اللغَة:
﴿السكينة﴾ السكونُ والطمأنينة والثبات
﴿السوء﴾ المساءة والحزن والالم قال الجوهري: ساءَه سوءاً بالفتح ومساءةً نقيضُ سَّره، والإِسمُ السُّوءُ بالضم، ودائرة السُّوء يعني الهزيمة والشر، ومن فتح فهو من المساءة
﴿تُعَزِّرُوهُ﴾ تعظّموه وتنصروه وتمنعوا الأذى عنه، وسمي التعزيزُ في الحدود تعزيزاً لأنه مانع من فعل القبيح
﴿نَّكَثَ﴾ نقض البيعة والعهد
﴿بُوراً﴾ هلكى قال الجوهري: البورُ: الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه، و
«قوماً بوراً» جمع بائر، وبار فلان أي هالك
﴿حَرَجٌ﴾ إثم وذنب.
201
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس قال: تخلف عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعراب المدينة حين أراد السفر إلى مكة عام الفتح، بعغد أن كان استنفرهم معه حذراً من قريش، وأحرم بعمرةٍ وساق معه الدي ليعلم الناسُ أنه لا يريد حرباً، فتثاقلواعنه واعتلَّوا بالشغل فنزلت
﴿سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فاستغفر لَنَا..﴾ الآية.
التفسِير:
﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً﴾ أي قد فتحنا لك يا محمد مكة فتحاً بيناً ظاهراً، وحكمنا لك بالفتح المبين على أعدائك، والمراد بالفتح فتح مكة، وعده الله به قبل أني كون، وذكره بلفظ الماضي لتحققه، وكانت بشارة عظيمة من الله تعالى لرسوله وللمؤمنين قال الزمخشري: هو فتح مكة، وقد نزلت مرجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن مكة عام الحديبية، وهو وعدٌ له بالفتح، وجيء به بلفظ الماضي على عادة ربّ العزَّة سبحانه في أخباره، لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة، وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن الفتح ما لايخفى
﴿لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ أي ليغفر لك ربك يا محمد جميع ما فرط منك من ترك الأولى قال أبو السعود: وتسمتُه ذنباً بالنظر إلى منصبه الجليل وقال ابن كثير: هذا من خصائصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التي لا يشاركه فيها غيره، وفيه تشريفٌ عظيم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذ هو أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة، وهو في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه، لا من الأولين ولا من الآخرين، ولما كان أطوع خلق الله بشره الله بالفتح المبين، وغنفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
﴿وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ أي وكمّل نعمته عليك بإِعلاء الذين ورفع مناره
﴿وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾ أي ويرشدك إلى الطريق القويم، الموصل إلى جنات النعيم؛ بما يشرعه لك من الدين العظيم
﴿وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً﴾ أي وينصرك الله على أعدائك نصراً قوياً منيعاً، فيه عزةٌ وغلبة، يجمع لك به بين عز الدنيا والآخر
﴿هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين﴾ أي هو جل وعلا الذي جعل السكون والطمأنينة في قلوب المؤمنين
﴿ليزدادوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾ أي ليزدادوا يقيناً مع يقينهم، وتصديقاً مع تصديقهم، برسوخ العقيدة في القلوب، والتوكل على علاَّم الغيوب
﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض﴾ أي وللهِ جلَّت عظمته كل جنود السموات والأرض، من الملائكة والجن، والحيوانات، والصواعق المدمّرة، والزلازل، والخسف والغرق، جنودٌ لا تُحصى ولا تُغلب، يسلطها على من يشاء قال ابن كثير: ولو أرسل عليهم ملكاً واحداً لأباد خضراءهم، ولكنه تعالى شرع لعباده الجهاد، لما له في ذلك من الحجة القاطعة والحكمة البالغة ولذلك قال
﴿وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً﴾ أي عليماً بأحوال خلقه، حكيماً في تقديره وتدبيره قال المفسرون: أراد بإِنزال السكينة في
202
قلوب المؤمنين
«أهل الحديبية» حين بايعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على مناجزة الحرب مع أهل مكة، بعد أن حصل لهم ما يزعج النفوس ويزيع القلوب، من صد الكفار لهم عن دخول مكة، ورجوع الصحابة دون بلوغ مقصود، فلم يرجع منه أحدٌ عن الإِيمان، بعد أن هاج الناس وماجوا، وزلزلوا حتى جاء عمر بن الخطاب إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: أنت نبيَّ الله حقاً؟ قال: بلى، قال ألسنا على الحق وعدوُّنا على الباطل؟ قال بلى، قال: فلم نعط الدنيَّة في ديننا إذن؟ قال إني رسول الله وليست أعصيه وهو ناصري.
. الخ.
﴿لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي ليدخلهم على طاعتهم وجهادهم حدائق وبساتين ناضرة، تجري من تحتها أنهار الجنة ما كثين فيها أبداً
﴿وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ أي يمحو عنهم خطاياهم وذنوبهم
﴿وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً﴾ أي وكان ذلك الإدخال في الجنات والتكفير عن السيئات، فوزاً كبيراً وسعادةً لا مزيد عليها، إذ ليس بعد نعيم الجنة نعيم
﴿وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات﴾ أي وليعذِّب الله أهل النفاق والإِراك، وقدَّمهم على المشركين لأنهم أعظم خطراً وأشر ضرراً من الكفار المجاهرين بالكفر
﴿الظآنين بالله ظَنَّ السوء﴾ أي الظانين بربهم أسوأ الظنون، ظنوا أن الله تعالى لن ينصر رسله والمؤمنين، وأن المشركين يستأصلونهم جميعاً كما قال تعالى
﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً﴾ قال القرطبي: ظنوا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يرجع إلى المدينة ولا أحدٌ من أصحابه حين خرج إلى الحديبية
﴿عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء﴾ دعاءٌ عليهم أي عليهم ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين من الهلاك والدمار
﴿وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ﴾ أي سخط تعالى عليهم بكفرهم ونفاقهم، وأبعدهم عن رحمته
﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً﴾ أي وهيأ لهم في الآخرة ناراً مستعرة هي نار جهنم، وساءت مرجعاً ومنقلباً لأهل النفاق والضلال
﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض﴾ تأكيد للانتقام من الأعداء أعداء الإسلام من الكفرة والمنافقين قال الرازي: كرر اللفظ لأن جنود الله قد يكون إِنزالهم للرحمة، وقد يكون للعذاب، فذكرهم أولاً لبيان الرحمة للمؤمنين وثانياً لبيان إِنزال العذاب عل الكافرين
﴿وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً﴾ أي عزيزاً في ملكه وسلطانه، حكيماً في صنعه وتدبيره قال الصاوي: ذكره هذه الآية أولاً في معرض الخلق والتدبير فذيَّلها بقوله
﴿عَلِيماً حَلِيماً﴾ [الأحزاب: ٥١] وذكرها ثانياً في معرض الانتقام فذيلها بقوله
﴿عَزِيزاً حَكِيماً﴾ وهو في منتهى الترتيب الحسن، لأنه تعالى ينزل جنوج الحرمة لنصرة المؤمنين، وجنود العذاب لإِهلاك الكافرين.. ثم امتن تعالى على رسوله الكريم بتشريفه بالرسالة، وبعثه إلى كافة الخلق فقال
﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾ أي: إنا أرسلناك يا محمد شاهداً على الخلق يوم القيامة، ومبشراً للمؤمنين بالجنة، ومنذراً للكافرين من عذاب النار
﴿لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾ أي أرسلنا الرسول لتؤمنوا أيها الناس بربكم ورسولكم حقَّ الإِيمان، إيماناً عن اعتقاد ويقين، لا يخالطه شك ولا ارتياب {
203
وَتُعَزِّرُوهُ} أي تُفخمو وتُعطِّموه
﴿وَتُوَقِّرُوهُ﴾ أي تحترموا وتجلُّوا أمره مع التعظيم والتكريم، والضمير فيهما للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
﴿وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ أي تسبحوا ربكم في الصباح والمساء، ليكون القلب متصلاً بالله في كل آن، ثم قال تعالى
﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ أي إن الذين يبايعونك يا محمد في الحديبية
«بيعة الرضوان» إِنما يبايعون في الحقيقة اللهَ، وهذا تشريفٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث جعل مبايعته بمنزل مبايعة الله، لأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سفيرٌ ومعبِّر عن الله قال المفسرون: المراد بالبيعة هنا بيعة الرضوان بالحديبية، حين بايع الصحابة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الموت كما روى الشيخان عن سلمة ابن الأكوع أنه قال:
«بايعنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الموت» وسميت
«بيعة الرضوان» لقول الله فيها
﴿لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة﴾ [الفتح: ١٨]
﴿يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ قال ابن كثير: أي هو تعالى حاضر معهم، يسمع أقوالهم، ويرى مكانهم، ويعلم ضمائرهم وظاهرهم، فهو تعالى المبايع بواسطة رسول الله صلى لله عليه وسلم وقال الزمخشري: يريد أن يد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التي تعلو أيدي المبايعين هي يدُ الله، والمعنى أن من بايع الرسول فقد بايع الله كقوله تعالى
﴿مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله﴾ [النساء: ٨٠]
﴿فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ﴾ أي فمن نقض البيعة فإنما يعود ضرر نكثه عليه، لأنه حرم نفسه الثواب وألزمها العقاب بنقضه العهد والميثاق الذي عاهد به ربه
﴿وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله﴾ أو ومنْ وفَّى بعهده
﴿فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ أي فسيعطيه الله ثواباً جزيلاً، وهو الجنة دار الأبرار
﴿سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب﴾ أي سيقول لك يا محمد المنافقون الذين تخلفوا عن الخروج معك عام الحديبية من أعراب المدينة
﴿شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فاستغفر لَنَا﴾ أي شُغلنا عن الخروج معك الأموال والأولاد، فاطلب لنا من الله المغفرة، لأن تخلفنا لم يكن باختيار بل عن اضطرار قال في التسهيل: سمَّاهم تعالى بالمخلَّفين لأنهم تخلَّفوا عن غزوة الحديبية، والأعراب هم أهل البوادي من العرب لما خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى مكة يعتمر، رأوا أنه يستقبل عدواً كثيراً من قريش وغيرهم فقعدوا عن الخروج معه، ولم يكن إيمانهم متمكناً فظنوا أنه لا يرجع هو والمؤمنون من ذلك السفر، ففضحهم الله في هذه السورة وأعلمَ تعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم، وأعلمه أنهم كاذبون في اعتذارهم
﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ اي يقولون خلاف ما يبطنون وهذا هو النفاق المحض، فهم كاذبون في الاعتذاروطلب الاستغفار، لأنهم قالوه رياءً من غير صدقٍ ولا توبة
﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً﴾ ؟ أي قل لهم: مَن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه، إِن أراد أن يُلحق بكم أمراً يضركم كالهزيمة، أو أمراً ينفعكم كالنصر والغنيمة؟ قال القرطبي: وهذا ردٌ عليهم حين ظنوا ان التخلف عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدفع عنهم الضرُّ، ويُعجل لهم النفع
﴿بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ أي ليس الأمر كما زعمتم بل الله مطلع على ما في قلوبكم من الكذب والنفاق، ثم أظهر تعالى ما يخفونه في نفوسهم فقال {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن
204
لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً} أي بل ظننتم أيها المنافقون أن محمداً وأصحابه لن يرجعوا إلى المدينة أبداً
﴿وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ أي وزُيّن ذلك الضلال في قلوبكم
﴿وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء﴾ أي ظننتم أنهم يُسْتأصلون بالقتل، ولا يرجع منهم أحد
﴿وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً﴾ أو وكنتم قوماً هالكين عند الله، مستوجبين لسخطه وعقابه
﴿وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله وَرَسُولِهِ﴾ لما بيَّن حال المتخلفين عن رسول الله، وبيَّن حال ظنهم الفاسد، وأنه يفضي بصاحبه إلى الكفر، حرَّضهم على الإِيمان والتوبة على سبيل العموم والمعنى من لم يؤمن بالله ورسوله بطريق الإِخلاص والصدق
﴿فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً﴾ أي فإِنَّا هيأنان للكافرين ناراً شديدة مستعرة، وهو وعيدٌ شديد للمنافقين
﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ أي له جل وعلا جميع ما في السموات والأرض، يتصرف في الكل كيف يشاء
﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ﴾ أي يرحم من يشاء من عباده ويُعذب من يشاء، وهذا قطع لطمعهم في استغفار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهم
﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ أي واسع المغفرة عظيم الرحمة
﴿سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا﴾ أي سيقول الذين تخلَّفوا عن الخروج مع رسول الله في عمرة الحديبية، عند ذهابكم إلى مغانم خيبر لتحصلوا عليها
﴿ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ﴾ أي اتركونا نخرج معكم إلى خيبر لنقاتل معكم
﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله﴾ أي يريدون أن يُغيّروا وعد الله الذي وعده لأهل الحديبية من جعل غنائم خيبر لهم خاصة لا يشاركهم فيها أحد قال القرطبي: إن الله تعالى جعل لأهل الحديبية غنائم خيبر عوضاً عن فتح مكة إذ رجعوا من الحديبية على صلح
﴿قُل لَّن تَتَّبِعُونَا﴾ أي قل لهم لا تتبعونا فلن يكون لكم فيها نصيب
﴿كذلكم قَالَ الله مِن قَبْلُ﴾ أي كذلكم حكم الله تعالى بأن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية، ليس لغيرهم فيها نصيب قبل رجوعنا منها
﴿فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا﴾ أي فسيقولون ليس هذا من الله بل هو حسد منكم لنا على مشاركتكم في الغنيمة، قال تعالى ردّاً عليهم
﴿بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي لا يفهمون إِلا فهماً قليلاً وهو حرصهم على الغنائم وأمور الدنيا
﴿قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ أي قل لهؤلاء الذين تخلفون عن الحديبية كرَّر وصفهم بهذا الإِسم إظهاراً لشناعة ومبالغةً في ذمهم ستُدعون إلى حرب قوم أشداء، هم بنو حنيفة قوم مسليمة الكذاب أصحاب الردة
﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ أي إما أن تقتلوهم أو يدخلوا في دينكم بلا قتال
﴿فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً﴾ أي فإِن تستجيبوا وتخرجوا لقتالهم يعطكم الله الغنيمة والنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة
﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ أي وإن تتخلفوا عن الخروج كما تخلفتم زمن الحديبية، يعذبكم اللهُ عذاباً شديداً مؤلماً في نار جهنم.
. ثم ذكر تعالى الأعذار في ترك الجهاد فقال
﴿لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ﴾ أي ليس على هؤلاء إِثم أو ذنب في ترك الخروج للجهاد لما بهم من الأعذار الظاهرة
﴿وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي من يطع أمر الله وأمر الرسول يدخله جنات النعيم خالداً فيها
﴿وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً﴾ أي ومن ينكل عن الجهاد لغير عذر يعذبه الله عذاباً شديداً، في الدنيا بالمذلة وفي الآخرة بالنار.
205
المنَاسَبَة: لمَّا ذكر تعالى حال المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ن، ذكر تعالى حال المؤمنين المجاهدين الذين بايعوا الرسول
«بيعة الرضوان» تسجلاً لرضى الله تعالى عنهم، وتخليداً لمآثرهم الكريمة، وختم السورة الكريمة بالثناء على الصحابة الأبرار، بأبلغ ثناء وأكرم تمجيد.
اللغَة:
﴿أَظْفَرَكُمْ﴾ أظهركم وأعلاكم، طفر بالشيء غلب عليه، وأظفره غلبه
﴿مَعْكُوفاً﴾ محبوساً ومنه الاعتكاف
﴿مَّعَرَّةٌ﴾ المعرَّة: العيب والمشقة اللاصقة بالإِنسان من العُرِّ وهو الجرب
﴿تَزَيَّلُواْ﴾ تميَّزوا
﴿الحمية﴾ الأنفة والغضب الشديد
﴿سِيمَاهُمْ﴾ علامتهم
﴿شَطْأَهُ﴾ الشطء: الفراخ قال الجهوري: شطءُ الرزع والنبات فراخُه والجمع أشطاء
﴿آزَرَهُ﴾ قوَّاه وأعانه وشدَّه.
206
سَبَبُ النّزول: عن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن ثمانين من أهل مكة هبطوا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من التنعيم مستلحين يريدون الغدر به وبأصحابه فأخذناهم أسرى فأنزل الله تعالى
﴿وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ... ﴾ الآية.
التفسِير:
﴿لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة﴾ اللام موطئة لقسم محذوف وأي والله لقد رَضِيَ اللَّهُ عَنْ المؤمنين حين بايعوك يا محمد
«بيعة الرضوان» تحت ظل الشجرة بالحديبية قال المفسرون: كان سبب هذه البيعة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما بلغ الحديبية أرسل عثمان بن عفان إلى أهل مكة يخبرهم أنه إِنما جاء معتمراً، وأنه لا يريد حرباً، فلما ذهب عثمان حبسوه عندهم، وجاء الخبر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن عثمان قد قتل، فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الناس إلى البيعة على أن يدخلوا مكة حرباً، وبايعوه على الموت، فكانت بيعت الرضوان، فلما بلغ المشركين ذلك أخذهم الرعب وأطلقوا عثمان وطلبوا الصلح من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أن يأتي في العام القابل، ويدخلها وقيم فيها ثلاثة أيام، وكانت هذه البيعة تحت شجرة سمرة بالحديبية وقد سميت
«بيعة الرضوان» ولما رجع المسلمون يعلوهم الحزنُ والكآبة، أراد الله تسليتهم وإِذهاب الحزن عنهم فأنزل الله هذه السورة على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد مرجعه من الحديبية
﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً﴾ [الفتح: ١] وكان عدد الذين بايعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألفاً وأربعماةئ رجل، وفيهم نزلت الآية الكريمة
﴿لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة﴾ ولم يتخلف عن البيعة إلا
«الجد بن قيس» من المنافقين، وحضر هذه البيعة روح القدس جبريل الأمين، ولهذا سُطرت في الكتاب المبين
﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أي فعلم تعالى ما في قلوبهم من الصدق والوفاء، عند مبايعتهم لك على حرب الأعداء
﴿فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ﴾ أي رزقهم الطمأنينة وسكون النفس عند البيعة
﴿وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً﴾ أي وجازاهم على بيعة الرضوان بفتح خيبر، وما فيها من النصر والغنائم، زيادةً على ثواب الآخرة
﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا﴾ أي وجعل لهم الغنائم الكثيرة التي غنموها من خيبر قال ابن كثير: هو ما أجرى الله عَزَّ وَجَلَّ على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير والعامِّ بفتح خبير، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى
﴿وَكَان الله عَزِيزاً حَكِيماً﴾ أي غالباً على أمره، حكيماً في تدبيره وصعنه، ولهذا نصركم عليهم وغنَّمكم أرضهم وديارهم وأموالهم
﴿وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا﴾ أي وعدكم الله معشر المؤمنين على جهادكم وصبركم الفتوحات الكثيرة، والغنائم الوفيرة تأخذونها من أعدائكم، قال ابن عباس: هي المغانم التي تكون إلى يوم القيامة قال في البحر: ولقد اتَّسع نطاق الإِسلام، وفتح المسلمون فتوحاً لا تُحصى، وغنموا مغانم لا تُعدُّ وذلك في شرق البلاد وغربها، حتى في الهند
207
والسودان تصديقاً لوعده تعالى وقدم علينا أحد ملوك غانة من بلاد التكرور، وقد فتح أكثر من خمسة وعشرين مملكة من بلاد السودان، وأسلموا معه وقدم علينا ببعض ملوكهم يحج معه
﴿فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه﴾ أي فعجَّل لكم غنائم خيبر بدون جهد وقتال
﴿وَكَفَّ أَيْدِيَ الناس عَنْكُمْ﴾ أي ومنع أيدي الناس أن تمتد إِليكم بسوء فقال المفسرون: المراد أيدي أهل خبير وحلفائهم من بني أسد وغطفان، حين جاءوا لنصرتهم فقذف الله في قلوبهم الرغب
﴿وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ اي ولتكون الغنائم، وفتح مكة، ودخول المسجد الحرام علامة واضحة تعرفون بها صدق الرسول فيما أخبركم به عن الله
﴿وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾ أي ويهديكم تعالى إلى الطريق القويم، الموصل إلى جنات النعيم بجهادكم وإِخلاصكم قال الإِمام الفخر: والآية للإِشارة إلى أنَّ ما أعطاهم من الفتح والمغانم، ليس هو كل الثواب، بل الجزاء أمامهم، وإِنما هوي شيء عاجل عجَّله لهم لينتفعوا به، ولتكون آية لمن بعدهم من المؤمنين، تدل على صدق وعد الله في وصول ما وعدهم به كما وصل إِليكم
﴿وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا﴾ أي وغنيمةً أخرى يسَّرها لكم، لم تكونوا بقدرتكم تستطيعون عليها، ولكنَّ الله فضله وكرمه فتحها لكم، والمراد بها فتح مكة
﴿قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا﴾ أي قد استولى الله عليها بقدرته ووهبها لكم، فهي كالشيء المحاط به من جوانبه محبوسٌ لكم لا يفوتكم
﴿وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً﴾ أي قادراً على كل شيء، لا يعجزه شيء أبداً، فهو القادر على نصرة أوليائه، وهزم أعدائه قال ابن كثير: المعنى أي وغنميةً أخرى وفتحاً أخر معيناً، لم تكونوا تقدرون عليها، قد يسَّرها الله عليكم وأحاط بها لكم، فإنه تعالى يرزق عباده المتقين من حيث لا يحتسبون والمرادُ بها في هذه الآية
«فتح مكة» وهو أختيار الطبري
﴿وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأدبار﴾ تذكيرٌ لهم بنعمةٍ أخرى أي ولو قاتلكم أهل مكة ولم يقع الصلح بينكم وبينهم، لغلبوا وانهزموا أمامكم ولم يثبتوا
﴿ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ أي ثم لا يجدون من يتولّى أمرهم بالحفظ والرعاية، ولا من ينصرهم من عذاب الله
﴿سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ﴾ أي تلك طريقة الله وعادتُه التي سنَّها فيمن مضى من الأمم، من هزيمة الكافرين ونصر المؤمنين قال في البحر: أي سنَّ الله لأنبيائه ورسله سنة قديمة وهي قوله
﴿كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي﴾ [المجادلة: ٢١]
﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً﴾ أي وسنته تعالى لا تتبدَّل ولا تتغيَّر
﴿وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾ أي وهو تعالى بقدرته وتدبيره صرف أيدي كفار مكة عنكم كما صرف عنهم أيديككم بالحديبية التي هي قريبة من البلد الحرام قال ابن كثير: هذا امتنانٌ من الله تعالى على عباده المؤمنين، حين كفَّ أيدي المشركين عنهم، فلم يصل إليهم منهم سوء، وكفَّ أيدي المؤمنين عن المشركين فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام، بل
208
صان كلاً من الفريقين وأوجد بينهم صلحاً، فيه خيرة للمؤمنين وعاقبة لهم في الدنيا والآخرة
﴿مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ أي من بعد ما أخذتموهم أسارى وتمكنتم منهم قال الجلال: وذلك أن ثمانين من المشركين طافوا بعسكر المؤمنين ليصيبوا منهم، فأخذوا وأُتي بهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعفا عنهم وخلَّى سبيلهم، فكان ذلك بسبب الصلح وقال في التسهيل: وروي في سببها أن جماعةً من فتيان قريش خرجوا إلى الحديبية، ليصيبوا من عسكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فبعث إليهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خالد بن الوليد في جمناعةٍ من المسلمين فهزموهم وأسروا منهم قوماً، وساقوهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأطلقهم، فكفَّ أيدي الكفار هو هزيمتهم وأسرهم، وكفُّ أيدي المؤمنين عن الكفار هو إطلاقهممن الأسر وسلامتهم من القتل
﴿وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً﴾ أي هو تعالى بصير بأعمالكم وأحوالكم، يعلم ما فيه مصلحة لكم، ولذلك حجزكم عن الكافرين رحمةً بكم، وحرمةً لبيته العتيق لئلا تسفك فيه الدماء.. ثم ذكر تعالى استحقاق المشركين للعذاب والدمار فقال
﴿هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام﴾ أي هم كفار قريش المعتدون الذين كفروا بالله والرسول، ومنعوا المؤمنين عن دخول المسجد الحرام لأداء مناسك العمرة عام الحديبية
﴿والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ أي وصدُّوا الهدي أيضاً وهو ما يُهدى لبيت الله لفقراء الحرم معكوفاً أي محبوساً عن أن يبلغ مكانه الذي يذبح فيه وهو الحرم قال القرطبي: يعني قريشاً منعوا المسلمين من دخول المسجد الحرام عام الحديبية، حين أحرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أصحابه بالعمرة، ومنعوا الهدي وحبسوه عن أن يبلغ محله، وهذا كانوا لا يعتقدونه، ولكنه حملتهم الأنفة ودعتهم الحمية الجاهلية علىأن يفعلوا ما لا يعتقدونه ديناً، فوبخهم الله على ذلك وتوعَّدهم عليه، وأدخل الأنس على رسول الله ببيانه ووعده
﴿وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ﴾ أي ولولا أن في مكة رجالاً ونساءً من المؤمنين المستضعفين، الذين يخفون إِيمانهم خوفاً من المشركين
﴿لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ﴾ أي لا تعرفونهم بأعيانهم لاختلاطهم بالمشركين
﴿أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي كراهة أن توقعوا بهم وتقتلوا منهم دون علم منكم بإِيمانهم، فينالكم بقتلهم إِثم وعيب وجواب
«لولا» محذوفٌ تقديره: لأذن لكم في دخول مكة، ولسلَّطكم على المشركين قال الصاوي: والجواب محذوف قدَّره الجلال بقوله: لأذِنَ لكم في الفتح، ومعنى الآية: لولا كراهة أن تُهلكوا أناساً مؤمنين بين أظهر الكفار، حال كونكم جاهلين بهم فيصيبكم بإِهلاكهم مكروه لما كفَّ أيديكم عنهم، ولأذن لكم في فتح مكة
﴿لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ﴾ أي إنما فعل ذلك ليخلّص المؤمنين من بين أظهر المشركين، وليرجع كثيرٌ منهم إلى الإِسلام قال القرطبي: أي لم يأذن الله لكم في قتال المشركين، ليُسلم بعد الصلح من قضى أن يُسلم من أهل مكة، وكذلك كان، أسلم كير منهم وحسن إِسلامُه، ودخلوا في رحمته وجنته
﴿لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ أي لو تفرقوا وتميَّز بعضهم عن
209
بعض، وانفصل المؤمنون عن الكفار، لعذبنا الكافرين منهم أشدَّ العذاب، بالقتل والسبي والتشريد من الأوطان
﴿إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الحمية﴾ أي حين دخل إلى قلوب الكفار الأنفة والكبرياء بالباطل، فرفضوا أن يكتبوا في كتاب الصلح
«بسم الله الرحمن الرحيم» ورفضوا أن يكتبوا
«محمد رسولُ الله» وقولهم: لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك ولكنْ اكتبْ اسمك واسم أبيك
﴿حَمِيَّةَ الجاهلية﴾ أي آنفةً وغطرسةً وعصبيةً جاهلية
﴿فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين﴾ أي جعل الطمأنينة والوقار في قلب الرسول والمؤمنين، ولم تلحقهم العصبية الجاهلية كما لحقت المشركين
﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى﴾ أي اختار لهم كلمة التقوى إِلزام تكريم وتشريف وهي كلمة التوحيد
«لا إله إلا الله» هذا قول الجمهور، والظاهر: أن المراد بكلمة التقوى هي أخلاصهم وطاعتهم لله ورسوله، وعدم شقّ ص الطاعة عندما كُتيبت بنود الصلح، وكانت مجحفةً بحقوق المسلمين في الظاهر، فثبَّت الله المؤمنين على طاعة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان في هذا الصلح كل الخير للمسلمين
﴿وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ أي وكانوا أحقَّ بهذه الفضيلة من كفار مكة، لأن الله اختارهم لدينه وصبحة نبيه
﴿وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾ أي عالما بمن هو أهل للفضل، فيخصه بمزيد من الخير والتكريم.
. ثم أخبر تعالى عن رؤيا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المنام وهي رؤيا حق لأنها جزء من الوحي فقال
﴿لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا بالحق﴾ اللام موطئة للقسم، و
«قد» للتحقيق أي والله لقد جعل الله رؤيا رسوله صادقة محققه لم يدخلها الشيطان لأنها رؤيا حق قال المفسرون: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد رأى في منامه أنه دخل مكة هو وأصحابه وطافوا بالبيت، ثم حلق بعضهم وقصَّر بعضهم، فحدَّث بها أصحابه ففرحوا واستبشروا، فلما خرج إلى الحديبية مع الصحابة، وصدَّه المشركون عن دخول مكة، وقع ما وقع من قضية الصلح، ارتاب المنافقون وقالوا: واللهِ ما حلقنا ولا قصَّرنا ولا رأينا البيت، فأين هي الرؤيا؟ ووقع في نفوس بعض المسلمين شيء فنزلت الآية
﴿لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا بالحق﴾ فأعلم تعالى أن رؤيا رسوله حقٌّ، وأنه لم يكذب فيما رأى، ولكنه ليس في الرؤيا أنه يدخلها عام ستٍ من الهجرة، وإِنما اراه مجرد صورة الدخول، وقد حقق الله له ذلك بعد عام فذلك قوله تعالى
﴿لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله﴾ أي لتدخلن يا محمد أنت وأصحابك المسجد الحرام بمشيئة الله
﴿آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ﴾ أي تدخلونها آمنين من العدو، تؤدون مناسك العمرة ثم يحلق بعضكم رأسه، ويقصِّر بعض
﴿لاَ تَخَافُونَ﴾ أي غير خائفين، وليس فيه تكرارٌ لان المراد آمنين وقت دخولكم، وحال المكث، وحال الخروج {فَعَلِمَ مَا لَمْ
210
تَعْلَمُواْ} أي فعلم تعالى ما في الصلح من الحكمة والخير والمصلحة لكم ما لم تعلموه أنتم قال ابن جزي: يريد ما قدَّره تعالى من ظهور الإِسلام في تلك المدة، فإِنه لما انعقد الصلح وارتفعت الحرب، رغب الناس في الإِسلام، فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في غزوة الحديبية في ألف وأربعمائة، وغزا
«غزوة الفتح» بعدها بعامين ومعه عشرة آلاف
﴿فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً﴾ أي فجعل قبل ذلك فتحاً عاجلاً لكم وهو
«صلح الحديبية» وسُمي فتحاً لما ترتَّب عليه من الآثار الجليلة، والعواقب الحميدة، ولهذا روى البخاري
«عن البراء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:» تعدُّون أنتم الفتح
«فتح مكة» وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعدُّ الفتح
«بيعة الرضوان» يوم الحديبية.. «الحديث
﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق﴾ أي هو جلَّ وعلا الذي أرسل محمداً بالهداية التامة الشاملة الكاملة، والدين الحق المستقيم دين الإِسلام
﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ أي لعيليه على جميع الأديان، ويرفعه على سائر الشرائع السماوية
﴿وكفى بالله شَهِيداً﴾ اي وكفى بالله شاهداً على أن محمداً رسوله.
. ثم أثنى تعالى على أصحاب رسول الله بالثناء العاطر، وشهد لرسوله بصدق الرسالة فقال
﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله﴾ أي هذا الرسول المسمَّى محمداً هو رسولُ الله حقاً لا كما يقول المشركون
﴿والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ﴾ أي وأصحابه الأبرار الأخيار غلاظٌ على الكفار متراحمون فيما بينهم كقوله تعالى
﴿أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين﴾ [المائدة: ٥٤] قال أبو السعود: أي يظهرون لمن خالف دينهم الشدة والصلابة، ولمن وافقهم في الدين الرحمة والرأفة قال المفسرون: وذلك لأن الله أمرهم بالغلظة عليهم
﴿وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ [التوبة: ١٢٣] وقد بلغ من تشديدهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تمسَّ أبدانهم، وكان الواحد منهم إِذا رأى أخاه في الدين صافحه وعانقه
﴿تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً﴾ أي تراهم أيها السامع راكعين ساجدين من كثرة صلاتهم وعبادتههم، رهباتٌ بالليل أسودٌ بالنهار
﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً﴾ أي يطلبون بعبادتهم رحمة الله ورضوانه قال ابن كثير: وصفه بكثرة الصلاة وهي خير الأعمال، ووصفهم بالإِخلاص لله عَزَّ وَجَلَّ والاحتساب عنده بجزيل الثواب، وهو الجنة المشتملة على فضل الله ورضاه
﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود﴾ أي علامتهم وسمتُهم كائنة في جباههم من كثرة السجود والصلاة قال القرطبي: لاحت في وجوههم علامات التهجد بالليل وأمارات السهر، قال ابن جريج: هو الوقار والبهاء، وقال مجاهد: هو الخشوع والتواضع، قال منصور سألت مجاهداً عن قوله تعالى
﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ﴾ أهو أثرٌ يكون بين عيني الرجل؟ قال: لا، ربما يكون بين عيني الرجل مثل ركبة العنز وهو أقسى قلباً من الحجارة، ولكنه نورٌ في وجوههم من الخشوع
﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة﴾ أي ذلك وصفهم في التوراة: الشدة على الكفار، والرحمة بالمؤمنين، وكثرة الصلاة والسجود {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ
211
أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أي ومثلهم في الإِنجيل كزرعٍ أخرج فراخه وفروعه
﴿فَآزَرَهُ فاستغلظ﴾ أي فقوَّاه حتى صار غليظاً
﴿فاستوى على سُوقِهِ﴾ أي فقام الرزع واستقام على أصوله
﴿يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار﴾ أي يعجب هذا الزرع الزراع، بقوته وكثافته وحسن منظره، ليغتاظ بهم الكفار قال الضحّاك: هذا مثل في غاية البيان، فالزرع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والشطءُ أصحابُه، كانوا قليلاً فكثروا، وضعفاء فقووا، وقال القرطبي: وهذا مثلٌ ضربه الله تعالى لأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعني أنهم يكونون قليلاً ثم يزدادون ويكثرون، فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين بدأ بالدعوة ضعيفاً، فأجابه الواحد بعند الواحد حتى قوي أمره، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفاً فيقوى حالاً بعد حال حتى يغلظ نباته، وأفراخه، فكان هذا من أصح مثل وأقوى بيان
﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ أي وعدهم تعالى بالآخرة بالمغفرة التامة والأجر العظيم والرزق الكريم في جنات النعيم، اللهم أرزقنا مجبتهم يا رب العالمين.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الطباق بين
﴿مَا تَقَدَّمَ.. وَمَا تَأَخَّرَ﴾ وبين
﴿وَمُبَشِّراً.. وَنَذِيراً﴾ وبين
﴿بُكْرَةً.. وَأَصِيلاً﴾ وبين
﴿نَّكَثَ.. وأوفى﴾ وبين
﴿أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً﴾ [الفتح: ١١] وبين
﴿يَغْفِرُ.. وَيُعَذِّبُ﴾ وبين
﴿مُحَلِّقِينَ.. وَمُقَصِّرِينَ﴾ وبين
﴿أَشِدَّآءُ.. ورُحَمَآءُ﴾.
٢ - المقابلة بين
﴿لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ..﴾ [الفتح: ٥] الآية وبين
﴿وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات﴾ [الفتح: ٦] ألآية.
٣ - الاستعارة التصريحية المكنية
﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: ١٠] شبَّه المعاهدة على التضحية بالأنفس في سبيل الله طلباً لمرضاته بدفع السِّلع في نظير الأموال، واستعير اسم المشَّبه به للمشبه واشتق من البيع يبايعون بمعنى يعاهدون على دفع أنفسهم في سبيل الله، والمكنية في قوله
﴿يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ شبَّه اطلاع الله على مبايعتهم ومجازاته على طاعتهم بملكٍ وضع يده على يد أميره ورعيته، وطوى ذكر المشبَّه به ورمز له بشيء من لوازمه وهو اليد على طريق الاستعارة المكنية، ففي الآية استعارتان.
٤ - الكناية
﴿لَوَلَّوُاْ الأدبار﴾ كناية عن الهزيمة لأن المنهزم يدير ظهره لعوده للهرب.
٥ - التعبير بصيغة المضارع لاستحضار صورة المبايعة
﴿لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ..﴾.
٦ - الالتفات من ضمير الغائب إلى الخطاب
﴿وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ﴾ بعد قوله تعالى
﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ﴾ وذلك لتشريف المؤمنين في مقام الامتنان.
٧ - الإِطناب بتكرار الحرج
﴿لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ﴾ [الفتح: ١٧] لتأكيد نفي الإِثم عن أصحاب الأعذار.
٨ - التشبيه التمثيلي
﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ..﴾ الآية لأن وجه الشبه منتزعٌ من متعدد.
٩ - مراعاة الفواصل في نهاية الآيات وهو من المحسنات البديعية.
212