تفسير سورة الإسراء

التفسير الوسيط للزحيلي
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

تفسير سورة الإسراء
معجزة الإسراء
تقترن نبوة النبي أو إرسال الرسول عادة بمعجزة: وهي الأمر الخارق للعادة، لإثبات النبي أو الرسول صدقه أمام قومه، وأنه نزل عليه الوحي من ربه، ومن المعروف أن الله تعالى أيّد نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم بمعجزات مثل معجزات الأنبياء قبله، وقد ينفرد بمعجزة لا يماثله فيها نبي سابق، مثل انشقاق القمر، والإسراء والمعراج. وكان حادث الإسراء قبل الهجرة بعام أو بعام ونصف، وكان ذلك في رجب، والنبي صلّى الله عليه وسلّم ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وعشرين يوما، والمتحقق أن ذلك كان بعد شقّ الصحيفة: وثيقة مقاطعة قبائل قريش لبني هاشم وبني المطلب. وافتتح الله تعالى سورة الإسراء بخبره الموجز في الآية التالية من سورة الإسراء المكية:
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)
«١» «٢» «٣» [الإسراء: ١٧/ ١].
لفظ الآية يقتضي أن الله عز وجل أسرى بعبده: وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم. والمعنى: تنزه الله تعالى من كل سوء أو عجز أو نقص أو شريك أو ولد، فهو كامل الصفات تام القدرة، فهو الذي أسرى بعبده محمد بواسطة الملائكة، في جزء من الليل، وبشخصه
(١) تنزيها لله وتعجيبا من قدرته.
(٢) سار به ليلا بالبراق.
(٣) وهو مسجد بيت المقدس، سمي ((الأقصى)) في ذلك الوقت لأنه كان أقصى بيوت الله الفاضلة من الكعبة.
1321
جسدا وروحا، في تمام اليقظة، لا في المنام، من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى، في بيت المقدس، وعاد إلى بلده في ليلته لأن الله تعالى قادر قدرة تامة على فعل العجائب والمعجزات.
وأكثر المفسرين اتفقوا على أن الإسراء حدث بالجسد والروح، المعبر عنه بكلمة «عبده» وهو مجموع الروح والجسد فركب على البراق يقظة، لا في الرؤيا والمنام، ولو كان مناما لقال الله تعالى: بروح عبده، ولم يقل: «بعبده» ولو كان مناما، لما كانت فيه آية ولا معجزة. ثم عرج بالنبي صلّى الله عليه وسلّم إلى السموات وإلى ما فوق العرش، حيث فرضت في المعراج الصلاة على المؤمنين، وكانت بحق معراج المؤمن، وصلة بين العبد وربه، ولا خلاف أن في الإسراء والمعراج فرضت الصلوات الخمس على هذه الأمة.
ووصف الله تعالى ما حول الأقصى بالبركة من ناحيتين:
إحداهما- النبوة والشرائع وإرسال الرسل الذين كانوا في ذلك القطر، وفي نواحيه ونواديه.
الناحية الثانية- النّعم من الأشجار والمياه والأرض الخصبة ذات الأنهار والأشجار والثمار، التي خص الله الشام بها.
روى ابن عساكر عن زهير بن محمد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الله تعالى بارك ما بين العريش والفرات، وخص فلسطين بالتقديس»
وهو ضعيف.
وكان القصد من الإسراء: هو ما قاله الله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا أي لنري محمدا بعينيه آياتنا الكبرى في السماوات، والملائكة، والجنة، وسدرة المنتهى وغير ذلك. مما رآه تلك الليلة من العجائب. وقوله تعالى في نهاية الآية: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وعيد من الله تبارك وتعالى للكفار على تكذيبهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم في أمر الإسراء، فهي إشارة لطيفة بليغة إلى ذلك، معناها: إن الله هو السميع لما تقولون، البصير
1322
بأفعالكم، يسمع الله أقوال المشركين وتعليقاتهم على حادث الإسراء واستهجانهم لوقوعه، واستهزاءهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في إسرائه من مكة إلى القدس، والله يبصر ما فعل أولئك المشركون، وبما يكيدون لنبي الله ورسالته.
وقد تواترت بذلك الأخبار والأحاديث النبوية في مصنفات الحديث الثابتة، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام، حيث روي عن عشرين صحابيا. وجلّ العلماء على أن الإسراء كان بشخصه صلّى الله عليه وسلّم، وأنه ركب البراق من مكة، ووصل إلى بيت المقدس وصلّى فيه. والحديث مطوّل في البخاري ومسلم وغيرهما. والبراق كما جاء في كتاب الطبري: هو دابة إبراهيم عليه السلام الذي كان يزور عليه البيت الحرام.
والإسراء بكامل شخص النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الصحيح، ولو كانت الحادثة منامية، ما أمكن قريشا أن تشنّع، ولا فضّل أبو بكر رضي الله عنه بالتصديق، لأنه كان أول المصدّقين، ولا قالت له أم هانئ: لا تحدث الناس بهذا، فيكذبوك. وأما المراد بقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: ١٧/ ٦٠]. فهي رؤيا بصرية لا منامية، لأنه يقال لرؤية العين: رؤيا. وأما ما نقل عن عائشة رضي الله عنها بأن الإسراء رؤيا منامية، فهو لم يصح، لأن عائشة كانت صغيرة، لم تشاهد الحادث، ولا حدّثت بذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
إنزال التوراة على موسى عليه السلام
إن من أصول الإيمان في ديننا: هو الإيمان بالكتب السماوية المنزلة على الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، وهي مائة وأربعة كتب: صحف شيث ستون، وصحف إبراهيم ثلاثون، وصحف موسى قبل التوراة عشر، والتوراة والزبور
1323
والإنجيل والفرقان، وقد أخبر الله تعالى في أوائل سورة الإسراء بإنزال التوراة على موسى عليه السلام أحد الأنبياء والرسل الخمسة أولي العزم، فقال سبحانه:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢ الى ٣]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣)
«١» «٢» [الإسراء: ١٧/ ٢- ٣].
عطف الله تعالى بقوله: وَآتَيْنا على حادث الإسراء في قوله: أَسْرى بِعَبْدِهِ لعقد الصلة بين الخبرين، كأنه سبحانه قال: أسرينا بعبدنا وأريناه آياتنا، وآتينا موسى كتاب التوراة، فلقد أكرم الله تعالى موسى عليه السلام، قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم، بالكتاب المنزل الذي آتاه أو أعطاه إياه، وهو التوراة الذي جعله الله هداية لبني إسرائيل، يخرجهم بواسطة ذلك الكتاب، من ظلمات الجهل والضلال والكفر، إلى نور العلم والمعرفة والدين الحق. وقد جعلنا ذلك الإنزال لئلا تتخذوا يا ذرية نوح من دون الله وكيلا تفوضون إليه أموركم، فقوله سبحانه: وَكِيلًا أي ربّا تكلون إليه أموركم.
والمقصود: لا تتخذوا ربا تفوضون إليه أموركم، فأنتم من ذرية أو بني نوح لصلبه، لأن نوحا عليه السلام، آدم الأصغر، وأبو البشر الثاني، وكل من على الأرض من نسله، وتلك الذرية: هم الذين نجاهم الله من الغرق مع نوح، وهداهم إلى طريق التوحيد والحق والخير، وتعداد هذه النعم على الناس في الإنجاء المؤدي إلى وجودهم، يقتضي قبح الكفر والعصيان منهم، كما أن أصلهم وهو نوح كان عبدا شاكرا لأنعم الله وكثير الشكر في أحواله، يحمد الله في كل حال، وعلى كل نعمة، على المطعم والمشرب والملبس وقضاء الحاجة ونحو ذلك. فما على الذرية إلا أن يقتفوا أثر نوح، ويتبعوا منهجه وسنته في توحيد الله وعبادته، والاقتداء به.
(١) ربا تكلون إليه أموركم.
(٢) منصوب بفعل: تتخذوا، فهو مفعول به ثان، أي ألّا تتخذوا بشرا إلها من دون الله، أو منصوب على الاختصاص أو على النداء، أي أخص ذرية أو يا ذرية.
1324
ووصف نوح بكونه (عبدا)، ووصف نبينا محمد أيضا بأنه (عبد الله) دليل واضح على مرتبة الأنبياء، وهي مرتبة العبودية الخالصة لله تعالى، فإن معجزة الإسراء والمعراج الخارقة لنبينا، لا يصح وصفها بغير حقيقتها، ولا إنزال النبي في منزلة تتجاوز موضعه الحقيقي، وهو كونه عبدا لله، أي خاضعا لعزة الله وسلطانه.
وإن إنزال التوراة على موسى عليه السلام إنما هو من أجل الالتزام بأحكامها والاهتداء بهديها، والتقاء أتباعها مع دعوة الحق، ودعوات الأنبياء جميعا، ومنهم نوح عليه السلام وخاتم النبيين محمد صلّى الله عليه وسلّم. وهذا المنهاج الموحد للأنبياء: هو الذي ينبغي أن يقتدي به الناس، فإن الدعوة إلى توحيد الله وعبادته واحدة في كل الشرائع، ولا يصح أن يكون بين أتباع الأنبياء اختلاف وأحقاد، وكراهية وعداوة، فذلك شأن من لا يؤمن بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وتوحيد هذا المنهاج يفهم مما ربط الله تعالى به النهي عن الإشراك واتباع ذرية نوح الموحدة لله، والمراد الحمل على التوحيد لله، بذكر إنعامه تعالى عليهم المتضمن إنجاء آباء البشرية من الغرق في سفينة نوح عليه السلام، حين لم يكن لهم وكيل يتوكلون عليه، سوى الله تعالى.
وينبني على منهج التوحيد لله رب العالمين ألا يتخذ البشر أحدا منهم إلها من دون الله، أو أربابا من دون الله، فإن المنعم الحقيقي هو الله تعالى، والناس بسبب ضعفهم وحاجتهم إلى الله سبحانه أجدر بهم أن يتجهوا نحو ربهم الذي خلقهم وهداهم وأنعم عليهم، وهو وحده الذي يحاسبهم في الدار الآخرة على كل ما قدموه من خير أو شر.
1325
إفساد الإسرائيليين وتشريدهم مرتين
إن جزاء الأمم في ميزان العدل الإلهي يكون بحسب الطاعة أو العصيان، ولا يكون عقاب من الله تعالى لأحد إلا بسبب جرمه وجحوده، أو تحديه وعناده ومعارضته دعوة الرسل، وخروجه عن هدي الله تعالى. وهكذا كان الحال مع بني إسرائيل في التاريخ، أفسدوا في الأرض، فشردوا فيها مرتين بسبب فسادهم، ويتكرر العقاب أو الثواب عادة بتكرر سببه. قال الله تعالى واصفا هذه الأحوال:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤ الى ٨]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠» [الإسراء: ١٧/ ٤- ٨].
هذه الآيات: إخبار عن أحوال بني إسرائيل وتاريخهم القديم، ومضمون الخبر:
أن الله أعلمهم في التوراة على لسان موسى، وقضى عليهم في أم الكتاب أنهم سيفسدون في الأرض التي يحلّون فيها مرتين، ويخالفون مخالفتين: مخالفة ما جاء في التوراة وتغييرها، وقتل بعض الأنبياء مثل أشعيا وزكريا ويحيى، ويتكبرون عن طاعة
(١) علمناهم بما سيقع منهم من الإفساد مرتين.
(٢) تتجاوزنّ في الظلم والعدوان.
(٣) يجوز أن يقع الوعد في الشر بمعنى العقاب الحالّ.
(٤) ذوي قوة.
(٥) الديار: هي المنازل والمساكن.
(٦) الغلبة.
(٧) أكثر عددا من عدوكم.
(٨) أي بعثناهم ليسوءوا، فهي لام ((كي)).
(٩) ليدمروا ما استولوا عليه. [.....]
(١٠) مهادا.
1326
الرسل، ويطلبون في الأرض العلو والفساد، ويظلمون من قدروا على ظلمه، وهذا مطابق لما هم عليه الآن.
فإذا حان موعد المرة الأولى من الإفساد والشر، وحل وقت العقاب، سلط الله عليهم جندا أولي بأس شديد، أي قوة وشدة، فتوغلوا في بلادهم وتملكوها، وقاموا بتخريب مدنهم، وإحراق التوراة، وسبي كثير منهم، وكان هذا وعدا حتمي الوقوع، نافذ المفعول، بسبب تمردهم عن طاعة الله، وقتلهم الأنبياء.
ثم رد الله تعالى لهم القوة، وأهلك أعداءهم، وجعلهم أكثر نفيرا أي عددا من الرجال، وأمدهم الله بالأموال والأولاد، في حال الطاعة والاستقامة على أمر الله.
وتبدّل هذه الحال للعبرة والعظة.
وبما أن شرع الله وقانونه عادل، فإن الله سبحانه أوضح لهم أنه إن أحسنوا العمل، وأطاعوا الله، واتبعوا الأوامر، واجتنبوا النواهي، فإنهم يحسنون لأنفسهم لأن الطاعة تنفعهم، وإن أساؤوا بفعل المحرّمات، أساؤوا لأنفسهم، لأن وباء المعصية يضرهم، ويمنع عنهم الخير، ويؤدي إلى تسلط الأعداء في الدنيا، وإيقاع العذاب في الآخرة.
وإذا حان موعد الإفساد الثاني، وحل أجل العقاب عليه، بعث الله عليهم الأشداء، وتعرضوا لإظهار الإساءة في وجوههم بالقهر والإهانة من أولي البأس الشديد، ودخول مسجد بيت المقدس قاهرين مفسدين، كما حدث في المرة الأولى، ولتدمير وتخريب ما ظهروا عليه تخريبا وهلاكا شديدا، بإزالة آثار الحضارة والعمران، وإبادة السكان، وإتلاف الحرث والزرع والثمر.
ثم يفتح الله تعالى باب الأمل أمام المفسدين من بني إسرائيل، ومضمونه: لعل الله أن يرحمهم، ويعفو عنهم بعد انتقامه منهم في المرة الثانية من تسليط الأعداء، إن
1327
تابوا وأقلعوا عن المعاصي، فإن عادوا إلى الإفساد والعصيان في مرة ثالثة، أعاد الله عليهم تسليط الأعداء، وإنزال العقاب بهم، بأشد مما مضى سابقا، مع ادخار العذاب لهم أيضا في الآخرة.
والله تعالى جعل جهنم للكافرين مستقرا وسجنا لا محيد عنه، كما جعلها مهادا ومستقرا لهم، ومحطة تشوى فيها جباههم وجنوبهم وظهورهم، وهذا تصوير لشمول العذاب لهم، كما جاء في آية أخرى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف: ٧/ ٤١] أي أغطية.
وتكون العبرة في سرد وقائع التاريخ الإسرائيلي في القرآن واضحة، وهي أن التنكيل والعذاب شأنهم في الدنيا إذا أدمنوا الفساد والإفساد، والإنقاذ والرحمة كغيرهم يشملهم إذا استقاموا على طاعة الله والتزموا أوامره.
الغاية من إنزال القرآن
لكل شيء حكمة وغاية، وأفعال الله تعالى تهدف إلى تحقيق غاية، وترشد إلى مصلحة، وتدعو إلى ما فيه خير، وتمنع كل ما هو شر، وإنزال القرآن الكريم والدعوات الإلهية والرسالية أو النبوية من أجل تحقيق غايات كبري وأهداف سامية، لمصلحة البشرية جمعاء، وللمسلمين والمسلمات بصفة خاصة، وأهداف القرآن: عامة وخاصة، وعمومها: الهداية للطريق التي هي أقوم، وخاصة: تبشير الطائعين بالجنة، وإنذار العصاة بالنار، قال الله تعالى مبينا هذه الأهداف:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩ الى ١١]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١)
1328
«١» [الإسراء: ١٧/ ٩- ١١].
هذه الآيات دعوة صريحة قاطعة مقنعة للناس جميعا، للإيمان بالقرآن الكريم الذي أنزله الله على رسوله، لإنقاذهم من الظلمات إلى النور، وإسعادهم في الدنيا والآخرة، وأسباب هذه الدعوة ثلاثة:
أولا- إن القرآن الكريم يرشد ويدعو للحال والطريقة التي هي أقوم وأصلح، وأسدّ وأحكم، وهي الدين القويم، وملة التوحيد الخالص لله: (لا إله إلا الله) والأقوال والأفعال السديدة الرشيدة.
ثانيا- إن القرآن العظيم ذو هدف إصلاحي جذري في الحياة الإنسانية، فهو يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات من فرائض ومندوبات وأعمال خيّرة، يبشرهم بالثواب العظيم أو الأجر الكبير وهو الجنة يوم القيامة، جزاء عملهم. وعمل الصالحات إنما هو لكمال الإيمان، وترجمة المصداقية والانسجام مع العقيدة.
ثالثا- إن القرآن المجيد ينذر الذين لا يصدقون بوجود الله وتوحيده، ولا بوجود البعث والآخرة، والثواب والعقاب، ينذرهم بالعذاب الشديد الموجع أو المؤلم، جزاء ما قدموا من سوء الاعتقاد وفساد الأعمال.
فيكون للقرآن هدف إيجابي وسلبي معا في آن واحد، فهو يبشر المؤمنين العاملين عملا صالحا بالجنة، وينذر الكافرين بالعذاب الأليم، وفي هذا التوجه المزدوج مسرّة لأهل الإيمان، ووعيد للكفار والعصاة.
ولكن الإنسان ظالم لنفسه عادة، ويتعجل النتائج، مما استدعى أن تكون هذه
(١) أعتدنا: معناه أحضرنا وأعددنا.
1329
الآية: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ ذامّة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم وأولادهم في وقت الغضب والتضجر، فهم يدعون بالشّر في ذلك الوقت، كما يدعون بالخير في وقت التثبت، فلو أجاب الله دعاءهم في وقت الشر لأهلكهم، ولكن الله تعالى يصفح ولا يجيب دعاء الضّجر المستعجل.
إن الله لطيف بعباده، لا يجيب دعاء المتعجل بالموت أو الهلاك والدمار واللعنة، كما يدعو ربّه بالخير، أي بالعافية والسلامة والرزق، ولو استجيب دعاؤه لهلك، ولكن الله بفضله ورحمته لا يستجيب دعاءه، كما قال الله سبحانه في آية أخرى:
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [يونس: ١٠/ ١١].
وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تدعو على أنفسكم، ولا على أموالكم، أن توافقوا من الله ساعة إجابة، يستجيب فيها».
والذي يحمل الإنسان على ذلك مع الأسف: هو قلقه وعجلته، وطمعه وحرصه، كما صوّر القرآن هذا الطبع في قوله تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا أي يتعجل تحصيل المطلوب، دون تفكير في عواقبه.
وكلمة: (الإنسان) في الآية يراد بها الجنس (وهو أيّ إنسان) بحسب ما في الخلق من ذلك. وما على الإنسان إلا أن يتعقل ويصبر ولا يتعجل، ويفوض الأمر للخالق البارئ المقدر، ويهتدي بهداية القرآن في الإرشاد لما فيه حسن الختام والعاقبة، ولما يتفق مع الواقع، فليست الحياة جنة طافحة بالنعم والخير، وإنما فيها الشر والشدة أحيانا، كما أن فيها الخير واليسر والسعة أحيانا أخرى.
1330
المسؤولية الشخصية
الحياة ابتلاء واختبار، والإنسان يتقلب في المعاش والكسب مستفيدا من ظرف الليل والنهار، وما فيهما من فوائد تدل على قيمة الوقت وحساب الزمان، ومقتضى العدل والحق أن يستقل كل إنسان في عمله والمسؤولية عنه، لأن له ثمرته، وعليه تبعاته، ويكون حسابه في الدنيا والآخرة حسابا فرديا شخصيا، لا يسأل عن عمل غيره، وهو الذي يسطّر لنفسه النتائج، فمن اهتدى إلى الحق والخير، وعمل بموجبها، كان نفع الهداية لنفسه، ومن تنكر للحق وسلك طريق الشر، كان وبال الضلال على نفسه، فالمسئولية شخصية، ولا ثواب ولا عقاب إلا بعد البيان والإنذار، قال الله تعالى مبينا هذه القواعد:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٢ الى ١٥]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥)
«١» «٢» »
«٤» «٥» «٦» [الإسراء: ١٧/ ١٢- ١٥].
هذه الآيات تبين بعض نعم الحياة الدنيوية، وهي أيضا تدل على قدرة الله العظمى وحكمته البالغة، فالله سبحانه جعل الليل والنهار علامتين دالتين على قدرته وبديع صنعه، وفي تعاقبهما تحقيق مصلحة الإنسان والحيوان والنبات، أما الليل وظلامه، ففيه الراحة والسكون، وأما النهار وضوؤه بالشمس، ففيه التقلب في أنحاء
(١) جعلنا القمر مطموس الضوء.
(٢) جعلنا الشمس مضيئة.
(٣) وكلّ: منصوب بفعل مقدر تقديره أوجدنا.
(٤) أي ألزمناه عمله من خير أو شر.
(٥) حاسبا أو محاسبا.
(٦) لا تحمل نفس آثمة.
1331
الدنيا للعمل والعيش والكسب، والضوء يناسبه الحركة والانتقال وإتقان الأعمال، والظلام في الليل يناسبه هدوء الأعصاب، وراحة الجسد، ومتعة العقل والفكر. وفي تعاقب الليل والنهار ابتغاء الرزق والتمكن من التخطيط ليلا، وإنجاز العمل نهارا.
وفي دوران الليل والنهار تعريف بحساب الزمان ومرور الأيام والشهور والأعوام، والتعرف على المصالح في الدورات الزراعية، وتحديد الآجال والأعمار، والديون والمعاملات، ومعرفة حساب وقت العبادات من صلاة وصيام، وحجّ وزكاة، ولو لم يتغاير الليل والنهار لما تحققت الراحة، ولما عرف مقدار الوقت، وعاش الإنسان في عماية وجهالة، أو في تعب وعناء، لحساب الأشياء وتقدير الأزمان.
ومن كرم الله وفضله: أنه سبحانه أبان للإنسان كل شيء به حاجة في مصالح الدين والدنيا والآخرة، وعرّفه طريق الحياة، ودستور المعيشة، وأسلوب المعاملة، بتفصيل دقيق، وبيان واف.
وجعل الله عمل كل إنسان ملازما له، بخيره وشره، فيكون المراد بقوله سبحانه:
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ هو عمله، فالطائر: هو العمل الصادر عن الإنسان، وملازمته له كملازمة الطائر لصاحبه.
قال ابن عباس: (طائره) : ما قدّر عليه وله. وخاطب الله العرب في هذه الآية بما تعرف من عادة زجر الطير تيامنا وتشاؤما وسيخرج الله لكل إنسان يوم القيامة كتابا يراه، ويستقبله منشورا أمامه، فيه جميع أعماله خيرها وشرها. ويقال له حين تلقّي الكتاب: اقرأ كتاب عملك في الدنيا، كفى بنفسك حاسبا تحسب أعمالك وتحصيها. قال الحسن البصري: قد عدل، والله فيك، من جعلك حسيب نفسك.
وإذا كان كل واحد مختصا بعمل نفسه، فمن اهتدى إلى الحق والصواب، واتبع
1332
شرع الله وهدي النبوة، فإنما ينفع نفسه، ومن ضل في عمله، وحاد عن شرع الله، وجحد به وبرسله، فإنما يضر نفسه. نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة حين قال: يا أهل مكة، اكفروا بمحمد، وإثمكم علي.
وأعلن الحق سبحانه مبدأ عظيما من مفاخر الإسلام وهو أنه لا تتحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، بل على كل نفس إثمها دون إثم غيرها، وهذا مبدأ المسؤولية الفردية أو الشخصية، وهو رد على أهل الجاهلية والأمم السابقة الذين يوجهون المسؤولية لغير الجاني أو المخطئ.
ومبدأ آخر نص عليه القرآن عملا بمقتضى العدل والحكمة والرحمة وهو أنه لا عقاب ولا عذاب إلا بعد بيان وإنذار، وإرسال رسول، سواء في الدنيا والآخرة، وهو المبدأ القانوني المشهور: لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص. وهذا يتطابق مع معنى آية أخرى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: ٣٥/ ٢٤].
أسباب الهلاك والدمار
لقد بعث الله الرسل والأنبياء لمهمة إنسانية سامية: وهي الإرشاد للدين الحق، فأرسل الله آدم عليه السلام بالتوحيد، وغرس المعتقدات الدينية في بنيه، وأقام الله الأدلة الكثيرة الدالة على الإله الصانع. فإذا توافر البصر الصحيح والعقل السديد، وجب على كل أحد من العالم الإيمان واتباع شريعة الله، ثم تجدد ذلك على يد نوح عليه السلام، بعد غرق الكفار، ثم تتابع الرسل الكرام إلى خاتم النبيين بالدعوة إلى توحيد الله وطاعته، وتجنب الشرك ومعصية الله، فإذا قابل الناس هذه الدعوة بالرفض، استحقوا الدمار والهلاك، وتلك سنة الله تعالى المعبر عنها في هذه الآيات:
1333

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٦ الى ١٧]

وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الإسراء: ١٧/ ١٦- ١٧].
المعنى: إذا دنا وقت إهلاك قوم بعذاب الاستئصال، أمر الله المترفين (أي المتنعمين) بالطاعة والخير أمرا فعليا، فإذا عصوا ذلك الأمر وفسقوا، وخرجوا عن حدود الطاعة وتمردوا، وجب عليهم العذاب جزاء وفاقا لعصيانهم فدمرهم الله تدميرا، وأبادهم إبادة تامة. وخص الله المترفين لأنهم الواجهة، وأنهم أولى بالشكر من غيرهم ولأن فسقهم هو المؤثر في فساد القرية، وسواهم تبع لهم، وفي قراءة أخرى: أَمَرْنا مُتْرَفِيها
أي ملّكناهم على الناس، وليس المراد إمارة الملك، وإنما جعلهم يأمرون ويؤتمر لهم. وقوله تعالى: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
أي وعيد الله الذي قاله رسولهم، وهو التدمير: أي الإهلاك مع طمس الآثار وهدم البناء.
ثم أنذر الله تعالى كفار قريش وأمثالهم في تكذيبهم رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم، بأن كثيرا من الأمم وجب عليهم العذاب بذنوبهم، ومفاد الآية: كثيرا ما أهلكنا أمما من بعد نوح عليه السلام، إلى زمانكم، لما بغوا وعصوا، وجحدوا آيات الله، وكذّبوا رسله، كما أنتم الآن معشر قريش، وأنتم أيها المكذبون، لستم أكرم على الله منهم، وقد كذّبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق، فعقوبتكم أولى وألزم.
وهذا وعيد لمكذبي الرسول صلّى الله عليه وسلّم في كل زمان بشديد العقاب، وفيه دلالة على أن القرون التي مضت بين آدم ونوح، كانت على الإسلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام. ثم ذكر الله تعالى ما معناه:
(١) أمرنا متنعميها بطاعة الله.
(٢) فتمردوا وعصوا.
(٣) استأصلناها.
(٤) كم: في موضع نصب ب ((أهلكنا)).
(٥) الأمم.
1334
وكفى بالله خبيرا بذنوب خلقه، مطلعا عليها، يحصي عليهم أعمالهم ومعاصيهم، فلا يخفى عليه شيء من أفعال المشركين وغيرهم، وهو عالم بجميع أعمالهم خيرها وشرها، لا يخفى عليه منها خافية. والخبير: العليم بأحوال الناس، والبصير: الذي يبصر أعمالهم. وفي هذه الآية تنبيه واضح على أن الذنوب: هي أسباب الدمار والهلاك، لا غير، وأن الله عالم بها، ومعاقب عليها.
وهذه الآيات تحضّ العقلاء على العمل الصالح النافع في الدنيا والآخرة، وتدفعهم إلى الجدّ وترك الكسل، والجهاد في سبيل الله حقّ جهاده.
إن العلاقة بين الله تعالى وبين الناس أمرها عجب، فالناس ينسبون إلى الله تعالى الشرك، وهو سبحانه يرزقهم ويعافيهم.
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه أحمد وغيره: «لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله، إنه يشرك به، ويجعل له الولد، ثم هو يعافيهم ويرزقهم» «١».
وفي رواية أخرى: «ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى، إنهم يجعلون له ندا، ويجعلون له ولدا، وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم ويعطيهم». «٢»
والإحسان والرزق يقتضيان مقابلة المعروف بمثله، إلا أن الإنسان مع الأسف يتنكر للمعروف، ولا يقابل الإحسان بمثله، جاء في أثر إلهي: «ابن آدم، خلقتك لنفسي فلا تلعب، وتكفّلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم، اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتّك فاتك كل شيء، وأنا أحبّ إليك من كل شيء».
ويحلم الله على الإنسان، فلا يعجل له العقاب، حتى يترك له الفرصة الكافية للتوبة والإصلاح، وهو سبحانه يمهل ولا يهمل، وجعل الله سنوات العمر متدرجة
(١) رواه مسلم رقم ٢٨٠٤. [.....]
(٢) رواه مسلم، وأحمد في مسنده رقم ٤٣٩٥.
1335
بين الضعف والقوة، ثم الهرم والشيخوخة، ليتذكر الإنسان ويعتبر، ويعود إلى جادة الاستقامة وإصلاح شؤونه وأعماله من أقرب الطرق، فإذا استبد العناد والجحود بالإنسان، ووقف موقف التحدي، استحق الجزاء العادل.
أهل الدنيا وأهل الآخرة
تتجه الهمم والعزائم بحسب المقاصد والنيات والأغراض إما إلى الدنيا ومحبتها وإيثارها على كل شيء، وهذه هي طبيعة الماديين وعشاق المال والثراء والجاه، وإما إلى الآخرة، وتفضيلها على الدنيا لأنها النعيم الأبدي الخالد، وحذرا من الجحيم والعذاب الدائم، ويكون الجزاء بمقتضى العدل الإلهي أن يجازى كل امرئ بما كسب، ويكون هذا الجزاء من جنس العمل، وهذا ما أوضحته الآيات الآتية، قال الله في كتابه العزيز:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٨ الى ٢١]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الإسراء: ١٧/ ١٨- ٢٠].
تصنّف هذه الآيات الناس صنفين، وتجعلهم فريقين: فريق يعمل للدنيا وحدها، وفريق يعمل للآخرة في الغالب، أما الفريق الأول أهل الدنيا العاجلة: فهم يقصرون جهدهم وعملهم على تحصيل ملذات الدنيا وشهواتها وينسون المستقبل والآخرة، ولا يؤمنون بها، فتكون النتيجة أن الله تعالى يعجل لمن يريد الدنيا
(١) يدخلها.
(٢) مطرودا من رحمة الله.
(٣) أي أعطاها حقها من السعي بالأعمال الصالحة.
(٤) نزيد من العطاء مرة بعد مرة.
(٥) ممنوعا.
1336
مرادهم، ويعطي من أراد الله ما يشاء بحسب علمه وحكمته، أي إن العطاء بحسب مشيئة الله، لا بحسب محبة العبد، ولمن يشاء الله، لا لكل من أراد الدنيا، ثم يجعل الله جهنم لجميع من يريد العاجلة وهو كافر بالله وبالآخرة، سواء من أعطاه فيها ما يشاء، ومن حرمه، فأهل الدنيا لا يعطون كل ما يريدون، وإنما يعطون بعض ما يتمنون. ومن يحرم من نعيم الدنيا يجمع بين فقر الدنيا وفقر الآخرة. إنهم أي أهل الدنيا يصلون، أي يدخلون جهنم، مذمومين، أي ملومين، مدحورين، أي مطرودين من رحمة الله تعالى، فيكون عذابهم متصفا بصفات ثلاث: الدوام، والإذلال، والطرد من رحمة الله.
وأما الفريق الثاني: فهم المؤمنون الأتقياء أهل الآخرة، الذين يعملون لها ما استطاعوا من القرب والطاعات، وهم مؤمنون مصدّقون بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهؤلاء أهل الكمال المشكورون على طاعتهم المثابون على أعمالهم من ربهم، بسبب ملازمتهم أعمال الخير، والتزام حكم الشرع وطرقه. هذا هو قانون الجزاء الأخروي، أما الرزق في الدنيا فلا يرتبط بالإيمان أو الكفر، وإنما يرزق الله تبارك وتعالى في الدنيا مريدي الآخرة المؤمنين، ومريدي العاجلة الكافرين، ويمدهم بعطائه منها، وإنما يقع التفاضل والتباين في الآخرة، لأنها خير من الدنيا وأدوم وأخلد، أما الدنيا فهي فانية، ولا شأن لها عند الله تعالى، فيكون الرزق المادي فيها لجميع العباد، ولا يضيق رزق الله عن مؤمن ولا عن كافر، فلينظر الإنسان كيف يمدّ الله تعالى بعطائه الدنيوي كلا الفريقين: مريدي الدنيا ومريدي الآخرة، فيمنحهم الله المال والأولاد والصحة والشرف والجاه، والزينة والحظ، والعز في الدنيا، لأنّ الدنيا عند الله تعالى لا تساوي جناح بعوضة.
غير أن الرزق والعطاء الدنيوي متفاوت، متفاضل، يفضّل بعض الناس على بعض في الرزق والمتاع، فقد يعطي الله المال والثروة لكافر، ويمنعه عن كافر آخر،
1337
ويحجبه عن مؤمن، لحكمة بالغة، ومصلحة للعبد نفسه، كما قال الله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا [الزخرف: ٤٣/ ٣٢]. أي ليخدم بعضهم بعضا، وقال الله سبحانه أيضا: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) [الشورى: ٤٢/ ٢٧].
ثم أخبر الله تعالى أن التفضيل الأكبر والتفاوت الأعظم بين المؤمنين إنما يكون في الآخرة، فتكون الدرجات أكبر، والتباين أعظم، أخرج ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن قتادة قال: «إن بين أعلى أهل الجنة درجة، وأسفلهم، كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها» وكذلك التفاوت كبير بين أهل النار، فهم في دركات، بعضها أسفل من بعض، أي إن النار دركات، والجنة درجات، وفي الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين، كما بين السماء والأرض، قيل: وقد رضّى «١» الله الجميع، فما يغبط أحد أحدا، ولا يتمنى عن ذلك بدلا. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم».
التوحيد وبر الوالدين
يعلّمنا القرآن الكريم الأدب الجم، والوفاء للجميل ورد المعروف، وتقدير النعمة، فليس هناك للإنسان مصدر للنعمة سوى الله تعالى، فهو المتفضل المحسن، والوالدان بحكم عاطفتهما يبذلان أقصى ما في وسعهما لتربية الأولاد والحفاظ على حياتهم وصحتهم، وإمدادهم بكل ما يحتاجون، حتى إن الوالدين يفضلان مصلحة
(١) أي أرضى.
1338
الولد على أنفسهما، فكان مقتضى هذا الإحسان والتضحية مقابلة الولد لوالديه بالبر ورد الجميل، والأدب والرعاية ولا سيما في سنّ الكبر والشيخوخة، أو المرض، أو الحاجة، قال الله تعالى قارنا بين الأمر بتوحيده وعبادته، وبر الوالدين:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٢ الى ٢٥]
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الإسراء: ١٧/ ٢٢- ٢٥].
خاطب الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم باعتباره نبي الإنسانية بقوله: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ..
والمراد: جميع الخلق، فلا تجعل أيها الإنسان المكلف شريكا مع الله تعالى في ألوهيته وعبادته، وأنما أفرد الله بالألوهية والعبادة، فلا إله غيره، ولا رب سواه، ولا معبود بحق إلا هو، فإن جعلت أيها الإنسان مع الله إلها آخر، كنت ملوما على الشرك، مذموما من الله وكل عاقل، مخذولا لا ينصرك ربك الذي خلقك، والذم من الله ومن ذوي العقول في أن يجعل الإنسان عودا أو حجرا أفضل من نفسه، ويخصّه بالتكريم، وينسب إليه الألوهية، ويشركه مع الله الذي خلقه ورزقه وأنعم عليه.
ولذا أمر الله تعالى، أي ألزم أو أوجب عليكم أيها البشر عبادة الله، والاقتصار على عبادته، دون إشراك غيره فيها، وأمركم أيضا ببر الوالدين والإحسان إليهما إحسانا تاما في المعاملة.
(١) غير منصور من الله.
(٢) حكم وألزم.
(٣) كلمة تضجر وكراهية.
(٤) لا تزجرهما عما لا يعجبك.
(٥) للتوابين.
1339
وإذا بلغ الوالدان أو أحدهما سن الكبر، أو صارا في حال ضعف وعجز، فعلى الولد واجبات خمسة، وهي:
أولا- ألا تقول لهما أفّ: وهي كلمة تضجر وتبرم، فلا تسمعهما أدنى مراتب القول السيئ، بتوجيه كلمة إيذاء مكونة من حرفين، تدل على التضجر والمضايقة فتلك الكلمة الصغيرة ذات إساءة بالغة، حتى ولو صدر منهما ما يضايق.
ثانيا- لا تنهرهما بفعل قبيح، والنّهر: الزجر والغلطة، والانتهار: إظهار الغضب في الصوت واللفظ، أما التأفف فهو الكلام الرديء الخفي، ويراد به المنع من إظهار الضجر، وأما الانتهار فيراد به المنع من إظهار المخالفة في القول، بالردّ أو التكذيب.
ثالثا- وقل لهما قولا كريما، والقول الكريم: الجامع للمحاسن، من اللّين وجودة المعنى، والتوقير والتعظيم والحياء، ويلاحظ أن الله تعالى قدم النهي عن المؤذي، ثم أمر بالقول الحسن والكلام الطيب.
رابعا- وتواضع لهما بفعلك، وألن الجانب لهما، وقف معهما موقف الخاشع المتذلل، كحال الطائر إذا ضم إليه فرخه، فيخفض له جناحه، وينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في حال ذلّة، في أقواله وسكناته ونظره، من غير حملة أو نظرة غاضب، رحمة بهما وشفقة عليهما، تنبع تلك الرحمة من النفس، لا من أجل امتثال الأمر، وخوف العار والنقد فقط.
خامسا واطلب لهما الرحمة من الله في حال الكبر بعد الوفاة. وهذا الأدب الخامس دليل على أن بر الوالدين لا يكون بالأقوال فقط، بل بالأفعال أيضا، وهو الدعاء لهما بالرحمة الجامعة لكل الخيرات في الدين والدنيا، وليقل الولد في دعائه:
رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي أفض عليهما فيض الرحمات، كالرحمة التي شملتني
1340
بتربيتهما لي في حال الصغر. وهذا التذكير بتربية الصغر مما يزيد الإنسان إشفاقا وحنانا عليهما.
ثم حذر الله تعالى من التهاون في بر الوالدين، فقال: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أي إن المطلوب من الولد هو البر ظاهرا وباطنا، حقيقة وفعلا، لا رياء ومجاملة ظاهرية، والعبرة بما في القلب من الإخلاص في الطاعة، لأن الله مطلع على ما في النفوس، وهو سبحانه أعلم بأحوال الولد في البر، والوعد للأولاد بغفران الذنوب في حال البر: مشروط بشرط الصلاح والرجوع (أو الأوبة) إلى طاعة الله، فإنه سبحانه كثير المغفرة للتائبين الراجعين إلى الخير، العادلين عن المعصية إلى الطاعة، وإلى ما يحبه الله ويرضاه، والمقصود من الآية: التحذير من ترك الإخلاص.
منهاج الإنفاق على القرابة والمحتاجين والأسرة
الإسلام دين التوسط والرحمة والاعتدال في النفقة على النفس والقريب والأهل والمحتاجين، فلا يصح البخل والتقتير، ولا الإسراف والتبذير، وليعتمد الإنسان على رزق الله الذي لا ينقطع ولا ينفد، وليتكل على الله الذي لا يضيع أحدا من خلقه وعباده، إذا أحسنوا العمل وقاموا بالكسب والسعي، ولم يعطلوا مواهبهم في الإنتاج والبحث واكتشاف خزائن الأرض، والإفادة من خيرات السماء، قال الله عز وجل مبينا دستور الإنفاق على القرابة والمحتاجين والأهل جميعا:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٦ الى ٣٠]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠)
1341
«١» «٢» «٣» «٤» [الإسراء: ١٧/ ٢٦- ٣٠].
نزلت الآيات في كل من كان يسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم من المساكين، وتأمره بالإنفاق من غير تقتير ولا بسط يد، فموضوعها الإحسان إلى ذوي القرابة والمساكين وأبناء السبيل، والاعتدال في الإنفاق من غير إقلال ولا إسراف.
ومطلع الآية الأولى: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وصية للناس كلهم بصلة قرابتهم، خوطب بذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد الأمة. وإيتاء حق القرابة: ما يتعين له من صلة الرحم، وسدّ الخلّة، والمواساة عند الحاجة بالمال، والمعونة بكل وجه. وعطف على القرابة: المسكين ومثله الفقير، وهما لا يجدان الكفاية، وابن السبيل وهو هنا يعم الغني والفقير، إذ لكل واحد منهما حق، وإن اختلفا في مدى العطاء، وابن السبيل في آية الصدقة أو الزكاة: أخص.
وتنهى الآية عن التبذير: وهو إنفاق المال في وجوه الفساد، أو الإسراف في المباحات، فالإسراف مذموم، والمطلوب: التوسط والاعتدال في الإنفاق، وهي سياسة الإسلام المالية والاجتماعية والدينية، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) [الفرقان: ٢٥/ ٦٧].
ثم نبّه الله تعالى على قبح التبذير، جاعلا المبذرين المنفقين أموالهم في المعاصي يشبهون الشياطين، فهم قرناء المبذرين في الدنيا والآخرة، في الصفة والفعل، وكان الشيطان لنعمة ربه جحودا لأنه أنكر نعمة الله عليه، ولم يعمل بطاعته، بل أقبل
(١) كناية عن الشح.
(٢) كناية عن التبذير والإسراف. [.....]
(٣) نادما.
(٤) يضيقه على من يشاء.
1342
على معصيته ومخالفته، والتبذير كما ذكرت: النفقة في معصية، لا في مباح، قال مجاهد: لو أنفق الإنسان ماله كله في حق لم يكن تبذيرا، ولو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا.
ثم أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية، إذا سأله أحد من المساكين وبني السبيل، فلم يجد عنده ما يعطيه، واستحى من التصريح بالرد بسبب الفقر والقلة، وأعرض عنه تأدبا منه، في أن يرده تصريحا، وانتظارا لرزق من الله تعالى يأتي، فيعطي منه، ويعده وعدا حسنا، ويؤنسه بالقول الميسور: وهو عقد الرجاء على فضل الله، والتأنيس بالميعاد الحسن، والدعاء بتوسعة الله تعالى وعطائه.
روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول كما ذكر القرطبي ١٠/ ٢٤٩ بعد نزول هذه الآية- إذا لم يكن عنده ما يعطي-: «يرزقنا الله وإياكم من فضله».
فالمراد من الرحمة في آية ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ: الرزق الحسن.
وسياسة الإنفاق من الأموال: هي القصد والاعتدال، فلا تجعل أيها النبي، وكل إنسان، يدك مغلولة إلى عنقك، أي تمسكها عن الإنفاق، وتبخل على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات، ولا تسرف ولا تتوسع في الإنفاق توسعا مفرطا، فتعطي فوق طاقتك، فتقع في الملامة والحسرة والندم، حين لا تجد في يدك شيئا.
ثم أبان الله تعالى منهاج المدد الإلهي ورزق العباد، مخاطبا رسوله: كن أنت يا محمد على ما رسم لك من الاقتصاد والاعتدال، ولا يهمنك فقر من تراه فقيرا، فإنه بمرأى من الله وبمسمع وبمشيئة، فإنه تعالى يبسط الرزق لمن يشاء، ويضيّقه (يقدر) على من يشاء، ويغني من يشاء، ويفقر من يشاء، لما له من الحكمة في ذلك، يعلم مصلحة قوم في الفقر، ويعلم مصلحة آخرين في الغنى.
1343
يوضح ذلك ما
جاء في الحديث الذي ذكره السيوطي في الجامع الكبير «١» :«إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته، لأفسدت عليه دينه»
فقد يكون الغنى استدراجا إلى النار، والفقر عقوبة، وقد يكون المؤمن الصالح فقيرا، فليس تضييق الرزق على بعض الناس لسوء حالهم عند الله تعالى، ولا الإمداد والتوسعة على آخرين لحسن حالهم.
تحريم القتل والزنى وأكل مال اليتيم
لقد صان القرآن الكريم حق الحياة العزيزة الكريمة، من أجل بقاء النوع الإنساني الطاهر النظيف، وجعل الاعتداء على الأولاد والأنفس جريمة، ووأد البنات عارا ورذيلة، ووصف العلاقات غير المشروعة بأنها فاحشة وسبيل سيئ، وطريق محفوف بالمخاطر والعواقب الوخيمة، وجعل أكل أموال اليتامى ظلما وعدوانا، والوفاء بالعهد أو العقد فضيلة ومحل مسئولية ومطالبة، قال الله تعالى مبينا هذه القواعد:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٣١ الى ٣٤]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤)
«٢» «٣» «٤» «٥» [الإسراء: ١٧/ ٣١- ٣٤].
(١) وهو المسانيد ٢/ ٢٦٧.
(٢) خوف فقر.
(٣) إثما عظيما.
(٤) تسلطا على القاتل بطلب القصاص أو الدية.
(٥) قوته على حفظ ماله.
1344
نهى الله تعالى في هذه الآيات عن ثلاثة أشياء: وهي القتل إلا بالحق، والزنا، وقربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وابتدأ الله تعالى بالنهي عن قتل الأولاد، وهو وأد البنات في قوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) [التكوير: ٨١/ ٨] يقال: كان جهل بعض العرب يبلغ أن يعز واحد منهم كلبه ويقتل ولده. نهى القرآن عن الوأد الذي كانت العرب تفعله، خشية الإملاق (أي الفقر وعدم المال) فإن رازق الأولاد وآباءهم هو الله تعالى، وقتلهم إثم عظيم وذنب كبير، وهذا دليل على أن تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده، لأنه نهى عن قتل الأولاد.
جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود: «قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندّا، وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك».
ثم حرم الله الزنا «١» وحذّر من الاقتراب منه ومن تعاطي أسبابه ودواعيه، لأن تعاطي الأسباب مؤد إليه، والزنا فعلة فاحشة شديدة القبح، وذنب عظيم كقتل الأولاد، وساء طريقا ومسلكا، لأن فيه هتك الأعراض، واختلاط الأنساب، واقتحام الحرمات، والاعتداء على حقوق الآخرين، وتفويض دعائم المجتمع بهدم الأسرة، ونشر الفوضى، وانتشار الأمراض الفتاكة، والوقوع في الفقر والذل والهوان.
ثم حرم الله تعالى قتل النفس المعصومة المصونة إلا إذا وجد حق أو مسوغ للقتل، وهو أي الحق ما فسّره
النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «لا يحلّ دم المسلم إلا إحدى ثلاث خصال: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس أخرى».
فالقتل بغير حق جريمة عظمي، لأنه اعتداء على حق الحياة، وإفساد، والله تعالى لا يحب الفساد.
(١) قال ابن عطية: الزنى يمدّ ويقصر، والقصر لغة جميع كتاب الله تعالى.
1345
ومن قتل ظلما وعدوانا بغير حق يوجب قتله، فقد جعل الله لمن يلي أمره من قريب كأب أو أخ، أو سلطان حاكم عند عدم وجود القريب الوارث، سلطة على القاتل، فيختار أحد أمرين: إما القصاص بعد إصدار حكم قضائي وبإشراف القاضي، وإما العفو عنه على الدية أو مجانا، والسلطة لولي الدم مقيدة بألا يسرف في القتل، بأن يمثّل بالمقتول، أو يقتل غير القاتل، أو يقتل أكثر من واحد من قبيلة القاتل، ووعد الله قريب القتيل بالعون والنصر على القاتل، فلا يسرف في القتل، فإن الله تعالى أوجب له القصاص، ويعوضه الله خيرا في الدنيا والآخرة بتكفير الخطايا، وتعذيب القاتل في النار. ويكون الأولى ترك القصاص، وأخذ الدية أو العفو مجانا.
ثم حرم الله تعالى أكل مال اليتيم، أو إتلافه، فلا يجوز الاقتراب من مال اليتيم إلا لفائدة أو مصلحة، وهي الطريقة الحسنة بحفظ ماله وتثميره، وتنميته والأكل منه حال الفقر أو الحاجة، حتى يبلغ رشيدا، ويبلغ أشده، أي يبلغ مبلغ الرجال، وحينئذ يسلّم له ماله. وهذا خطاب للأوصياء المشرفين على أموال اليتامى. والمراد من قوله تعالى: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: إلا بأحسن الحالات.
وانتهت الآية بالأمر بالوفاء بالعهد، وهو لفظ عام يشمل كل عهد ووعد وعقد بين الإنسان وربه، أو بينه وبين المخلوقين في طاعة، فالوفاء بالعهد وتنفيذ شروط العقد من الإيمان، وإن تنفيذ العهد مطلوب ممن عوهد أو عهد إليه، هل وفّى به أم لا؟
إن الوفاء بالعهد أو العقد: معناه تنفيذ مقتضاه، والحفاظ عليه على الوجه الشرعي، وبحسب التراضي الذي لا يصادم أصول الشرع، خلافا لمن يتهاون بالعقود ويتخلص منها وينقضها إذا تبدل وجه المصلحة، فذلك ذنب عظيم وجرم كبير، يتساهل به من لا دين له ولا خلق ولا كرامة.
1346
إيفاء الكيل والميزان والتثبت من المعلومات والتواضع
نظّم الله تعالى العلاقات الاجتماعية المالية، على أساس من الحق والعدل، والثقة والأمانة، وصحة المعلومات والبيانات، والتواضع في القول والكلام والفعل، حتى لا تنشأ مشكلات، أو تثار منازعات وخصومات، ولا يفتئت أحد على حقوق الآخرين، ولا يلحق به ضررا أو شرا، في معارفه، أو أخلاقه، وكرامته. وتلك أصول الحياة السوية، وميزان المبادلات والمعاملات الصحيحة، قال الله تعالى موضحا هذه الأصول:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٣٥ الى ٣٩]
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩)
«٢» «٣» «٤» «٥» [الإسراء: ١٧/ ٣٥- ٣٩].
بعد أن أمر الله تعالى بالوفاء بالعهود والعقود والشروط الصحيحة، أمر بثلاثة أشياء أخرى، هي الوفاء بالحق، والصدق في القول، والتواضع وترك التكبر.
أمر الله تعالى في هذه الآية أهل التجارة والوزن والكيل أن يعطوا الحق في كيلهم ووزنهم، فيجب إتمام الكيل وإتمام الوزن، من غير نقص، وأخذ الحق بالعدل دون جور أو زيادة، فإذا كال التاجر أو وزن لغيره، فلا ينقص المكيال والميزان، وإذا كال الإنسان لنفسه أو وزن فلا يزيد في الكيل أو الوزن، ولا مانع حينئذ من النقص عن الحق، فإن عاقبة العدل في الكيل والوزن خير للناس في الدين والدنيا في المعاش
(١) أي الميزان السويّ العادل كالقبّان وغيره من الموازين الصغيرة أو الكبيرة. وقيل: القسطاس: العدل.
(٢) أي مآلا وعاقبة.
(٣) لا تتبع.
(٤) بطرا واختيالا.
(٥) مبعدا من رحمة الله.
1347
والمعاد، وأحسن وأجدى مآلا وعاقبة في الآخرة، فلا يكون هناك اتهام بالخيانة أو مؤاخذة أو عقوبة يوم القيامة. ويرغب الناس في معاملة أهل العدل والإنصاف، ويثنون عليهم، فتكثر زبائنهم، وتصير سمعتهم طيبة، ويقبل الناس عليهم، وذلك أفضل من نقص لا يبارك الله فيه، أو زيادة ظالمة لا خير فيها، والغرض من الكيل والوزن: تحرّي الحق، ولا يضر التطفيف الشاذ أو اليسير، أو غير المقصود، فذلك لا إثم فيه.
ثم أمر الله تعالى بالتثبيت من المعلومات والأخبار والأحاديث، ونهى أن يقول الإنسان شيئا غير صحيح أو غير ثابت، أو يتتبع شيئا معتمدا على مجرد التخمين وسوء الظن، فهذا عيب في السلوك، وتشوية للحقائق، وإضرار بالآخرين عن غير حق، وإهدار لقدسية العلم والمعرفة والحقيقة. فيكون المراد من قوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ألا يحكم الإنسان على الأشياء حكما غير صحيح، أو يعتمد على معلومات لا دليل عليها. وهذا يشمل المشركين الذين يعتقدون اعتقادا فاسدا في الإله أو النبي أو الآباء والأجداد، ويتبعون الهوى. ويشمل أيضا شهادة الزور وقول الزور، وقذف المحصنات (العفائف) بالأكاذيب والاتهامات الباطلة، والطعن في الآخرين بسوء الظن وتتبع العورات، وتزييف الحقائق العلمية والأخبار وغير ذلك، فلا يقول الإنسان ما لا يعلم أو يعمل بما لا علم له به، أو يذم أحدا بما لا يعلم الحق فيه.
ومن أجل كل ذلك وصحة المعلومات والمعارف، جعل الله تعالى مفاتيح العلوم والمعارف من السمع والبصر والقلب، يسأل عنها صاحبها يوم القيامة، وتسأل عنه، فإذا سمع الإنسان حراما أو أبصره أو قرره في قلبه، كان مسئولا عنه معاقبا عليه.
ثم أمر الله تعالى بالتواضع وحرّم الكبر والخيلاء أو التبختر في المشي، فمن مشى
1348
متكبرا متعاظما، فإنه لن يستطيع خرق الأرض أو نقبها بقدمه، ومن تطاول على الناس لن يصل بتطاوله وتمايله وتفاخره إلى قمم الجبال، وهذا تهكم بالمتكبر والمختال.
كل ما تقدم من الخصال المكروهة القبيحة المفهومة من أضداد الأوامر، واقتراف النواهي، كان قبيحه وخبيثه مكروها ومبغوضا عند ربك، ومنهيا عنه، ومعاقبا عليه.
وكل ذلك الذي أمرناك به يا محمد من الأخلاق الحميدة، ونهيناك عنه من الخصال الرذيلة، هو مما أوحينا إليك من الأفعال والأصول المحكمة التي تقتضيها حكمة الله تبارك وتعالى في عباده، وخلقه لهم محاسن الأخلاق. وقوله تعالى: مِنَ الْحِكْمَةِ هي قوانين المعاني المحكمة والأفعال الفاضلة.
ولا تتخذ أيها النبي وكل من سمع من البشر إلها آخر شريكا مع الله، فتلقى في جهنم، ملوما من نفسك وربّك والخلق قاطبة في الآخرة، مطرودا مبعدا من رحمة الله تعالى ومن كل خير، والمدحور: المهان المبعد. وهذا غاية الإذلال والإهانة.
نسبة الولد والشريك لله تعالى
ليس هناك في تاريخ البشرية أعظم فرية ومنكرا وكذبا من نسبة الولد والشريك لله عز وجل، فقد تجاوز الناس حدودهم، وأفرطوا في الزعم والوهم، وحكموا حكما باطلا لا يستند إلى أي دليل أو شبهة دليل، سوى ما قاسوه على أنفسهم، ولم يدركوا حقيقة الفرق الكبير والبون الشاسع بين الإنسان المخلوق العاجز المحتاج إلى الولد والصاحبة والمشارك، وبين الإله القادر الخالق المستغني عن الصاحبة والولد والشريك، قال الله سبحانه مبطلا هذه الافتراءات:
1349

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٠ الى ٤٤]

أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الإسراء: ١٧/ ٤٠- ٤٤].
هذه الآيات تنبيه وتقريع على ما تصوّره المشركون من نسبة الولد أو البنات أو الشريك لله تعالى، والآية الأولى: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ خطاب للعرب التي كانت تقول: الملائكة بنات الله، وكان الرد مفحما ومنطقيا في غاية البساطة: كيف تقبلون أيها المشركون هذه النسبة، لكم الأعلى من النسل وهم الذكور، ولله البنات؟! كيف يصح أن يجعلكم الله أصحاب الصفوة بإعطاء البنين، ويتخذ لنفسه الملائكة إناثا، وأنتم تئدون البنات ولا ترضونهن لأنفسكم، فكيف ترضون نسبتهن إلى الله؟ إنكم بهذا تقولون على الله قولا عظيما إثمه، ومعاقبا عليه، بنسبة الضعيف للقوي، والقوي للضعيف.
ولقد بينا في هذا القرآن الحجج والبينات، وحذرنا وأنذرنا ليتعظوا وينزجروا عن الافتراء والظلم، وهم في غاية الغرابة، ما يزيدهم التذكير إلا نفورا عن الحق، وبعدا عنه.
ثم أبطل الله تعالى افتراء آخر: وهو نسبة الشريك لله، والمعنى: قل لهم يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يجعلون لله شريكا في الألوهية: لو كان الأمر كما تقولون، لاحتاج هؤلاء الشركاء إلى التقرب إلى الله، وطلبوا من ذي العرش القربة إليه بطاعته
(١) أفخصكم ربكم. [.....]
(٢) كررنا القول بأساليب مختلفة.
(٣) تباعدا عن الحق.
(٤) لطلبوا.
(٥) سبحانه: مصدر لفعل متروك إظهاره، بمعنى التنزيه، وموضعه هنا موضع: تنزه.
1350
للحاجة إليه، فاعبدوا الله وحده، كما يعبده هؤلاء الشركاء المحتاجون لإنقاذ أنفسهم وسلامة وجودهم، لأنهم ضعفاء فقراء إلى ربهم.
تنزه الله، وتعاظم وعلا علوا شاسعا عما يقول هؤلاء المشركون المعتدون، الزاعمون أن مع الله آلهة أخرى، بل هو الله الإله الواحد، الذي لم يتخذ شريكا ولا صاحبة ولا ولدا.
تقدسه وتنزهه السماوات السبع والأرض ومن فيهن من المخلوقات، عما يقول هؤلاء المشركون، ويشهدون له بالوحدانية في الربوبية والألوهية، وما من شيء إلا يسبّح بحمد الله تعالى، أي يشهد ويدل بخلقه من غيره على وجود الخالق الواحد، وينزه الله ويمجّده عن هذه المقالة التي لكم، والإشراك الذي تعتقدون به. والتسبيح من الناس: هو قولهم: سبحان الله، وهذا حقيقة، ومن الجمادات ونحوها: معناه الدلالة على تنزيه الله عز وجل، فكل شيء تبدو فيه صنعة الصانع الدالة عليه، وهذا مجاز، فتدعو رؤية ذلك إلى التسبيح من المعتبر المتعظ. وقال جماعة: هذا التسبيح من الشجر والجمادات حقيقة، ولكن لا يسمعه البشر ولا يفهمونه.
ولكن لا تفهمون أيها البشر معاني تسبيحهم لأنه بخلاف لغاتكم. إن الله تعالى كان وما يزال حليما على الناس، لا يعاجل بالعقوبة من عصاه، وإنما يمهل ويؤجل، ويغفر لمن تاب منكم. وهذا فضل من الله وإحسان.
فإذا كانت الأكوان كلها من السماوات والأرض وما فيها من المخلوقات تسبح الله وتنزهه، إقرارا بوجوده وتوحيده، فإن البشر أولى بمداومة التسبيح والتنزيه، فعليهم الإذعان لعظمة الله واعتقاد وحدانيته، والتفرغ لعبادته، من غير أي لوثة في الاعتقاد، أو تأثر بصنع المشركين.
إن الشرك، أي إسناد وجود شريك لله هو دليل القصور والتخلف العقلي،
1351
وسيطرة الخرافة والوهم على الذهن البشري، فأجدر به أن يصحو من غفلته، ويستيقظ من جهله وسباته العميق.
أخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن نوحا عليه السلام، لما حضرته الوفاة، قال لابنيه: آمركما بسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق كل شيء».
وعلى الإنسان أن ينتهز الفرصة قبل فوات الأوان، وأن يعلم أن الله حليم عن ذنوب عباده، كثير المغفرة للمؤمنين في الآخرة إذا تابوا وأنابوا إليه.
حماية النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأذى
تعددت ألوان الأذى من الكفرة أهل مكة التي ارتكبوها في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلم تقتصر مؤذياتهم على شخصه وصدّ الناس عن دعوته، وإنما كانوا يؤذونه في أخص أحواله الشخصية، في وقت قراءته القرآن وصلاته في المسجد الحرام، ولكن الله تعالى حماه من كيدهم وضررهم، وأنقذه في أحيان كثيرة من إصابته بسوء، أو النجاح في ثنية عن رسالته وتبليغ وحي ربه، ولننظر إلى آي القرآن تحدثنا عن بعض هذه المؤذيات، قال الله سبحانه:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥»
(١) أي ساترا لك عنهم، فلا يرونك، ولا يبصرون ببصائرهم نور القرآن وهدايته.
(٢) أغطية، مفردها كنان.
(٣) أي كراهة أن يفقهوا القرآن.
(٤) صمما وثقلا في السمع.
(٥) متناجون في أمرك فيما بينهم.
1352
«١» [الإسراء: ١٧/ ٤٥- ٤٨].
أخرج ابن المنذر عن ابن شهاب الزهري قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تلا القرآن على مشركي قريش، ودعاهم إلى الكتاب، قالوا يهزؤون به: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: ٤١/ ٥]. فأنزل الله في ذلك من قولهم: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ الآيات.
وآية وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ قيل: نزلت حينما دخل ملأ قريش على أبي طالب يزورونه، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقرأ ومرّ بالتوحيد، ثم قال: «يا معشر قريش قولوا: لا إله إلا الله، تملكون بها العرب، وتدين لكم العجم، فولّوا» فنزلت هذه الآية.
والمعنى: أن الله تعالى أخبر نبيه صلّى الله عليه وسلّم أنه يحميه من مشركي مكة الذين كانوا يؤذونه، في وقت قراءته القرآن وصلاته في المسجد الحرام، ويريدون مدّ اليد إليه، فلا تخف أيها النبي، فإنك إذا قرأت القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدقون بالآخرة، جعلنا بينك وبينهم حجابا مستورا، أي حائلا حاجزا، يمنع قلوبهم من فهم القرآن وتدبر آياته، ومستورا على أعين الخلق، فلا يدركه أحد برؤية كسائر الحجب بقدرة الله وكفايته.
وجعلنا على قلوبهم أغطية، بحيث لا يتسرب إليها فهم مدارك القرآن ومعرفة أسراره وغاياته، وجعلنا في آذانهم ثقلا، أو صمما يمنع من سماع الصوت، وهذه كلها استعارات للإضلال الذي حفّهم الله به، فعبّر عن كثرة ذلك وعظمه بأنهم بمثابة من غطّي قلبه، وصمّت أذنه، والإضلال بسبب الضلال الذي سلكوه، وساروا في فلكه بغيا وعنادا.
(١) مغلوبا على عقله بالسحر.
1353
وإذا وحدّت الله في تلاوتك آيات القرآن، وقلت: لا إله إلا الله، ولم تقل:
واللات والعزّى، ولّوا على أدبارهم نفورا، أي رجعوا على أدبارهم نافرين نفورا، تكبّرا من ذكر الله وحده، لإدمانهم على الشرك وعبادة الأوثان، فهذه الآية تصف حال الفارّين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في وقت توحيده في قراءته القرآن. وهذا أولى المعاني وأوفق للفظ.
نحن يا محمد أعلم بالنحو الذي يستمعون به آيات القرآن، حين يستمعون إليه هزءا واستخفافا وإعراضا، ونحن أعلم بما يتناجى به كفار قريش ويتسارّون حين وصفوك بأنك رجل مسحور أو مجنون أو كاهن، أي كأنه قال: نعم نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به، أي هو ملازمهم، يفضح الله بهذه الآية سرهم.
وقوله تعالى: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً الظاهر فيه أن يكون من السحر، فشبّهوا الخبال الذي عنده، بزعمهم وأقوالهم الوخيمة برأيهم، بما يكون من المسحور الذي قد خبّل السحر عقله، وأفسد كلامهم.
تأمل يا محمد، كيف مثلّوا لك الأمثال، وأعطوك الأشباه، وضربوا لك المثل وهو قولهم: مسحور، ساحر، مجنون، متكهّن لأنه لم يكن عندهم متيقّنا بأحد هذه، فإنما كانت منهم على جهة التشبيه، فحادوا عن سواء السبيل، ووقعوا في الضلال، وحكم الله تعالى عليهم به، فصاروا لا يستطيعون سبيلا إلى الهدى والنظر المؤدّي إلى الإيمان، ولا إلى إفساد أمرك وإطفاء نور الله، بضربهم الأمثال لك. وهنا وعيد لهم وتسرية وإيناس لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
حكى الطبري: أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه. فقد رأى الوليد أن أقرب الأمور على تخيل الطارئين عليهم: هو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ساحر، كذبوا ورب الكعبة وضلوا ضلالا مبينا.
1354
إنكار المشركين البعث
كانت عقائد المشركين كفار مكة فاسدة ملوثة، منها نسبة الشريك والولد والصاحبة لله، عز وجل، تشبيها لله بمخلوقاته، ومنها إنكار البعث أو اليوم الآخر، تأثرا بالنزعة المادية، وتصورهم أن المادة إذا صارت فانية كالتراب، لا تحتمل العودة إلى الحياة، وبسبب نقص إدراكهم لقدرة الله الخارقة، وتمكنّه من إحياء الأشياء بمجرد الأمر الإلهي التكويني: كُنْ. وتحكي لنا هذه الآيات إنكارهم للبعث، واستغرابهم حدوثه لضعف عقولهم، قال الله تعالى:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٩ الى ٥٢]
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢)
«١» «٢» «٣» «٤» [الإسراء: ١٧/ ٤٩- ٥٢].
تصوّر هذه الآيات شبهة المشركين الماديين الوثنيين في إنكار البعث أو القيامة، ويرد الله عليهم ردا مفحما فيه غاية التحدي، فهم يقولون على جهة التعجب والإنكار، والاستبعاد حين سماع القرآن تقرير أمر المعاد: أءذا كنا عظاما بالية في قبورنا، ورفاتا، أي أشياء مرّ عليها الزمن، حتى بلغت غاية البلى، وصارت أقرب شبها بالتراب أو الغبار، أءنا لمبعوثون عائدون يوم القيامة خلقا جديدا، بعد ما بلينا وصرنا عدما لا نذكر؟! وترددت آيات القرآن في هذا المعنى المحكي عن المشركين، مثل: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) [النازعات: ٧٩/ ١٠- ١٢].
(١) أجزاء مفتتة أو ترابا.
(٢) يعظم عن قبول الحياة كالسماوات.
(٣) خلقكم وأبدعكم.
(٤) أي سيحركونها تعجبا واستهزاء. [.....]
1355
ومثل آية: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) [يس: ٣٦/ ٧٨- ٧٩].
أجابهم الحق سبحانه آمرا نبيه أن يقول لهم: إن إعادة الميت إلى الحياة أمر سهل يسير، وهو في تصور البشر وعقولهم أهون على الله من الخلق أول مرة بحسب عقولنا، أما بالنسبة لقدرة الله، فلا فرق في الحالين لأن الله القادر على الخلق بإيجاد الروح في الأشياء الجامدة، قادر على الإعادة والتكوين، فالعبرة إذن بالقدرة الإلهية.
ولو فرض أنكم أيها المشركون كأشد الأشياء صلابة من حجارة أو حديد، فإن الله قادر على إحيائه، ونفح الروح فيه، فيصير حيا متحركا، لأن الله قادر على إيجاد كل الممكنات، وإحياء الأشياء المادية، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
وهذا على سبيل المبالغة، وربط الأشياء بأقصى التصورات في الدلالة على قدرة الله على الإحياء والإعادة.
وبعبارة أخرى: قل لهم يا محمد: كونوا إن استطعتم هذه الأشياء الصعبة الممتنعة التأتّي في تصوركم، فلا بد من بعثكم. وفعل (كونوا) هنا هو الذي يسميه المتكلمون:
التعجيز، والأدق أن يقال: كونوا بالتوهّم، والتقدير كذا وكذا.
وبعد أن استبعد المشركون الإعادة من جديد، استبعدوا حدوثها ولم يؤمنوا بالقادر على الإحداث، قائلين: من يعيدنا إلى الحياة إذا كنا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر شديدا، مما يكبر أو يعظم في صدوركم وعقولكم كالسماء والأرض، فالله قادر على بعثه وإحيائه من جديد، والباعث أو الخالق: هو الذي فطركم، أي أوجدكم وخلقكم أول مرة، فهو قادر على إعادتكم وإحيائكم للبعث والجزاء والحساب.
ثم إن المشركين بعد هذا يحركون رؤوسهم تعجبا واستهزاء وتكذيبا، ويقولون:
1356
متى هذا البعث والإعادة، كما في آية أخرى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) [الملك: ٦٧/ ٢٥].
قل أيها النبي لهم: عسى أن يكون وقت البعث قريبا، فإنه سيأتيكم لا محالة، فكل ما هو آت قريب، كما قال الله سبحانه: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) [المعارج: ٧٠/ ٦- ٧].
ويكون ذلك البعث الحتمي يوم يدعوكم الرب تبارك وتعالى من قبوركم بالنفخ في الصور لقيام الساعة، فتستجيبون له من القبور، حامدين طائعين، منقادين بالقيام والعودة والنهوض نحو الدعوة والداعي، إجابة لأمره سبحانه، وطاعة لإرادته، وتحسبون عند البعث أنكم ما لبثتم في الدنيا إلا زمنا قليلا، فقوله تعالى:
فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ معناه: بأمره، كما قال ابن عباس وابن جريج، وقال قتادة: بطاعته ومعرفته. وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث. والواقع أن المراد من الحمد هنا: هو إعلان الحمد على صدق الحادث وهو القيامة، أي تقومون من القبور، بخلاف ما تعتقدون الآن، وذلك بحمد الله تعالى على صدق خبره وإعلامه نبيه بوجود البعث.
الأسلوب الأفضل في الجدال
المسلمون أصحاب حق، ودعوة سامية، ورسالة شاملة للبشرية جمعاء، وهذا يقتضيهم أن يسعوا الناس بأخلاقهم اللطيفة، وأقوالهم الحسنة، ومعاملاتهم الطيبة لأن من شأن الداعية الناجح أن يكون على جانب عظيم من الحلم والعلم واللين واللطف، ولأن للكلمة الطيبة جاذبية وسحرا يؤثران في القلوب، فإذا انضم إلى ذلك الفكر الصحيح، والعقل السديد، والرأي الحكيم، أدّى إلى إقناع المخاطب، وتحقّق
1357
الهدف من النصح وهو الانضمام لراية التوحيد والقرآن المجيد، قال الله تعالى مبينا أسلوب الخطاب مع المخالفين:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٣ الى ٥٥]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥)
«١» «٢» «٣» [الإسراء: ١٧/ ٥٣- ٥٥].
روي أن المشركين أفرطوا في إيذائهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت الآية: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ،
وروي أن عمر بن الخطاب شتمه بعض الكفرة، فسبّه عمر وهم بقتله، فكاد أن يثير فتنة، فنزلت الآية:
يأمر الله تعالى رسوله بأن يبلّغ عباد الله المؤمنين: أن يقولوا في مخاطبات المخالفين من المشركين وغيرهم أثناء حوارهم الكلام الأحسن. والتي هي أحسن: هي المحاورة الحسنة، والكلمة الطيبة: وهي التي لا تختلط بالشتم والسب والأذى، كما جاء في آيات أخرى، مثل: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: ١٦/ ١٢٥]. ومثل: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: ٢٩/ ٤٦]. والآية هي ما بين العباد المؤمنين وكفار مكة وأمثالهم.
فيكون المطلوب إلانة القول، وحسن الأدب، وخفض الجناح لأن الشيطان يؤجج نيران النزاع، ويثير الفتنة والشر، ويوقع الخصام، ويغري بالمقاتلة، فلا يتحقق المطلوب، وتخيب المساعي، وتقع العداوة، وهو المراد بنزغ الشيطان
(١) جواب لفعل مقدر وهو ((قولوا)) أي قل لعبادي: قولوا التي هي أحس، يقولوها. أو ((إنك إن تقل لهم: يقولوا)) على مذهب سيبويه، أنها جواب شرط مقدر.
(٢) يفسد ويهيج الشر.
(٣) كتابا فيه أذكار ومواعظ.
1358
للإنسان، وسبب ذلك: أن الشيطان عدو ظاهر العداوة للإنسان، منذ القديم. ومعنى النزغ: حركة الشيطان بسرعة، ليوجب فسادا.
وعلة الأمر باتباع الطريق الأحسن والمحاورة الحسنة في منهاج الدعوة الذي رسمه الله: هو أن ربكم أيها الناس أعلم بمن يستحق منكم الهداية والتوفيق للإيمان ومن لا يستحق، فإن شاء رحمكم فأنقذكم من الضلالة، ووفقكم للطاعة والإنابة إليه، وإن شاء عذبكم، فلا يهديكم للإيمان، فتموتوا على الشرك. فكأن الله عز وجل أمر المؤمنين ألا يخاشنوا الكفار في الدين، ثم قال للكفار: إنه أعلم بهم، ورجّاهم وخوّفهم. ومعنى: إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ إن يرد الله يرحمكم بالتوبة من الكفر. وهذه الآية تقوّي أن الآية التي قبلها هي ما بين العباد المؤمنين وكفار مكة.
ثم قال الله لنبيه: فإنما عليك البلاغ، ولست بوكيل على إيمانهم، ولا بد، وإنك غير موكل بأمرهم، وليس لك السلطة في حسابهم على أعمالهم، وإنما عليك الإنذار والتبشير فقط، وترك النتائج لله تعالى، فتلطف في دعوتهم، ولا تغلظ عليهم، ودارهم.
وقال الله أيضا لنبيه: وربك أعلم بجميع من في السماوات والأرض، وهو الذي فضّل بعض الأنبياء على بعض، بحسب علمه فيهم، والتفضيل بحسب المزايا والكتب والخصائص، كاتخاذ إبراهيم عليه السلام خليلا، وموسى عليه السلام كليما، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين، وآتى الله داود عليه السلام كتاب الزبور. وهذا بالمعنى المراد تعريض بقريش، أي لا تنكروا أمر محمد، وأنه أوتي قرآنا، فقد فضّل النبيون، وكان لكل نبي فضيلة، فموسى أعطي التكليم، وعيسى: الإحياء، وإبراهيم: الخلّة (خليل الله)، ومحمد القرآن وختم النبوات، وداود: أوتي الزبور، فالله أعلم حيث يجعل رسالاته. ونظير الآية: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة: ٢/ ٢٥٣].
1359
وآية: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً تنبيه على فضل الزبور وشرفه. وفي الآية إشارة إلى تفضيل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جميع الأنبياء والمرسلين بالقرآن الكريم، وبالإسراء والمعراج، ثم بعده إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى عليهم الصلاة والسلام.
ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء، وأن الخمسة أولي العزم منهم أفضلهم: وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام. ومزية هؤلاء الرسل: أنهم أصحاب رسالات كبري ومزايا عظيمة. وقوله سبحانه: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يقتضي حصر علم الله بهذا، وإنما يعلم الله بذلك وبغيره، وتكون الباء في (بمن) متعلقة بفعل تقديره: علم بمن في السماوات، لأنه لو علّق ب (أعلم) لاقتضى أنه ليس بأعلم بغير ذلك. ونظير هذا قولك: زيد أعلم بالنحو، لا يدل هذا على أنه ليس أعلم بغير النحو من العلوم.
عبدة البشر والأوثان والملائكة
يتدنى العقل الإنساني أحيانا فيعظّم البشر ويقدسه، أو يعبد الوثن ويؤلهه، وكلا الفريقين ليسوا عقلاء، لأن أبسط مبادئ الفكر والعقل أن يكون الإله من غير جنس المخلوقات، ويتميز بصفات تفوق قدرات البشر، ومن أهم هذه الصفات: الخلق والإبداع، والقدرة النافذة على جلب الخير ودفع الضر والشر، وإذا كان المعبود خاليا من هذه الصفات ونحوها لم يستحق جعله إلها، ولا اتخاذه ربا يعبد، ولكن مع الأسف وجد في الدنيا من يعبد البشر أو يعبد الأوثان أو يعبد الملائكة، وهذا ما دوّنه القرآن في هذه الآيات الكريمة:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٦ الى ٥٨]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨)
«١»
(١) نقلا لغيركم.
1360
«١» [الإسراء: ١٧/ ٥٦- ٥٨].
أخرج البخاري وغيره عن ابن مسعود قال: كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن، فأسلم الجنّيون، واستمسك الآخرون بعبادتهم، فأنزل الله: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ.. الآية.
وعلى الرغم من هذه الرواية، اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هي في عبدة العزير والمسيح وأمه ونحوهم. وقال ابن عباس أيضا وابن مسعود: هي في عبدة الأوثان والقمر والكواكب وعزير والمسيح وأمه، وأي ذلك كان. وقال ابن عباس أيضا وابن مسعود: هي في عبدة الملائكة.
وقال ابن مسعود أيضا: هي في عبادة شياطين كانوا في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأسلم أولئك الشياطين، وبقي عبدتهم يعبدونهم، فنزلت الآية في ذلك.
وفي الجملة: هذه الآيات في عبادة غير الله عز وجل، والمعنى: قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله: ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله، كالأصنام وغيرها، هل يجيبونكم؟ واطلبوا منهم كشف الضرّ عنكم: من فقر ومرض وقحط وغير ذلك! وانتظروا هل يستطيعون كشف الضر عنكم، أو تحويله أو تبديله من مكان لغيره، أو من واحد إلى آخر؟ إنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فلا يقدرون على ذلك لغيرهم. وإنما الذي يقدر عليه: هو الله وحده لا شريك له، الذي له الخلق والأمر. أولئك المعبودون من دون الله يطلبون التقرب إلى الله، والتزلف إليه، بالعبادات والطاعات، وهذه حقيقة حالهم، إنهم يبتغون الوسيلة إلى الله وهي
(١) القربة بالطاعة والعبادة.
1361
القربة وسبب الوصول إلى البغية، ويطلب من هو أقرب منهم الوسيلة إلى الله تعالى، فكيف بغير الأقرب؟ فكل من الكفار العابدين والمعبودين ينتظرون أن يكونوا أيهم أقرب، ويرجون رحمة ربهم، ويخافون عذابه، فلا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء، فبالخوف يبتعد الإنسان عن المعاصي، وبالرجاء يكثر من الطاعات، وعلة الخوف من العذاب: أن عذاب ربك كان مخوفا لا أمان لأحد منه، فينبغي أن يحذره جميع العباد من الملائكة والأنبياء وغيرهم، فكيف أنتم؟
ثم أخبر الله تعالى بخبر عام قهر جميع الخلائق بواسطة ألا وهي الموت والهلاك، ففي قول الله تعالى: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ... أخبر الله تعالى في هذه الآية: أنه ليس مدينة من المدن إلا هي هالكة قبل يوم القيامة بالموت والفناء، وأخذها جزءا جزءا. وقيل: المراد: كل مدينة ظالمة فهي مهلكة، أو معذبة عذابا شديدا بقتل أو ابتلاء، لا ظلما، وإنما بسبب ذنوب أهلها وظلمهم، كان ذلك الحكم حكما عاما، ثابتا، مدوّنا في علم الله أو في اللوح المحفوظ،
أخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: ما أكتب؟ قال: اكتب المقدّر، وما هو كائن إلى يوم القيامة».
وعلى أي حال، سواء كان التهديد بالإهلاك لكل قرية أو أهلها عموما، أو قرية ظالمة، فإن الخطر ينتظر الجميع، والمسؤولية والجزاء يعمان الكل، وهذا كاف في تخويف الناس وحملهم على التزام الطاعة، والبعد عن المنكر والمعصية، لأن من علم أنه مسئول ومعرّض للعقاب، اقتصد في إسرافه في المعاصي، وأقبل على ساحات الطاعة، حتى ينجو من العذاب الأليم. والهلاك الدنيوي إما أن يكون بسبب القحط والخسف غرقا، وإما بالاقتتال بالفتن أو بهما معا، وصور الهلاك كثيرة لا يعلمها
1362
إلا الله تعالى، فأما الإهلاك بالفتنة، فبسبب الظلم من كفر، أو معاص، أو تقصير في دفاع، وأما القحط أو الخسف فيصيب الله به من يشاء، كما نلاحظ في كل زمان ومكان.
طلب الآيات التعجيزية
إن الإصرار على التكذيب أو الإفراط في الكفر والعناد هو الذي يدفع المكذبين والمعاندين إلى المطالبة بشيء بعيد الحصول أو غريب المنال، تمشيا مع مواقفهم المتصلبة، وعقولهم الجامدة، وتحدياتهم السافرة، وهذا شأن قريش في صدر الدعوة الإسلامية، طالبوا نبي الله صلّى الله عليه وسلّم بتحقيق أشياء لا قدرة له عليها، ليظلوا على موقفهم المتعنّت وضلالهم المتأصّل، وهو لا يعد تسويغا لكفرهم، أو نصرا لضلالهم، وإنما يدل ذلك على خروجهم عن الأصول العقلية، واليأس من إيمانهم وصلاحهم، وهذا ما حكاه القرآن ليسجل عليهم هذا الإصرار والعناد، وليسقطوا من حساب العقل وميزان التاريخ، على مدى الزمان، قال الله تعالى:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الإسراء: ١٧/ ٥٩- ٦٠].
سبب نزول الآية الأولى:
أن قريشا اقترحوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، واقترح بعضهم أن يزيل عنهم الجبال حتى يزرعوا الأرض، فأوحى
(١) آية بينة.
(٢) فكفروا بسببها.
(٣) علما وقدرة.
(٤) شجرة الزقوم.
(٥) أي تجاوزا للحد في كفرهم.
1363
الله تعالى إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم: إن شئت أفعل ذلك لهم، فإن تأخروا عن الإيمان، عاجلتهم العقوبة، وإن شئت استأنيت بهم، عسى أن أجتبي منهم مؤمنين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بل تستأني بهم يا رب».
فأخبر الله تعالى في هذه الآية: أنه لم يمنعه من إرسال الآيات المقترحة من قريش إلا التمهل أو الاستيناء، لأن عادة الله في الأمم السالفة هي تعجيلهم بالعقاب، بعد أن جاءتهم الآية المقترحة، فلم يؤمنوا.
والمعنى: ما صرفنا عن الإتيان بما يقترحونه من الآيات إلا تكذيب المتقدمين الأولين بأمثالها، فإن أتينا بها، وكذب بها أهل مكة وأمثالهم، عجلنا لهم العذاب، ولم يؤخروا، كما هي سنة الله في خلقه. وسمى الله تعالى سبق قضائه بتكذيب من كذّب وتعذيبه منعا في قوله تعالى: وَما مَنَعَنا أي ما منعنا الإرسال إلا التكذيب.
ومن أمثلة تلك الآيات المقترحة من السابقين الأولين وتكذيبهم بها: ناقة صالح عليه السلام لثمود، فلما عقروها وكذبوا نبيهم، عاجلهم الله بعذاب الصيحة، وبقيت آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم، يبصرها الذاهب والعائد، كما قال الله تعالى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها أي: وأعطينا قبيلة ثمود الناقة حجة واضحة دالة على وحدانية خالقها، وصدق رسوله. وقوله مُبْصِرَةً أي حجة بيّنة، أو ذات إبصار يدركها الناس، أو معها إبصار لمن ينظر، وهذا عبارة عن بيان أمرها ووضوح إعجازها.
فَظَلَمُوا بِها أي كفروا بها، ومنعوها حظها من الشرب، وقتلوها، ووضعوا الفعل غير موضعه، أي بعقرها، فأبادهم الله جميعا.
وهذا للعبرة يقاس عليها، لذا قال الله تعالى بعدئذ: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً أي ولا نبعث بالآيات غير المقترحة إلا تخويفا للناس من نزول العذاب
1364
العاجل، وهي آيات معها إمهال كالكسوف والرعد والزلزلة وقوس قزح وغير ذلك، لعلهم يعتبرون ويتعظون ويتذكرون.
ثم بشر الله نبيه بأنه في حياطة الله ومنعه وحفظه، في قوله: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ بإقداره أي واذكر إذا أوحينا إليك أن الله قادر على عباده، وأنك محفوظ من الكفرة الأعداء، آمن من القتل أو الإصابة بمكروه عظيم، فلتبلّغ رسالة ربك، ولا تتهيب أحدا من المخلوقين، وهذا توطئة لما بعده، وهو:
وما جعلنا الرؤيا البصرية في اليقظة والمعاينة الحقيقية، وهي ما رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ليلة الإسراء، وما أطلعه الله عليه، إلا اختبارا وامتحانا للناس، لمعرفة المؤمنين الصادقين، والكافرين المكذبين، معرفة ينكشف بها حالهم أمام الناس، لا بالنسبة لله عز وجل، فالله على علم سابق بكل ما سيحصل، والواقع مطابق لما في علم الله، فقد كذب بالإسراء قوم وكفروا، وصدّق به آخرون.
وما جعلنا أيضا الشجرة الملعونة في القرآن وهي شجرة الزقوم التي هي في أبعد مكان من الرحمة، إلا فتنة للناس، أي اختبارا لهم، مثل حادث الإسراء والمعراج، فمنهم من ازداد إيمانا، فكثير من الأشياء لا تحرقها النار، ومنهم من ازداد كفرا كأبي جهل وعبد الله بن الزّبعرى، وقالوا متهكمين متحدين: وما الزقوم إلا التمر والزّبد؟ فجعلوا يأكلون ويتزقمون. قال النقاش: إن في ذلك نزلت.
ونخوّف الكفار بالوعيد والعذاب والتنكيل في الدنيا والآخرة، فما يزيدهم التخويف إلا تماديا في الطغيان، وإمعانا في الضلال، وهو كفرهم وانهماكهم فيه، فكيف يؤمن قوم، هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات؟!
1365
أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام
ليس هناك أعظم تكريما للإنسان بأصله وجنسه من أمر الله تعالى ملائكته بالسجود لآدم عليه السلام، ليعلم البشر علو منزلتهم، ورفعة مكانتهم عند الله، فيتجاوبوا مع هذا التكريم، ويكونوا على مستوى حسن الظن بهم، والعمل بما يرضي الله من أفعالهم وأقوالهم، وقد تكرر الإخبار بهذا الأمر الإلهي في بدء الخليقة في القرآن سبع مرات للتذكير والعظة، قال الله تعالى:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦١ الى ٦٥]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥)
«١» «٢» »
«٤» «٥» «٦» [الإسراء: ١٧/ ٦١- ٦٥].
هذه مشكلة البشرية، إنهم في جهاد وكفاح، أمام وسوسة الشيطان وإغوائه.
بدأت المشكلة حين أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم سجود تحية ومحبة وتكريم، لا سجود عبادة وخضوع، فسجدوا كلهم إلا إبليس أبى واستكبر عن السجود، افتخارا على آدم، وتعاليا عليه، قائلا: أأسجد له وهو طين، وأنا مخلوق من عنصر أسمى وأعلى وهو النار؟! وهو في ذلك لجأ إلى القياس فأخطأ حيث رأى الفضيلة لنفسه من جهة أن النار أفضل من الطين، وجهل أن الفضائل في الأشياء لا بأصولها، وإنما بما خصصها الله به. وقال أيضا بجرأة وكفر: أخبرني عن هذا الذي
(١) أخبرني.
(٢) أي لأستأصلنهم بالإغواء إلا قليلا، لا أقدر على مقاومتهم.
(٣) استخف واستعجل.
(٤) صح عليهم ووسقهم. [.....]
(٥) بكل راكب وماش في معاصي الله.
(٦) باطلا وخداعا.
1366
فضّلته: لم كرّمته علي، وأنا خير منه؟ وكأنه ينسب الجور لربه، قسما لئن أبقيتني إلى يوم القيامة لأستأصلن ذريته بالإغواء، ولأستولين عليهم بالإضلال إلا قليلا منهم، وهم العباد المخلصون الذين وصفهم الله تعالى بقوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: ١٥/ ٤٢]. أي إن عبادي الصالحين لا تقدر أن تغويهم، فأجابه الله لطلبه لحكمة يعلمها، وأخره قائلا له: امض لشأنك الذي اخترته لنفسك خذلانا وتخلية، فمن أطاعك واتبعك منهم، فإن جهنم مقركم، ومأواكم، جزاء موفرا محفوظا، كاملا لا ينقص منه شيء.
واستخفّ واستنفر من تريد من العباد بدعوتك إلى المعاصي، بكل ما أوتيت من قوة وإغراء ووسوسة، والمراد بقوله: بِصَوْتِكَ أي بدعائك إلى معصية الله تعالى واجمع عليهم جندك فرسانا ومشاة، وهذا تمثيل يراد به: التسليط عليهم بكل ما تقدر عليه من القوة، واجمع لهم كل مكايدك، ولا تدخر وسعا في إغوائهم، مستخدما كل الأتباع والأعوان.
وشاركهم في الأموال والأولاد بتحريضهم على كسب المال وإنفاقه في المعاصي، من لهو ومجون وربا، وخمور، وفواحش، وقتل وتخريب، ونحو ذلك، وقوله سبحانه وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ عام لكل معصية يصنعها الناس بالمال، فذلك هو حظ إبليس. وقوله عز وجل وَالْأَوْلادِ عام لكل ما يصنع من أمر الذرية في المعاصي، بالإنجاب الحرام كالزنى وغيره، وبالوأد للبنات الذي كانت بعض العرب تفعله، وصبغ الأولاد في ملل الكفر والضلال.
وعدهم المواعيد الكاذبة الباطلة، من شفاعة الآلهة المزعومة، ومنّهم بما لا يتم لهم، وبأنهم غير مبعوثين، فهذه مشاركة في النفوس. ثم أخبر الله تعالى أنه إنما يعدهم الشيطان غرورا منه، أي كذبا وباطلا في صورة الحق، فمواعيد الشيطان كلها خدعة وتزيين كاذب، لأنه لا يغني عنهم شيئا.
1367
ثم قال الله لإبليس: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي إن عبادي المؤمنين المخلصين الصالحين لا تقدر أن تغويهم، فهم محفوظون محروسون من الشيطان الرجيم. وكفى بالله حافظا ومؤيدا وقيما على الهداية، ونصيرا للمؤمنين الصالحين المتوكلين عليه، الذين يستعينون به على التخلص من وساوس الشيطان، وهذا دليل على أن المعصوم: من عصمه الله، وأن الإنسان بحاجة دائما إلى عون الله جل جلاله.
وفي قوله تعالى: إِنَّ عِبادِي الإضافة للتعظيم، فتدل على تخصيص العباد بالمخلصين، علما بأن العباد اسم عام لجميع الخلق، وذلك بقصد تشريفهم والتنويه بهم، كما يقول رجل لأحد بنيه، إذا رأى منه ما يجب: هذا ابني. على معنى التنبيه والتشريف له. ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لسعد بن أبي وقاص: «هذا خالي، فليرني امرؤ خاله». «١»
إن هذا الاختبار والامتحان بين إبليس وآدم، وبين الشيطان وذرية آدم كفيل بمعرفة أهل العزم والجهاد الذين يتخلصون من وساوس الشيطان، وأولئك الذين ينقادون لشياطينهم، فيخسرون الدنيا والآخرة خسرانا مبينا.
نعمة الإبحار
الكرة الأرضية قسمان: بر وبحر، يابس وماء، أودع الله تعالى في كل قسم نعما وفيرة وأفضالا سابغة كثيرة، ففي البر: المعادن السائلة والجامدة، وخيرات الزروع والثمار، وفي البحر: النفط واللؤلؤ والمرجان والأسماك وغيرها، ويسر الله للإنسان الإبحار في البحار بوسائط السفن المسيّرة قديما وحديثا بالرياح وهي السفن الشراعية، وحديثا بالسفن المعتمدة على الطاقة البخارية أو الكهربائية أو الذرية والمحركات
(١) أخرجه الترمذي في المناقب.
1368
الآلية، ليتيسر للناس عبور البحر ونقل الركاب والبضائع والنفط وغير ذلك، وهذا يدعو لشكر نعمة الله عز وجل، والإقرار بالخالق الموجد الذي يحقق مصالح البشر، فقال الله سبحانه:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦٦ الى ٦٩]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الإسراء: ١٧/ ٦٦- ٦٩].
المعنى: الله ربكم أيها البشر كافة: هو الذي يسيّر لكم السفن في الماء الكثير، عذبا كان أو ملحا، للانتقال السياحي والارتزاق في أنحاء الدنيا بالتجارات المختلفة، إنه سبحانه بهذا التيسير كان متفضلا عليكم، رحيما كثير الرحمة بكم جميعا أيها العباد.
ومن رحمته تعالى وفضله العظيم: أنه إذا أصابكم أيها الناس المسافرون في البحر ضر وخوف غرق أو شدة، أو جهد ومشقة، ضلّ من تدعون إلا إياه، أي غاب، عن أذهانكم وتصوراتكم وخواطركم دعاء أحد وطلب نجدته إلا الله تعالى، فلا تتذكرون إلا الله، ولا تلجؤون لكشف الضر عنكم إلا لربكم الذي خلقكم ورزقكم من فضله.
ولكن مع الأسف تقابلون عادة ذلك الفضل الإلهي بالجحود والإنكار، لا الشكر
(١) يسوق برفق ويسيّر، والإزجاء: سوق الثقيل السير، وإزجاء الفلك: سوقه بالريح اللينة والمجاديف وغيرها.
(٢) يغوّر ويغيّب بكم.
(٣) أي يرميكم بالحصباء والحجارة كقوم لوط.
(٤) عاصفا شديدا.
(٥) ناصرا أو مطالبا بالثأر.
1369
وعرفان الجميل، فإذا أمنتم ونجوتم ووصلتم إلى البر والسلامة، نسيتم من دعوتموه فأنقذكم، وأعرضتم عن جانب الله الذي نجاكم، وعدتم إلى الشرك والكفران، وكان الإنسان بطبعه شديد الجحود والإنكار ونسيان نعمة الله تعالى.
وقوله سبحانه: وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً أي جنس الإنسان، فكل واحد لا يكاد يؤدي شكر الله تعالى كما يجب، وكل إنسان مهما عمل مقصر في حق الله تعالى.
أفأمنتم أيها المعرضون الناسون الشّدّة، حين صرتم إلى الرخاء والأمن، أن يخسف الله بكم مكانكم من البر وناحية من الأرض، أو يزلزل الأرض من تحتكم أو يرسل عليكم حجارة من السماء، ثم لا تجدوا بعد ذلك ناصرا تكلون إليه أموركم، وينقذكم منه لأنكم في قبضة القدرة الإلهية في البر وفي البحر. فقوله سبحانه: أَنْ يَخْسِفَ الخسف: انهيار الأرض بالشيء، وقوله تعالى أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً الحاصب: المطر العارض الرامي بالبرد والحجارة ونحو ذلك.
فهل أمنتم أيها الراكبون في البحر إذا نجاكم الله من الغرق، وأمنتم من أهوال البحار، أن يأتيكم في البر بعذاب آخر من خسف وزلزال أو تفجير بركان أو مطر مصحوب بالحصباء، أي الحجارة الصغار؟! إنها لفتة نظر شديدة التأثير، وتنبيه للعقول والأفكار أن ألوان العذاب مختلفة متنوعة، منها الإغراق في البحار، ومنها الزلازل والبراكين، ومنها الأمطار المحمّلة بالحجارة، ومنها الريح العاتية التي تدمر كل شيء، وترمي بالحصى كل إنسان.
أو هل أمنتم أيها المعرضون عن ربكم بعد ما لجأتم إلى الله للإنقاذ من الغرق في البحر أن يعيدكم إلى البحار مرة ثانية، فيرسل عليكم قاصفا من الريح، والقاصف:
الذي يكسر كل ما يلقي ويقصفه، فيغرقكم في أعماق الماء بسبب كفركم وإعراضكم عن الله تعالى، ثم لا تجدوا لكم علينا تبيعا، أي نصيرا متابعا يطلب ثأرا، أو دينا أو
1370
نحو هذا، والمراد: لا تجدون من يتبع فعلنا بكم، ويطلب نصرتكم وإنقاذكم مما أوقعناكم فيه.
إن الذي يتأمل بهذه الإنذارات والتهديدات بألوان العذاب في البر والبحر، يدرك إدراكا صحيحا، أن قدرة الله الشاملة لا مفر منها ولا مهرب، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا في البر ولا في البحر، فالله رحيم بالطائعين الشاكرين الحامدين، ولكنه أيضا غضوب شديد العذاب للجاحدين وجوده، المنكرين وحدانيته، المعرضين عن أوامره، المتنكرين لفضله وإحسانه، وكل امرئ يختار لنفسه ما يحلو، فإن أراد السلامة والنجاة من الويلات، عفّ وقنع، وأطاع واستقام، وإن ارتكب طريق الحماقة والطيش، واستبدت به الأهواء والشهوات، وأعرض عن منهاج الحق والإله، أوقع نفسه في مهاوي الردى والهلاك.
تكريم الإنسان
تشمل الرعاية الإلهية الإنسان من جميع أحواله المادية والمعنوية، فالله سبحانه ينجّي الإنسان المسافر من مخاطر البحر والبر، وهو سبحانه يصون كرامة الإنسان، ويحمي حقوق الإنسان، ويجعله خليفة الأرض، ويسخر له جميع ما في السماوات والأرض من منافع وخيرات، وذلك ما لم يحظ به مخلوق آخر ولا جنس آخر، وتلك فضيلة تميز بها الإنسان، وجعلته يختص بخصائص لا مثيل لها، وتظهر ثمار هذه الخصائص في تمكين الإنسان من الإفادة من خيرات الكون، وفي تفضيل البشر على سائر المخلوقات يوم القيامة، إنها النعمة العظمى والفضل الإلهي العميم، قال الله سبحانه مبينا مبدأ التكريم للإنسان:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٠ الى ٧٢]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)
1371
«١» [الإسراء: ١٧/ ٧٠- ٧٢].
لم تقتصر أفضال الله على الإنسان في الدنيا، وإنما في الآخرة أيضا، ففي الدنيا كرم الله بني آدم، بخلقهم على أحسن صورة وهيئة، ومنحهم السمع والبصر والفؤاد للفهم والإدراك، وميزهم عن سائر الحيوان بالعقل الذي يدركون به حقائق الأشياء، ويهتدون به إلى جميع المنافع المادية، وإلى معرفة اللغات، والتمييز بين الخير والشر، والنفع والضرر.
وفي الدنيا حمل الله البشر في البر على الدواب وسائر وسائل النقل والركوب ورزقهم من طيبات الرزق، من زروع وثمار، ولحوم وألبان، وجمّلهم بالمناظر الحسنة، والملابس الرفيعة، وفضلهم على كثير من المخلوقات، وكل ذلك لنفي النقصان، لا التكريم بالمال.
واختصاص الإنسان بالعقل وتفضيله به على سائر الحيوان إنما هو من أجل معرفة الله تعالى، وفهم كلامه، والتوصل إلى نعيمه، وإعمال الفكر في مكنونات الكون، والإفادة من ذخائر الأرض ودفائنها، ومحاولة إدخال التعديل والتطوير عليها، وكل ذلك إنما يتم بتوفيق من الله ورضوانه، وإلهام وإحسان من الله على عباده.
وارتأى بعض المفسرين أن هذه الآية تقضي بفضل الملائكة على الإنسان من حيث هم المستثنون، والواقع لا يفهم من الآية شيء من هذا، بل التفضيل بين الإنس والجن لم تتعرض له الآية، ويحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل التساوي، وفضلت
(١) قدر الخيط في شق النواة، من الجزاء.
1372
الملائكة بأدلة أخرى من الشرع، والظاهر تفضيل الملائكة، فإن قوله تعالى: عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (٧٠) هو ما سوى الملائكة.
والمعوّل في الحقيقة على ما يقدّم الناس من أعمال يوم القيامة، لذا أردف الله آية تكريم الإنسان بما يذكّره من المقصود الجوهري والغاية الأصلية من خلقه، فخاطب الله نبيه بقوله فيما معناه: أذكر أيها النبي اليوم الذي نحاسب فيه كل أمة متجمعة مع إمامهم وقائدهم، فيقال مثلا: يا أمة محمد، يا أمة موسى، يا أمة عيسى، يا أمة فرعون وأتباعه، يا أمة النمروذ، يا أتباع فلان وفلان من زعماء الكفر، وفي ذلك الحساب تصفّى القضايا، فمن أعطي من هؤلاء المدعوين كتابه بيمينه علامة على القبول، فأولئك يتفاخرون، ويقرءون كتابهم بفرح وسرور، بما تضمنه من العمل الصالح، ولا يظلمون فتيلا، أي لا ينقصون أدنى شيء من جزاء أعمالهم الصالحة، ومن ثوابهم لا أقل ولا أكثر من الفتيل. وعبر عن ذلك بالفتيل: وهو الخيط المستطيل في شق النواة، للقلة في عرف الناس وعادتهم. وقوله: يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ عبارة عن السرور بكتابهم، أي يرددون القراءة ويتناقلونها.
ومن كان في هذه الحياة الدنيا أعمى عن حجج الله وبيناته وآياته التي أبانها في الكون، فهو يكون كذلك أشد حيرة وأعمى البصيرة والقلب في الآخرة، لأنه قد باشر الخيبة، ورأى مخايل العذاب، لا يجد طريق النجاة، بل وأضل سبيلا من الأعمى في الدنيا.
والأعمى لفظ مستعار لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة، أما في الدنيا فلتركه إعمال الفكر والنظر، وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إلى الحق، لأن الآخرة دار جزاء وثواب وحساب، لا دار تكليف وأعمال وأفعال بدنية أو مالية.
ما أدهش ذلك المنظر وتلك الحقيقة حين تتطاير الصحف أو الكتب في الجو
1373
نحو هذا، والمراد: لا تجدون من يتبع فعلنا بكم، ويطلب نصرتكم وإنقاذكم مما أوقعناكم فيه.
إن الذي يتأمل بهذه الإنذارات والتهديدات بألوان العذاب في البر والبحر، يدرك إدراكا صحيحا، أن قدرة الله الشاملة لا مفر منها ولا مهرب، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا في البر ولا في البحر، فالله رحيم بالطائعين الشاكرين الحامدين، ولكنه أيضا غضوب شديد العذاب للجاحدين وجوده، المنكرين وحدانيته، المعرضين عن أوامره، المتنكرين لفضله وإحسانه، وكل امرئ يختار لنفسه ما يحلو، فإن أراد السلامة والنجاة من الويلات، عفّ وقنع، وأطاع واستقام، وإن ارتكب طريق الحماقة والطيش، واستبدت به الأهواء والشهوات، وأعرض عن منهاج الحق والإله، أوقع نفسه في مهاوي الردى والهلاك.
تكريم الإنسان
تشمل الرعاية الإلهية الإنسان من جميع أحواله المادية والمعنوية، فالله سبحانه ينجّي الإنسان المسافر من مخاطر البحر والبر، وهو سبحانه يصون كرامة الإنسان، ويحمي حقوق الإنسان، ويجعله خليفة الأرض، ويسخر له جميع ما في السماوات والأرض من منافع وخيرات، وذلك ما لم يحظ به مخلوق آخر ولا جنس آخر، وتلك فضيلة تميز بها الإنسان، وجعلته يختص بخصائص لا مثيل لها، وتظهر ثمار هذه الخصائص في تمكين الإنسان من الإفادة من خيرات الكون، وفي تفضيل البشر على سائر المخلوقات يوم القيامة، إنها النعمة العظمى والفضل الإلهي العميم، قال الله سبحانه مبينا مبدأ التكريم للإنسان:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٠ الى ٧٢]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)
1371
«١» [الإسراء: ١٧/ ٧٠- ٧٢].
لم تقتصر أفضال الله على الإنسان في الدنيا، وإنما في الآخرة أيضا، ففي الدنيا كرم الله بني آدم، بخلقهم على أحسن صورة وهيئة، ومنحهم السمع والبصر والفؤاد للفهم والإدراك، وميزهم عن سائر الحيوان بالعقل الذي يدركون به حقائق الأشياء، ويهتدون به إلى جميع المنافع المادية، وإلى معرفة اللغات، والتمييز بين الخير والشر، والنفع والضرر.
وفي الدنيا حمل الله البشر في البر على الدواب وسائر وسائل النقل والركوب ورزقهم من طيبات الرزق، من زروع وثمار، ولحوم وألبان، وجمّلهم بالمناظر الحسنة، والملابس الرفيعة، وفضلهم على كثير من المخلوقات، وكل ذلك لنفي النقصان، لا التكريم بالمال.
واختصاص الإنسان بالعقل وتفضيله به على سائر الحيوان إنما هو من أجل معرفة الله تعالى، وفهم كلامه، والتوصل إلى نعيمه، وإعمال الفكر في مكنونات الكون، والإفادة من ذخائر الأرض ودفائنها، ومحاولة إدخال التعديل والتطوير عليها، وكل ذلك إنما يتم بتوفيق من الله ورضوانه، وإلهام وإحسان من الله على عباده.
وارتأى بعض المفسرين أن هذه الآية تقضي بفضل الملائكة على الإنسان من حيث هم المستثنون، والواقع لا يفهم من الآية شيء من هذا، بل التفضيل بين الإنس والجن لم تتعرض له الآية، ويحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل التساوي، وفضلت
(١) قدر الخيط في شق النواة، من الجزاء.
1372
وتوضع في الإيمان لأهل الإيمان، وفي الشمائل لأهل الكفر. أما المذنبون المخطئون من المؤمنين فيتسلمون كتبهم بأيمانهم، فيستفيدون منها أنهم غير مخلّدين في النار، ويستفاد من الآيات: أن من عمي عن شكر نعم الله والإيمان بمسديها ومعطيها، فهو في الآخرة وشأنها أعمى بعيد عن نوال ثمرة الإيمان والشكر على أفضال الله تعالى.
وإنما جعل الكافر في الآخرة أضل سبيلا، لأنه في الدنيا ممكن أن يؤمن فينجو، وفي الآخرة لا يمكنه ذلك، فهو أضل سبيلا، وأشد حيرة، وأقرب إلى العذاب.
محاولات المشركين فتنة النبي صلّى الله عليه وسلّم وطرده من مكة
ظن المشركون الوثنيون في مكة أنهم بمكائدهم وممارسة ألوان خداعهم يتمكنون من صرف النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم عن شريعة الله وأحكامه من أوامر ونواه، ووعد ووعيد، وحمله على تعديل وحي الله، واختراع ما لم ينزله الله، وإقرار ما هم عليه من عبادة الأوثان والأصنام، فلما خابوا وفشلوا، توعدوا نبي الله بالطرد والإجلاء من موطنه مكة، فلم يفلحوا في النهاية، وكانت الهزيمة والدمار عليهم، والنصر والنجاح للنبي وأتباعه، قال الله تعالى معبّرا عن هذه المحاولات الخائبة:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٣ الى ٧٧]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [الإسراء: ١٧/ ٧٣- ٧٧].
(١) ليوقعونك في الفتنة وليصرفونك عن الوحي.
(٢) لتختلق.
(٣) تميل إليهم أدنى ميل.
(٤) عذابا مضاعفا في الحياة.
(٥) أي يزعجونك لإخراجك من أرض مكة. [.....]
(٦) تغييرا.
1374
نزلت الآية الأولى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ في شأن قريش أو ثقيف، لأنهم قالوا للنبي: لا ندعك تستلم الحجر الأسود حتى تمسّ أوثاننا، وتلمّ بآلهتنا، فنزلت الآية تنهاه عن ذلك.
ونزلت الآية الثانية: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ في اليهود الذين قالوا: إن كنت نبيا فالحق بالشام، فإن الشام أرض الحشر، وأرض الأنبياء، قاصدين بذلك إجلاءه من مكة أو المدينة، فنزلت الآية تهددهم بالإبادة، ونفّذ الله عليهم الوعيد في أنهم لم يلبثوا خلف النبي إلا قليلا، وهو يوم بدر.
والمعنى: همّ المشركون وحاولوا فتنة النبي صلّى الله عليه وسلّم عن دينه، وإقرارهم وثنيتهم، وحينئذ لو اتّبع النبي ما يريدون، وفعل ما يطلبون لاتخذوه خليلا: صديقا لهم، وأظهروا للناس أنه موافق على ما هم عليه من الشرك. ولولا تثبيت الله لنبيه على الحق، وعصمته إياه من الضلال والانحراف لقارب الميل لخداعهم ومكرهم ميلا قليلا.
وإذا فعل ذلك، عاقبه الله بعقوبة مضاعقة في الدنيا والآخرة، وهو المراد بضعف الحياة وضعف الممات، أي ضعف عذاب الدنيا، وضعف عذاب الآخرة، لأن ذنب القائد أو العظيم ذنب شديد، يستحق عقابا أشد وأعظم، وإذا عوقب لن يجد أحدا يناصره ويدفع عنه الأذى، لأن السلطان المطلق في الحساب والعذاب إنما هو لله جل جلاله.
ولقد قارب أهل مكة واليهود أيضا أن يزعجوك يا محمد بعداوتهم ومكرهم، ويخرجوك من أرضهم التي أنت فيها، وهي أرض مكة أو أرض المدينة، وإذا طردوك وأخرجوك، لا يبقون بعد إخراجك إلا زمانا قليلا، فإن الله مهلكهم، ومدمرهم بسرعة، ونفّذ هذا الوعيد عليهم، فقد أهلكهم الله في موقعة بدر بعد إخراجه بقليل، وهو ثمانية عشر شهرا هجرية.
1375
وعبر الله تعالى عن فرحة القرشيين بالإجلاء والطرد للنبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله سبحانه في آية أخرى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة: ٩/ ٨١] وهو الفرح الذي يسبق العاصفة أو العذاب.
ثم قرر الله تعالى حكما عاما، وأعلمنا بسنة دائمة، فذكر سبحانه: أن من عادة الله وسنته ومنهجه في الذين كفروا برسله، وآذوهم، أن يأتيهم العذاب، بخروج الرسول من بينهم، فكل قوم أخرجوا رسولهم من أراضيهم، فسنة الله أن يهلكهم، ولولا أنه صلّى الله عليه وسلّم الرحمة المهداة لجميع الخلائق، لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به، ولا تغيير لسنة الله، ونظامه أو قانونه، وعادته، ولا خلف في وعده.
لقد أحبط الله مساعي المشركين الوثنيين في مكة في محاولة فتنة النبي صلّى الله عليه وسلّم عن رسالته ووحي ربه ودينه، ومحاولة تغيير الوحي الإلهي، وهو إنذار لكل من يهادن أئمة الضلال والكفر ويجاملهم في ضلالهم وغيهم، أو يحاول تبديل كلام الله وشرعه، وإعلان لعصمة النبي صلّى الله عليه وسلّم عن التقصير في شيء. والمشركون حين تم لهم إبعاد النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة وإخراجه منها، لم يضمنوا لأنفسهم السعادة والاستقرار والهناءة، وإنما توالت هزائمهم، في بدر والحديبية وفتح مكة وغيرها، وسقطت ألوية الوثنية وراياتها، وتعرضوا للعذاب والتدمير، والقتل والتشريد، ومن آمن منهم برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم ونجا.
تشريع والصلاة وإعلان الحق
إن تماسك الأمة الإسلامية على عقيدتها وتوجهها نحو الله خالقها إنما هو بإقامة الصلاة، والتزام منهج الحق وطرقه، ومقاومة الباطل وجنده، وهذه المقومات الأساسية تجعل من المسلم والمجتمع والأمة قوة صلبة في دينها، وصادقة في عزيمتها
1376
وتوجهاتها، وما أحوجنا في كل زمان ومكان إلى صلابة الرجال، وصدق العزائم، والخشوع لله جل جلاله في الصلوات، والابتهالات والقربات، قال الله تعالى موضحا هذه الخطة:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٨ الى ٨١]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» [الإسراء:
١٧/ ٧٨- ٨١].
إن تربية شخصية المسلم تعتمد على وصله بربه، وتقوية ثقته بخالقه مصرّف الأشياء، ومدبّر الكون، لذا من أجل صبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم على أذى قومه ومحاولاتهم الخائبة لفتنته واستفزازه وطرده، أمره الله بالإقبال على عبادة ربه، وألا يشغل قلبه بهم، فأمره بالصلاة. وآية: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ بإجماع المفسرين إشارة إلى الصلوات الخمس المفروضة. ومعناها أدّ أيها الرسول الصلوات المكتوبة عليك وعلى أمتك تامة الأركان والشروط في أوقاتها الخمسة، من بعد زوال الشمس (ظهرا) إلى ظلمة الليل، وذلك يشمل صلوات الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، وأقم صلاة الفجر المتميزة بإطالة التلاوة للقرآن الكريم، إن صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل والنهار، وتشهدها الجماعة الكثيرة، وسميت صلاة الصبح قرآنا وهو القراءة، لأنها ركن كما سميت الصلاة ركوعا وسجودا وقنوتا.
روى أحمد والترمذي وغيرهما عن
(١) أي زوالها عند الظهر.
(٢) ظلمته.
(٣) صلاة الصبح.
(٤) صل صلاة الليل.
(٥) فريضة زائدة خاصة بك.
(٦) مقام الشفاعة العظمى.
(٧) إدخالا مرضيا.
(٨) زال.
1377
أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً قال: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار».
وفرض آخر على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو صلاة التهجد، فقم للصلاة أيها النبي في جزء أو وقت من الليل، وهو أول أمر للنبي بقيام الليل، زيادة على الصلوات المفروضة الخمس. وقوله سبحانه: نافِلَةً لَكَ أي زيادة لك في الفرض، وكان قيام الليل فرضا على النبي صلّى الله عليه وسلّم. ويحتمل أن يكون هذا على جهة الندب في التنفل، ويكون الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد هو وأمته، كخطابه في قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ والظاهر أن هذا هو الراجح، لأنه يبعد تسمية الفرض بالنفل.
افعل هذا المأمور أيها النبي، لعل ربك يمنحك المقام المحمود أي المكان المرموق:
وهو الذي يحمدك فيه الخلائق كلهم، وخالقهم تبارك وتعالى، وهو مقام الشفاعة العظمى الذي يتدافعه الأنبياء حتى ينتهي إلى النبي عليه الصلاة والسلام يوم الحشر وأهوال القيامة. ويستفيد من هذه الشفاعة العالم أجمع مؤمنهم وكافرهم، لذا
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر... »
وتمهيدا للأمر بالهجرة من مكة إلى المدينة، قل يا محمد داعيا: رب أدخلني في الدنيا والآخرة مدخل صدق، وأخرجني مخرج صدق، وهو دعاء في أن يحسّن الله حال نبيه في كل ما يتناول من الأمور، ويحاول من الأسفار والأعمال، وينتصر من تصرفات المقادير في الموت والحياة، أي أدخلني إدخالا مرضيا حسنا، لا يكره فيه ما يكره، يوصف صاحبه بأنه صادق في قوله وفعله كدخول المدينة والخروج من مكة.
واجعل لي في هذا حجة بينة تنصرني على من خالفني، أو ملكا وعزا قويا، ينتصر فيه الإسلام على الكفر.
1378
روى الترمذي وغيره عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ
وقل أيها النبي للمشركين: جاء الحق من الله الذي لا شك ولا مرية فيه، وهو الإسلام في جملته، وما قارنه من شعائر الإسلام والإيمان والعلم النافع، وزال الباطل وهو الشرك واضمحل، فإن الباطل لا ثبات له مع الحق، ولا بقاء للشرك مع الإيمان، إن الباطل كان مضمحلا لا قرار له، وغير ثابت في كل وقت.
وقد تلا النبي صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية حين كسّر الأصنام حول الكعبة المشرفة وغيرها حينما فتح مكة المكرمة، وذلك إعلان بهزيمة الشرك والوثنية، وانتصار راية التوحيد لله والإيمان الخالص به.
القرآن والروح
أخبر الله تعالى عن مهمة القرآن الكريم بأنه شفاء ورحمة لأهل الإيمان، وخسران لأهل الظلم والكفر، غير أن الإنسان ظلوم لا يقدّر المعروف ويتنكر للطاعة، وييأس ويتشاءم عند الشر. وأخبر الله أيضا عن حقيقة الروح بأنها من عند الله وحده، وهي دليل على نقص علم الإنسان، فعلمه قليل، محصور بالحسّيات، ويجهل ما وراء ذلك من الغيبيات، ولا قدرة له عليها، وهذا ما أوضحته الآيات الآتية، في قول الله تعالى:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٢ الى ٨٥]
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥)
«١» «٢» «٣» «٤»
(١) يصح أن تكون ((من)) لابتداء الغاية، ويصح أن تكون لابتداء الجنس.
(٢) هلاكا بسبب كفرهم.
(٣) لوى جانبه تكبرا.
(٤) شديد اليأس من رحمتنا.
1379
«١» [الإسراء: ١٧/ ٨٢- ٨٥].
هذه الآية بيان خاصية القرآن، فالله يقول عن نفسه: وننزل عليك أيها النبي قرآنا فيه شفاء، فكل شيء نزل من القرآن، فهو شفاء للمؤمنين يزدادون به إيمانا لأنه يزيل الريب، ويكشف غطاء القلب لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله تعالى، المقرّرة لشرعه، بل فيه الشفاء من الأمراض، والرّقى والتعويذ من الشيطان «٢»، وهو أيضا رحمة لمن آمن به وصدّقه واتّبعه، لأنه يرشد إلى الإيمان والحكمة والخير، فيؤدي إلى دخول الجنة والنجاة من النار، ولا يزيد سماع القرآن الكافر الظالم نفسه إلا بعدا عن الإيمان وكفرا بالله، لتأصل الكفر في نفسه.
غير أن الإنسان ناقص إلا من عصمه الله، فتراه إذا أمده الله بنعمة من مال وعافية، ورزق، ونصر، وحقق مراده، أعرض عن طاعة الله وعبادته، ونأى بجانبه، أي لوى جانبه، وولى ظهره، قاصدا الاستكبار والتباعد لأن ذلك عادة المتكبرين، وهو عبارة عن التحير والاستبداد.
وإذا أصابه الشر وهو المصائب والحوادث، كان يئوسا قنوطا من رحمة الله ومن الخير بعدئذ. وقل أيها النبي: كل أحد يعمل على طبيعته وطريقته، وناحيته وعلى ما ينوي من الهدى والضلال، والله وحده أعلم بمن هو أرشد سبيلا وأقوم طريقا واتباعا للحق، وسيجزي الله كل عامل بعمله، وفي الآية تهديد ووعيد بيّن للمشركين.
أما الحديث عن الروح: فهو قديم ومتجدد في كل عصر، ويسألك يا محمد المشركون عن حقيقة الروح التي تحيي الأبدان، فقل: الروح من شأن ربي، يحدث
(١) مذهبه الذي يشاكل حاله. [.....]
(٢) الرقى جمع رقية: وهي التعويذة التي يرقى بها المريض. والتعويذ: الاعتصام من الشيطان، والمؤمن لا يتعوذ إلا بالله تعالى.
1380
بتكوينه وإيجاده، وقد استأثر بعلمه، فلا يعلمه إلا هو، ولا يستطيعه إلا هو، وما أوتيتم أيها الناس من العلوم والمعارف إلا علما قليلا، محصورا بالمحسوسات والمرئيات، أما ما وراء ذلك فلا قدرة لكم عليه، ولا اطلاع لأحد على حقيقته.
وسبب نزول هذه الآية: هو ما روي عن عبد الله بن مسعود: أنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمرّ على حرث (بستان) بالمدينة- ويروى: على خرب- وإذا فيه جماعة من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فإن أجاب فيه، عرفتم أنه ليس بنبي. فالآية نزلت في اليهود، وهي مدنية، وهذه رواية البخاري.
وفي رواية أخرى تدل على أن الآية مكية كسائر سورة الإسراء، وهي ما أخرج الترمذي عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود، علمونا شيئا نسأل هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه، فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي والمراد: الأرواح التي في الأشخاص الحيوانية.
قال ابن كثير: يجمع بين الحديثين بتعدد النزول، فقد يكون السؤال من قريش، بتعليم اليهود في مكة فتكون الآية مكية، وقد يتكرر السؤال من اليهود أنفسهم في المدينة، فتكون الآية مدنية. والراجح هو الرأي الأول، فقد حرض اليهود المشركين المكيين على هذا السؤال للتحدي والاستبداد والعناد.
والمهم بيان كون الله مصدر الأرواح جميعا. فهو المانح للروح والقابض لها، وعلم الناس محدود قاصر، لا يدركون إلا ظواهر الأشياء، من وجود حركة الإنسان الجنين في بطن أمه، حينما تدبّ فيه الروح، فيحيا الجسم ويحس ويتحرك.
وذلك أنه كان عندهم في التوراة: أن الروح مما انفرد الله بعلمه، ولا يطلع عليه أحدا من عباده، فتطابق ما جاء في القرآن مع ما جاء في التوراة، مما يدل على صدق نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
1381
إعجاز القرآن الكريم
ما من نبي أو رسول إلا وهو بحاجة لإثبات صدق نبوته، وطريق التصديق:
إظهار المعجزة (وهي الأمر الخارق للعادة) على يده، لأن الإنسان العادي لا يستطيع الإتيان بالمعجزات، فتكون المعجزة طريقا للتحقق من صدق النبي أو الرسول، ومعجزات الأنبياء كثيرة متنوعة بحسب كل زمان، مثل العصا التي تنقلب حية واليد البيضاء لموسى عليه السلام في وقت ساد فيه السحر، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه (المولود أعمى) والأبرص بإذن الله لعيسى عليه السلام، في وقت تقدم فيه الطب، ومعجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم الخالدة هي القرآن الكريم أفصح الكلام، وأبلغ البيان، وأروع الأساليب، في وقت كان فيه العرب يتفاخرون بالبلاغة والفصاحة وروعة الأسلوب.
وهذه المعجزة تحدثت عنها الآيات الآتية:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٦ الى ٨٩]
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩)
«١» »
«٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [الإسراء: ١٧/ ٨٦- ٨٩].
امتن الله على النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنبوّة والوحي، وبجعل القرآن شفاء للناس، وبإبقائه محفوظا خالدا إلى يوم القيامة، رحمة بالناس. فما على الرسول إلا التسليم لله، وتفويض التعليم إليه بما شاء، فالله تعالى يعلم من علمه بما شاء، ويدع ما شاء،
(١) من يتعهد بإعادته إليك.
(٢) استثناء منقطع.
(٣) معينا.
(٤) رددنا بأساليب متنوعة.
(٥) من: لابتداء الغاية.
(٦) رفض.
(٧) جحودا للحق.
1382
ولئن شاء لذهب بالوحي الذي آتاه الله لنبيه، ثم لا يجد ناصرا له من الله، أو وكيلا.
والوكيل: القائم بالأمر في الانتصار، أو المخاصمة ونحو ذلك من وجوه النفع.
لكن رحمة من ربك، يترك القرآن، ولا يذهب به من صدر نبيه محمد، وهذا امتنان من الله تعالى على جميع العلماء ببقاء القرآن، إن فضل الله عليك أيها الرسول عظيم وكبير، بإرسالك للناس بشيرا ونذيرا، وباختصاصك بالنبوة، وحمايتك من المشركين، وبإنزال القرآن عليك، وحفظه في صدرك وفي المصاحف إلى يوم القيامة.
ثم تحدى الله العرب بأن يأتوا بمثل القرآن الكريم، فقل يا محمد متحديا: والله لئن اجتمعت الإنس والجن كلهم، واتفقوا وتعاونوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في بلاغته، وحسن نظمه وبيانه، ومعانيه وأحكامه، وفيهم العرب أرباب البلاغة وفرسان الفصاحة، لعجزوا عن الإتيان بمثله، حتى ولو كان الجميع متعاونين متآزرين، بعضهم لبعض ظهير، أي معين ومساعد.
وسبب نزول هذه الآية: أن جماعة من قريش قالت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد، جئنا بآية غريبة غير هذا القرآن، فإنا نقدر نحن على المجيء بمثل هذا، فنزلت هذه الآية المصرّحة بالتعجيز، المعلمة بأن جميع الخلائق إنسا وجنّا، لو اجتمعوا على ذلك، لم يقدروا عليه.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس: أن جماعة من اليهود جاؤوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: كيف نتّبعك وقد تركت قبلتنا؟ وإن هذا الذي جئت به، لا نراه متناسقا، كما تناسق التوراة، فأنزل علينا كتابا نعرفه، وإلا جئناك بمثل ما تأتي به، فأنزل الله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ.. الآية.
والعجز عن معارضة القرآن: إنما وقع في النظم ورصف المعاني، وعلة ذلك:
1383
الإحاطة التي لا يتصف بها إلا الله تعالى، والبشر عاجزون بسبب الجهل والنسيان، والغفلة، وأنواع النقص.
وكذلك التحدي بالعشر السور، والتحدي بالسورة الواحدة، إنما وقع ذلك كله على حد واحد في النظم خاصة.
ثم نبّه الله تعالى على فضله في إنزال القرآن على العالم، ووبخ الكفار على قبيح فعلهم، وترك إيمانهم بالقرآن، فالله بيّن للناس في القرآن بيانا مترددا ومكررا على وجوه مختلفة، وألوان متعددة، وعبارات متنوعة، مرة بالإيجاز، وتارة بالإطناب، وأوضح الحجج والبراهين القاطعة الدالة على وحدانية الله وصدق نبيه، وأبان الحق، وأتى بالآيات والعبر، ورغّب ورهّب، وأمر ونهى، وشرّع وأحكم، وأتى بالقصص، وأخبر عن الجنة والنار والقيامة، للعظة والعبرة وهذا معنى قوله: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي من كل معنى، هو كالمثل في الغرابة والحسن، وأتى الله في القرآن بألوان التنبيه والعبر، من كل مثل ضربه، فأبى أكثر الناس، أي أهل مكة وأمثالهم إلا جحودا وإنكارا للحق، وردا للصواب، وبقاء على الكفر، وإعراضا عن الإيمان.
طلب المشركين آيات تعجيزية
لقد عانى النبي صلّى الله عليه وسلّم من قومه في مكة معاناة شديدة، حينما بدأ بدعوتهم إلى توحيد الله تعالى، وهجر عبادة الأوثان، فآذوه وآذوا المستضعفين إيذاء شديدا، وبلغ بهم العناد والاستبداد والتحدي أن طالبوا نبي الله بإحدى ست آيات تعجيزية، كلها غير مقدورة للبشر، حدث هذا في مكة حينما اجتمع عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وعبد الله بن
1384
أبي أمية والنضر بن الحارث وغيرهم من مشيخة قريش وساداتها، وعرضوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يملّكوه- إن أراد- الملك، ويجمعوا له كثيرا من المال- إن أراد الغنى- أو يطبّوه إن كان به داء، ونحو هذا من الأقاويل،
فدعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند ذلك إلى الله، وقال: إنما جئتكم من عند الله بأمر فيه صلاح دينكم ودنياكم، فإن سمعتم وأطعتم فحسن، وإلا صبرت لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم بما شاء، فقالوا له حينئذ: فإن كان ما تزعمه حقا، ففجّر ينبوعا ونؤمن لك، ولتكن لك جنة (بستان) إلى غير ذلك مما كلفوه، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذا كله إلى الله، ولا يلزمني اقتراح هذا ولا غيره، وإنما أنا مستسلم لأمر الله تعالى «١».
هذا هو معنى الحديث في سبب نزول الآيات الآتية:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣)
«٢» «٣» «٤» «٥» [الإسراء: ١٧/ ٩٠- ٩٣].
لم يكتف المشركون بإعجاز القرآن لإثبات كونه كلام الله، وإثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وبعد أن أفحمتهم الحجة، وعجزوا عن الجواب المقنع، اقترحوا إنزال إحدى ست آيات من النبي صلّى الله عليه وسلّم:
- فقال زعماؤهم كعتبة وشيبة ابني ربيعة وأبي جهل وأبي سفيان والوليد بن المغيرة
(١) الحديث طويل، رواه الطبري وابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما. وذكره المفسرون كابن جرير والقرطبي والسيوطي في الدر المنثور وابن كثير.
(٢) عين ماء.
(٣) قطعا.
(٤) مقابلة وعيانا.
(٥) ذهب.
1385
والنضر بن الحارث وأمية بن خلف وأبي البختري: لن نصدق برسالتك حتى تفجّر لنا من الأرض ينبوعا من الماء يتدفق، وهو العين الجارية، فإنا في صحراء.
- أو تكون لك جنة (أي بستان) من النخيل والأعناب وبقية الثمار، تتدفق فيها الأنهار وتسقى بها الزروع والأشجار.
- أو تسقط السماء علينا كسفا، أي قطعا قطعا، كما زعمت أن ربك يفعل ذلك إن شاء.
- أو تأتي بالله والملائكة معاينة ومواجهة، فيحدثونا بأنك رسول من عند الله.
ومعنى قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أي مقابلة وعيانا، أو ضامنا وزعيما بتصديقك.
- أو يكون لك بيت من زخرف، أي من ذهب. فإنك يتيم فقير. والزخرف: هو ما يتزين به، من ذهب أو غيره. والمراد به هنا: الذهب.
- أو ترقى (أي تصعد) في السماء على سلّم تضعها، ثم ترقى عليها، ونحن ننظر، ولن نصدق لارتقائك حتى تأتي لنا بكتاب نقرؤه، فيه تصديقك أنك رسول من عند الله. وقائل هذه المقالة: هو عبد الله بن أبي أمية فإنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنا لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب، أي كتاب له، فيه: من الله عز وجل إلى عبد الله بن أبي أمية. وطلبت جماعتهم مثل هذا الطلب.
فأمر الله نبيه أن يقول: سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا أي تنزيها لله من الإتيان إليكم، مع الملائكة قبيلا، ومن أن يخاطبكم بكتاب، كما أردتم، ومن أن أقترح على الله هذه الأشياء، وهل أنا إلا بشر منكم أرسلت إليكم بالشريعة، فإنما عليّ التبليغ فقط.
وليس للرسل أن يأتوا بشيء إلا بما يظهره الله على أيديهم بحسب الحكمة الإلهية
1386
وتوافر المصلحة للناس، وما سألتموه أو طلبتموه أمره إلى الله عز وجل، إن شاء أجابكم، وإن شاء لم يجبكم.
والواقع أنهم قوم معاندون مكابرون، لن يؤمنوا برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو جاءت الآيات كما اقترحوا، كما ذكر الله تعالى في آية أخرى وهي: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧) [يونس: ١٠/ ٩٦- ٩٧].
وهكذا وضحت قضية هؤلاء المعاندين المشركين في مكة وغيرها، فإن من شرح الله صدره للإيمان لا يحتاج لهذه الأسباب، كلها أو بعضها، عافانا الله من التكبر والعناد.
استغراب المشركين من كون الرسل بشرا
المشركون الذين لم يجدوا حجة أو مسوغا مقبولا لشركهم وعنادهم، كلما حوصروا وأفحموا منطقيا وواقعيا، لجؤوا إلى تصيد الشبهات والذرائع لتسويغ شركهم ووثنيتهم، يتخبطون في دياجير الظلام، ويسقطون في متاهات الضلال، ومن شبهاتهم الواهية: أن الرسل لا يصح كونهم بشرا، وإنما ينبغي أن يكونوا ملائكة، وهذا يجافي العقل والمنطق، لأن من أهم شروط الرسول المبلّغ رسالة أو الناقل كلاما أن يكون من جنس المرسل إليه، حتى يأنس به ويفهم كلامه. وتحكي لنا الآيات الآتية شبهة بشرية الرسل، والرد على أفّاكيها:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٤ الى ٩٧]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧)
1387
«١» «٢» [الإسراء: ١٧/ ٩٤- ٩٧].
هذه الآيات واردة على سبيل التوبيخ والتعجب من النبي صلّى الله عليه وسلّم كأنه يقول مستغربا متعجبا من المشركين: ما شاء الله كان، ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا هذه العلة التافهة (النّزرة) وهي كون الرسل بشرا، وهذا ليس أمرا بدعا ولا غريبا، فكون الرسل بشرا من جنس المرسل إليهم هو الأمر الصحيح، ليقع الإفهام وتحدث المناقشة المنطقية، والتمكن من النظر، فلو فرض أن في الأرض ملائكة يسكنونها مطمئنين، أي وادعين فيها مقيمين، لكان الرسول إليهم من الملائكة، ليحدث الإفهام بلغة المخاطبين، ولو بعث للبشر ملك، لنفرت طبائعهم من رؤيته، ولم تحتمله أبصارهم، وإنما أجرى الله الأمر على حسب المعتاد والمصلحة، واللطف والرحمة بالعباد.
وهذا ما أمر الله به نبيه أن يقول: إن مقتضى الحكمة ومنطق الأشياء والرحمة بالناس المدعوين للإيمان: أن يبعث إليهم الرسول من جنسهم، ليناقشهم ويخاطبهم، ويفهموا منه، فليس إرسال الرسول لمجرد إلقاء الموحى به إليه، ولو كان الرسول ملكا لما استطاعوا مواجهته، ولا الأخذ عنه، فإن الشيء يألف جنسه ويأنس به، فطبيعة الملك لا تصلح للاجتماع بالبشر، وعقد حوار معهم حول أحكام التشريع، وتبيان أصول العقيدة، وأداء الرسالة.
بل إن إرسال الرسول من البشر نعمة وحكمة ومنّة عظمي، كما قال الله تعالى:
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران: ٣/ ١٦٤] أي من جنسهم.
ثم أرشد الله تعالى إلى حجة أخرى في الموضوع حين قال المشركون للنبي: فمن
(١) سكن لهيبها. [.....]
(٢) زدناهم توقدا ولهبا.
1388
يشهد لك بصدق نبوتك؟ وتلك الحجة هي أن القول الفصل بيني وبينكم هو أن الله شاهد علي وعليكم، والحاكم بيني وبينكم، وهو العالم بما جئتكم به، فلو كنت كاذبا لانتقم مني أشد الانتقام، إن الله سبحانه عالم تامّ العلم بأحوال عباده الظاهرة والباطنة، وخبير بمن يستحق الهداية، ومن هو باق في الضلالة، فهم لا يذكرون شبهة بشرية الرسل وغيرها إلا حسدا وحبا للزعامة، وإعراضا عن دعوة الحق وقبولها.
وفي ذلك تهديد ووعيد وإيناس للنبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يلقاه من صدود قومه وعنادهم.
ثم ذكر الله تعالى قانون الهداية والضلالة، ومضمونه: من يهده الله للإيمان فهو المهتدي إلى الحق، ومن يضلل الله بسبب بعده عن الهداية، فلن تجد لهم أنصارا يهدونهم من دون الله إلى الحق والصواب، ونحشر (نجمع) يوم القيامة في موقف الحساب هؤلاء الضالين عميا لا يبصرون بقلوبهم الحق، بكما لا ينطقون، صما لا يسمعون، أي فكما أنهم كانوا في الدنيا معطّلين هذه الحواس عن الانتفاع بها، فهم في الآخرة لا يبصرون طريق النجاة الذي يقر الأعين، ومصيرهم إلى جهنم، كلما سكن لهيبها، وفرغت النار من إحراقهم، زدناهم لهبا ووهجا وجمرا، فيثور اللهب من جديد، ويتكرر الإفناء والإعادة، زيادة في عقابهم وتحسرهم، فتلك زيادة السعير، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما. قال ابن عطية: فالزيادة في حيّزهم، وأما جهنم فعلى حالها من الشدة، لا يصيبها فتور.
إنكار المشركين البعث
تتركز عقيدة المشركين الوثنيين على أمرين: نسبة الشريك لله تعالى زورا وبهتانا، وإنكار البعث واليوم الآخر، بسبب تصوراتهم المادية المقصورة على الدنيا، وضعف عقولهم، وعدم إدراكهم لقدرة الله تعالى العظمى التي تختلف كل الاختلاف عن
1389
قدرات البشر وإمكاناتهم، وهم ينسون سبب وجودهم وخلقهم في عالم الحياة، فالله هو الذي خلقهم وسوّاهم، وهو كذلك قادر هيّن عليه أيضا إعادتهم إلى الحياة، حتى وإن صاروا عظاما بالية، ورفاتا بقايا قديمة، وترابا منثورا، قال الله تعالى مبينا فساد عقيدة المشركين في إنكارهم القيامة والبعث:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٨ الى ١٠٠]
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠)
«١» «٢» [الإسراء: ١٧/ ٩٨- ١٠٠].
إن الجزاء الإلهي في الدنيا والآخرة عدل مطلق، وحق تام، فلا يعذب الله أحدا، من دون سبب، ولا يعاقبه من غير وجه مشروع، لذا قال الله تعالى: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا.. أي إن ذلك الجزاء المشار إليه في الآية السابقة، وهو:
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً وذلك الوعيد المتقدم بجهنم، بسبب كفر أولئك المشركين وتكذيبهم بآيات الله وبالدلائل والحجج التي جاء بها محمد صلّى الله عليه وسلّم، ويعم ذلك آيات القرآن الكريم وما تضمن من خبر وأمر ونهي.
ومن أسباب تعذيبهم بنحو خاص: إنكارهم البعث، ووجه تخصيصه مع أنه داخل في عموم الكفر بآيات القرآن: التعظيم له، والتنبيه على خطر الكفر به وإنكاره.
وكيف أنكروا البعث؟
قالوا: أإذا كنا عظاما بالية، ورفاتا، أي بقايا صيّرها البلى إلى حالة التراب المنتشر، نعود خلقا جديدا آخر، أبعد ما صرنا إلى البلى والهلاك والتناثر والتفرق في أنحاء الأرض، نعاد أو نبعث مرة ثانية إلى الحياة؟!
(١) أجزاء مفتتة.
(٢) أي بخيلا منوعا.
1390
والبعث: تحريك الشيء الساكن، وهذا الاستفهام منهم على جهة الاستبعاد للمحال بزعمهم، فرد الله تعالى عليهم فيما استبعدوه من البعث، والرد مأخوذ مما اعترفوا به، فهم لا ينكرون أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض ومن فيهما من البشر وغيرهم، فكيف يصح لهم أن يقروا بخلق الله لكل هذه الأشياء، ثم ينكرون إعادة بعضها؟ إن الله قادر على البعث بدليل خلقه السماوات والأرض.
ألا يرون في قلوبهم أن الله الذي أوجد السماوات والأرض من العدم، على غير مثال سابق، قادر على أن يخلق أمثالهم، ويعيد أبدانهم، وينشئهم نشأة أخرى، كما بدأهم، فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك، كما قال سبحانه: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر: ٤٠/ ٥٧].
ألا يرون رؤية القلب أيضا أن الله جعل للبشر أجلا محتوما لا شك فيه، وذلك الأجل إما يوم القيامة، وهو الأجل العام، وإما أجل الموت وهو الأجل الخاص بكل نفس مخلوقة، والتقدير بالأجل فيه بيان قدرة الله عز وجل وملكه لخلقه، فمن قدّر الآجال وجعل للمخلوقات نهاية حتمية، كان هو القادر على إحياء الموتى، وإيقاع البعث من جديد، حين يشاء، لا إله إلا هو، وعلى الرغم من بيان هذا الواقع، أبى الكافرون الظالمون أنفسهم إلا كفورا، أي تماديا في الباطل والضلال، وجحود الثابت الصحيح، وإنكار البعث.
وسبب عدم إجابة المشركين لمقترحاتهم من إيجاد القصور والجنات وعيون الأنهار:
هو الشح والبخل المتمكن في نفوسهم، لذا قل لهم أيها النبي: لو أنكم ملكتم التصرف في خزائن أرزاق الله، لبقيتم على الشح والبخل، ولأمسكتم عن الإنفاق، وهو الفقر، وكان الإنسان قتورا، أي بخيلا منوعا ممسكا، فلو أنهم ملكوا مفاتيح
1391
الرزق، لأمسكوا عن النفقة، بسبب فقرهم وعجزهم، ولما أعطوا أحدا شيئا بسبب خوفهم من النقص وعدم المال.
والمراد بقوله تعالى: خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أي خزائن المال والنعم التي تصرف في الأرزاق، والإنفاق المعروف: هو إذهاب المال، وهو مؤد إلى الفقر، فكأن المعنى:
تبخلون خشية عاقبة الإنفاق، وكان طبع الإنسان ومنتهى نظره أن الأشياء تتناهى وتفنى، فلو ملك خزائن رحمة الله لأمسك خشية الفقر.
الآيات التسع لموسى عليه السلام
كان الحجاج عنيفا والصراع قويا على أشده، بين موسى عليه السلام وفرعون ملك مصر، وخليفة هذه الصراع واضحة: هي أن فرعون أراد الحفاظ على ملكه وسلطانه ونفوذه في مصر، وخشي أن ينافسه موسى عليه السلام السلطة، ويحدّ من هيمنته، وتسلّطه على المصريين، وكان لا بد لموسى من إثبات صدقه في ادعاء النبوة، فآتاه الله تسع آيات مشهورة، وآيات أخرى بلغ مجموعها أكثر من أربع وعشرين، وخص الله تسعا منها بالذكر، ووصفها بالبيان ولم يعينها، وهي الخمس المذكورة في سورة الأعراف، وهي: الطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، والأربع الأخرى كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي السنون (القحط) في بواديهم، ونقص الثمرات في قراهم، واليد، والعصا. قال الله تعالى مبينا تأييد رسوله موسى بهذه الآيات التسع:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠١ الى ١٠٤]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤)
1392
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الإسراء: ١٧/ ١٠١- ١٠٤].
في معرض جواب المشركين عن اقتراحهم ومطالبتهم بالآيات التعجيزية، قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ.. أي: لقد أمددنا موسى عليه السلام، وأعطيناه تسع آيات بينات، أي دلائل قاطعة على صدق نبوته، وتصديقه فيما أخبر به، حين أرسلناه إلى فرعون وقومه، فلم يؤمنوا بها، فاسأل أيها النبي محمد بني إسرائيل المعاصرين لك كعبد الله بن سلام وصحبه سؤال تأكد وتوثق، حين جاءهم موسى بتلك الآيات، فقال له فرعون: إني لأظنك يا موسى مسحورا، أي سحرك الناس، فكلامك مختل، وما تأتي به غير مستقيم، وصرت مختلط العقل.
قال موسى لفرعون: لقد علمت علم اليقين أن هذه الآيات التسع ما أنزلها خالق السماوات والأرض إلا طرائق يهتدى بها وحججا وأدلة على صدق ما جئتك به، فهي تهدي الإنسان إلى الطريق الحق، وأنها من عند الله، لا من عند غيره.
وإني لأظنك يا فرعون مغلوبا مهلكا. وهذا رد مفحم على اتهام فرعون موسى بأنه قد سحر، ففسد نظره وعقله وكلامه، ومضمون الرد: أن موسى يعلم آيات الله تعالى، وأنه ليس بمسحور، بل محرّر لما يأتي به.
فأراد فرعون أن يستفزهم، أي أن يخرج موسى وقومه بني إسرائيل من أرض مصر
(١) مغلوبا على عقله بالسحر.
(٢) أي طرائق يهتدى بها، وبينات.
(٣) المثبور: المهلك.
(٤) يستخفهم.
(٥) أي جمعا مختلطا قد لفّ بعضه ببعض، فلا تمييز بين القبائل.
1393
بالقتل أو الطرد، فأغرقناه ومن معه جميعا، أي فأهلكناه وجنوده جميعا بالإغراق في البحر.
ونجينا موسى وقومه بني إسرائيل، وقلنا لهم بعد هلاك فرعون: اسكنوا الأرض «١» التي أراد فرعون إخراجكم منها، وهي أرض مصر. فإذا جاء يوم القيامة، جئنا بكم أنتم وعدوّكم جميعا، جمعا مختلطا أنتم وهم، ثم نحكم بينكم وبينهم، وحكم الله عدل مطلق، وحق ثابت دائم.
ويلاحظ أن الله تعالى في هذه الآيات ذكر من قصة موسى مع فرعون طرفي القصة، في البدء والنهاية، فقد أراد فرعون غلبة الإسرائيليين وقتلهم، وهذا كان بدء الأمر، فأغرقه الله تعالى مع جنوده، وهذا كان نهاية الأمر.
وتقرير بداية هذه القصة ونهايتها بإيجاز يملأ النفس رهبة ورعبا، ويوقظ أحاسيس العبرة والعظة في المتأملين المفكرين المتعظين، لأن نبي الله موسى الكليم يدعو إلى الحق، وتوحيد الله، وترك الظلم الغاشم للرعية، وفرعون المتسلط يتمسك بعز السلطة وكبرياء الحكم، ويترفع عن التنزل لمستوى موسى وقومه، ولكن الله بالمرصاد بنصر رسله وأنبياءه وأتباعهم أهل الإيمان، ويهزم ويخذل أعداء الرسل وقواعد الظلم وعروش الظلمة، وهذه هي سنة الله في عباده، يؤيد الحق وأهله، ويمحق الباطل وأعوانه وجنده، وأكد التاريخ هذه السنة، حيث يبقى أهل الصلاح والاستقامة، وتطوى من التاريخ صحف المفسدين الظالمين المتكبرين.
(١) متى ذكرت الأرض عموما، فإنما يراد بها ما يناسب القصة المتكلم فيها، وقد يحسن عمومها في بعض القصص.
1394
إنزال القرآن ونزوله بالحق
يعلم الله تعالى حاجة البشرية لكتاب ودستور إلهي دائم، يرشد للخير والتوحيد والسعادة، ويحذر من الشر والشرك والشقاوة، ويأمر بالعدل ومكارم الأخلاق، وينهى عن الظلم وقبائح الأقوال والأفعال، لذا أنزل الله القرآن العظيم قائما على الحق والسداد، ومتضمنا الحق في أوامره ونواهيه وأخباره، وملازمة الحق والثبات على الحق أهم خاصية للدوام والخلود، والبعد عن التنازع والخلافات والخصومات، وهذا ما عبّرت عنه الآيات القرآنية التالية:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٩]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩)
«١» «٢» «٣» [الإسراء: ١٧/ ١٠٥- ١٠٩].
المعنى: إننا أنزلنا القرآن بالحق، أي بالواجب الذي هو المصلحة والسداد للناس، وبالحق الثابت في نفسه، ونزل القرآن بالحق في أوامره ونواهيه وأخباره، فيكون تكرار اللفظ لمعنى مختلف غير الأول، وذهب الطبري إلى أنهما بمعنى واحد، أي بأخباره وأوامره، وبذلك نزل. هذه خاصية القرآن.
وأما خصيصة النبي صلّى الله عليه وسلّم فالله أبانها أنه ما أرسل نبيه محمدا إلا مبشّرا لمن أطاعه من المؤمنين بالجنة، ونذيرا مخوفا لمن عصاه من الكافرين بالنار.
وأما كيفية نزول القرآن، فكان منجّما، أي مقسطا بحسب الوقائع والمناسبات، لذا وصف الله تلك الكيفية بأنه أنزله مفرقا في مدى ثلاث وعشرين سنة، على وفق
(١) أنزلناه مفرّقا.
(٢) على تؤدة وتمهل.
(٣) إن في هذه الآية هي عند سيبويه: المخففة من الثقيلة، واللام بعدها: لام التأكيد.
1395
المناسبات وأحوال الوقائع والحوادث، وعلى ما تقتضيه الحكمة والمصلحة النافعة في الدنيا والآخرة. ومعنى فَرَقْناهُ بيّناه وأوضحناه وجعلناه فرقانا.
وذلك لتبلّغه أيها النبي الرسول للناس وتتلوه عليهم على مهل وتطاول في المدّة وتأن أو ترسّل في التلاوة، ونزلناه إليك تنزيلا، أي شيئا بعد شيء، وقوله سبحانه:
وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا بعد قوله: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لبيان كون التنزيل على حسب الحوادث.
ثم بعد هذا البيان القرآني، قال تعالى: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا... وهذه آية تحقير للكفار وتوعد، أو أنها للوعيد دون التحقير، والمعنى: أنكم لستم بحجّة، فسواء علينا آمنتم أو كفرتم، وإنما ضرر ذلك على أنفسكم، وسترون ما تجازون به، وإنما الحجة أهل العلم من قبله، كما سيأتي.
وإن علماء أهل الكتاب الصالحين كورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل ونحو هما الذين تمسكوا بكتابهم، ولم يبدلوه ولم يحرفوه، إذا يتلى عليهم هذا القرآن، يسجدون على وجوههم تعظيما لله عز وجل، وشكرا على ما أنعم به عليهم، وعلى بيانه الحق.
وقوله سبحانه: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ أي لناحيتها. والأذقان: أسافل الوجوه حيث يجتمع اللّحيان، وهي أقرب ما في رأس الإنسان إلى الأرض، ولا سيما عند سجوده. وهذا مبالغة في الخضوع والخشوع لله تعالى والخوف منه.
ويقولون في سجودهم: (سبحان ربنا) أي تنزه الله تعالى وتعاظم، وإن وعد الله آت، والله لا يخلف الميعاد، إن وعده لمنجز، واقع، آت لا محالة.
وصفة سجودهم: أنهم يخرون ساجدين باكين، خاشعين، خاضعين لله عز وجل، من خشية الله، وإيمانا وتصديقا بكتابه ورسوله ويزيدهم السجود خشوعا، أي إيمانا وتسليما، كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) [محمد: ٤٧/ ١٧].
1396
وهذه الآية: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ عطف بزيادة صفة.
وقد امتدح النبي صلّى الله عليه وسلّم البكاء أي الذي لا يظهر معه الصوت والكلام في أحاديث كثيرة، منها: ما
رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «عينان لا تمسّهما النار: عين بكت من خشية الله تعالى، وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى».
وقوله سبحانه: وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً أي يزيدهم القرآن تواضعا لله تعالى. وهذه مبالغة في صفتهم، ومدح لهم، وحض لكل من توسم بالعلم، وحصّل منه شيئا أن يصل إلى هذه الرتبة، وهي رتبة الخشوع والخضوع لله عز وجل.
والواقع أن العبادة لله تعالى ينبغي أن تكون بقلب خاشع، ونفس خاضعة ذليلة لله عز وجل، يظهر منها معنى العبودية الخالصة لرب العزة، ويتجلى بها استحضار عظمة الله وهيبته التي تملأ النفس محبة لله، وخوفا منه، فيصير الإنسان صالح القول والعمل، بالعبادة المرضية لربه تعالى.
الدعاء بأسماء الله الحسنى
تمجّد الله وتعاظم، فله الأسماء الحسنى والصفات العليا، ويصح الدعاء بأي اسم من أسماء الله الحسنى التي هي في الأعم الأشهر تسعة وتسعون اسما، أخرج ابن جرير الطبري، والبخاري في التوحيد والشروط والدعوات، ومسلم في الذكر، والترمذي، وابن ماجه في الدعوات: «إن لله تسعة وتسعين اسما كلهن في القرآن، من أحصاهن دخل الجنة».
وقد أخبر القرآن في الجملة عن تسمية الله بالأسماء الحسنى في الآيات الآتية:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١١٠ الى ١١١]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)
1397
«١» [الإسراء: ١٧/ ١١٠- ١١١].
نزلت الآية الأولى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ كما
روي الطبري عن ابن عباس أن المشركين سمعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو: يا الله، يا رحمن، فقالوا: كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد، وهو يدعو إلهين.
ونزلت آية: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها كما أخرج أحمد والشيخان وغيرهم عن ابن عباس في حال اختفاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم بمكة، في بدء الدعوة، وكان المشركون إذا سمعوا القرآن، سبّوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، فقال الله عز وجل لنبيه: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءتك فيسمع المشركون، فيسبوا القرآن وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك، فلا يسمعون، وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا.
ونزلت آية: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فيما أخرج ابن جريج عن محمد بن كعب القرظي قال: إن اليهود والنصار قالوا: اتخذ الله ولدا وقالت العرب: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، وقال الصابئون والمجوس: لولا أولياء الله لذلّ، فأنزل الله: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً.. الآية.
رد الله تعالى على اتهامات المشركين ومواقفهم المتعنتة، والرد الأول: أن العرب لما عجزوا عن معارضة القرآن، وحملته على إثبات توحيد الله ورفض تعدد آلهتهم، عدلوا إلى رميه صلّى الله عليه وسلّم بأن ما نهاهم عنه من التعدد رجع إليه، وغاب عنهم أن تعدد الأسماء والصفات غير تعدد الذوات.
فهم أنكروا إطلاق اسم الرحمن على الله عز وجل، فأمر الله نبيه أن يقول
(١) لا تسرّ بها.
1398
للمشركين: لا فرق في دعاء الله باسم الله أو باسم الرحمن، فإنه تعالى ذو الأسماء الحسنى، وتعدد الأسماء غير تعدد المسمى، فادعوا الله باسم الله، أو باسم الرحمن، فأي اسم تدعونه به فهو حسن، وتقدير الآية: أيّ الأسماء تدعو به فأنت مصيب، له الأسماء الحسنى. وأسماء الله توقيفية، لا يصح وضع اسم لله تعالى إلا بتوقيف من القرآن والحديث النبوي، وقد روي كما تقدم عند الترمذي وغيره بسند صحيح:
«إن لله تسعة وتسعين اسما... » الحديث.
ثم أرشد الله تعالى إلى كيفية التلاوة والدعاء، وهي القراءة الوسط بين الجهر والإسرار: لا تجهر بقراءة صلاتك، حتى لا يسمع المشركون فيسبوا القرآن، ويسبوا من أنزله، ومن جاء به، ولا تخافت أو تسرّ بها عن أصحابك، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك، وابتغ بين الجهر والمخافتة سبيلا وسطا، فهذه هي الطريقة المثلى في القراءة، وهي الحد الوسط بين الجهر بالصوت، والإسرار والإخفات فيه، ففي الجهر حتى لا يتفرقوا عنه، ويأبوا أن يسمعوا منه، أو يسبوا القرآن، وفي الإسرار ليسمع من أراد السماع، فينتفع به.
ثم علّمنا الله كيفية حمده وشكره، فقال: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، أي وقل: لله الحمد والشكر على ما أنعم به على عباده، وهو سبحانه الموصوف بالصفات الثلاث الآتية وهي:
- أنه لم يتخذ ولدا: فهو تعالى غير محتاج إليه، واتخاذ الولد من صفات المخلوقين، لا من صفات الله الخالق، فهو منزه عنها.
- وليس لله شريك في الملك والسلطان لأنه أيضا غير محتاج إليه، ولو احتاج إلى شريك لكان عاجزا، ولأن تعدد الآلهة يؤدي إلى الفساد والنزاع واضطراب الأحوال، كما قال الله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢١/ ٢٢].
1399
- ولم يكن لله ولي من الذل، أي ليس الله بذليل حتى يوالي أحدا لمذلة، من ولي أو وزير أو مشير، بل هو سبحانه خالق الأشياء وحده لا شريك له، ومدبرها ومقدّرها بمشيئته.
ومجموع هذه الصفات مجموعة في سورة الإخلاص: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) اللَّهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤) [الإخلاص: ١١٢/ ١- ٤].
ثم قال الله سبحانه في ختام الآية: وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً، أي عظمه وأجلّه عما يقول الظالمون المعتدون علوا كبيرا. وهذه اللفظة (الله أكبر) أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال، وقد أكدها الله بالمصدر تحقيقا لها، وإبلاغا في معناها. روى مطرّف عن عبد الله بن كعب، قال: «افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام، وختمت بخاتمة هذه السورة» أي سورة الإسراء، وهو ما ذكرناه هنا.
1400
Icon