اختلفت العلماء في كون هذه السورة مكية أو مدنية. فقد قيل : إنها مكية إلا ثلاث آيات. وقيل : بل مدنية باستثناء أربع آيات. والصحيح أن السورة مختلطة منها مكي ومنها مدني ؛ لاقتضاء الآيات ذلك.
وكيفما يكن ذلك فإن سورة الحج عظيمة في معانيها وأخبارها وما تضمنته من الأدلة والأحكام والعظات. ومن جملة ذلك : التركيز على الإيمان بيوم القيامة والتنديد بالمعاندين الجاحدين الذين يركبون الهوى والضلال ويتبعون الغاوين والشياطين والمضلين.
وفي السورة تعظيم للحج وشعائره، وذكر لمنافعه الدنيوية والأخروية. ثم الإذن من الله للمسلمين بقتال الكافرين بعد اصطبارهم الشديد على أذاهم وعدوانهم. إلى غير ذلك مما تضمنته هذه السورة من أهوال القيامة، وما يجده الظالمون والمجرمون يومئذ من النكال الشديد. ويأتي في طليعة ذلك كله ما ابتدأت به السورة من الإخبار عن الحدث الداهم الجلل وهو قيام الساعة وما فيها من عصيب البلايا وشديد القواصم.
ﰡ
﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم ( ١ ) يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ( ٢ ) ﴾.
يدعو الله عباده أن يخافوه ويحذروا عقابه وانتقامه فيأتمروا بأوامره وينتهوا زواجره. وعلّل ذلك بأن ( زلزلة الساعة شيء عظيم ) والزلزلة هي شدة حركة الشيء. وقال الزمخشري في الكشاف : هي شدة التحريك والإزعاج. والزلازل بمعنى الشدائد١.
واختلف المفسرون في وقت هذه الزلزلة ؛ فقد قيل : إنها كائنة يوم القيامة. وقيل : عند طلوع الشمس من مغربها ؛ فهي شرط من أشراط الساعة، وهي بذلك كائنة قبل يوم القيامة.
وأيا كانت وقت هذه الزلزلة فإن المقصود هولها وفظاعتها التي تضطرب منها الدنيا وتميد بها الأرض بمن عليها من أناس ؛ لتأتي على البشرية حينئذ غاشية من الرعب والحيرة والذهول مما لا يعلم شدته ومداه إلا الله. ومثل هذه المعاني المجلجلة الجسام تكشف عنها كلمات الكتاب الحكيم في هذا الصدد ليجد القارئ المتدبر في ذلك صورة مثيرة ومرعبة عن حقيقة الساعة ودواهيها العظام. وذلك ؛ لأن ( زلزلة الساعة شيء عظيم ) أي أمر هائل وجلل ومَخُوف.
قوله :( وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ) أي ترى الناس يا محمد من عظيم ما نزل بهم من الكرب سكارى. وذلك من فرط ما غشيهم من الذعر والفزع. وهم ليسوا سكارى من شرب الخمر ( ولكن عذاب الله شديد ) وهذا تعليل لما سبق ذكره من ظواهر رهيبة تقع بين يدي الساعة، ومنها ذهول النساء المرضعات عن أولادهن الرضع فيغفلن عنهم لانشداه عقولهن وقلوبهن. وكذلك الحوامل يضعن ما في بطونهن من فرط الخوف وشدة الصدمة، والناس ؛ إذ ذاك مذعورون واجمون حائرون سكارى. وهم في الحقيقة ليسوا سكارى من الشراب بل من فظاعة ما يجدونه من الشدائد وهول ما ينزل بالبشرية من القوارع والبلايا. ٢
٢ - تفسير البيضاوي ص ٤٣٩ وتفسير الرازي جـ٢٣ ص ٣-٥..
نزلت في النضر بن الحارث ؛ إذ كان يزعم في اجتراء ظالم وجحود أن الله غير قادر على إحياء الموتى بعد أن أتى عليهم البلى وصاروا ترابا. قوله :( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ) أي يقول مقالته النكراء هذه، من غير علم ولا حجة، إلا الجهل والسفه والتعنت ( ويتبع كل شيطان مريد ) أي يتبع في قوله هذا كل شيطان عات متمرد. والمراد إبليس وجنوده من الجن والإنس. لاجرم أن الشياطين من الجن والبشر يؤزون الناس إلى الكفر والعصيان والتمرد على منهج الله.
هذا برهان من الله لعباده يحتج به على المكابرين المعاندين الذين ينكرون بعث الأموات من قبورهم. وهو برهان ظاهر ومعقول يخاطب به الله الناس على اختلاف مراتبهم في العلم والمعرفة. لا جرم أنه برهان يتميز بالسمو والشمول في الاحتجاج المقنع فيدركه العالمون وغير العالمين. وهو قوله :( إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ) يخاطب الله بذلك المنكرين للبعث والمعاد، الجاحدين ليوم القيامة بقوله لهم : إن كنتم في شك من المعاد وبعث الناس من قبورهم، فها نحن قد خلقناكم من قبل ولم تكونوا شيئا ؛ إذ أنشأناكم من تراب. والمراد أبو البشر آدم، خلقه الله من طين لازب.
قوله :( ثم من نطفة ) وهي الماء، قل أو كثر. ويراد به ههنا المني١ أي جعل الله سلالة آدم من ماء وهو المني يقذف في الأرحام ليستحيل ويصير علقة وهو قوله :( ثم من علقة ) وهي المني ينتقل بعد طوره فيصير دما غليظا متجمدا، ثم ينتقل طورا آخر فيصير لحما وهو المضغة. وقد سميت بذلك ؛ لأنها مقدار ما يمضغ٢.
قوله :( مخلقة وغير مخلقة ) المخلقة، يعني المصورة خلقا تاما فظهر فيها الرأس واليدان والرجلان. وغير المخلقة، بأن تلقيه الأم مضغة غير مصورة فلم يخلق فيها شيء ولا روح فيها.
على أن المولود إذا استهل صارخا ثم مات ؛ فإنه يصلى عليه، وهو إجماع أهل العلم. وإن لم يستهل صارخا ؛ فإنه لا يصلى عليه بل يكتفي بلفه في خرقة ثم دفنه. وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية وغيرهم.
قوله :( لنبين لكم ) أي نبين لكم قدرتنا على ما نشاء من تصريف خلقكم طورا بعد طور ( ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ) الواو للاستئناف. والتقدير : ونحن نقر. وليس معطوفا على قوله ( لنبين ) ٣.
أي نقر الولد في رحم أمه إلى أجل مسمى وهو وقت الوضع، أو أن يسقط قبل ذلك. فمن كتب الله له البقاء والحياة إلى أجله أقرّه في بطن أمه إلى وقته المقدور له فلا تسقطه. فإذا بلغ وقت خروجه من بطنها خرج بإذن الله وتقديره.
قوله :( ثم نخرجكم طفلا ) ( طفلا ) اسم جنس ؛ أي أطفالا، وهو منصوب على التمييز. ويسمى المولود طفلا من بدء انفصاله إلى البلوغ. ويطلق الطفل على المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع. فيقال : طفل وطفلة وطفلان وطفلتان وأطفال وطفلات٤.
قوله :( ثم لتبلغوا أشدكم ) الأشد، معناه كمال القوة والعقل والتمييز، وهو مرحلة الشباب من عمر الإنسان حيث اكتمال القوى وحسن المنظر. وخلاله هذه المرحلة من الشباب، منهم من ينتهي أجله ؛ إذ يتوفاه الله. ومنهم من يمتد به العمر إلى أرذله. وهذه هي سن الشيخوخة والهرم وضعف القوى وتناقض القدرات البدنية والعقلية، وانخرام العزيمة والإرادة وطغيان الضعف والخرف وذلك هو قوله :( ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ) ( أرذل العمر )، أدونه وأخسُّه ؛ إذ يعود في همته وفهمه وقدرته العقلية إلى هيئته الأولى من سن الطفولة وذلك بما يغشاه من هوان العقل ( لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ) فينسى ما كان قد علمه وينكر ما كان قد عرفه. لا جرم أن ذلك برهان ظاهرة على قدرة الله وعظمته في الخلق والإنشاء من العدم ؛ إذ أبدع الإنسان وخلقه أطوارا بدءا بالتراب والنطفة ثم العلقة ثم المضغة ثم الطفولة فالأشد فالشيخوخة والهرم الذي يؤول إلى الموت والتراب.
إن الله الذي صنع هذا لقادر على إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم يوم الحساب.
قوله :( وترى الارض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ) وهذا برهان ثان على حقيقة البعث وإحياء الموتى. والأرض الهامدة : التي لا نبات فيها ولا حياة ولا مطر. والهمود، معناه الموت. والهامد، معناه اليابس من النبات٥.
قوله :( فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ) ( اهتزت )، أي تحركت بالنبات ؛ من الاهتزاز، هز الشيء فاهتز ؛ أي حرّكه فتحرك٦ ؛ فإن الأرض بنزول المطر فيها يخرج منها النبات فتهتز بانفصال بعضها عن بعض ( وربت ) أي انتفخت. أو ارتفعت وازدادت ؛ ربا الشيء ربو ؛ أي زاد. ومنه الربوة.
قوله :( وأنبتت من كل زوج بهيج ) أي من كل صنف حسن المنظر والشكل والرائحة بما تبتهج به النفس وتستروح. وذلك من أصناف الزروع والثمار على اختلاف ألوانها وطعومها وأشكالها وروائحها.
٢ - البيان لابن الانباري جـ٢ ص ١٦٩..
٣ - المصباح المنير جـ٢ ص ٧٦..
٤ - المصباح المنير جـ٢ ص ٢٠..
٥ - القاموس المحيط جـ١ ص ٣٦١..
٦ - مختار الصحاح ص ٦٩٥..
قوله :( له في لدنيا خزي ) أي هوان وذلة بما يُسام من قبيح السيرة ومن سوء الذكر على ألسنة المسلمين دوام الدهر. ولسوف يُسام يوم القيامة شديد العاب بما يجده من فظاعة التحريق وهو قوله سبحانه :( ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ).
٢ - المصباح المنير جـ٢ ص ٦٦..
قوله :( وأن الله ليس بظلام للعبيد ) هذه حقيقة ساطعة بلجة لا يماري فيها إلا فاجر خصيم. وهي أن الله لا يظلم أحدا مثقال ذرة ؛ بل الله يجازي الناس بما قدموه من خير وشر١.
قوله :( فإن أصابه خير اطمأن به ) ذلك تبيين لعبادة الله على حرف. فشأن الذي يعبد الله على حرف، أنه إن أصابته نعمة ورخاء وبسطة في العيش، رضي واطمأن بدينه وقرّ عليه ( وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ) أي إن أصابه بلاء من فساد الصحة، وذهاب المال أو الولد أو غير ذلك من وجوه المصائب ؛ فإنه ينتكس مرتدا ليعود في الكفر فيحبط عمله ويبوء بالخسران الأكبر وهو خُسران الدنيا بتعس الحظ وسوء الذكر وقبيح السيرة، وخسران الآخرة حيث العقاب الأليم.
٢ - مختار الصحح ص ١٣١..
قوله :( لبئس المولى ولبئس العشير ) أي لبئس هذا الصنم الذي عُبد من دون الله، وليا وناصرا ( ولبئس العشير ) أي الصاحب والمعاشر. والمراد ذم المشركين الواهمين الذين يبتغون العون والنصرة من مبعوديهم من الطواغيت ومن رؤساء الضلال والكفر٢.
٢ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢١٠ وتفسير الرازي جـ٢٣ ص ١٦..
قوله :( إن الله يفعل ما يريد ) إذ ؛ يجازي المؤمنين حسن الثواب، والمشركين والمنافقين أشد العقاب.
وقال صاحب الكشاف : والمعنى أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة. فمن كان يظن من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك ويطمع فيه ويغيظه أن يظفر بمطلوبه ؛ فليستقص وسعه وليستفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه بان يفعل ما يفعل من بلغ من الغيظ كل مبلغ حتى مد حبلا إلى سماء بيته فاختنق، فلينظر وليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه. وسمي فعله كيدا ؛ لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره. أو على سبيل الاستهزاء ؛ لأنه لم يكد محسوده إنما كاد به نفسه. والمراد ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظه.
أي واضحات مفصلات. وكذلك ؛ لأن الله يهدي بهذا القرآن الذين يعلم الله أنهم يؤمنون١
قوله :( إن الله على كل شيء شهيد ) الله شهيد على أفعال عباده من خير أو شر. وهو سبحانه لا يعزب عن علمه شيء مما يفعله العباد سواء فيهم المؤمنون والجاحدون.
قوله :( وكثير من الناس ) ( كثير )، مرفوع بالعطف على ( من ) في قوله :( يسجد له من في السماوات ). وقيل : مرفوع على الابتداء. وما بعده خبره. وقيل : خبره محذوف وتقديره : وكثير من الناس ثبت له الثواب١.
والمعنى : ويسجد كثير من بني آدم لله وهم المؤمنون الطائعون العابدون.
قوله :( وكثير حق عليه العذاب ) معطوف على كثير الأول ؛ أي كثير من بني آدم امتنع وأبى واستكبر فحق عليه العذاب.
قوله :( ومن يهن الله فما له من مكرم ) أي من كتب الله له الشقاوة والمهانة لما سبق في علمه من كفره أو فسقه وضلاله ؛ فليس له من مكرم يكرمه بالسعادة ( إن الله يفعل ما يشاء ) أي يفعل في خلقه ما يقدره من الإهانة والإكرام وهو سبحانه لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون. ٢
٢ - تفسير الطبري جـ١٧ ص ٩٨ وتفسير البيضاوي ص ٤٤٢..
ذكر في سبب نزول هذه الآية أنه اختصم المسلمون وأهل الكتاب. فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم ؛ فنحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون : كتابنا يقضي على الكتب كلها. ونبينا خاتم الأنبياء ؛ فنحن أولى بالله منكم، فأفلج الله الإسلام على من ناوأه١. وأفلجه، بمعنى أظهره٢.
الله جل وعلا يتوعد الطغاة والعصاة والفاسقين عن أمره وشرعه بعقابه الفظيع الوجيع. ويشار إلى هذه الفظاعة في التنكيل بهذه الكلمات الربانية المثيرة ذات الدلالة الظاهرة على اشتداد العذاب الموعود. العذاب الواصب البئيس الذي أعده الله للمجرمين المستكبرين وهو قوله سبحانه :( فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ) أي أحاطت بأجسادهم النار كالثياب تغشى الأبدان ( يصب من فوق رؤوسهم الحميم ) أي يصب على رؤوسهم الماء هو في غاية الغليان والحرارة.
٢ - مختار الصحاح ص ٥١٠..
قوله :( وذوقوا عذاب الحريق ) أي تقول لهم الملائكة : ذوقوا النار البالغة في الإحراق. والحريق الاسم من الاحتراق. والمراد : إدراك الألم بذوق النار وهو مسها٢.
٢ - تفسير القرطبي جـ١٢ ص ٢٨ وتفسير البيضاوي ص ٤٤٢..
قال المفسرون : لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور والتيجان جعل الله ذلك لأهل الجنة ( ولباسهم فيها حرير ) أي أكسيتهم في الجنة مما يلبسونه من فُرشهم ولباسهم وستورهم، من حرير ؛ فقد أباح الله لأهل الجنة التحلي بالذهب والاكتساء بالحرير، وقد كان ذلك في الدنيا حراما على الرجال دون النساء. لكن المؤمنين أعطوا من أصناف النعيم والزينة في الجنة ما يحقق لهم كامل السعادة الأبدية والرخاء المستديم.
وكذلك هداهم الله يوم القيامة إلى صراطه المحمود وهو الجنة. وهذا الذي يدل عليه سياق الآية.
وفي المراد بالمسجد الحرام قولان. أحدهما : أنه المسجد نفسه دون الحرم كله وهو ظاهر القرآن ؛ لأنه لم يذكر غيره. وثانيهما : أنه الحرم كله ؛ لأن المشركين صدوا رسول الله ( ص ) وأصحابه عنه عام الحديبية فنزل خارجا عنه في الحل وقد عيّرهم الله بذلك في قوله :( وصدوكم عن المسجد الحرام ).
قوله :( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله ) واو ( ويصدون ) للعطف. والتقدير : إن الكافرين والصادين. وقيل : الواو واو الحال ؛ أي إن الذين كفروا صادين عن سبيل الله. وخبر ( إن ) مقدر. وتقديره : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله معذبون٢ و ( العاكف )، معناه المقيم المواظب٣ ( والباد ) يعني أهل البادية ومن يقدم عليهم ؛ أي يستوي في تعظيم حرمة المسجد الحرام وفي قضاء النسك فيه، الحاضر، أو لذي يأتيه من البلاد الأخرى. فليس أحدهما بأحق فيه من الآخر.
وفي المراد بالتسوية قولان : أحدهما : التسوية في دور المسجد الحرام وفي منازله ؛ إذ ليس المقيم فيها بأولى من الطارئ عليها.
ثانيهما : أنهما سواء في حق الحرمة والنسك. والظاهر عموم التسوية في ذلك كله وهو قول ابن عباس وعمر بن الخطاب وآخرين. وهو مذهب مالك ؛ فقد روي أن عمر كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة حتى يدخلها الذي يقدم عليها فينزل حيث شاء. وقد روي عنه أيضا أنه نهى أن تغلق مكة زمن الحاج، وأن الناس كانوا ينزلون منها حيث وجدوا فارغا، حتى كانوا يضربون الفساطيط في جوف الدور.
وجملة ذلك : أن القادم له النزول حيث وجد فراغا، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى.
وهذا الخلاف أصله أن دور مكة في ملك لأربابها أم هي للناس جميعا. وهذا الأصل مبني على أن مكة هل فتحت عنوة أو صلحا ؛ فقد قيل : إنها فتحت عنوة فتكون بذلك مغنومة. لكن النبي ( ص ) لم يقسمها ؛ بل منّ على أهلها في أنفسهم فسموا الطلقاء. ومنّ عليهم في أموالهم وتركهم في منازلهم على أحوال من غير تغيير عليهم. وبذلك أقرّها لأهلها ولمن جاء بعدهم ؛ فهي بذلك لا تباع ولا تكرى، ومن سبق إلى موضع كان أولى به. وهذا قول الإمامين مالك وأبي حنيفة وقال به الأوزاعي. واحتجوا لذلك بما رواه عن علقمة بن نضلة قال : توفي رسول الله ( ص ) وأبو بكر وعمر وما تُدعى رباع٤ مكة إلا السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وروي عن عبد الله بن عمرو أنه قال : لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها. وروي عن عمر بن الخطاب أنه كان ينهى عن تبويب دور مكة ؛ لأن ينزل الحاج في عرصاتها. فكان أول من بوّب داره سهيل بن عمرو فأرسل إليه عمر ابن الخطاب في ذلك فقال : أنظرني يا أمير المؤمنين إني كنت امرأ تاجرا فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري. قال : فلك ذلك إذا.
وذهب الإمام أحمد إلى الوسط من ذلك فقال : تملك الدور بمكة وتورث ولا تؤجر ؛ جمعا بين الأدلة.
قوله :( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) الإلحاد في اللغة، بمعنى الطعن والميل عن طريق القصد. والحد، جار وظلم. وألحد في الحرم، أي استحل حرمته وانتهكها٥. والباء حرف جر زائد. وتقديره : ومن يرد إلحاحا بظلم. والباء هذه للسببية. والمعنى : ومن يرد فيه إلحادا بسبب الظلم. والظلم، هو وضع الشيء في غير موضعه ؛ أي من يبتغ أن يفعل في الحرم من المعاصي والآثام عامدا، قاصدا أنه ظلم، كالشرك والقتل العمد وظلم الناس والإساءة الفاحشة إليهم، إلى غير ذلك من وجوه المعاصي والخطايا ( نذقه من عذاب أليم ) جواب الشرط ؛ أي من فعل ما ذكر من وجوه الإلحاد في المسجد الحرام ؛ فقد وجب له العذاب الأليم.
على أن الجنايات تعظم على قدر عظم الزمان، كالأشهر الحرم، وعلى قدر عظم المكان، كالبلد الحرام، فتكون المعصية معصيتين : إحداهما، بنفس الفعل المحظور. والثانية بإسقاط فضيلة الشهر الحرام أو البلد الحرام٦.
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧٣..
٣ - المصباح المنير جـ٢ ص ٧٥..
٤ - رباع، جمع ومفرده ربع بسكون الباء ومعناه الدار. انظر مختار الصحاح ص ٢٩..
٥ - المصباح المنير جـ٢ ص ٢١٢ والمعجم الوسيط جـ٢ ص ٨١٧..
٦ - أحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٢٦٣-١٢٦٥ وتفسير القرطبي جـ١٢ ص ٣٢-٣٥ وتفسير ابن كثير جـ ٣ ص ٢١٤..
قوله :( أن لا تشرك بي شيئا ) ( أن )، مخففة من الثقيلة، والتقدير : أنه لا تشرك بي شيئا. وقيل : مفسرة بمعنى أي. والتقدير : أي لا تشرك بي شيئا. وقيل :( أن )، زائدة١ والمخاطب إبراهيم عليه الصلاة والسلام، إذ أمره ربه ببناء الكعبة لعبادة الله وحده دون شريك غيره.
قوله :( وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ) أي طهر الكعبة من الشرك والأوثان والأنجاس والأقذار لمن يطوف بها ويصلي فيها.
قوله :( يأتين من كل فج عميق ) ( يأتين )، صفة لضامر ؛ لأنه في معنى الجمع. فهو يعني ضوامر ؛ أي كل ضوامر يأتين. وقرأ بعضهم ( يأتون ) على أنه صفة لقوله :( رجالا ) والفج العميق ؛ أي الطريق الواسع البعيد. والجمع فجاج٢.
٢ - تفسير الرازي جـ٢٣ ص ٢٩ وتفسير القرطبي جـ ١٣ ص ٣٨-٤٠..
قوله :( ويذكروا اسم الله في أيام معلومات ) ويراد بالذكر هنا، التسمية عند الذبح أو النحر لكل من الهدي أو الأضحية. وهو أن يقول الذابح أو الناحر : باسم الله والله أكبر. أو قوله :( إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) الآية. وفي ذلك تنبيه على أن الغرض فيما يتقرب به إلى الله هو ذكر اسمه تعالى وما يقتضيه ذلك من مخالفة المشركين في مثل هذه المسألة ؛ إذ كانوا يذبحون أو ينحرون الأنعام للنصب والأوثان.
أما الأيام المعلومات : فالمراد بها العشر من ذي الحجة. وهو قول أكثر أهل العلم. وقال به ابن عباس واختاره الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة. وفي فضل هذه الأيام العشر روى الإمام أحمد بسنده عن ابن عمر قال : قال رسول الله ( ص ) : " ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد "
وقيل : المراد بالأيام المعلومات : ثلاثة أيام. وهي يوم النحر، ويومان بعده. وهو مذهب مالك. وقيل : يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم آخر بعده، وهي رواية عن ابن عباس.
قوله :( على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) أي يذكرون اسم الله وحده على ذبح ما رزقهم من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم.
قوله :( فكلوا منها ) أي كلوا مما ذكرتم اسم الله عليه من بهيمة الأنعام. والأمر هنا يفيد الندب وليس الوجوب. وهو قول الجمهور. وبذلك يستحب للمرء أن يأكل من هديه أو ضحيته، وأن يتصدق بمعظمها ويجوز التصدق بالكل. وقيل : يجب الأكل منها استنادا إلى ظاهر الآية ( فكلوا ) والصواب القول بالندب.
وذهب كثير من أهل العلم وفيهم الحنفية إلى أن المضحي يستحب له التصدق بالثلث، وأن يطعم الثلث، ويأكل هو وأهله الثلث. أما عند الشافعية فيأكل النصف. ويتصدق بالنصف الآخر، لقوله :( فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ) فذكر شخصين. وفي قول لهم ثان : يأكل هو وأهله ثلثا. ويتصدق بثلث، ويطعم ثلثا.
على أن المسافر مخاطب بالأضحية كالمقيم لعموم الخطاب وخالف الإمام أبو حنيفة في ذلك. واستثنى الإمام مالك من المسافرين الحاج بمنى ؛ إذ لم ير عليه أضحية. وروي هذا عن أبي بكر وعمر وجماعة من السلف رضي الله عنهم ؛ لأن الحاج إنما هو مخاطب في الأصل بالهدي. فإذا أراد أن يضحي جعله هديا.
أما حكم الادخار، ففيه عدة أقوال. أولها : عدم الادخار بعد ثلاثة أيام. وهو مروي عن علي وابن عمر ؛ وذلك لأخبار النهي عن الادخار.
ثانيها : أن النهي عن الادخار منسوخ. وبذلك يذخر إلى أي وقت أحب. وقال به أبو سعيد الخذري.
ثالثها : جواز الأكل من الأضاحي مطلقا.
رابعها : إن كانت بالناس حاجة إلى لحوم الأضاحي فلا يدخر ؛ لأن النهي إنما كانت لعلة وهي قوله ( ص ) : " إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت " والدافة، قوم قدموا المدينة عند الأضحى فنهاهن عن ادخار لحوم الأضاحي ليتصدقوا بها فينتفع بها هؤلاء.
قوله :( وأطعموا البائس الفقير ) ( البائس ) من البؤس وهو الشدة، والحاجة١، والبائس من أصابه بؤس أي شدة. أو هو الذي أصابه ضرّ الحاجة والجوع. و ( الفقير )، هو الذي لا شيء له. وقيل : المتعفف.
ومنها : أنه مناسك الحجر. رواه ابن عمر وابن عباس.
ومنها : حلق الرأس. وهو قول قتادة.
ومنها : رمي الجمار. وهو قول مجاهد.
ومنها : إزالة قشف الإحرام من تقليم أظفار، وأخذ شعر، وغسل، واستعمال طيب. وقال به الحسن البصري.
قال صاحب الكشاف : قضاء التفث : قص الشارب والأظفار ونتف الإبط، والاستحداد، والتفث الوسخ. فالمراد قضاء إزالة التفث.
قوله :( وليوفوا نذورهم ) النذر، كل ما لزم الإنسان أو التزمه. والمراد به هنا : ما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج. وقيل : كل نذر إلى أجل. وقال صاحب الكشاف : مواجب حجهم أو ما عسى ينذرونه من أعمال البر في حجهم. والمقصود : أنهم أمروا بوفاء النذر مطلقا إلا ما كان معصية لقوله عليه الصلاة والسلام : " لا وفاء لنذر في معصية الله " وقوله ( ص ) : " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه ".
قوله :( وليطوفوا بالبيت العتيق ) المراد به عند جمهور العلماء طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة. وهو ركن الحج من غير خلاف. وبه يتم الحج وهو نهاية أركانه. وهكذا صنع رسول الله ( ص ) ؛ فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ برمي الجمرة فرماها بسبع حصيات. ثم نحر هديه وحلق رأسه، ثم أفاض فطاف بالبيت.
وقيل : المراد به طواف الصدر وهو طواف الوداع. والصواب الأول. وهو طواف الإفاضة ؛ لأن الأمر في الآية على الوجوب حتى تقوم دلالة الندب.
أما طواف الوداع وكذا القدوم فليس بواجب.
وأما العتيق، فمعناه القديم. سمي بذلك ؛ لأنه أول بيت وضع للناس.
وقيل : لأن الله أعتقه من تسلّط الجبابرة. فكم من جبار سار إليه ليصيب به منه شرا أو خرابا فمنعه الله أو قصمه قصما. وقد روى الترمذي عن عبد الله بن الزبير قال : قال رسول الله ( ص ) : " إنما سمي البيت العتيق ؛ لأنه لم يظهر عليه جبار " ٢
٢ -أحكام القرآن للجصاص جـ٥ ص ٧٢-٧٤ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٢٦٨-١٦٧٢ والكشاف جـ٣ ص ١١..
اسم الإشارة ( ذلك ). في موضع رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ؛ أي الأمر ذلك. وقيل : في محل جر، صفة للبيت العتيق١ والأظهر الأول، وهو الأمر والشأن ذلك قال الزمخشري : كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني ثم أراد الخوض في معنى آخر، قال : هذا وقد كان كذا.
وقال ابن جرير الطبري : إن هذا الذي أمر الله به من قضاء التفث والوفاء بالنذور والطواف بالبيت هو الفرض الواجب عليكم.
و ( حرمات الله )، امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه. والحرمات، جمع حرمة وهي ما لا يحل هتكه. ويحتمل ان يكون ذلك عاما في جميع التكاليف، ويحتمل أن يكون خاصا فيما يتعلق بالحج. وعن زيد بن أسلم قال : الحرمات خمس : الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمُحرم حتى يحل. والمراد : أن يجتنب المحرم ما أمر الله باجتنابه في حال إحرامه، تعظيما منه لحدود الله أن يواقعها. وذلك خير له عند ربه فيما أعده له من حسن الجزاء يوم لقائه.
قوله :( وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم ) أحل الله لكم الأكل من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، واستثنى ما يتلى عليكم في كتابه الحكيم من المحرمات وهي الواردة في سورة المائدة كالميتة والدم ولحم الخنزير ؛ أي أن الله أحل لكم سائر الأنعام إلا ما استثناه في كتابه الكريم.
قوله :( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) ( الرجس )، بمعنى القذر أو النجس٢.
( من )، لتبيين الجنس٣ أي فاجتنبوا القذر الذي هو الأوثان كما تُجتنب الأنجاس. وهذه غاية المبالغة في النهي عن تعظيم الأوثان والتنفير من عبادتها.
قوله :( واجتنبوا قول الزور ) قرن الشرك بقول الزور تنبيها على عظيم جرم هذه المعصية. وفي التنديد بهذه الجريمة الكبرى أخرج في الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله ( ص ) قال : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ " قلنا : بلى يا رسول الله. قال " الإشراك بالله، وعقوق الوالدين " وكان متكئا فجلس فقال : " ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور ". فما زال يكرره حتى قلنا ليته سكت.
أما الزور، فمعناه الكذب وشهادة الباطل. والازورار، معناه العدل والانحراف عن الحق والاستقامة٤.
٢ - مختار الصحاح ص ٢٣٤..
٣ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧٤..
٤ - المعجم الوسيط جـ١ ص ٤٠٦ ومختار الصحاح ص ٢٧٨..
قوله :( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ) هذا مثل فيه من روعة المفردات وعجيب التناسق بين الكلمات المنسجمة ما يرسم للخيال صورة مثيرة تكشف عن فداحة الخسران لهذا التاعس الخاسر. مثل، يضربه الله لحال الشرك في ضلال مسعاه وفساد قصده ؛ إذ يتيه ضالا متخبطا وهو يعبد من دون الله آلهة مصطنعة موهومة، فمثله كمن انحط ساقطا من أعالي الدرجات إلى الأسافل، فتظفر به الطير ثم تقطعه تقطيعا أو تعصف به الريح فتهوي به في المهاوي الموغلة في البعد.
وذلك هو شأن الذي يتخبط ساقطا من معالي الإيمان والهداية إلى حضيض الضلال والغواية٣.
٢ - القاموس المحيط جـ٤ ص ١٣٤ والمصباح المنير جـ١ ص ١٦٧..
٣ -الكشاف جـ٣ ص ١٢ وفتح القدير جـ٣ ص ٤٥١..
اسم الإشارة ( ذلك ) في موضع رفع مبتدأ ؛ أي ذلك أمر الله. وقيل : في موضع رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف. والشعائر، في الأصل بمعنى العلامات أو المعالم التي تعرف بها الأشياء، وواحدتها شعيرة، وهي العلامة التي تشعر بما جعلت له. وإشعار البدن هو أن تعلّم بما يشعر أنها هدي.
والمراد بالشعائر هنا على أقوال : منها : أنها مناسك الحج كعرفة والمزدلفة والصفا والمروة ورمي الجمار.
ومنها : أنها أوامر الله وهي اتباع طاعته واجتناب معصيته.
ومنها : أنها البدن، أو الهدايا التي يسوقها الحاج للحرم ؛ لأنها من معالم الحج. وتعظيمها، معناه استحسانها واستسمانها ؛ إذ يختارها صاحبها عظام الأجرام حسانا سمانا غالية الأثمان ؛ ليكثر الانتفاع بها. وقيل : المراد بشعائر الله هذه الوجوه كلها. وعلى الخصوص، الهدايا أو البدن.
قوله :( فإنها من تقوى القلوب ) الضمير عائد على الشعائر ؛ أي أن تعظيم هذه الشعائر من التقوى الذي تفيض به القلوب. ذلك أن القلوب مستقر التقوى وهو الخوف والخشية من الله. وفي الحديث الصحيح : " التقوى ههنا " وأشار إلى صدره.
قوله :( إلى اجل مسمى ) وهو أن تسمى هديا بعد أن كنتم تملكونها. أي تنتفعون من ركوبها ودرها ونسلها وصوفها ولحمها ما لم تبعثوها هديا. فإن بعثتموها هديا ذهب ذلك كله، وذلك الأجل المسمى. وقيل : الأجل المسمى معناه نحرها. فينتفع بها ما لم تنحر، ونحرها أجلها.
قوله :( ثم محلها إلى البيت العتيق ) المراد بالبيت العتيق الحرم كله. وقيل : الكعبة. والضمير في ( محلها ) يعود إلى ( شعائر الله ). وتأويل الآية يختلف باختلاف تأويل الشعائر. فالقائلون إن المراد بالشعائر هنا البدن، قالوا : محلها أن تبلغ البيت العتيق وهو الحرم.
والقائلون : المراد بالشعائر مناسك الحج من عرفة ومزدلفة وطواف وسعي ورمي قالوا : محلكم من مناسك حجكم، على الكعبة، فتطوفون بها يوم النحر طواف الإفاضة بعد قضاء ما عليكم من واجبات.
وقيل : محل منافع أيام الحج البيت العتيق بانقضاء تلك الأيام١.
والقول الأول أظهر وهو الذبح وإراقة الدم ؛ لدلالة السياق عليه وهو قوله سبحانه :( ليذكروا اسم الله على ما رزقكم من بهيمة الأنعام ) أي يذكروا اسم الله دون غيره من الأسماء على ما رزقهم من الذبح. سواء في ذلك الهدي أو الأضحية. وبذلك إنما ينبغي في الذبيحة أن تكون خالصة لله سبحانه.
قوله :( فإلهكم إله واحد ) أي معبودكم واحد لا شريك له. ودينكم أصله التوحيد الخالص لله، المبرأ من كل وجوه الشرك والوثنية وإن تنوعت شرائعكم ونسخ بعضها بعضا لكنكم جميعا تدعون إلى عبادة الله الواحد ( فله أسلموا ) أي استسلموا لأمره وجلاله، وانقادوا لشرعه خاضعين مذعنين مخلصين ( وبشر المخبتين ) أي الخاشعين الطائعين المتواضعين. ومن الخبت والإخبات. وهو الخشوع والتواضع٢ أي بشرهم بأحسن الجزاء أو أجزل الثواب.
٢ - لسان العرب جـ٢ ص ٢٧.
.
قوله :( والصابرين على ما أصابهم ) من المصائب والفتن وضروب الشدة في سبيل الله وما نالهم من المساءات والمكاره بسبب ثباتهم على الحق واعتصامهم بدين الله القويم.
قوله :( والمقيمي الصلاة ) حذفت النون للتخفيف. و ( الصلاة ) مضاف إليه ؛ أي الذين يؤدون فريضة الصلاة دون تفريط. فهي الفريضة الكبرى والأهم.
قوله :( ومما رزقناهم ينفقون ) هذا وصف آخر للمؤمنين المخبتين. وهو أنهم يبذلون مما آتاهم الله من رزق لعباد الله من الفقراء والمحاويج والمكروبين وأولي القربى١.
( البدن )، منصوب بفعل مقدر. وتقديره : وجعلنا البدن جعلناها لكم فيها خير١.
( والبدن )، جمع بدنة، وهي الواحدة من الإبل. سميت بذلك من البدانة وهي السّمن. بدن الرجل بضم الدال، إذا سمن. وهي في اللغة بمعنى الناقة أو البقرة تنحر بمكة. وسميت بذلك ؛ لأنهم كانوا يسمنونها٢ وهي اسم يختص بالبعير عند الشافعية. وتطلق على غير الإبل من البقر عند الحنفية والمالكية. ووجه قولهم هذا : أن البقرة لما صارت في حكم البدنة قامت مقامها. وقد جعلها النبي ( ص ) عن سبعة والبقرة عن سبعة فصار البقر في حكم البدن.
قوله :( جعلناها لكم من شعائر الله ) أي من أعلام دينه التي شرعها لكم في مناسك حجكم إذا قلدتموها وأشعرتموها ليعلم الرائي أنها من الهدي.
قوله :( لكم فيها خير ) أي خير الدنيا والآخرة. فخير الدنيا بالانتقام بها من ركوب وأكل ونحو ذلك. وخير الآخرة، من حسن الأجل وجزيل الثواب.
قوله :( فاذكروا اسم الله عليها صواف ) ( صواف )، جمع منصوب على الحال، من الضمير في، ( عليها ). وهو لا ينصرف ؛ لأنه جمع بعد ألفه حرفان ؛ أي مصطفه٣.
والمعنى : انحروها ذاكرين اسم الله عليها. وهو قوله : باسم الله والله أكبر.
و ( صواف )، أي صفت قوائمها فتكون بذلك قياما على ثلاث قوائم، ويدها اليسرى معقولة. وعلى هذا فإن البعير إذا أرادوا نحره فإنه تعقل إحدى يديه فيقوم على ثلاث قوائم. وفي هذا أخرج أبو داود بسنده عن جابر أن رسول الله ( ص ) وأصحابه " كانوا ينحرون البدن معقولة اليسرى، قائمة على ما بقي من قوائمها " وروى أحمد وأبو داود والترمذي عن جابر بن عبد الله قال : صليت مع رسول الله ( ص ) عيد الأضحى، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه فقال : " بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي ".
قوله :( فإذا وجبت جنوبها ) أي سقطت على الأرض ميتة عقب نحرها٤.
قوله :( فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ) الأمر للندب والاستحباب فيندب لصاحب الذبيحة أن يأكل منها. أما ( القانع ) فهو المتعفف، و ( المعتر ) معناه السائل. وقيل :( القانع ) الذي يقنع بما يؤتاه، و ( المعتر ) معناه الذي يعترض فيسأل. وقيل :( القانع ) الذي يسأل، ( والمعتر ) الذي يتعرض ولا يسأل.
ويُستدل بهذه الآية على أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء، أو ثلاثة أثلاث، فثلث لصاحبها وعياله. وثلث يهديه لأصحابه. وثلث يتصدق به على الفقراء وهو قول الحنفية. وذلك لقوله تعالى :( فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ) وفي الحديث الصحيح أن رسول الله ( ص ) قال للناس : " إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ؛ فكلوا وادخروا ما بدا لكم " وفي رواية : " فكلوا وادخروا وتصدقوا " وفي رواية : " فكلوا وأطعموا وتصدقوا ".
وعند الشافعية، أن المضحي يأكل النصف ويتصدق بالنصف. وذلك لقوله تعالى :( فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ).
قوله :( كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ) أي مثل ذلك التسخير ذلل الله لكم هذه الأنعام لتكون منقادة لكم إلى حيث تريدون وما تبتغون من منفعة لكي تشكروا الله على ما خوّلكم من نعمة فتطيعوه وتعبدوه٥.
٢ - مختار الصحاح ص ٤٤..
٣ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧٦..
٤ - مختار الصحاح ص ٧٠٩..
٥ - أحكام القرآن للجصاص جـ٥ ص ٧٩-٨٢ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٢٧٦ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٢٣ وتفسير ايبلضاوي ص ٤٤٥..
شرع الله لعباده ذبح هذه الأنعام لينتفعوا بها منافع كثيرة فيذكروه ويشكروه على هدايته لهم وما خوّلهم إياه من خير ونعمة. والله جل وعلا لا يناله شيء من هذه الأضاحي أو الهدايا، لا من دمائها ولا من لحومها ؛ فهو سبحانه غني عن كل شيء، وغني عن العالمين.
وقد كان المشركون في جاهليتهم إذا ذبحوا شيئا من النعم لآلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابينهم فنضحوا عليها من دمائها فنزل قوله :( لن ينال الله لحومها ولا دماءها ولكن يناله التقوى منكم ) أي يصله منكم تقوى قلوبكم وهو خشيتكم لله وإخلاصكم وطاعتكم له سبحانه فيجازيكم على ذلك خير الجزاء.
قوله :( كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم ) أي سخر لكم هذه البدن لتعظموا ربكم وتخلصوا له الطاعة والعبادة مثلما هداكم لدينه وشرعه ( وبشر المحسنين ) أي بشر المؤمنين المذعنين للهب الخضوع والطاعة، بحسن الجزاء.
على أن الأضحية واجبة على من ملك نصابا. وهو قول الحنفية والمالكية وزاد الإمام أبو حنيفة اشتراط الإقامة من أجل الوجوب. ودليل الوجوب ما أخرجه أحمد وابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعا : " من وجد سعة فلم يضح فلا يقربنّ مصلانا " وهي مستحبة عند الشافعية والحنبلية وليست واجبة. وذلك للخبر : " ليس في المال حق سوى الزكاة " والراجح القول بعدم الوجوب. ويعزز ذلك أن النبي ( ص ) ضحّى عن أمته فأسقط وجوب ذلك عنهم. وقيل : الأضحية سنة على الكفاية إذا قام بها واحد من أهل دار أو محلة أو بيت سقط وجوبها عن الباقين.
أما سن الأضحية : فقد ذهب جمهور العلماء إلى عدم الإجزاء إلا بالمسنّة. وبذلك إنما يجزي الثني من الإبل والبقر والمعز، أو الجذع١ من الضأن. أما الثني من الإبل : فهو الذي له خمس سنوات ودخل في السادسة. أما البقر فما له سنتان ودخل في الثالثة. وأما المعز فما له سنتان. وأما الجذع من الضأن فما له سنة. وقيل : ما له عشرة أشهر. وقيل : ثمانية أشهر. وقيل : ستة أشهر، وهو أقل ما قيل في سنه٢.
٢ - أحكام القرآن للجصاص جـ٥ ص ٨٠-٨٢ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص١٢٨٢ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٢٤..
وقيل : نزلت بسبب المؤمنين في مكة ؛ إذ آذاهم المشركون أشد الإيذاء، فأراد بعضهم أن يقتل من أمكنه من الكفار غيلة واحتيالا، فنزلت الآية للنهي عن الخيانة والغدر، والوعد بالمدافعة عن المؤمنين الصابرين المتوكلين١.
وروي أن أصحاب النبي ( ص ) استأذنوه في قتل بعض الكفار غيلة فنزلت ( إن الله لا يحب كل خوان كفور ) فلما هاجر إلى المدينة أطلق قتلاهم. وهذا إن كان صحيحا فقد نسخه الحديث الصحيح أن النبي ( ص ) قال : " من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله ؟ " فقام محمد بن مسلمة فقال : يا رسول الله، أتحب أن أقتله ؟ قل " نعم " فقتله مع أصحابه غيلة. وكذلك بعث النبي ( ص ) رهطا إلى أبي رافع عبد الله بن أبي الحقيق فقتلوه غيلة٢.
٢ - أحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٢٨٧..
فلما اجتمعوا بالمدينة وصارت لهم شوكة ومنعة ودار إسلام ومعقل يأوون إليه، شرع الله الجهاد لقتال الظالمين الذين يعتدون على المسلمين ويصدون عن دين الله صدودا. وذلك قوله :( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) فقد أباح الله لهم أن يقاتلوا عدوهم بعد أن أمرهم بالاصطبار، واحتمال الأذى والمكاره. وذلك ( بأنهم ظلموا ) الباء للسببية ؛ أي بسبب أنهم ظلموا. وهم المؤمنون، إذ كانوا يأتون رسول الله ( ص ) وهم بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم : " اصبروا فإني لم أومر بالقتال " حتى هاجر فنزلت الآية هذه بالقتال.
قوله :( وإن الله على نصرهم لقدير ) الله مقتدر على أن يجعل النصر للمؤمنين من غير قتال ؛ لأن الأقدار والآجال والمصائر كلها بيد الله سبحانه، فهو القادر أن يجعل النصر لما شاء من عباه ؛ لكنه كتب على عباده المؤمنين أن يجتهدوا في طاعته وأن يبذلوا من الأعمال والطاعات في هذه الدنيا لينالوا رضوان الله. وما الدنيا هذه إلا دار امتحان واختبار للعباد، ثم تفضي بعد ذلك إلى الحساب والجزاء.
إن هؤلاء الأشرار والأشقياء من الكفرة المناكيد لا تجدي معهم الحجة ولا يؤثر فيهم المنطق والبرهان. إنما تدفعهم الصرامة وشدة البأس والقوة من أجل أن تخمد شرورهم ونيرانهم ومفاسدهم.
قوله :( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ) كان من تقدير الله وحكمته البالغة أن يدفع بقوم عن قوم. ويصدّ شر أناس عن آخرين وذلك بمختلف الأسباب في القوة والبأس. ولولا أن الله سبحانه وتعالى شرع الجهاد للنبيين والمؤمنين ليقاتلوا المشركين والظالمين في كل زمان لطغى المشركون طغيانا فاستولوا على المسلمين ولكان قد عمّ في الأرض الفساد والشر، ولكان الظالمون قد تسلطوا على المؤمنين من أهل الملل المختلفة في أزمنتهم فاستحوذوا عليهم وعلى متعبداتهم فهدموها ولم يتركوا للنصارى كنائس ولا لرهبانهم صوامع ولا لليهود صلوات ولا للمسلمين مساجد.
أو لتسلّط المشركون من أمة محمد ( ص ) على المسلمين وعلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين هم في ذمة المسلمين، فهدموا بطغيانهم وعدوانهم بيوت العبادة للفريقين وهم المسلمون وأهل الكتاب. ذلك أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى إنما يؤتمن عليهم المسلمون عندما تكون لهؤلاء دولة تحكم بشريعة الإسلام وتسوس البشرية على منهج الله. وحينئذ يناط بدولة الإسلام أن تصون بيوت العبادة لأهل الكتاب سواء في ذلك الصوامع والكنائس والبيع والصلوات وهي كنائس اليهود. وأيما اعتداء عليها فإنما هو اعتداء على المسلمين أنفسهم.
وقد قدّم في الذكر أماكن عبادة اليهود والنصارى على مساجد المسلمين ؛ لأنها أقدم بناء. أو لأهمية التذكير بالأمانة التي يناط بالمسلمين صونها وكلاءتها وهي شؤون أهل الذمة بما في ذلك بيوت عبادتهم من صوامع وكنائس وغير ذلك من مسميات أهل الكتاب. فذلك كله من جملة الأمانات التي يتوجب على المسلمين صونها دون تقصير أو تفريط.
أما الصوامع ؛ فهي جمع صومعة. وهي مختصة برهبان النصارى. وكذا البيع، جمع بيعة وهي كنيسة النصارى. وأما الصلوات، فهي كنائس لليهود. وأما المساجد، فإنها للمسلمين يذكرون فيها اسم الله ويذعنون له فيها بالخضوع والعبادة وهو قوله :( يذكر فيها اسم الله كثيرا ) الضمير عائد إلى المساجد ؛ لأنها أقرب المذكورات ؛ ولأن مساجد المسلمين أكثر عمارا وأكثر روادا وفيها تؤدى العبادة على وجهها الصحيح وقصدها المستقيم.
قوله :( ولينصرن الله من ينصره ) ذلك وعد رباني كريم من الله لمن ينصر دينه الإسلام فيدرأ عنه الشرور والعوادي، ويبذل غاية مجهوده لتقويته وإعلاء شأنه وإشاعته في الدنيا بكل ما أوتي من قدرة وإمكان، بأن يجعل الله له التوفيق والسداد والنصر ويكتب له الغلبة والاستعلاء على الكافرين المعتدين.
وإذا فرّط المسلمون في دينهم ونكصوا دون الإعداد لنصرته والذب عنه، فانفتلوا عنه مدبرين مبعثرين أشتاتا لا تربطهم عقيدته ولا يجمعهم منهجه العظيم، فما ينتظرون بعد ذلك إلا الهزيمة والتقهقر، والانحطاط وتسلط الكافرين الظالمين عليهم.
( إن الله لقوي عزيز ) الله قوي مقتدر في علاه. جليل منيع لا يرام جانبه، فلا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب٣.
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧٧..
٣ - الكشاف جـ٣ ص ١٦ وتفسير الرازي جـ٢٣ ص ٤١..
٢ - أحكام الجصاص جـ٥ ص ٨٣ والكشاف جـ٣ ص ١٦ وفي ظلال القرآن لسيد قطب جـ١٧ ص ٩٧- ١٠٠..
هذه تسلية من الله لرسوله ( ص ) مما كان يجده من المشركين من الإعراض وسوء الفعال. فالله بين له معزيا أن من سبقه من النبيين قد أوذوا في الله أو كذبتهم أممهم أشد تكذيب وأساءوا لهم شر إساءة من تعذيب وصد وقهر واستهزاء. وهؤلاء هم قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم ولوط
وأصحاب مدين، وقوم موسى ؛ لقد كان هؤلاء غُلاة في التكذيب والمعاندة والإعراض عن دين الله، عتاة غلاظا في تعذيب المؤمنين وإذلالهم. لكن الله المنتقم الجبار لا يغفل عما يفعله الظالمون المجرمون من فظائع الكفر والجحود والتنكيل بالمؤمنين ؛ بل إن الله يملي لهم حتى إذا جاء الأجل أخذهم أخذ عزيز مقتدر. وفي الخبر : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " وهو قوله سبحانه :( فأمليت للكافرين ثم أخذتهم ) أي أنظرتهم وأخرت عنهم العقاب ( ثم أخذتهم ) بالإهلاك والتدمير ( فكيف كان نكير ) استفهام تقريري ؛ أي كيف كان إنكاري عليهم بتغيير الحياة هلاكا، والعمارة خرابا، والنعمة نقمة ومحنة.
هذه تسلية من الله لرسوله ( ص ) مما كان يجده من المشركين من الإعراض وسوء الفعال. فالله بين له معزيا أن من سبقه من النبيين قد أوذوا في الله أو كذبتهم أممهم أشد تكذيب وأساءوا لهم شر إساءة من تعذيب وصد وقهر واستهزاء. وهؤلاء هم قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم ولوط
وأصحاب مدين، وقوم موسى ؛ لقد كان هؤلاء غُلاة في التكذيب والمعاندة والإعراض عن دين الله، عتاة غلاظا في تعذيب المؤمنين وإذلالهم. لكن الله المنتقم الجبار لا يغفل عما يفعله الظالمون المجرمون من فظائع الكفر والجحود والتنكيل بالمؤمنين ؛ بل إن الله يملي لهم حتى إذا جاء الأجل أخذهم أخذ عزيز مقتدر. وفي الخبر :" إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " وهو قوله سبحانه :( فأمليت للكافرين ثم أخذتهم ) أي أنظرتهم وأخرت عنهم العقاب ( ثم أخذتهم ) بالإهلاك والتدمير ( فكيف كان نكير ) استفهام تقريري ؛ أي كيف كان إنكاري عليهم بتغيير الحياة هلاكا، والعمارة خرابا، والنعمة نقمة ومحنة.
هذه تسلية من الله لرسوله ( ص ) مما كان يجده من المشركين من الإعراض وسوء الفعال. فالله بين له معزيا أن من سبقه من النبيين قد أوذوا في الله أو كذبتهم أممهم أشد تكذيب وأساءوا لهم شر إساءة من تعذيب وصد وقهر واستهزاء. وهؤلاء هم قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم ولوط
وأصحاب مدين، وقوم موسى ؛ لقد كان هؤلاء غُلاة في التكذيب والمعاندة والإعراض عن دين الله، عتاة غلاظا في تعذيب المؤمنين وإذلالهم. لكن الله المنتقم الجبار لا يغفل عما يفعله الظالمون المجرمون من فظائع الكفر والجحود والتنكيل بالمؤمنين ؛ بل إن الله يملي لهم حتى إذا جاء الأجل أخذهم أخذ عزيز مقتدر. وفي الخبر :" إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " وهو قوله سبحانه :( فأمليت للكافرين ثم أخذتهم ) أي أنظرتهم وأخرت عنهم العقاب ( ثم أخذتهم ) بالإهلاك والتدمير ( فكيف كان نكير ) استفهام تقريري ؛ أي كيف كان إنكاري عليهم بتغيير الحياة هلاكا، والعمارة خرابا، والنعمة نقمة ومحنة.
قوله :( وبئر معطلة ) أي متروكة فلا يستقى منها لهلاك أهلها. أو خالية من أهلها لهلاكهم. ( وقصر مشيد ) محكم ومجصص بالشيد، فصار خاليا من الأهل والسكان. وقد جعل الله ذلك عبرة لمن يعتبر والمراد أن هذه الديار كانت عامرة بأهلها حيث الساكنون، والمباني، والعمارة، والحركة لكن أهلها بكفرهم وظلمهم وتكذيبهم المرسلين أخذهم الله فدمر عليهم تدمير، فلم يبق بعدهم غير آثارهم التي دلت عليهم.
قوله :( فتكون لهم قلوب يعقلون بها ) أي يعقلون بقلوبهم ما يجب أن يعقل من توحيد الله وقدرته وأنه خالق كل شيء. والآية تدل على محل العلم هو القلب. وبذلك فإن القلب آلة لهذا التعقل ( أو آذان يسمعون بها ) أي يسمعون بآذانهم ما يجب أن يُسمع من التذكير والعبرة مما يشاهدونه من آثار الأمم الخالية الدارسة.
قوله :( فإنها لا تعمى الأبصار ) أي لا تعمى أبصار العيون، فإنها قائمة تبصر وترى ( ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) أي أن القلوب عمي عن درك الحق والذكر. ومعلوم أن القلوب محلها الصدور. وفائدة ذكرها في الصدور، الزيادة في البيان. والمقصود : أن الخلل ليس في عيون هؤلاء المشركين المعرضين، فعيونهم ناظرة مبصرة ؛ بل إن الخلل في قلوبهم بما أصابهم من التواء وتبلّد ومرض، فباتت لا تتدبر أو تتعظ، ولا ترق أو تلين١.
قوله :( وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ) المراد : يوم من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض ؛ فإنه كألف سنة من سني الناس في هذه الدنيا. وهو قول ابن عباس. وقيل : المراد يوم من أيام الآخرة ؛ فإنه مثل ألف سنة من سني الناس في حياتهم هذه. وقيل : إن يوما في الخوف والشدة وفظاعة العذاب في الآخرة كألف سنة فيها خوف وشدة من سني هذه الدنيا.
والمقصود : أن الله لا يعجل ؛ بل إنه يمهل ولا يغفل، ولكل أجل كتاب والبطيء عند العباد قريب عند الله.
قوله :( وإلي المصير ) أي مرجع الناس جميعا إلى الله وهو سبحانه يقضي بينهم يوم القيامة فيجازيهم بما صنعوا. ١
قوله :( من رسول ولا نبي ) الواو تفيد المغايرة في المعنى بين المعطوف والمعطوف عليه ؛ فيستبين لنا أن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، وهذا يدل على الفرق بين حقيقة الرسول والنبي. فقد قيل : الرسول : الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عيانا ومخاطبته له شفاها. أما النبي : فهو الذي يأتيه الوحي إلهاما أو في المنام. وقيل : الرسول : من بعثه الله بشرع وأمره بتبليغه. أما النبي : فهو المأمور أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله ولم ينزل عليه كتاب. وهما كلاهما لابد لهما من المعجزة.
قوله :( إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) ( تمنى ) أي اشتهى ورغب فيما يهواه. وقال المفسرون :( تمنى ) بمعنى تلا. و ( أمنيته ) يعني تلاوته.
وذكر أكثر المفسرين سببا لنزول هذه الآية. لكنه في الحقيقة سبب مريب لا ينبغي قبوله أو الاطمئنان. وهذه قصة معروفة هنا بقصة الغرانيق١ وهي قصة غريبة تقتضي التكذيب وعدم التصديق البتة وذلك لما نحسب أنها من وضع الزنادقة والماكرين من خصوم هذا الدين.
وجماع القول في سبب نزول هذه الآية ما روي عن سعيد بن جبير قال : قرأ رسول الله ( ص ) بمكة سورة النجم فلما بلغ قوله :( أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ) قال : فألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن ترتجى. قالوا : ما ذكر آلهتنا قبل اليوم فسجد وسجدوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) الآية.
وفي رواية أخرى أن النبي ( ص ) جلس في ناد من أندية قومه، كثير أهله. فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه يومئذ فأنزل الله ( والنجم إذا هوى ) فقرأ حتى إذا بلغ إلى قوله ( أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ) ألقى عليه الشيطان كلمتين : تلك الغرانيق العلا. وإن شفاعتهن لترتجى. ثم مضى بقراءة السورة كلها ثم سجد في آخر السورة وسجد القوم جميعا معه. فلما أمسى أتاه جبريل فعرض عليه السورة فلما بلغ الكلمتين قال : ما جئتك بهاتين. أو قال له : تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله. فحزن رسول الله ( ص ) وخاف خوفا شديدا فأنزل الله هذه الآية٢. إلى غير ذلك من مثل هذه الروايات في قصة الغرانيق المصطنعة التي ابتدعها فريق من المارقين المغرضين أولي الهوى مبتغين بذلك إشاعة الشبهة والارتياب في نبوة رسول الله ( ص ) وفي صدق كلامه الذي لا يصدر عن هوى وإنما هو وحي يوحى. إن قصة الغرانيق لا نظنها غير ضرب من ضروب الإفك المفترى على عصمة رسول الله ( ص ). وذلك بما يشوب عامة الروايات في القصة من شوائب الضعف والاضطراب. وقد طعن فيها كثير من أئمة العلم. فقال الشوكاني : لم يصح شيء منها، ولا ثبت بوجه من الوجوه. ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه. قال الله ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ) وقوله :( وما ينطق عن الهوى ) وقوله :( ولولا ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ) فنفى المقاربة للكون فضلا عن الركون نفسه.
وقال البزار : هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي ( ص ) بإسناد متصل.
وقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل. ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وقال الإمام ابن خزيمة : إن هذه القصة من وضع الزنادقة. وقال القاضي عياض : إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه، لا قصدا ولا سهوا ولا غلطا.
وقال ابن كثير : قد ذكر كثير من المفسرين ههنا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ولكنها من طرق كلها مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح. وقال البغوي في تفسيره عن هذه القصة : كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه. ثم حكى أجوبة عن ذلك من ألطفها : أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك فتوهموا أنه صدر عن رسول الله ( ص ) وليس كذلك في نفس الأمر، بل إنما كان من صنيع الشيطان لا عن رسول الرحمان ( ص ) ٣.
ويضاف إلى ذلك كله : أن ذكر الغرانيق في هذا الموضع المزعوم من سورة النجم لا يستقيم ولا يتفق ؛ فإذ ذكرها هنا يخالف مقتضى الآيات عن اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. فهذه أسماء لأصنام جيء بها في السورة بقصد الذم والتنديد بسفاهة المشركين الذين يعبدون هذه الأصنام الصماء والتي قال الله عنها موبخا مبكتا ( إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ).
قوله :( إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) أي إذا تلا وقرأ كتاب الله أوقع الشيطان في مسامع المشركين مثل قصة الغرانيق من دون أن يتكلم بذلك رسول الله ( ص ) ولا جرى على لسانه البتة. وبذلك فإن هذه الآية جيء بها على سبيل التسلية لرسول الله ( ص ). أي لا يحزنك يا محمد، فقد أصاب من قبلك من النبيين والمرسلين مثل هذا من الشيطان ليفتن به الناس عن دينهم وليُشيع في نفوسهم الشك.
قوله :( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) النسخ معناه الإزالة والإبطال٤.
أي أن الله يبطل ما يوقعه الشيطان في مسامع الناس ( ثم يحكم الله آياته ) أي يثبتها ويرسخها في قلوب العباد ( والله عليم حكيم ) الله يعلم ما يجري في العالمين وما يدور في بواطن العباد من إنس وجن وملك. وهو كذلك حكيم في تقديره وتدبيره وتصرفه في الكائنات.
٢ - أحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٢٨٧ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٢٩ وفتح القدير جـ٣ ص ٤٦١. وأسباب النزول للنيسابوري ص ٢٠٨..
٣ - فتح القدير جـ٣ ص ٤٦٢ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٣٠..
٤ - مختار الصحاح ص ٦٥٧ والمعجم الوسيط جـ٢ ص ٩١٧..
قوله :( وإن الظالمين لفي شقاق بعيد ) أي أن المشركين المعاندين سادرون في الضلال والغي وهم بعيدون كل البعد عن صراط الله المستقيم ومنهجه الحكيم.
قوله :( فتخبت له قلوبهم ) أي تخضع وتخضع له قلوبهم، وتلين لعجيب نظمه وعظيم معناه.
قوله :( وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم ) أي يثبت الله بفضله وتوفيقه المؤمنين فيرشدهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وما يفضي بهم إلى النجاة والفوز بالجنة والرضوان١.
وقد سمي عقيما ؛ لأنه لا يوم بعده١ والمراد : أن هذا اليوم عصيب لا رأفة فيه بالمجرمين، ولا رحمة لهم من الله ولا تنفعهم يومئذ شفاعة.
وتفيد الآية أن من خرج من بيته مهاجرا في سبيل الله ابتغاء مرضاته، فترك الأوطان والأهل والخلان، وفارق الصحب والبلاد والأحباب، حبا في الله ونصرة دينه، مبتغيا بذلك إعلاء شأن الإسلام ثم أماته الله بعد ذلك ؛ فقد حصل من الله على حسن الثناء وعظيم الجزاء، سواء مات قتلا أو حتف أنفه. وإنما يعوّل هنا على النية. فمن خرج مهاجرا مفارقا أهله ووطنه لا يبتغي بذلك غير إعزاز كلمة الله ورفع راية القرآن ومبشرا بدعوة الإسلام ثم أدركه الموت عقب ذلك فلا جرم أن يكون شهيدا. وذلك كقوله :( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ) وقيل : للمقتول في سبيل الله مزية لما أصابه من مصيبة القتل.
قوله :( وإن الله لعليم حليم ) ( عليم ) بما تخفيه الصدور من نوايا ( حليم ) يعفو عن سيئات المسيئين.
وقد نزلت هذه الآية في سرية من الصحابة لقوا جمعا من المشركين في الشهر الحرام فناشدهم المسلمون ألا يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبى المشركون إلا قتالهم وذلك بغيهم عليهم. فثبت المسلمون ونصرهم الله على المشركين، وحصل في نفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام شيء، فنزلت الآية ( ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه ) أي بدئ بالقتال وهو كاره له فهو مبغي عليه ( لينصرنه الله ) أي لينصرن الله الفئة المؤمنة الصابرة على الحق ( إن الله لعفو غفور ) قد عفا الله عن المؤمنين ما فعلوه من قتال المشركين في الشهر الحرام مبدوئين بالقتال من المشركين بغيا منهم عليهم٢.
٢ - تفسير الطبري جـ ١٧ ص ١٣٧ وفتح القدير جـ٣ ص ٤٦٥..
قوله :( ألم تر ) استفهام تقرير، والفاء للعطف على قوله :( أنزل ) أي أنزل من السماء ماء فكان كذا وكذا. وذلك دليل على كمال قدرة الله وعظيم سلطانه ؛ إذ ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد أن كانت فقرا يبسا لا نبات فيها ولا حياة، فتصبح عقب ذلك ذات حياة ونماء وبهجة. ويدل على ذلك اخضرارها بالزرع والنبات والثمر. لا جرم أن القادر على ذلك لهو قادر على إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم.
قوله :( إن الله لطيف خبير ) الله عليم بما يستكن في أرجاء الكون من أخبار، وما في العالمين من أشياء، وهو سبحانه خبير بحاجات العباد وما يصلح عليه حالهم في الدنيا والآخرة.
قوله :( وإن الله لهو الغني الحميد ) ذلك تأكيد على أن الله مستغن عن العالمين ؛ بل إن الخلق كلهم محتاجون إلى رزقه وفضله ورحمته. وهو سبحانه المحمود في كل الأحوال. حقيق بالثناء والعبادة والانقياد لأمره.
قوله :( والفلك تجري في البحر بأمره ) ( الفلك ) منصوب بالعطف على ( ما ) وقيل : مرفوع على الابتداء. وما بعده خبر. وهذه كذلك نعمة مخوّلة أخرى للعباد. وهي الفلك ؛ أي السفن التي تجري فوق سطح الماء جريانا سهلا ميسرا. وذلك بما بثه الله في طبيعة الماء من خصيصة مميزة تطفو بموجبها الأشياء الثقيلة على سطح الماء دون أن تغرق.
قوله :( ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ) الله بقدرته العظيمة وسلطانه المطلق أمسك السماء، بأن جعلها على هيئتها من الثبات والصلابة ورصانة الحبك وتماسك البنيان ( أن تقع على الأرض ) أي كراهية أن تقع. أو كيلا تقع على الأرض، فإنه لولا رعاية الله وكلاءته ورحمته لتداعي الكون كله، وانهار الوجود برمته، وباتت الحياة والأشياء جميعها ركاما من الحطام والفوضى لا يعلم فظاعتهما إلا الله.
قوله :( إلا بإذنه ) أي بإرادته وتخليته. أو مشيئته يوم القيامة ؛ إذ يتزلزل الكون ويتداعى نظام الوجود كله.
قوله :( إن الله بالناس لرؤوف رحيم ) الله جل وعلا عظيم الرأفة والرحمة بعباده مع ظلمهم وشدة عصيانهم. ودليل ذلك ما خولهم إياه من نعم الدنيا، وما سخره لهم من أشياء في الأرض وفي السماء.
قوله :( إن الإنسان لكفور ) أي شديد الجحود لنعم الله الكثيرة، أو أنه جحود للآيات الظاهرة الدالة على عظمة الله ووحدانيته. على أن المراد بصيغة العموم هنا المبالغة في حقيقة الجحود من الإنسان ؛ فإن الغالب في الإنسان جُحود النعم التي امتن الله بها عليه. أو جحود الدلائل والبراهين والشواهد التي تقتضي الإذعان لله بالطاعة والامتثال١.
قوله :( فلا ينازعنك في الأمر ) أي ليس لهم أن يخالفوك فيما شرع الله لك من دين ومنهاج ؛ فقد استقر الآمر الآن على شرعك وهو الإسلام، وعلى أنه ناسخ لما عداه من شرع إلا ما يحتمل النسخ مما تلاقت عليه الأديان واتفقت عليه كلمة النبيين جميعا.
قوله :( وادع إلى ربك ) أي ادع الناس إلى دين الله. دين الحق والهداية والتوحيد.
قوله :( إنك لعلى هدى مستقيم ) أي على طريق مستقيم لا عوج فيه.
قوله :( وما للظالمين من نصير ) ذلك وعيد من الله لهؤلاء المشركين السفهاء بأنهم إذا ما نزل بهم عقابه ليس لهم حينئذ من احد ينصرهم أو يشفع لهم أو يدرأ عنهم العذاب.
قوله :( يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا ) ( يسطون )، من السطو. وهو القهر بالبطش١ ؛ أي يهمون بالبطش والتنكيل بالذين تلوا عليهم آيات الله، تعظيما لإنكار ما خوطبوا به.
قوله :( قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار ) أمر الله نبيه أن يقابلهم بالوعيد من القول الذي فيه ترعيب لهم وتنكيل بنفوسهم التي طغى عليها الجحود واللؤم ومحض البوار، وهو قوله لهم : أفأنبئكم أيها المشركون بما هو أعظم كراهية لكم من هؤلاء الذين تغتاظون من قراءتهم القرآن عليكم ( النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير ) ( النار )، مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير : هي النار. أو مبتدأ، والجملة الفعلية ( وعدها الله ) خبر المبتدأ٢ ؛ أي أن النار شر مما كرهوه وتغيظوا من سماعه ؛ فقد وعدها الله هؤلاء المكذبين العتاة ؛ فهي مردهم ومأواهم وبئس ما يصيرون إليه٣.
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧٩..
٣ - تفسير الطبري جـ١٧ ص ١٤٠ وتفسير الرازي جـ٢٣ ص ٦٨..
قوله :( وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ) الاستنقاذ، معناه التخليص. وقد ذكر أن المشركين كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران. وقيل : بالطعام فيقع عليه الذباب ليأكل منه. والمعنى : إذ وقع الذباب على هذه الأصنام فأخذ مما عليها شيئا، لا تستطيع الأصنام أن تستخلص شيئا مما أخذه الذباب منها. والمراد إخبار الناس أن هذه الأصنام عاجزة عن خلق ذباب وهو المستقذر المهين ؛ بل إنها عاجزة عن استنقاذ شيء مما يسلبه الذباب منها.
قوله :( ضعف الطالب والمطلوب ) ( الطالب ) معناه الأصنام المتخذة آلهة. ( والمطلوب )، الذباب ؛ أي عجز الطالب وهي الأصنام المعبودة من دون الله أن تستنقذ ما سلبه الذباب منها. وذلك غاية في التنديد بالمشركين الضالين الذين يذعنون بالخشوع والتقديس لهذه الأصنام البلهاء الصم التي لا تصنع حشرة مهينة قذرة كالذباب. وأعجز عن استرداد ما يسلبه الذباب منها.
قوله :( إن الله لقوي عزيز ) الله بقوته المطلقة قادر على خلق ما يشاء. وهو كذلك عزيز ؛ أي منيع قاهر لا يغلبه غالب١.
قوله :( إن الله سميع بصير ) الله سميع لما يقوله المشركون في رسول الله ( ص ) ؛ بل سميع لكل ما ينطق به البشر من أقوال. وهو كذلك بصير بمن يصطفيهم رسلا للناس.
والمراد بقوله :( اركعوا واسجدوا ) إقامة الصلاة المفروضة. وقد خص الركوع والسجود ؛ لعظيم قدرهما وشرفهما في الصلاة ؛ بل إنهما ركنان أساسيان في الصلاة فلا تصح من دونهما أو أحدهما.
قوله :( واعبدوا ربكم ) أي أذعنوا له بالخضوع والطاعة فأتمروا بما أمر وانتهوا عما زجر.
قوله :( وافعلوا الخير ) ندب إلى فعل المندوبات من أفعال الخير وهي كثيرة ومنتشرة في كل جوانب السلوك والتصرف.
على أن هذه الآية العظيمة تدخل في كثير من أحكام الشريعة الإسلامية بما يحقق فيها اليسر والتوسعة ويزيل منها التشديد أو الحرج الذي لا يطاق. ومن الأمثلة على هذه الحقيقة، الصلاة. وهي عماد الدين ؛ بل هي الركيزة الثانية الكبرى في هذا الدين كله بعد شهادة أن لا إله إلا الله ؛ فإنها قد شرع فيها التيسير والترخيص مما يجعلها سهلة تطاق، فهي تجب في الحضر أربعا وفي السفر تقصر إلى ركعتين اثنتين، فضلا عن جمع الصلاة بوجهيه في التقديم والتأخير. وتصلى رجالا وركبانا في حالات الأعذار ويسقط فيها وجوب القيام للمريض فيؤديها جالسا، فإن لم يستطع ؛ فعلى الجنب، فإن لم يستطع ؛ فمستلقيا. فإن لم يستطع فيومئ إيماء. وكذلك فريضة الصيام شرع فيها الترخيص في الإفطار عند الحاجة. إلى غير ذلك من الأحكام الكثيرة المنتشرة في كل مناحي الشريعة ؛ فقد شرع فيها التخفيف والتوسعة والرخص ؛ دفعا للمشقة والحرج وإذهابا للعنت عن الناس وجلبا للتسهيل عليهم.
ومن جملة ذلك : تشريع الكفارات ؛ فقد شرعها الله لمحو كثير من الزلات والمخالفات. وكذلك الاستغفار والتوبة ؛ فهما بابان عظيمان لتكفير الذنوب والصفح عن الخطايا والعيوب التي يتعثر بها الإنسان أو يقع فيها استجابة لضعفه. لكنه إذ يبادر الاستغفار والندامة تائبا ؛ فإن الله تواب رحيم. وذلك يبين يُسر هذا الدين وسهولة الأخذ به. وفي الحديث : " بعثت بالحنيفية السمحة ".
قوله :( ملة أبيكم إبراهيم ) ( ملة )، منصوب بفعل مقدر. وتقديره : اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم٢.
قوله :( هو سماكم المسلمين ) الذين سماهم المسلمين هو الله عز وجل ؛ فقد سماهم بذلك من قبل في الكتب المتقدمة ( وفي هذا ) يعني القرآن.
قوله :( ليكون الرسول شهيدا عليكم ) أي يشهد عليكم يوم القيامة أنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم ( وتكونوا شهداء على الناس ) أي لتشهدوا على الناس يوم القيامة أنهم قد بلغوا من رسلهم دعوة ربهم. فلا جرم أن هذه نعمة عظمى قد امتن الله بها على هذه الأمة ؛ إذ جعلها خير الأمم لتشهد يوم القيامة على سائر الأمم بحقيقة التبليغ. وهي نعمة من الله جديرة أن تقابل ببالغ الشكران لله. وذلك بصدق التوجه إلى جنابه وحسن الإخبات له، مطيعين عابدين خاشعين. وهو قوله :( فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله ) أي ثقوا به كامل الثقة في كل أموركم، واعتضدوا به تمام الاعتضاد، وتوكلوا عليه بالغ التوكل، واطلبوا منه وحده العون والنصر والتأييد ( هو مولاكم ) أي ناصركم ومؤيدكم ومظهركم على عدوكم ( فنعم المولى ونعم النصير ) نعم الولي ونعم الناصر٣.
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٧٩..
٣ - تفسير الطبري جـ١٧ ص ١٤٤ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٣٦ وتفسير البيضاوي ص ٤٥١..