فإنَّ في الخبر :" مِن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " ثم من آداب الداعي إذا سأل من اللَّهِ حاجَته ورأى تأخيراً في الإجابة إلا يَتَّهم الحقَّ - سبحانه - ويجب أن يعلم أن الخير في ألا يجيبَه، والاستعجالُ- فيما يختاره العبد- غيرُ محمود، وأوْلى الأشياءِ السكونُ والرضا بحُكْمِه سبحانه، إن لم يساعدْه الصبر وسَأَلَ فالواجبُ تَرْكُ الاستعجال، والثقةُ بأنَّ المقسومَ لا يفوته، وأَنَّ اختيارَ الحقِّ للعبد خيرٌ له من اختياره لنفسه.
جعل الليلَ والنهارَ علامةً على كمال قدرته، ودلالةً على وجوب وحدانيته ؛ في تعاقبهما وتناوبهما، وفي زيادتهما ونقصانهما.
ثم جعلهما وقتاً صالحاً لإقامة العبادة، والاستقامة على معرفة جلال إلهيته ؛ فالعبادةُ شرطُها الدوامُ والاتصال، والوظائف حقُّها التوفيق والاختصاص.
ولو وقع في بعض العبادات تقصيرٌ أو حَصَلَ في أداءِ بعضِها تأخيرٌ تَدَارَكَه بالقضاءِ حتى يَتَلاَفَى التقصير.
ويقال من وجوه الآيات في الليل والنهار إفرادُ النهار بالضياء من غير سبب، وتخصيصُ الليل بالظلام بغير أمرٍ مكتسب، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ فَمَحَوْنَا ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ﴾ : وهو اختلاف أحوال القمر في إشراقه ومحاقة، فلا يبقى ليلتين على حال واحدة، بل هو في كل ليلة في منزل آخر، إما بزيادة أو بنقصان.
وأمَّا الشمس فحالها الدوام. . والناس كذلك أوصافهم ؛ فأربابُ التمكين الدوامُ شرطُهم، وأصحابُ التلوينِ التنقلُ حَقُّهم، قال قائلهم :
مازلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألبابُ دون نزوله.
ألزم كلَّ أحدٍ ما لَبِسَ بجِيدِه. فالذين هم أهلُ السعادة أسرج لهم مركبَ التوفيقَ، فيسير بهم إلى ساحات النجاة، والذين هم أهل الشقاوة أركبهم مَطِيَّةَ الخذلان فأَقْعَدَتْهم عن النهوض نحو منهج الخلاص، فوقعوا في وَهْدَةِ الهلاك.
مَنْ ساعَدَتْه العنايةُ الأزليةُ حِفظَ عند معاملاته مما يكون وبالاً عليه يوم حسابه، ومَنْ أبلاه بحْكْمِه رَدَّه وأمْهَلَه، ثم تركه وعَمَلَه، فإذا استوفى أَجَلَه عرف ما ضيَّعَه وأهمله، ويومئذ يُحَكِّمِه في حالِ نفسه، وهو لا محالةَ يحكم بنفسه باستحقاقه لعذابه عندما يتحقق من قبيح أعماله. . . فكم من حسرةٍ يتجرَّعُها، وكم من خيبةٍ يتلقَّاها !
ويقال مَنْ حَاسَبَه بكتابه فكتابةُ مُلازِمُه في حسابه فيقول : رَبِّ : لا تحاسبني بكتابي. . ولكن حاسِبْنِي بما قلتَ : إِنَّكَ غافرُ الذَّنْبِ وقابلُ التوبِ. . لا تعاملني بمقتضى كتابي : ففيه بواري وهلاكي.
قضايا أعمال العبد مقصورةٌ عليه ؛ إنْ كانت طاعةً فضياؤها لأصحابها، وإنْ كانت زَلَّةً فبلاؤها لأربابها. والحقُّ غنيٌّ مُقَدَّسٌ، أَحَدِيٌّ مُنَزَّهٌ.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾.
كُلُّ مُطَالَبٌ بجريرته. وكلُّ نَفْسٍ تحمل أوزارها لا وِزْرَ نَفْسٍ أخرى. . . ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ : دلَّ ذلك على أن الواجبات إنما تَتَوَجَّهُ من حيث السمع.
إذا كَثُرَ أهلُ الفسادِ غَلَبُوا، وقَلَّ أهل الصلاح وفقدوا : فعند ذلك يغمر اللَّهُ الخَلْقَ ببلائه، ولا يكون للناس ملجأ من أوليائه ليتكلموا في بابهم، ولا فيهم من يبتهل إلى اله فَيُسْمَعُ دعاؤه، فَيَخْتَرِمُ أولياءَه، ويُبْقِي أربابَ الفساد، وعند ذلك يشتدُّ البلاءُ وتَعْظُمُ المِحَنُ إلى أن ينظرَ اللَّه تعالى إلى الخَلْق نَظَرَ الرحمةِ والمِنَّة.
في الآية تسليةٌ للمظلومين إذا استبطأوا هلاكَ الظالمين، و(. . ) قِصَرِ أيديهم عنهم. فإذا فَكَّروا فيما مضى من الأُمم أمثالِهم وكيف بَنَوْا مَشِيداً، وأَمَّلُوا بعيداً. . فبادوا جميعاً، يعلمون أَنَّ الآخرين - عن قريب- سينخرطون في سلكهم، ويُمْتَحَنُون بمثل شأنهم. وإذا أظَلّتْهُم سُحُبُ الوحشة فاءوا إلى ظل ِّ شهود التقدير، فتزول عنهم الوحشة، وتطيب لهم الحياةُ، وتحصل الهيبة.
مَنْ رَضِيَ بالحظ الخسيس من عاجل الدنيا بَقِيَ عن نفيس الآخرة، ثم لا يحظى إلا بِقَدْر ما اشْتَمَّهُ، ثم يكون آنسَ ما به قلباً وأشدَّ ما يكون به سكوناً. . . ثم يُخْتَطَفُ عن نعمته، ولا يخصه بشيءٍ مما جمع من كرائمه، ويمنعه من قربه في الآخرة. . ولقد قيل :
يا غافلاً عن سماع الصوتْ إنْ لم تبادِرْ فهو الفوتْ
مَنْ لم تَزُلْ نعمته عاجلاً أزاله عن نعمته الموتْ
علامة مَنْ أراد الآخرةَ - على الحقيقة - أن يسعى لها سَعْيها ؛ فإرادةُ الآخرة إذا تجرَّدَتْ عن العمل لها كانت مجرَّد إرادة، ولا يكون السعيُ مشكوراً. قوله :﴿ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ : أي من المآلِ كما أنه مؤمِنٌ في الحال. ويقال وهو مؤمن أنَّ نجاته بفضله لا بسببه.
﴿ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً ﴾ أي مقبولاً، ومع القبول بكون التضعيف والتكثير ؛ فكما أن الصدقة يُرْبِيها كذلك طاعةُ العبدِ يُكْثِّرُها ويُنَمِّيها.
يجازي كلاً بِقَدْرِهِ ؛ فَلِقَوْمٍ نجاة ولقومٍ درجات، ولقوم سلامة ولقومٍ كرامة، ولقومٍ مثوبتُه، ولقومٍ قربتُه.
التفضيلُ على أقسام، فالعُبَّاد فَضَّلَ بعضَهم على بعض ولكن في زكاء أعمالهم، والعارفون فَضَّلَ بعضَهم على بعض ولكن في صفاء أحوالهم، وزكاء الأعمال بالإخلاص، وصفاء الأحوال بالاستخلاص ؛ فقومٌ تفاضلوا بصدق القَدَمِ، وقوم تفاضلوا بعلوِّ الهِمَم. والتفضيل في الآخرة أكبر : فالعُبَّادُ تفاضلهم بالدرجات، قال صلى الله عليه وسلم :" إنكم لَتَرَوْنَ أهلَ عِلَّيين كما ترون الكوكبَ الدريَّ في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم ".
وأهلُ الحضرةِ تفاضلُهم بلطائفهم من الأُنْس بنسيم القربة بما لا بيانَ يصفه ولا عبارة، ولا رمز يدركه ولا إشارة. منهم من يشهده ويراه مرةً في الأسبوع، ومنهم من لا يغيب من الحضرة لحظة، فهم يجتمعون في الرؤية ويتفاوتون في نصيبِ كلِّ أحد، وليس كلُّ مَنْ يراه بالعين التي بها يراه صاحبه، وأنشد بعضهم :
لو يسمعون - كما سمعتُ حديثها خَرّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وسجودا
الذي أشرك بالله أصبح مذموماً من قِبَلِ الله، ومخذولاً من قِبَلِ مَنْ عَبَدَه من دون الله.
أمَرَ بإفراده- سبحانه - بالعبادة، وذلك بالإخلاص فيما يستعمله العبدُ منها، وأن يكون مغلوباً باستيلاء سلطانِ الحقيقةِ عليه بما يَحْفَظُه عن شهودِ عبادته.
وأَمَرَ بالإحسان إلى الوالدين ومراعاةِ حقِّهما، والوقوفِ عند إشارتهما، والقيام بخدمتهما، وملازمة ما كان يعود إلى رضاهما وحُسْنِ عشرتهما ورعاية حُرْمَتهما، وألا يبديَ شواهدَ الكسلِ عند أوامرهما، وأن يَبْذُل المُكْنَةَ فيما يعود إلى حفظ قلوبهما. . . هذا في حال حياتهما، فأمَّا بعد وفاتهما فبِصِدْقِ الدعاء لهما، وأداءِ الصَدَقَةِ عنهما، وحِفْظِ وصيتهما على الوجه الذي فَعَلاَه، والإحسان إلى مَنْ كان مِنْ أهلِ ودِّهما ومعارفهما.
ويقال إِنَّ الحقَّ أَمَرَ العبادَ بمراعاة حقِّ الوالدين وهما من جنس العبد. . فَمَنْ عجز عن القيام بحِّق جنسه أَنَّى له أن يقومَ بحقِّ ربه ؟
﴿ وَاخْفِضْْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ ﴾ بحسن المداراة ولين المنطق، والبدار إلى الخدمة، وسرعة الإجابة، وترك البَرَمَ بمطالبهما، والصبر على أمرهما، وألا تَدَّخِرَ عنهما ميسوراً.
إذا عَلِمَ اللَّهُ صِدْقَ قلبِ عبدٍ أَمَدَّه بحسن الأمجاد، وأكرمه بجميل الامتداد، ويَسَّر عليه العسيرَ من الأمور، وحفظه عن الشرور، وعطف عليه قلوب الجمهور.
إيتاءُ الحقِّ يكون من المال ومن النَّفْس ومن القول ومن الفعل، ومَنْ نَزَل على اقتضاء حقِّه، وبذل الكُلَّ لأجل ما طالبه به من حقوق. فهو القائم بما ألزمه الحقُّ سبحانه بأمره.
والتبذيرُ مجاوزةُ الحدِّ عمَّا قدَّره الأمرُ والإذنُ. وما يكون لحظِّ النَّفْسِ- وإن كان سمسمة - فهو تبذيرٌ، وما كان له - وإن كان الوفاءَ بالنَّفْس - فهو تقصيرٌ.
إنما كانوا إخوانَ الشياطين لأنهم أنفقوا على هواهم، وجَرَوْا في طريقهم على دواعي الشياطين ووساوسهم، ولمَّا أفضى بهم ذلك إلى المعاصي فقد دعاهم إخوانَ الشياطين.
إن لم يُسَاعِدْكَ الإمكانُ على ما طالبوكَ من الإحسان فاصْرِفْهم عنكَ بوعدٍ جميلٍ إن لم تُسْعِفهم بنقدٍ جزيل. . وإنَّ وَعْدَ الكرام أَهْنأُ من نقد اللئام.
لا تُمْسِكْ عن الإعطاء فَتُكْدِي، ولا تُسْرِفْ في البذلِ بكثرة ما تُسْدِي، واسْلُكْ بين الأمرين طريقاً وَسَطاً.
إذا بَسَطَ لا تَبْقَى فاقة، وإذ قبض استنفد كلَّ طاقة.
مَنْ عَرَفَ أَنَّ الرازقَ هو الله خفَّ عن قلبه همُّ العيال - وإنْ كَثُروا، ومن خفي عليه أنه قَسَّمَ - قبل الخَلْقِ - أرزاقَهم تطوح في متاهات مغاليطه، فيقع فيها بالقلب والبَدَنِ ثم لا يكون غير ما سبق به التقدير.
ترَّجحَ الزنا على غيره من الفواحش لأن فيه تضييعَ حُرْمَةِ الحقِّ، وهتكَ حُرْمَةِ الخلْق، ثم لِمَا فيه من الإخلال بالنَّسَبِ، وإفسادِ ذات البين من مقتضى الأَنَفَةِ والغضب.
لا يجوز قَتْلُ نَفْسِ الغير بغير الحق، ولا للمرء أن يقتل نَفْسَه أيضاً بغير الحق. وكما أنَّ قتلَ النَّفْس بالحديد وما يقوم مقامه من الآلات مُحَرَّمٌ فكذلك القَصْدُ إلى هلاكِ المرءِ مُحَرَّمٌ.
ومن انهمك في مخالفة ربه فقد سعى في هلاك نفسه. ﴿ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَانَاً ﴾ : أي تسلطاً على القاتل في الاقتصاص منه، وعلى معنى الإشارة :
إلى النصرة مِنْ قِبَلِ الله : ومنصورُ الحقِّ لا تنكسر سِنَانُه، ولا تطيشُ سِهَامُه.
لمَّا لم يكن لليتيم مَنْ يهتم بشأنه أَمَرَ - سبحانه - الأجنبيَّ الذي ليس بينه وبين اليتيم سَبَبٌ أَنْ يتولَّى أمرَه، ويقومَ بشأنِ، وأوصاه في بابه ؛ فالصبيُّ قاعد بصفة الفراغ والهوينى، والوليُّ ساع بمقاساة العَنَا.
فأَمْرُ الحقِّ - سبحانه - للوليِّ أَحْظَى للصبيِّ مِنْ شفقةِ آلِه عليه في حال حياتهم.
كما تدين تدان، وكما تعامِلُ تُجازَى، وكما تكيل يُكَالُ لكَ، وكما تكونون يكون عليكم، ومَنْ وَفَى وفَوْا له، ومَنْ خان خانوا معه، وأنشدوا :
أسَأْنا فساءوا. . عَدْلٌ بلا حيفٍ ولو عَدَلْنا لَخُلِّصْنا من المِحَنِ
إذا غَلَبتْ عليكَ مُجوّزَاتُ الظنونِ، ولم يُطْلِعْكَ الحقُّ على اليقين فلا تتكلف الوقوف عليه من غير برهان، وإذا أُشْكِلَ عليك شيءٌ من أحكام الوقت فارجعْ إلى الله، فإِنْ لاحَ لقلبك وَجْهٌ من الدليل على حَدِّ الالتباس فَكِلْ عِلْمَه إلى الله، وِقفْ حيثما وقفت.
ويقال الفرق بين من قام بالعلم وبين من قام بالحق أَنَّ العلماءَ يعرفون الشيءَ أولاً ثم يعلمون بعلمهم، وأصحابُ الحقِّ يجْرِي عليهم يحكم التصريف شيءٌ لا علِمَ لهم به على التفصيل، وبعد ذلك يُكشَف لهم وجهُه، وربما يجري على ألسنتهم شيءٌ لا يدرون وَجْهَه، ثم بعد فراغهم من النطق به يظهر لقلوبهم برهانُ ما قالوه، ودليلُ ما نطقوا به من شواهد العلم.
قوله :﴿ إِنَّ السَّمعَ وَالبَصَرَ ﴾ هذه أمانة الحق - سبحانه - عند العبد، وقد تقدم في بابها بما أوضحته ببراهين الشريعة.
ومَنْ استعمل هذه الجوارح في الطاعات، وصانها عن استعمالها في المخالفات فقد سَلَّم الأمانة علة وصف السلامة، واستحق المدحَ والكرامة. مَنْ دَنَّسَها بالمخالفات فقد ظهرت عليه الخيانة، واستوجب الملامة.
الخُيَلاءُ والتجبُّر، والمدح والتكّبُر - كل ذلك نتائجُ الغيبة عن الذكر، والحجبة عن شهود الحقِّ ؛ " فإنَّ اللَّهَ إذا تجلَّى لشيءٍ خشع له " بذلك وَرَدَ الخبر. فأمَّا في حال حضورِ القلبِ واستيلاءِ الذكر وسلطان الشهود. فالقلبُ مُطْرِقٌ، وحُكْمُ الهيبة غالِبٌ. ونعتُ المدحِ وصفةُ الزَّهْوِ وأسبابُ التفرقة- كل ذلك ساقط.
والناسُ - في الخلاص من صفة التكبر- أصنافٌ : فأصحابُ الاعتبار إِذْ عرفوا أنهم مخلوقونَ من نطفة أمشاج، وما تحمله أبدانهم مما يترشح من مسامهم من بقايا طعامهم وشرابهم. . تعلو هِمَمُهم عن التضييق والتدنيق، ويَبْعُدُ عن قلوبهم قيامُ أَخْطارٍ للأشياء، ولا يخطر على داخلهم إلا ما يزيل عنهم التكبر، وينزع عنهم لباس التجبُّر.
وأمَّا أرباب الحضور فليس في طلوع الحق إلا انخناس النَّفْس، وفي معناه قالوا :
إذا ما بدا لي تَعاظَمْتُه فأصدر في حال من لم يرد
إذا سَعِدَتْ الأقدامُ بحضور ساحاتِ الشهود، وعَطِرَتْ الأسرارُ بنسيم القُُرْب تجرَّدَتْ الأوقاتُ عن الحجبة، واستولى سلطان الحقيقة، فيحصل التنفِّي من هذه الأوصاف المذمومة.
وقال تعالى لنبيِّه :﴿ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحِكْمَةِ ﴾ : بالوحي والإعلام، ولأوليائه تعريف بحكم الإلهام.
جَوَّزوا أن يكون لله - سبحانه - ولدٌ، وفكَّروا في ذلك، ثم لم يَرْضَوْا حتى جعلوا له ما استنكفوا منه لأنفسهم، فما زادوا في تَمَرُّدِهم إلا عُتُوَّا، وفي طغيانهم إلا غَلُوَّاً، وعن قبول الحق ِّ إلا نُبُوَّاً.
بيَّن أنه لو كان الصانعُ أكثرَ من واحدٍ لَجَرَى بينهم تَضَادٌ وتمانُعٌ، وصحَّ عند ذلك في صفتهم العجزُ، وذلك من سِمات المحدثات.
ثم قال سبحانه - تنزيهاً له عن الشَّريك والظهير، والمعين والنظير.
الأحياءُ من أهل السماوات والأرض يُسَبِّحون له تسبيحَ قالة، وغير الأحياء يسبح من حيث البرهان والدلالة. وما من جزءٍ من الأعيان والآثار إلا وهو دليل على الربوبية، ولكنهم إذا استمعوا توحيداً للإله تعجبوا - لجهلهم وتَعَسُّر إدراكهم - وأنكروا.
أي أدخلناك في إيواءِ حفِظْنَا، وضربنا عليك سرادقاتِ عصمتنا، ومنعنا الأيدي الخاطئةَ عنك بلطفنا.
صَرَّح بأنه خالقُ ضلالتهم، وهو المبيت في قلوبهم ما استكنَّ فيها من فرط غوايتهم. ﴿ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ في القُرْءَانِ وَحْدَهُ ﴾ أحبوا أن تذكر آلهتهم، قد ختم الله على قلوبهم فلا حديثَ يُعْجِبُهُم إلاَّ مِمَّنْ لهم شَكْلٌ ومِثْلٌ.
لَبِّسُوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أحوالَهم، وأظهروا الوفاقَ من أنفسهم، فَفَضَحَهم اللَّهُ تعالى، وكَشَفَ أسرارَهم، وبَيَّنَ مقابِحَهم، وهَتَكَ أستارهم، فما تنطوي عليه السريرة لا بُدَّ أن يَظْهَر لأهل البصيرة بما يبدو على الأسِرَّة.
عابوه بما ليس بنقيصةٍ في نفسه حيث قالوا :﴿ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ﴾ أي ذا سِحْرٍ. وأيُّ نقيصة كانت له إذا كان صلى الله عليه وسلم - من جملة البَشَر ؟ والحقُّ سبحانه وتعالى متولٍٍ نصرته، ولم يكن تخصيصه ببنْيَة، ولا بصورة، ولا بِحِرْفةٍ، ولم يكن منه شيء بسببه وإنما بَانَ شرفُه لجملة ما تعلَّقه به لُطْفُه القديم - سبحانه- ورحمتهُ.
أقَرُّوا بأنَّ الله خَلَقَهم، ثم أنكروا قدرته على إعادتهم بعد عَدَمِهم، ولكن. . كما جاز أن يوجِدَهم أولاً وهم في كتم العَدِمِ ولم يكن لهم عين ولا أثر، ولكنهم كانوا في متناول القدرة ومتعلق الإرادة، فَمِنْ حَقِّ صاحبِ القدرة والإرادة أن يعيدَهم إلى الوجود مرة أخرى. . . وهكذا إذا رَمَدَت عينُ قلبٍ لم يستبصر صاحبه.
أخبر - سبحانه وتعالى- أنه لا يتعصَّى عليه مقدورٌ لأنه موصوف بقدرة أزلية، وقُدْرَتُه عامَّةُ التعلق : فلا المشقة تجوز في صفته ولا الرفاهية. فالخلْقُ الأول والإعادة عليه سِيَّان ؛ لا مِنْ هذا عائدٌ إليه ولا من ذاك، لأن قِدَمَه يمنع تأثير الحدوث فيه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٠:أخبر - سبحانه وتعالى- أنه لا يتعصَّى عليه مقدورٌ لأنه موصوف بقدرة أزلية، وقُدْرَتُه عامَّةُ التعلق : فلا المشقة تجوز في صفته ولا الرفاهية. فالخلْقُ الأول والإعادة عليه سِيَّان ؛ لا مِنْ هذا عائدٌ إليه ولا من ذاك، لأن قِدَمَه يمنع تأثير الحدوث فيه.
يدعوكم فتستجيبونه وأنتم حامدون. فالحمد بمعنى الشكر، وإنما يشكر العبدُ على النعمة والآية تدل على أنهم - وهم في قبورهم- في نعمته.
القولُ الحسنُ ما يكون للقائل أن يقوله. ويجوز أن يكون الأحسن مبالغة من الحَسَنِ، فعلى هذا الأحسن من القول ما لا يجوز تركُه. ويقال الأحسن من القول ما يخاف قائله من العقوبة على تركه. ويقال الأحسن من القول إقرار المُحِبَّ بعبودية محبوبه.
ويقال أحسنُ قولٍ من المذنبين الإقرارُ بالجُرْم، وأحسنُ قولٍ من العارفين الإقرارُ بالعجز عن المعرفة، قال صلى الله عليه وسلم :" سبحانك لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك ".
سَدَّ على كلِّ أحدٍ طريقَ معرفته بنفسه ليتعلَّق كُلُّ قلبه بربه. وجَعَلَ العواقبَ على أربابها مشتبهةً، فقال ﴿ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ﴾ ثم قدَّمَ حديثَ الرحمةِ على حديث العذاب، فقال :﴿ إِن يَشَأْ يِرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ﴾ وفي ذلك تَرَجِّ للأمل أَنْ يَقْوى.
ويوصف العبدُ بالعلم ويوصف الربُّ بالعلم، ولكن العبدَ يعلم ظاهرَ حاله، وعِلْمُ الرب يكون بحاله وبمآله، ولهذا فالواجب على العبد أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، وهذا معنى :﴿ إِن يَشَأْ يِرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ﴾ بعد قوله :﴿ أَعْلَمُ بِكُمْ ﴾.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين عَلَى بَعْضٍ وَءَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً ﴾.
فَضَّل بعضَ الأنبياءِ على بعضِ في النبوةِ والدرجة، وفي الرسالة واللطائف والخصائص. وجعل نبيَّنا - صلى الله عليه وسلم - أَفضلهم ؛ فهم كالنجوم وهو بينهم بَدْرٌ، وهم كالبدور وهو بينهم شمس، وهم شموسٌ وهو شمسُ الشموس.
استعينوا فيما يستقبلكم بالأصنام التي عبدتموها من دون الله حتى تتحققوا أنه لا تنفعكم عبادةُ شيءٍ من دون الله، ولا يضركم تَرْكُ ذلك، ولقد قيل في الخبر :" من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ".
يعني الذين يعبدونهم ويدعونهم - كالمسيح وعُزَيز والملائكة - لا يملكون نَفْعَاً لأنفسهم ولا ضَرّاً، وهم يطلبون الوسيلةَ إلى الله أيْ يتقربون إلى الله بطاعتهم رجاءَ إحسانَ الله، وطمعاً في رحمته، ويخافون العذاب من الله. . . فكيف يرفعون عنكم البَلاءَ وهم يرجون الله ويخافونه في أحوال أنفسهم ؟
ويقال في المَثَلِ : تعلُّقُ الخَلْقِ بالخَلْق تعلُّقُ مسجونٍ بمسجون.
ويقال : إذا انضمَّ الفقيرُ إلى الفقيرِ ازداد فاقةً.
ويقال إذا قاد الضريرُ ضريراً سقطا معاً في البئر، وفي معناه أنشدوا :
إذا التقى في حَدَبٍ واحدٍ *** سبعون أعمى بمقادير
وسَيَّروا بعضَهم قائداً *** فكُلُّهم يسقط في البير
العذاب على أقسام : فالألم الذي يَرِدُ على النفوس والظواهر يتصاغر بالإضافة إلى مَا يَرِدُ على القلوب والسرائر ؛ فعذابُ القلوبُ لأصحابِ الحقائقِ أَحَدُّ في الشِّدَّةِ مِما يُصيب أصحابَ الفقر والقلة.
ثم إن الحقَّ سبحانه أجرى سُنَّتَه بأن مَنْ وصلت منه إلى غيره راحةٌ انعكست الراحةُ إلى موصلها، وبخلاف ذلك مَنْ وصلت منه إلى غيره وَحْشَةٌ عادت الوحشةُ إلى موصلها. ومَنْ سام الناس ظُلْماً وخَسْفَاً فَبِقَدْرِ ظُلْمِه يَعذِّبُه اللَّهُ - سبحانه وتعالى- في الوقت بتنغيص العَيْشِ، واستيلاءِ الغضب مِنْ كلِّ أحدٍ عليه، وتَتَرَجَّمُ ظنونُه وتتقسَّمُ أفكاره في أحواله وأشغاله، ولو ذاق من راحة الفراغ حلاوة الخلوة شظية لَعَلِمَ ما طعم الحياة. . ولكنْ حُرِموا النِّعَم، وما علموا ما مُنُوا به من النِّقَم.
أجرى الله سُنَّتَه أنه إذا أظهر آية اقْتَرَحَتْها أُمَّةٌ من الأمم ثم لم تؤمن بها بعد إظهارها أَنْ يُعَجِّلَ لها العقوبة، وكان المعلومُ والمحكومُ به ألا يجتاحَ العذابُ القومَ الذين كانوا في وقت الرسول - عليه السلام - لأَجْلِ مَنْ في أصلابهم مِنَ الذين عَلِمَ أنهم يؤمِنُون ؛ فلذلك أَجَّرَ عنهم العذاب الذي تعجّلوه.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً ﴾.
التخويف بالآيات ذلك من مقتضى تجمله ؛ فإنْ لم يخافوا وَقَعَ عليهم العذاب ثم إنه عَلِمَ أنه لا يفوته شيءٌ بتأخير العقوبة عنهم فَأَخَّر العذابَ. وله أن يفعل ما يشاء بمقتضى حُكْمِه وعِلْمه.
الإيمانُ بما خَصَصْنَاكَ به امتحان لهم وتكليفٌ، ليتميزَ الصادقُ من المنافقِ، والمؤمنُ من الجاحد ؛ فالذين تَدَارَكَتْهُم الحمايةُ وقفوا وثبتوا، وصَدَّقوا بما قيل لهم وحققوا. وأما الذين خَامَر الشكُّ قلوبهم، ولم تباشِرْ خلاصةُ التوحيد أسرارَهم، فما ازدادوا بما امتُحِنُوا به إلا تحيُّراً وضلالاً وَتَبَلُّداً.
امتنع الشقيُّ وقال : لا أسجد لغيرك بوجهٍ سَجَدْتُ لَكَ به، وكان ذلك جهلاً منه، ولو كان بالله عارفاً لكان لأمره مؤثِراً، ولمحيط نفسه تاركاً.
لو علقت به ذرَّةٌ من المعرفة والتوحيد لم يحطب على نفسه بالإضلال والإغواء، لكنَّه أقامه الحقُّ بذلك المقام، وأنطقه بما هو لقلوبِ أهلِ التحقيق مُتَّضِح.
هذا غاية التهديد، وفيه إشارة وبيان بألا مراء ولا تفويتٍ، ولو أَخرَّ عقوبةَ قومٍ فإن ذلك إمهالُ لا إهمال، ومكرٌ واستدراجٌ لا إنعامٌ وإكرامٌ.
﴿ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصًوْتِكَ ﴾ : أي افعل ما أمكنكَ، فلا تأثيرَ لفعلك في أحد، فإنَّ المنشئَ والمُبْدِعَ هو الله. . وهذا غاية التهديد.
السلطان الحجة، فالآية تدل على العموم، ولا حجة للعذر على أحد، بل الحجة لله وحده.
ويقال السلطان هو التَّسَلُّط، وليس لإبليس على أحدٍ تسلط ؛ إذ المقدور بالقدرة ولا لغيره من المخلوقين تسلط من حيث التأثير في أحد، وعلى هذا أيضاً فالآية للعموم.
ويقال أراد بقوله :﴿ عبادي ﴾ الخواصَ من المؤمنين الذين هم أهل الحفظ والرحمة والرعاية من قِبَلَ الله، فإن وساوسَ الشيطان لا تضرُّهم لالتجائهم إلى الله، ودوام استجارتهم بالله، ولهذا فإن الشيطان إذا قَرُبَ من قلوب أهل المعرفة احترق بضياء معارفهم.
ويقال إنّ فرار الشيطان من المؤمنين أشدُّ من فرار المؤمنين من الشيطان.
والخواص من عباده هم الذين لا يكونون في أَسْرِ غيره، وأَمَّا مَنْ استعبده هواه. واستمكنت منه الأطماع، واستَرقته كل خسيسة ونقيصة فلا يكون من جملة خواصه. . . وفي الخبر " تَعِسَ عبد الدرهم تعس عبد الدينار ". ويقال في ﴿ عبادي ﴾ هم المُتَفَيِّئُون في ظلال عنايته، المُتَبّرون عن حَوْلهِم وقُوَّتِهم، المتفرِّدُون بالله بحسن التوكل عليه ودوام التعلُّق به.
تعرَّف إلى عباده بخَلْقِه وإنعامه، فما من حادثٍ من عينٍ أو أثرٍ أو طَلَلٍ أو غََبَرٍ إلا وهو شاهِدٌ على وحدانيته، دالٌّ على ربوبيته.
وجُبِلَ الإنسانُ على أنه إذا أصابته نقمةٌ، أو مَسَّتْه محنة فَزْعَ إلى الله لاستدفاعها، وقد يُعْتَقَدُ أنهم لن يعودوا بعدها إلى ما ليس فيه رضاء الله، فإذا أزال اللَّهُ تلك النقمة وكَشَفَ تلك المحنة عادوا إلى ما عنه تابوا، كأنهم لم يكونوا في ضُرِّ مَسَّهم، وفي معناه أنشدوا :
فكم قد جهلتم ثم عُدْنا بِحِلْمِنا أحباءَنا كم تجهلون ! وَتَحْلمُ !
الخوفُ ترقُّبُ العقوبات مع مجاري الأنفاس - كذلك قال الشيوخ. وأعرفُهم بالله أخوفُهم من الله. وصنوفُ العذابِ كثيرة ؛ فكم من مسرورٍ أَوَّل ليْلهِ أصبح في شِدَّة ! وكم من مهموم بات يتقلب على فراشه أصبح وقد جاءته البشرى بكمال النِّعم ! وفي معناه قالوا : إِن من خاف البيان لا يأخذه السُّبات. ووصفوا أهل المعرفة فقالوا :
مستوفزون على رِجْلٍ كأنهمو يريدون أن يمضوا ويرتحلوا
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٨:الخوفُ ترقُّبُ العقوبات مع مجاري الأنفاس - كذلك قال الشيوخ. وأعرفُهم بالله أخوفُهم من الله. وصنوفُ العذابِ كثيرة ؛ فكم من مسرورٍ أَوَّل ليْلهِ أصبح في شِدَّة ! وكم من مهموم بات يتقلب على فراشه أصبح وقد جاءته البشرى بكمال النِّعم ! وفي معناه قالوا : إِن من خاف البيان لا يأخذه السُّبات. ووصفوا أهل المعرفة فقالوا :
مستوفزون على رِجْلٍ كأنهمو يريدون أن يمضوا ويرتحلوا

المراد من قوله :﴿ بَنِى ءَادَمَ ﴾ هنا المؤمنون لأنه قال في صفة الكفار :﴿ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِّن مُّكْرِمٍ ﴾ [ الحج : ١٨ ] والتكريم التكثير من الإكرام، فإذا حَرَمَ الكافرَ الإكرامَ. . . فمتى يكون له التكريم ؟
ويقال إنما قال :﴿ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ ﴾ ولم يقل المؤمنين أو العابدين أو أصحاب الاجتهاد توضيحاً بأن التكريم لا يكون مقابلَ فِعْلِ، أو مُعَلَّلاً بِعِلةٍ، أو مُسَبّباً باستحقاقٍ يوجب ذلك التكريم.
ومن التكريم أنهم متى شاءوا وقفوا معه على بساط المناجاة.
ومن التكريم أنه على أي وصف كان من الطهارة وغيرها إذا أراد أن يخاطبه خَاطَبَه، وإذا أراد أن يسأل شيئاً سأله.
ومن التكريم أنه إذا تاب ثم نقض توبته ثم تاب يقبل توبته، فلو تكرر منه جُرْمُه ثم توبته يضاعف له قبولَه التوبة وعفوَه.
ومن التكريم أنه إذا شَرَعَ في التوبة أَخَذَ بيده، وإذا قال : لا أعود - يقبل قولَه وإِنْ عَلِمَ أنه ينقض توبته.
ومن التكريم أنه زَيَّنَ ظاهرَهم بتوفيق المجاهدة، وحَسَّنَ باطنَهم بتحقيق المشاهدة.
ومن التكريم أنه أعطاهم قبل سؤالهم، وغفر لهم قبل استغفارهم، كذا في الأثر :" أعطيكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ".
ومن تكريم جملتهم أنه قال لهم :﴿ فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٥٢ ] ولم يقل ذلك للملائكة ولا للجن.
وكما خَصّ بني آدم بالتكريم خصَّ أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - منهم بتكريم مخصوص، فمن ذلك قوله تعالى :﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾ [ المائدة : ٥٤ ] و ﴿ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ﴾ [ المائدة : ١١٩ ] وقوله ﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ﴾ [ البقرة : ١٦٥ ].
ومن التكريم قوله :﴿ ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ﴾ [ النساء : ١١٠ ]
ومن التكريم ما ألقى عليهم من محبة الخالق حتى أحبوه.
ومن التكريم لقوم توفيقُ صِدْق القَدَم، ولقوم تحقيقُ علوِّ الهِمَم. قوله :﴿ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى البَّرِ وَالبَحْرِ ﴾ : سَّخر البحر لهم حتى ركبوا في السفن، وسَّخر البرَّ لهم حتى قال :﴿ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ ﴾ [ فصلت : ٣٧ ].
ويقال محمولُ الكرامِ لا يقع، فإنْ وَقَعَ وَجَدَ مَنْ يأخذ بيده.
ويقال الإشارة في حملهم في البرِّ ما أوصل إليهم جهراً، والإشارة بحديث البحر. ما أفردهم به من لطائف الأحوال سِرَّا.
ويقال لمّا حَمَلَ بنو آدم الأمانة حملناهم في البر، فَحَمْلٌ هو جزاءُ حَمْلٍ، حَمْلٌ هو فِعْلُ مَنْ لم يكن وحَمْلٌ هو فَضْلُ من لم يَزَل.
قوله :﴿ وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطيبات ﴾ : الرزق الطيب ما كان على ذكر الرازق ؛ فَمَنْ لم يكن غائباً بقلبه ولا غافلاً عن ربَّه استطاب كُلَّ رزقٍ، وأنشدوا :
يا عاشقي إني سَعِدْتُ شراباً لو كان حتى علقماً أو صابا
قوله :﴿ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلْقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ : أي الذين فضلناهم على خلقِ كثير، وليس يريد أن قوماً بقوا لم يفضلهم عليهم، ولكن المعنى أنا فضلناهم على كلِّ مَنْ خَلَقْنا، وذلك التفضيل في الخِلْقة. ثم فَاضَلَ بين بني آدم في شيء آخر هو الخُلق الحسن، فَجَمَعهم في الخُلقة - التي يفضلون بها سائر المخلوقات- ومَايَزَ بينهم في الخُلق.
ويقال :﴿ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ ﴾ : هذا اللفظ للعموم، والمراد منه الخصوص، وهم المؤمنون، وبذلك يفضل قومٌ على الباقين، ففَضَّل أولياءَه على كثير ممن لم يبلغوا استحقاقَ الولاية.
ويقال فضَّلهم بألاَّ ينظروا إلى نفوسهم بعين الاستقرار، وأن ينظروا إلى أعمالهم بعين الاستصغار.
إمامُ كلِّ أحدٍ مَنْ يَقْتَدِي به، ولكن. . . مِنْ إمامٍ يهتدي به مُقْتَدِيه، وما إمام يتردَّى به مقتديه.
﴿ فَمَنْ أُوتَىَ كِتَابَهُ بِيَمِنِهِ فَأَوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ ﴾ : لكمالِ صحوهم وقيادة عقلهم، والذين لا يؤتون كتابهم بيمينهم فهم لخوفِهم وتَرَدّدِهم لا يقرأون كتابهم.
في الآخرة أعمى عن معاينته ببصيرته. في الآخرة عذابُه الفُرقة وتضاف إليها الحُرْقَة- لهذا فهو ﴿ وَأَضَلُّ سَبِيلاً ﴾.
ضربنا عليك سرادقاتِ العصمة، وآويناكَ في كنف الرعاية، وحفظناك عن خطر اتباعك هواك، فالزَّلَّةُ منك محال، والافتراءُ في نعتك لا يجوز. . . ولو جَنَحْتَ لحظةً إلى الخلاف لَتَضَاعَفَتْ عليكَ تشديداتُ البلاء، لكمالِ قَدْرِك وعُلُوِّ شأنك ؛ فإنَّ مَنْ كان أعلى درجةً فَذَنْبُه - لو حصل - أشدُّ تأثيراً.
لو وكلناكَ ونَْفسَكَ، ورفعنا عنك ظِلَّ العصمة لأَلَمَمْتَ بشيءٍ مما لا يجوز من مخالفة أمرنا، ولكننا أفردناكَ بالحفظ، فلا تتقاصر عنكَ آثارُه، ولا تَغْرُبُ عن ساحتك أنوارُه.
قوله :﴿ إِذاً لأَذَقْنَاكَ. . . ﴾ الآية هبوطُ الأكابر على حسب صعودهم، ومِحَنُ الأَحِبَّةِ وإِنْ قَلَّتْ جَلَّتْ، وفي معناه أنشدوا :
أنت عيني وليس من حقِّ عيني غضٌّ أجفانها على الإقذاء
مَنْ ظنَّ أنه يستمتع بحياته بعد مضيّ الأَعِزَّة والأكابر غَلِطَ في حسابه، وإن الحسودَ لا يسود :
وفي تعبٍ مَنْ يَحْسُدُ الشمسَ ضوءَها ويجهد أن يأتي لها بضريب
والأرض كلها مِلْكٌ لنا، ونُقَلِّب أولياءَنا في ترددهم في البلاد وتطوافهم في الأقطار، ترداً على بساطنا، وتقلباً في ديارنا ؛ فالبقاع لهم سواء، وأنشدوا :
فَسِرْ أو أَقِمْ وَقْفٌ عليكَ محبتي مكانُكَ من قلبي عليك مصونُ.
الحقُّ أمضى سُنَّتَه مع الأولياء بالإنعام، ومع أعدائه بالإدغام، فلا لهذه أو هذه تحويل.
الصلاةُ قَرْعُ باب الرزق. والصلاةُ الوقوفُ في محل المناجاة.
والصلاةُ اعتكافُ القلبِ في مشاهد التقدير.
ويقال هي الوقوف على بساط النجوى. وفَرَّقَ أوقات الصلاة ليكون للعبد عَوْدٌ إلى البساط في اليوم والليلة مراتٍ.
﴿ إِنَّ قُرْءَانَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ﴾ : تشهده ملائكة الليل والنهار- على لسان العلم. وأَمَّا على لسان القوم فإن قرآن الصبح- الذي هو وقت إتيانه - يُبْعِدُ منَ النومِ وكَسَلِ النفس فله هذه المزية.
الليل لأحدِ أقوام : لطالبي النجاة وهم العاصون مَنْ جَنَح منهم إلى التوبة، أو لأصحاب الدرجات وهم الذين يَجِدُّون في الطاعات، ويسارعون في الخيرات، أو لأصحاب المناجاة مع المحبوب عندما يكون الناس فيما هم فيه من الغفلة والغيبة.
ويقال الليل لأحد رجلين : للمطيع والعاصي : هذا في احتيال أعماله، وهذا في اعتذاره عن قبيح أفعاله.
والمقام المحمود هو المخاطبة في حال الشهود، ويقال الشهود.
ويقال هو الشفاعة لأهل الكبائر. ويقال هو انفراده يوم القيامة بما خُصَّ به - صلى الله عليه وسلم - بما لا يشاركه فيه أحد.
أي أدخلني إدخالَ صدقٍ وأَخرجني إخراجَ صدقٍ. والصدق أن يكون دخولُه في الأشياء بالله لله لا لغيره، وخروجه عن الأشياء بالله صلى الله عليه وسلم لا لغيره.
﴿ وَاجْعَل لي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً ﴾ : فلا ألاحظ دخولي ولا خروجي.
أرد بالحقِّ ها هنا الإسلام والدين، وأراد بالباطل الكفر والشِّرْك، والحقُّ المطلق هو الموجود الحق، والحق المقيد ما كان حسناً في الاعتقاد والفعل والنطق، والباطل نقيض الحق. واللَّهُ حقٌّ : على معنى أنه موجود وأنه ذو الحق وأنه مُحِقُّ الحق.
ويقال الحقُّ ما كان لله، والباطل ما كان لغير الله.
ويقال الحقُّ من الخواطر ما دعا إلى الله، والباطلُ ما دعا إلى غير الله.
القرآن شفاءٌ من داء الجهل للعلماء، وشفاءٌ من داء الشِّرْكِ للمؤمنين، وشفاءٌ من داء النكرة للعارفين، وشفاء من لواعج الشوق للمحبين، وشفاء من داء الشطط للمريدين والقاصدين، وأنشدوا :
وكُتْبُكَ حَوْلِي لا تفارق مضجعي وفيها شفاءٌ للذي أنا كاتِمُ
قوله :﴿ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلاَّ خَسَاراً ﴾ : الخطاب خطابٌ واحد، الكتابُ كتابٌ واحد، ولكنه لقوم رحمةٌ وشفاء، ولقوم سخطٌ وشقاء، قومٌ أنار بصائرهم بنور التوحيد فهو لهم شفاء، وقوم أغشي على بصائرهم بستر الجحود فهو لهم شقاء.
إذا نزعنا عنه موجباتِ الخوفِ، وأرخينا له حَبْلَ الإمهال، وهَيَّأْ له أسبابَ الرفاهية اعترته مغاليطُ النسيانِ، واستولت عليه دواعي العصيان، فأعرض عن الشكر، وتباعد عن بساط الوفاق.
ويقال إعراضُه في هذا الموضوع نسيانُه، ورؤية الفضل منه لا من الحقِّ، وتوهمه أنَّ ما به من النِّعم فباستحقاق طاعةٍ أخلصها أو شدةٍ قاساها. . وهذا في التحقيق شِرْكٌ.
كُلٌّ يترشح بمُودَع باطنه، فالأَسِرَّةُ تدل على السريرة، وما تُكِنُّه الضمائرُ يلوح على السرائر، فَمَنْ صفا مِنَ الكدورة جوهرهُ لا يفوح منه إلا نَشْرُ مناقبه، ومنْ طبِعَتْ على الكدورِة طينتُه فلا يشمُّ مَنْ يحوم حوله إلا ريحَ مثالبه.
ويقال حركات الظواهر تدُلُّ وتُخْبِرُ عن بواطنِ السرائر.
ويقال حَبُّ (. . . ) لا يُنْبِتُ غضَّ العود.
ويقال من عُجِنَتْ بماء الشِّقْوةِ طينتُه، وطُبِعَتْ على النَكرَةِ جِبِلَّتُه لا تسمح بالتوحيد قريحتُه، ولا تنطِقُ بالتوحيد عبارتُه.
أرادوا أن يجادلوه ويُغَلِّطُوه فَأَمَرَه أن ينطق بلفظٍ يُفْصِحُ عن أقسام الروح ؛ لأَنَّ ما يُطْلَقُ عليه لفظُ ﴿ الرُّوحِ ﴾ يدخل تحت قوله تعالى :﴿ قل الرُّوحُ مِنْ أَمرِ رَبّىَ ﴾.
ويقال إن روح العبد لطيفة أودعها الله سبحانه في القالب، وجعلها محل الأحوال اللطيفة والأخلاق المحمودة، ( وكما يصح أن يكون البَصَرُ محلَّ الرؤية والأذنُ محلَّ السمع. . إلى آخره، والبصير والسامع إنما هو الجملة - وهو الإنسان- فكذلك محل الأوصاف الحميدة الروح، ومحل الأوصاف المذمومة النَّفْس، والحكُم أو الاسمُ راجعٌ إلى الجملة ).
وفي الجملة الروح مخلوقة، والحق أجرى العادة بأن يخلق الحياة للعبد ما دام الروح في جسده.
والروح لطيفة تقررت للكافة طهارتها ولطافتها، وهي مخلوقة قبل الأجساد بألوفٍ من السنين. وقيل إنه أدركها التكليف، وإن لها صفاء التسبيح، وصفاء المواصلات، والتعريف من الحق.
﴿ وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ : لأن أحداً لم يشاهد الروح ببصره.
سُنَّةُ الحقِّ- سبحانه - مع أحبائه وخواص عباده أن يُدِيمُ لهم افتقارهم إليه، ليكونوا في جميع الأحوال مُنْقادين لجريانِ حُكْمِه، وألا يتحركَ فيهم عِرقٌ بخلافِ اختياره، وعلى هذه الجملة خاطب حبيبَه- صلوات الله عليه - بقوله :﴿ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾ : فمن كان استقلاله بالله يقدِّم مرادَ سيده - في العزل والولاية - على مراد نفسه.
والمقصودُ من هذا إدامةُ تَفَرُّدِ سِرِّهِ صلى الله عليه وسلم به - سبحانه - دونَ غيره.
سائر الأنبياء معجزاتُهم باقيةٌ حُكْماً، ونبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - معجزته باقيةٌ عيناً، وهي القرآن الذي نتلوه، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا مِنْ خَلْفِه.
لا شيءَ أَحْظَى عند الأحباب من كتاب الأحباب، فهو شفاء من داء الضنى، وضياء لأسرارهم عند اشتداد البَلاَ، وفي معناه أنشدوا :
وكتبك حولي لا تفارق مضجعي وفيها شفاء للذي أنا كاتم
اقترحوا الآيات تعد إزاحة العِلَة وزوالِ الحاجة، فَرَكَضُوا في مضمارِ سوءِ الأدب، وحُرِموا الوُصْلة والقُربة. ولو أُجِيبوا إلى ما طلبوا ما ازدادوا إلا جُحْدَاً ونَكرَةٌ، وقد قيل :
إنَّ الكريمَ إذا حباك بودِّه سَتَرَ القبيحَ وأظهر الإحسانا
وكذا الملولُ إذا أراد قطيعةً مَلَّ الوصال وقال كان وكانا
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٠:اقترحوا الآيات تعد إزاحة العِلَة وزوالِ الحاجة، فَرَكَضُوا في مضمارِ سوءِ الأدب، وحُرِموا الوُصْلة والقُربة. ولو أُجِيبوا إلى ما طلبوا ما ازدادوا إلا جُحْدَاً ونَكرَةٌ، وقد قيل :
إنَّ الكريمَ إذا حباك بودِّه سَتَرَ القبيحَ وأظهر الإحسانا
وكذا الملولُ إذا أراد قطيعةً مَلَّ الوصال وقال كان وكانا

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٠:اقترحوا الآيات تعد إزاحة العِلَة وزوالِ الحاجة، فَرَكَضُوا في مضمارِ سوءِ الأدب، وحُرِموا الوُصْلة والقُربة. ولو أُجِيبوا إلى ما طلبوا ما ازدادوا إلا جُحْدَاً ونَكرَةٌ، وقد قيل :
إنَّ الكريمَ إذا حباك بودِّه سَتَرَ القبيحَ وأظهر الإحسانا
وكذا الملولُ إذا أراد قطيعةً مَلَّ الوصال وقال كان وكانا

﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبّىِ هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً ﴾ : قل يا محمد : سبحان ربي ! مِنْ أين لي الإتيان بما سألتم من جهتي ؟ فهل وَصْفِي إلا العبودية ؟ وهل أنا إلا بَشَر ؟ قال تعالى :﴿ لَّن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ ﴾
[ النساء : ١٧٢ ].
تعجَّبوا مما ليس بمحلِّ شُبهة، ولكن حَمَلَهم على ذلك فَرْطُ جَهْلِهم، ثم أصَرُّوا على تكذيبهِم وجحدهم.
الجنسُ إلى الجنسِ أميلُ، والشكلُ بالشكلِ آنَسُ، فقال سبحانه لو كان سكانُ الأرضِ ملائكةُ لَجَعَلْنا الرسولَ إليهم مَلَكاً، فلمَّا كانوا بَشَرَاً فلا ينبغي أن يُسْتَبعدَ إرسالُ البشرِ إلى البشرِ.
الحقُّ - سبحانه - هو الحاكم وهو الشاهد، ولا يُقَاسُ حُكْمَه على حُكْم الخَلْق، ولا يجوز في صفةِ المخلوقِ أَن يكونَ الحاكمُ هو الشاهد، فكما لا تشبه ذاته ذات الخَلْقِ لا تشبه صفتُه صفةَ الخَلْق.
مَنْ أراده بالسعادةِ في آزاله استخلصه في آباده بأفضاله، ومَنْ عَلِمَه في الأزل بالشقاء وَسمَه وفي أيده بِسِمةِ الأعداء. فلا لِحُكْمِه تحويل، ولا لِقَوْلِهِ تبديل.
لمَّا أَصَرُّوا على تكذبيهم جازاهم الحقُّ بإدامة تعذيبهم، ولو ساعدهم التوفيقُ لَوُجِدَ منهم التحقيق، لكنهم عَدِمُوا التأييد فحُرِموا التوحيد.
مَهَّدَ بهذه الآية طريق إثبات القياس، فلم يغادر في الكتاب شيئاً من أحكام الدَّين لم يؤيده بالدليل والبيان، فَعَلِمَ الكُلُّ أن الركونَ إلى التقليد عينُ الخطأ والضلال.
إذ البُخْلُ غريزةُ الإنسان، والشحُّ سجيته [ (. . . . ) المعروف لا يعرف الخلقة ].
هي أمارات كرامته وعلامات محبته.
أنت - يا فرعون - سلكتَ طريق الاستدلال فَعِلمْتَ أن مثل هذه الأشياء لا يكون أمرها إلا منْ قِبَلِ الله، ولكنَّكََ رَكَنْتَ إلى الغفلةِ في ظلمات الجهل.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠١:هي أمارات كرامته وعلامات محبته.

أنت -
يا فرعون - سلكتَ طريق الاستدلال فَعِلمْتَ أن مثل هذه الأشياء لا يكون أمرها إلا منْ قِبَلِ الله، ولكنَّكََ رَكَنْتَ إلى الغفلةِ في ظلمات الجهل.

أراد فرعونْ إهلاكَ بني إسرائيل واستئصالهم، وأراد الحقُّ - سبحانه - نصرتهم وبقاءهم، فكان ما أراد الحقُّ لا ما كاد اللعين.
أورثهم منازلَ أعدائهم، ومكَّنهم من ذخائرهم ومساكنهم، واستوصى بهم شُكرَ نعمته، وعرَّفَهم أنهم إِنْ سلكوا في العصيان مَسْلَكَ مَنْ تَقَدَّمَهم ذاقوا من العقوبة مثلَ عقوبتهم.
القرآن حقٌ، ونزوله بحق، ومُنَزِّلهُ حق، والمُنَزَّلُ عليه حق، فالقرآن بحقِّ أنزل ومِنْ حقِِّ نزل وعلى حقِّ نزل.
وقد فَرَّق القرآنَ لِيُهَوِّنَ عليه - صلوات الله عليه - حِفَْظَه، وليكثر تردد الرسول من ربِّه عليه، وليكون نزوله في كل وقت وفي كل حادثة وواقعة دليلاً على أنه ليس مما أعان عليه غيره.
إنْ آمنتم حَصَلَ النفعُ لكم، وإنْ جَحَدْتُم ففي إيمان مَنْ آمن مِنْ أوليائنا عنكم خَلَفٌ، وإنَّ الضَّرَرَ عائدٌ عليكم.
وإنَّ مَنْ أَضأْنَا عليهم شموس إقبالنا لتُشْرِقُ أنوار معارفهم ؛ فإذا تُليت عليهم آياتُنا سَجَدُوا بَدَل جحْدِهم، واستجابوا بدل تمردهم، وقابلوا بالتصديق ما يقال لهم.
تأثيره في قلوب قوم يختلف ؛ فتأثير السماع في قلوب العلماء بالتبصُّر، وتأثير السماع في أنوار الموحِّدين بالتحير ؛ تبصُّر العلماء بصحة الاستدلال، وتحيُّر الموحدين في شهود الجمال والجلال.
وبكاء كل واحدٍ على حسب حاله : فالتائب يبكي لخوف عقوبته لما أَسْلَفَهُ من زَلَّته وحَوْبته، والمطيعُ يبكي لتقصيره في طاعته، ولكيلا يفوته ما يأمله من مِنَّتِه.
وقوم يبكون لاستبهام عاقبتهم وسابقتهم عليهم.
وآخرون بكاؤهم بلا سبب متعين. وآخرون يبكون تحسراً على ما يفوتهم من الحق.
والبكاء عند الأكابر معلول، وهو في الجملة يدل على ضعف حال الرجل، وفي معناه أنشدوا :
خُلِقْنا رجالاً للتجلدِ والأَسَى وتلك الغواني للبُكا والمآتِم
مِنْ عظيم نعمته - سبحانه - على أوليائه تَنَزُّهُهم بأسرارهم في رِياض ذِكْرِه بتعداد أسمائه الحسنى من روضة إلى روضة، ومن مَأَنَسٍ إلى مأنس.
ويقال الأغنياءُ ترددهم في بساتينهم، والأولياءُ تنزههم في مشاهد تسبيحهم، يستروحون إلى ما يلوح لأسرارهم من كشوفات جلاله وجماله.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ﴾.
لا تجهر بجميعها، ولا تخافت بكُلِّها، وارفع صوتك في بعضها دون بعض.
ويقال ولا تجهر بها جهراً يَسْمَعهُ الأعداءُ، ولا تخافت بها حيث لا يسمع الأولياء.
﴿ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ﴾ : يكون للأحباب مسموعاً، وعن الأجانب ممنوعاً.
ويقال :﴿ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ ﴾ : بالنهار، ﴿ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ﴾ : بالليل.
احْمَدْه بذكر تقدسه عن الولد، وأنه لا شريك له ؛ ولا ولي له من الذل ؛ إما على أنه لم يَذَلَّ فيحتاج إلى ولي، أو على أنه لم يوالِ أحداً من أجل مذلة به فيدفعها بموالاته. ويقال اشكره على نعمته العظيمة حيث عرَّفك بذلك.
ويقال له الأولياءُ ولكن لا يعتريهم بِذُلِّهم، إذ يصيرون بعبادته أَعِزَّةً.
﴿ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ﴾ بأَنْ تَعْلَمَ أَنَّك تصل إليه به لا بتكبيرك.
Icon