تفسير سورة الحج

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة الحج من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾.
أمر جل وعلا في أول هذه السورة الكريمة : الناس بتقواه جل وعلا، بامتثال أمره، واجتناب نهيه، وبين لهم أن زلزلة الساعة شيء عظيم، تذهل بسببه المراضع عن أولادها، وتضع بسببه الحوامل أحمالها، من شدة الهول والفزع، وأن الناس يرون فيه كأنهم سكارى من شدة الخوف، وما هم بسكارى من شرب الخمر، ولكن عذابه شديد.
وما ذكره تعالى هنا من الأمر بالتقوى، وذكره في مواضع كثيرة جداً من كتابه، كقوله في أول سورة النساء ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾ إلى قوله ﴿ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالاٌّرْحَامَ ﴾ [ النساء : ١ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
وما بينه هنا من شدة أهوال الساعة، وعظم زلزلتها، بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى ﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾ [ الزلزلة : ١-٤ ] وقوله تعالى ﴿ وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً ﴾ [ الحاقة : ١٤ ] وقوله تعالى ﴿ إِذَا رُجَّتِ الاٌّرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً ﴾ [ الواقعة : ٤-٥ ] وقوله تعالى ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ﴾ [ النازعات : ٦-٩ ] وقوله تعالى ﴿ ثَقُلَتْ في السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ﴾ [ الأعراف : ١٨٧ ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عظم هول الساعة.
وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ ﴾ قد أوضحنا فيما مضى معنى التقوى بشواهده العربية، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. والزلزلة : شدة التحريك والإزعاج، ومضاعفة زليل الشيء عن مقره ومركزه : أي تكرير انحرافه وتزحزحه عن موضعه، لأن الأرض إذا حركت حركة شديدة تزلزل كل شيء عليها زلزلة قوية.
وقوله ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا ﴾ منصوب بتذهل، والضمير عائد إلى الزلزلة. والرؤية : بصرية، لأنهم يرون زلزلة الأشياء بأبصارهم، وهذا هو الظاهر، وقيل : إنها من رأي العلمية.
وقوله ﴿ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ ﴾ أي بسبب تلك الزلزلة، والذهول : الذهاب عن الأمر مع دهشة، ومنه قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه :
ضرباً يزيل الهام عن مقيله *** ويذهل الخليلَ عن خليله
وقال قطرب :
ذهل عن الأمر : اشتغل عنه. وقيل : ذهل عن الأمر : غفل عنه لطرو شاغل، من هم أو مرض، أو نحو ذلك، والمعنى واحد، وبقية الأقوال راجعة إلى ما ذكرنا.
وقوله ﴿ كُلُّ مُرْضِعَةٍ ﴾ أي كل أنثى ترضع ولدها، ووجه قوله : مرضعة، ولم يقل : مرضع : هو ما تقرر في علم العربية، من أن الأوصاف المختصة بالإناث إن أريد بها الفعل لحقها التاء، وإن أريد بها النسب جردت من التاء، فإن قلت : هي مرضع تريد : أنها ذات رضاع، جردته من التاء كقول امرئ القيس :
فمثلكِ حُبلى قد طرقت ومرضعا *** فألهيتها عن ذي تمائِمَ مغيل
وإن قلت : هي مرضعة بمعنى، أنها تفعل الرضاع : أي تلقم الولد الثدي، قلت : هي مرضعة بالتاء ومنه قوله :
كمرضعة أولاد أُخرى وضيعت *** بني بطنها هذا الضلال عن القصد
كما أشار له بقوله :
وما من الصفات بالأنثى يخص *** عن تاء استغنى لأن اللفظ نص
وحيث معنى الفعل يعني التاء زد *** كذي غدت مرضعة طفلاً ولَد
وما زعمه بعض النحاة الكوفيين : من أن أم الصبي مرضعة بالتاء والمستأجرة للإرضاع : مرضع بلا هاء باطل، قاله أبو حيان في البحر. واستدل عليه بقوله : كمرضعة أولاد أخرى البيت : فقد أثبت التاء لغير الأم، وقول الكوفيين أيضاً : إن الوصف المختص بالأنثى لا يحتاج فيه إلى التاء، لأن المراد منها الفرق بين الذكر والأنثى : والوصف المختص بالأنثى لا يحتاج إلى فرق لعدم مشاركة الذكر لها فيه مردود أيضاً، قاله أبو حيان في البحر أيضاً مستدلاً بقول العرب : مرضعة، وحائضة، وطالقة : والأظهر في ذلك هو ما قدمنا، من أنه إن أريد الفعل جيء بالتاء، وإن أريد النسبة جرد من التاء، ومن مجيء التاء للمعنى المذكور قول الأعشى :
أجارتنا بينِي فإنك طالقه *** كذاك أمور الناس غادٍ وطارقه
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : فإن قلت : لم قيل : مرضعة دون مرضع ؟
قلت : المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي. والمرضع : التي شأنها أن ترضع، وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، فقيل : مرضعة، ليدل على أن ذلك الهول، إذا فوجئت به هذه، وقد ألقمت الرضيع ثديها : نزعته عن فيه، لما يلحقها من الدهشة.
وقوله تعالى ﴿ عَمَّآ أَرْضَعَتْ ﴾ الظاهر أن ما : موصولة، والعائد محذوف : أي أرضعته على حد قوله في الخلاصة :
والحذف عندهم كثير منجلي ***...
في عائدٍ مُتَّصل إن انتصب *** بفعلٍ أو وصفٍ كمن نرجو يهب
وقال بعض العلماء : هي مصدرية : أي تذهل كل مرضعة عن إرضاعها.
قال أبو حيان في البحر : ويقوي كونها موصولة تعدي وضع إلى المفعول به في قوله : حملها لا إلى المصدر.
وقوله ﴿ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ﴾ أي كل صاحبة حمل تضع جنينها، من شدة الفزع، والهول، والحمل بالفتح : ما كان في بطن من جنين، أو على رأس شجرة من ثمر ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ﴾ جمع سكران : أي يشبههم من رآهم بالسكارى، من شدة الفزع ﴿ وَمَا هُم بِسُكَارَى ﴾ من الشراب ﴿ وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ والخوف منه هو الذي صيَّر من رآهم يشبههم بالسكارى، لذهاب عقولهم، من شدة الخوف، كما يذهب عقل السكران من الشراب. وقرأ حمزة والكسائي ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى ﴾ بفتح السين، وسكون الكاف في الحرفين على وزن فعلى بفتح فسكون. وقرأه الباقون ﴿ سُكَارَى ﴾ بضم السين، وفتح الكاف بعدها ألف في الحرفين أيضاً، وكلاهما جمع سكران على التحقيق. وقيل : إن سكرى بفتح فسكون : جمع سكر بفتح فكسر بمعنى : السكران، كما يجمع الزمن على الزمنى، قاله أبو على الفارسي، كما نقله عنه أبو حيان في البحر. وقيل : إن سكرى مفرد، وهو غير صواب.
واستدلال المعتزلة بهذه الآية الكريمة على أن المعدوم يسمى شيئاً، لأنه وصف زلزلة الساعة، بأنها شيء في حال عدمها قبل وجودها. قد بينا وجه رده في سورة مريم، فأغنى عن إعادته هنا.
مسألة
اختلف العلماء في وقت هذه الزلزلة المذكورة هنا، هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة، أو هي عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من القبور ؟
فقالت جماعة من أهل العلم : هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا، وأول أحوال الساعة، وممن قال بهذا القول : علقمة، والشعبي، وإبراهيم، وعبيد بن عمير، وابن جريج. وهذا القول من حيث المعنى له وجه من النظر، ولكنه لم يثبت ما يؤيده من النقل، بل الثابت من النقل يؤيد خلافه. وهو القول الآخر.
وحجة من قال بهذا القول حديث مرفوع، جاء بذلك، إلا أنه ضعيف لا يجوز الاحتجاج به.
قال ابن جرير الطبري في تفسيره مبيناً دليل من قال : إن الزلزلة المذكورة في آخر الدنيا قبل يوم القيامة : حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عبد الرحمان بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع المدني، عن يزيد بن أبي زياد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل من الأنصار، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما فرغ الله من خلق السمواتِ والأرضِ خلق الصُّور فأعطى إسرافيلَ فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى السماء ينظر متى يؤمر » قال أبو هريرة : يا رسول الله، وما الصُّور ؟ قال :«قرن »، قال : وكيف هو ؟ قال :«قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات، الأولى : نفخة الفزع، والثانية : نفخة الصعق : والثالثة : نفخة القيام لرب العالمين »، يأمر الله عز وجل إسرافيل بالنَّفخة الأولى : انفخ نفخة الفزع فتفزع أهل السماوات والأرضِ إلا من شاء الله ويأمره الله فيديمها ويطولها فلا يفتر، وهي التي يقول الله ﴿ وَمَا يَنظُرُ هَؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ ﴾ [ ص : ١٥ ] فيسير الله الجبال فتكون سراباً، وترج الأرض بأهلها رجًّا، وهي التي يقول الله ﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ﴾ [ النازعات : ٦-٨ ] فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر، تضربها الأمواج تكفأ بأهلها، أو كالقنديل المعلق بالعرش، ترججه الأرواح، فتميد الناس على ظهرها، فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار، فتلقاها الملائكة، فتضرب وجوهها، ويولي الناس مدبرين، ينادي بعضهم بعضاً، وهو الذي يقول الله ﴿ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [ غافر : ٣٢-٣٣ ] فبينما هم على ذلك، إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر فرأوا أمراً عظيماً، وأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به، ثم نظروا إلى السماء، فإذا هي كالمُهل، ثم خسفت شمسها، وخسف قمرها، وانتثرت نجومها، ثم كشطت عنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك » فقال أبو هريرة : فمن استثنى الله حين يقول ﴿ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ ﴾ [ النمل : ٨٧ ] قال :«أولئك الشهداء، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون، وقاهم الله فزع ذلك اليوم، وأمنهم، وهو عذاب الله يبعثه على شراء خلقه، وهو الذي يقول﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيءٌ عَظِيمٌ ﴾ إلى قوله ﴿ وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [ الحج : ١-٢ ] » انتهى منه. ولا يخفى ضعف الإسناد المذكور كما ترى. وابن جرير رحمه الله قبل أن يسوق الإسناد المذكور قال ما نصه : وقد روي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بنحو ما قال هؤلاء خبر في إسناده نظر، وذلك ما حدثنا أبو كريب إلى آخر الإسناد، كما سقناه عنه آنفاً.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مستند من قال ذلك في حديث الصور، من رواية إسماعيل بن رافع، عن يزيد بن أبي زياد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن رجل، عن أبي هريرة، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ساق الحديث نحو ما ذكرناه بطوله، ثم قال : هذا الحديث قد رواه الطبراني وابن جرير، وابن أبي حاتم، وغير واحد مطولاً جداً.
والغرض منه : أنه دلَّ على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم القيامة أضيفت إلى الساعة لقربها منها، كما يقال : أشراط الساعة، ونحو ذلك والله أعلم. انتهى منه. وقد علمت ضعف الإسناد المذكور.
وأما حجة أهل القول الآخر القائلين : بأن الزلزلة المذكورة كائنة يوم القيامة بعد البعث من القبور، فهي ما ثبت في الصحيح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من تصريحه بذلك. وبذلك تعلم أن هذا القول هو الصواب كما لا يخفى.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه في التفسير في باب قوله ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ﴾ حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا أبو صالح، عن أبي سعيد الخدري، قال : قال النَّبي صلى الله عليه وسلم «يقول الله عز وجل يوم القيامة : يا آدمُ، فيقول : لبيك ربَّنا وسعديك، فَيُنادى بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار، قال : يا رب، وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف أراه، قال تسعمائه وتسعة وتسعين، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد. فشق ذلك على الناس، حتى تغيرت وجوههم، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم : من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين، ومنكم واحد، وأنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبرنا ثم قال : ثلث أهل الجنة، فكبرنا ثم قال : شطر أهل الجنة، فكبرنا ».
وقال أبو أسامة، عن الأعمش ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى ﴾ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين : وقال جرير، وعيسى بن يونس، وأبو معاوية ﴿ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى ﴾ انتهى من صحيح البخاري.
وفيه تصريح النَّبي صلى الله عليه وسلم بأن الوقت الذي تضع فيه الحامل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى : هو يوم القيامة لا آخر الدنيا.
وقال البخاري في صحيحه أيضاً في كتاب : الرقاق في باب :﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيءٌ عَظِيمٌ ﴾ حدثني يوسف بن موسى، حدثنا جرير عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال «يقول الله يا آدم، فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك، قال يقول : أخرج بعث النار قال : وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فذلك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى ؛ ولكن عذاب الله شديد. فاشتد ذلك عليهم فقالوا : يا رسول الله أي
قوله تعالى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من الناس بعضاً يجادل في الله بغير علم : أي يخاصم في الله بأن ينسب إليه ما لا يليق بجلاله وكماله، كالذي يَدَّعي له الأولاد والشركاء، ويقول إن القرآن أساطير الأولين، ويقول : لا يمكن أن يحيي الله العظام الرميم، كالنضر بن الحارث، والعاص بن وائل، وأبي جهل بن هشام وأمثالهم من كفار مكة الذين جادلوا في الله ذلك الجدال الباطل بغير مستند، من علم عقلي، ولا نقلي، ومع جدالهم في الله ذلك الجدال الباطل يتبعون كل شيطان مريد : أي عاتٍ طاغٍ من شياطين الإنس والجن.
﴿ كُتِبَ عَلَيْهِ ﴾ أي كتب الله عليه كتابه قدر وقضاء ﴿ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ ﴾ أي كل من صار ولياً له : أي للشيطان المريد المذكور، فإنه يضله عن طريق الجنة إلى النار، وعن طريق الإيمان إلى الكفر، ويهديه إلى عذاب السعير : أي النار الشديدة الوقود.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن بعض الجهال كالكفار يجادل في الله بغير علم : أي يخاصم فيه بغير مستند من علم بينه في غير هذا الموضع كقوله في هذه السورة الكريمة ﴿ ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ﴾ [ الحج : ٨ ] ﴿ ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ الحج : ٩ ] الآية وقوله تعالى في لقمان ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [ لقمان : ٢٠-٢١ ] فقوله في آية لقمان هذه :﴿ أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾، كقوله في الحج ﴿ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [ الحج : ٤ ] وهذه الآية الكريمة التي هي قوله :﴿ ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [ الحج : ٨ ] الآية يدخل فيما تضمنته من الوعيد والدم : أهل البدع والضلال، المعرضين عن الحق، المتبعين للباطل، يتركون ما أنزل الله على رسوله من الحق المبين، ويتبعون أقوال رؤساء الضلالة الدعاة إلى البدع والأهواء والآراء، بقدر ما فعلوا من ذلك، لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
ومن الآيات الدالة على مجادلة الكفار في الله بغير علم قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحي الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٧-٧٨ ] وقوله في أول النحل ﴿ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴾ [ النحل : ٤ ] وقوله تعالى ﴿ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ ﴾ [ الكهف : ٥٦ ]. وقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ في اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾ [ الشورى : ١٦ ] وقوله تعالى :﴿ ءَأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [ الزخرف : ٥٨ ] وقوله تعالى :﴿ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاٌّوَّلِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٥ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة، وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، من أنه قدر وقضى أن من تولى الشيطان، فإن الشيطان يضله ويهديه إلى عذاب السعير، بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [ فاطر : ٦ ] وقوله تعالى :﴿ أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [ لقمان : ٢١ ] وقوله تعالى عن نبيه وخليله إبراهيم :﴿ يا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً ﴾ [ مريم : ٤٥ ] وقوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [ النور : ٢١ ] إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أنه يفهم من دليل خطاب هذه الآية الكريمة، أعني مفهوم مخالفتها : أنه من يجادل بعلم على ضوء هدى كتاب منير، كهذا القرآن العظيم، ليحق الحق، ويبطل الباطل بتلك المجادلة الحسنة أن ذلك سائغ محمود لأن مفهوم قوله ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ أنه إن كان بعلم، فالأمر بخلاف ذلك، وليس في ذلك اتباع للشيطان، ويدل لهذا المفهوم المذكور قوله تعالى ﴿ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِي أَحْسَنُ ﴾ [ النحل : ١٢٥ ] وقوله تعالى ﴿ وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِي أَحْسَنُ ﴾ [ العنكبوت : ٤٦ ].
وقال الفخر الرازي في تفسيره : هذه الآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة، لأن تخصيص المجادلة مع عدم العلم بالدلائل، يدل على أن المجادلة مع العلم جائزة، فالمجادلة الباطلة : هي المراد من قوله ﴿ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ ﴾ [ الزخرف : ٥٨ ] والمجادلة الحقة هي المراد من قوله ﴿ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِي أَحْسَنُ ﴾ [ النحل : ٤٦ ] ا ه. منه.
وقوله تعالى في هذه الآية ﴿ عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ يعني عذاب النار، فالسعير النار أعاذنا الله، وإخواننا المسلمين منها. والظاهر أن أصل السعير : فعيل، بمعنى : مفعول من قول العرب : سعر النار، يسعرها كمنع يمنع إذا أوقدها، وكذلك سعرها بالتضعيف، وعلى لغة التضعيف والتخفيف القراءتان السبعيتان في قوله ﴿ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ﴾ [ التكوير : ١٢ ] فقد قرأه من السبعة نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان، وعاصم في رواية حفص : سعرت بتشديد العين وقرأه الباقون بتخفيف العين، ومما جرى من كلام العرب على نحو قراءة نافع، وابن ذكوان، وحفص قول بعض شعراء الحماسة :
قالت له عرسهُ يوماً لتُسْمعني مهلاً فإنَّ لنا في أمِّنا أربا
ولو رأتنيَ في نار مُسعَّرة ثم استطاعت لزادَت فوقْها حَطبا
إذ لا يخفى أن قوله : مسعرة : اسم مفعول سعرت بالتضعيف، وبما ذكرنا يظهر أن أصل السعير : فعيل بمعنى اسم المفعول : أي النار المسعرة : أي الموقدة إيقاداً شديداً لأنها بشدة الإيقاد يزداد حرها عياذاً بالله منها، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل، وفي ذلك لغة ثالثة، إلا أنها ليست في القرآن : وهي أسعر النار بصيغة أفعل، بمعنى : أوقدها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ يدل على أن الهدى كما أنه يستعمل في الإرشاد والدلالة على الخير، يستعمل أيضاً في الدلالة على الشر، لأنه قال :﴿ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ ونظير في ذلك القرآن قوله تعالى ﴿ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ﴾ [ الصافات : ٢٣ ] وقوله تعالى ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ﴾ [ القصص : ٤١ ] لأن الإمام هو من يقتدى به في هديه وإرشاده.
وإطلاق الهدى في الضلال كما ذكرنا أسلوب عربي معروف وكلام البلاغيين في مثل ذلك، بأن فيه استعارة عنادية، وتقسيمهم العنادية إلى تهكمية وتمليحية، معروف كما أشار إليه سابقاً وقوله تعالى ﴿ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ ﴾ قد أوضحنا معنى الشيطان في سورة الحجر، والمريد والمارد في اللغة العربية : العاتي، تقول : مرد الرجل بالضم يمرد، فهو مارد، ومَريد إذا كان عاتياً. والظاهر أن الشيطان في هذه الآية، يشمل كل عات يدعو إلى عذاب السعير، ويضل عن الهدى، سواء كان من شياطين الجن أو الإنس، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ﴾.
هذه الآية الكريمة والآيات التي بعدها، تدل على أن جدال الكفار المذكور في قوله ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [ لقمان : ٢٠ ] يدخل فيه جدالهم في إنكار البعث، زاعمين أنه جل وعلا لا يقدر أن يحيي العظام الرميم، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً، كما قال تعالى ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٨ ] وكقوله تعالى عنهم ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢ ] ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ ﴾ [ الدخان : ٣٠ ] ونحو ذلك من الآيات كما قدمنا الإشارة إليه قريباً.
ولأجل ذلك أقام تعالى البراهين العظيمة على بعث الناس من قبورهم أحياء إلى عرصات القيَامة للحساب، والجزاء فقال جل وعلا ﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ فمن أوجدكم الإيجاد الأول، وخلقكم من التراب لا شك أنه قادر على إيجادكم، وخلقكم مرة ثانية، بعد أن بليت عظامكم، واختلطت بالتراب، لأن الإعادة لا يمكن أن تكون أصعب من ابتداء الفعل، وهذا البرهان القاطع على القدرة على البعث : الذي هو خلقه تعالى للخلائق المرة الأولى المذكور هنا، جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ] وقوله ﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٩ ] وقوله تعالى ﴿ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٤ ] وقوله ﴿ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ الإسراء : ٥١ ] وقوله تعالى ﴿ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الاٌّوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [ ق : ١٥ ] وقوله تعالى ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ [ الواقعة : ٦٢ ] وقوله ﴿ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى ﴾ إلى قوله ﴿ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى ﴾ [ القيامة : ٣٧-٤٠ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً، وقد أوضحنا ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك في سورة البقرة، وسورة النحل، وغيرهما، ولأجل قوة دلالة هذا البرهان المذكور على البعث بين جل وعلا أن من أنكر البعث فهو ناس للإيجاد الأول كقوله ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ ﴾ [ يس : ٧٨ ] الآية، إذ لو تذكر الإيجاد الأول، على الحقيقة، لما أمكنه إنكار الإيجاد الثاني، وكقوله ﴿ وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ﴾ [ مريم : ٦٦-٦٧ ] إذ لو تذكر ذلك تذكراً حقيقياً لما أنكر الخلق الثاني، وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ ﴾ أي في شك من أن الله يبعث الأموات، فالريب في القرآن يراد به الشك، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ قد قدمنا في سورة طه : أن التحقيق في معنى خلقه للناس من تراب، أنه خلق أباهم آدم منها، ثم خلق منه زوجه، ثم خلقهم منهما عن طريق التناسل، كما قال تعالى ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ﴾ [ آل عمران : ٥٩ ]، فلما كان أصلهم الأول من تراب، أطلق عليهم أنه خلقهم من تراب ؛ لأن الفروع تبع للأصل.
وقد بينا في طه أيضاً أن قول من زعم أن معنى خلقه إياهم من تراب : أنه خلقهم من النطف، والنطف من الأغذية، والأغذية راجعة إلى التراب غير صحيح، وقد بينا هناك الآيات الدالة على بطلان هذا القول.
وقد ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أطوار خلق الإنسان، فبين أن ابتداء خلقه من تراب كما أوضحنا آنفاً، فالتراب هو الطور الأول.
والطور الثاني هو النطفة، والنطفة في اللغة : الماء القليل، ومنه قول الشاعر وهو رجل من بني كلاب :
وما عليكِ إذا أخبرتني دنفا وغاب بعْلكِ يوماً أن تَعودِيني
وتجعلي نطفةً في القعْب باردة وتغمسي فاكِ فيها ثم تسقيني
فقوله : وتجعلي نطفة : أي ماء قليلاً في العقب، والمراد بالنطفة في هذه الآية الكريمة : نطفة المني، وقد قدمنا في سورة النحل : أن النطفة مختلطة من ماء الرجل، وماء المرأة، خلافاً لمن زعم : أنها من ماء الرجل وحده.
الطور الثالث : العلقة : وهي القطعة من العلق، وهو الدم الجامد فقوله ﴿ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ﴾ أَي قطعة دم جامدة، ومن إطلاق العلق على الدم المذكور قول زهير :
إليك أعملتها فتلا مرافقها شهرين يجْهُض من أرحامها العَلَق
الطور الرابع : المضغة : وهي القطعة الصغيرة من اللحم، على قدر ما يمضغه الآكل، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله » الحديث.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ﴾ في معناه أوجه معروفة عند العلماء، سنذكرها هنا إن شاءَ الله، ونبين ما يقتضي الدليل رجحانه.
منها أن قوله ﴿ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ﴾ صفة للنطفة وأن المخلقة : هي ما كان خلقاً سوياً، وغير المخلقة : هي ما دفعته الأرحام من النطف، وألقته قبل أن يكون خلقاً، وممن روي عنه هذا القول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نقله عنه ابن جرير وغيره، ولا يخفى بعد هذا القول، لأن المخلقة وغير المخلقة من صفة المضغة، كما هو ظاهر.
ومنها : أن معنى مخلقة : تامة، وغير مخلقة : أي غير تامة، والمراد بهذا القول عند قائله : أن الله جل وعلا يخلق المضغ متفاوتة، منها : ما هو كامل الخلقة، سالم من العيوب، ومنها : ما هو على عكس ذلك، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس، في خلقهم، وصورهم، وطولهم. وقصرهم، وتمامهم، ونقصانهم.
وممن روى عنه هذا القول : قتادة كما نقله عنه ابن جرير وغيره، وعزاه الرازي لقتادة والضحاك. ومنها : أن معنى مخلقة مصورة إنساناً، وغير مخلقة : أي غير مصورة إنساناً كالسقط الذي هو مضغة، ولم يجعل له تخطيط وتشكيل، وممن نقل عنه هذا القول، مجاهد، والشعبي، وأبو العالية كما نقله عنهم ابن جرير الطبري. ومنها : أن المخلقة : هي ما ولد حياً، وغير المخلقة : هي ما كان من سقط.
وممن روى عنه هذا القول : ابن عباس رضي الله عنهما. وقال صاحب الدر المنثور : إنه أخرجه عنه ابن أبي حاتم وصححه ونقله عنه القرطبي وأنشد لذلك قول الشاعر :
أفي غير المخلَّقةِ البكاء فأيْن الحزمُ وَيْحك والحيَاءُ
وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال : المخلقة : المصورة خلقاً تاماً. وغير المخلقة : السقط قبل تمام خلقه، لأن المخلقة، وغير المخلقة من نعت المضغة، والنطفة بعد مصيرها مضغة لم يبق لها حتى تصير خلقاً سوياً إلا التصوير. وذلك هو المراد بقوله ﴿ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ﴾ خلقاً سوياً، وغير مخلقة : بأن تلقيه الأم مضغة ولا تصوير، ولا ينفخ الروح. انتهى منه.
وهذا القول الذي اختاره ابن جرير، اختاره أيضاً غير واحد من أهل العلم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : هذا القول الذي اختاره الإمام الجليل الطبري رحمه الله تعالى، لا يظهر صوابه، وفي نفس الآية الكريمة قرينة تدل على ذلك وهي قوله جل وعلا في أول الآية ﴿ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ لأنه على القول المذكور الذي اختاره الطبري يصير المعنى : ثم خلقناكم من مضغة مخلقة، وخلقناكم من مضغة غير مخلقة. وخطاب الناس بأن الله خلق بعضهم من مضغة غير مصورة، فيه من التناقض، كما ترى فافهم.
فإن قيل : في نفس الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بغير المخلقة : السقط، لأن قوله ﴿ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ يفهم منه أن هناك قسماً آخر لا يقره الله في الأرحام، إلى ذلك الأجل المسمى، وهو السقط.
فالجواب : أنه لا يتعين فهم السقط من الآية، لأن الله يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره إلى أجل مسمى، فقد يقره ستة أشهر، وقد يقره تسعة، وقد يقره أكثر من ذلك كيف شاء.
أما السقط : فقد دلت الآية على أنه غير مراد بدليل قوله ﴿ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ ﴾ الآية، لأن السقط الذي تلقيه أمه ميتاً، ولو بعد التشكيل والتخطيط، لم يخلق الله منه إنساناً واحداً من المخاطبين بقوله ﴿ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ الآية. فظاهر القرآن يقتضي أن كلاً من المخلقة، وغير المخلقة : يخلق منه بعض المخاطبين في قوله ﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ الآية.
وبذلك تعلم أن أولى الأقوال في الآية، هو القول الذي لا تناقض فيه، لأن القرآن أنزل ليصدق بعضه بعضاً، لا ليتناقض بعضه مع بعض، وذلك هو القول الذي قدمنا عن قتادة والضحاك، وقد اقتصر عليه الزمخشري في الكشاف ولم يحك غيره : وهو أن المخلقة : هي التامة، وغير المخلقة : هي غير التامة.
قال الزمخشري في الكشاف : والمخلقة المسواة الملساء من النقصان والعيب، يقال : خلق السواك والعود : إذا سواه وملسه. من قولهم صخرة خلقاء، إذا كانت ملساء، كأن الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة. منها : ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب. ومنها : ما هو على عكس ذلك، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم. انتهى منه.
وهذا المعنى الذي ذكره الزمخشري معروف في كلام العرب، تقول العرب : حجر أخلق : أي أملس مصمت لا يؤثر فيه شيء، وصخرة خلقاء بينة الخلق : أي ليس فيها وصم، ولا كسر، ومنه قول الأعشى :
قد يترك في خلقاء راسية وَهْياً وينزل منها الأعصم الصدعا
والدهر في البيت : فاعل يترك، والمفعول به : وهياً. يعني : أن صرف الدهر قد يؤثر في الحجارة الصم السالمة من الكسر والوصم، فيكسرها، ويوهيها، ويؤثر في العصم من الأوعال برؤوس الجبال، فينزلها من معاقلها، ومن ذلك أيضاً قول ابن أحمر يصف فرساً، وقد أنشده صاحب اللسان للمعنى المذكور :
بمقلص درك الطريدة متنه كصفا الخليقة بالفضاء الملبَّد
فقوله : كصفا الخليقة، يعني : أن متن الفرس المذكور كالصخرة الملساء التي لا كسر فيها، ولا وصم، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته. والسهم المخلق : هو الأملس ال
قوله تعالى :﴿ ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ في الدُّنْيَا خِزْي وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾.
قال بعض أهل العلم : الآية الأولى التي هي ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ ﴾ نازلة في الأتباع الجهلة الذين يجادلون بغير علم، اتباعاً لرؤسائهم، من شياطين الإنس والجن، وهذه الآية الأخيرة في الرؤساء الدعاة إلى الضلال المتبوعين في ذلك، ويدل لهذا أنه قال في الأولى ﴿ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ ﴾.
وقال في هذه ﴿ ثَانِي عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ فتبين بذلك أنه مضل لغيره، متبوع في الكفر والضلال، على قراءة الجمهور بضم ياء يضل. وأما على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو : بفتح الياء، فليس في الآية دليل على ذلك، وقد قدمنا معنى جدال الكفرة في الله بغير علم، فأغنى عن إعادته هنا.
وقال بعض العلماء في قوله في هذه الآية الكريمة ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ أي بدون علم ضروري، حاصل لهم بما يجادلون به ﴿ وَلاَ هُدًى ﴾ أي استدلال، ونظر عقلي، يهتدي به العقل للصواب ﴿ وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ﴾ أي وَحْي نير واضح، يعلم به ما يجادل به، فليس عنده علم ضروري ولا علم مكتسب بالنظر الصحيح العقلي، ولا علم من وَحْي، فهو جاهل محض من جميع الجهات، وقوله ﴿ ثَانِيَ عِطْفِهِ ﴾ حال من ضمير الفاعل المستكن في : يجادل : أي يخاصم بالباطل في حال كونه ثاني عطفه : أي لاوي عنقه عن قبول الحق استكباراً وإعراضاً. فقوله : ثاني اسم فاعل ثَنْى الشيء إذا لواه، وأصل العطف الجانب، وعطفا الرجل : جانباه من لدن رأسه إلى وركيه، تقول العرب : ثنى فلان عنك عطفه : تعني أعرض عنك ؛ وإنما عبر العلماء هنا بالعنق فقالوا : ثاني عطفه : لاوي عنقه : مع أن العطف يشمل العنق وغيرها، لأن أول ما يظهر فيه الصدود عنق الإنسان، يلويها، ويصرف وجهه عن الشيء بليها. والمفسرون يقولون : إن اللام في قوله ﴿ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ ونحوها من الآيات مما لم تظهر فيه العلة الغائية، كقوله ﴿ فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾ [ القصص : ٨ ] الآية. ونحو ذلك لام العاقبة، والبلاغيون يزعمون أن في ذلك استعارة تبعية، في معنى الحرف. وقد وعدنا بإيضاح ذلك في سورة القصص.
ونقول هنا : إن الظاهر في ذلك : أن الصواب فيه غير ما ذكروا، وأن اللام في الجميع لام التعليل، والمعنى واضح لا إشكال فيه كما نبه عليه الحافظ ابن كثير رحمه الله في مواضع من تفسيره.
وإيضاح ذلك : أن الله هو الذي قدر على الكافر في أزله أن يجادل في الله بغير علم في حال كونه لاوي عنقه إعراضاً عن الحق، واستكباراً. وقد قدر عليه ذلك ليجعله ضالاً مضلاً. وله الحكمة البالغة في ذلك، كقوله ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ﴾ [ الكهف : ٥٧ ] أي لئلا يفقهوه ؛ وكذلك ﴿ فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ ﴾ [ القصص : ٨ ] أي قدر الله عليهم أن يلتقطوه ؛ لأجل أن يجعله لهم عدواً وحزناً ؛ وهذا واضح لا إشكال فيه كما ترى.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية : من إعراض بعض الكفار عن الحق واستكبارهم أوضحه في آيات أخر من كتاب الله، كقوله تعالى ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا ﴾ [ لقمان : ٧ ] وقوله تعالى ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ﴾ [ المنافقون : ٥ ] وقوله تعالى ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً ﴾ [ النساء : ٦١ ] وقوله تعالى عن لقمان في وصيته لابنه ﴿ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ﴾ [ لقمان : ١٨ ] أي لا تمل وجهك عنهم، استكباراً عليهم. وقوله تعالى عن فرعون ﴿ وَفِى مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ ﴾ [ الذاريات : ٣٨-٣٩ ] فقوله ﴿ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ ﴾ [ فصلت : ٥١ ] بمعنى : ثنى عطفه ؛ وقوله تعالى ﴿ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ﴾ [ فصلت : ٥١ ] إلى غير ذلك من الآيات :
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ لَهُ في الدُّنْيَا خِزْي ﴾ أي ذل وإهانة. وقد أذل الله الذين جادلوا في الله بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير : كأبي جهل بن هشام، والنضر بن الحارث بالقتل يوم بدر.
ويفهم من هذه الآية الكريمة أن من ثنى عطفه استكباراً عن الحق وإعراضاً عنه عامله الله بنقيض قصده فأذله وأهانه ؛ وذلك الذل والإهانة نقيض ما كان يؤمله من الكبر والعظمة.
وهذا المفهوم من هذه الآية دلت عليه آيات أخر كقوله تعالى ﴿ إِن في صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ﴾ [ غافر : ٥٦ ] وقوله في إبليس لما استكبر ﴿ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٣ ] والصغار : الذل والهوان، عياذاً بالله من ذلك، كما قدمنا إيضاحه. وقوله ﴿ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ أي نحرقه بالنار، ونذيقه ألم حرها يوم القيامة : وسمى يوم القيامة : لأن الناس يقومون فيه له جل وعلا، كما قال تعالى ﴿ أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ المطففين : ٤-٦ ].
قوله تعالى :﴿ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلعَبِيدِ ﴾.
المعنى : أن الكافر إذا أذيق يوم القيامة عذاب الحريق، يقال له ذلك : أي هذا العذاب الذي نذيقكه بسبب ما قدمت يداك : أي قدمته في الدنيا من الكفر والمعاصي :﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلعَبِيدِ ﴾ فلا يظلم أحداً مثقال ذرة. ﴿ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ﴾ [ النساء : ٤٠ ] والظاهر أن المصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلعَبِيدِ ﴾ في محل خفض عطفاً على ما المجرورة بالباء.
والمعنى : هذا العذاب الذي يذيقكه الله حصل لك بسببين، وهما ما قدمته يداك، من عمل السوء من الكفر والمعاصي وعدالة من جازاك، ذلك الجزاء الوفاق، وعدم ظلمه. وقد أوضحنا فيما مضى إزالة الإشكال المعروف في نفي صيغة المبالغة، في قوله ﴿ لَيْسَ بِظَلَّامٍ ﴾ فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وفي هذه الآية الكريمة ثلاثة أسئلة :
الأول : هو ما ذكرنا آنفاً أنا أوضحنا الجواب عنه سابقاً، وهو : أن المعروف في علم العربية، أن النفي إذا دخل على صيغة المبالغة، لم يقتض نفي أصل الفعل.
فلو قلت : ليس زيد بظلام للناس، فمعناه المعروف : أنه غير مبالغ في الظلم، ولا ينافي ذلك حصول مطلق الظلم فيه. وقد قدمنا إيضاح هذا.
والسؤال الثاني : أنه أسند كل ما قدم إلى يديه في قوله ﴿ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ﴾ وكفره الذي هو أعظم ذنوبه، ليس من فعل اليد، وإنما هو من فعل القلب واللسان، وإن كان بعض أنواع البطش باليد، يدل على الكفر، فهو في اللسان والقلب أظهر منه في اليد. وزناه لم يفعله بيده، بل بفرجه، ونحو ذلك من المعاصي التي تزاول بغير اليد.
والجواب عن هذا ظاهر : وهو أن من أساليب اللغة العربية، التي نزل بها القرآن إسناد جميع الأعمال إلى اليد، نظراً إلى أنها الجارحة التي يزاول بها أكثر الأعمال فغلبت على غيرها، ولا إشكال في ذلك.
والسؤال الثالث : هو أن يقال : ما وجه إشارة البعد في قوله ﴿ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ﴾ مع أن العذاب المشار إليه قريب منه حاضر ؟.
والجواب عن هذا : أن من أساليب اللغة العربية : وضع إشارة البعد موضع إشارة القرب. وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا :( دفع إيهام الاضطراب. عن آيات الكتاب ) في الكلام على قوله تعالى في أول سورة البقرة :﴿ الم * ذَالِكَ الْكِتَابُ ﴾ [ ١-٢ ] أي هذا الكتاب.
ومن شواهد ذلك في اللغة العربية قول خفاف بن ندبة السلمي :
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمداً على عيني تيممت مالكا
أقول له والرمح يأطر متنه أمل خفافاً إنني أنا ذلكا
يعني أنا هذا، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من أن الكافر يقال له يوم القيامة ﴿ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ﴾ الآية لا يخفى أنه توبيخ، وتفريع، وإهانة له، وأمثال ذلك القول في القرآن كثيرة : كقوله تعالى :﴿ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَاذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ﴾ [ الدخان : ٤٧-٥٠ ] وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَاذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَاذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الطور : ١٣-١٦ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
قوله تعالى :﴿ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذالِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴾.
ضمير الفاعل في قوله ﴿ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ ﴾ راجع إلى الكافر المشار إليه في قوله ﴿ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذالِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ أي يدعو ذلك الكافر المذكور من دون الله، ما لا يضره، إن ترك عبادته، وكفر به، وما لا ينفعه، إن عبده وزعم أنه يشفع له.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الأوثان، لا تضر من كفر بها، ولا تنفع من عبدها بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ في السَّمَاوَاتِ وَلاَ في الأرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ يونس : ١٨ ] وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم ﴿ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ [ الشعراء : ٧٢-٧٤ ].
إذ المعنى : أنهم اعترفوا بأنهم لا يسمعون، ولا ينفعون ولا يضرون، ولكنهم عبدوهم تقليداً لآبائهم. والآيات بمثل ذلك كثيرة.
تنبيه
فإن قيل : ما وجه الجمع بين نفيه تعالى النفع والضر معاً، عن ذلك المعبود من دون الله في قوله ﴿ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ﴾ مع إثباتهما في قوله :
﴿ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ ﴾.
لأن صيغة التفضيل في قوله : أقرب دلت على أن هناك نفعاً، وضراً، ولكن الضر أقرب من النفع.
فالجواب : أن للعلماء أجوبة عن ذلك.
منها : ما ذكره الزمخشري : قال : فإن قلت : الضر والنفع منفيان عن الأصنام، مثبتان لها في الآيتين، وهذا تناقض.
قلت : إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم ؛ وذلك أن الله تعالى سفَّه الكافر، بأنه يعبد جماداً لا يملك ضراً، ولا نفعاً، وهو يعتقد فيه بجهله وضلاله، أنه يستنفع به، حين يستشفع به، ثم قال يوم القيامة : يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها، ولا يرى أثر الشفاعة التي ادعاها لها :﴿ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ﴾ وكرر يدعو كأنه قال : يدعو يدعو من دون الله ما لا يضره، وما لا ينفعه. ثم قال لمن ضره بكونه معبوداً : أقرب من نفعه، بكونه شفيعاً : لبئس المولى، ولبئس العشير ا ه منه.
ولا يخفى أن جواب الزمخشري هذا غير مقنع، لأن المعبود من دون الله، ليس فيه نفع البتة، حتى يقال فيه : إن ضره أقرب من نفعه وقد بين أبو حيان عدم اتجاه جوابه المذكور.
ومنها : ما أجاب به أبو حيان في البحر.
وحاصله : أن الآية الأولى في الذين يعبدون الأصنام، فالأصنام. لا تنفع من عبدها، ولا تضر من كفر بها : ولذا قال فيها : ما لا يضره وما لا ينفعه : والقرينة على أن المراد بذلك الأصنام، هي التعبير بلفظة «ما » في قوله ﴿ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ﴾ لأن لفظة «ما » تأتي لما لا يعقل، والأصنام لا تعقل.
أما الآية الأخرى فهي فيمن عبد بعض الطغاة المعبودين من دون الله، كفرعون القائل ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾[ القصص : ٣٨ ]، ﴿ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ [ الشعراء : ٢٩ ]، ﴿ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعْلَى ﴾ [ النازعات : ٢٤ ] فإن فرعون ونحوه من الطغاة المعبودين قد يغدقون نعم الدنيا على عابديهم : ولذا قال له القوم الذين كانوا سحرة ﴿ أَإِنَّ لَنَا لأجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [ الشعراء : ٤١-٤٢ ] فهذا النفع الدنيوي بالنسبة إلى ما سيلاقونه، من العذاب، والخلود في النار كلا شيء، فضر هذا المعبود بخلود عابده في النار، أقرب من نفعه. بعرض قليل زائل من حطام الدنيا، والقرينة على أن المعبود في هذه الآية الأخيرة : بعض الطغاة الذين هم من جنس العقلاء : هي التعبير بمن التي تأتي لمن يعقل في قوله ﴿ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ ﴾ هذا هو خلاصة جواب أبي حيان وله اتجاه، والله تعالى أعلم.
واعلم أن اللام في ﴿ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ ﴾ فيها إشكال معروف. وللعلماء عن ذلك أجوبة.
ذكر ابن جرير الطبري رحمه الله منها ثلاثة :
أحدها : أن اللام متزحلقة عن محلها الأصلي، وأن ذلك من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن، والأصل : يدعو من لضره أقرب من نفعه، وعلى هذا فمن الموصولة في محل نصب مفعول به ليدعوا، واللام موطئة للقسم، داخلة على المبتدإ، الذي هو وخبره صلة الموصول، وتأكيد المبتدإ في جملة الصلة باللام، وغيرها لا إشكال فيه.
قال ابن جرير وحكي عن العرب سماعاً : منها عندي لما غيره خير منه : أي عندي ما لغيره خير منه، وأعطيتك لما غيره خير منه : أي ما لغيره خير منه.
والثاني : منها : أن قوله : يدعوا تأكيد ليدعوا في الآية التي قبلها : وعليه فقوله ﴿ لَمَنْ ضَرُّهُ ﴾ في محل رفع بالابتداء، وجملة ﴿ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ ﴾ صلة الموصول الذي هو من والخبر هو جملة ﴿ لَبِئْسَ الْمَوْلَى ﴾. وهذا المعنى كقول العرب : لما فعلت لهو خير لك.
قال ابن جرير : لما ذكر هذا الوجه : واللام الثانية في ﴿ لَبِئْسَ الْمَوْلَى ﴾ جواب اللام الأولى : قال : وهذا القول على مذهب أهل العربية أصح، والأول إلى مذهب أهل التأويل أقرب ا ه.
والثالث : منها : أن ﴿ مِنْ ﴾ في موضع نصب بيدعوا، وأن اللام دخلت على المفعول به، وقد عزا هذا لبعض البصريين مع نقله عمن عزاه إليه أنه شاذ. وأقربها عندي الأول.
وقال القرطبي رحمه الله : ولم ير منه نفعاً أصلاً، ولكنه قال ﴿ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ ﴾ ترفيعاً للكلام : كقوله ﴿ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ في ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ [ سبأ : ٢٤ ] وباقي الأقوال في اللام المذكورة تركناه، لعدم اتجاهه في نظرنا، والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ لَبِئْسَ الْمَوْلَى ﴾.
المولى : هو كل ما انعقد بينك وبينه سبب، يواليك، وتواليه به. والعشير : هو المعاشر، وهو الصاحب والخليل.
والتحقيق : أن المراد بالمولى والعشير المذموم في هذه الآية الكريمة، هو المعبود الذي كانوا يدعونه من دون الله، كما هو الظاهر المتبادر من السياق.
وقوله ﴿ ذالِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ﴾ أي البعيد عن الحق والصواب.
قوله تعالى :﴿ مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴾.
في هذه الآية الكريمة أوجه من التفسير معروفة عند العلماء، وبعضها يشهد لمعناه قرآن.
الأول : أن المعنى : من كان من الكفرة الحسدة له صلى الله عليه وسلم، يظن أن لن ينصره الله : أي أن لن ينصر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ﴿ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ ﴾ أي بحبل إلى السماء : أي سماء بيته، والمراد به السقف : لأن العرب تسمى كل ما علاك سماء كما قال :
وقد يسمى سماء كل مرتفع وإنما الفضل حيث الشمس والقمر
كما أوضحناه في سورة الحجر.
والمعنى : فليعقد رأس الحبل في خشبة السقف ﴿ ثُمَّ لْيَقْطَعْ ﴾ أي ليختنق بالحبل، فيشده في عنقه، ويتدلى مع الحبل المعلق في السقف حتى يموت، وإنما أطلق القطع على الاختناق، لأن الاختناق يقطع النفس بسبب حبس مجاريه، ولذا قيل للبهر وهو تتابع النفس : قطع، فلينظر إذا اختنق ﴿ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ﴾ أي هل يذهب فعله ذلك ما يغيظه من نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، في الدنيا والآخرة.
والمعنى : لا يذهب ذلك الذي فعله ذلك الكافر الحاسد ما يغيظه ويغضبه من نصر الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
قال الزمخشري : وسمي فعله كيداً، لأنه وضعه موضع الكيد، حيث لم يقدر على غيره، أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده، إنما كاد به نفسه، والمراد : ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظه ا ه منه.
وحاصل هذا القول : أن الله يقول لحاسديه صلى الله عليه وسلم، الذين يتربصون به الدوائر، ويظنون أن ربه لن ينصره : موتوا بغيظكم، فهو ناصره لا محالة على رغم أنوفكم، وممن قال بهذا القول : مجاهد، وقتادة، وعكرمة، وعطاء، وأبو الجوزاء، وغيرهم. كما نقله عنهم ابن كثير، وهو أظهرها عندي.
ومما يشهد لهذا المعنى من القرآن : قوله تعالى. ﴿ وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ ﴾[ آل عمران : ١١٩ ].
الوجه الثاني : أن المعنى : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، والحال أن النصر يأتيه صلى الله عليه وسلم من السماء، فليمدد بسبب إلى السماء فيرتقي بذلك السبب، حتى يصعد إلى السماء، فيقطع نزول الوحي من السماء، فيمنع النصر عنه صلى الله عليه وسلم.
والمعنى : أنه وإن غاظه نصر الله لنبيه. فليس له حيلة، ولا قدرة على منع النصر، لأنه لا يستطيع الارتقاء إلى السماء ومنع نزول النصر منها عليه صلى الله عليه وسلم : وعلى هذا القول : فصيغة الأمر في قوله ﴿ فَلْيَمْدُدْ ﴾ وقوله ﴿ ثُمَّ لْيَقْطَعْ ﴾ للتعجيز ﴿ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ ﴾ ذلك الحاسد العاجز عن قطع النصر عنه صلى الله عليه وسلم : هل يذهب كيده إذا بلغ غاية جهده في كيد النَّبي صلى الله عليه وسلم، ما يغيظه من نصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم.
والمعنى : أنه إن أعمل كل ما في وسعه، من كيد النَّبي صلى الله عليه وسلم ليمنع عنه نصر الله، فإنه لا يقدر على ذلك، ولا يذهب كيده ما يغيظه من نصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم.
ومما يشهد لهذا القول من القرآن قوله تعالى ﴿ أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ في الأسْبَابِ * جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحَزَابِ ﴾ [ ص : ١٠-١١ ] وقد أوضحنا معنى هذه الآية في سورة الحجر.
ولبعض أهل العلم قول ثالث في معنى الآية الكريمة : وهو أن الضمير في ﴿ لَّن يَنصُرَهُ ﴾ عائد إلى من في قوله تعالى ﴿ مَن كَانَ يَظُنُّ ﴾ وأن النصر هنا بمعنى الرزق، وأن المعنى : من كان يظن أن لن ينصره الله أي لن يرزقه، فليختنق، وليقتل نفسه، إذ لا خير في حياة ليس فيها رزق الله وعونه، أو فليختنق، وليمت غيظاً وغماً، فإن ذلك لا يغير شيئاً مما قضاه الله وقدره، والذين قالوا هذا القول قالوا : إن العرب تسمي الرزق نصراً، وعن أبي عبيدة قال : وقف علينا سائل من بني بكر، فقال : من ينصرني نصره الله، يعني : من يعطيني أعطاه الله، قالوا : ومن ذلك قول العرب : أرض منصورة : أي ممطورة، ومنه قول رجل من بني فقعس :
وإنك لا تُعطي امرأً فوق حقِّه ولا تملك الشّق الذي ألغيتَ ناصره
أي معطيه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : وهذا القول الأخير ظاهر السقوط، كما ترى، والذين قالوا : إن الضمير في قوله ﴿ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ ﴾ راجع إلى الدين، أو الكتاب، لا يخالف قولهم قول من قال : إن الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم، لأن نصر الدين، والكتاب هو نصره صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى، ونصر الله له صلى الله عليه وسلم في الدنيا، بإعلائه كلمته، وقهره أعداءه، وإظهار دينه، وفي الآخرة بإعلاء درجته، والانتقام ممن كذبه، ونحو ذلك كما قال تعالى ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ في الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الاٌّشْهَادُ ﴾ [ غافر : ٥١ ] فإن قيل : قررتم أن الضمير في ينصره، عائد إليه صلى الله عليه وسلم، وهو لم يجر له ذكر، فكيف قررتم رجوع الضمير إلى غير مذكور.
فالجواب : هو ما قاله غير واحد : من أنه صلى الله عليه وسلم، وإن لم يجر له ذكر، فالكلام دال عليه، لأن الإيمان في قوله في الآية التي قبلها تليها ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ ﴾ [ الحج : ١٤ ]. هو الإيمان بالله، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، والانقلاب عن الدين المذكور في قوله ﴿ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ﴾ انقلاب عما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ ثُمَّ لْيَقْطَعْ ﴾ قرأه أبو عمرو، وابن عامر، وورش، عن نافع بكسر اللام على الأصل في لام الأمر، وقرأه الباقون بإسكان اللام تخفيفاً.
قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن في السَّمَاوَاتِ وَمَن في الأرْضِ ﴾ إلى قوله ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في مواضع من هذا الكتاب المبارك، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى :﴿ فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا في بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ﴾.
ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة، من أنواع عذاب أهل النار، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل، جاء مبيناً في آيات أخر من كتاب الله، فقوله هنا ﴿ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ ﴾ أي قطع الله لهم من النار ثياباً، وألبسهم إياها تنقد عليهم كقوله فيهم ﴿ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ ﴾ [ إبراهيم : ٥٠ ] والسرابيل : هي الثياب التي هي القمص، كما قدمنا إيضاحه، وكقوله ﴿ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ﴾ [ الأعراف : ٤١ ] والغواشي : جمع غاشية : وهي غطاء كاللحاف، وذلك هو معنى قوله هنا ﴿ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ ﴾ وقوله تعالى هنا ﴿ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ﴾ ذكره أيضاً في غير هذا الموضع كقوله ﴿ ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ﴾ [ الدخان : ٤٨-٤٩ ] والحميم : الماء البالغ شدة الحرارة، وكقوله تعالى ﴿ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ ﴾ [ الكهف : ٢٩ ].
وقوله هنا ﴿ يُصْهَرُ بِهِ مَا في بُطُونِهِمْ ﴾ أي يذاب بذلك الحميم، إذا سقوه فوصل إلى بطونهم، كل ما في بطونهم من الشحم والأمعاء وغير ذلك، كقوله تعالى ﴿ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ ﴾ [ محمد : ١٥ ] والعرب تقول : صهرت الشيء فانصهر، فهو صهير : أي أذبته فذاب، ومنه قول ابن أحمر يصف تغذية قطاة لفرخها في فلاة من الأرض :
تروي لقي ألْقى في صَفْصَف *** تَصْهره الشَّمْس فما يَنْصَهِرْ
أي تذيبه الشمس، فيصبر على ذلك، ولا يذوب، وقوله : والجلود الظاهر أنه معطوف على «ما » من قوله ﴿ يُصْهَرُ بِهِ مَا في بُطُونِهِمْ ﴾ التي هي نائب فاعل يصهر، وعلى هذا الظاهر المتبادر من الآية، فذلك الحميم يذيب جلودهم، كما يذيب ما في بطونهم. لشدة حرارته.
إذ المعنى : يصهر به ما في بطونهم، وتصهر به الجلود ؛ أي جلودهم، فالألف واللام قامتا مقام الإضافة، وقال بعض أهل العلم : والجلود مرفوع بفعل محذوف معطوف على تصهر، وتقديره : وتحرق به الجلود، ونظير ذلك في تقدير العامل المحذوف الرافع الباقي معموله مرفوعاً بعد الواو قول لبيد في معلقته :
فعلا فروعُ الأيْهقَانِ وأطفَلت *** بالْجَلهَتَيْنِ ظباؤُهَا ونَعامُهَا
يعني : وباض نعامها، لأن النعامة لا تلد الطفل، وإنما تبيض، بخلاف الظبية فهي تلد الطفل، ومثاله في المنصوب قول الآخر :
إذا ما الغانياتُ برزْنَ يوما *** وزجَّجْنَ الحواجِبَ والعُيونا
ترى منَّا الأيور إذا رأَوْهَا *** قِياماً راكِعينَ وساجِدينا
يعني زججن الحواجب، وأكحلن العيون وقوله :
ورَأيْت زوجَك في الوَغَى *** متقلِّدا سيفاً ورمْحَا
أي وحاملاً رمحاً، لأن الرمح لا يتقلد، وقول الآخر :
تراه كأن الله يجدعُ أنفَه *** وعينيه إنْ مولاه ثَابَ له وفْر
يعني : ويفقأ عينيه، ومن شواهده المشهورة قول الراجز :
علَفْتها تِبناً وماءً باردا *** حتى شتت همالةً عيناها
يعني : وسقيتها ماء بارداً، ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ ﴾ : أي وأخلصوا الإيمان، أو ألفوا الإيمان، ومثال ذلك في المخفوض قولهم : ما كل بيضاء شحمة، ولا سوداء تمرة : أي ولا كل سوداء تمرة، وإلى هذه المسألة أشار في الخلاصة بقوله :
وهي انفردت ***...
بعطف عامل مُزال قَدْ بَقي *** معمولُه دفعاً لوهْمٍ اتَّقى
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ﴾ المقامع : جمع مقمعة بكسر الميم الأولى، وفتح الميم الأخيرة، ويقال : مقمع بلا هاء، وهو في اللغة : حديدة كالمحجن يضرب بها على رأس الفيل : وهي في الآية مرازب عظيمة من حديد تضرب بها خزنة النار رؤوس أهل النار، وقال بعض أهل العلم : المقامع : سياط من نار، ولا شك أن المقامع المذكورة في الآية من الحديد لتصريحه تعالى بذلك، وقوله تعالى ﴿ هَاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ في رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ ﴾ نزل في المبارزين يوم بدر، وهم : حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث بن المطلب، وفي أقرانهم المبارزين من الكفار وهم : عتبة بن ربيعة، وابنه الوليد بن عتبة، وأخوه شيبة بن ربيعة، كما ثبت في الصحيحين، وغيرهما.
قوله تعالى :﴿ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من أن أهل النار كلما أرادوا الخروج منها، لما يصيبهم من الغم فيها عياذاً بالله منها، أعيدوا فيها، ومنعوا من الخروج منها بينه في غير هذا الموضع، كقوله في المائدة ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا في الأرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ [ المائدة : ٣٦-٣٧ ] وقوله في السجدة ﴿ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا ﴾ [ السجدة : ٢٠ ]، وقوله في آية الحج هذه ﴿ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ حذف فيه القول.
والمعنى : أعيدوا فيها، وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق، وهذا القول المحذوف في الحج صرح به في السجدة في قوله تعالى ﴿ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ [ السجدة : ٢٠ ] والمفسرون يقولون : إن لهب النار يرفعهم، حتى يكاد يرميهم خارجها، فتضربهم خزنة النار بمقامع الحديد، فتردهم في قعرها، نعوذ بالله منها، ومن كل ما يقرب إليها من قول وعمل.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾.
اعلم أن خبر إن في قوله هنا ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ محذوف كما ترى.
والذي تدل عليه الآية أن التقدير : إن الذين كفروا، ويصدون عن سبيل الله، نذيقهم من عذاب أليم. كما دل على هذا قوله في آخر الآية ﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
فإن قيل : ما وجه عطف الفعل المضارع على الفعل الماضي، في قوله ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ ﴾.
فالجواب : من أربعة أوجه : واحد منها ظاهر السقوط.
الأول : هو ما ذكره بعض علماء العربية من أن المضارع، قد لا يلاحظ فيه زمان معين من حال، أو استقبال، فيدل إذ ذاك على الاستمرار، ومنه ﴿ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ وقوله ﴿ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ﴾ قاله أبو حيان وغيره.
الثاني : أن يصدون خبر مبتدأ محذوف، والتقدير : إن الذين كفروا، وهم يصدون، وعليه فالجملة المعطوفة اسمية لا فعلية، وهذا القول استحسنه القرطبي.
الثالث : أن يصدون مضارع أريد به الماضي : أي كفروا، وصدوا وليس بظاهر.
الرابع : أن الواو زائدة، وجملة يصدون خبر إن : أي إن الذين كفروا يصدون الآية. وهذا هو الذي قدمنا أنه ظاهر السقوط، وهو كما ترى، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية من أن من أعمال الكفار الصد عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى ﴿ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٢١٧ ]. وقوله تعالى ﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾ [ الفتح : ٢٥ ] وقوله تعالى ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ ﴾ [ المائدة : ٢ ] إلى غير ذلك من الآيات، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ﴾ قرأه عامة السبعة غير حفص عن عاصم : سواء، بضم الهمزة، وفي إعرابه على قراءة الجمهور هذه برفع سواء وجهان.
الأول : أن قوله : العاكف : مبتدأ، والباد : معطوف عليه، وسواء خبر مقدم، وهو مصدر أطلق وأريد به الوصف.
فالمعنى : العاكف والبادي سواء، أي مستويان فيه، وهذا الإعراب أظهر الوجه.
الثاني : أن سواء مبتدأ والعاكف فاعل سد مسد الخبر، والظاهر أن مسوغ الابتداء بالنكرة التي هي سواء، على هذا الوجه : هو عملها في المجرور الذي هو فيه، إذ المعنى : سواء فيه العاكف والبادي، وجملة المبتدأ وخبره في محل المفعول الثاني : لجعلنا، وقرأ حفص عن عاصم : سواء بالنصب، وهو المفعول الثاني : لجعلنا التي بمعنى صيرنا. والعاكف فاعل سواء : أي مستوياً فيه العاكف والبادي، ومن كلام العرب : مررت برجل سواء هو والعدم، ومن قال : إن " جعل " في الآية تتعدى إلى مفعول واحد قال : إن سواء حال من الهاء في جعلناه : أي وضعناه للناس في حال كونه سواء العاكف فيه والبادي كقوله ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ﴾ [ آل عمران : ٩٦ ] وقال بعض أهل العلم : إن المراد بالمسجد الحرام في هذه الآية الكريمة : يشمل جميع الحرم. ولذلك أخذ بعض العلماء من هذه الآية، أن رباع مكة لا تملك، وقد قدمنا الكلام مستوفى في هذه المسألة، وأقوال أهل العلم فيها، ومناقشة أدلتهم في سورة الأنفال، فأغنى ذلك عن إعادته هنا، والعاكف : هو المقيم في الحرم، والبادي : الطارئ عليه من البادية، وكذلك غيرها من أقطار الدنيا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : والبادي قرأه أبو عمرو وورش، عن نافع بإثبات الياء، بعد الدال في الوصل، وإسقاطها في الوقف، وقرأه ابن كثير بإثباتها وصلاً ووقفاً، وقرأه باقي السبعة بإسقاطها، وصلاً ووقفاً.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ قد أوضحنا إزالة الإشكال عن دخول الباء على المفعول في قوله : بإلحاد، ونظائره في القرآن، وأكثرنا على ذلك من الشواهد العربية في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ﴾ [ مريم : ٢٥ ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
والإلحاد في اللغة أصله : الميل، والمراد بالإلحاد في الآية : أن يميل، ويحيد عن دين الله الذي شرعه، ويعم ذلك كل ميل وحيدة عن الدين، ويدخل في ذلك دخولاً أولياً الكفر بالله، والشرك به في الحرم، وفعل شيء مما حرمه وترك شيء مما أوجبه. ومن أعظم ذلك : انتهاك حرمات الحرم. وقال بعض أهل العلم : يدخل في ذلك احتكار الطعام بمكة، وقال بعض أهل العلم :
يدخل في ذلك قول الرجل : لا والله، وبلى والله، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان له فسطاطان : أحدهما : في طرف الحرم، والآخر : في طرف الحل، فإذا أراد أن يعاتب أهله، أو غلامه فعل ذلك في الفسطاط الذي ليس في الحرم، يرى أن مثل ذلك يدخل في الإلحاد فيه بظلم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر في هذه المسألة، أن كل مخالفة بترك واجب، أو فعل محرم تدخل في الظلم المذكور، وأما الجائزات كعتاب الرجل امرأته، أو عبده، فليس من الإلحاد، ولا من الظلم.
مسألة
قال بعض أهل العلم : من هم أن يعمل سيئة في مكة، أذاقه الله العذاب الأليم بسبب همه بذلك، وإن لم يفعلها، بخلاف غير الحرم المكي من البقاع، فلا يعاقب فيه بالهم. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : لو أن رجلاً أراد بإلحاد فيه بظلم وهو بِعَدَنٍ أَبْيَن، لأذاقه الله من العذاب الأليم، وهذا ثابت عن ابن مسعود، ووقفه عليه أصح من رفعه، والذين قالوا هذا القول : استدلوا له بظاهر قوله تعالى ﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ لأنه تعالى رتب إذاقة العذاب الأليم، على إرادة الإلحاد بالظلم فيه ترتيب الجزاء على شرطه، ويؤيد هذا قول بعض أهل العلم : إن الباء في قوله : بإلحاد، لأجل أن الإرادة مضمنة معنى الهم : أي ومن يهمم فيه بإلحاد، وعلى هذا الذي قاله ابن مسعود وغيره.
فهذه الآية الكريمة مخصصة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم «ومن هم بسيئة فلم يعملها كُتبت له حسنة » الحديث، وعليه فهذا التخصيص لشدة التغليظ في المخالفة في الحرم المكي، ووجه هذا ظاهر.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : ويحتمل أن يكون معنى الإرادة في قوله ﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ﴾ العزم المصمم على ارتكاب الذنب فيه، والعزم المصمم على الذنب ذنب يعاقب عليه في جميع بقاع الله مكة وغيرها.
والدليل على أن إرادة الذنب إذا كانت عزماً مصمماً عليه أنها كارتكابه حديث أبي بكرة الثابت في الصحيح «إذا الْتقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار »، قالوا : يا رسول الله، قد عرفنا القاتل فما بال المقتول ؟ قال :«إنه كان حريصاً على قتل صاحبه » فقولهم : ما بال المقتول : سؤال عن تشخيص عين الذنب الذي دخل بسببه النار مع أنه لم يفعل القتل، فبين النَّبي صلى الله عليه وسلم بقوله :«إنه كان حريصاً على قتل صاحبه » أن ذنبه الذي أدخله النار، هو عزمه المصمم وحرصه على قتل صاحبه المسلم. وقد قدمنا مراراً أن إن المكسورة المشددة : تدل على التعليل كما تقرر في مسلك الإيماء والتنبيه.
ومثال المعاقبة على العزم المصمم على ارتكاب المحظور فيه، ما وقع بأصحاب الفيل من الإهلاك المستأصل، بسبب طير أبابيل ﴿ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ ﴾ لعزمهم على ارتكاب المناكر في الحرم، فأهلكهم الله بذلك العزم قبل أن يفعلوا ما عزموا عليه، والعلم عند الله تعالى. والظاهر أن الضمير في قوله ﴿ فِيهِ ﴾ راجع إلى المسجد الحرام، ولكن حكم الحرم كله في تغليظ الذنب المذكور كذلك. والله تعالى أعلم.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾.
أي اذكر حين بوأنا، تقول العرب : بوأت له منزلاً، وبوأته منزلاً، وبوأته في منزل بمعنى واحد كلها بمعنى : هيأته له، ومكنت له فيه، وأنزلته فيه، فتبوأه : أي نزله، وتبوأت له منزلاً أيضاً هيأته له، وأنزلته فيه فبوأه المتعدي بنفسه، كقوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً ﴾ [ العنكبوت : ٥٨ ] وقوله ﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ في اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ في الدُّنْيَا حَسَنَة ﴾ [ النحل : ٤١ ] ومنه قول عمرو بن معد يكرب الزبيدي :
كم من أخ لي ماجد *** بوأته بيدي لحدا
أي هيأته له، وأنزلته فيه، وبوأت له كقوله هنا ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ ﴾، وبوأته فيه كقول الشاعر :
وبوئت في صميم معشرها *** وتم في قومها مبوؤها
أي نزلت من الكرم في صميم النسب، وتبوأت له منزلاً كقوله تعالى ﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا ﴾ [ يونس : ٨٧ ] وتبوأه كقوله ﴿ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ ﴾ [ الزمر : ٧٤ ]. وقوله تعالى ﴿ وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ ﴾ [ يوسف : ٥٦ ] وقوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ ﴾ [ الحشر : ٩ ]. وأصل التبوء. من المباءة : وهي منزل القوم في كل موضع، فقوله ﴿ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ﴾ أي هيأناه له، وعرفناه إياه، ليبنيه بأمرنا على قواعده الأصلية المندرسة، حين أمرنا ببنائه، كما يهيأ المكان لمن يريد النزول فيه.
والمفسرون يقولون : بوأه له، وأراه إياه بسبب ريح تسمى الخجوج كنست ما فوق الأساس، حتى ظهر الأساس الأول الذي كان مندرساً، فبناه إبراهيم وإسماعيل عليه.
وقيل : أرسل له مزنة فاستقرت فوقه، فكان ظلها على قدر مساحة البيت، فحفرا عن الأساس، فظهر لهما فبنياه عليه. وهم يقولون أيضاً : إنه كان مندرساً من زمن طوفان نوح، وأن محله كان مربض غنم لرجل من جرهم، والله تعالى أعلم.
وغاية ما دل عليه القرآن : أن الله بوأ مكانه لإبراهيم، فهيأه له، وعرفه إياه ليبنيه في محله، وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن أول من بناه إبراهيم ولم يبن قبله. وظاهر قوله : حين ترك إسماعيل، وهاجر في مكة ﴿ رَّبَّنَآ إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ] يدل على أنه كان مبنياً، واندرس، كما يدل عليه قوله هنا ﴿ مَكَانَ الْبَيْتِ ﴾ لأنه يدل على أن له مكاناً سابقاً، كان معروفاً. والله أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّآئِفِينَ ﴾ متعلق بمحذوف، وقد دلت على تقدير المحذوف المذكور آية البقرة وهي قوله تعالى ﴿ وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّآئِفِينَ ﴾[ البقرة : ١٢٥ ] فدلت آية البقرة المذكورة على أن معنى آية الحج هذه ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ﴾ وعهدنا إليه : أي أوصيناه، أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين، وزادت آية البقرة : أن إسماعيل مأمور بذلك أيضاً مع أبيه إبراهيم، وإذا عرفت أن المعنى : وعهدنا إلى إبراهيم ألا تشرك بي شيئاً، وطهر بيتي. الآية.
فاعلم أن في " أَنْ " وجهين :
أحدهما : أنها هي المفسرة، وعليه فتطهير البيت من الشرك، وغيره هو تفسير العهد إلى إبراهيم : أي والعهد هو إيصاؤه بالتطهير المذكور.
والثاني : أنها مصدرية بناء على دخول " أن " المصدرية على الأفعال الطلبية.
فإنْ قيل : كيف تكون مفسرة للعهد إلى إبراهيم، وهو غير مذكور هنا ؟
فالجواب : أنه مذكور في سورة البقرة في المسألة بعينها، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فالمذكور هناك كأنه مذكور هنا، لأن كلام الله يصدق بعضه بعضاً، والتطهير هنا في قوله ﴿ طَهِّرَا بَيْتِيَ ﴾ يشمل التطهير المعنوي والحسي، فيطهره الطهارة الحسية من الأقذار، والمعنوية : من الشرك والمعاصي، ولذا قال ﴿ لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ﴾ وكانت قبيلة جرهم تضع عنده الأصنام تعبدها من دون الله، وقد قدمنا في سورة الإسراء الكلام مستوفى فيما كان عند الكعبة من الأصنام عام الفتح، وطهرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنجاس الأوثان وأقذارها. كما أمر الله بذلك إبراهيم هنا وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [ النحل : ١٢٣ ] والمراد بالطائفين في هذه الآية : الذين يطوفون حول البيت، والمراد بالقائمين والركع السجود : المصلون أي طهر بيتي للمتعبدين، بطواف، أو صلاة، والركع : جمع راكع، والسجود : جمع ساجد.
وقوله تعالى في هذه الآية ﴿ لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ﴾ لفظة ﴿ شَيْئاً ﴾ مفعول به : للا تشرك : أي لا تشرك بي من الشركاء كائناً ما كان، ويحتمل أن تكون ما ناب عن المطلق، من لا تشرك : أي لا تشرك بي شيئاً من الشرك، لا قليلاً، ولا كثيراً.
فالمعنى على هذا : لا تشرك بي شركاً قليلاً، ولا كثيراً، وقرأ نافع وعاصم في رواية حفص، وابن عامر في رواية هشام. بيتي بفتح الياء، وقرأ باقي السبعة بإسكانها.
واعلم أن المؤرخين لهم كلام كثير في قصة بناء إبراهيم، وإسماعيل للبيت، ومن جملة ما يزعمون، أن البيت الحرام رفعه الله إلى السماء أيام الطوفان، وأنه كان من ياقوتة حمراء ودرج على ذلك ناظم عمود النسب فقال :
ودلت ابراهيم مزنة عليه *** فهي على قدر المساحة تريه
وقيل دلته خجوج كنست *** ما حوله حتى بدا ما أسست
قبل الملائك من البناء *** قبل ارتفاعه إلى السماء
ومعلوم أن هذا ونحوه شبيه بالإسرائيليات لا يصدق منه إلا ما قام دليل من كتاب، أو سنة على صدقه، ولذلك نقلل من ذكر مثل ذلك في الغالب.
مسألة
يؤخذ من هذه الآية الكريمة : أنه لا يجوز أن يترك عند بيت الله الحرام قذر من الأقذار، ولا نجس من الأنجاس المعنوية، ولا الحسية، فلا يترك فيه أحد يرتكب ما لا يرضي الله، ولا أحد يلوثه بقذر من النجاسات.
ولا شك أن دخول المصورين في المسجد الحرام حول بيت الله الحرام بآلات التصوير يصورون بها الطائفين والقائمين والركع السجود : أن ذلك مناف لما أمر الله به من تطهير بيته الحرام للطائفين والقائمين والركع السجود، فانتهاك حرمة بيت الله بارتكاب حرمة التصوير عنده لا يجوز ؛ لأن تصوير الإنسان دلت الأحاديث الصحيحة على أنه حرام، وظاهرها العموم في كل أنواع التصوير ؛ ولا شك أن ارتكاب أي شيء حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من الأقذار، والأنجاس المعنوية التي يلزم تطهير بيت الله منها ؛ وكذلك ما يقع في المسجد من الكلام المخل بالدين والتوحيد لا يجوز إقرار شيء منه، ولا تركه.
ونرجو الله لنا ولمن ولاه الله أمرنا، ولإخواننا المسلمين التوفيق إلى ما يرضيه في حرمه، وسائر بلاده، إنه قريب مجيب.
قوله تعالى :﴿ وَأَذِّن في النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ ﴾.
الأذان في اللغة : الإعلام : ومنه قوله تعالى ﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ ﴾ وقول الحرث بن حلزة :
آذنتنا ببينها أسماء رب ثاوٍ يمل منه الثواء
والحج في اللغة : القصد، وكثرة الاختلاف، والتردد : تقول العرب : حج بنو فلان فلاناً : إذا قصدوه، وأطالوا الاختلاف إليه، والتردد عليه. ومنه قول المخبل السعدي :
ألم تعلمي يا أم أسعد أنما تخاطأني ريب المنون لأكبرا
وأشهد من عوق حلولاً كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا
قوله : يحجون يعني : يكثرون قصده، والاختلاف إليه، والتردد عليه. والسب بالكسر : العمامة. وعنى بكونهم يحجون عمامته : أنهم يحجونه، فكنى عنه بالعمامة. والرجال في الآية : جمع راجل، وهو الماشي على رجليه، والضامر : البعير ونحوه. المهزول : الذي أتعبه السفر. وقوله ﴿ يَأْتِينَ ﴾ يعني : الضوامر المعبر عنها بلفظ كل ضامر، لأنه في معنى : وعلى ضوامر يأتين من كل فج عميق، لأن لفظة ﴿ كُلِّ ﴾ صيغة عموم، يشمل ضوامر كثيرة : والفج : الطريق، وجمعه : فجاج : ومنه قوله تعالى ﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ [ الانبياء : ٣١ ] والعميق : البعيد، ومنه قول الشاعر :
إذا الخيل جاءت من فجاجٍ عميقة يمد بها في السير أشعث شاحب
وأكثر ما يستعمل العمق في البعد سفلاً، تقول : بئر عميقة : أي بعيدة القعر : والخطاب في قوله ﴿ وَأَذِّن في النَّاسِ بِالْحَجِّ ﴾ لإبراهيم كما هو ظاهر من السياق. وهو قول الجمهور، خلافاً لمن زعم أن الخطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم، وعلى إبراهيم وسلم، وممن قال بذلك : الحسن، ومال إليه القرطبي، فقوله تعالى ﴿ وَأَذِّن في النَّاسِ بِالْحَجِّ ﴾ أي وأمرنا إبراهيم أن أذن في الناس بالحج : أي أعلمهم، وناد فيهم بالحج : أي بأن الله أوجب عليهم حج بيته الحرام.
وذكر المفسرون أنه لما أَمره ربه، أن يأذن في الناس بالحج قال : يا رب، كيف أبلغ الناس، وصوتي لا ينفذهم، فقال : ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه. وقيل : على الحجر. وقيل : على الصفا. وقيل : على أبي قبيس، وقال : يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه، فيقال : إن الجبال تواضعت، حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة : لبيك اللهم لبيك.
قال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر هذا الكلام : هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وغير واحد من السلف والله أعلم، وأوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة. انتهى منه.
وقوله تعالى :﴿ يَأْتُوكَ رِجَالاً ﴾ مجزوم في جواب الطلب، وهو عند علماء العربية مجزوم بشرط مقدر، دل عليه الطلب على الأصح : أي إن تؤذن في الناس بالحج يأتوك. وإنما قال «يَأْتُوكَ » لأن المدعو يتوجه نحو الداعي، وإن كان إتيانهم في الحقيقة للحج، لأن نداء إبراهيم للحج : أي يأتوك ملبين دعوتك، حاجين بيت الله الحرام، كما ناديتهم لذلك، وعلى قول الحسن الذي ذكر عنه : أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
ففي هذه الآية دليل على وجوب الحج، وعلى قول الجمهور، فوجوب الحج بها على هذه الأمة، مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا، كما أوضحناه في سورة المائدة، مع أنه دلت آيات أخر، على أن الإيجاب المذكور على لسان إبراهيم وقع مثله أيضاً على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى :﴿ وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ] وقوله تعالى :﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ﴾ [ البقرة : ١٩٦ ] وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [ البقرة : ١٥٨ ].
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية. وقوله :﴿ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ ﴾. قد يستدل بهذه الآية من ذهب من العلماء ؛ إلى أن الحج ماشياً لمن قدر عليه أفضل من الحج راكباً، لأنه قدمهم في الذكر، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم : وقال وكيع، عن أبي العميس، عن أبي حلحلة، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس قال : ما آسى على شيء إلا أني وددت أني كنت حججت ماشياً، لأن الله يقول ﴿ يَأْتُوكَ رِجَالاً ﴾.
والذي عليه الأكثرون : أن الحج راكباً أفضل اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حج راكباً مع كمال قوته صلى الله عليه وسلم. انتهى منه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : اعلم أنه قد تقرر في الأصول : أن منشأ الخلاف في هذه المسألة، التي هي : هل الركوب في الحج. أفضل، أو المشي ؟ ونظائرها كون أفعال النَّبي صلى الله عليه وسلم بالنظر إلى الجبلة والتشريع ثلاثة أقسام :
القسم الأول : هو الفعل الجبلي المحض : أعني الفعل الذي تقتضيه الجبلة البشرية بطبيعتها، كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب، فإن هذا لم يفعل التشريع والتأسي، فلا يقول أحد : أنا أجلس وأقوم تقرباً لله، واقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يقوم ويجلس لأنه لم يفعل ذلك للتشريع والتأسي. وبعضهم يقول : فعله الجبلي يقتضي الجواز، وبعضهم يقول : يقتضي الندب. والظاهر ما ذكرنا من أنه لم يفعل للتشريع، ولكنه يدل على الجواز.
القسم الثاني : هو الفعل التشريعي المحض ؛ وهو الذي فعل لأجل التأسي، والتشريع كأفعال الصلاة، وأفعال الحج مع قوله :«صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي ». وقوله :«خذوا عني مناسككم ».
القسم الثالث : وهو المقصود هنا هو الفعل المحتمل للجبلي والتشريعي. وضابطه : أن تكون الجبلة البشرية تقضيه بطبيعتها، ولكنه وقع متعلقاً بعبادة بأن وقع فيها، أو في وسيلتها كالركوب في الحج، فإن ركوبه صلى الله عليه وسلم في حجه محتمل للجبلة، لأن الجبلة البشرية تقتضي الركوب، كما كان يركب صلى الله عليه وسلم في أسفاره غير متعبد بذلك الركوب، بل لاقتضاء الجبلة إياه : ومحتمل للشرعي لأنه صلى الله عليه وسلم فعله في حال تلبسه بالحج وقال :«خذوا عني مناسككم ». ومن فروع هذه المسألة : جلسة الاستراحة في الصلاة والرجوع من صلاة العيد في طريق أخرى غير الذي ذهب فيها إلى صلاة العيد. والضجعة على الشق الأيمن، بين ركعتي الفجر، وصلاة الصبح، ودخول مكة من كداء بالفتح والمد، والخروج من كدى بالضم والقصر ؛ والنزول بالمحصب بعد النفر من مِنًى ونحو ذلك.
ففي كل هذه المسائل خلاف بين أهل العلم لاحتمالها للجبلي والتشريعي. وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود بقوله :
وفعله المركوز في الجبلة كالأكل والشرب فليس مله
من غير لمح الوصف والذي احتمل شرعاً ففيه قل تردد حصل
فالحج راكباً عليه يجري كضجعةٍ بعد صلاة الفجر
ومشهور مذهب مالك : أن الركوب في الحج أفضل، إلا في الطواف والسعي، فالمشي فيهما واجب.
وقال سند واللخمي من المالكية : إن المشي أفضل للمشقة، وركوبه صلى الله عليه وسلم جبلي لا تشريعي.
وما ذكرنا عن مالك من أن الركوب في الحج أفضل من المشي، هو قول أكثر أهل العلم، وبه قال أبو حنيفة، والشافعي وغيرهما.
قال النووي في شرح المهذب : قد ذكرنا أن الصحيح في مذهبنا أن الركوب أفضل. قال العبدري : وبه قال أكثر الفقهاء، وقال داود : ماشياً أفضل، واحتج بحديث عائشة : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة :«ولكنَّها على قدر نفقتكِ أو نصبكِ » رواه البخاري ومسلم، وفي رواية صحيحة «على قدر عنائكِ ونصبك » وروى البيهقي بإسناده، عن ابن عباس قال : ما آسى على شيء ما آسى أني لم أحج ماشياً، وعن عبيد بن عمير قال ابن عباس : ما ندمت على شيء فاتني في شبابي، إلا أني لم أحج ماشياً، ولقد حج الحسن بن علي خمساً وعشرين حجة ماشياً. وإن النجائب لتقاد معه، ولقد قاسم الله تعالى ماله ثلاث مرات، حتى كان يعطي الخف، ويمسك النعل. انتهى محل الغرض منه، والحديث المرفوع عن ابن عباس في فضل الحج ماشياً : ضعيف، وحديث عائشة المتفق عليه الذي أشار إليه النووي يقوي حجة من قال : بأن المشي في الحج أفضل من الركوب، لأنه أكثر نصباً وعناء. ولفظ البخاري «ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك » ولفظ مسلم «ولكنها على قدر نصبك » أو قال «نفقتك » والنصب : التعب، والمشقة.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى : قد دل الكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين : على وجوب الحج مرة واحدة في العمر، وهو إحدى الدعائم الخمس، التي بني عليها الإسلام إجماعاً.
أما دليل وجوبه من كتاب الله : فقوله تعالى ﴿ وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ].
وأما السنة فالأحاديث في ذلك كثيرة، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ قال «خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال :«أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا »، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لو قلت : نعم لوجبت ولما استطعتم، ثم قال : ذروني ما تَرَكْتُكُم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه » انتهى منه.
ومحل الشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم :«أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا »، ونحوه أخرجه الإمام أحمد والنسائي، واستدل بهذا الحديث على أن الأمر المجرد من القرائن، لا يقتضي التكرار كما هو مقرر في الأصول.
والدليل على أنه إحدى الدعائم الخمس التي بني عليها الإسلام : حديث ابن عمر المتفق عليه : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بني الإسلام على خمس : شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان » هذا لفظ البخاري.
وقد وردت في فضل الحج والترغيب فيه أحاديث كثيرة : فمن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الأعمال أفضل ؟ قال «إيمان بالله ورسوله قيل : ثم ماذا ؟ قال : الجهاد في سبيل الله، قيل ثم ماذا ؟ قال : حج مبرور » متفق عليه. وعنه رضي الله عنه أيضاً قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه » متفق عليه أيضاً : وعنه أيضاً رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما : والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة » متفق عليه أيضاً، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول ال
قوله تعالى :﴿ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾.
اللام في قوله : ليشهدوا : هي لام التعليل : وهي متعلقة بقوله تعالى :﴿ وَأَذِّن في النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ ﴾ : أي إن تؤذن فيهم يأتوك مشاة وركباناً، لأجل أن يشهدوا : أي يحضروا منافع لهم، والمراد بحضورهم المنافع : حصولها لهم.
وقوله :﴿ مَنَافِعَ ﴾ جمع منفعة، ولم يبين هنا هذه المنافع ما هي. وقد جاء بيان بعضها في بعض الآيات القرآنية، وأن منها ما هو دنيوي، وما هو أخروي، أما الدنيوي فكأرباح التجارة، إذا خرج الحاج بمال تجارة معه، فإنه يحصل له الربح غالباً، وذلك نفع دنيوي.
وقد أطبق علماء التفسير على أن معنى قوله تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩٨ ] أنه ليس على الحاج إثم ولا حرج، إذا ابتغى ربحاً بتجارة في أيام الحج، إن كان ذلك لا يشغله عن شيء، من أداء مناسكه كما قدمنا إيضاحه.
فقوله تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ فيه بيان لبعض المنافع المذكورة في آية الحج هذه وهذا نفع دنيوي.
ومن المنافع الدنيوية ما يصيبونه من البدن والذبائح كما يأتي تفصيله إن شاء الله قريباً كقوله في البدن :﴿ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ [ الحج : ٣٣ ] على أحد التفسيرين.
وقوله :﴿ فَكُلُواْ مِنْهَا ﴾ في الموضعين، وكل ذلك نفع دنيوي، وفي ذلك بيان أيضاً لبعض المنافع المذكورة في آية الحج هذه.
وقد بينت آية البقرة على ما فسرها به جماعة من الصحابة ومن بعدهم، واختاره أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره، ووجه اختياره له، بكثرة الأحاديث الدالة عليه : أن من المنافع المذكورة في آية الحج : غفران ذنوب الحاج، حتى لا يبقى عليه إثم إن كان متقياً ربه في حجه بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهي عنه.
وذلك أنه قال : إن معنى قوله تعالى :﴿ فَمَن تَعَجَّلَ في يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ [ البقرة : ٢٠٣ ] أن الحاج يرجع مغفوراً له، ولا يبقى عليه إثم سواه تعجل في يومين، أو تأخر إلى الثالث، ولكن غفران ذنوبه هذا مشروط بتقواه ربه في حجه، كما صرح به في قوله تعالى :﴿ لِمَنِ اتَّقَى ﴾ [ البقلرة : ٢٠٣ ] أي وهذا الغفران للذنوب، وحط الآثام إنما هو لخصوص من اتقى.
ومعلوم أن هذه الآية الكريمة فيها أوجه من التفسير غير هذا.
وممن نقل عنهم ابن جرير أن معناها : أنه يغفر للحاج جميع ذنوبه، سواء تعجل في يومين، أو تأخر : علي وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وإبراهيم، وعامر، ومعاوية بن قرة.
ولما ذكر أقوال أهل العلم فيها قال وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال : تأويل ذلك : فمن تعجل من أيام منى الثلاثة، فنفر في اليوم الثاني، فلا إثم عليه، يحط الله ذنوبه إن كان قد اتقى في حجه، فاجتنب فيه ما أمر الله باجتنابه، وفعل فيه ما أمر الله بفعله، وأطاعه بأدائه على ما كلفه من حدوده، ومن تأخر إلى اليوم الثالث منهن، فلم ينفر إلى النفر الثاني، حتى نفر من غد النفر الأول، فلا إثم عليه، لتكفير الله ما سلف من آثامه، وإجرامه إن كان اتقى الله في حجه بأدائه بحدوده.
وإنما قلنا إن ذلك أولى تأويلاته : لتظاهر الأخبار، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه » وأنه قال «تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديث والذهب والفضة » وساق ابن جرير رحمه الله بأسانيده أحاديث دالة على ذلك ففي لفظ له أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديث والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة » وفي لفظ له، عن عمر يبلغ به النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«تابعوا بين الحج والعمرة فإن المتابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير الخبث أو خبث الحديد » وفي لفظ له عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إذا قضيت حجك فأنت مثل ما ولدتك أمك » وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بذكر جميعها الكتاب مما ينبىء عن أن من حج، فقضاه بحدوده على ما أمره الله، فهو خارج من ذنوبه كما قال جل ثناؤه ﴿ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى ﴾ [ البقرة : ٢٠٣ ] الله في حجه فكان في ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يوضح أن معنى قوله جل وعز ﴿ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ أنه خارج من ذنوبه، محطوطة عنه آثامه، مغفورة أجرامه إلى آخر كلامه الطويل في الموضوع.
وقد بين فيه أنه لا وجه لقول من قال : إن المعنى لا إثم عليه في تعجله ولا إثم عليه في تأخره، لأن التأخر إلى اليوم الثالث، لا يحتمل أن يكون فيه إثم، حتى يقال فيه ﴿ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ [ البقرة : ٢٠٣ ] وأن قول من قال : إن سبب النزول أن بعضهم كان يقول : التعجل لا يجوز، وبعضهم يقول : التأخر لا يجوز.
فمعنى الآية : النهي عن تخطئة المتأخر المتعجل كعكسه : أي لا يؤثمن أحدهما الآخر أن هذا القول خطأ، لمخالفته لقول جميع أهل التأويل.
والحاصل : أنه أعني الطبري بين كثيراً من الأدلة على أن معنى الآية : هو ما ذكر من أن الحاج يخرج مغفوراً له، كيوم ولدته أمه، لا إثم عليه، سواء تعجل في يومين، أو تأخر، وقد يظهر للناظر أن ربط نفي الإثم في قوله :﴿ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ بالتعجل والتأخر في الآية ربط الجزاء بشرطه يتبادر منه، أن نفي الإثم إنما هو في التعجل والتأخر، ولكن الأدلة التي أقامها أبو جعفر الطبري، على المعنى الذي اختار فيها فيه مقنع، وتشهد لها أحاديث كثيرة، وخير ما يفسر به القرآن بعد القرآن سنة النَّبي صلى الله عليه وسلم.
فقوله في آية البقرة هذه ﴿ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم «رجع كيوم ولدته أمه » وقوله :﴿ لِمَنِ اتَّقَى ﴾ [ البقرة : ٢٠٣ ] هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق » لأن من لم يرفث، ولم يفسق، هو الذي اتقى.
ومن كلام ابن جرير الطويل الذي أشرنا إليه أنه قال : ما نصه : فإن قال قائل ما الجالب للام في قوله :﴿ لِمَنِ اتَّقَى ﴾ وما معناها ؟
قيل : الجالب لها معنى قوله :﴿ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾، لأن في قوله :﴿ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ معنى : حططنا ذنوبه، وكفرنا آثامه، فكان في ذلك معنى : جعلنا تكفير الذنوب لمن اتقى الله في حجه، وترك ذكر جعلنا تكفير الذنوب اكتفاء بدلالة قوله :﴿ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ [ البقرة : ٢٠٣ ]، وقد زعم بعض نحويي البصرة أنه كأنه إذا ذكر هذه الرخصة، فقد أخبر عن أمر فقال :﴿ لِمَنِ اتَّقَى ﴾ [ البقرة : ٢٠٣ ] أي هذا لمن اتقى، وأنكر بعضهم ذلك من قوله : وقد زعم أن الصفة لابد لها من شيء تتعلق به، لأنها لا تقوم بنفسها، ولكنها فيما زعم من صلة قول متروك.
فكان معنى الكلام عنده ما قلنا : من أن من تأخر لا إثم عليه لمن اتقى، وقام قوله :﴿ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ [ البقرة : ٢٠٣ ] مقام القول. انتهى محل الغرض من كلام ابن جرير.
وعلى تفسير هذه الآية الكريمة بأن معنى ﴿ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾ في الموضعين : أن الحاج يغفر جميع ذنوبه، فلا يبقى عليه إثم، فغفران جمع ذنوبه هذا الذي دل عليه هذا التفسير من أكبر المنافع المذكورة في قوله :﴿ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ وعليه فقد بينت آية البقرة هذه بعض ما دلت عليه آية الحج، وقد أوضحت السنة هذا البيان بالأحاديث الصحيحة التي ذكرنا كحديث «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه » وحديث «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة » ومن تلك المنافع التي لم يبينها القرآن حديث «إن الله يباهى بأهل عرفة أهل السماء » الحديث كما تقدم. ومن تلك المنافع التي لم يبينها القرآن تيسر اجتماع المسلمين من أقطار الدنيا في أوقات معينة، في أماكن معينة ليشعروا بالوحدة الإسلامية، ولتمكن استفادة بعضهم من بعض، فيما يهم الجميع من أمور الدنيا والدين، وبدون فريضة الحج، لا يمسكن أن يتسنى لهم ذلك، فهو تشريع عظيم من حكيم خبير، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الاٌّنْعَامِ ﴾.
قوله : ويذكروا منصوب بحذف النون، لأنه معطوف على المنصوب، بأن المضمرة بعد لام التعليل أعني قوله :﴿ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾.
وإيضاح المعنى : وأذن في الناس بالحج يأتوك مشاة وركباناً، لأجل أن يشهدوا منافع لهم، ولأجل أن يتقربوا إليه بإراقة دماء ما رزقهم من بهيمة الأنعام، مع ذكرهم اسم الله عليها عند النحر والذبح، وظاهر القرآن يدل على أن هذا التقرب بالنحر في هذه الأيام المعلومات، إنما هو الهدايا لا الضحايا، لأن الضحايا لا يحتاج فيها إلى الأذان بالحج، حتى يأتي المضحون مشاة وركباناً، وإنما ذلك في الهدايا على ما يظهر، ومن هنا ذهب مالك، وأصحابه إلى أن الحاج بمنى لا تلزمه الأضحية ولا تسن له، وكل ما يذبح في ذلك المكان والزمان، فهو يجعله هدياً لا أضحية.
وقوله :﴿ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ ﴾ أي على نحر وذبح ما رزقهم ﴿ مِّن بَهِيمَةِ الاٌّنْعَامِ ﴾ ليتقربوا إليه بدمائها، لأن ذلك تقوى منهم، فهو يصل إلى ربهم كما في قوله تعالى :﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ﴾ [ الحج : ٣٧ ] وقد بين في بعض المواضع أنه لا يجوز الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه منها كقوله :﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ [ الأنعام : ١٢١ ]. وقوله ﴿ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ [ الأنعام : ١١٩ ] وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه جعل الحرم المكي منسكاً تراق فيه الدماء تقرباً إلى الله، ويذكر عليها عند تذكيتها اسم الله، ولم يبين في هذه الآية، هل وقع مثل هذا لكل أمة أولاً، ولكنه بين في موضع آخر : أنه جعل مثل هذا لكل أمة من الأمم، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الاٌّنْعَامِ ﴾ [ الحج : ٣٤ ].
وإذا علمت أن من حكم الأذان في الناس بالحج، ليأتوا مشاة، وركباناً تقربهم إلى ربهم بدماء الأنعام، ذاكرين عليها اسم الله عند تذكيتها، وأن الآية أقرب إلى إرادة الهدي من إرادة الأضحية، فدونك تفصيل أحكام الهدايا التي دعوا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم منها.
اعلم أولاً : أن الهدي قسمان : هدي واجب، وهدي غير واجب بل تطوع به صاحبه تقرباً لله تعالى، والأيام المعلومات التي ذكر الله عز وجل أنه يذبح فيها، ويذكر عليه اسم الله فيها، للعلماء فيها أقوال كثيرة. والتحقيق إن شاء الله تعالى : أن غير اثنين من تلك الأقوال الكثيرة ب
قوله تعالى :﴿ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ ﴾
صيغة الأمر في هذه الآية الكريمة : تدل على وجوب الإيفاء بالنذر، كما قدمنا مراراً أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب، على الأصح، إلا لدليل صارف عنه.
ومما يدل من القرآن على لزوم الإيفاء بالنذر : أنه تعالى أشار إلى أنه هو، والخوف من أهوال يوم القيامة، من أسباب الشرب من الكأس الممزوجة بالكافور في قوله تعالى :﴿ إِنَّ الاٌّبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ﴾ [ الإنسان : ٥-٦ ] ثم أشار إلى بعض أسباب ذلك فقال :﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ﴾ [ الإنسان : ٧ ] فالوفاء بالنذر ممدوح على كل حال، وإن كانت آية الإنسان ليست صريحة في وجوبه، وكذلك قوله في سورة البقرة :﴿ وَمَآ أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ ﴾ } [ البقرة : ٢٧٠ ]. وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن البيان بالقرآن، إن لم يكن واقياً بالمقصود أتممناه بالبيان بالسنة. ولذلك سنبين هنا ما تقتضيه السنة من النذر الذي يجب الإيفاء به، والذي لا يجب الإيفاء به.
اعلم أولاً : أن الأمر المنذور له في الجملة حالتان :
الأولى : أن يكون فيه طاعة لله.
والثانية : ألا يكون فيه طاعة لله، وهذا الأخير منقسم إلى قسمين :
أحدهما : ما هو معصية لله.
والثاني : ما ليس فيه معصية في ذاته، ولكنه ليس من جنس الطاعة كالمباح الذي لم يؤمر به.
والذي يجب اعتماده بالدليل في الأقسام الثلاثة المذكورة : أن المنذور إن كان طاعة لله، وجب الإيفاء به، سواء كان في ندب كالذي ينذر صدقة بدراهم على الفقراء، أو ينذر ذبح هدي تطوعاً أو صوم أيام تطوعاً، ونحو ذلك. فإن هذا ونحوه، يجب بالنذر، ويلزم الوفاء به. وكذلك الواجب إن تعلق النذر بوصف، كالذي ينذر أن يؤدي الصلاة في أول وقتها، فإنه يجب عليه الإيفاء بذلك.
أما لو نذر الواجب كالصلوات الخمس، وصوم رمضان، فلا أثر لنذره، لأن إيجاب الله لذلك أعظم من إيجابه بالنذر، وإن كان المنذور معصية لله : فلا يجوز الوفاء به، وإن كان جائزاً لا نهي فيه، ولا أمر فلا يلزم الوفاء به.
أما الدليل على وجوب الإيفاء في نذر الطاعة وعلى منعه في نذر المعصية فهو : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه ذلك.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا أبو نعيم، حدثنا مالك، عن طلحة بن عبد الملك، عن القاسم، عن عائشة رضي الله عنها، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه » اه. وهو ظاهر في وجوب الإيفاء بنذر الطاعة، ومنع الإيفاء بنذر المعصية.
وقال البخاري أيضاً : حدثنا أبو عاصم، عن مالك، عن طلحة بن عبد الملك، إلى آخر الإسناد والمتن المذكورين آنفاً.
وإذا علمت أن هذا الحديث الصحيح، قد دل على لزوم الإيفاء بنذر الطاعة، ومنعه في نذر المعصية.
فاعلم : أن الدليل على عدم الإيفاء بنذر الأمر الجائز :
هو أنه ثبت أيضاً عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا أيوب، عن عكرمة عن ابن عباس قال :«بينا النَّبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا : أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم : مره فليتكلم، وليستظل وليقعد، وليتم صومه » اه محل الغرض من صحيح البخاري. وفيه التصريح بأن ما كان من نذره من جنس الطاعة، وهو الصوم أمره صلى الله عليه وسلم بإتمامه، وفاء بنذره وما كان من نذره مباحاً لا طاعة، كترك الكلام، وترك القعود، وترك الاستظلال، أمره بعدم الوفاء به، وهو صريح في أنه لا يجب الوفاء به.
واعلم أنا لم نذكر أقوال أهل العلم هنا للاختصار، ولوجود الدليل الصحيح من السنة على ما ذكرنا.
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول : اعلم أنه لا نذر لشخص في التقرب بشيء لا يملكه، وقد ثبت ذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : وحدثني زهير بن حرب، وعلي بن حجر السعدي واللفظ لزهير قالا : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال : كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. الحديث بطوله.
وفيه ما نصه : وأسرت امرأة من الأنصار، وأصيبت العضباء فكانت المرأة في الوثاق، وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق، فأتت الإبل، فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى تنتهي إلى العضباء، فلم ترغ قال : وناقة منوقة فقعدت في عجزها، ثم زجرتها فانطلقت ونذروا بها فطلبوها، فأعجزتهم قال : ونذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها. فلما قدمت المدينة، رآها الناس فقالوا : العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال :«سبحان الله بئسما جزتها نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك العبد » الحديث. ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم :«ولا فيما لا يملك العبد » وهذا نص صحيح صريح فيما ذكرنا، ويؤيده حديث ثابت بن الضحاك : أنه صلى الله عليه وسلم قال :«لا وفاء لنذر في معصية الله ولا في قطيعة رحم ولا فيما لا يملك ابن آدم » اه.
قال الحافظ في بلوغ المرام : رواه أبو داود والطبراني، واللفظ له، وهو صحيح الإسناد، وله شاهد من حديث كردم عند أحمد.
الفرع الثاني : اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن نذر نذراً لا يلزم الوفاء به هل تلزمه كفارة يمين، أو لا يلزمه شيء ؟ وحجة من قال : لا يلزمه شيء : هو حديث نذر أبي إسرائيل، أنه لا يقعد ولا يتكلم، ولا يستظل، وقد أمره النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المذكور آنفاً : أنه لا يفي بهذا النذر، ولم يقل له إن عليه كفارة يمين.
وقد قدمنا هذا في سورة مريم موضحاً. وقد قدمنا أن القرطبي قال في قصة أبي إسرائيل : هذه أوضح الحجج للجمهور في عدم وجوب الكفارة، على من نذر معصية، أم ما لا طاعة فيه. فقد قال مالك : لما ذكره ولم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمره بالكفارة، وأما الذين قالوا : إن النذر الذي لا يجب الوفاء به تجب فيه كفارة يمين فقد احتجوا بما رواه مسلم، في صحيحه : وحدثني هارون بن سعيد الأيلي، ويونس بن عبد الأعلى، وأحمد بن عيسى، قال يونس : أخبرنا وقال الآخران : حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن بن شماسة، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«كفارة النذر كفارة اليمين » اه، وظاهره شموله للنذر الذي لا يجب الوفاء به.
وقال النووي في شرح مسلم : اختلف العلماء في المراد به، فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج، وهو أن يقول إنسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلاً : إن كلمت زيداً مثلاً، فلله علي حجة، أو غيرها، فيكلمه فهو بالخيار بين كفارة يمين، وبين ما التزمه. هذا هو الصحيح في مذهبنا، وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله : علي نذر، وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية، كمن نذر أن يشرب الخمر وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث، على جميع أنواع النذر، وقالوا : هو مخير في جميع المنذورات بين الوفاء بما التزم، وبين كفارة يمين والله أعلم اه كلام النووي.
ولا يخفى بعد القول الأخير لقوله تعالى :﴿ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ ﴾ [ الحج : ٢٩ ] فهو أمر جازم مانع للتخيير بين الإيفاء به، وبين شيء آخر.
والأظهر عندي في معنى الحديث : أن من نذر نذراً مطلقاً كأن يقول : علي لله نذر أنه تلزمه كفارة يمين، لما رواه ابن ماجه، والترمذي وصححه، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين » وروي نحوه أبو داود، وابن ماجه، عن ابن عباس، وفي الحديثين بيان المراد بحديث مسلم، بأن المراد به : النذر المطلق الذي لم يسم صاحبه ما نذره، بل أطلقه والبيان يجوز بكل ما يزيد الإيهام، كما قدمناه مراراً، والمطلق يحمل على المقيد.
ومما يؤيد القول بلزوم الكفارة في نذر اللجاج : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما حرم شرب العسل على نفسه في قصة ممالأة أزواجه عليه. وأنزل الله في ذلك :﴿ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾ [ التحريم : ١ ] قال الله بعد ذلك :﴿ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ﴾ [ التحريم : ٢ ] فدل ذلك على لزوم كفارة اليمين، وكذلك قال ابن عباس وغيره : بلزوم كفارة اليمين، على القول بأنه حرم جاريته، والأقوال فيمن حرم زوجته، أو جاريته، أو شيئاً من الحلال معروفة عند أهل العلم. فغير لزوجة والأمة لا يحرم بالتحريم قولاً واحداً والخلاف في لزوم كفارة اليمين، وعدم لزومها، وظاهر الآية لزومها، وبعض العلماء يقول : لا يلزم فيه شيء وهو مذهب مالك وأصحابه، أما تحريم الرجل امرأته أو جاريته، ففيه لأهل العلم ما يزيد على ثلاثة عشر مذهباً معروفة في محلها، وأجراها على القياس في تحريم الزوجة لزوم كفارة الظهار، لأن من قال لامرأته : أنت علي كظهر أمي، فهو بمثابة ما لو قال لها : أنت حرام، والظهار نص الله في كتابه، على أن فيه كفارته المنصوصة في سورة المجادلة.
أما نذر اللجاج فقد قدمنا القول، بأن فيه كفارة يمين، والمراد بنذر اللجاج النذر الذي يراد به الامتناع من أمر لا التقرب إلى الله.
قال ابن قدامة في المغني : وجملته أنه إذا أخرج النذر مخرج اليمين، بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئاً، أو يحث به على شيء مثل أن يقول : إن كلمت زيداً، فلله علي الحج أو صدقة مالي أو صوم سنة، فهذا يمين، حكمه أنه مخير بين الوفاء بما حلف عليه، فلا يلزمه شيء، وبين أن يحنث فيتخير بين فعل المنذور وبين كفارة يمين، ويسمى نذر اللجاج، والغضب، ولا يتعين الوفاء به، ثم قال : وهذا قول عمر وابن عباس، وابن عمر، وعائشة وحفصة، وزينب بنت أبي سلمة، وبه قال عطاء، وطاوس وعكرمة، والقاسم والحسن، وجابر بن زيد، والنخعي، وقتادة وعبد الله بن شريك، والشافعي، والعنبري وإسحاق وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، وقال سعيد بن المسيب : لا شيء في الحلف بالحج، وعن الشعبي، والحارث العكلي وحماد والحكم : لا شيء في الحلف بصدقة ماله، لأن الكفارة إنما تلزم بالحلف بالله لحرمة الاسم، وهذا ما حلف باسم الله ولا يجب ما سماه، لأنه لم يخرجه مخرج القربة، وإنما التزمه على طريق العقوبة، فلم يلزمه. وقال أبو حنيفة ومالك : يلزمه الوفاء بنذره، لأنه نذر فيلزم الوفاء به كنذر البر. وروي نحو ذلك عن الشعبي.
ولنا ما روى عمران بن حصين قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
قوله تعالى :﴿ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الاٌّنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾.
لم يبين هنا هذا الذي يتلى عليهم المستثنى من حلية الأنعام، ولكنه بينه بقوله في سورة الأنعام :﴿ قُل لاَ أَجِدُ في مَآ أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ] وهذا الذي ذكرنا هو الصواب، أما ما قاله جماعات من أهل التفسير من أن الآية التي بينت الإجمال في قوله تعالى هنا :﴿ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ أنها قوله تعالى في المائدة :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ ﴾ [ المائدة : ٣ ] فهو غلط، لأن المائدة من آخر ما نزل من القرآن وآية الحج هذه نازلة قبل نزول المائدة بكثير، فلا يصح أن يحال البيان عليها في قوله :﴿ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ بل المبين لذلك الإجمال آية الأنعام التي ذكرنا لأنها نازلة بمكة، فيصح أن تكون مبينة لآية الحج المذكورة كما نبه عليه غير واحد.
أما قوله تعالى في المائدة :﴿ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الاٌّنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ [ المائدة : ١ ] فيصح بيانه بقوله في المائدة :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ ﴾. كما أوضحنا في أول المائدة والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الاٌّوْثَانِ ﴾. «من » في هذه الآية بيانية.
والمعنى : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان : أي عبادتها والرجس القذر الذي تعافه النفوس، وفي هذه الآية الكريمة الأمر باجتناب عبادة الأوثان، ويدخل في حكمها، ومعناها عبادة كل معبود من دون الله كائناً من كان. وهذا الأمر باجتناب عبادة غير الله المذكور هنا، جاء مبيناً في آيات كقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ ﴾ [ النحل : ٣٦ ] وبيَّن تعالى أن ذلك شرط في صحة إيمانه بالله في قوله :﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ [ البقرة : ٢٥٦ ] وأثنى الله على مجتنبي عبادة الطاغوت المنيبين لله، وبين أن لهم البشرى، وهي ما يسرهم عند ربهم في قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى ﴾ [ الزمر : ١٧ ]. وقد سأل إبراهيم ربه أن يرزقه اجتناب عبادة الطاغوت، في قوله تعالى :﴿ وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاٌّصْنَامَ ﴾ [ إبراهيم : ٣٥ ] والأصنام، تدخل في الطاغوت دخولاً أولياً.
قوله تعالى :﴿ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ ﴾ أمر في هذه الآية الكريمة باجتناب قول الزور، وهو الكذب والباطل كقولهم : إن الله حرم البحيرة والسائبة، ونحو ذلك، وكادعائهم له الأولاد والشركاء، وكل قول مائل عن الحق فهو زور، لأن أصل المادة التي هي الزور من الازورار بمعنى الميل، والاعوجاج، كما أوضحناه في الكلام على قوله :﴿ تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ﴾.
واعلم أنا قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها، أن يذكر لفظ عام، ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه، وتقدمت لذلك أمثلة. وسيأتي بعض أمثلته في الآيات القريبة من سورة الحج هذه.
وإذا علمت ذلك فاعلم أنه هنا قال :﴿ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ ﴾ بصيغة عامة، ثم بين في بعض المواضع بعض أفراد قول الزور المنهي عنه كقوله تعالى في الكفار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً ﴾ [ الفرقان : ٤ ] فصرح بأن قولهم هذا من الظلم والزور. وقال في الذين يظاهرون من نسائهم، ويقول الواحد منهم لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي ﴿ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً ﴾ [ المجادلة : ٢ ] فصرح بأن قولهم ذلك، منكر وزور، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي بكرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس فقال : ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت » اه وقد جمع تعالى هنا بين قول الزور والإشراك به تعالى في قوله :﴿ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِحُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ﴾ وكما أنه جمع بينهما هنا، فقد جمع بينهما أيضاً في غير هذا الموضع كقوله :﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣٣ ] لأن قوله :﴿ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ هو قول الزور. وقد أتى مقروناً بقوله :﴿ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً ﴾ وذلك يدل على عظمة قول الزور، لأن الإشراك بالله قد يدخل في قول الزور، كادعائهم الشركاء، والأولاد لله. وكتكذيبه صلى الله عليه وسلم فكل ذلك الزور فيه أعظم الكفر والإشراك بالله. نعوذ بالله من كل سوء.
ومعنى حنفاء : قد قدمناه مراراً مع بعض الشواهد العربية، فأغنى عن إعادته هنا.
قوله تعالى :﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ في مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن من أشرك بالله غيره أي ومات ولم يتب من ذلك فقد وقع في هلاك، لا خلاص منه بوجه ولا نجاة معه بحال، لأنه شبهه بالذي خر : أي سقط من السماء إلى الأرض، فتمزقت أوصاله، وصارت الطير تتخطفها وتهوي بها الريح فتلقيها في مكان سحيق : أي محل بعيد لشدة هبوبها بأوصاله المتمزقة، ومن كانت هذه صفته فإنه لا يرجى له خلاص ولا يطمع له في نجاة، فهو هالك لا محالة، لأن من خر من السماء إلى الأرض لا يصل الأرض عادة إلا متمزق الأوصال، فإذا خطفت الطير أوصاله وتفرق في حواصلها، أو ألقته الريح في مكان بعيد فهذا هلاك محقق لا محيد عنه. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من هلاك من أشرك بالله وأنه لا يرجى له خلاص، جاء موضحاً في مواضع أخر كقوله :﴿ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ ﴾ [ المائدة : ٧٢ ]. وكقوله :﴿ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [ الأعراف : ٥٠ ] وقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ﴾ [ النساء : ٤٨ ] في الموضعين من سورة النساء، والخطف الأخذ بسرعة والسحيق البعيد. ومنه قوله تعالى :﴿ فَسُحْقًا لاًّصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [ الملك : ١١ ] أي بعداً لهم.
وقد دلت آيات أخر على أن محل هذا الهلاك الذي لا خلاص منه بحال الواقع بمن يشرك بالله، إنما هو في حق من مات على ذلك الإشراك، ولم يتب منه قبل حضور الموت. أما من تاب من شركه قبل حضور الموت، فإن الله يغفر له، لأن الإسلام يجبّ ما قبله.
والآيات الدالة على ذلك متعددة كقوله :﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾ [ الأنفال : ٣٨ ] وقوله :﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ﴾ [ الفرقان : ٦٨ ] إلى قوله :﴿ إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ﴾ [ الفرقان : ٧٠ ] وقوله في الذين :﴿ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ المائدة : ٧٣-٧٤ ] وقوله :﴿ وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ﴾ [ طه : ٨٢ ]. إلى غير ذلك من الآيات. وأما إن كانت توبته من شركه عند حضور الموت، فإنها لا تنفعه.
وقد دلت على ذلك آيات من كتاب الله كقوله تعالى :﴿ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ الاٌّنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ﴾ [ النساء : ١٨ ] فقد دلت الآية على التسوية بين الموت على الكفر والتوبة منه، عند حضور الموت وكقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ﴾ [ غافر : ٨٤-٨٥ ] وكقوله في فرعون :﴿ حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِاهَ إِلاَّ الَّذِى ءَامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَاءِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَءَاأنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [ يونس : ٩٠-٩١ ] وقرأ هذا الحرف نافع فتخطفه بفتح الخاء وتشديد الطاء أصله فتتخطفه الطير بتاءين فحذفت إحداهما وقرأه غيره من السبعة فتخطفه الطير بإسكان الخاء وتخفيف الطاء مضارع خطفه بالكسر.
قوله تعالى :﴿ ذالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾.
قد ذكرنا قريباً أنا ذكرنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر لفظ عام، ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه، فيكون ذلك الفرد قطعي الدخول لا يمكن إخراجه بمخصص، وواعدنا بذكر بعض أمثلته في هذه الآيات. ومرادنا بذلك هذه الآية الكريمة لأن قوله تعالى :﴿ ذالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ﴾ عام في جميع شعائر الله، وقد نص تعالى على أن البدن فرد من أفراد هذا العموم، داخل فيه قطعاً وذلك في قوله :﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ [ الحج : ٣٦ ] فيدخل في الآية تعظيم البدن واستسمانها واستحسانها كما قدمنا عن البخاري : أنهم كانوا يسمنون الأضاحي، وكانوا يرون أن ذلك من تعظيم شعائر الله. وقد قدمنا أن الله صرح بأن الصفا والمروة داخلان في هذا العموم بقوله :﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ١٥٨ ] وأن تعظيمها المنصوص في هذه الآية : يدل على عدم التهاون بالسعي بين الصفا والمروة كما تقدم إيضاحه في مبحث السعي، وقوله في هذه الآية ذلك فيه ثلاثة أوجه من الإعراب.
الأول : أن يكون في محل رفع بالابتداء والخبر محذوف : أي ذلك حكم الله وأمره.
الثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف : أي اللازم ذلك أو الواجب ذلك.
الثالث : أن يكون في محل نصب بفعل محذوف، أي اتبعوا ذلك أو امتثلوا ذلك، ومما يشبه هذه الإشارة في كلام العرب قول زهير :
هذا وليس كمن يعي بخطته وسط الندى إذا ما قائل نطقا
قاله القرطبي وأبو حيان والضمير المؤنث في قوله :﴿ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ قال القرطبي : هو عائد إلى الفعلة التي يتضمنها الكلام، ثم قال : وقيل إنه راجع إلى الشعائر بحذف مضاف : أي فإن تعظيمها أي الشعائر فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه فرجع الضمير إلى الشعائر. اه. وقال الزمخشري في الكشاف : فإنها من تقوى القلوب أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها، لأنه لابد من راجع من الجزاء إلى من ليرتبط به اه. منه.
قوله تعالى :﴿ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ ﴾.
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر المخبتين : أي المتواضعين لله المطمئنين الذين من صفتهم : أنهم إذا سمعوا ذكر الله، وجلت قلوبهم : أي خافت من الله جل وعلا، وأن يبشر الصابرين على ما أصابهم من الأذى، ومتعلق التبشير محذوف لدلالة المقام عليه أي بشرهم بثواب الله وجنته. وقد بين في موضع آخر : أن الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم : هم المؤمنون حقاً وكونهم هم المؤمنين حقاً، يجعلهم جديرين بالبشارة المذكورة هنا. وذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [ الأنفال : ٢ ]. وأمره في موضع آخر أن يبشر الصابرين على ما أصابهم مع بيان بعض ما بشروا به، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين َالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعون َأُولَائِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَائِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [ البقرة : ١٥٥-١٥٧ ].
واعلم : أن وجل القلوب عند ذكر الله أي خوفها من الله عند سماع ذكره لا ينافي ما ذكره جل وعلا، من أن المؤمنين تطمئن قلوبهم بذكر الله كما في قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [ الرعد : ٢٨ ] ووجه الجمع بين الثناء عليهم بالوجل الذي هو الخوف عند ذكره جل وعلا، مع الثناء عليهم بالطمأنينة بذكره، والخوف والطمأنينة متنافيان هو ما أوضحناه في كتابنا : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وهو أن الطمأنينة بذكر الله تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد، وصدق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فطمأنينتهم بذلك قوية لأنها لم تتطرقها الشكوك، ولا الشبه والوجل عند ذكر الله تعالى يكون بسبب خوف الزيغ عن الهدى، وعدم تقبل الأعمال، كما قال تعالى عن الراسخين في العلم ﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ [ آل عمران : ٨ ] وقال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٦٠ ] وقال تعالى :﴿ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [ الزمر : ٢٣ ] ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه :«يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ».
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٤:قوله تعالى :﴿ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ ﴾.
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر المخبتين : أي المتواضعين لله المطمئنين الذين من صفتهم : أنهم إذا سمعوا ذكر الله، وجلت قلوبهم : أي خافت من الله جل وعلا، وأن يبشر الصابرين على ما أصابهم من الأذى، ومتعلق التبشير محذوف لدلالة المقام عليه أي بشرهم بثواب الله وجنته. وقد بين في موضع آخر : أن الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم : هم المؤمنون حقاً وكونهم هم المؤمنين حقاً، يجعلهم جديرين بالبشارة المذكورة هنا. وذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [ الأنفال : ٢ ]. وأمره في موضع آخر أن يبشر الصابرين على ما أصابهم مع بيان بعض ما بشروا به، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين َالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعون َأُولَائِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَائِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [ البقرة : ١٥٥-١٥٧ ].
واعلم : أن وجل القلوب عند ذكر الله أي خوفها من الله عند سماع ذكره لا ينافي ما ذكره جل وعلا، من أن المؤمنين تطمئن قلوبهم بذكر الله كما في قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [ الرعد : ٢٨ ] ووجه الجمع بين الثناء عليهم بالوجل الذي هو الخوف عند ذكره جل وعلا، مع الثناء عليهم بالطمأنينة بذكره، والخوف والطمأنينة متنافيان هو ما أوضحناه في كتابنا : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وهو أن الطمأنينة بذكر الله تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد، وصدق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فطمأنينتهم بذلك قوية لأنها لم تتطرقها الشكوك، ولا الشبه والوجل عند ذكر الله تعالى يكون بسبب خوف الزيغ عن الهدى، وعدم تقبل الأعمال، كما قال تعالى عن الراسخين في العلم ﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ [ آل عمران : ٨ ] وقال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٦٠ ] وقال تعالى :﴿ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [ الزمر : ٢٣ ] ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه :«يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ».

قوله تعالى :﴿ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ﴾.
قد قدمنا أنه تعالى أمر بالأكل من بهيمة الأنعام : وهي الإبل والبقر والغنم بأنواعها الثمانية، وأمر بإطعام البائس الفقير منها. وأمر بالأكل من البدن وإطعام القانع والمعتر منها، وما كان من الإبل، فهو من البدن بلا خلاف.
واختلفوا في البقرة، هل هي بدنة، وقد قدمنا الحديث الصحيح : أن البقرة من البدن، وقدمنا أيضاً ما يدل على أنها غير بدنة، وأظهرهما أنها من البدن، وللعلماء في تفسير القانع والمعتر أقوال متعددة متقاربة أظهرها عندي : أن القانع هو الطامع الذي يسأل أن يعطى من اللحم ومنه قول الشماخ :
لمال المرء يصلحه فيغني مفاقره أعف من القنوع
يعني أعف من سؤال الناس، والطمع فيهم، وأن المعتر هو الذي يعتري متعرضاً للإعطاء من غير سؤال وطلب، والله أعلم وقد قدمنا حكم الأكل من أنواع الهدايا والضحايا، وأقوال أهل العلم في ذلك بما أغنى عن إعادته هنا.
قوله تعالى :﴿ كَذالِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾. قوله كذلك : نعت لمصدر : أي سخرناها أي البدن لكم تسخيراً كذلك : أي مثل ذلك التسخير الذي تشاهدون : أي ذللناها لكم، وجعلناها منقادة لكم تفعلون بها ما شئتم من نحر وركوب، وحلب وغير ذلك من المنافع، ولولا أن الله ذللها لكم لم تقدروا عليها، لأنها أقوى منكم ألا ترى البعير، إذا توحش صار صاحبه غير قادر عليه، ولا متمكن من الانتفاع به. وقوله هنا :﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ قد قدمنا مراراً أن لعل تأتي في القرآن لمعان أقربها. اثنان : أحدهما : أنها بمعناها الأصلي، الذي هو الترجي والتوقع، وعلى هذا فالمراد بذلك خصوص الخلق لأنهم هم الذين يترجى منهم شكر النعم من غير قطع، بأنهم يشكرونها أو لا ينكرونها لعدم علمهم بما تؤول إليه الأمور، وليس هذا المعنى في حق الله تعالى لأنه عالم بما سيكون فلا يجوز في حقه جل وعلا إطلاق الترجي والتوقع لتنزيهه عن ذلك، وإحاطة علمه بما ينكشف عنه الغيب، وقد قال تعالى لموسى وهارون :﴿ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [ طه : ٤٤ ] أي على رجائكما وتوقعكما أنه يتذكر أو يخشى، مع أن الله عالم في سابق أزله أن فرعون لا يتذكر ولا يخشى، فمعنى لعل بالنسبة إلى الخلق، لا إلى الخالق جل وعلا. المعنى الثاني : هو ما قدمنا من أن بعض أهل العلم، قال : كل لعل في القرآن فهي للتعليل إلا التي في سورة الشعراء ﴿ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾ [ الشعراء : ١٢٩ ] قال : فهي بمعنى : كأنكم تخلدون. وإتيان لفظة لعل للتعليل معروف في كلام العرب. وقد قدمناه موضحاً مراراً وقد قدمنا من شواهده العربية قول الشاعر :
فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق
يعني كفوا الحروب لأجل أن نكف، وإذا علمت أن هذه الآية الكريمة بين الله فيها أن تسخيره الأنعام لبني آدم نعمة من إنعامه، تستوجب الشكر لقوله :﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾.
فاعلم : أنه بين هذا في غير هذا الموضع كقوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ ﴾ [ يس : ٧١-٧٣ ] وقوله في آية يس : هذه :﴿ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ ﴾ كقوله في آية الحج :﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى قريباً :﴿ كَذالِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾ [ الحج : ٣٧ ]، وقد قدمنا معنى شكر العبد لربه وشكر الرب لعبده، مراراً بما أغنى عن إعادته هنا والتسخير التذليل.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ﴾.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه يدفع السوء عن عباده الذين آمنوا به إيماناً حقاً، ويكفيهم شر أهل السوء، وقد أشار إلى هذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [ الطلاق : ٣ ]. وقوله :﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [ الزمر : ٣٦ ] وقوله تعالى :﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ﴾ [ التوبة : ١٤-١٥ ] وقوله تعالى :﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ ﴾ [ غافر : ٥١ ]. وقوله :﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ ﴾ [ الروم : ٣٧ ] وقوله :﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [ الصافات : ١٧٣ ] إلى غير ذلك من الآيات، وقرأ هذا الحرف ابن كثير وأبو عمرو :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ﴾ بفتح الياء والفاء بينهما دال ساكنة مضارع دفع المجرد، وعلى هذه القراءة، فالمفعول محذوف أي يدفع عن الذين آمنوا الشر والسوء، لأن الإيمان بالله هو أعظم أسباب دفع المكاره، وقرأ الباقون : يدافع بضم الياء، وفتح الدال بعدها ألف. وكسر الفاء مضارع دافع المزيد فيه ألف بين الفاء والعين على وزن فاعل. وفي قراءة الجمهور هذه إشكال معروف، وهو أن المفاعلة تقتضي بحسب الوضع العربي اشتراك فاعلين في المصدر. والله جل وعلا يدفع كل ما شاء من غير أن يكون له مدافع يدفع شيئاً.
والجواب : هو ما عرف من أن المفاعلة قد ترد بمعنى المجرد، نحو : جاوزت المكان بمعنى جزته، وعاقبت اللص، وسافرت، وعافاك الله، ونحو ذلك، فإن فاعل في جميع ذلك بمعنى المجرد، وعليه فقوله : يدافع بمعنى : يدفع. كما دلت عليه قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وقال الزمخشري : ومن قرأ يدافع فمعناه : يبالغ في الدفع عنهم كما يبالغ من يغالب فيه لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ اه منه، ولا يبعد عندي أن يكون وجه المفاعلة أن الكفار يستعملون كل ما في إمكانهم لإضرارهم بالمؤمنين، وإيذائهم، والله جل وعلا يدفع كيدهم عن المؤمنين، فكان دفعه جل وعلا لقوة عظيمة أهلها في طغيان شديد، يحاولون إلحاق الضرر بالمؤمنين وبهذا الاعتبار كان التعبير بالمفاعلة، في قوله : يدافع، وإن كان جل وعلا قادراً على إهلاكهم، ودفع شرهم عن عباده المؤمنين، ومما يوضح هذا المعنى الذي أشرنا إليه قول كعب بن مالك رضي الله عنه :
زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب
والعلم عند الله تعالى : ومفعول يدافع : محذوف فعلى القول بأنه بمعنى : يدفع فقد ذكرنا تقديره، وعلى ما أشرنا إليه أخيراً فتقدير المفعول : يدافع عنهم أعداءهم، وخصومهم فيرد كيدهم في نحورهم.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴾.
صرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة : بأنه لا يحب كل خوان كفور. والخوان والكفور كلاهما صيغة مبالغة، لأن الفعال بالتضعيف والفعول بفتح الفاء من صيغ المبالغة، والمقرر في علم العربية أن نفي المبالغة في الفعل لا يستلزم نفي أصل الفعل، فلو قلت : زيد ليس بقتال للرجال فقد نفيت مبالغته، في قتلهم، ولم يستلزم ذلك أنه لم يحصل منه قتل لبعضهم ولكنه لم يبالغ في القتل، وعلى هذه القاعدة العربية المعروفة، فإن الآية قد صرحت بأن الله لا يحب المبالغين في الكفر والمبالغين في الخيانة، ولم تتعرض لمن يتصف بمطلق الخيانة ومطلق الكفر من غير مبالغة فيهما، ولا شك أن الله يبغض الخائن مطلقاً، والكافر مطلقاً، وقد أوضح جل وعلا ذلك في بعض المواضع، فقال في الخائن :﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ﴾ [ الأنفال : ٥٨ ] وقال في الكافر :﴿ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [ آل عمران : ٣٢ ].
قوله تعالى :﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾. متعلق أذن محذوف في هذه الآية الكريمة : أي أذن لهم في القتال بدليل قوله : يقاتلون، وقد صرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أذن للذين يقاتلون وهم النَّبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ودل قوله : يقاتلون : على أن المراد من يصلح للقتال منهم دون من لا يصلح له، كالأعمى والأعرج والمريض والضعيف والعاجز عن السفر للجهاد لفقره بدليل قوله تعالى :﴿ لَّيْسَ عَلَى الاٌّعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاٌّعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ ﴾ [ النور : ٦١ ] والفتح : ١٧ ]. وقوله جل وعلا :﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ ﴾ [ التوبة : ٩١ ] وقوله :﴿ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ ﴾ الباء فيه سببية وهي من حروف التعليل، كما تقرر في مسلك النص الظاهر من مسالك العلة. وهذه الآية هي أول آية نزلت في الجهاد كما قال به جماعات من العلماء، وليس فيها من أحكام الجهاد إلا مجرد الإذن لهم فيه ولكن قد جاءت آيات أخر دالة على أحكام أخر زائدة على مطلق الإذن فهي مبينة عدم الاقتصار، على الإذن كما هو ظاهر هذه الآية. وقد قالت جماعة من أهل العلم : إن الله تبارك وتعالى لعظم حكمته في التشريع، إذا أراد أن يشرع أمراً شاقاً على النفوس كان تشريعه على سبيل التدريج، لأن إلزامه بغتة في وقت واحد من غير تدريج فيه مشقة عظيمة، على الذين كلفوا به قالوا فمن ذلك الجهاد، فإنه أمر شاق على النفوس لما فيه من تعريضها لأسباب الموت، لأن القتال مع العدو الكافر القوي من أعظم أسباب الموت عادة، وإن كان الأجل محدوداً عند الله تعالى كما قال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً ﴾ [ آل عمران : ١٤٥ ] وقد بين تعالى مشقة إيجاب الجهاد عليهم، بقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلَواةَ وَءَاتُواْ الزَّكَواةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ﴾ [ النساء : ٧٧ ] ومع تعريض النفوس فيه لأعظم أسباب الموت، فإنه ينفق فيه الملل أيضاً كما قال تعالى :﴿ وَتُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ﴾ [ الصف : ١١ ] قالوا : ولما كان الجهاد فيه هذا من المشقة، وأراد الله تشريعه شرعه تدريجاً، فأذن فيه أولاً من غير إيجاب بقوله :﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ ﴾. ثم لما استأنست به نفوسهم بسبب الإذن فيه، أوجب عليهم فقال : من قاتلهم دون من لم يقاتلهم بقوله :﴿ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ ﴾ [ البقرة : ١٩٠ ]. وهذا تدريج من الإذن إلى نوع خاص من الإيجاب، ثم لما استأنست نفوسهم بإيجابه في الجملة أوجبه عليهم إيجاباً عاماً جازماً في آيات من كتابه كقوله تعالى :﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ [ التوبة : ٥ ] وقوله تعالى :﴿ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً ﴾ [ التوبة : ٣٦ ] وقوله :﴿ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ﴾ [ الفتح : ١٦ ] إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم : أن لبعض أهل العلم في بعض الآيات التي ذكرنا أقوالاً غير ما ذكرنا. ولكن هذا التدريج الذي ذكرنا دل عليه استقراء القرآن في تشريع الأحكام الشاقة، ونظيره شرب الخمر فإن تركه شاق على من اعتاده، فلما أراد الله أن يحرم الخمر حرمها تدريجاً. فذكر أولاً بعض معائبها كقوله تعالى :﴿ يَسْألُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ﴾ [ البقرة : ٢١٩ ] ثم لما استأنست نفوسهم بأن في الخمر إنما أكثر مما فيها من النفع، حرمها عليهم في أوقات الصلاة بقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ﴾ [ النساء : ٤٣ ]. فكانوا بعد نزولها، لا يشربونها إلا في وقت يزول فيه السكر قبل وقت الصلاة، وذلك بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح لأن ما بين العشاء والصبح يصحو فيه السكران عادة. وكذلك ما بين الصبح والظهر. وهذا تدريج من عيبهاإلى تحريمها في بعض الأوقات. فلما استأنست نفوسهم بتحريمها حرمها عليهم تحريماً عاماً جازماً بقوله :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاٌّنصَابُ وَالاٌّزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [ المائدة : ٩٠ ] إلى قوله :﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ [ المائدة : ٩١ ] وكذلك الصوم، فإنه لما كان الإمساك عن شهوة العرج والبطن شاقاً على النفوس، وأراد تعالى تشريعه شرعه تدريجاً فخير أولاً بين صوم اليوم وإطعام المسكين في قوله :﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [ البقرة : ١٨٤ ] فلما استأنست النفوس به في الجملة، أوجبه أيضاً إيجاباً عاماً جازماً بقوله :﴿ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] وقال بعض أهل العلم : التدريج في تشريع الصوم على ثلاثة مراحل كما قبله قالوا : أوجب عليهم أولاً صوماً خفيفاً لا مشقة فيه وهو صوم يوم عاشوراء وثلاثة من كل شهر، ثم لما أراد فرض صوم رمضان شرعه تدريجاً على المرحلتين اللتين ذكرناهما آنفاً، هكذا قالته جماعات من أهل العلم، وله اتجاه والعلم عند الله تعالى. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ يشير إلى معنيين.
أحدهما : أن فيه الإشارة إلى وعده للنبي وأصحابه، بالنصر على أعدائهم كما قال قبله قريباً :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ﴾.
والمعنى الثاني : أن الله قادر على أن ينصر المسلمين على الكافرين من غير قتال لقدرته على إهلاكهم بما شاء، ونصرة المسلمين عليهم بإهلاكه إياهم، ولكنه شرع الجهاد لحكم منها اختبار الصادق في إيمانه، وغير الصادق فيه، ومنها تسهيل نيل فضل الشهادة في سبيل الله بقتل الكفار لشهداء المسلمين، ولولا ذلك لما حصل أحد فضل الشهادة في سبيل الله. كما أشار تعالى إلى حكمة اختبار الصادق في إيمانه وغيره بالجهاد في آيات من كتابه، كقوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً ﴾ [ محمد : ٤ ] وكقوله تعالى :﴿ مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ﴾ [ آل عمران : ١٧٩ ] وقوله تعالى :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [ التوبة : ١٦ ] وقوله تعالى :﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٤٢ ] وقوله تعالى :﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [ محمد : ٣١ ] إلى غير ذلك من الآيات وكقوله تعالى في حكمة الابتلاء المذكور، وتسهيل الشهادة في سبيله :﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الاٌّيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ [ آل عمران : ١٤٠-١٤١ ] وقرأ هذا الحرف نافع، وأبو عمرو وعاصم : أذن بضم الهمزة وكسر الذال مبنياً للمفعول، وقرأ الباقون : بفتح الهمزة مبنياً للفاعل : أي أذن الله للذين يقاتلون، وقرأ نافع وابن عامر وحفص، عن عاصم : يقاتلون بفتح التاء مبنياً للمفعول، وقرأ الباقون بكسر التاء مبنياً للفاعل.
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ﴾. تقدم ما يوضح هذه الآية من الآيات في سورة براءة في الكلام على قوله :﴿ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ﴾.
بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أقسم لينصرن من ينصره، ومعلوم أن نصر الله إنما هو باتباع ما شرعه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه ونصرة رسله وأتباعهم، ونصرة دينه وجهاد أعدائه وقهرهم حتى تكون كلمته جل وعلا هي العليا، وكلمة أعدائه هي السفلى. ثم إن الله جل وعلا بين صفات الذين وعدهم بنصره لتمييزهم عن غيرهم فقال مبيناً من أقسم أنه ينصره، لأنه ينصر الله جل وعلا :﴿ الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ في الاٌّرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَآتَوُاْ الزَّكَواةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [ الحج : ٤١ ] وما دلت عليه هذه الآية الكريمة : من أن من نصر الله نصره الله جاء موضحاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [ محمد : ٧-٨ ] وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ [ الصافات : ١٧١-١٧٣ ] وقوله تعالى :﴿ كَتَبَ اللَّهُ لاّغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ﴾ [ المجادلة : ٢١ ] وقوله :﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الاٌّرْضِ ﴾ [ النور : ٥٥ ]. إلى غير ذلك من الآيات
وفي قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ في الاٌّرْضِ ﴾.
دليل على أنه لا وعد من الله بالنصر، إلا مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. فالذين يمكن الله لهم في الأرض ويجعل الكلمة فيها والسلطان لهم، ومع ذلك لا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر فليس لهم وعد من الله بالنصر، لأنهم ليسوا من حزبه، ولا من أوليائه الذين وعدهم بالنصر، بل هم حزب الشيطان وأولياؤه، فلو طلبوا النصر من الله بناء على أنه وعدهم إياه، فمثلهم كمثل الأجير الذي يمتنع من عمل ما أجر عليه، ثم يطلب الأجرة، ومن هذا شأنه فلا عقل له، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ﴾ العزيز الغالب الذي لا يغلبه شيء، كما قدمناه مراراً بشواهده العربية. وهذه الآيات تدل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين، لأن الله نصرهم على أعدائهم، لأنهم نصروه فأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وقد مكر لهم، واستخلفهم في الأرض كما قال :﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الاٌّرْضِ ﴾ [ النور : ٥٥ ]. والحق أن الآيات المذكورة تشمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل من قام بنصرة دين الله على الوجه الأكمل. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾.
في هذه الآيات الكريمة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الذي عامله به قومه من التكذيب عومل به غيره من الرسل الكرام، وذلك يسليه ويخفف عليه كما قال تعالى :﴿ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [ هود : ١٢٠ ]. وقوله تعالى :﴿ مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ ﴾ [ فصلت : ٤٣ ] وقوله :﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ ﴾ [ فاطر : ٤ ] إلى غير ذلك من الآيات. وذكر تعالى في هذه الآيات سبع أمم كل واحدة منهم كذبت رسولها.
الأولى : قوم نوح في قوله :﴿ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ﴾ والآيات الدالة على تكذيب قوم نوح لا تكاد تحصى في القرآن، لكثرتها ولنقتصر على الأمثلة لكثرة الآيات الدالة على تكذيب هذه الأمم رسلها كقوله :﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٢٣ ] وقوله :﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ﴾ [ القمر : ٩ ] إلى غير ذلك من الآيات.
الثانية : عاد، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع في آيات كثيرة أنهم كذبوا رسولهم هوداً، كقوله تعالى :﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٢٣ ] وقوله :﴿ قَالُواْ ياهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ هود : ٥٣ ].
الثالثة : ثمود وقد بين تعالى في غير هذا الموضع تكذيبهم لنبيهم صالح في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٤١ ] وقوله :﴿ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا ﴾ [ الشمس : ١٤ ] إلى غير ذلك من الآيات.
الرابعة : قوم إبراهيم، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أنهم كذبوه في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ﴾ [ العنكبوت : ٢٤ ] وقوله :﴿ قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ ءَالِهَتَكُمْ ﴾ [ الأنبياء : ٦٨ ]. وكقوله :﴿ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى ياإِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً ﴾ [ مريم : ٤٦ ] إلى غير ذلك من الآيات.
الخامسة : قوم لوط وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أنهم كذبوه في آيات كثيرة كقوله :﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٦٠ ] وقوله :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءَالَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ﴾ [ النمل : ٥٦ ]. إلى غير ذلك من الآيات.
السادسة : أصحاب مدين، وقد بين تعالى أنهم كذبوا نبيهم شعيباً في غير هذا الموضع في آيات كثيرة كقوله :﴿ أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ﴾ [ هود : ٩٥ ] وقوله :﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ ﴾ [ هود : ٨٤ ] إلى قوله :﴿ قَالُواْ ياشُعَيْبُ أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَؤُا إِنَّكَ لاّنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ [ هود : ٨٧ ] وقوله :﴿ قَالُواْ ياشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ﴾ [ هود : ٩١ ]. إلى غير ذلك من الآيات.
السابعة : من كذبوا موسى وهم فرعون وقومه، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أن فرعون وقومه كذبوا موسى في آيات كثيرة كقوله :﴿ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ [ الشعراء : ٢٩ ] وقوله :﴿ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٨-١٩ ] وقوله :﴿ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءَايَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٢ ] إلى غير ذلك من الآيات، وقوله تعالى في هذه الآية :﴿ فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ قد بين تعالى نوع العذاب الذي عذب به كل أمة من تلك الأمم، بعد الإملاء لها والإمهال، فبين أنه أهلك قوم نوح بالغرق في مواضع كثيرة كقوله تعالى :﴿ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [ العنكبوت : ١٤ ] وقوله :﴿ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الاٌّرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴾ [ القمر : ١١-١٢ ] وقوله :﴿ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٢٠ ] إلى غير ذلك من الآيات، وبين في مواضع كثيرة أنه بعد الإملاء والإمهال لعاد أهلكهم بالريح العقيم كقوله تعالى :﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٦ ] الآيات وقوله تعالى :﴿ وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَىْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴾ [ الذاريات : ٤١-٤٢ ] وقوله :﴿ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ﴾ [ الأحقاف : ٢٤-٢٥ ] إلى غير ذلك من الآيات وبين أنه أهلك ثمود بصيحة أهلكتهم جميعاً كقوله فيهم :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [ هود : ٦٧ ] وقوله :﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ ﴾ [ فصلت : ١٧ ] إلى غير ذلك من الآيات، وقوم إبراهيم الذين كذبوه هم نمروذ، وقومه، وقد ذكر المفسرون أن العذاب الدنيوي الذي أهلكهم الله به هو المذكور في قوله تعالى في سورة النحل :﴿ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [ النحل : ٢٦ ] وقد بين تعالى أنه أهلك قوم لوط بجعل عالي أرضهم سافلها، وأنه أرسل عليهم مطراً من حجارة السجيل في مواضع متعددة كقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾ [ هود : ٨٢ ] ونحو ذلك من الآيات. وقد بين تعالى أنه أهلك أصحاب مدين بالصيحة في مواضع كقوله فيهم :﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ﴾ [ هود : ٩٤-٩٥ ] إلى غير ذلك من الآيات وقد بين في مواضع كثيرة أنه أهلك الذين كذبوا موسى، وهم فرعون وقومه بالغرق كقوله :﴿ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ ﴾ [ الدخان : ٢٤ ] وقوله تعالى :﴿ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ﴾ [ طه : ٧٨ ] وقوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِاهَ إِلاَّ الَّذِى ءَامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَاءِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [ يونس : ٩٠ ] إلى غير ذلك من الآيات.
ومعلوم أن الآيات كثيرة في بيان ما أهلكت به هذه الأمم السبع المذكورة، وقد ذكرنا قليلاً منها كالمثال لغيره، وكل ذلك يوضح معنى قوله تعالى بعد أن ذكر تكذيب الأمم السبع لأنبيائهم ﴿ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ﴾ أي بالعذاب، وهو ما ذكرنا بعض الآيات الدالة على تفاصيله وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ النكير : اسم مصدر بمعنى الإنكار أي كيف كان إنكاري عليهم منكرهم، الذي هو كفرهم بي، وتكذيبهم رسلي، وهو ذلك العذاب المستأصل الذي بينا وبعده عذاب الآخرة الذي لا ينقطع نرجو الله لنا ولإخواننا المسلمين العافية من كل ما يسخط خالقنا، ويستوجب عقوبته. والجواب إنكارك عليهم بذلك العذاب واقع موقعه على أكمل وجه، لأن الجزاء من جنس العمل، فجزاء العمل البالغ غاية القبح بالنكال العظيم جزاء وفاق واقع موقعه، فسبحان الحكيم الخبير الذي لا يضع الأمر إلا في موضعه ولا يوقعه إلا في موقعه، وقرأ هذا الحرف ورش وحده عن نافع :﴿ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ بياء المتكلم بعد الراء وصلاً فقط وقرأ الباقون بحذفها اكتفاء بالكسرة عن الياء.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:قوله تعالى :﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾.
في هذه الآيات الكريمة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الذي عامله به قومه من التكذيب عومل به غيره من الرسل الكرام، وذلك يسليه ويخفف عليه كما قال تعالى :﴿ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [ هود : ١٢٠ ]. وقوله تعالى :﴿ مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ ﴾ [ فصلت : ٤٣ ] وقوله :﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ ﴾ [ فاطر : ٤ ] إلى غير ذلك من الآيات. وذكر تعالى في هذه الآيات سبع أمم كل واحدة منهم كذبت رسولها.
الأولى : قوم نوح في قوله :﴿ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ﴾ والآيات الدالة على تكذيب قوم نوح لا تكاد تحصى في القرآن، لكثرتها ولنقتصر على الأمثلة لكثرة الآيات الدالة على تكذيب هذه الأمم رسلها كقوله :﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٢٣ ] وقوله :﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ﴾ [ القمر : ٩ ] إلى غير ذلك من الآيات.
الثانية : عاد، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع في آيات كثيرة أنهم كذبوا رسولهم هوداً، كقوله تعالى :﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٢٣ ] وقوله :﴿ قَالُواْ ياهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ هود : ٥٣ ].
الثالثة : ثمود وقد بين تعالى في غير هذا الموضع تكذيبهم لنبيهم صالح في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٤١ ] وقوله :﴿ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا ﴾ [ الشمس : ١٤ ] إلى غير ذلك من الآيات.
الرابعة : قوم إبراهيم، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أنهم كذبوه في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ﴾ [ العنكبوت : ٢٤ ] وقوله :﴿ قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ ءَالِهَتَكُمْ ﴾ [ الأنبياء : ٦٨ ]. وكقوله :﴿ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى ياإِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً ﴾ [ مريم : ٤٦ ] إلى غير ذلك من الآيات.
الخامسة : قوم لوط وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أنهم كذبوه في آيات كثيرة كقوله :﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٦٠ ] وقوله :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءَالَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ﴾ [ النمل : ٥٦ ]. إلى غير ذلك من الآيات.
السادسة : أصحاب مدين، وقد بين تعالى أنهم كذبوا نبيهم شعيباً في غير هذا الموضع في آيات كثيرة كقوله :﴿ أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ﴾ [ هود : ٩٥ ] وقوله :﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ ﴾ [ هود : ٨٤ ] إلى قوله :﴿ قَالُواْ ياشُعَيْبُ أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَؤُا إِنَّكَ لاّنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ [ هود : ٨٧ ] وقوله :﴿ قَالُواْ ياشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ﴾ [ هود : ٩١ ]. إلى غير ذلك من الآيات.
السابعة : من كذبوا موسى وهم فرعون وقومه، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أن فرعون وقومه كذبوا موسى في آيات كثيرة كقوله :﴿ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ [ الشعراء : ٢٩ ] وقوله :﴿ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٨-١٩ ] وقوله :﴿ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءَايَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٢ ] إلى غير ذلك من الآيات، وقوله تعالى في هذه الآية :﴿ فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ قد بين تعالى نوع العذاب الذي عذب به كل أمة من تلك الأمم، بعد الإملاء لها والإمهال، فبين أنه أهلك قوم نوح بالغرق في مواضع كثيرة كقوله تعالى :﴿ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [ العنكبوت : ١٤ ] وقوله :﴿ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الاٌّرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴾ [ القمر : ١١-١٢ ] وقوله :﴿ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٢٠ ] إلى غير ذلك من الآيات، وبين في مواضع كثيرة أنه بعد الإملاء والإمهال لعاد أهلكهم بالريح العقيم كقوله تعالى :﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٦ ] الآيات وقوله تعالى :﴿ وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَىْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴾ [ الذاريات : ٤١-٤٢ ] وقوله :﴿ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ﴾ [ الأحقاف : ٢٤-٢٥ ] إلى غير ذلك من الآيات وبين أنه أهلك ثمود بصيحة أهلكتهم جميعاً كقوله فيهم :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [ هود : ٦٧ ] وقوله :﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ ﴾ [ فصلت : ١٧ ] إلى غير ذلك من الآيات، وقوم إبراهيم الذين كذبوه هم نمروذ، وقومه، وقد ذكر المفسرون أن العذاب الدنيوي الذي أهلكهم الله به هو المذكور في قوله تعالى في سورة النحل :﴿ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [ النحل : ٢٦ ] وقد بين تعالى أنه أهلك قوم لوط بجعل عالي أرضهم سافلها، وأنه أرسل عليهم مطراً من حجارة السجيل في مواضع متعددة كقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾ [ هود : ٨٢ ] ونحو ذلك من الآيات. وقد بين تعالى أنه أهلك أصحاب مدين بالصيحة في مواضع كقوله فيهم :﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ﴾ [ هود : ٩٤-٩٥ ] إلى غير ذلك من الآيات وقد بين في مواضع كثيرة أنه أهلك الذين كذبوا موسى، وهم فرعون وقومه بالغرق كقوله :﴿ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ ﴾ [ الدخان : ٢٤ ] وقوله تعالى :﴿ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ﴾ [ طه : ٧٨ ] وقوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِاهَ إِلاَّ الَّذِى ءَامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَاءِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [ يونس : ٩٠ ] إلى غير ذلك من الآيات.
ومعلوم أن الآيات كثيرة في بيان ما أهلكت به هذه الأمم السبع المذكورة، وقد ذكرنا قليلاً منها كالمثال لغيره، وكل ذلك يوضح معنى قوله تعالى بعد أن ذكر تكذيب الأمم السبع لأنبيائهم ﴿ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ﴾ أي بالعذاب، وهو ما ذكرنا بعض الآيات الدالة على تفاصيله وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ النكير : اسم مصدر بمعنى الإنكار أي كيف كان إنكاري عليهم منكرهم، الذي هو كفرهم بي، وتكذيبهم رسلي، وهو ذلك العذاب المستأصل الذي بينا وبعده عذاب الآخرة الذي لا ينقطع نرجو الله لنا ولإخواننا المسلمين العافية من كل ما يسخط خالقنا، ويستوجب عقوبته. والجواب إنكارك عليهم بذلك العذاب واقع موقعه على أكمل وجه، لأن الجزاء من جنس العمل، فجزاء العمل البالغ غاية القبح بالنكال العظيم جزاء وفاق واقع موقعه، فسبحان الحكيم الخبير الذي لا يضع الأمر إلا في موضعه ولا يوقعه إلا في موقعه، وقرأ هذا الحرف ورش وحده عن نافع :﴿ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ بياء المتكلم بعد الراء وصلاً فقط وقرأ الباقون بحذفها اكتفاء بالكسرة عن الياء.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:قوله تعالى :﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾.
في هذه الآيات الكريمة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الذي عامله به قومه من التكذيب عومل به غيره من الرسل الكرام، وذلك يسليه ويخفف عليه كما قال تعالى :﴿ وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [ هود : ١٢٠ ]. وقوله تعالى :﴿ مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ ﴾ [ فصلت : ٤٣ ] وقوله :﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ ﴾ [ فاطر : ٤ ] إلى غير ذلك من الآيات. وذكر تعالى في هذه الآيات سبع أمم كل واحدة منهم كذبت رسولها.
الأولى : قوم نوح في قوله :﴿ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ﴾ والآيات الدالة على تكذيب قوم نوح لا تكاد تحصى في القرآن، لكثرتها ولنقتصر على الأمثلة لكثرة الآيات الدالة على تكذيب هذه الأمم رسلها كقوله :﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٢٣ ] وقوله :﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ﴾ [ القمر : ٩ ] إلى غير ذلك من الآيات.
الثانية : عاد، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع في آيات كثيرة أنهم كذبوا رسولهم هوداً، كقوله تعالى :﴿ كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٢٣ ] وقوله :﴿ قَالُواْ ياهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ هود : ٥٣ ].
الثالثة : ثمود وقد بين تعالى في غير هذا الموضع تكذيبهم لنبيهم صالح في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٤١ ] وقوله :﴿ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا ﴾ [ الشمس : ١٤ ] إلى غير ذلك من الآيات.
الرابعة : قوم إبراهيم، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أنهم كذبوه في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ﴾ [ العنكبوت : ٢٤ ] وقوله :﴿ قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ ءَالِهَتَكُمْ ﴾ [ الأنبياء : ٦٨ ]. وكقوله :﴿ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى ياإِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً ﴾ [ مريم : ٤٦ ] إلى غير ذلك من الآيات.
الخامسة : قوم لوط وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أنهم كذبوه في آيات كثيرة كقوله :﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٦٠ ] وقوله :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءَالَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ﴾ [ النمل : ٥٦ ]. إلى غير ذلك من الآيات.
السادسة : أصحاب مدين، وقد بين تعالى أنهم كذبوا نبيهم شعيباً في غير هذا الموضع في آيات كثيرة كقوله :﴿ أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ﴾ [ هود : ٩٥ ] وقوله :﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ ﴾ [ هود : ٨٤ ] إلى قوله :﴿ قَالُواْ ياشُعَيْبُ أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَؤُا إِنَّكَ لاّنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ [ هود : ٨٧ ] وقوله :﴿ قَالُواْ ياشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ﴾ [ هود : ٩١ ]. إلى غير ذلك من الآيات.
السابعة : من كذبوا موسى وهم فرعون وقومه، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أن فرعون وقومه كذبوا موسى في آيات كثيرة كقوله :﴿ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ﴾ [ الشعراء : ٢٩ ] وقوله :﴿ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٨-١٩ ] وقوله :﴿ وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن ءَايَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٢ ] إلى غير ذلك من الآيات، وقوله تعالى في هذه الآية :﴿ فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ قد بين تعالى نوع العذاب الذي عذب به كل أمة من تلك الأمم، بعد الإملاء لها والإمهال، فبين أنه أهلك قوم نوح بالغرق في مواضع كثيرة كقوله تعالى :﴿ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [ العنكبوت : ١٤ ] وقوله :﴿ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الاٌّرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَآءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴾ [ القمر : ١١-١٢ ] وقوله :﴿ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٢٠ ] إلى غير ذلك من الآيات، وبين في مواضع كثيرة أنه بعد الإملاء والإمهال لعاد أهلكهم بالريح العقيم كقوله تعالى :﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٦ ] الآيات وقوله تعالى :﴿ وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِن شَىْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴾ [ الذاريات : ٤١-٤٢ ] وقوله :﴿ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَىْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ﴾ [ الأحقاف : ٢٤-٢٥ ] إلى غير ذلك من الآيات وبين أنه أهلك ثمود بصيحة أهلكتهم جميعاً كقوله فيهم :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [ هود : ٦٧ ] وقوله :﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ ﴾ [ فصلت : ١٧ ] إلى غير ذلك من الآيات، وقوم إبراهيم الذين كذبوه هم نمروذ، وقومه، وقد ذكر المفسرون أن العذاب الدنيوي الذي أهلكهم الله به هو المذكور في قوله تعالى في سورة النحل :﴿ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [ النحل : ٢٦ ] وقد بين تعالى أنه أهلك قوم لوط بجعل عالي أرضهم سافلها، وأنه أرسل عليهم مطراً من حجارة السجيل في مواضع متعددة كقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾ [ هود : ٨٢ ] ونحو ذلك من الآيات. وقد بين تعالى أنه أهلك أصحاب مدين بالصيحة في مواضع كقوله فيهم :﴿ وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ﴾ [ هود : ٩٤-٩٥ ] إلى غير ذلك من الآيات وقد بين في مواضع كثيرة أنه أهلك الذين كذبوا موسى، وهم فرعون وقومه بالغرق كقوله :﴿ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ ﴾ [ الدخان : ٢٤ ] وقوله تعالى :﴿ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ﴾ [ طه : ٧٨ ] وقوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُ لا إِلِاهَ إِلاَّ الَّذِى ءَامَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَاءِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [ يونس : ٩٠ ] إلى غير ذلك من الآيات.
ومعلوم أن الآيات كثيرة في بيان ما أهلكت به هذه الأمم السبع المذكورة، وقد ذكرنا قليلاً منها كالمثال لغيره، وكل ذلك يوضح معنى قوله تعالى بعد أن ذكر تكذيب الأمم السبع لأنبيائهم ﴿ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ﴾ أي بالعذاب، وهو ما ذكرنا بعض الآيات الدالة على تفاصيله وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ النكير : اسم مصدر بمعنى الإنكار أي كيف كان إنكاري عليهم منكرهم، الذي هو كفرهم بي، وتكذيبهم رسلي، وهو ذلك العذاب المستأصل الذي بينا وبعده عذاب الآخرة الذي لا ينقطع نرجو الله لنا ولإخواننا المسلمين العافية من كل ما يسخط خالقنا، ويستوجب عقوبته. والجواب إنكارك عليهم بذلك العذاب واقع موقعه على أكمل وجه، لأن الجزاء من جنس العمل، فجزاء العمل البالغ غاية القبح بالنكال العظيم جزاء وفاق واقع موقعه، فسبحان الحكيم الخبير الذي لا يضع الأمر إلا في موضعه ولا يوقعه إلا في موقعه، وقرأ هذا الحرف ورش وحده عن نافع :﴿ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ بياء المتكلم بعد الراء وصلاً فقط وقرأ الباقون بحذفها اكتفاء بالكسرة عن الياء.

قوله تعالى :﴿ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ﴾.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أهلك كثيراً من القرى في حال كونها ظالمة : أي بسبب ذلك الظلم، وهو الكفر بالله وتكذيب رسله، فصارت بسبب الإهلاك والتدمير ديارها متهدمة وآبارها معطلة، لا يسقي منها شيء لإهلاك أهلها الذين كانوا يستقون منها. وهذا المعنى الذي ذكره تعالى في هذه الآية : جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى :﴿ وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً ﴾ [ الطلاق : ٨-١٠ ] وقوله تعالى :﴿ وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [ هود : ١٠٢ ] وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ صلى الله عليه وسلم ﴿ وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾ العروش السقوف والخاوية الساقطة ومنه قول الخنساء :
كان أبو حسان عرشاً خوى مما بناه الدهر دان ظليل
والمعنى : أن السقوف سقطت ثم سقطت عليها حيطانها على أظهر التفسيرات، والقصر المشيد المطلي بالشيد بكسر الشين، وهو الجص، وقيل المشيد الرفيع الحصين. كقوله تعالى :﴿ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ في بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ﴾ [ النساء : ٧٨ ] أي حصون رفيعة منيعة. والظاهر أن قوله :﴿ وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ ﴾ معطوف على قرية : أي وكأين من قرية أهلكناها، وكم من بئر عطلناها بإهلاك أهلها، وكم من قصر مشيد أخليناه من ساكنيه، وأهلكناهم لما كفروا وكذبوا الرسل. وفي هذه الآية وأمثالها : تهديد لكفار قريش الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم، وتحذير لهم من أن ينزل بهم ما نزل بتلك القرى من العذاب لما كذبت رسلها.
تنبيه
يظهر لطالب العلم في هذه الآية سؤال : وهو أن قوله :﴿ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾ يدل على تهدم أبنية أهلها، وسقوطها وقوله :﴿ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ﴾ يدل على بقاء أبنيتها قائمة مشيدة.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الظاهر لي في جواب هذا السؤال : أن قصور القرى التي أهلكها الله، وقت نزول هذه الآية منها، هو متهدم كما دل عليه قوله :﴿ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾ ومنها ما هو قائم باق على بنائه، كما دل عليه قوله تعالى :﴿ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ﴾ وإنما استظهرنا هذا الجمع، لأن القرآن دل عليه، وخير ما يفسر به القرآن القرآن، وذلك في قوله جل وعلا في سورة هود :﴿ ذَالِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ ﴾ [ هود : ١٠٠ ] فصرح في هذه الآية بأن منها قائماً، ومنها حصيداً.
وأظهر الأقوال وأجراها على ظاهر القرآن : أن القائم هو الذي لم يتهدم. والحصيد هو الذي تهدم وتفرقت أنقاضه. ونظيره من كلام العرب قوله :
والناس في قسم المنية بينهم كالزرع منه قائم وحصيد
وفي معنى القائم والحصيد، أقوال أخر غير ما ذكرنا، ولكن ما ذكرنا هو أظهرها. وذكر الزمخشري ما يفهم منه وجه آخر للجمع، وهو أن معنى قوله : خاوية : خالية من أهلها من قوله : خوى المكان إذا خلا من أهله، وأن معنى : على عروشها : أن الأبنية باقية أي هي خالية من أهلها مع بقاء عروشها قائمة على حيطانها. وما ذكرناه أولاً هو الصواب إن شاء الله تعالى.
وقد دلت هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن أن لفظ القرية : يطلق تارة على نفس الأبنية، وتارة على أهلها الساكنين بها، فالإهلاك في قوله :﴿ أَهْلَكْنَاهَا ﴾، والظلم في قوله :﴿ وَهِىَ ظَالِمَةٌ ﴾ : يراد به أهلها الساكنون بها وقوله :﴿ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾ يراد به الأبنية كما قال في آية :﴿ وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا ﴾ [ يوسف : ٨٢ ] وقال في أخرى :﴿ حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا ﴾ [ الكهف : ٧٧ ].
وقد بينا في رسالتنا المسماة منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز : أن ما يسميه البلاغيون مجاز النقص، ومجاز الزيادة، ليس بمجاز حتى عند جمهور القائلين بالمجاز من الأصوليين، وأقمنا الدليل على ذلك، وقرأ هذا الحرف ابن كثير : وكائن بألف بعد الكاف، وبعد الألف همزة مكسورة، فنون ساكنة وقرأه الباقون : وكأين بهمزة مفتوحة بعد الكاف بعدها ياء مكسورة مشددة فنون ساكنة. ومعنى القراءتين واحد، فهما لغتان فصيحتان، وقراءتان سبعيتان صحيحتان.
وأبو عمرو يقف على الياء، والباقون يقفون على النون، وقرأ أبو عمرو : أهلكتها بتاء المتكلم المضمومة بعد الكاف من غير ألف، والباقون بنون مفتوحة بعد الكاف، وبعد النون ألف، والمراد بصيغة الجمع، على قراءة الجمهور التعظيم، كما هو واضح، وقرأ ورش والسوسي وبير بإبدال الهمزة ياء والباقون بالهمزة الساكنة.
مسألة
اعلم : أن كأين فيها لغات عديدة أفصحها الاثنتان اللتان ذكرناهما، وكأين بفتح الهمزة والياء المكسورة المشددة أكثر في كلام العرب، وهي قراءة الجمهور كما بينا، وكأين بالألف والهمزة المكسورة أكثر في شعر العرب، ولم يقرأ بها من السبعة غير ابن كثير كما بينا، ومعنى كأين : كمعنى كم الخبرية، فهي تدل على الإخبار بعدد كثير ومميزها له حالتان :
الأولى : أن يجرّ بمن وهي لغة القرآن كقوله :﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ ﴾ [ الحج : ٤٨ ومحمد : ١٣ والطلاق : ٨ ] وقوله ﴿ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّ ﴾ [ آل عمران : ١٤٦ ] ﴿ وَكَأَيِّن مِّن ءَايَةٍ في السَّمَاوَاتِ وَالاٌّرْضِ ﴾ [ يوسف : ١٠٥ ]. ونظير ذلك من كلام العرب في جر مميز كأين بمن قوله :
وكائن بالأباطح من صديق يراني لو أصيب هو المصابا
الحالة الثانية أن ينصب ومنه قوله :
وكائن لنا فضلاً عليكم ومنة قديماً ولا تدرون ما من منعم
وقول الآخر :
اطرد اليأس بالرجاء فكائن آلما حم بسره بعد عسر
قال في الخلاصة :
ككم كأين وكذا وينتصب تمييز ذين أو به صل من تصب
أما الاستفهام بكأين فهو نادر ولم يثبته إلا ابن مالك، وابن قتيبة، وابن عصفور، واستدل له ابن مالك بما روي عن أبي بن كعب أنه قال لابن مسعود : كأين تقرأ سورة الأحزاب آية فقال : ثلاثاً وسبعين اه.
واختلف في كأين هل هي بسيطة أو مركبة وعلى أنها مركبة فهي مركبة من كاف التشبيه، وأي المنونة، قال بعضهم : ولأجل تركيبها جاز الوقف عليها بالنون في قراءة الجمهور، لأن التنوين لما دخل في التركيب أشبه النون الأصلية، ولهذا رسم في المصحف نوناً وقراءة أبي عمرو بالوقف على الياء لأجل اعتبار حكم التنوين في الأصل، وهو حذفه في الوقف.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الأظهر عندي أن كأين بسيطة، وأنها كلمة وضعتها العرب للإخبار بعدد كثير نحو : كم. إذ لا دليل يجب الرجوع إليه على أن أصلها مركبة، ومن الدليل على أنها بسيطة : إثبات نونها في الخط لأن الأصل في نون التنوين عدم إثباتها في الخط، ودعوى أن التركيب جعلها كالنون الأصلية دعوى مجردة عن الدليل. واختار أبو حيان أنها غير مركبة، واستدل لذلك بتلاعب العرب بها في تعدد اللغات، فإن فيها خمس لغات اثنتان منها قد قدمناهما، وبينا أنهما قراءتان سبعيتان، لأن إحداهما قرأ بها ابن كثير والأخرى قرأ بها الجمهور. واللغة الثالثة فيها : كأين بهمزة ساكنة فياء مكسورة، والرابعة كيئن بياء ساكنة وهمزة مكسورة، الخامسة : كأن بهمزة مفتوحة ونون ساكنة اه، ولقد صدق أبو حيان في أن التلاعب بلفظ هذه الكلمة إلى هذه اللغات يدل على أن أصلها بسيطة لا مركبة. والله تعالى أعلم.
واعلم : أن ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة من أن البئر المعطلة، والقصر المشيد معروفان، وأنهما بحضرموت، وأن القصر مشرف على تلة جبل لا يرتقى إليه بحال، وأن البئر في سفحه لا تقر الرياح شيئاً سقط فيها إلا أخرجته، وما يذكرونه أيضاً من أن البئر هي : الرس، وأنها كانت بعدن باليمن بحضرموت في بلد يقال له : حضور، وأنها نزل بها أربعة آلاف ممن آمنوا بصالح، ونجوا من العذاب ومعهم صالح، فمات صالح، فسمي المكان حضرموت، لأن صالحاً لما حضره مات فبنوا حضور وقعدوا على هذه البئر، وأمروا عليهم رجلاً يقال له العلس بن جلاس بن سويد أو جلهس بن جلاس وكان حسن السيرة فيهم عاملاً عليهم، وجعلوا وزيره سنجاريب بن سوادة، فأقاموا دهراً، وتناسلوا حتى كثروا، وكانت البئر تسقي المدينة كلها وباديتها، وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك، لأنها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها، ورجال كثيرون موكلون بها، وحياض كثيرة حولها تملأ للناس وحياض للدواب وحياض للغنم، وحياض للبقر، ولم يكن لهم ماء غيرها، وآل بهم الأمر إلى أن مات ملكهم وطلوا جثته بدهن يمنعها من التغيير، وأن الشيطان دخل في جثته، وزعم لهم أنه هو الملك، وأنه لم يمت ولكنه تغيب عنهم ليرى صنيعهم وأمرهم أن يضربوا بينهم وبين الجثة حجاباً، وكان الشيطان يكلمهم من جثة الملك من وراء حجاب لئلا يطلعوا على الحقيقة أنه ميت، ولم يزل بهم حتى كفروا بالله تعالى فبعث الله إليهم نبياً اسمه : حنظلة بن صفوان يوحي إليه في النوم دون اليقظة، فأعلمهم أن الشيطان أضلهم وأخبرهم أن ملكهم قد مات، ونهاهم عن الشرك بالله ووعظهم ونصح لهم، وحذرهم عقاب ربهم، فقتلوا نبيهم المذكور في السوق، وطرحوه في بئر فعند ذلك نزل بهم عقاب الله، فأصبحوا والبئر غار ماؤها، وتعطل رشاؤها فصاحوا بأجمعهم، وضج النساء والصبيان حتى مات الجميع من العطش، وأن تلك البئر هي البئر المعطلة في هذه الآية كله لا معول عليه، لأنه من جنس الإسرائيليات، وظاهر القرآن يدل على خلافه، لأن قوله :﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ ﴾ [ الحج : ٤٨ ومحمد : ١٣ والطلاق : ٨ ] معناه. الإخبار بأن عدداً كبيراً من القرى أهلكهم الله بظلمهم، وأن كثيراً من آبارهم بقيت معطلة بهلاك أهلها، وأن كثيراً من القصور المشيدة بقيت بعد هلاك أهلها بدونهم، لأن مميز كأين، وإن كان لفظه مفرداً فمعناه يشمل عدداً كثيراً كما هو معلوم في محله.
وقال أبو حيان في البحر المحيط وعن الإمام أبي القاسم الأنصاري قال : رأيت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها : عكا فكيف يكون بحضرموت، ومعلوم أن ديار قوم صالح التي أهلكوا فيها معروفة يمر بها الذاهب من المدينة إلى الشام، وقد قدمنا في سورة الحجر أن النَّبي صلى الله عليه وسلم مر بها في طريقه إلى تبوك في غزوة تبوك. ومن المستبعد أن يقطع صالح، ومن آمن من قومه هذه المسافة الطويلة البعيدة من أرض الحجر إلى حضرموت م
قوله تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الاٌّرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾.
بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن كفار مكة الذين كذبوا نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ينبغي لهم أن يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، لأنهم إذا سافروا مروا بأماكن قوم صالح، وأماكن قوم لوط، وأماكن قوم هود، فوجدوا بلادهم خالية وآثارهم منطمسة لم يبق منهم داع ولا مجيب، لتكذيبهم رسلهم، وكفرهم بربهم، فيدركون بعقولهم : أن تكذيبهم نبيهم لا يؤمن أن يسبب لهم من سخط الله مثل ما حل بأولئك الذين مروا بمساكنهم خالية، قد عم أهلها الهلاك، وتكون لهم آذان يسمعون بها ما قص الله في كتابه على نبيه من أخبار تلك الأمم، وما أصابها من الإهلاك المستأصل والتدمير، فيحذروا أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك.
والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة كقوله تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الاٌّرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ [ محمد : ١٠ ] ثم بين تهديده لكفار مكة بما فعل بالأمم الماضية في قوله :﴿ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ﴾ [ محمد : ١٠ ] وكقوله في قوم لوط :﴿ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِالَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [ الصافات : ١٣٧-١٣٨ ] وكقوله فيهم :﴿ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ ﴾ [ الحجر : ٧٦ ]، وكقوله في قوم لوط وقوم شعيب :﴿ أَصْحَابُ الاٌّيْكَةِ لَظَالِمِينَ * وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الحجر : ٧٨-٧٩ ] لأن معنى الآيتين : أن ديارهم على ظهر الطريق الذي يمرون فيه المعبر عنه بالسبيل والإمام، والآيات بمثل هذا كثيرة. وقد قدمنا منها جملاً كافية في سورة المائدة وغيرها.
والآية تدل على أن محل العقل : في القلب، ومحل السمع : في الأذن، فما يزعمه الفلاسفة من أن محل العقل الدماغ باطل، كما أوضحناه في غير هذا الموضع، وكذلك قول من زعم أن العقل لا مركز له أصلاً في الإنسان، لأنه زماني فقط لإمكاني فهو في غاية السقوط والبطلان كما ترى.
قوله تعالى :﴿ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاٌّبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى في الصُّدُورِ ﴾. قد قدمنا الآيات الموضحة لمعنى هذه الآية في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمَن كَانَ في هَاذِهِ أَعْمَى فَهُوَ في الاٌّخِرَةِ أَعْمَى ﴾. مع بعض الشواهد العربية، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار يطلبون من النَّبي صلى الله عليه وسلم تعجيل العذاب الذي يعدهم به طغياناً وعناداً.
والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة في القرآن كقوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [ ص : ١٦ ] وقوله :﴿ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾ [ العنكبوت : ٥٤ ] وقوله :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ ﴾ [ العنكبوت : ٥٣ ].
وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في مواضع متعددة، من هذا الكتاب المبارك في سورة الأنعام في الكلام على قوله :﴿ مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ﴾ [ الأنعام : ٥٧ ] وفي يونس في الكلام على قوله :﴿ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءَامَنْتُمْ بِهِ ﴾ [ يونس : ٥١ ] إلى غير ذلك من المواضع.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ الظاهر أن المراد بالوعد هنا : هو ما أوعدهم به من العذاب الذي يستعجلون نزوله.
والمعنى : هو منجز ما وعدهم به من العذاب، إذا جاء الوقت المحدد لذلك كما قال تعالى :﴿ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٥٣ ] وقوله تعالى :﴿ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾ [ هود : ٨ ] وقوله تعالى :﴿ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءَامَنْتُمْ بِهِ ءَآأنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ [ يونس : ٥١ ] وبه تعلم أن الوعد يطلق في القرآن على الوعد بالشر.
ومن الآيات الموضحة لذلك قوله تعالى :﴿ قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذالِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [ الحج : ٧٢ ] فإنه قال في هذه الآية في النار : وعدها الله بصيغة الثلاثي الذي مصدره الوعد، ولم يقل أوعدها وما ذكر في هذه الآية، من أن ما وعد به الكفار من العذاب واقع لا محالة، وأنه لا يخلف وعده بذلك، جاء مبيناً في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة ق ﴿ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ ﴾ [ ق : ٢٨-٢٩ ] والصحيح أن المراد بقوله :﴿ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ ﴾ أن ما أوعد الكفار به من العذاب، لا يبدل لديه، بل هو واقع لا محالة، وقوله تعالى :﴿ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ﴾ [ ق : ١٤ ] أي وجب وثبت فلا يمكن عدم وقوعه بحال وقوله تعالى :﴿ إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرٌّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ﴾ [ ص : ١٤ ] كما أوضحناه في كتابنا : دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب في سورة الأنعام، في الكلام على قوله تعالى :﴿ قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٨ ]. وأوضحنا أنما أوعد به الكفار لا يخلف بحال، كما دلت عليه الآيات المذكورة. أما ما أوعد به عصاة المسلمين، فهو الذي يجوز ألا ينفذه وأن يعفو كما قال تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾ [ النساء : ٤٨ ].
وبالتحقيق الذي ذكرنا : تعلم أن الوعد يطلق في الخير والشر كما بينا، وإنما شاع على ألسنة كثير من أهل التفسير، من أن الوعد لا يستعمل إلا في الوعد بخير وأنه هو الذي لا يخلفه الله، وأما إن كان المتوعد به شراً، فإنه وعيد وإيعاد. قالوا : إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤماً، وعن الإيعاد كرماً، وذكروا عن الأصمعي أنه قال : كنت عند أبي عمرو بن العلاء، فجاءه عمرو بن عبيد فقال : يا أبا عمرو، هل يخلف الله الميعاد ؟ فقال : لا، فذكر آية وعيد، فقال له : أمن العجم أنت ؟ إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤماً وعن الإيعاد كرماً، أما سمعت قول الشاعر :
ولا يرهب ابن العم والجار سطوتي ولا انثنى عن سطوة المتهدد
فإنّي وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
فيه نظر من وجهين.
الأول : هو ما بيناه آنفاً من إطلاق الوعد في القرآن على التوعد بالنار، والعذاب كقوله تعالى :﴿ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ [ الحج : ٧٢ ] وقوله تعالى :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ لأن ظاهر الآية الذي لا يجوز العدول عنه، ولن يخلف الله وعده في حلول العذاب الذي يستعجلونك به بهم، لأنه مقترن بقوله :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ﴾ فتعلقه به هو الظاهر.
الثاني : هو ما بينا أن ما أوعد الله به الكفار لا يصح أن يخلفه بحال، لأن ادعاء جواز إخلافه، لأنه إيعاد وأن العرب تعد الرجوع عن الإيعاد كرماً يبطله أمران :
الأول : أنه يلزمه جواز ألا يدخل النار كافر أصلاً، لأن إيعادهم بإدخالهم النار مما زعموا أن الرجوع عنه كرم، وهذا لا شك في بطلانه.
الثاني : ما ذكرنا من الآيات الدالة : على أن الله لا يخلف ما أوعد به الكفار من العذاب كقوله :﴿ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَىَّ ﴾ [ ق : ٢٨-٢٩ ] وقوله تعالى فيهم :﴿ فَحَقَّ وَعِيدِ ﴾ [ ق : ١٤ ] وقوله فيهم :﴿ فَحَقَّ عِقَابِ ﴾ ومعنى حق : وجب وثبت، فلا وجه لانتفائه بحال، كما أوضحناه هنا وفي غير هذا الموضع.
قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن اليوم عنده جل وعلا كألف سنة مما يعده خلقه، وما ذكره هنا من كون اليوم عنده كألف سنة، أشار إليه في سورة السجدة بقوله :﴿ يُدَبِّرُ الاٌّمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الاٌّرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [ السجدة : ٥ ] وذكر في سورة المعارج أن مقدار اليوم خمسون ألف سنة وذلك في قوله :﴿ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [ المعارج : ٤ ]. فآية الحج، وآية السجدة متوافقتان تصدق كل واحدة منهما الأخرى، وتماثلها في المعنى. وآية المعارج تخالف ظاهرهما لزيادتها عليهما بخمسين ضعفاً. وقد ذكرنا وجه الجمع بين هذه الآيات في كتابنا : دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب. وسنذكره إن شاء الله هنا ملخصاً مختصراً. ونزيد عليه بعض ما تدعو الحاجة إليه.
فقد ذكرنا ما ملخصه : أن أبا عبيدة روى عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة أنه حضر كلاً من ابن عباس، وسعيد بن المسيب، سئل عن هذه الآيات : فلم يدر ما يقوله فيها، ويقول : لا أدري، ثم ذكرنا أن للجمع بينهما وجهين :
الأول : هو ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سماك، عن عكرمة عن ابن عباس من أن يوم الألف في سورة الحج : هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض ويوم الألف في سورة السجدة، هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى ويوم الخمسين ألفاً، هو يوم القيامة.
الوجه الثاني : أن المراد بجميعها يوم القيامة، وأن اختلاف زمن اليوم إنما هو باعتبار حال المؤمن، وحال الكافر لأن يوم القيامة أخف على المؤمن منه على الكافر كما قال تعالى :﴿ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾ [ المدثر : ٩-١٠ ] اه. ذكر هذين الوجهين صاحب الإتقان.
وذكرنا أيضاً في كتابنا : دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب في سورة الفرقان، في الكلام على قوله تعالى :﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٤ ] ما ملخصه : أن آية الفرقان هذه تدل على انقضاء الحساب في نصف نهار، لأن المقيل القيلولة أو مكانها وهي الاستراحة نصف النهار في الحر، وممن قال بانقضاء الحساب في نصف نهار : ابن عباس، وابن مسعود، وعكرمة وابن جبير لدلالة هذه الآية، على ذلك، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره.
وفي تفسير الجلالين ما نصه : وأخذ من ذلك انقضاء الحساب في نصف نهار، كما ورد في حديث انتهى منه، مع أنه تعالى ذكر أن مقدار يوم القيامة خمسون ألف سنة في قوله تعالى :﴿ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [ المعارج : ٤ ] وهو يوم القيامة بلا خلاف في ذلك.
والظاهر في الجواب : أن يوم القيامة يطول على الكفار ويقصر على المؤمنين، ويشير لهذا قوله تعالى بعد هذا بقليل ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً ﴾ [ الفرقان : ٢٦ ] فتخصيصه عسر ذلك اليوم بالكافرين : يدل على أن المؤمنين ليسوا كذلك وقوله تعالى :﴿ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ﴾ [ المدثر : ٩-١٠ ] يدل بمفهوم مخالفته على أنه يسير على المؤمنين غير عسير كما دل عليه قوله تعالى :﴿ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ﴾ [ القمر : ٨ ].
وقال ابن جرير : حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، أنبأنا عمرو بن الحارث : أن سعيداً الصواف حدثه أنه بلغه : أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين، حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس، وأنهم يتقلبون في رياض الجنة، حتى يفرغ من الناس وذلك قوله :﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٤ ] ونقله عنه ابن كثير في تفسيره، وأما على قول من فسر المقيل في الآية بأنه المأوى والمنزل كقتادة رحمه الله، فلا دلالة في الآية لشيء مما ذكرنا. ومعلوم أن من كان في سرور ونعمة، أنه يقصر عليه الزمن الطويل قصراً شديداً، بخلاف من كان في العذاب المهين والبلايا والكروب، فإن الزمن القصير يطول عليه جداً، وهذا أمر معروف، وهو كثير في كلام العرب. وقد ذكرنا في كتابنا المذكور بعض الشواهد الدالة عليه، كقول أبي سفيان بن الحارث رضي الله عنه يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أرقت فبات ليلي لا يزول وليل أخي المصيبة فيه طول
وقول الآخر :
فقصارهن مع الهموم طويلة وطوالهن مع السرور قصار
وقول الآخر :
ليلي وليلي نفى نومي اختلافهما في الطول والطول طوبى لي لو اعتدلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت بالطول ليلي وإن جادت به بخلا
ونحو هذا كثير جداً في كلام العرب، ومن أظرف ما قيل فيه ما روي عن يزيد بن معاوية أنه قال :
لا أسأل الله تغييراً لما فعلت نامت وقد أسهرت عيني عيناها
فالليل أطول شيء حين أفقدها والليل أقصر شيء حين ألقاها
وقد ورد بعض الأحاديث بما يدل على ظاهر آية الحج، وآية السجدة.
وسنذكر هنا طرفاً منه بواسطة نقل ابن كثير في تفسير هذه الآية من سورة الحج. قال ابن كثير : قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة، حدثني عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قوله تعالى :﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ ﴾.
تقدمت قريباً الآيات الموضحة لمعنى هذه الآية في الكلام على قوله تعالى ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ﴾ [ الحج : ٤٢ ] وإلى قوله ﴿ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ﴾ [ الحج : ٤٥ ].
قوله تعالى :﴿ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾.
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يقول للناس ﴿ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ ﴾ أي إني لست بربكم، ولا بيدي هدايتكم ولا عليَ عقابكم يوم القيامة، ولكني مخوف لكم من عذاب الله وسخطه.
والآيات بهذا المعنى كثيرة جداً كقوله تعالى ﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ﴾ [ الرعد : ٤٠ ] وقوله ﴿ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ ﴾ [ } [ الرعد : ٧ ] وقوله ﴿ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ [ الشعراء : ١١٥ ] وقوله ﴿ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلَاغُ ﴾ [ الشورى : ٢٨ ] وقوله ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ [ سبأ : ٤٦ ] وقوله ﴿ تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ١ ] والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً. وقوله في هذه الآية الكريمة : مبين الظاهر أنه الوصف من أبان الرباعية اللازمة التي بمعنى بان، والعرب تقول : أبان فهو بين معنى بان، فهو بين من اللازم الذي ليس بمتعد إلى المفعول، ومنه قول كعب بن زهير :
قنواء في حرتيها للبصير عتق مبين وفي الخدين تسهيل
فقوله : عتق مبين : أي كرم ظاهر ومن أبان اللازمة قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
لو دب ذر فوق ضاحي جلدها لأبان من آثارهن حدور
يعني لظهر وبان من آثارهن ورم ومنه قول جرير :
إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب
أي ظهر : وبان المقرفات من العراب، ويحتمل أن يكون قوله في هذه الآية : مبين : اسم فاعل أبان المتعدية، والمفعول محذوف للتعميم : أي مبين لكم في إنذاري كل ما ينفعكم، وما يضركم لتجتلبوا النفع، وتجتنبوا الضر، والأول أظهر. والله أعلم أعلم.
قوله تعالى :﴿ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الذين آمنوا به وبرسله، وكل ما يجب الإيمان به، وعملوا الفعلات الصالحات من امتثال الأوامر، واجتناب النواهي لهم من الله مغفرة لذنوبهم، ورزق كريم : أي حسن، هو ما يرزقهم من أنواع النعيم في جناته، وأن الذين عملوا بخلاف ذلك فهم أصحاب الجحيم : أي النار الشديد حرها، وفي هذه الآية وعد لمن أطاعه ووعيد لمن عصاه. والآيات بمثل ذلك في القرآن كثيرة كقوله تعالى ﴿ نَبِّىءْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الاٌّلِيمُ ﴾ [ الحجر : ٤٩-٥٠ ] وقوله ﴿ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِى الطَّوْلِ ﴾ [ غافر : ٣ ] إلى غير ذلك من الآيات، وقد أوضحناها في غير هذا الموضع.
وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ وَالَّذِينَ سَعَوْاْ في ءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ﴾ قال مجاهد : معاجزين يثبطون الناس عن متابعة النَّبي صلى الله عليه وسلم وكذا قال عبد الله بن الزبير : مثبطين. وقال ابن عباس : معاجزين أي مغالبين ومشاقين، وعن الفراء معاجزين : معاندين. وعن الأخفش معاجزين : معاندة مسابقين، وعن الزجاج معاجزين : أي ظانين أنهم يعجزوننا، لأنهم ظنوا ألا بعث، وأن الله لا يقدر عليهم.
واعلم : أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين قرأه الجمهور : معاجزين بألف بين العين والجيم بصيغة المفاعلة اسم فاعل عاجزه، وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو : معجزين بلا ألف مع تشديد الجيم المكسورة على صيغة اسم الفاعل من عجزه.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الظاهر بحسب الوضع العربي في قراءة الجمهور معاجزين : هو اقتضاء طرفين، لأن الظاهر لا يعدل عنه إلا لدليل يجب الرجوع إليه، والمفاعلة تقتضي الطرفين إلا لدليل يصرف عن ذلك، واقتضاء المفاعلة الطرفين في الآية من طريقين.
الأولى : هي ما قاله ابن عرفة من أن معنى معاجزين في الآية أنهم يعاجزون الأنبياء وأتباعهم، فيحاول كل واحد منهما إعجاز الآخر فالأنبياء وأتباعهم، يحاولون إعجاز الكفار وإخضاعهم لقبول ما جاء عن الله تعالى، والكفار يقاتلون الأنبياء، وأتباعهم، ويمانعونهم، ليصيروهم إلى العجز عن أمر الله. وهذا الوجه ظاهر كما قال تعالى ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ ﴾ [ البقرة : ٢١٧ ] وعليه فمفعول معاجزين معاجزين محذوف : أي معاجزين الأنبياء وأتباعهم، أي مغالبين لهم، ليعجزوهم عن إقامة الحق.
الطريقة الثانية : هي التي ذكرناها آنفاً عن الزجاج أن معنى معاجزين : ظانين أنهم يعجزون ربهم، فلا يقدر عليهم لزعمهم أنه لا يقدر على بعثهم بعد الموت كما قال تعالى ﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ ﴾ [ التغابن : ٧ ] وكما قال تعالى ﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٨ ] وقال تعالى عنهم إنهم قالوا ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٩ ] ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ ﴾ [ الدخان : ٣٥ ] وعلى هذا القول فالكفار معاجزين الله في زعمهم الباطل، وقد بين تعالى في آيات كثيرة أن زعمهم هذا كاذب، وأنهم لا يعجزون ربهم بحال كقوله تعالى ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِى الْكَافِرِينَ ﴾ [ التوبة : ٢ ] وقوله ﴿ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ التوبة : ٣ ] وقوله ﴿ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ في الاٌّرْضِ وَلاَ في السَّمَآءِ ﴾ [ العنكبوت : ٢٢ ] وقوله تعالى في الجن ﴿ وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ في الاٌّرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً ﴾ [ الجن : ١٢ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا أن مما يوضح هذا الوجه الأخير قول كعب بن مالك رضي الله عنه :
زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب
ومراده بسخينة قريش : يعني أنهم يحاولون غلبة ربهم، والله غالبهم بلا شك والوجه الأول أظهر. وأما على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو : معجزين بكسر الجيم المشددة، بلا ألف، فالأظهر أن المعنى معجزين : أي مثبطين من أراد الدخول في الإيمان عن الدخول فيه، وقيل معجزين من اتبع النَّبي صلى الله عليه وسلم ومعنى ذلك : أنهم ينسبونهم إلى العجز من قولهم : عجزه بالتضعيف إذا نسبه إلى العجز الذي هو ضد الحزم، يعنون أنهم يحسبون المسلمين سفهاء لا عقول لهم، حيث ارتكبوا أمراً غير الحزم والصواب، وهو اتباع دين الإسلام في زعمهم كما قال تعالى عن إخوانهم المنافقين ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السُّفَهَآءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ ﴾ [ البقرة : ١٣ ] وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ وَالَّذِينَ سَعَوْاْ في ءَايَاتِنَا ﴾.
اعلم أولاً : أن السعي يطلق على العمل في الأمر لإفساده وإصلاحه، ومن استعماله في الإفساد قوله تعالى هنا ﴿ وَالَّذِينَ سَعَوْاْ في ءَايَاتِنَا ﴾ أي سعوا في إبطالها وتكذيبها بقولهم : إنها سحر وشعر وكهانة وأساطير الأولين، ونحو ذلك. ومن إطلاق السعي في الفساد أيضاً قوله تعالى ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى في الاٌّرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا ﴾ [ البقرة : ٢٠٥ ] ومن إطلاق السعي في العمل للإصلاح قوله تعالى ﴿ إِنَّ هَاذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً ﴾ [ الإنسان : ٢٢ ] وقوله ﴿ وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى ﴾ [ عبس : ٨-٩ ] إلى غير ذلك من الآيات.
ومن إطلاق السعي على الخير والشر معاً قوله تعالى ﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ﴾ [ الليل : ٤ ] إلى قوله ﴿ وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ﴾ [ الليل : ١١ ] وهذه الآية التي ذكرها هنا في سورة الحج التي هي قوله تعالى ﴿ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْاْ في ءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ جاء معناها واضحاً في سورة سبأ في قوله تعالى ﴿ لِّيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ سَعَوْا في ءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ﴾ [ سبأ : ٤-٥ ] فالعذاب من الرجز الأليم المذكور في سبأ هو عذاب الجحيم المذكور في الحج.
قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءَايَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾.
معنى قوله تمنى في هذه الآية الكريمة فيه للعلماء وجهان من التفسير معروفان :
الأول : أن تمنى بمعنى : قرأ وتلا ومنه قول حسان في عثمان بن عفان رضي الله عنه :
تمنى كتاب الله أول ليله وآخرها لاقى حمام المقادر
وقول الآخر :
تمنى كتاب الله آخر ليلة تمنى داود الزبور على رسل
فمعنى تمنى في البيتين قرأ وتلا.
وفي صحيح البخاري، عن ابن عباس أنه قال : إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته : إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه. وكون تمنى بمعنى : قرأ وتلا. هو قول أكثر المفسرين.
القول الثاني : أن تمنى في الآية من التمني المعروف، وهو تمنية إسلام أمته وطاعتهم لله ولرسله، ومفعول ألقى محذوف فعلى أن تمنى بمعنى : أحب إيمان أمته، وعلق أمله بذلك، فمفعول ألقى يظهر أنه من جنس الوساوس، والصد عن دين الله حتى لا يتم للنبي صلى الله عليه وسلم أو الرسول ما تمنى.
ومعنى كون الإلقاء في أمنيته على هذا الوجه : أن الشيطان يلقي وساوسه وشبهه ليصدّ بها عما تمناه الرسول أو النَّبي، فصار الإلقاء كأنه واقع فيها بالصد عن تمامها والحيلولة دون ذلك.
وهل أن تمنى بمعنى : قرأ. ففي مفعول ألقى تقديران :
أحدهما : من جنس الأول : أي ألقى الشيطان في قراءة الرسول الله صلى الله عليه وسلم أو النَّبي الشبه والوساوس ليصد الناس عن اتباع ما يقرؤه، ويتلوه الرسول أو النَّبي، وعلى هذا التقدير فلا إشكال.
وأما التقدير الثاني : فهو ألقى الشيطان في أمنيته أي قراءته ما ليس منها ليظن الكفار أنه منها.
وقوله ﴿ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ﴾ يستأنس به لهذا التقدير.
وقد ذكر كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية قصة الغرانيق قالوا : سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم بمكة، فلما بلغ :﴿ أَفَرَءَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاٍّخْرَى ﴾ [ النجم : ١٩-٢٠ ] ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، فلما بلغ آخر السورة سجد وسجد معه المشركون والمسلمون. وقال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم، وشاع في الناس أن أهل مكة أسلموا بسبب سجودهم مع النَّبي صلى الله عليه وسلم، حتى رجع المهاجرون من الحبشة ظناً منهم أن قومهم أسلموا، فوجدوهم على كفرهم.
وقد قدمنا في هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون في الآية قرينة تدل على بطلان ذلك القول، ومثلنا لذلك : بأمثلة متعددة، وهذا القول الذي زعمه كثير من المفسرين : وهو أن الشيطان ألقى على لسان النَّبي صلى الله عليه وسلم، هذا الشرك الأكبر والكفر البواح الذي هو قولهم : تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى، يعنون : اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، الذي لا شك في بطلانه في نفس سياق آيات النجم التي تخللها إلقاء الشيطان المزعوم قرينة قرآنية واضحة على بطلان هذا القول لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قرأ بعد موضع الإلقاء المزعوم بقليل قوله تعالى، في اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى :﴿ إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ﴾ [ النجم : ٢٣ ] وليس من المعقول أن النَّبي صلى الله عليه وسلم يسب آلهتهم هذا السب العظيم في سورة النجم متأخراً عن ذكره لها بخير المزعوم، إلا وغضبوا، ولم يسجدوا لأن العبرة بالكلام الأخير، مع أنه قد دلت آيات قرآنية على بطلان هذا القول، وهي الآيات الدالة على أن الله لم يجعل للشيطان سلطاناً على النَّبي صلى الله عليه وسلم، وإخوانه من الرسل، وأتباعهم المخلصين كقوله تعالى :﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [ النحل : ٩٩-١٠٠ ] وقوله تعالى :﴿ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [ الحجر : ٤٢ ] وقوله تعالى ﴿ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالاٌّخِرَةِ ﴾ [ سبأ : ٢١ ] وقوله :﴿ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ]. وعلى القول المزعوم أن الشيطان ألقى على لسانه صلى الله عليه وسلم ذلك الكفر البواح، فأي سلطان له أكبر من ذلك.
ومن الآيات الدالة على بطلان ذلك القول المزعوم قوله تعالى في النَّبي صلى الله عليه وسلم :﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى ﴾ [ النجم : ٣-٤ ] وقوله ﴿ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ﴾ [ الشعراء : ٢٢١-٢٢٢ ] وقوله في القرآن العظيم :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [ الحجر : ٩ ] وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌلاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [ فصلت : ٤١-٤٢ ] فهذه الآيات القرآنية تدل على بطلان القول المزعوم.
مسألة
اعلم : أن مسألة الغرانيق مع استحالتها شرعاً، ودلالة القرآن على بطلانها لم تثبت من طريق صالح للاحتجاج، وصرح بعدم ثبوتها خلق كثير من علماء الحديث كما هو الصواب، والمفسرون يروون هذه القصة عن ابن عباس من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. ومعلوم أن الكلبي متروك، وقد بين البزار رحمه الله : أنها لا تعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير، مع الشك الذي وقع في وصله، وقد اعترف الحافظ ابن حجر مع انتصاره، لثبوت هذه القصة بأن طرقها كلها إما منقطعة أو ضعيفة إلا طريق سعيد بن جبير.
وإذا علمت ذلك فاعلم أن طريق سعيد بن جبير، لم يروها بها أحد متصلة إلا أمية بن خالد، وهو وإن كان ثقة فقد شك في وصلها.
فقد أخرج البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فيما أحسب، ثم ساق حديث القصة المذكورة، وقال البزار : لا يرى متصلاً إلا بهذا الإسناد، تفرد بوصله أمية بن خالد، وهو ثقة مشهور، وقال البزار : وإنما يروى من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. والكلبي متروك.
فتحصل أن قصة الغرانيق، لم ترد متصلة إلا من هذا الوجه الذي شك رواية في الوصل، ومعلوم أن ما كان كذلك لا يحتج به لظهور ضعفه، ولذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره : إنه لم يرها مسندة من وجه صحيح.
وقال الشوكاني في هذه القصة : ولم يصح شيء من هذا، ولا يثبت بوجه من الوجوه، ومع عدم صحته، بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله كقوله ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاٌّقَاوِيلِ ﴾ [ الحاقة : ٤٤ ] وقوله ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ﴾ [ النجم : ٣ ]. وقوله ﴿ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٧٤ ] فنفى المقاربة للركون فضلاً عن الركون، ثم ذكر الشوكاني عن البزار أنها لا تروى بإسناد متصل، وعن البيهقي أنه قال : هي غير ثابتة من جهة النقل، وذكر عن إمام الأئمة ابن خزيمة : أن هذه القصة من وضع الزنادقة وأبطلها ابن العربي المالكي، والفخر الرازي وجماعات كثيرة، وقراءته صلى الله عليه وسلم سورة النجم وسجود المشركين ثابت في الصحيح، ولم يذكر فيه شيء من قصة الغرانيق. وعلى هذا القول الصحيح وهو أنها باطلة فلا إشكال.
وأما على ثبوت القصة كما هو رأي الحافظ ابن حجر فإنه قال في فتح الباري : إن هذه القصة ثابتة بثلاثة أسانيد كلها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذلك من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض، لأن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها، دل ذلك على أن لها أصلاً. فللعلماء عن ذلك أجوبة كثيرة أحسنها، وأقربها : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يرتل السورة ترتيلاً تتخلله سكتات، فلما قرأ ﴿ وَمَنَواةَ الثَّالِثَةَ الاٍّخْرَى ﴾ قال الشيطان لعنه الله محاكياً لصوته : تلك الغرانيق العلى الخ فظن المشركون أن الصوت صوته صلى الله عليه وسلم، وهو برىء ومن ذلك براءة الشمس من اللمس، وقد أوضحنا هذه المسألة في رحلتنا إيضاحاً وافياً، واختصرناها هنا، وفي كتابنا : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب.
والحاصل : أن القرآن دل على بطلانها، ولم تثبت من جهة النقل، مع استحالة الإلقاء على لسانه صلى الله عليه وسلم لما ذكر شرعاً، ومن أثبتها نسب التلفظ بذلك الكفر للشيطان. فتبين أن نطق النَّبي صلى الله عليه وسلم بذلك الكفر، ولو سهواً مستحيل شرعاً، وقد دل القرآن على بطلانه، وهو باطل قطعاً على كل حال، والغرانيق : الطير البيض المعروفة واحدها : غرنوق كزنبور وفردوس، وفيه لغات غير ذلك، يزعمون أن الأصنام ترتفع إلى الله كالطير البيض، فتشفع عنده لعابديها قبحهم الله ما أكفرهم، ونحن وإن ذكرنا أن قوله ﴿ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ﴾ يستأنس به لقول من قال : إن مفعول الإلقاء المحذوف تقديره : ألقى الشيطان في قراءته ما ليس منها، لأن النسخ هنا هو النسخ اللغوي، ومعناه الإبطال والإزالة من قولهم : نسخت الشمس الظل، ونسخت الريح الأثر، وهذا كأنه يدل على أن الله ينسخ شيئاً ألقاه الشيطان، ليس مما يقرؤه الرسول أو النَّبي، فالذي يظهر لنا أنه الصواب. وأن القرآن يدل عليه دلالة واضحة، وإن لم ينتبه له من تكلم على الآية من المفسرين : هو أن ما يلقيه الشيطان في قراءة النَّبي : الشكوك والوساوس المانعة من تصديقها وقبولها، كإلقائه عليهم أنهم سحر أو شعر، أو أساطير الأولين، وأنها مفتراة على الله ليست منزلة من عنده.
والدليل على هذا المعنى : أن الله بين أن الحكمة في الإلقاء المذكور امتحان الخلق، لأنه قال ﴿ لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ [ الحج : ٥٣ ] ثم قال ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ﴾ [ الحج : ٥٤ ] فقوله ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾. يدل على الشيطان يلقي عليهم، أن الذي يقرأه النَّبي ليس بحق فيصدقه الأشقياء، ويكون ذلك فتنة لهم، ويكذبه المؤمنون الذين أوتوا العلم، ويعلمون أنه الحق لا الكذب كما يزعم لهم الشيطان في إلقائه : فهذا الامتحان لا يناسب شيئاً زاده الشيطان من نفسه في القراءة، والعلم عند الله تعالى.
وعلى هذا القول، فمعنى نسخ ما يلقى الشيطان : إزالته وإبطاله، وعدم تأثيره في المؤمنين الذين أوتوا العلم.
ومعنى يحكم آياته : يتقنها بالإ
واللام في قوله ﴿ لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ﴾ الأظهر أنها متعلقة، بألقى أي ألقى الشيطان في أمنية الرسل والأنبياء، ليجعل الله ذلك الإلقاء فتنة للذين في قلوبهم مرض، خلافاً للخوفي القائل : إنها متعلقة بيحكم، وابن عطية القائل : إنها متعلقة بينسخ. ومعنى كونه : فتنة لهم أنه سبب لتماديهم في الضلال والكفر، وقد أوضحنا معاني الفتنة في القرآن سابقاً، وبينا أن أصل الفتنة في اللغة وضع الذهب في النار، ليظهر بسبكه فيها أخالص هو أم زائف، وأنها في القرآن تطلق على معان متعددة منها : الوضع في النار، ومنه قوله تعالى ﴿ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ﴾ [ الذاريات : ١٣ ] أي يحرقون بها. وقوله تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [ البروج : ١٠ ] أي أحرقوهم بنار الأخدود على أظهر التفسيرين، ومنها : الاختبار وهو أكثر استعالاتها في القرآن، كقوله تعالى ﴿ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [ التغابن : ١٥ ] وقوله تعالى ﴿ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ] وقوله تعالى ﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لاّسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً * لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾ [ الجن : ١٦-١٧ ] ومنها : نتيجة الابتلاء إن كانت سيئة كالكفر والضلال كقوله ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ] أي شرك بدليل قوله ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ للَّهِ ﴾ [ البقرة : ١٩٣ ] وقوله في الأنفال ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ ﴾ [ الأنفال : ٣٩ ] ومما يوضح هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إلاه إلا الله » الحديث. فالغاية في الحديث مبينة للغاية في الآية، لأن خير ما يفسر به القرآن بعد القرآن السنة، ومنه بهذا المعنى قوله هنا ﴿ لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ وقد جاءت الفتنة في موضع بمعنى الحجة، وهو قوله تعالى في الأنعام ﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ] أي حجتهم كما هو الظاهر.
واعلم أن مرض القلب في القرآن يطلق على نوعين :
أحدهما : مرض بالنفاق والشك والكفر، ومنه قوله تعالى في المنافقين ﴿ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ [ البقرة : ١٠ ] وقوله هنا ﴿ لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ أي كفر وشك.
والثاني : منهما إطلاق مرض القلب على ميله للفاحشة والزنى، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى ﴿ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى في قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ [ الأحزاب : ٣٢ ] أي ميل إلى الزنى ونحوه، والعرب تسميى انطواء القلب على الأمور الخبيثة : مرضاً وذلك معروف في لغتهم ومنه قول الأعشى :
حافظ للفرج راض بالتقى ليس ممن قلبه فيه مرض
وقوله هنا ﴿ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾ قد بينا في سورة البقرة الآيات القرآنية الدالة على سبب قسوة القلوب في الكلام على قوله ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذالِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ [ البقرة : ٧٤ ] وآية الحج هذه تبين أن ما أشهر على ألسنة أهل العلم، من أن النَّبي هو من أوحى إليه وحي، ولم يؤمر بتبليغه، وأن الرسول هو النَّبي الذي أوحى إليه، وأمر بتبليغ ما أوحى إليه غير صحيح، لأن قوله تعالى ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىٍّ ﴾. يدل على أن كلاً منهما مرسل، وأنهما مع ذلك بينهما تغاير واستظهر بعضهم أن النَّبي الذي هو رسول أنزل إليه كتاب وشرع مستقل مع المعجزة التي ثبتت بها نبوته، وأن النَّبي المرسل الذي هو غير الرسول، هو من لم ينزل عليه كتاب وإنما أوحى إليه أن يدعو الناس إلى شريعة رسول قبله، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا يرسلون ويؤمرون بالعمل بما في التوراة، كما بينه تعالى بقوله ﴿ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ ﴾ [ المائدة : ٤٤ ] وقوله في هذه الآية ﴿ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ﴾ أي تخشع وتخضع وتطمئن.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ في مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ﴾.
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن الكفار لا يزالون في مرية، أي شك وريب منه : أي من هذا القرآن العظيم كما هو الظاهر، واختاره ابن جرير وهو قول ابن جريج، كما نقله عنهم ابن كثير : وقال سعيد بن جبير، وابن زيد : في ﴿ مِرْيَةٍ مِّنْهُ ﴾ : أي في شك مما ألقى الشيطان، وذكر تعالى في هذه الآية : أنهم لا يزالون كذلك، حتى تأتيهم الساعة : أي القيامة بغتة : أي فجأة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم. قد روى مجاهد عن أبي بن كعب : أن اليوم العقيم المذكور يوم بدر، وكذا قال مجاهد وعكرمة، وسعيد بن جبير وغير واحد : واختاره ابن جرير كما نقله عنهم ابن كثير في تفسيره ثم قال : وقال مجاهد وعكرمة في رواية عنهما : هو يوم القيامة لا ليل له، وكذا قال الضحاك والحسن البصري، ثم قال : وهذا القول هو الصحيح، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به ا ه. محل الغرض من ابن كثير.
وقد ذكرنا مراراً أَنا بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً، ويكون في الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول. وذكرنا لذلك أمثلة كثيرة. وبه تعلم أن القرينة القرآنية هنا دلت على أن المراد باليوم العقيم : يوم القيامة، لا يوم بدر، وذلك أنه تعالى أتبع ذكر اليوم العقيم، بقوله ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾. وذلك يوم القيامة وقوله : يومئذ : أي يوم إذ تأتيهم الساعة، أو يأتيهم عذاب عقيم، وكل ذلك يوم القيامة. فظهر أن اليوم العقيم : يوم القيامة، وإن كان يوم بدر عقيماً على الكفار، لأنهم لا خير لهم فيه، وقد أصابهم ما أصابهم.
قوله تعالى :﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الملك يوم القيامة له، وإن كان الملك في الدنيا له أيضاً، لأن في الدنيا ملوكاً من المخلوقين، ويوم القيامة لا يكون فيه اسم الملك إلا لله جل وعلا وحده، وما ذكره في هذه الآية الكريمة من أن الملك يوم القيامة له، ومعلوم أن الملك هو الذي له الحكم بين الخلق بينه في غير هذا الموضع كقوله ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [ الفاتحة : ٤ ] وقوله ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ ﴾ [ الفرقان : ٢٦ ] وقوله ﴿ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [ غافر : ١٦ ] وقوله تعالى ﴿ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ في الصُّوَرِ ﴾ [ الأنعام : ٧٣ ]. إلى غير ذلك من الآيات.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:إدخال الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنة المذكور هنا وكون الكفار المكذبين بآيات الله لهم العذاب المهين : يتضمن تفصيل حكم الله بينهم في قوله ﴿ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾ وما ذكره هنا من الوعد والوعيد قد بينا الآيات الدالة على معناه مرراً بكثرة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى :﴿ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ في جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِأاياتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:إدخال الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنة المذكور هنا وكون الكفار المكذبين بآيات الله لهم العذاب المهين : يتضمن تفصيل حكم الله بينهم في قوله ﴿ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾ وما ذكره هنا من الوعد والوعيد قد بينا الآيات الدالة على معناه مرراً بكثرة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ في سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَازِقِينَ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية : أن المؤمنين الذين هاجروا في سبيل الله، ثم قتلوا بأن قتلهم الكفار في الجهاد، لأن هذا هو الأغلب في قتل من قتل منهم، أو ماتوا على فرشهم حتف أنفهم في غير جهاد، أنه تعالى أقسم ليرزقهم رزقاً حسناً وأنه خير الرازقين، وما تضمنته هذه الآية الكريمة مما ذكرنا جاء مبيناً في غير هذا الموضع.
أما الذين قتلوا في سبيل الله : فقد بين الله جل وعلا أنه يرزقهم رزقاً حسناً، وذلك في قوله تعالى ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ في سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [ آل عمران : ١٦٩ ] ولا شك أن ذلك الذي يرزقهم رزق حسن، وأما الذين ماتوا في قتال المذكورين في قوله هنا : أو ماتوا، فقد قال الله فيهم ﴿ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ ﴾ [ النساء : ١٠٠ ] ولا شك أن من وقع أجره على الله : أن الله يرزقه الرزق الحسن كما لا يخفى.
والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة.
وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية طرفاً منها والعلم عند الله تعالى، وقوله تعالى في هذه الآية ﴿ ثُمَّ قُتِلُواْ ﴾ قرأه ابن عامر بتشديد التاء والباقون بتخفيفها.
قوله تعالى :﴿ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ في النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ في الَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ ﴾.
ذكر غير واحد من المفسرين : أن الإشارة في قوله : ذلك راجعة إلى نصرة من ظلم من عباده المؤمنين المذكور قبله في قوله ﴿ ذالِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ ﴾ [ الحج : ٦٠ ] أي ذلك النصر المذكور كائن بسبب أنه قادر لا يعجز عن نصرة من شاء نصرته، ومن علامات قدرته الباهرة : أنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل أو بسبب أنه خالق الليل والنهار، ومصرفهما، فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والانتصار، وأنه سميع لما يقولون، بصير بما يفعلون : أي وذلك الوصف بخلق النهار والليل والإحاطة بما يجري فيهما، والإحاطة بكل قول وفعل بسبب أن الله هو الحق : أي الثابت الإلهية والاستحقاق للعبادة وحده، وأَن كل ما يدعى إلاهاً غيره باطل وكفر، ووبال على صاحبه، وأنه جل وعلا هو العلي الكبير، الذي هو أعلا من كل شيء وأعظم وأكبر سبحانه وتعالى علواً كبيراً.
وقد أشار تعالى لأول ما ذكرنا. بقوله ﴿ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ في النَّهَارِ ﴾، ولآخره بقوله ﴿ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ﴾.
والأظهر عندي : أن الإشارة في قوله ذلك : راجعة إلى ما هو أعم من نصرة المظلوم، وأنها ترجع لقوله ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾ [ الحج : ٥٦ ] إلى ما ذكره من نصرة المظلوم : أي ذلك المذكور من كون الملك له وحده، يوم القيامة، وأنه الحاكم وحده بين خلقه، وأنه المدخل الصالحين جنات النعيم والمعذب الذين كفروا العذاب المهين، والناصر من بغى عليه من عباده المؤمنين، بسبب أنه القادر على كل شيء، ومن أدلة ذلك : أنه يولج الليل في النهار إلى آخر ما ذكرنا. وهذا الذي وصف به نفسه هنا من صفات الكمال والجلال ذكره في غير هذا الموضع كقوله في سورة لقمان، مبيناً أن من اتصف بهذه الصفات قادر على إحياء الموتى، وخلق الناس ﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [ لقمان : ٢٨ ].
ثم استدل على قدرته على الخلق والبعث، فقال :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ في النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ في الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ ﴾ [ لقمان : ٢٩-٣٠ ] فهذه الصفات الدالة على كمال قدرته، استدل بها على قدرته في الحج، وفي لقمان. وإيلاج كل من الليل والنهار في الآخر فيه معنيان :
الأول : وهو قول الأكثر : من أن إيلاج كل واحد منهما في الآخر، إنما هو بإدخال جزء منه فيه، وبذلك يطول النهار في الصيف، لأنه أولج فيه شيء من الليل ويطول الليل في الشتاء : لأنه أولج فيه شيء من النهار، وهذا من أدلة قدرته الكاملة.
المعنى الثاني : هو أن إيلاج أحدهما في الآخر، هو تحصيل ظلمة هذا في مكان ضياء ذلك، بغيبوبة الشمس. وضياء ذلك في مكان ظلمة هذا كما يضيء البيت المغلق بالسراج، ويظلم بفقده. ذكر هذا الوجه الزمخشري، وكأنه يميل إليه والأول أظهر، وأكثر قائلاً، والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ﴾ قرأه حفص وحمزة والكسائي : يدعون بالياء التحتية، وقرأه الباقون : بتاء الخطاب الفوقية.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦١:قوله تعالى :﴿ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ في النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ في الَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ ﴾.
ذكر غير واحد من المفسرين : أن الإشارة في قوله : ذلك راجعة إلى نصرة من ظلم من عباده المؤمنين المذكور قبله في قوله ﴿ ذالِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ ﴾ [ الحج : ٦٠ ] أي ذلك النصر المذكور كائن بسبب أنه قادر لا يعجز عن نصرة من شاء نصرته، ومن علامات قدرته الباهرة : أنه يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل أو بسبب أنه خالق الليل والنهار، ومصرفهما، فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والانتصار، وأنه سميع لما يقولون، بصير بما يفعلون : أي وذلك الوصف بخلق النهار والليل والإحاطة بما يجري فيهما، والإحاطة بكل قول وفعل بسبب أن الله هو الحق : أي الثابت الإلهية والاستحقاق للعبادة وحده، وأَن كل ما يدعى إلاهاً غيره باطل وكفر، ووبال على صاحبه، وأنه جل وعلا هو العلي الكبير، الذي هو أعلا من كل شيء وأعظم وأكبر سبحانه وتعالى علواً كبيراً.
وقد أشار تعالى لأول ما ذكرنا. بقوله ﴿ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ في النَّهَارِ ﴾، ولآخره بقوله ﴿ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ﴾.
والأظهر عندي : أن الإشارة في قوله ذلك : راجعة إلى ما هو أعم من نصرة المظلوم، وأنها ترجع لقوله ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾ [ الحج : ٥٦ ] إلى ما ذكره من نصرة المظلوم : أي ذلك المذكور من كون الملك له وحده، يوم القيامة، وأنه الحاكم وحده بين خلقه، وأنه المدخل الصالحين جنات النعيم والمعذب الذين كفروا العذاب المهين، والناصر من بغى عليه من عباده المؤمنين، بسبب أنه القادر على كل شيء، ومن أدلة ذلك : أنه يولج الليل في النهار إلى آخر ما ذكرنا. وهذا الذي وصف به نفسه هنا من صفات الكمال والجلال ذكره في غير هذا الموضع كقوله في سورة لقمان، مبيناً أن من اتصف بهذه الصفات قادر على إحياء الموتى، وخلق الناس ﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [ لقمان : ٢٨ ].
ثم استدل على قدرته على الخلق والبعث، فقال :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ في النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ في الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ ﴾ [ لقمان : ٢٩-٣٠ ] فهذه الصفات الدالة على كمال قدرته، استدل بها على قدرته في الحج، وفي لقمان. وإيلاج كل من الليل والنهار في الآخر فيه معنيان :
الأول : وهو قول الأكثر : من أن إيلاج كل واحد منهما في الآخر، إنما هو بإدخال جزء منه فيه، وبذلك يطول النهار في الصيف، لأنه أولج فيه شيء من الليل ويطول الليل في الشتاء : لأنه أولج فيه شيء من النهار، وهذا من أدلة قدرته الكاملة.
المعنى الثاني : هو أن إيلاج أحدهما في الآخر، هو تحصيل ظلمة هذا في مكان ضياء ذلك، بغيبوبة الشمس. وضياء ذلك في مكان ظلمة هذا كما يضيء البيت المغلق بالسراج، ويظلم بفقده. ذكر هذا الوجه الزمخشري، وكأنه يميل إليه والأول أظهر، وأكثر قائلاً، والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ﴾ قرأه حفص وحمزة والكسائي : يدعون بالياء التحتية، وقرأه الباقون : بتاء الخطاب الفوقية.

قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الاٌّرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾.
الظاهر : أن «تر » هنا من رأى بمعنى : علم. لأن إنزال المطر وإن كان مشاهداً بالبصر فكون الله هو الذي أنزله، إنما يدرك بالعلم لا بالبصر. فالرؤية هنا علمية عَلَى التحقيق.
فالمعنى : ألم تعلم الله منزلاً من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة : أي ذات خضرة بسبب النبات الذي ينبته الله فيها بسبب إنزاله الماء من السماء، وهذه آية من آياته وبراهين قدرته عَلَى البعث كما بيناه مراراً. وهذا المعنى المذكور هنا من كون إنبات نبات الأرض، بإنزال الماء من آياته الدالة، عَلَى كمال قدرته جاء موضحاً في آيات كثيرة، كقوله تعالى ﴿ وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الاٌّرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ﴾ [ فصلت : ٣٩ ] ثم بين أن ذلك من براهين البعث بقوله :﴿ إِنَّ الَّذِى أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَى ﴾ [ فصلت : ٣٩ ] وكقوله :﴿ فَانظُرْ إِلَى ءَاثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْىِ الاٌّرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ ﴾ [ الروم : ٥٠ ] ثم بين أن ذلك من براهين البعث بقوله :﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْىِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ الروم : ٥٠ ] وقوله :﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً ﴾ [ ق : ٩-١١ ] ثم بين أن ذلك من براهين البعث بقوله :﴿ كَذَالِكَ الْخُرُوجُ ﴾ [ ق : ١١ ] أي خروجكم من قبوركم أحياء بعد الموت، كقوله :﴿ وَيُحْىِ الاٌّرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾ [ الروم : ١٩ ] وقوله :﴿ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٥٧ ] والآيات بمثل هذا كثيرة.
تنبيه
في هذه الآية الكريمة سؤالان معروفان :
الأول : هو ما حكمة عطف المضارع في قوله : فتصبح على الماضي الذي هو أنزل ؟
السؤال الثاني : ما وجه الرفع في قوله : فتصبح مع أن قبلها استفهاماً ؟
فالجواب عن الأول : أن النكتة في المضارع هي إفادة بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان كما تقول : أنعم على فلان عام كذا وكذا، فأروح وأغدو شاكراً له، ولو قلت : فغدوت ورحت، لم يقع ذلك الموقع، هكذا أجاب به الزمخشري.
والذي يظهر لي والله أعلم : أن التعبير بالمضارع يفيد استحضار الهيأة التي اتصفت بها الأرض : بعد نزول المطر، والماضي لا يفيد دوام استحضارها لأنه يفيد انقطاع الشيء، أما الرفع في قوله : فتصبح، فلأنه ليس مسبباً عن الرؤية التي هي موضع الاستفهام، وإنما هو مسبب الإنزال في قوله : أنزل، والإنزال الذي هو سبب إصباح الأرض مخضرة ليس فيه استفهام، ومعلوم أن الفاء التي ينصب بعدها المضارع إن حذفت جاز جعل مدخولها جزاء للشرط، ولا يمكن أن تقول هنا : إن تر أن الله أنزل من السماء ماء، تصبح الأرض مخضرة، لأن الرؤية لا أثر لها ألبتة في اخضرار الأرض، بل سببه إنزال الماء لا رؤية إنزاله.
وقد قال الزمخشري في الكشاف في الجواب عن هذا السؤال : فإن قلت : فما له رفع ولم ينصب جواباً للاستفهام.
قلت : لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض، لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار.
مثاله : أن تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر، إن تنصبه فأنت ناف لشكره شاك تفريطه، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر، وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من اتسم بالعلم في علم الإعراب، وتوقير أهله. انتهى منه. وذكر نحوه أبو حيان وفسره ظاناً أنه أوضحه، ولا يظهر لي كل الظهور، والعلم عند الله تعالى.
فإن قيل : كيف قال : فتصبح مع أن اخضرار الأرض، قد يتأخر عن صبيحة المطر.
فالجواب : أنه على قول من قال : فتصبح الأرض مخضرة : أي تصير مخضرة فالأمر واضح، والعرب تقول : أصبح فلان غنياً مثلاً بمعنى صار. وذكر أبو حيان عن بعض أهل العلم : أن بعض البلاد تصبح فيه الأرض مخضرة في نفس صبيحة المطر.
وذكر عكرمة وابن عطية وعلى هذا فلا إشكال. وقال بعضهم : إن الفاء للتعقيب، وتعقيب كل شيء بحسبه كقوله :﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ﴾ [ المؤمنون : ١٤ ] مع أن بين ذلك أربعين يوماً كما في الحديث، قاله ابن كثير. وقوله : لطيف خبير : أي لطيف بعباده، ومن لطفه بهم إنزاله المطر وإنباته لهم به أقواتهم، خبير بكل شيء، لا يغرب عن عمله مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض سبحانه وتعالى علواً كبيراً.
قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا في الاٌّرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِى في الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الله سخر لخلقه ما في الأرض، وسخر لهم السفن تجري في البحر بأمره، وهذا الذي ذكره هنا جاء موضحاً في مواضع كثيرة كقوله :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الاٌّرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ ﴾ [ الجاثية : ١٣ ] وقد بينا معنى تسخير ما في السماء بإيضاح في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾ [ الحجر : ١٧ ] وكقوله :﴿ وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ في الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴾ [ يس : ٤١-٤٢ ] وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا في سورة النحل وغيرها.
قوله تعالى :﴿ وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الاٌّرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه هو الذي يمسك السماء ويمنعها من أن تقع على الأرض، فتهلك من فيها، وأنه لو شاء لأذن للسماء فسقطت على الأرض فأهلكت من عليها، كما قال :﴿ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الاٌّرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ ﴾ [ سبأ : ٩ ]. وقد أشار لهذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ﴾ [ فاطر : ٤١ ]، وكقوله :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ﴾ [ المؤمنون : ١٧ ] على قول من فسرها : بأنه غير غافل عن الخلق بل حافظ لهم من سقوط السماوات المعبر عنها بالطرائق عليهم.
تنبيه
هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن كقوله :﴿ وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الاٌّرْضِ ﴾ وقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ﴾ [ فاطر : ٤١ ] وقوله :﴿ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الاٌّرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ ﴾ [ سبأ : ٩ ] وقوله :﴿ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ﴾ [ النبأ : ١٢ ]، وقوله :﴿ وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ [ الذاريات : ٤٧ ]، وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً ﴾ [ الأنبياء : ٣٢ ]، ونحو ذلك من الآيات، يدل دلالة واضحة، على أن ما يزعمه ملاحدة الكفرة، ومن قلدهم من مطموسي البصائر ممن يدعون الإسلام أن السماء فضاء لا جرم مبنى، أنه كفر وإلحاد وزندقة، وتكذيب لنصوص القرآن العظيم، والعلم عند الله تعالى.
وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] أي ومن رأفته ورحمته بخلقه : أنه أمسك السماء عنهم، ولم يسقطها عليهم.
قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ﴾. قوله :﴿ وَهُوَ الَّذِى أَحْيَاكُمْ ﴾ أي بعد أن كنتم أمواتاً في بطون أمهاتكم قبل نفخ الروح فيكم فهما إحياءتان، وإماتتان كما بينه بقوله :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [ البقرة : ٢٨ ] وقوله تعالى :﴿ قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ﴾ [ غافر : ١١ ].
ونظير آية الحج المذكورة هذه قوله تعالى، في الجاثية :﴿ قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ [ الجاثية : ٢٦ ]، وكفر الإنسان المذكور في هذه الآية في قوله :﴿ إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ﴾ مع أن الله أحياء مرتين، وأماته مرتين، هو الذي دل القرآن على استعباده وإنكاره مع دلالة الإماتتين والإحياءتين على وجوب الإيمان بالمحيي المميت، وعدم الكفر به في قوله :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٨ ].
قوله تعالى :﴿ لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ ﴾.
الأظهر في معنى قوله ﴿ مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ ﴾ أي متعبداً هم متعبدون فيه، لأن أصل النسك التعبد وقد بين تعالى أن منسك كل أمة فيه التقرب إلى الله بالذبح، فهو فرد من أفراد النسك صرح القرآن بدخوله في عمومه. وذلك من أنواع البيان الذي تضمنها هذا الكتاب المبارك.
والآية التي بين الله فيها ذلك هي قوله تعالى :﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الاٌّنْعَامِ فَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ ﴾ [ الحج : ٣٤ ] وقوله ﴿ لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً ﴾ في الموضعين قرأه حمزة والكسائي بكسر السين والباقون بفتحها.
قوله تعالى :﴿ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ ﴾.
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة : أن يدعو الناس إلى ربهم أي إلى طاعته، وطاعة رسله، وأخبره فيها أنه على صراط مستقيم : أي طريق حق واضح لا اعوجاج فيه، وهو دين الإسلام الذي أمره أن يدعو الناس إليه وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الأمرين المذكورين، جاء واضحاً في مواضع أخر كقوله في الأول منهما ﴿ وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءَايَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ القصص : ٨٧ ] وقوله تعالى ﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ ﴾ [ الشورى : ١٥ ] وقوله تعالى ﴿ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ [ النحل : ١٢٥ ] وأخبر جل وعلا أنه امتثل الأمر بدعائهم إلى ربهم في قوله تعالى ﴿ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ المؤمنون : ٧٣ ] وقوله ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ الشورى : ٥٢ ] وكقوله في الأخير ﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾ [ النمل : ٧٩ ] وقوله ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الاٌّمْرِ فَاتَّبِعْهَا ﴾ [ الجاثية : ١٨ ] وقوله تعالى ﴿ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾ [ الفتح : ٢ ]. والآيات بمثل هذا كثيرة.
قوله تعالى :﴿ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾.
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة : أنه إن جادله الكفار : أي خاصموه بالباطل وكذبوه، أن يقول لهم : الله أعلم بما تعملون.
وهذا القول الذي أمر به تهديد لهم فقد تضمنت هذه الآية أمرين :
أحدهما : أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يهددهم بقوله : الله أعلم بما تعملون : أي من الكفر، فمجازيكم عليه أشد الجزاء.
الثاني : الإعراض عنهم، وقد أشار تعالى للأمرين اللذين تضمنتهما هذه الآية في غير هذا الموضع.
أما إعراضه عنهم عند تكذيبهم له بالجدال الباطل فمن المواضع التي أشير له فيها قوله تعالى ﴿ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [ يونس : ٤١ ].
وأما تهديدهم فقد أشار له في مواضع كقوله ﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ ﴾ [ الأحقاف : ٨ ] وقوله ﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٤٧ ] فقوله ﴿ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ ﴾ فيه أشد الوعيد للمكذبين، كما قال ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ [ المرسلات : ١٥ ] في مواضع متعددة، وهم إنما يكذبونه بالجدال، والخصام بالباطل. وقد أمره الله في غير هذا الموضع أن يجادلهم بالتي هي أحسن وذلك في قوله ﴿ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ﴾ [ النحل : ١٢٥ ] وقوله ﴿ وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ﴾ [ العنكبوت : ٤٦ ] وبين له أنهم لا يأتونه بمثل ليحتجوا عليه به بالباطل، إلا جاءه الله بالحق الذي يدمغ ذلك الباطل، مع كونه أحسن تفسيراً وكشفاً وإيضاحاً للحقائق وذلك في قوله ﴿ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً ﴾ [ الفرقان : ٣٣ ].
قوله تعالى :﴿ مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾.
أي : ما عظموه حتى عظمته حين عبدوا معه من لا يقدر على خلق ذباب، وهو عاجز أن يسترد من الذباب ما سلبه الذباب منه، كالطيب الذي يجعلونه على أصنامهم، إن سلبها الذباب منه شيئاً لا تقدر على استنقاذه منه، وكونهم لم يعظموا الله حق عظمته، ولم يعرفوه حق معرفته، حيث عبدوا معه من لا يقدر على جلب نفع، ولا دفع ضر. ذكره تعالى في غير هذا الموضع كقوله في الأنعام ﴿ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ ﴾ [ الأنعام : ٩١ ] وكقوله في الزمر ﴿ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالاٌّرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ الزمر : ٦٧ ].
قوله تعالى :﴿ اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ﴾.
بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه يصطفي أي يختار رسلاً من الملائكة، ومن الناس فرسل الناس لإبلاغ الوحي، ورسل الملائكة لذلك أيضاً، وقد يرسلهم لغيره، وهذا الذي ذكره هنا من اصطفائه الرسل منهما جاء واضحاً في غير هذا الموضع، كقوله في رسل الملائكة ﴿ الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاٌّرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ﴾ [ فاطر : ١ ]. وقوله في جبريل ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾ [ التكوير : ١٩ ] ومن ذكره إرسال الملائكة بغير الوحي قوله تعالى :﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ﴾ [ الأنعام : ٦١ ] وكقوله في رسل بني آدم ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ] وقوله ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ [ البقرة : ٢٥٣ ]، وقوله ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً ﴾ [ النحل : ٣٦ ].
قوله تعالى :﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ ﴾. أي اصطفاكم، واختاركم يا أمة محمد. ومعنى هذه الآية أوضحه بقوله ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [ آل عمران : ١١٠ ].
قوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾.
الحرج : الضيق كما أوضحناه في أول سورة الأعراف.
وقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن هذه الحنيفية السمحة التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أنها مبينة على التخفيف والتيسير، لا على الضيق والحرج. وقد رفع الله فيها الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا.
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة ذكره جل وعلا في غير هذا لموضع كقوله تعالى ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] وقوله ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً ﴾ [ النساء : ٢٨ ] وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، وابن عباس أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ خواتم سورة البقرة ﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا قَالَ اللَّهُ قَدْ فَعَلْتَ ﴾ في رواية ابن عباس. وفي رواية أبي هريرة قال : نعم. ومن رفع الحرج في هذه الشريعة الرخصة في قصر الصلاة في السفر والإفطار في رمضان فيه، وصلاة العاجز عن القيام قاعداً وإباحة المحظور للضرورة كما قال تعالى ﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾ [ الأنعام : ١١٩ ] إلى غير ذلك من أنواع التخفيف والتيسير، وما تضمنته هذه الآية الكريمة والآيات التي ذكرنا معها من رفع الحرج، والتخفيف في شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، هو إحدى القواعد الخمس، التي بنى عليها الفقه الإسلامي وهي هذه الخمس.
الأولى : الضرر يزال ومن أدلتها حديث :«لا ضرر ولا ضرار ».
الثانية : المشقة تجلب التيسير : وهي التي دل عليها قوله هنا ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ وما ذكرنا في معناها من الآيات.
الثالثة : لا يرفع يقين بشك، ومن أدلتها حديث «من أحس بشيء في دبره في الصلاة وأنه لا يقطع الصلاة حتى يسمع صوتاً أو يشم ريحاً » لأن تلك الطهارة المحققة لم تنقض بتلك الريح المشكوك فيها.
الرابعة : تحكيم عرف الناس المتعارف عندهم في صيغ عقودهم ومعاملاتهم، ونحو ذلك. واستدل لهذه بعضهم بقوله ﴿ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ﴾ [ الأعراف : ١٩٩ ].
الخامسة : الأمور تبع المقاصد، ودليل هذه حديث «إنما الأعمال بالنيات » الحديث. وقد أشار في مراقي السعود في كتاب الاستدلال إلى هذه الخمس المذكورات بقوله :
قد أسس الفقه على رفع الضرر وأن ما يشق يجلب الوطر
ونفى رفع القطع بالشك وأن يحكم العرف وزاد من فطن
كون الأمور تبع المقاصد مع التكلف ببعض وارد
قوله تعالى :
﴿ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ﴾. قال بعضهم : هو منصوب بنزع الخافض، ومال إليه ابن جرير : أي ما جعل عليكم في دينكم من ضيق، كملة إبراهيم، وأعربه بعضهم منصوباً بمحذوف : أي الزموا ملة أبيكم إبراهيم، ولا يبعد أن يكون قوله ﴿ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ﴾ شاملاً لما ذكر قبله من الأوامر في قوله ﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾ [ الحج : ٧٧-٧٨ ]. ويوضح هذا قوله تعالى ﴿ قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبِّى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ [ الأنعام : ١٦١ ] والدين القيم الذي هو ملة إبراهيم : شامل لما ذكر كله.
قوله تعالى :﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَاذَا ﴾. اختلف في مرجع الضمير الذي هو لفظ هو من قوله ﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ ﴾ فقال بعضهم الله هو الذي سماكم المسلمين من قبل ومن هذا، وهذا القول مروى عن ابن عباس، وبه قال مجاهد وعطاء، والضحاك، والسدي، ومقاتل بن حيان، وقتادة. كما نقله عنهم ابن كثير. وقال بعضهم : هو أي إبراهيم سماكم المسلمين، واستدل لهذا بقول إبراهيم وإسماعيل ﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾ [ البقرة : ١٢٨ ] وبهذا قال عبد الرحمان بن زيد بن أسلم، كما نقله عنه ابن كثير. وقد قدمنا أن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً وتكون في الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول. وجئنا بأمثلة كثيرة في الترجمة، وفيما مضى من الكتاب، وفي هذه الآيات قرينتان تدلان على أن قول عبد الرحمان بن زيد بن أسلم غير صواب.
إحداهما : أن الله قال ﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَاذَا ﴾ أي القرآن، ومعلوم أن إبراهيم لم يسمهم المسلمين في القرآن، لنزوله بعد وفاته بأزمان طويلة كما نبه على هذا ابن جرير.
القرينة الثانية : أن الأفعال كلها في السياق المذكور راجعة إلى الله، لا إلى إبراهيم فقوله ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ ﴾ أي الله وما جعل عليكم في الدين من حرج : أي الله هو سماكم المسلمين : أي الله.
فإن قيل : الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور للضمير المذكور : هو إبراهيم.
فالجواب : أن محل رجوع الضمير إلى أقرب مذكور محله ما لم يصرف عنه صارف، وهنا قد صرف عنه صارف، لأن قوله وفي هذا يعني القرآن، دليل على أن المراد بالذي سماهم المسلمين فيه : هو الله لا إبراهيم، وكذلك سياق الجمل المذكورة قبله نحو ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ يناسبه أن يكون هو سماكم : أي الله المسلمين.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية بعد أن ذكر : أن الذي سماهم المسلمين من قبل وفي هذا : هو الله، لا إبراهيم ما نصه :
قلت : وهذا هو الصواب لأنه تعالى قال ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ملة إبراهيم أبيهم الخليل، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها، والثناء عليها في سالف الدهر، وقديم الزمان في كتاب الأنبياء، تتلى على الأحبار والرهبان فقال ﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل هذا القرآن.
وفي هذا روى النسائي عند تفسير هذه الآية : أنبأنا هشام بن عمار، حدثنا محمد بن شعيب، أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام، أخبره عن أبي سلام أنه أخبره قال : أخبرني الحارث الأشعري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثى جهنم، قال رجل : يا رسول الله، وإن صام وإن صلى ؟ قال : نعم وإن صام وإن صلى، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله » وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [ البقرة : ٢١ ] ا ه من تفسير ابن كثير.
وقال ابن كثير في تفسير سورة البقرة : إن الحديث المذكور فيه أن الله هو الذي سماهم المسلمين المؤمنين.
قوله تعالى :﴿ لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ ﴾. يعني : إنما اجتباكم، وفضلكم ونوه باسمكم المسلمين قبل نزول كتابكم، وزكاكم على ألسنة الرسل المتقدمين، فسماكم فيها المسلمين، وكذلك سماكم في هذا القرآن. وقد عرف بذلك أنكم أمة وسط عدول خيار مشهود بعدالتكم، لتكونوا شهداء على الناس يوم القيامة، أن الرسل بلغتهم رسالات ربهم، حين ينكر الكفار ذلك يوم القيامة، ويكون الرسول عليكم شهيداً، أنه بلغكم، وقيل : شهيداً على صدقكم فيما شهدتم به للرسل على أممهم من التبليغ.
وهذا المعنى المذكور هنا ذكره الله جل وعلا في قوله ﴿ وَكَذَالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ وقال فيه صلى الله عليه وسلم ﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً ﴾. والعلم عند الله تعالى.
تم بحمد الله تفسير سورة الحج
Icon