تفسير سورة الحج

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة الحج من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿يأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ﴾ خافوه، واحذروا غضبه وبأسه، واخشوا يوماً ترجعون فيه إليه ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ الزلزلة: الإزعاج، والإفزاع. أي اتقوا ربكم لأن زلزلة الساعة شيء مهول
﴿تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ﴾ أي تغفل عنه؛ مع أن الطبيعة البشرية: تقتضي تمام الحرص من جانب الأم على وليدها، وتقتضي كامل الشفقة به، والحدب عليه؛ فيذهب جميع ذلك لشدة ما تلقاه في هذا اليوم من الهول، وما تجده من الرعب ﴿وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا﴾ أي تطرح كل حبلى ما في بطنها؛ لشدة ما ترى من الفزع ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى﴾ أي كالسكارى؛ في عدم الوعي، وفي الخلط، وفي التعثر، وفي الذهول ﴿وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ حقيقة؛ ولكنه هول القيامة
﴿وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ﴾ عات متمرد؛ مستمر في الشر؛ مستمرىء له
﴿كُتِبَ عَلَيْهِ﴾ أي قضى على هذا الشيطان ﴿أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ﴾ أي اتبعه، واتخذه إماماً له ومعيناً ﴿فَأَنَّهُ﴾ أي الشيطان ﴿يُضِلُّهُ﴾ عن طريق الحق، ويرديه في الباطل ﴿وَيَهْدِيهِ﴾ يوجهه ﴿إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ إلى ما يوصله إلى جهنم وبئس المصير وهذا كقوله تعالى: ﴿فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ﴾
﴿يأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ شك ﴿مِّنَ الْبَعْثِ﴾ يوم القيامة ﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ﴾ أي خلقنا أصلكم آدم ﴿مِّن تُرَابٍ﴾ أي إن كنتم شاكين في البعث، وكيف أننا نعيدكم بعد فنائكم؛ فانظروا في بدء خلقكم: إذ خلقناكم من تراب، ولم تكونوا شيئاً؛ فكيف لا نستطيع إعادتكم كما أنتم الآن؟ ﴿ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ﴾ مني ﴿ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ﴾
ذهب المفسرون إلى أن المراد بها: قطعة دم جامدة والذي أراه أن المراد بالعلقة: واحد الحيوانات المنوية، التي يتخلق منها الجنين بأمر الله تعالى؛ وتجمع على «علق» قال تعالى: ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ ﴿ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ﴾ قطعة لحم صغيرة؛ قدر ما يمضغ في الفم ﴿مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ أي تامة الخلقة، وغير تامتها ﴿وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ﴾ أي نثبت في الأرحام ما نشاء ثبوته؛ وما لم نشأ إبقاءه: أسقطته الأرحام. فليس كل من حملت أنتجت
-[٤٠١]- ﴿إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ هو وقت استيفاء الجنين مدته في الرحم ﴿ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ﴾ كمال قوتكم؛ وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين (انظر آية ٢١ من سورة الذاريات) ﴿وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾ أردئه؛ وهو الكبر المؤدي إلى الهرم والخرف ﴿لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً﴾ أي لينسى ما عرفه، ويجهل ما علمه؛ لذهاب عقله، ومزيد كبره ﴿وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ﴾ قال عكرمة: من قرأ القرآن: لم يصر إلى هذه الحالة نفعنا الله تعالى بكتابه، وكتبنا من أحبابه، وشفعه فينا، وجعله حجة لنا لا علينا ﴿وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً﴾ ساكنة يابسة ﴿فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ﴾ بالمطر، أو بالسقيا من ماء المطر نفسه - المنساب في الأنهار والآبار - وذلك بعد وضع البذر ﴿اهْتَزَّتْ﴾ تحركت لطلوع النبات ﴿وَرَبَتْ﴾ انتفخت وارتفعت ﴿وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ من كل صنف حسن، سار للناظرين
﴿ذلِكَ﴾ المذكور: من قدرة الله تعالى على إنشاء الإنسان أصلاً من تراب، ثم من نطفة؛ ثم تطور النطفة إلى علقة، ثم مضغة؛ ثم إخراجه طفلاً، ثم إنهاء أجله على الصورة التي يريدها الله تعالى له - صغيراً، أو كبيراً، أو بالغاً أرذل العمر - ثم قدرته جل شأنه، وعلا سلطانه؛ على إنزال الماء من السماء على الأرض اليابسة، واهتزازها، وانشقاقها عن أصناف النبات: البهيج المنظر والمخبر؛ كل «ذلك» يدل دلالة قاطعة على أنه تعالى
﴿هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ﴾ كما أنشأ الخلق ابتداء، وأماتهم ﴿يُحْيِي الْمَوْتَى﴾ ويبعثها يوم القيامة للحساب والجزاء؛ فتعالى الله الخالق ما يريد، الفاعل ما يشاء
﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾ أي لاوياً عنقه: كبراً وخيلاء، أو معرضاً عن ذكر الله تعالى ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ في إحيائه وإماتته، ومحاسبته ومعاقبته ﴿لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ﴾ ولكن العبيد ﴿كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ على طرف؛ أي يعبد الله شاكاً في وجوده، أو شاكاً في إحيائه، أو شاكاً في جزائه ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ﴾ غنى وصحة ﴿اطْمَأَنَّ بِهِ﴾ وسكن إليه ﴿وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ﴾ شر وبلاء وفقر
-[٤٠٢]- ﴿انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾ رجع إلى كفره: يائساً من رحمة الله تعالى؛ وبذلك يكون قد ﴿خَسِرَ الدُّنْيَا﴾ بفوات ما أمله فيها، وأراده منها خسر ﴿الآخِرَةَ﴾ لأن الله تعالى لم يعدها إلا للمتقين؛ و ﴿ذلِكَ﴾ الخسران ﴿هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ الواضح؛ الذي لا خسران بعده
﴿يَدْعُو﴾ أي يعبد ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره ﴿ذلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ﴾ الكبير
﴿يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ﴾ أي يدعو من ضره؛ واللام زائدة ﴿أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ﴾ أي يعبد من دون الله من يحتمل وصول الضرر منه، ولا يستطيع إيصال النفع. أو يطلب رفع ما نزل به؛ ممن لا قدرة له على دفعه عن نفسه ﴿لَبِئْسَ الْمَوْلَى﴾ أي بئس الرب، وبئس السيد؛ ذلك الذي لا يضر ولا ينفع ﴿وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ﴾ أي بئس القريب والصاحب؛ و «العشير» من المعاشرة
﴿مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ﴾ أي من كان يظن أن الله لن ينصر رسوله عليه الصلاة والسلام. أو المراد: من كان قد يئس من روحالله، وقنط من رحمته، وظن أنه تعالى لن ينصره: فليختنق وجاء على لسان العرب «ينصره» بمعنى يرزقه
﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ﴾ بحبل ﴿إِلَى السَّمَآءِ﴾ أي إلى السقف؛ لأن كل ما علاك فهو سماء ﴿لْيَقْطَعْ﴾ أي ثم ليختنق ﴿فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ أي «هل يذهبن كيده» لنفسه بالاختناق؛ الأمر الذي يغيظه: وهو ظنه بأن الله تعالى لن يرزقه، أو بأن الله تعالى لن ينصر رسوله؛ وقد نصره في الدنيا: بنصره، ورفعة شأنه، وإعلاء دينه؛ وفي الآخرة: بالمقام المشهود، والحوض المورود، والشفاعة العظمى
﴿وَكَذلِكَ أَنزَلْنَاهُ﴾ أي القرآن ﴿آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ واضحات ﴿وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ﴾ هدايته، أو من يريد أن يهتدي
﴿وَالَّذِينَ هَادُواْ﴾ اليهود ﴿وَالصَّابِئِينَ﴾ قوم زعموا أنهم على دين نوح عليه السلام، أو هم كل من صبأ: أي خرج من دين إلى دين آخر ﴿وَالْمَجُوسَ﴾ عبدة النار
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ﴾ كل ﴿مَن فِي السَّمَاوَاتِ﴾ من أملاك ﴿وَمَن فِي الأَرْضِ﴾ من إنس وجن
-[٤٠٣]- ﴿وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ﴾ كل هؤلاء يسجدلله تعالى. أي يطيعه، ويخضع لأوامره. أو هو سجود على الحقيقة: يتمثل في ظل هذه الأشياء ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ﴾ أي ويسجد له كثير من الناس؛ وهم المؤمنون ﴿وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ﴾ ﴿حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ أي وجب عليه؛ لكفره، وفسوقه عن أمر ربه ﴿وَمَن يُهِنِ اللَّهُ﴾ يشقه بالكفر ﴿فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ﴾ أي ليس له من مسعد يرتفع به إلى مصاف المؤمنين، ويدفع عنه ما كتبه عليه أحكم الحاكمين
وإنما يهن الله تعالى من استوجب الشقاء والمهانة، وارتضى لنفسه خسة الكفر، وذلة الجهل؛ وأبى رفعة الإيمان، وعزة العلم
هذا ولا يعقل أصلاً أن المولى الكريم يهين من لا ذنب له، ولا إثم عليه؛ بعد أن رفعه وكرمه ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ وقد اعتاد أكثر المفسرين - سامحهم الله تعالى - على أن يذهبوا في مثل هذه المعاني مذاهب شتى؛ يأباها العدل السماوي، وتنبو عنها الحكمة الإلهية؛ ويتسترون وراء معان فخمة ضخمة؛ هي في الواقع عين الحقيقة، ولب الشريعة. وإلا فمن ذا الذي ينكر أنه تعالى يفعل ما يريد؟ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ﴾ أو أن الأمر أمره، والخلق خلقه؟ وأن الجميع ملك له وعبيد؟ إن من ينكر هذا أو بعضه؛ فإنه واقع في الكفر لا محالة: لأنه قد أنكر ما لا يصح الإيمان إلا به إنما الذي ننكره، ونحارب من أجله، ونلقى الله تعالى عليه: أنه تعالى ﴿لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ﴾ وأنه جل شأنه لا يظلم الناس، ولكن الناس ﴿كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ فإذا أهان الله تعالى عبداً؛ فإنما يعاقبه بهذه الإهانة على ظلم نفسه؛ بالرضا بالكفر، والركون إليه قال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾.
لذا أتبع الله تعالى ذلك بذكر خصومة المؤمنين والكافرين، وما يؤول إليه حال كل منهم. قال تعالى:
﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ﴾ المؤمنون خصم، والكافرون خصم ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ بمحض اختيارهم؛ وليس بدافع خفي من الله تعالى؛ تنهار أمامه قوتهم، وتمحى حياله إرادتهم وهل يستطيع مخلوق أن يدفع إرادة الخالق تعالى؟ أو أن يخرج عما أكرهه عليه، واضطره إليه؟ ﴿قُطِّعَتْ﴾ أي سويت وأعدت ﴿لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ﴾ وهو تشبيه لإحاطة النار بهم من كل جانب: إحاطة الثوب بلابسه ﴿يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾ وهو الماء البالغ نهاية الحرارة. عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لو سقطت نقطة واحدة منه على جبال الدنيا لأذابتها
﴿يُصْهَرُ بِهِ﴾ أي يذاب بالحميم ﴿مَا فِي بُطُونِهِمْ﴾ من أحشاء، وأمعاء وقلوب، وكلى، وأكباد وخص ما في بطونهم:
-[٤٠٤]- ليظهر مبلغ ما يحيق بهم من آلام لا توصف: فإن الإنسان لا يحتمل أدنى ألم - مهما قل - يلم بما في بطنه؛ فما بالك - عافاني الله تعالى وإياك - بالحميم في الجحيم؛ يصب فوق الرؤوس؛ فيصهر ما في البطون
﴿وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾ تضرب بها رؤوسهم والمقامع: جمع مقمعة؛ وهي عمود من حديد؛ يضرب به رأس الفيل ليستكين ويحد من هيجانه. وهي مشتقة من القمع
﴿كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا﴾ أي من النار ﴿مِنْ غَمٍّ﴾ حزن شديد، وهم بالغ نالهم ﴿أُعِيدُواْ فِيهَا﴾ بالضرب بالمقامع يقال لهم ﴿ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ بما قدمتم
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ﴾ بفضله ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ به وبكتبه ورسله ﴿وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ﴾ بساتين: لا آخر لعظمها، ولا حد لبهجتها
﴿وَهُدُواْ إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ أي هدوا في الدنيا إلى القول الطيب؛ الذي وصلهم إلى هذه الدرجة من النعيم: وهو لا إله إلا الله ﴿وَهُدُواْ إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ أي إلى طريقالله، الموصل إليه؛ وهو الإيمان
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ﴾ يمنعون ﴿عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ دينه ﴿سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ﴾ المقيم ﴿وَالْبَادِ﴾ غير المقيم ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ﴾ أي ومن يهم فيه بمعصية ﴿نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ جاء في اللغة: ألحد في الحرم: إذا احتكر الطعام. وقيل: الإلحاد: الحلف الكاذب، أو هو منع الناس عن عمارة المسجد الحرام. وقرىء «ومن يرد» بفتح الياء: من الورود.
هذا ولم يؤاخذ الله تعالى أحداً من خلقه على الهم بالمعصية ما لم يرتكبها، ولا بالشروع فيها ما لم يأتها؛ إلا في المسجد الحرام: فإن من يهم فيه بالذنب: كمن يقترفه وذلك لأن الإنسان يجب عليه أن يكون في الحرم طاهر الجسم، نقي القلب، صافي السريرة، خالصاً بكليتهلله، طامعاً في مغفرته، مشفقاً من غضبه وإن من ينتهك حرمة الملك بمعصيته في حماه، وداخل بيته: أجرأ على المعصية ممن يرتكبها بعيداً عنه وحقاً إن من تهجس نفسه بالسوء؛ وهو في داخل الحرم الآمن: لجدير بالجحيم، والعذاب الأليم
﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا﴾ هيأنا ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ من الأصنام والأوثان والرجس
﴿وَأَذِّن﴾ ناد ﴿فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً﴾ أي مشاة على أرجلهم ﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ أي ركباناً. والضامر: البعير، أو الفرس المهزول ﴿يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ﴾ من كل طريق بعيد
﴿لِّيَشْهَدُواْ﴾ يحضروا ﴿مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ بالتجارة، والتعرف بالناس من شتى الأقطار. وفي هذا من المنافع الاجتماعية ما فيه؛ وقد اهتم الشارع الحكيم باجتماع الناس وتآلفهم، وتبادلهم الأخوة الدينية، والمحبة الخالصة فشرع صلاة الجماعة: ليختلط أهل الحي الواحد، وشرع الجمعة: ليجتمع أهل البلدة، وشرع الحج: ليجتمع أهل الأقطار والأمصار؛
-[٤٠٥]- ليتعارفوا، ويتحابوا، ويتبادلوا الآراء العامة؛ التي تعود بالنفع على الأمة الإسلامية في سائر أقطار المعمورة ﴿وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ﴾ الذي أصابه بؤس وشدة
﴿ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ﴾ التفث في المناسك: قص الأظافر والشارب، وحلق الرأس والعانة، ورمي الجمار، ونحر البدن، وأشباه ذلك.
والتفث في اللغة: الوسخ. أي وليزيلوا وسخهم ﴿وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ﴾ من الهدايا والضحايا ﴿وَلْيَطَّوَّفُواْ﴾ يطوفوا طواف الإفاضة؛ الذي هو من واجبات الحج ﴿بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ القديم؛ وهو البيت الحرام. وسمي بالعتيق: لأنه أول بيت وضع للناس. قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً﴾
﴿وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ﴾ يجتنب ما لا يحل انتهاكه ﴿إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ تحريمه في قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ ﴿فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ﴾ القذر. وهو كل ما يستوجب العقاب والعذاب ﴿مِنَ الأَوْثَانِ﴾ الأصنام ﴿وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ﴾ شهادة الزور. وقول الزور: من أكبر الكبائر، وهو من الموبقات المهلكات وما فشا الزور في قوم: إلا وحل بهم الخراب والدمار
﴿حُنَفَآءَ للَّهِ﴾ مسلمين ﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ﴾ أي فكأنما سقط من السماء فتخطفته الطير، ومزقته كل ممزق ﴿أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ﴾ تسقطه وتلقيه ﴿فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ بعيد. أي إنه لا ترجى له نجاة في الحالتين
﴿ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ﴾ الشعائر: جمع شعيرة؛ وهي أعمال الحج، وكل شيء فعل تقرباً إلى الله تعالى وتعظيمها: اختيار البدن حسنة سمينة ﴿فَإِنَّهَا﴾ أي تعظيم الشعائر، والقيام بها على أكمل وجه، وأجمل صفة ﴿مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ وهي أرقى مراتب التقوى قال «التقوى ههنا» وأشار إلى صدره الشريف
﴿ثُمَّ مَحِلُّهَآ﴾
أي مكان وجوب نحرها. والضمير للأنعام
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً﴾ أي موضع قربان؛ وهو مكان الذبح المطمئنين بذكر الله تعالى، المطيعين له، المتواضعين
﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ خافت ﴿وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ﴾ من البأساء والضراء
﴿وَالْبُدْنَ﴾ جمع بدنة؛ وهي من الإبل والبقر: كالأضحية من الغنم ﴿صَوَآفَّ﴾ أي قائمات قد صفت أيديهن وأرجلهن ﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾ أي سقطت على الأرض بعد نحرها ﴿فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ﴾ وهو الراضي بما عنده، وبما يعطي؛ من غير مسألة. أو هو السائل ﴿وَالْمُعْتَرَّ﴾ وهو الذي يريك نفسه ولا يسأل
﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ﴾ أي لن يصل إليه ﴿لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا﴾ فقد استمتعتم بها أكلاً وبذلاً ﴿وَلَكِن يَنَالُهُ﴾ يصل إليه
-[٤٠٦]- ﴿التَّقْوَى مِنكُمْ﴾ أي إنه تعالى لن يصل إليه، ولن يقبل من ذلك إلا ما أريد به وجهه جل شأنه؛ فذلك وحده هو المقبول المجزى عليه أما ما أريد به التظاهر والتفاخر والرياء والاستعلاء: فهو مردود على فاعله موزور عليه غير مأجور
﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ شديد الخيانة والكفر
﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ﴾ أي أذن للمؤمنين الذين يقاتلون: أن يقاتلوا من يقاتلونهم؛ وذلك ﴿بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ﴾ وقوتلوا ابتداء واعتداء؛ وهم
﴿الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم﴾ مكة؛ ظلماً وعدواناً ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ﴾ أي أخرجوا بغير ما سبب؛ سوى قولهم ﴿رَبُّنَا اللَّهُ﴾ وحده، لا إله غيره، ولا نعبد سواه
بعد أن بيّن تعالى مساوىء القتال الظالم، الغير المتكافىء، والقائم على الإثم والضلال: عرفنا أن الحروب والقتال: ليست شراً كلها؛ بل منها ما يقوم بسبب مشروع: يؤجر المرء ويثاب عليه. قال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ أي لولا ما شرعه الله تعالى لأنبيائه والمؤمنين من عباده؛ من قتال أعدائه: أعداء الدين؛ لشاعت الفوضى، وعمت الإباحية؛ و ﴿لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ﴾ جمع صومعة؛ وهي مكان العبادة. وهي للنصارى كالخلوة عند متعبدي المسلمين لهدمت ﴿بَيْعٌ﴾ وهي كنائس النصارى ﴿وَصَلَوَاتٌ﴾ كنائس اليهود ﴿وَمَسَاجِدُ﴾ المسلمين. وكلها معابد: واجب العناية بها، والاحترام لها؛ وذلك لأنها جميعاً ﴿يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً﴾ بالعبادة ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ﴾ أي من ينصر دينه، ويدفع عن أوليائه؛ لأنه تعالى لا يحتاج إلى نصرة أحد، والكل مفتقر إلى نصرته وهذه الآية الكريمة خاصة بالحروب، وحاجة الكون إليها، وأنها ضرورة من ضرورات الحياة، ولازمة من لوازم العمران. (انظر آية ٢٥١ من سورة البقرة)
﴿الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ﴾ أي جعلنا لهم مكانة فيها وسلطاناً ﴿وَعَادٌ﴾ قوم هود ﴿وَثَمُودُ﴾ قوم صالح
﴿وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ﴾ قوم شعيب ﴿فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ﴾ أمهلتهم ﴿ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ﴾ بالعذاب والاستئصال ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ إنكاري عليهم ما فعلوه، وتغييري؛ حيث أبدلتهم مكان الأمن خوفاً، ومكان الراحة تعباً، ومكان النعم نقماً
﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ﴾ فكم من قرية
-[٤٠٧]- ﴿أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ أي أهلكناها بسبب كفرها ﴿وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ﴾ أي وكم من بئر متروكة لا ينتفع بها؛ بسبب هلاك أهلها وإفنائهم كم من عظيم ﴿مَّشِيدٍ﴾ رفيع طويل متين
﴿وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ﴾
وكم من قرية ﴿أَمْلَيْتُ لَهَا﴾ أمهلتها ﴿وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ كافرة. والمراد بالقرية فيما تقدم: أهلها ﴿ثُمَّ أَخَذْتُهَا﴾ بالعذاب والاستئصال ﴿وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ المرجع؛ فأعاقب الكفار أشد العقاب
﴿وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِي آيَاتِنَا﴾ في القرآن: بالطعن فيه، وفيمن نزل عليه؛ بقولهم: سحر وساحر، وشعر وشاعر} أي طالبين عجزنا، ومناوئين لنا، أو ينسبون العجز للنبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين
﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ تمنى: قرأ. أي إذا قرأ ألقى الشيطان في قراءته: ليشوش أذهان السامعين، ويبعث في نفوسهم الشكوك والريب. قيل: كان يقرأ سورة «والنجم» فلما بلغ قوله تعالى: ﴿وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ تكلم الشيطان بقوله: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى. فوقع عند بعضهم أن ذلك من قراءة الرسول عليه الصلاة والسلام. وقد كان الشيطان في ذلك الحين يتكلم ويسمع كلامه بالآذان، وقد قال يوم أحد: «لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم».
والذي أراه في معنى هذه الآية: أن يكون التمني على ظاهره. أي ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى﴾ لأمته الإيمان ﴿أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي﴾ سبيل ﴿أُمْنِيَّتِهِ﴾ العثرات، وأقام بينه وبين مقصده العقبات ﴿فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾ يمحوه ويذهبه من قلوب أوليائه ﴿ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ﴾ بأن يجعلها مقبولة لدى من سبقت لهم الحسنى، وحازوا المقام الأسنى أما ما ذهب إليه أكثر المفسرين فباطل مردود؛ لا يستسيغه عقل مؤمن، ولا يقبله قلب سليم وهو زعمهم بأن الرسول الكريم - الذي لا ينطق عن الهوى - نطق بلسانه؛ حين بلغ ﴿وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى﴾ قائلاً: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى. هذه القالة التي لا ينطق بها مؤمن فضلاً عن سيد المؤمنين؛ الذي هدانا لتوحيد رب العالمين وقد استدلوا على قولهم الباطل بأحاديث واضحة البطلان، بادية الخسران وقد نبه إلى ذلك بعض فضلاء الأمة: قال ابن إسحق في حديث الغرانيق: هو من وضع الزنادقة. وقال أبو بكربن العربي: إن جميع ما ورد في هذه القصة لا أصل له. وقال القاضي عياض: إن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه أحد بسند متصل سليم؛ وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون؛ المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم
﴿لِّيَجْعَلَ﴾ الله ﴿مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾ في صدور بني الإنسان ﴿فِتْنَةٌ﴾ محنة وابتلاء ﴿لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ شك ونفاق ﴿وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ أي ويجعله أيضاً فتنة للقاسية قلوبهم؛ التي لا تلين لذكر الله تعالى ﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ﴾ الكافرين ﴿لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ خلاف كبير ألا ترى إلى الأمم الغربية - وقد يكونوا أبناء دين واحد - وقد ساد بينهم الشقاق، وفشت بينهم الشحناء والبغضاء، وشمر كل ساعده للنزال والقتال، وأعدوا لبعضهم ما أعدوا: من ضروب الأسلحة المهلكة المدمرة؛ فصدق عليهم قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ فهم طول العمر، وأبد الدهر؛ في شقاق وأي شقاق
﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ﴾ ب الله تعالى، وبدينه وآياته ﴿أَنَّهُ﴾ أي القرآن الكريم ﴿فَتُخْبِتَ﴾ فتطمئن
﴿وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ﴾ في شك من القرآن ﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ﴾ القيامة ﴿بَغْتَةً﴾ فجأة ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾ وسمي عقيماً: لأنه لا يوم بعده. وقيل: هو يوم بدر؛ وهو عقيم: لأنه لا مثل له في عظمه: لأن الملائكة عليهم الصلاة والسلام قاتلت فيه، أو لأن الكفار لم ينظروا فيه إلى الليل؛ بل قتلوا قبل المساء؛ فصار يوماً لا ليلة له؛ فكان عقيماً وأول الأقوال أولى لقوله تعالى:
﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ فيما كانوا فيه يختلفون
﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ﴾ في الجهاد ﴿أَوْ مَاتُواْ﴾ ميتة طبيعية ﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً﴾ في الجنة
﴿وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ﴾ أي اقتص لنفسه. وليس المراد بذلك المجانسة في العقوبة على إطلاقها؛ فمن قتل ولدي: لم يجز لي أن أقتل ولده؛ لأن ولده لم يرتكب ما يؤثم عليه، ومن سمم ماشيتي: لم يجز لي أن أسمم ماشيته؛ لأنها عجماء لم تذنب. ولا يصح الاقتصاص منها - لو أذنبت - قيل: نزلت في جماعة من المشركين مثلوا بقتلى المسلمين يوم أحد؛ فعاقبهم المسلمون بالتمثيل بقتلاهم. ومعنى الآية: من جازى الظالم بمثل ظلمه ﴿ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ﴾ أي بغى على المعاقب، الآخذ بحقه
-[٤٠٩]- ﴿لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ﴾ على من بغى عليه ﴿ذلِكَ﴾ النصر المستمد من الله تعالى؛ لأنه وحده القادر القاهر، العفو الغفور؛ ومن قدرته تعالى أنه:
﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ أي يدخل كلاهما في الآخر؛ بأن ينقص هذا ويزيد ذاك؛ وهذا مشاهد ملموس في الصيف والشتاء؛ وهما آيتان دالتان على قدرته تعالى ووحدانيته: ﴿مَا يَدْعُونَ﴾ ما يعبدون ﴿مِن دُونِهِ﴾ غيره
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ﴾ من أشجار وأنهار، ودواب وأطيار، وغير ذلك مما ينتفع به ﴿وَالْفُلْكَ﴾ السفن ﴿تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ﴾ بإذنه ومعونته وقدرته ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ بأمره ومشيئته؛ يوم القيامة ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً﴾
﴿وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ﴾ بالإنشاء من العدم ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ عند انتهاء آجالكم التي قدرها لكم ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ يوم القيامة للحساب والجزاء ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ﴾ بالله، أو كفور بأنعمه
﴿لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً﴾ شريعة وديناً ﴿هُمْ نَاسِكُوهُ﴾ عاملون به
﴿وَإِن جَادَلُوكَ﴾ فيما أنزل إليك ﴿فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من سوء؛ فيجازيكم عليه
﴿إِنَّ ذلِكَ﴾ المذكور؛ من إنزال الماء من السماء، وازدهار الأرض بالنماء، وتسخيره تعالى للفلك تجري بكم على الماء، وإمساكه جل شأنه للسماء، وإنشائه لمن يشاء، وإماتته بعد الإحياء، وإحيائه بعد الفناء، وإحاطة علمه تعالى بما في الأرض وما في السماء. كل ذلك ﴿فِي كِتَابٍ﴾ مكتوب في اللوح المحفوظ، ومعلوم له تعالى قبل حدوثه
﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾ حجة أو برهاناً
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا﴾ من القرآن ﴿بَيِّنَاتٍ﴾ ظاهرات واضحات؛ لا لبس فيها ولا إبهام ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ﴾ الإنكار لها، والكفر بها؛ وذلك بما يبدو عليهم من الإنقباض والعبوس والكراهة ﴿يَكَادُونَ يَسْطُونَ﴾
يبطشون ﴿بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا﴾ أي بالمؤمنين الذين يتلون عليهم القرآن ﴿قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم﴾ أيها الكافرون المكذبون ﴿بِشَرٍّ مِّن ذلِكُمُ﴾ التكذيب، وإيذاء المؤمنين ﴿النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ﴾ أمثالكم من ﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ أو يكون المعنى: «قل أفأنبئكم» أيها المؤمنون «بشر من ذلكم» أي هل أخبركم بما هو شر من بطش هؤلاء الكفار، وإنكارهم لما جئتم به من الحق «النار وعدها الله» أمثالهم من «الذين كفروا»
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ﴾ تعبدون ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره من الآلهة. والمقصود بها الأصنام ﴿لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً﴾ اختار الله تعالى الذباب في التمثيل - ولو أنه أكبر من البعوض - لأن الذباب أحقر المخلوقات وأخسها، وأبغضها وأقذرها والمعنى: يا أيها الكافرون، يا أحقر المخلوقين: كيف تعبدون من دون الله ما لا يستطيع أن يخلق ذباباً ﴿وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ﴾ أي ولو اجتمع هؤلاء الآلهة، وصار بعضهم لبعض ظهيراً ولم يقف عجزهم عند عدم استطاعة خلقة الذباب فحسب؛ بل ﴿وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ﴾ أي لو سلب الذباب آلهتهم - التي يعبدونها - شيئاً من الطيب الذي كانوا يضمخونها به؛ لم تستطع تلك الآلهة استرجاعه منه - رغم ضعفه وحقارته - هذا وقد يتوهم أن الذباب من الأشياء المخلوقة عبثاً - بل التي يفضل عدمها على وجودها - لما تنقله من مكروبات، وما تحمله من جراثيم. لكنك لو علمت أنه يستوي في نظر الحاكم: الجلاد الذي يطيح بالرقاب، والغواص المعد للإنقاذ؛ إذ كل منهما يفعل ما أمر به: لهان الأمر. وأيضاً فإن الذباب - فضلاً عن حمله للمكروبات - فإنه خلق لإذلال المتكبرين والجبابرة: وذلك لأن الذبابة كما تقف على القمامة والقاذورات: فإنها تقف على أنف أعتى الجبابرة، وأعظم الأكاسرة حيث لا يملك دفعها، ولا يستطيع منعها؛ وأن النمروذ - على تكبره
-[٤١١]- وجبروته - سلط الله تعالى عليه بعوضة أهلكته؛ إذلالاً له، واستخفافاً بأمره، وتحقيراً لشأنه؛ فتعالى الله الملك الحق، الجبار المتكبر
﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ﴾ الذباب ﴿وَالْمَطْلُوبُ﴾ الأصنام التي يعبدونها. أو «الطالب» العابد الكافر: لعجزه عن حماية آلهته من الذباب «والمطلوب» الصنم المعبود: لعجزه عن حماية نفسه
﴿مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ ما عرفوه حق معرفته؛ حيث جعلوا الأصنام شركاء له
﴿اللَّهُ يَصْطَفِي﴾ يختار ﴿مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً﴾ لرسله يصطفي ﴿مِّنَ النَّاسِ﴾ لخليقته ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ لأقوال عباده ﴿بَصِيرٌ﴾ بأعمالهم. كيف لا وهو تعالى
﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ ما سيعملونه لاحقاً ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ ما عملوه سابقاً ﴿وَإِلَى اللَّهِ﴾ وحده ﴿تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ فيقضي فيها بما شاء، ويحكم بما أراد ﴿وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ في حياتكم الدنيا، وتفوزون بنعيم الآخرة
﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ﴾ في سبيل إقامة دينه، ونشر تعاليمه؛ الموصلة لخيري الدارين ﴿حَقَّ جِهَادِهِ﴾ باستفراغ جهدكم وطاقتكم. ويدخل في ذلك: جهاد النفس، ومحاربة الشيطان:
وجاهد النفس والشيطان واعصهما
وإن هما محضاك النصح فاتَّهم
﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ﴾ اختاركم ﴿حَرَجٍ﴾ ضيق ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ﴾ الجأوا إليه واحتموا بفضله وعنايته، وثقوا به
411
سورة المؤمنون

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

412
Icon