ﰡ
فقوله تعالى :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾ أي بيناً ظاهراً، والمراد ( صلح الحديبية ) فإنه حصل بسببه خير جزيل، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان، وقوله تعالى :﴿ لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ هذا من خصائصه صلى الله عليه سلم التي لا يشاركه فيها غيره، وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله ﷺ، وهو ﷺ في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو ﷺ أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة، ولما كان أطوع خلق الله تعالى وأشدهم تعظيماً لأوامره ونواهيه قال حين بركت به الناقة، حبسها حابس الفيل، ثم قال ﷺ :« والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم شيئاً يعظمون به حرمات الله إلاّ أجبتهم إليها » فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح قال الله تعالى له :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ﴾ أي في الدنيا والآخرة، ﴿ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾ أي بما يشرعه لك من الشرع العظيم والدين القويم، ﴿ وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً ﴾ أي بسبب خضوعك لأمر الله عزَّ وجلَّ يرفعك الله وينصرك على أعدائك، كما جاء في الحديث الصحيح :« وما زاد الله عبداً بعفو إلاّ عزاً وما تواضع أحد لله عزَّ وجلَّ إلاّ رفعه الله تعالى »، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ما عاقبت أحداً عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله تبارك وتعالى فيه.
« ذكر سبب هذه البيعة العظيمة »
قال محمد بن إسحاق في « السيرة » : ثم دعا رسول الله ﷺ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليبعثه إلى مكة، ليبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب من يمنعني، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظي عليها، ولكن أدلك على رجل أعز بها مني، عثمان بن عفان رضي الله عنه نبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وأنه إنما جاء زائراً لهذا البيت ومعظماً لحرمته، فخرج عثمان رضي الله عنه إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه، ثم أجاره، حتى بلَّغ رسالة رسول الله ﷺ، فانطلق عثمان رضي الله عنه حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، وفبلغهم عن رسول الله ﷺ ما أرسله به، فقالوا لعثمان رضي الله عنه حين فرغ من رسالة رسول الله ﷺ إليهم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف، فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله ﷺ، واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله ﷺ والمسلمين أن عثمان رضي الله عنه قد قتل.
وقوله تعالى :﴿ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ أي من الصدق والوفاء، والسمع والطاعة ﴿ فَأنزَلَ السكينة ﴾ وهي الطمأنينة ﴿ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ﴾ وهو ما أجرى الله عزَّ وجلَّ على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير بفتح خيبر وفتح مكة، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان الله عَزِيزاً حَكِيماً ﴾، روى ابن أبي حاتم عن إياس بن سلمة عن أبيه قال :« بينما نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله ﷺ : أيها الناس : البيعة البيعة، نزل روح القدس، قال : فسرنا إلى رسول الله ﷺ، وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه، فذلك قول الله تعالى :﴿ لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة ﴾ قال : فبايع رسول الله ﷺ لعثمان رضي الله عنه بإحدى يديه على الأخرى، فقال الناس : هنيئاً لابن عفان يطوف بالبيت ونحن هاهنا، فقال رسول الله ﷺ :» لو مكث كذا وكذا ما طاف حتى أطوف «.
وروى ابن إسحاق عن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنه قال : إن قريشاَ بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله ﷺ ليصيبوا من أصاحبه أحداً، فأخذوا أخذاً، فأُتي بهم رسولُ الله ﷺ، فعفا عنهم، وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا إلى عسكر رسول الله ﷺ بالحجارة والنبل، قال ابن إسحاق : وفي ذلك أنزل الله تعالى :﴿ وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم ﴾ الآية.
روى الإمام أحمد عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما قالا :« خرج رسول الله ﷺ يريد زيادة البيت، لا يريد قتالاً، وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت كل بدنة عن عشرة، وخرج رسول الله ﷺ، حتى إذا كان بعسفان، لقيه بشر بن سفيان الكعبي، فقال : يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العوذ المطافيل، قد لبست جلود النمور، يعاهدون الله تعالى أن لا تدخلها عليهم عنوة أبداً، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموه إلى كراع الغميم، فقال رسول الله ﷺ : يا ويح قريش قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله تعالى دخلوا في الإسلام وهم وافرون، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فماذا تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله تعالى به حتى يظهرني الله عزَّ وجلَّ أو تنفرد هذه السالفة » ثم أمر الناس فسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض على طريق تخرجه على ثنية المرار والحديبية من أسفل مكة، قال : فسلك الجيش تلك الطريق، فلما رأت خيل قريش فترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم ركضوا راجعين إلى قريش، فخرج رسول الله ﷺ، حتى إذا سلك ثنية المرار بركت ناقته، فقال الناس : خلأت، فقال رسول الله ﷺ :« ما خلأت » وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها « ثم قال ﷺ للناس :» انزلوا « قالوا : يا رسول الله ما بالوادي من ماء ينزل عليه الناس، فأخرج رسول الله صلىلله عليه وسلم سهماً من كنانته، فأعطاه رجلاً من أصحابه فنزل في قليب من تلك القلب، فغرزه فيه، فجاش بالماء حتى ضرب الناس عنه بعطن فلما اطمأن رسول الله ﷺ إذ ( بديل بن ورقاء ) في رجال من خزاعة، فقال لهم كقوله لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش، فقالوا : يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد ﷺ، إن محمداً لم يأت لقتال إنما جاء زائراً لهذا البيت معظماً لحقه فاتهموهم ».
قال الزهري :» قال عمر رضي الله عنه : فعملت لذلك أعمالاً، قال : فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله ﷺ لأصحابه :« قوموا فانحروا ثم احلقوا »، قال : فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال رسول الله ﷺ ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل ﷺ على أُمّ سلمة رضي الله عنها، فذكر لها ما لقي من الناس، قالت أم سلمة رضي الله عنها : يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم ملة، حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج رسول الله ﷺ فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً، ثم جاءه نسوة فأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ ﴾ حتى بلغ ﴿ بِعِصَمِ الكوافر ﴾ [ الممتحنة : ١٠ ] فطلق عمر رضي الله عنه يومئذٍ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأُخرى صفوان بن أُمية، ثم رجع النبي ﷺ إلى المدينة، فجاءه ( أبو بصير ) رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا في طلبه رجلين، فقالوا : العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به، حتى إذا بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر له، فقال أبو نصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر، فقال : أجل، والله إنه لجيد، لقد جربت منه، ثم جربت فقال أبو نصير : أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفر الآخر، حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله ﷺ حين رآه :« لقد رأى هذا ذعراً »، فلما انتهى إلى النبي ﷺ قال : قتل والله صاحبي، وإني لمقتول، فجاء أو بصير، فقال : يا رسول الله قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم، ثم نجاني الله تعالى منهم، فقال النبي ﷺ :« ويل أمه مسعر حرب أو كان معه أحد »، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، قال : وتفلت منه أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلاّ لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام، إلاّ اعترضوا لها فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي ﷺ تناشده الله والرحم، لما أرسل إليهم فمن أتاه منهم فهو آمن، فأرسل النبي ﷺ إليهم، وأنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ ﴾ حتى بلغ ﴿ حَمِيَّةَ الجاهلية ﴾ وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه رسول الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت «.
وثبت في « الصحيح » « أن رسول الله ﷺ قال :» رحم الله المحلقين «، قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟، قال ﷺ :» رحم الله المحلقين «، قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ قال ﷺ :» رحم المحلقين «، قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ قال صلى الله علي وسلم :» والمقصرين « في الثالثة أو الرابعة »، وقوله سبحانه وتعالى :﴿ لاَ تَخَافُونَ ﴾ حال مؤكدة في المعنى، فأثبت لهم الأمن حال الدخول، ونفي عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد، لا يخافون من أحد، وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، فإن النبي ﷺ لما رجع من الحُدَيْبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة فأقام بها ذا الحجة والمحرم، وخرج من صفر إلى خيبر، ففتحها الله عليه بعضها عنوة، وبعضها صلحاً، وقسمها بين ( أهل الحديبية ) وحدهم ولم يشهدها أحد غيرهم إلاّ الذين قدموا من الحبشة ( جعفر بن أبي طالب ) وأصحابه ( وأبو موسى الأشعري ) وأصحابه رضي الله عنهم ولم يغب منهم أحد، ثم رجع إلى المدينة، فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع « خرج النبي ﷺ إلى مكة معتمراً، هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة، وساق معه الهدي، قيل : كان ستين بدنة، فلبى وصار أصحابه يلبَّون، فلما كان ﷺ قريباً من مر الظهران بعث ( محمد بن سلمة ) بالخيل والسلاح أمامه، فلما رأه المشركون رعبوا رعباً شديداً، وظنوا أن رسول الله ﷺ يغزوهم وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا، فأخبروا أهل مكة، فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش ( مكرز بن حفص ) فقال : يا محمد ماعرفناك تنقض العهد، فقال ﷺ :» وماذاك؟ « قال : دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح، فقال ﷺ :» لم يكن ذلك وقد بعثنا به إلى يأجج «، فقال : بهذا عرفناك بالبر والوفاء، وخرجت رؤوس الكفَّار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله ﷺ، وإلى أصحابه رضي الله عنهم غيظاً وحنقاً، وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان، فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله ﷺ وأصحابه، فدخلها ﷺ، وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى وهو راكب ( ناقته القصواء ) التي كان راكبها يوم الحديبية، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخد بزمام ناقة رسول الله ﷺ يقودها وهو يقول :»
خلوا فكل الخير في رسوله... يا رب أني مؤمن بقيله
نحن قتلناكم على تأويله... كما قتلناكم على تنزيله
ضباً يزيل الهام عن مقيله... ويذهل الخليل عن خليله
روى الإمام أحمد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :« قدم رسول الله ﷺ وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب ولقوا منها سوءاً، فقال المشركون : إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب ولقوا منها شراً، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحِجْر فأطلع الله تعالى نبيّه ﷺ على ما قالوا، فأمر رسول الله ﷺ أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ليرى المشركون جلدهم، قال : فرملوا ثلاثة أشواط، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون، ولم يمنع النبي ﷺ أن يرملوا الأشواط كلها إلاّ إبقاء عليهم، فقال المشركون : أهؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم؟ هؤلاء أجلد من كذا وكذا، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنما سعى النبي ﷺ بالبيت بالصفا والمروة ليرى المشركون قوته، وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : إن رسول الله ﷺ خرج معتمراً، فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هدية وحلق رأسه بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل، ولا يحمل سلاحاً عليهم إلاّ سيوفاً ولا يقيم بها إلاَّ ما أحبوا، فاعتمر ﷺ من العام المقبل، فدخلها، كما كان صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثاً، أمره أن يخرج فخرج ﷺ، وقوله تعالى :﴿ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ﴾ أي فعلم الله عزَّ وجلَّ من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة ودخولكم إليها عامكم ذلك ما لم تعلموا أنتم ﴿ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ ﴾ أي قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي ﷺ فتحاً قريباً، وهو الصلح الذي كان بينكم وبين أعدائكم من المشركين ».
وقوله سبحانه وتعالى :﴿ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً ﴾ وصفهم بكثرة الصلاة، وهي خير الأعمال، ووصفهم بالإخلاص فيها لله عزّ وجلّ، والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب، وهو ( الجنة ) المشتملة على فضل الله عزَّ وجلَّ، ورضاه تعالى عنهم وهو أكبر من الأول، كما قال جل وعلا :﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ ﴾ [ التوبة : ٧٢ ] وقوله جل جلاله :﴿ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود ﴾ قال ابن عباس : يعني السمت الحسن، وقال مجاهد : يعني الخشوع والتواضع، وقال السدي : الصلاة تحسّن وجوههم، وقال بعض السلف : من كثرت صلاته بالليل حَسُن وجهه بالنهار. وقال بعضهم : إن للحسنة نوراً، في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس. وقال عثمان رضي الله عنه :« ما أسرّ أحد سريرة إلاّ أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه » والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة من الله تعالى، أصلح الله عزَّ وجلَّ ظاهره للناس، كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال :« من أصلح سريرته أصلح الله تعالى علانيته »، وقال النبي ﷺ :« ما أسر أحد سريرة إلاّ ألبسه الله تعالى رداءها إن خيراً فيخر وإن شراً فشر » وفي الحديث :« إن الهدي الصالح، السمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة »، فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم، وقال مالك رضي الله عنه : بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون : والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا، وصدقوا في ذلك، فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله ﷺ، وقد نوّه الله تبارك وتعالى بذكرهم، في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة، ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا :﴿ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة ﴾، ثم قال :﴿ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ﴾ أي فراخه ﴿ فَآزَرَهُ ﴾ أي شدّه ﴿ فاستغلظ ﴾ أي شبّ وطال ﴿ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع ﴾ أي فكذلك أصحاب رسول الله ﷺ، آزروه وأيدوه ونصروه، فهم معه كالشطء مع الزرع ﴿ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار ﴾، ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمه الله بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم، قال : لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك.