تفسير سورة الفتح

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً﴾ هو فتح مكة، وقيل الحديبية.
وقيل: خيبر
﴿لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ﴾ بسبب جهادك الكفار ﴿مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾ خطاب للرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ والمراد به أمته. لأنه معصوم من الذنوب حتماً بعد النبوة، مطهر منها، بعيد عنها قبل النبوة ﴿وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ بتوالي الفتوح وإخضاع من تجبر، وطاعة من استكبر ﴿وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾ يثبتك على الهدى؛ إلى أن يقبضك عليه
﴿وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً﴾ كبيراً عظيماً؛ لا ذل بعده
﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ﴾ الطمأنينة ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ﴾ من الملائكة ﴿وَالأَرْضِ﴾ من الإنس والجن ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً﴾ بخلقه ﴿حَكِيماً﴾ في صنعه
﴿لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ﴾ أي إن إنزال السكينة: سبب في ازدياد الإيمان. وازدياد الإيمان: سبب في دخول الجنان ﴿وَيُكَفِّرَ﴾ يمحو ﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾ الدخول في الجنان. والقرب من الرحمن، وتكفير السيئات، وجزاء الحسنات ﴿فَوْزاً عَظِيماً﴾ ظفراً بكل مطلوب، ونجاة من كل مرهوب
﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ﴾ أي ﴿أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ليزيدهم ثباتاً وإقداماً، و ﴿لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً﴾ بمصابرتهم على الجهاد، ومزيد يقينهم، وانتصارهملله ورسوله؛ وليعذب المنافقين بالذل، والأسر، والقتل؛ في الدنيا. وبالجحيم، والعذاب الأليم في الآخرة؛ بسبب نفاقهم وكفرهم ﴿الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ وذلك أنهم ظنوا أن الله تعالى لن ينصر محمداً كما وعده، ولن يدخله مكة ظافراً ﴿عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ﴾
الخزي والعذاب
﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً﴾ على أمتك؛ بل على سائر الأمم ﴿وَمُبَشِّراً﴾ من أطاعك وآمن بالجنة ﴿وَنَذِيراً﴾ لمن عصاك بالنار
﴿وَتُعَزِّرُوهُ﴾ تنصروه. وقرىء «وتعززوه» ﴿وَتُوَقِّرُوهُ﴾ تحترموه. والتوقير: نهاية الإجلال والاحترام ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ الضمير في التعزير، والتوقير؛ للرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه. والتسبيحلله تعالى. وقيل: الضمير في الكللله جل شأنه ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ صباحاً ومساء. والبكرة: التبكير. والأصيل: ما بعد العصر إلى المغرب؛ وهو كقوله تعالى: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾
﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ يريد تعالى أن يد الرسول التي تعلو أيدي المبايعين: هي يدالله؛ لأن الله تعالى منزه عن الجوارح، وعن صفات الأجسام. والمعنى: أن من بايع الرسول فقد بايعالله؛ كقوله تعالى: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ أو يكون المعنى: يد الله في العطاء، فوق أيديهم في الوفاء. ويده في المنة، فوق أيديهم في الطاعة.
وقد ذهب المجسمة - أخزاهم الله تعالى - إلى أنلله جل شأنه من الجوارح ما للإنسان. وأن كل ما في القرآن من صفاته تعالى: على ظاهرها: كاليد، والرجل، والعين، والأذن، والقيام، والجلوس، والمشي، وغير ذلك. وهو قول أجمع السلف الصالح على بطلانه، وفساده. ونرى تكفير قائله: لاستهانته بقدر مولاه سبحانه وتعالى ﴿وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ﴿فَمَن نَّكَثَ﴾ نقض البيعة ﴿فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ لأن إثم نقضه يعود عليه، ويعاقب بسببه
﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ﴾ وهم الذين تخلفوا عن الجهاد ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ أي لم تشغلهم الأموال والأهل؛ بل شغلهم الجبن والخوف، ولم يطلبوا الاستغفار، رغبة في الاعتذار؛ بل أرادوا به النفاق، وهم كاذبون في استغفارهم، كافرون في قرارة نفوسهم ﴿إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً﴾ فهل يستطيع أحد أن يدفعه؟ ﴿أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً﴾ فهل يستطيع أحد أن يمنعه؟
﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ﴾ لن يرجع ﴿الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ من القتال ﴿إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً﴾ بل إنهم يستأصلون بالقتل والتشريد ﴿ظَنَنْتُمْ﴾ بالله ﴿ظَنَّ السَّوْءِ﴾ وأنه لن ينصر رسله ﴿وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً﴾ أي هلكى
﴿فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا﴾ أعددنا وهيأنا
﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَتِ وَالأَرْضِ﴾ وما فيهما، ومن فيهما ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ﴾ أي إنه تعالى غني عن عباده؛ يثيب من آمن، ويعذب من كفر ﴿وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾
﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ﴾ الذين تخلفوا عن الجهاد لنفاقهم
﴿إِذَا انطَلَقْتُمْ﴾ في جهادهم ﴿إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا﴾ هي مغانم خيبر ﴿ذَرُونَا﴾ دعونا ﴿نَتَّبِعْكُمْ﴾ في أخذ هذه المغانم ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ﴾ وعده لأهل الحديبية؛ وقد وعدهم غنائم خيبر خاصة؛ عوضاً عن فتح مكة؛ إذ رجعوا من الحديبية على صلح، ولم يفوزوا منها بغنيمة. وقيل: ﴿يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ﴾ يغيروه؛ وقد قال: ﴿فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً﴾
-[٦٣٠]- ﴿فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا﴾ أي لم يقل الله ذلك؛ بل تحسدوننا أن نصيب معكم من الغنائم؛ وقد أراد الله تعالى أن يعطي المنافقين فرصة أخيرة تؤمنهم عذابه، وتجنبهم غضبه، وتدنيهم من رحمته: فقال لرسوله عليه الصلاة والسلام
﴿قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ﴾ الذين تخلفوا عن الجهاد ﴿سَتُدْعَوْنَ إِلَى﴾ محاربة ﴿قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ أصحاب قوة عظيمة. قيل: هم بنو حنيفة. وقيل: فارس والروم ﴿تُقَاتِلُونَهُمْ﴾ فتقتلونهم وتأسرونهم ﴿أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ فتمسكوا عن قتالهم وأسرهم، ويكون لهم ما للمسلمين: من تكريم وإعظام ﴿فَإِن تُطِيعُواْ﴾ الله والرسول في جهادكم حال كفرهم، وتكريمهم حال إسلامهم ﴿يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً﴾ النصر والغنيمة في الدنيا. والجنة وحسن الثواب في الآخرة ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ﴾ تعرضوا عن الجهاد ﴿كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ﴾ وتخلفتم ﴿يُعَذِّبْكُمْ﴾ الله ﴿عَذَاباً أَلِيماً﴾ في الدنيا بالذلة والمهانة، وفي الآخرة بالجحيم، والعذاب الأليم
﴿لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ﴾ في التخلف عن الجهاد؛ لأذن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها
﴿وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ﴾ الذي لا يستطيع الجهاد لمرضه ﴿حَرَجٌ﴾ أيضاً في التخلف. هذا ولا يسمى الصداع، أو الحكة، أو ما شابههما، مرض يعوق عن الفريضة العظمى: التي ترفع الرؤوس، وتحفظ النفوس، وتصون الديار، وتحمي الذمار وإنما المرض العائق، الداعي للتخلف: هو ما يمكن الخصم من النيل منك، ويمنعك من الدفاع عن نفسك: كالعمى، والعرج، والمرض الذي يزيد الجهاد في وطأته، ويودي إلى التهلكة ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ ويجاهد في سبيله: يؤته في الدنيا عزة ورفعة، و ﴿يُدْخِلْهُ﴾ في الآخرة ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ ﴿نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ﴾ ﴿وَمَن يَتَوَلَّ﴾ يعرض عن الجهاد؛ فله جهنم وبئس المهاد
﴿لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ﴾ يعاهدونك بالحديبية: على الجهاد، وبذل النفس والنفيس؛ في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، وبسط دينه، ونصرة نبيه ﴿تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ هي سمرة كانوا يستظلون بها وقتذاك. وقد قطعها عمربن الخطاب رضي الله تعالى عنه؛ حين رأى - بعد رفع الرسول عليه الصلاة والسلام - طواف المسلمين بها، وتعظيمهم لها؛ وهم حديثو عهد بالجاهلية وعبادة الأصنام ﴿فَعَلِمَ﴾ الله تعالى ﴿مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ من الإيمان، والصدق، والوفاء ﴿فَأنزَلَ السَّكِينَةَ﴾ الطمأنينة ﴿وَأَثَابَهُمْ﴾ جازاهم ﴿فَتْحاً قَرِيباً﴾ نصراً عاجلاً؛ اطمأنت به قلوبهم: وهو فتح خيبر؛ عند انصرافهم من الحديبية
﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا﴾ بعد ذلك؛ من فارس والروم. أو هي مغانم خيبر: وقد غنموا منها أموالاً وعقاراً، وعتاداً. و
﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ﴾ أيضاً ﴿مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا﴾ غير هذه المغانم ﴿فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ﴾ لتطمئن قلوبكم
-[٦٣١]- ﴿وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ﴾
بأن قذف في قلوب اليهود الرعب؛ فلم يحاربوكم، ولم يمسوا أموالكم ولا أهليكم بالمدينة عند خروجكم إلى خيبر والحديبية ﴿وَلِتَكُونَ﴾ هذه الغنائم المعجلة ﴿آيَةً﴾ علامة ﴿لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ على صدق وعد الله تعالى؛ وليعلموا أن الله تعالى قد حرسهم في مشهدهم ومغيبهم ﴿وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾ هو طريق الطاعة الموصل إلى مرضاته تعالى
﴿وَأُخْرَى﴾ أي ومغانم أخرى ﴿لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا﴾ أي ما كان لكم أن تقدروا عليها؛ لولا نصره تعالى ومعونته؛ وهي مغانم هوازن. وقيل: فارس والروم؛ أو هما معاً ﴿قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا﴾ أي علم وقدر أنها ستكون لكم، وأقدركم عليها بفضله لا بقوتكم
﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ﴾ بالحديبية؛ ولم يصطلحوا ﴿لَوَلَّوُاْ الأَدْبَارَ﴾ لأن الله تعالى قد قضى بنصرتكم عليهم: محاربين أو مسالمين
﴿سُنَّةَ اللَّهِ﴾ أي سن الله تعالى سنة وطريقة؛ وهي إعزاز المؤمنين، وإذلال الكافرين ﴿الَّتِي قَدْ خَلَتْ﴾ قد مضت
﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ﴾ فلم يقاتلوكم ﴿وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم﴾ فلم تقاتلوهم ﴿بِبَطْنِ مَكَّةَ﴾ بالحديبية ﴿مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ قيل: هبط ثمانون رجلاً؛ من أهل مكة: شاكي السلام؛ يريدون غرة المؤمنين والفتك بهم. فرآهم المؤمنون، وأمسكوهم بالأيدي. وبعد ذلك أمر النبي بإخلاء سبيلهم؛ وسموا بذلك العتقاء؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أعتقهم من القتل؛ وكان من بينهم معاوية وأبوه
﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ يعني قريشاً ﴿وَصَدُّوكُمْ﴾ منعوكم ﴿عَنِ﴾ بلوغ ﴿الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ عام الحديبية؛ وقد أحرم المؤمنون بعمرة ﴿وَالْهَدْيَ﴾ هو ما يهدى إلى الحرم من البُدُن ﴿مَعْكُوفاً﴾ محبوساً بفعل المشركين
﴿أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ مكانه الذي ينحر فيه عادة؛ وهو الحرم ﴿وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ﴾ موجودون بمكة مع المشركين؛ وهم المستضعفون ﴿لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ﴾ لم تعرفوهم، أو لم تعلموا إيمانهم ﴿أَن تَطَئُوهُمْ﴾ تقتلوهم خطأ مع الكفار ﴿مَّعَرَّةٌ﴾ إثم وعيب. أي لولا ذلك؛ لأن الله لكم في دخول مكة، والفتك بمن فيها. ولعل المراد ﴿وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ﴾ في أصلاب هؤلاء الكفار «لم تعلموهم» والله تعالى يعلمهم «أن تطئوهم» بقتل من هم في أصلابهم «بغير علم» منكم بما فعلتم. لولا ذلك لأذن الله تعالى لكم في قتلهم؛ وذلك ﴿لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ﴾ من هؤلاء الذراري المؤمنين ﴿لَوْ تَزَيَّلُواْ﴾ تفرقوا، وتميزوا عن الكفار، وخرجوا من أصلابهم إلى عالم الظهور ﴿لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ﴾ من أهل مكة، وأبحنا لكم فتحها وقتال من فيها
﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ﴾ الكبر والأنفة، والغلظة والعصبية
-[٦٣٢]- ﴿حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ وهي أنهم قالوا: لقد قتلوا أبناءنا وإخواننا؛ ثم يدخلون علينا في منازلنا؟ واللات والعزى لا يدخلنها أبداً ﴿فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ﴾ طمأنينته ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ هي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله وأضيفت إلى التقوى: لأنها سببها ﴿وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا﴾ أحق بكلمة التقوى؛ لأنهم سمعوها واتبعوها؛ فكانوا أحق بها من كفار مكة؛ الذين أصموا آذانهم عن استماعها، وقلوبهم عن قبولها ﴿وَأَهْلَهَا﴾ أي وكانوا أهل هذه الكلمة؛ المستوجبين لفضلها، الحائزين لشرفها
﴿لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ﴾ رأى رسولالله في المنام - عام الحديبية - أنه يدخل مكة هو وأصحابه: محلقين ومقصرين؛ فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا. وقد تحققت الرؤيا بفتح مكة (انظر آية ٦٠ من سورة الإسراء)
﴿لاَ تَخَافُونَ﴾ من أحد ﴿فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ﴾ أي فعلم من تأخير دخولكم مكة؛ ما لم تعلموه من الخير لكم، والصلاح لأحوالكم ﴿فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً﴾ أي جعل من قبل فتح مكة «فتحاً قريباً» عاجلاً؛ هو فتح خيبر
﴿لِيُظْهِرَهُ﴾ أي ليعلى الإسلام ﴿عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ على سائر الأديان
﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ﴾ إلينا؛ فضلاً من الله علينا (انظر آية ٤ من سورة القلم) ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ من المؤمنين ﴿أَشِدَّآءُ﴾ غلاظ أقوياء ﴿عَلَى الْكُفَّارِ﴾ وليست الغلظة والشدة من صفاتهم؛ بل هم ﴿رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ﴾ يرحم كبيرهم صغيرهم، ويوقر صغيرهم كبيرهم ﴿سِيمَاهُمْ﴾ علامتهم ﴿فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ هو نور الإيمان يلوح في وجه المصلي؛ فتراه كالبدر ليلة التمام - رغم رقة حاله، ورثاثة هيأته - فترى الزنجي الأسود - رغم فقره وقبحه - يتلألأ وجهه ضياء، ويزداد حسناً وبهاء؛ لملازمته الصلاة، وتذلله لمولاه وترى العاصي - رغم وجاهته وغناه - على وجهه غبرة، ترهقها قترة وما ذاك إلا لتركه الجماعة، وانصرافه عن الطاعة. ولا وجه لمن يقول: إن أثر السجود هو النكتة السوداء التي تحدث في وجوه البعض من أثر السجود على الحصير ونحوه؛ فمثل ذلك قد يحدث لكثير ممن يلازمون الصلاة، ويفرطون في جنب الله فكم من مصلٍ لا يأتمر بمعروف، ولا ينتهي عن منكر وكم من مصل يلغ في أعراض المؤمنين، ولا يتقي رب العالمين وكل هؤلاء لهم في جباههم من آثار السجود كركبة البعير أو أشد؛ وهم أبعد الناس عن مغفرةالله، وعن جنة الله ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ﴾ أي ذلك الوصف المذكور صفتهم ﴿فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ﴾ صفتهم ﴿فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ﴾ فراخه وورقه. يقال: أشطأ الزرع: إذا أفرخ ﴿فَآزَرَهُ﴾ قواه وأعانه ﴿فَاسْتَغْلَظَ﴾ غلظ وقوى ﴿فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ﴾ استقام على أصوله. وهذا مثل ضربه الله
-[٦٣٣]- تعالى للإيمان؛ حيث بدأ ضعيفاً، ثم قوي. عن عكرمة «أخرج شطأه» بأبي بكر «فآزره» بعمر «فاستغلظ» بعثمان «فاستوى على سوقه» بعلي؛ رضوان الله تعالى عليهم ﴿يُعْجِبُ﴾ هذا الزرع ﴿الزُّرَّاعَ﴾ وهم أصحاب محمد؛ الذين نصروا الدين ونشروه، وأيدوا دعوة الله باللسان والسنان ﴿لِيَغِيظَ﴾ الله تعالى ﴿بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ ويكبتهم.
632
سورة الحجرات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

633
Icon