تفسير سورة الفتح

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

تفسير سورة الفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

١ - ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ اختلفوا في سبب نزول هذه الآية، ومعنى هذا الفتح، فذهب الأكثرون إلى أن الآية نزلت في صلح الحديبية، والمراد بالفتح ذلك الصلح، وهو قول جابر والبراء وأنس (١) في رواية قتادة.
وروي ذلك مرفوعًا وهو أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما انصرف من الحديبية وأنزلت عليه هذه السورة قرأها على أصحابه فقال عمر: أوَفتحٌ هو يا رسول الله؟ فقال: "نعم، والذي نفسي بيده إنه لفتح" (٢).
وروي عن مسور بن مخرمة أنه قال: نزلت بين مكة والمدينة في شأن الحديبية من أولها إلى آخرها (٣)، وهو قول الشعبي، ومجاهد، وابن عباس (٤) في رواية الكلبي: قال كان فتحاً بغير قتال،
(١) أخرج ذلك البخاري عن أنس، انظر: "صحيح البخاري" كتاب: التفسير باب [١] ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ ٦/ ٤٣، وأخرجه الثعلبي عن جابر وعن البراء، انظر: "تفسيره" ١٠/ ١٣٢ ب، وانظر: "تفسير ابن عطية" ١٥/ ٨٦، "تفسير البغوي" ٧/ ٢٩٦، "البحر المحيط" ٨/ ٨٩.
(٢) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ٧٠ عن أبي وائل، وانظر: "تفسير الوسيط" ٤/ ١٣٣.
(٣) أخرج ذلك الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، انظر: "المستدرك" ٢/ ٤٥٩، و"لباب النقول" للسيوطي ص ١٩٣.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٧١، الماوردي ٥/ ٣٠٩، البغوي ٧/ ٢٩٦، "زاد المسير" ٧/ ٤١٩، "تنوير المقباس" ص ٥١١، "المغازي" للواقدي ٢/ ٦١٧.
279
والصلح من الفتح، واختاره الفراء، وقال: الفتح قد يكون صلحاً (١) فعلى قول هؤلاء معنى هذا الفتح هو صلح الحديبية، ومعنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق (٢). والصلح الذي حصل بينه وبين المشركين في ذلك اليوم كان مسدوداً عليه متعذراً حتى فتحه الله ذلك اليوم ويسره، ودخل بعد ذلك ناس كثير في الإسلام حتى قال جابر: ما كنا نعد فتح مكة إلا يوم الحديبية (٣)، وقال الشعبي: أصاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الوجه ما لم يصب في وجه، بويع بيعة الرضوان، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وظهرت الروم على فارس، وفرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس (٤).
وقال الزهري: ما كان في الإسلام فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر بهم سواد الإسلام (٥).
وقال الضحاك: فتحنا لك فتحاً بغير قتال، وكان الصلح من الفتح (٦).
وقال ابن عباس في رواية عطاء: اليهود شمتوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين
(١) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٦٤.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" (فتح) ٤/ ٤٥٥، "اللسان" (فتح) ٢/ ٥٣٩.
(٣) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ٧٠ عن جابر، ونسبه القرطبي ١٦/ ٢٦٠ لجابر، ونسبه في "الوسيط" ٤/ ١٣٣ لجابر.
(٤) ذكر ذلك الطبري في "تفسيره" ١٣/ ٧١، الماوردي ٥/ ٣٠٩، البغوي ٧/ ٢٩٦، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٤١٨، والقرطبي في "الجامع" ١٦/ ٢٦٠.
(٥) ذكر ذلك البغوي في "تفسيره" ٧/ ٢٩٦، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٤١٩، والقرطبي في "الجامع" ١٦/ ٢٦١، والمؤلف في "الوسيط" ٤/ ١٣٣.
(٦) ذكر ذلك البغوي في "تفسيره" ٧/ ٢٩٦ عن الضحاك، وكذلك ذكره القرطبي عن الضحاك ١٦/ ٢٦٠.
280
لما نزل قوله: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٩] وقالوا: كيف نتبع من لا يدري ما يفعل به ولا بمن آمن به وصدَّقه، واشتد ذلك على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ قال: يريد: قضينا لك قضاء واجباً (١)، ونحو هذا قال مقاتل في سبب النزول سواء (٢).
وقال أهل التفسير: قضينا لك قضاء مبيناً، يعني: الإسلام، وهو قول قتادة، واختاره الزجاج، وقال معناه: حكمنا لك بإظهار دين الإسلام والنصرة على عدوك (٣)، فهذا الفتح في الدين وهو الهداية إلى الإسلام ودليل ذلك قوله تعالى:
٢ - ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾، واختلفوا في الجالب لهذه اللام في (ليغفر) فالذين قالوا: هذا الفتح في الدين ومعناه الحكم له بالإسلام والهداية، تتعلق اللام بالفتح، لأن سبب مغفرة الذنب هو الدين والإسلام، فكأنه قال: هديناك للدين ليغفر لك، وهذا معنى قول الحسن (٤): فتح الله عليك الإسلام ليغفر لك الله، وأبي إسحاق. ومن ذهب إلى أن المراد بالفتح صلح الحديبية، ذكر في اللام وجوهاً أحدها: ما قال أبو حاتم: وهو أنه قال هذه اللام لام اليمين، كأنه قال ليغفرن الله لك،
(١) ذكر ذلك الثعلبي ونسبه لمقاتل بن سليمان، انظر: "تفسيره" ١٠/ ١٣٣ أ، ونسبه القرطبي ١٦/ ٢٥٩ للضحاك عن ابن عباس، وانظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٦٥، وذكره المؤلف في "أسباب النزول" ص ٤٠٣ عن عطاء عن ابن عباس.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٦٥.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ١٩.
(٤) انظر: "تفسير الثعلبي" ١٠/ ١٣٣ أ، "الدر المصون" ٦/ ١٥٩، "تفسير الوسيط" ٤/ ١٣٣.
281
فحذفت النون وكسرت اللام، فأشبهت في اللفظ لام كي (١) فنصبوا كما نصبوا بلام كي، واحتج بأن العرب تقول في التعجب: أطرف بزيد، فيجزمونه لشبهه بلفظ الأمر، قال ابن الأنباري: هذا الذي قاله أبو حاتم غلط، لأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها، ولو جاز أن يكون معنى (ليغفر): ليغفرن، لقلنا: ليقوم زيد بتأويل: والله ليقومن، وهذا معدوم في كلام العرب، وليس هذا بمنزلة: أطرف بزيد؛ لأن التعجب عدل به إلى لفظ الأمر، ولام القسم لم توجد مكسورة قط (٢).
ثم قال: سألت أبا العباس عن اللام في قوله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ﴾ فقال هي لام كي معناها: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً لكي يجتمع لك مع المغفرة [كا] (٣) تمام النعمة في الفتح، فلما انضم إلى المغفرة شيء حادث واقع حسن معنى كي (٤)، وقال ابن جرير وصاحب النظم: هذا مقتص من قوله: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ﴾ [النصر: ٣] أعلمه أنه إذا جاءه الفتح واستغفر غفر له (٥)، والقول ما قال أبو العباس.
وقوله: ﴿مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر﴾ قال مقاتل: يعني ما كان في الجاهلية وما تأخر بعد النبوة (٦).
(١) أورد ذلك الثعلبي في "تفسيره" ١٠/ ١٣٣ ب، وانظر: "تفسير الوسيط" ٤/ ١٣٤، "الدر المصون" ٦/ ١٥٩.
(٢) أورد ذلك القرطبي في "الجامع" ١٦/ ٢٦٢، والشوكاني في "فتح القدير" ٥/ ٤٤.
(٣) كذا في الأصل زيادة (كما) وليس لها معنى.
(٤) ذكره بنصه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٤٢٣، والمؤلف في "الوسيط" ٤/ ١٣٤.
(٥) انظر: "تفسير ابن جرير" ١٣/ ٦٨، "تفسير الثعلبي" ١٠/ ٣٣٣ أ.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٦٦.
282
وروي عن ابن عباس: أي ط كان عليك من إثم الجاهلية وما تأخر مما يكون، وهذا على طريقة من جوز الصغائر على الأنبياء (١).
وقال عطاء الخراساني: (ما تقدم من ذنبك) يعني: ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك، (وما تأخر) يعني: من ذنوب أمتك بدعوتك (٢)، وهذا القول يمكن توجيهه على بُعْد، وهو أن يحمل قوله (من ذنبك) على حذف المضاف بتقدير: من ذنب أبويك، ويحمل قوله (ما تأخر) على ذنوب أمته، ويبين هذا القول أنه لا ذنب له بعد النبوة، فإذا حكمنا ببراءته من الذنب، حمل الذنب المضاف إليه على الوجه الذي يصح وجوده وهو ما ذكرنا (٣).
وقال سفيان الثوري: ﴿مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ﴾ ما عملت في الجاهلية وما تأخر، يعني: ما لم تعمله (٤)، هذا كلامه، يقال على هذا ما لم يعمله كيف يوصف بأنه يغفره ولم يعمله بعد؟ والجواب: أن هذا يذكر على طريق التأكيد والإمكان، كما تقول: أعطى من رآه ومن لم يره، وضرب من لقيه ومن لم يلقه (٥)، وليس يمكن أن يضرب من لم يلقه ولا أن يعطيه، ولكنه يذكر تأكيداً للكلام على معنى: أنه كان يضربه إن أمكنه، كذلك في الآية غفر المتقدم والمتأخر لو وجد.
قوله تعالى: ﴿وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ قال ابن عباس: في الجنة وروي
(١) هذا بنصه في "تفسير الثعلبي" ١٠/ ١٣٣ أ، "تفسير البغوي" ٧/ ٢٩٧، "زاد المسير" ٧/ ٤٢٣، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٦٢.
(٢) ذكر ذلك الثعلبي ١٠/ ١٣٣ أ، البغوي ٧/ ٢٩٨، والقرطبي ١٦/ ٢٦٣.
(٣) ذكر ذلك الثعلبي ١٠/ ١٣٣ أ.
(٤) ذكر ذلك الثعلبي، والبغوي، والقرطبي، والمؤلف في "الوسيط"؛ المواضع السابقة.
(٥) ذكر ذلك البغوي في "تفسيره" ٧/ ٢٩٨.
283
عنه أي: بالنبوة والمغفرة، والمعنى: ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة والهداية إلى صراط مستقيم وهو الإسلام (١).
٣ - قوله تعالى: ﴿وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا﴾ قال ابن عباس ومقاتل: وينصرك الله على عدوك نصراً منيعاً فلا تستذل (٢)، وقال أبو إسحاق: معنى ﴿نَصْرًا عَزِيزًا﴾: نصراً ذا عز لا يقع معه ذل (٣) وحقيقة معناه: الغالب الممتنع فلا يغلب.
٤ - قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قال ابن عباس والمفسرون: هي الرحمة والطمأنينة والوقار (٤).
وقال أهل المعاني: هي البصيرة التي تسكن إليها النفس وتجد الثقة بها وهي للمؤمنين خاصة، وأما غيرهم فتنزعج نفوسهم لأول عارض يرد عليهم؛ لأنهم لا يجدون برد اليقين في قلوبهم (٥)، وهذا مما تقدَّم تفسيرُه [التوبة: ٢٦، ٤٠].
قوله تعالى: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ قال ابن عباس والمفسرون: تصديقًا مع تصديقهم ويقيناً مع يقينهم، يعني: بالشرائع وبما يأمرهم من
(١) انظر: "تفسير البغوي" ٧/ ٢٩٨ من غير نسبه، وذكر ابن الجوزي القولين ونسبهما لابن عباس ٧/ ٤٢٣، ونسبهما القرطبي لابن عباس ١٦/ ٢٦٣، ونسبهما في "الوسيط" لابن عباس، انظر ٤/ ١٣٤.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٦٦، "الجامع لأحكام القرآن" ذكره ولم ينسبه ١٦/ ٢٦٣، "تنوير المقباس" ص ٥١١.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٠.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٧١، "تفسير البغوي" ٧/ ٢٩٨، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٦٤، "تفسير الوسيط" ٤/ ١٣٥.
(٥) انظر: "تفسير الوسيط" ٤/ ١٣٥، "تفسير البغوي" ٧/ ٢٩٨، "فتح القدير" ٥/ ٤٥.
الفرائض كالصلاة والصيام والزكاة والحج، كلما صدقوا بشيء من ذلك ازدادوا تصديقاً، وذلك بالسكينه التي أنزلها الله في قلوبهم (١).
وقال الكلبي: كلما نزلت آية من السماء فصدقوا بها ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم (٢).
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال ابن عباس: يعني: الملائكة والجن والإنس والشياطين (٣)، ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا﴾ بما في قلوب عباده ﴿حَكِيمًا﴾ في حكمه وتدبيره.
٥ - قوله تعالى: ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الآية ذكر المفسرون أن رسول الله - ﷺ - لما قرأ على أصحابه قوله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ﴾ الآية، قالوا: هنيئاً لك يا رسول الله، فماذا لنا، فأنزل الله: ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (٤)، واللام في (ليدخل)
(١) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ٧٢ عن ابن عباس، ونسبه البغوي ٧/ ٢٩٨، والثعلبي ١٠/ ١٣٤ ألابن عباس، وذكره في "الوسيط" ٤/ ١٣٥ ولم ينسبه.
(٢) ذكر الثعلبي عن الكلبي: هذا في أمر الحديبية حين صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، انظر: "تفسيره" ١٠/ ١٣٤ أ، "تفسير البغوي" بهذا اللفظ أيضًا ٧/ ٢٩٨، ونسبه في "الوسيط" ٤/ ١٣٥ للكلبي بنص ما هنا.
(٣) أورد ذلك القرطبي ١٦/ ٢٦٤ عن ابن عباس، وذكره الشوكاني في "فتح القدير" من غير نسبة ٥/ ٤٦، ونسبه في "الوسيط" ٤/ ١٣٥ لابن عباس.
(٤) أخرج ذلك البخاري عن أنس، انظر: "صحيح البخاري"، كتاب المغازي باب (٣٥) غزوة الحديبية ٥/ ٦٦، وأخرجه البغوي في "شرح السنة" ١٤/ ٢٢٢، والترمذي عن أنس، انظر: "سنن الترمذي" كتاب: التفسير باب (٤٩) ومن سورة الفتح ٥/ ٣٨٥، وأخرجه الحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال الذهبي: أخرج مسلم أوله، انظر: "المستدرك" كتاب: التفسير سورة الفتح ٢/ ٤٥٩، وأخرجه المؤلف في "أسباب النزول" ص ٤٠٤.
متعلق بما يتعلق به اللام في قوله: (ليغفر) على البدل منه، وتكرر إنا فتحنا (١).
قوله: ﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾ أي: ذلك الوعد بإدخالهم الجنة ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي: في حكمه ﴿فَوْزًا عَظِيمًا﴾ لهم أي: الوعد من الله بإدخال المؤمنين الجنة فوز عظيم لهم في حكم الله، كأن الله تعالى حكم لهم بالفوز العظيم، فلذلك وعدهم إدخالها.
٦ - قوله تعالى: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: أي: من أهل المدينة والمشركين والمشركات من أهل مكة (٢)، وظاهر الكلام يدل على أن المراد بهذا العذاب: عذاب الدنيا بأيدي المؤمنين؛ لأن نصرة الرسول والفتح عليه يقتضي ذلك (٣) وإن حملنا الفتح على الهداية والبيان له في الدين، فذلك سبب عذاب المنافقين والمشركين، لأنه كما سعد بتصديقه المؤمنون فاستوجبوا المغفرة والجنة، شقي بتكذيبه المنافقون والمشركون فاستوجبوا العذاب والنار.
قوله: ﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ هو أنهم ظنوا أن محمداً لا ينصر، هذا قول أكثر المفسرين (٤)، وقال مقاتل: كان ظنهم: أنهم قالوا: واللات والعزى ما نحن وهو عند الله إلا بمنزلة واحدة (٥) حين نزل قوله: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ [الأحقاف: ١٩].
(١) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٧٣، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٦٤.
(٢) ذكر ذلك البغوي في "تفسيره" ٧/ ٢٩٩، ومقاشل في "تفسيره" ٤/ ٦٩، وأبو الليث في "تفسيره" ٣/ ٢٥٣، والمؤلف في "الوسيط" ٤/ ١٣٦.
(٣) انظر: "تفسير الوسيط" ٤/ ١٣٦.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٧٣، "تفسير البغوي" ٧/ ٢٩٩، "زاد المسير" ٧/ ٤٢٦، "تفسير الوسيط" ٤/ ١٣٦.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٦٩.
286
وقال أبو إسحاق: زعم الخليل وسيبويه أن معنى (السوء) هاهنا: الفساد، فالمعنى: الظانين باللهِ ظن الفساد، وهو ما ظنوا أن الرسول ومن معه لا يرجعون (١)، وذلك في قوله: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا﴾ الآية [آية: ١٢].
قوله: ﴿عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾ قال ابن عباس: عليهم يدور العذاب (٢).
وقال أبو إسحاق: أي: الفساد والهلاك يقع بهم (٣).
وقال أبو علي: عليهم دائرة السوء، أي: الذي أرادوه بالمسلمين وتمنوه لهم يقع بهم لا بالمسلمين (٤)، والكلام في تفسير (دائرة السوء) والقراءة فيه قد تقدم في سورة (٥) براءة [آية: ٩٨].
قال مقاتل: فلما نزلت هذه الآية، قال عبد الله بن أُبي والمنافقون: يزعم محمد أن الله ينصره على عدوه هيهات هيهات، لقد بقي له من العدو أكثر وأكثر، فإن أهل فارس والروم وهم أكثر عدداً وأشد بأساً، ولن يظهر
(١) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٠.
(٢) ورد هذا المعنى من غير نسبة عند الطبري في "تفسيره" ١٣/ ٧٣، الثعلبي ١٠/ ١٣٤ ب، البغوي ٧/ ٢٩٩، والمؤلف في "الوسيط" ٤/ ١٣٦.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢١.
(٤) انظر: "الحجة" لأبي علي الفارسي ٦/ ٢٠١.
(٥) اختلفوا في ضم السين وفتحها من قوله تعالى: ﴿دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾ [التوبة: ٩٨] فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو ﴿دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾ بضم السين، وكذلك في سورة الفتح [آية: ٦] وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ﴿السَّوْءِ﴾: بفتح السين فيهما ولم يختلف في غيرهما، انظر: "الحجة" ٤/ ٢٠٦.
287
محمد عليهم (١)، فأنزل الله في ذلك قوله:
٧ - ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ﴾ يعني: الملائكة (والأرض) يعني: المؤمنون وهم أكثر من أهل فارس والروم، ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا﴾ في ملكه ﴿حَكِيمًا﴾ في أمره.
٨ - قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ قال ابن عباس: يريد على جميع الخلق (٢)، وقال المقاتلان: شاهداً على أمتك بالرسالة (٣)، وقال الكلبي: شاهداً بالبلاغ إلى أمتك (٤) وهذه الشهادة تكون في الآخرة يشهد يوم القيامة على الأمم بتبليغ الرسل إليهم، على قول ابن عباس (٥)، وعلى قول الآخرين فانتصاب قوله: (شاهداً) يكون على تقديم الحال، كأنه قيل: مقدر الشهادة كما تقول: معه صقر صائداً به غداً (٦) وقد مرت نظائره فقوله (شاهداً) حال مقدرة، أي: يكون يوم القيامة، وقوله (مبشرًا ونذيراً) حال يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- ملابساً لها في الدنيا (٧).
قال عطاء: ومبشراً لأوليائي وأهل طاعتي، ونذيراً لأعدائي وأهل معصيتي. وقال الكلبي: مبشراً بالقرآن للمؤمنين بالجنة، ونذيراً للكافرين
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٦٩.
(٢) لم أقف على هذا القول.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٦٩، "تفسير الشوكاني" ٥/ ٤٧.
(٤) انظر: "تنوير المقباس" ص ٥١١، وقد نسب القرطبي ١٦/ ٢٦٦ هذا القول لقتادة.
(٥) لم أقف على هذا القول.
(٦) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٦٦.
(٧) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢١، وانظر: "تفسير ابن عطية" ١٤/ ٩٤، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٦٦.
بالسخط (١).
وقال المقاتلان: مبشراً بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة للمؤمنين ونذيراً من النار (٢).
٩ - قوله تعالى: ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ قرئ: بالتاء والياء، وكذلك ما بعده من الأفعال، فمن قرأ بالتاء فعلى معنى: قل لهم: إنا أرسلناك لتؤمنوا، ومن قرأ بالياء: وهو اختيار أبي عبيد، قال ذكر المؤمنين قبله وهو قوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ولقوله بعده: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ﴾ ولأنه لا يقال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: لتؤمنوا بالله ورسوله وهو الرسول، وهذا معنى قول أبي إسحاق في وجه هذه القراءة، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد آمن بالله وبأنبيائه وكتبه (٣).
وقوله: ﴿وتعزروه﴾ ذكرنا تفسيره عند قوله: ﴿وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾ [المائدة: ١٢]، قال مقاتل: تعينوه وتنصروه على أمره (٤).
وقال قتادة: تنصروه وتعزروه بالسيف واللسان (٥).
وقال ابن حيان: تنصروا النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسيف (٦).
(١) لم أقف على قولي عطاء والكلبي.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٦٦.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢١، "التذكرة في القراءات" ٢/ ٦٨٧، "الحجة" لأبي علي ٦/ ٢٠٠، وأشار القرطبي ١٦/ ٢٦٦ إلى اختيار أبي عبيد.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٠.
(٥) أخرج ذلك الطبري في "تفسيره" ١٣/ ٧٤ عن قتادة، ونسبه القرطبي لقتادة، وذكره في "الوسيط" ٤/ ١٣٦ من غير نسبه.
(٦) لم أقف على هذا القول.
وقال عكرمة: تقاتلوا معه بالسيف (١).
وروى الحجاج بن أرطأة عنه قال: قلت لابن عباس: ما قوله: (وتعزروه)؟ قال: الضرب بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسيف (٢).
قوله: ﴿وَتُوَقِّرُوهُ﴾ قال قتادة: تكرموه وتعظموه وتسودوه (٣).
وقال ابن حيان: تشرفوه وتبجلوه وتجلوه (٤)، كل هذا من ألفاظ المفسرين.
قوله: ﴿وَتُسَبِّحُوهُ﴾ هذه الكناية راجعة إلى اسم الله (٥) في قوله: ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ﴾ وكثير من القراء اختاروا الوقف على قوله: وتوقروه (٦) لمخالفة الكناية في: (وتسبحوه) الكناية التي قبلها، والمعنى: وتصَلّوا لله بالغداة والعشي. قاله المقاتلان (٧).
١٠ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ﴾ قال المفسرون: يعني بيعة
(١) أخرج ذلك الطبري في "تفسيره" عن عكرمة ١٣/ ٧٥، ونسبه النحاس في "معاني القرآن" لعكرمة ٦/ ٤٩٩، ونسبه القرطبي ١٦/ ٢٦٦ لابن عباس وعكرمة.
(٢) أخرج الطبري ١٣/ ٧٥ عن عكرمة قال: يقاتلون معه بالسيف، ونسبه القرطبي في "الجامع" ١٦/ ٢٦٧ لابن عباس وعكرمة.
(٣) أخرج الطبري ١٣/ ٧٤ عن قتادة في ﴿وَتُوَقِّرُوهُ﴾ أمر الله بتسويده وتفخيمه.
(٤) لم أقف على هذا القول.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٧٥، "الماوردي" ٥/ ٣١٣، "البغوي" ٧/ ٢٩٩.
(٦) انظر: "المكتفى" للداني ص ٥٢٨، "تفسير البغوي" ٧/ ٢٩٩، القرطبي ١٦/ ٢٦٧، ونقل النحاس عن أبي حاتم وأحمد بن موسى أن التمام عند قوله: ويوقروه. لأنهما قالا المعنى: ويوقروا النبي -صلى الله عليه وسلم- ويسبحوا الله بكرة وأصيلًا. وخولفا في هذا لأن (ويسبحوه) معطوف على ما قبله قد حذفت منه النون للنصب فكيف يتم الكلام على ما قبله. انظر: "القطع والائتاف" لأبي جعفر النحاس ص٦٧٠.
(٧) "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٠.
290
الرضوان، وكانت بالحديبية تحت الشجرة، وكان المسلمون يومئذ ألفاً وأربعمائة رجل بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يقاتلوا ولا يفروا (١).
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ لأن تلك البيعة طاعة لله وتقرباً إليه، باعوا أنفسهم من الله تعالى بالجنة كما ذكر في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ﴾ الآية [التوبة: ١١١] والعقد كان مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ قال أكثر المفسرين: يد الله بالوفاء لهم بما وعدهم من الخير فوق أيديهم بالوفاء والعهد حين بايعوك، وهذا قول ابن عباس ومقاتل (٢) واختيار الفراء (٣) ومعناه: الله أوفى منهم كما قال: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ﴾ [التوبة: ١١١].
وقال الكلبي: نعمة الله عليهم فوق ما صنعوا (٤)، واختاره الزجاج فقال: يد الله في المنة بالهداية فوق أيديهم في الطاعة (٥)، أي: إحسان الله تعالى إليهم بأن هداهم للإيمان أبلغ وأتم من إحسانهم إليك بالنصرة والبيعة.
(١) وهذا ثابت في الحديث الصحيح عند مسلم من حديث جابر، انظر: "صحيح مسلم" كتاب: الإمارة باب (١٨) استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال وبيان بيعة الرضوان تحت الشجرة ٢/ ١٤٨٣، وانظر: "الطبري" ١٣/ ٧٦، "البغوي" ٧/ ٢٩٩، "تفسير الوسيط" ٤/ ١٣٦، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٦٦.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٠، "تفسير البغوي" وقد نسبه لابن عباس ٧/ ٣٠٠، "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٢.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٦٥.
(٤) ذكر ذلك الثعلبي ١٠/ ١٣٥ ب، البغوي ٧/ ٣٠٠، والقرطبي ١٦/ ٢٦٧.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٢.
291
وقال ابن كيسان: قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم (١)، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء (٢)، والمعنى على هذا: ثق بنصرة الله لك، لا بنصرتهم وإن بايعوك (٣).
قوله تعالى: ﴿فَمَنْ نَكَثَ﴾ أي: نقض ما عقد من البيعة ﴿فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ أي: يرجع ضرر ذلك النقض عليه، قال ابن عباس: وليس له الجنة (٤)، ﴿وَمَنْ أَوْفَى﴾ أي: ثبت على الوفاء، ﴿بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ﴾ من البيعة ﴿فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ يعني: الجنة، قال ابن عباس: والعِظَم لا يوصف (٥).
(١) ذكر ذلك الثعلبي في "تفسيره" ١٠/ ١٣٥ ب، والقرطبي ١٦/ ٢٦٨، و"الفخر الرازي" ٢٨/ ٧٨، والمؤلف في "الوسيط" ٤/ ١٣٦.
(٢) ذكر الثعلبي رواية ابن عباس بلفظ: يد الله بالوفاء بما وعدهم من الخير فوق أيديهم بالوفاء، انظر: "تفسير الثعلبي" ١٠/ ١٣٥ ب.
(٣) ذكر الإمام ابن جرير في "تفسيره" أقوال المؤولين في صفة اليد ورجح مذهب السلف وهو: أنها صفة من صفاته هي يد غير أنها ليست بجارحة كجوارح بني آدم، انظر: "تفسير الطبري" ٤/ ٣٠١، وقال البغوي عند تفسير آية المائدة: ويد الله صفة من صفات ذاته كالسمع والبصر والوجه، وقال جل ذكره: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كلتا يديه يمين" والله أعلم بصفاته، على العبد فيها الإيمان والتسليم. وقال أئمة السلف من أهل السنة في هذه الصفات: أمروها كما جاءت بلا كيف انظر: "تفسير البغوي" ٣/ ٧٦. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر وجوب الإيمان بصفة اليد وعدم تأويلها ونقل كلام المتقدمين من سلف الأمة قال: ويدل على إبطال التأويل أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها على ظاهرها ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفوها عن ظاهرها فلو كان التأويل سائغًا لكانوا أسبق إليه لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة انظر: "مجموع الفتاوى" ٥/ ٩٠.
(٤) ذكر ذلك في "الوسيط" عن ابن عباس، انظر ٤/ ١٣٦.
(٥) لم أقف عليه.
292
١١ - قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ﴾.
قال المفسرون: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أراد الخروج إلى مكة عام الحديبية استنفر مَنْ حول المدينة من أعراب غفار (١) ومزينة (٢) وجهينة وأسلم (٣)، فقعدوا عنه وقالوا: فيما بينهم: نذهب معه إلى قوم جاؤوه فقتلوا أصحابه نخرج إليهم فنقاتلهم في دارهم، فأخبر الله تعالى نبيه بما يقول له هؤلاء، إذا عاد إليهم بقوله: ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ﴾ وهم الذين خلفهم الله عن صحبة نبيه (٤) -صلى الله عليه وسلم-، ولم يقل: المتخلفون، تحقيقاً أن تخلفهم [كان بغضاً الله، وأنا الذي خلفهم] (٥).
وقوله: ﴿مِنَ الْأَعْرَابِ﴾ يعني: القبائل الذي ذكرنا (شغلتنا) عن الخروج معك ﴿أَمْوَالُنَا﴾ أي: لم يكن لنا من يقوم بها ويكفينا أمرها.
(١) هم: بنو غفار بن مليل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناف بن كنانة بن خزيمة بن مدركة عمرو بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، كانوا حول مكة، ومن مياههم: بدر، ومن أوديتهم: ودان، انظر: "معجم قبائل العرب" لكحالة ٣/ ٨٩٠.
(٢) هم: بنو مر بن أن بن طابخة بن إلياس بن مضر، واسم ولده: عثمان وأوس، وأمهما: مزينة فسمي جميع ولديهما بها. كانت مساكن مزينة بين المدينة ووادي القرى، ومن ديارهم وقراهم: فيحة الرَّوحاء، العمق، الفُرع، انظر:"معجم قبائل العرب" لعمر رضا كحالة ٣/ ١٠٨٢.
(٣) هم: بطن من خزاعة من القحطانية وهم بنو أسلم بن قصي بن حارثة بن عمرو بن مزيقيا منهم الحجاج بن مالك بن عويمر الأسلمي الصحابي من قراهم وَبْرة وهي: قرية ذات نخيل من أعراض المدينة. انظر: "نهاية الأرب" للقلقشندي ص ٤٨، "معجم قبائل العرب" ١/ ٢٦.
(٤) انظر: "تفسير الثعلبي" ١٠/ ١٣٥ ب، "تفسير أبي الليث" ٣/ ٢٥٤، "البغوي" ٧/ ٣٠٠، "القرطبي" ١٦/ ٢٦٨، "تفسير الوسيط" ٤/ ١٣٧.
(٥) كذا رسمها بالأصل، ولعل الصواب: (كان بغضًا من الله لهم وأنه الذي خلّفهم).
293
قوله: ﴿وَأَهْلُونَا﴾ يعنون: النساء والذراري، أي لم يكن من يخلفنا فيهم وهو جمع أهل، وأهل الرجل أخص الناس به (١)، ويقال: أهل وأهلون وأهال وأهلة وأهلات (٢)، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ﴾ [التحريم: ٦]. وأنشد المفضل:
وأَهْلَةِ وُدِّ قد تَبَرّضْتُ وُدَّهُم وأَبْلَيْتُهُم في الحَمْدِ جُهْدِي ونَائِلِي (٣)
وأنشد في الأهلات:
فَهُم أَهَلاتٌ حَوْلَ قَيْسِ بن عَاصم إذا أَدْلَجُوا باللَّيلِ يَدْعُونَ كَوْثَرا (٤)
قال الفراء: والأهل يجوز أن يكون واحداً وجمعاً (٥).
قوله: ﴿فَاسْتَغْفِرْ لَنَا﴾ أي: تخلفنا عنك، أي: سل ربك أن يغفر ذلك لنا فإنا كنا معذورين، قال ابن عباس: ولم يكن شغلهم إلا الشك في الله، يعني: أنهم شكوا في نصرة الله رسوله، فكذبهم الله في قولهم (فاستغفر لنا) (٦).
(١) انظر: "تهذيب اللغة" (أهل) ٦/ ٤١٧.
(٢) انظر: "لسان العرب" (أهل) ١١/ ٢٨.
(٣) الأهل: أهل الرجل وأهل الدار وكذلك الأَهْلة، قال ابن سيده: أهل الرجل: عشيرته وذوو قرباه، والجمع أهلون وآهال وأهال وأهْلات وأهَلات، والشاهد من البيت: وأهْلةِ وُدٍّ، وقد ورد هذا البيت في "اللسان" منسوبًا لأبي الطمحان، وفيه: تبريت ودهم، انظر: "اللسان" (أهل) ١١/ ٢٨.
(٤) الشاهد قوله: أهَلاتٌ، والإدلاج: السير في الليل، والبيت للمخبل السعدي، انظر: "اللسان" (أهل) ١١/ ٢٨. واسمه: ربيعة بن مالك، وهو من بني شماس بن لأي بن أنف الناقة، هاجر هو وابنه إلى البصرة، وولده كثير بالأحساء وهشام شعراء، انظر: "الشعر والشعراء" لابن قتيبة ص ٢٦٩.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٦٥.
(٦) لم أقف عليه.
294
وقوله: ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ قال مقاتل: أي: من أمر الاشغفار لا يبالون استغفر لهم النبي أم لا (١) ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ قال ابن عباس: يريد: من يمنعكم من الله (٢)، وهذا مفسَّر في سورة المائدة (٣) وغيرها.
قوله تعالى: ﴿إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا﴾ وقرئ: ضُرّاً، والضَّر بالفتح: خلاف النفع، وبالضم سوء الحال، كقوله: ﴿فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ﴾ [الأنبياء: ٨٤] قال أبو علي الفارسي: ويجوز أن يكونا لغتين، كالفَقْر والفُقْر، والضَّعْفَ والضُّعْف (٤).
قال ابن عباس: هو العذاب (٥).
وقال مقاتل: يعني: سوءاً، وهو الهزيمة (٦).
قوله تعالى: ﴿أو نفعًا﴾ قال ابن عباس: يريد الغنيمة (٧)، ومعنى هذا الكلام الرد عليهم حين ظنوا أن تخلفهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يدفع عنهم الضر
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧١.
(٢) ذكر السمرقندي قريبًا من هذا المعنى ولم ينسبه، انظر: "تفسيره" ٣/ ٢٥٤، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس، انظر ٤/ ١٣٧.
(٣) هو قوله تعالى: ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ [المائدة: ٧٦].
(٤) انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ٢٠٢، والضم قراءة حمزة والكسائي، وقرأ الباقون بالنصب.
(٥) نسب القرطبي لابن عباس بلفظ: الهزيمة، انظر: "الجامع" ١٦/ ٢٦٨، وقال في "تنوير المقباس"، قتلًا أو هزيمة، انظر ص ٥١٢.
(٦) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧١.
(٧) قال القرطبي في "الجامع" نصرًا أو غنيمة. ولم ينسبه ١٦/ ٢٦٩، وذكر ذلك في "الوسيط"، ولم ينسبه، انظر ٤/ ١٣٧.
295
ويعجل لهم النفع بالسلامة في أنفسهم وأموالهم، ثم قال: ﴿بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ أي: عالماً بما كنتم تعملون في تخلفكم ثم أَعَلَمَ أنهم إنما تخلفوا عن الخروج مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بظنهم ظن السوء.
١٢ - قوله: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا﴾ أي: ظننتم أنهم لا يرجعون إلى من خلفوا بالمدينة من الأهل والأولاد، لأن العدو يستأصلهم، قوله: ﴿وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ قال ابن عباس: زين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم (١).
قال المفسرون: وذلك أنهم قالوا: إن محمداً وأصحابه أكلة رأس، لا يرجع هو ولا أصحابه أبداً، فأنَّى تذهبون؟ أتقتلون أنفسكم، انتظروا ما يكون من أمره (٢)، فذلك قوله: ﴿وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾ قال الكلبي عن ابن عباس: البور بكلام أهل (٣) عُمان (٤): الفاسد، يقول:
(١) ذكر ذلك بغير نسبة: البغوي ٧/ ٣٠١، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٤٣٠، والقرطبي ١٦/ ٢٦٩، والمؤلف في "الوسيط" ٤/ ١٣٧.
(٢) ذكر ذلك الثعلبي ١٠/ ١٣٦ أ، البغوي ٧/ ٣٠١، والقرطبي ١٦/ ٢٦٩.
(٣) كذا في الأصل، وفي "تفسير مقاتل" بلغة عمان ٤/ ٧١، وفي تفسير السمرقندي: في لغة أزد وعمان ٣/ ٢٥٤، وفي "زاد المسير" في لغة أزد عُمان ٦/ ٧٨، وانظر: "تنوير المقباس" بلفظ: هلكى فاسدة القلوب قاسية القلوب ص ٥١٢.
(٤) عُمان: بضم أوله وتخفيف ثانيه، وآخره نون: اسم كورة عربية على ساحل بحر اليمن والهند، وعمان في الإقليم الأول طولها: أربع وثلاثون درجة وثلاثون دقيقهَ، وعرضها: تسع عثمرة درجة وخمس وأربعون دقيقة في شرقي هَجَر، تشتمل على بلدان كثيرة ذات نخل وزروع، إلا أن حرها يضرب به المثل، وأكثر أهلها في أيامنا خوارج إباضية ليس بها من غير هذا المذهب إلا طاريء أو غريب. انظر: "معجم البلدان" ٤/ ١٥٠.
فاسدة قلوبكم، وقال مقاتل: يعني: هلكى بلغة عمان (١).
وقال مجاهد: هلكى (٢) لا يصلحون لشيء من الخير.
وقال أبو إسحاق: أي: هالكين عند الله جل وعز (٣).
وقال الفراء: البور في كلام العرب لا شيء، يقول: أصبحت أقوالهم وأعمالهم بوراً، أي: لا شيء (٤)، وهذا الحرف مفسر في سورة الفرقان [آية: ١٨] ثم أوعد تارك الإيمان بقوله:
١٣ - ﴿وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ الآية، ثم عظم نفسه وأخبر بنفسه أنه غني عن عباده، فقال:
١٤ - ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ الآية.
١٥ - قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا﴾ يعني: هؤلاء القبائل الذين ذكرناهم إذا انطلقتم أيها المؤمنون، أي: سرتم وذهبتم إلى مغانم لتأخذوها، يعني: مغانم خيبر (٥).
قال المفسرون: وذلك أنهم لما انصرفوا من الحديبية بالصلح وعدهم الله فتح خيبر، وخصَّ بغنائمها من شهد الحديبية دون غيرهم، فلما انطلقوا
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧١.
(٢) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ٧٩ عن مجاهد لكن بلفظ: هالكين فقط، وانظر: "تفسير مجاهد" ص ٦٠٨، "الجامع لأحكام القرآن" بلفظ: هلكى ١٦/ ٢٦٩.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج بلفظ: هالكين عند الله -عز وجل- فاسدين في علمه ٥/ ٢٣.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٦٦ بلفظ: يقال أصبحت أعمالهم بورًا ومساكنهم قبورًا.
(٥) خيبر: الموضع المذكور في غزاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي: ناحية على ثمانية برد من المدينة لمن يريد الشام، يطلق هذا الاسم على الولاية، وتشتمل هذه الولاية على سبعة حصون ومزارع ونخل كثير، وقد فتحها النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة سبع من الهجرة، وقيل. سنة ثمان، انظر: "معجم البلدان" ٢/ ٤٠٩.
297
إليها قال هؤلاء المخلفون (١) ﴿ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ﴾.
قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ﴾ وقرئ: (كَلِمَ الله) (٢)، والكلام مصدر، والكَلِمْ: جمع كلمة، وكلاهما ورد به التنزيل، وهو قوله: ﴿حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٦] وقوله: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ [المائدة: ٤١] قال ابن عباس: يريد مواعبد الله لأن الله تعالى جعل خيبر لأهل الحديبية خاصة (٣) لم يجعل لأحد من الناس فيها شيئاً إلا لمن تخلف عنها لعذر.
وقال مقاتل: يعني: يغيروا كلام الله الذي أمر الله النبي -صلى الله عليه وسلم- أن لا يسير معه منهم أحد (٤)، قال أبو إسحاق: يعني بقوله: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) قول -عز وجل-: ﴿فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا﴾ [التوبة: ٨٣] فأرادوا أن يأتوا بما ينقض هذا، فأعلم الله عز وجل أنهم لا يفعلون ولا يقدرون على ذلك (٥) فقال الله تعالى: ﴿قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ﴾ قال ابن عباس: يريد: في الحديبية (٦)، وقال مقاتل: يعني: هكذا قال الله بالحديبية من قبل خيبر أن لا تتبعونا (٧).
(١) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٨٠، "تفسير البغوي" ٧/ ٣٠٢، "زاد المسير" ٧/ ٤٣٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٧٠.
(٢) قرأ حمزة والكسائي: (كَلِمَ)، وقرأ الباقون: (كلام)، انظر: "الحجة" ٦/ ٢٠٢، و"التذكرة في القراءات" ٢/ ٦٨٧.
(٣) ذكر ذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٤٣٠.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٢.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٤، لكن بلفظ: (لا يعقلون) بدل: (لا يفعلون).
(٦) معنى هذا القول عند الطبري منسوبًا لقتادة، انظر: "تفسيره" ١٣/ ٨١، وعند البغوي غير منسوب ٧/ ٣٠٢.
(٧) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٢.
298
وقال غيره: من قبل مرجعنا إليكم، أخبرنا الله أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية (١)، فعلي هذا القول الذي ذكرنا يعني: قال الله تعالى من قبل ما سبق من وعده بالغنيمة لأهل الحديبية.
وقال الكلبي: لما قالوا لهم: لن تتبعونا، قالوا: والله ما أمركم الله بذلك وما بكم إلا الحسد (٢)، فقال لهم المؤمنون: كذلكم قال الله لنا حين انصرفنا من الحديبية، إنهم سيقولون لكم إذا لم تأذنوا لهم إلى خيبر: إن بكم إلا الحسد كما قلتم لنا فهو بمعنى قوله: ﴿كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ﴾ واختار الفراء هذا القول، فقال: إنهم قالوا لرسول الله: ذرنا نتبعك، قال: نعم على أن لا نسهم لكم، فإن خرجتم على ذا فاخرجوا، فقالوا للمسلمين: كذلكم (٣) قال الله من قبل تقولون قد أخبرنا بما تقولون قبل أن تقولوه، وعلى هذا معنى قوله: (كذلكم قال الله من قبل).
قوله: ﴿فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا﴾ والأول أظهر لأن ذكر الحسد لم يتقدم طى قوله: (كذلكم قال الله)، وإنما ذكر بعد، قال مقاتل: يقولون: يمنعكم الحسد من أن نصيب معكم الغنائم (٤) فقال الله: ﴿بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ﴾ أي: لا يعلمون عن الله ما لهم وعليهم من أمر الدين ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ قال الكلبي:
(١) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٨١، "تفسير الثعلبي" ١٠/ ١٣٦ ب، "تفسير البغوي" ٧/ ٣٠٢.
(٢) انظر: "تنوير المقباس" ص ٥١٢.
(٣) العبارة فيها تصحيف، ونصها عند الفراء في "المعاني" ٣/ ٦٦: (فقالوا للمسلمين: ما هذا لكم ما فعلتموه بنا إلا حسدًا؟ قال المسلمون: كذلكم قال الله لنا من قبل أن تقولوا).
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٢.
299
إلا يسيراً، منهم وهو من ترك النفاق وصدق بالله وبالرسول (١).
قيل لهم: إن كنتم إنما ترغبون في الغزو والجهاد لا في الغنائم، فستدعون غداً إلى أهل اليمامة، وهو قوله تعالى:
١٦ - ﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء وأبي صالح: هم بنو حنيفة (٢) أتباع مسيلمة (٣)، وهو قول المقاتلين والزهري والكلبي (٤)، واختيار الفراء والزجاج (٥)، ويؤكده ما روي عن رافع بن خديج (٦) أنه قال: لقد كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم، حتى دعا أبو بكر -رضي الله عنه- إلى قتال بني
(١) ذكر ذلك في "الوسيط" ٤/ ١٣٨ ولم ينسبه.
(٢) بنو حنيفة: حي من بكر بن وائل من العدنانية، وهم بنو حنيفة بن لحيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وبكر كان له من الولد: الرول، وعدي، وعامر، وكانت منازل لي حنيفة اليمامة، وكان يسكنها منهم: هودة بن علي بن ثمامة بن عمرو بن عبد العزى بن لحيم بن مرة بن الدوك بن حنيفة وهو الذي كتب إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعوه إلى الإسلام. انظر: "نهاية الأرب" للقلقشندي ص ٢٢٣.
(٣) أخرج الطبري ١٣/ ٨٣ هذا القول منسوبًا لسعيد بن جبير وعكرمة، ونسبه الثعلبي ١٠/ ١٣٦ ب للزهري ومقاتل، وكذلك البغوي والقرطبي نسباه للزهري ومقاتل، انظر: "تفسير البغوي" ٧/ ٣٥٣، "الجامع" ١٦/ ٢٧٢.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٢، "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٢٦، "تنوير المقباس" ص ٥١٣.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٦٦، "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٤.
(٦) هو: رافع بن خديج بن رافع بن عدي بن يزيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج ابن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي، الحارثي أبو عبد الله أو أبو خديج، شهد أحدًا وما بعدها، وتوفي في خلافة معاوية على الصحيح. انظر: "الإصابة" ١/ ٤٩٥، "تهذيب التهذيب" ٣/ ٢٢٩، "الأعلام" ٣/ ١٢.
300
حنيفة فعلمنا أنهم هم (١).
وعلى هذا التفسير، الآية تدل على خلافة أبي بكر -رضي الله عنه-، وذلك أن الله تعالى ذكر أنهم يدعون إلى قتال بني حنيفة، وعلم أن ذلك الداعي أبو بكر، ووعدهم على طاعته وإجابته الأجر الحسن وهو الجنة، فقال: ﴿فَإِنْ تُطِيعُوا﴾ يعني الداعي إلى قتال من ذكرهم وهو أبو بكر ﴿يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا﴾ قال مقاتل: يعني: الجنة (٢)، ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا﴾ يعني: تعرضوا عن قتال أهل اليمامة ﴿كَمَا تَوَلَّيْتُمْ﴾ أعرضتم عن المسير إلى الحديبية ﴿يُعَذِّبْكُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾ فأوعد على مخالفة أبي بكر -رضي الله عنه- كما أوعد على مخالفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالنار، وهذا ظاهر بحمد الله.
وقال أبو إسحاق: ﴿فَإِنْ تُطِيعُوا﴾ أي تبتم وتركتم النفاق وجاهدتم ﴿يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا﴾ أي إن أقمتم على نفاقكم ﴿كَمَا تَوَلَّيْتُمْ﴾ على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ (٣).
وذكر المفسرون في تفسير قوله: ﴿قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ أنهم فارس، وقيل: الروم (٤)، وقيل: هوزان (٥)
(١) ذكر ذلك الثعلبي ١٠/ ١٣٦ ب، والألوسي في "روح المعاني" ٢٦/ ١٠٢، والبغوي ٧/ ٣٠٣، والقرطبي ١٦/ ٢٧٢، والمؤلف في "الوسيط" ٤/ ١٣٨.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٣.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٥.
(٤) أخرج الطبري ١٣/ ٨٣ عن ابن عباس وابن أبي ليلى والحسن ومجاهد وابن زيد أنهم فارس، وأخرج عن الحسن وابن أبي ليلى وابن زيد أنهم فارس والروم. وذكر الثعلبي عن ابن عباس وعطاء بن أبي رباح وعطاء الخراساني وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهد (أنهم فارس) وذكر عن كعب أنهم الروم وعن الحسن أنهم فارس والروم. انظر: "تفسير الثعلبي" ١٠/ ١٣٦ ب.
(٥) هوزان: هم بطن من قيس عيلان من العدنانية وهم بنو هوازن بن منصور بن عكرمة =
301
وثقيف (١) (٢)، وغطفان، كل هذا من أقوالهم (٣).
قوله: ﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ قال الفراء: تقاتلونهم أو يكون منهم الإسلام (٤).
وقال الزجاج: المعنى: أو هم يسلمون (٥).
قال أبو صالح عن ابن عباس: لما أنزل ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا﴾ إلى قوله: ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾ أتى أهل الزمانة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا: كيف لنا إذا دعينا ولا نستطيع الخروج، فأنزل الله قوله تعالى:
١٧ - ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ﴾ وبين عذرهم (٦).
= بن خصفة بن قيس بن عيلان وهم الذين أغار عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وغزاهم. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص ٢٦٤، "نهاية الأرب" للقلقشندي ص ٣٩١.
(١) ثقيف: هم بطن من هوزان من العدنانية، اشتهروا باسم أبيهم فيقال: لهم ثقيف واسمه قيس بن منبه بن بكر بن هوزان، قال أبو عبيد: وكان لثقيف من الولد جشم وناصرة، قال في "العبر": وهم بطن متسع. قال: وكانت منازلهم بالطائف، وهي مدينة من أرض نجد على مرحلتين من مكة. انظر: "نهاية الأرب" ص ١٨٦.
(٢) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ٨٣ عن عكرمة وسعيد بن جبير، ونسبه الثعلبي ١٠/ ١٣٦ ب، والبغوي ٧/ ٣٠٣ لسعيد بن جبير.
(٣) أخرج الطبري عن قتادة أنهم هوازن وغطفان يوم حنين، وكذلك ذكر الثعلبي عن قتادة أنهم هوزان وغطفان يوم حنين، وكذلك ذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أنهم هوازن وغطفان وثقيف يوم حنين. انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٢٢٦. وذكر الماوردي ٥/ ٣١٦ عن سعيد بن جبير وقتادة أنهم هوازن وغطفان.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٦٦.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٤ بلفظ: (تقاتلونهم حتى يسلموا وإلا أن يسلموا).
(٦) ذكر ذلك الثعلبي عن ابن عباس. انظر: "تفسيره" ١٠/ ١٣٧ أ، وأخرجه الطبراني =
وقال مقاتل: عَذَرَ أهل الزمانة الذين يتخلفون عن المسير إلى الحديبية، يقول، لا حرج عليهم، فمن شاء منهم أن يسير معكم إلى خيبر فليسر (١). ونحو هذا قال ابن حيان: يقول من تخلف من هؤلاء عن الحديبية فهم معذورون. (٢)
ثم أعلم -عز وجل- بخبر من أخلص نيته فقال:
١٨ - قوله تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾. قال المفسرون: يعني بيعة الحديبية، وهي تسمى بيعة الرضوان لهذه الآية، وكانت الشجرة سَمُرة بايع تحتها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه على أن يناجزوا قريشاً ولا يفروا (٣).
وذكر ابن عباس سبب هذه البيعة، فقال فيما روى عنه عطاء: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج يريد مكة، فلما بلغ الحديبية وقفت ناقته وزجرها فلم تنزجر، وبركت فقال أصحابه: خلأت (٤) الناقة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما
= في "المعجم الكبير" ٥/ ١٥٥ رقم ٤٩٢٦ عن زيد بن ثابت وقال حمدي السلفي في تحقيقه: في إسناده محمد بن جابر اليمامي صدوق، ومحمد بن جابر السحيمي ضعيف ويكتب حديثه وبقية رجاله رجال الصحيح.
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٣.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) وردت قصة هذه البيعة بروايات مختلفة في بعض الألفاظ انظر: "صحيح البخاري" كتاب: المغازي باب (٣٥) غزوة الحديبية، وقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ ٥/ ٦١، "تفسير الطبري" ١٣/ ٨٥، "تفسير الثعلبي" ١٠/ ١٣٧ أ - ب، "تفسير البغوي" ٧/ ٣٠٥، "زاد المسير" ٧/ ٤٢٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٧٤، "البداية والنهاية" ٤/ ١٦٤.
(٤) قال الليث: الخِلأُ في الإبل كالحِرَان في الدواب. يقال: خلأت الناقة تخلأ خِلاءً إذا لم تبرح مكانها. =
303
هذا لها بعادة ولكن حبسها حابس الفيل" ودعا عمر -رضي الله عنه- ليرسله إلى أهل مكة ليأذنوا له بأن يدخل مكة ويحل من عمرته وينحر هديه فقال: يا رسول الله والله ما لي بها من حميم، وإني أخاف قريشاً على نفسي ولقد علمت قريش بشدة عداوتي إياها، ولكن أدلك على رجل هو أعز بها مني عثمان بن عفان قال: صدقت. فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عثمان بن عفان وأرسله، فجال الشيطان وصاح في عسكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأن أهل مكة قتلوا عثمان، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الشجرة فاستند إليها وبايع الناس على قتال أهل مكة.
قال عبد الله بن أبي أوفى: كنا يومئذ ألفاً وثلاثمائة (١).
وقال ابن عباس في رواية عطية: كانوا خمسمائة وخمسة وعشرين رجلاً (٢).
وقال قتادة: كانوا خمس عشرة مائة (٣).
= قال الأزهري: قلت والخِلاء لا يكون إلا للناقة، وأكثر ما يكون الخِلاء منها إذا ضَبِعَتْ فتبرك ولا تثور. انظر: "تهذيب اللغة" (خلأ) ٧/ ٥٧٦.
(١) أخرج ذلك البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى. انظر: "صحيح البخاري" كتاب: المغازي- باب (٣٥) ٥/ ٦٣، وأخرج ذلك الطبري عن عبد الله بن أبي أوفى. انظر: "تفسيره" ١٣/ ٨٨، "تفسير البغوي" ٧/ ٣٠٥، "زاد المسير" ٧/ ٤٢٢، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٧٦.
(٢) أخرج الطبري عن ابن عباس أنهم كانوا ألفًا وخمسمائة وخمسة وعشرين ١٣/ ٨٧، وكذلك ذكر الثعلبي عن العوفي أنهم كانوا ألفًا وخمسمائة وخمسة وعشرين، انظر: "تفسير الثعلبي" ١٠/ ١٣٨/ أ، وأورد نفس هذه الرواية ابن الجوزي في "زاد المسير" عن العوفي عن ابن عباس ٧/ ٤٢٢، وذكر الألوسي عن ابن سعد أنهم كانوا ألفًا وخمسمائة وخمسة وعشرين، انظر: "تفسيره" ٢٦/ ١٠٧، فلعل هذا خطأ من الناسخ.
(٣) ذكر ذلك البخاري عن قتادة وجابر، انظر: "صحح البخاري" كتاب: المغازي، =
304
وقال جابر بن عبد الله: كانوا ألفاً وأربعمائة (١).
قوله تعالى: ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ قال ابن عباس: من الصدق والوفاء وهذا قول أكثرهم (٢)، وقال مقاتل: فعلم ما في قلوبهم من الكراهة للبيعة علي أن يقاتلوا ولا يفروا (٣).
﴿فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ﴾ يعني: الطمأنينة والرضا حتى أقروا على أن يقاتلوا ولا يفروا، وذكر الفراء قولاً آخر قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أري في منامه أن يدخل مكة فلم يتهيأ لذلك، وصالح أهل مكة على أن يخلوها له ثلاث من العام المقبل، ودخل المسلمين من ذلك أمر عظيم، فقال لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنما كانت رؤيا أريتها، ولم يكن وحياً من السماء" فعلم الله ما في قلوب المسلمين من ذلك، فأنزل السكينة عليهم، أي: الطمأنينة (٤) في هذه السورة وفي غيرها، وقال الكلبي في تفسير السكينة هاهنا: الطمأنينة (٥) حين صدهم المشركون فأذهب تلك الحمية من قلوبهم {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا
= باب (٣٥) ٥/ ٦٣، وأخرجه الطبري ١٣/ ٨٧ عن قتادة، ونسبه البغوي ٧/ ٣٠٤ لجابر، ونسبه ابن الجوزي ٧/ ٤٢٢ لجابر وقتادة.
(١) أخرج ذلك البخاري عن جابر، انظر كتاب: المغازي باب (٣٥) ٥/ ٦٣، وأخرجه الطبري ١٣/ ٨٧، والبغوي ٧/ ٤٠٣ عن جابر.
(٢) ذكره من غير نسبة: "الطبري" ١٣/ ٨٨، "الثعلبي" ١٠/ ١٣٨ أ، "البغوي" ٧/ ٣٠٦، "زاد المسير" ٧/ ٤٣٤.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٣.
(٤) انظر: "معاني الفراء" ٣/ ٦٧.
(٥) هكذا فسرها الطبري ١٣/ ٨٨، وقال البغوي: الطمأنينة والرضاء ٧/ ٣٠٦، وكذلك ابن الجوزي في ٧/ ٤٣٤، وانظر: "تنوير المقباس" ص ٥١٣.
305
قَرِيبًا} يعني: خيبر في قول الجميع (١).
١٩ - ﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا﴾ من أموال يهود خيبر، وكانت خيبر ذات عقار وأموال، هذا قول الأكثرين (٢)، وقال ابن عباس في رواية عطاء والكلبي: يريد مغانم فارس والروم مما هم آخذوها ولم يأخذوها بعد (٣)، والقول هو الأول، لأن سائر المغانم قد وعدوها وذكرت بعد هذه الآية قوله: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا﴾ غالباً (حكيماً) في أمره حكم لكم بالغنيمة، ولأهل خيبر بالسبي والهزيمة.
٢٠ - ثم ذكر سائر المغانم التي يأخذونها فيما يأتي من الزمان فقال: ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا﴾ قال مقاتل: أي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن بعده إلى يوم القيامة (٤) وهذا قول الجميع (٥) ﴿فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ﴾ يعني: غنيمة خيبر.
﴿وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ﴾ قال المفسرون: لما رجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الحديبية إلى المدينة أقام بها بقية ذي الحجة وبعض المحرم، ثم خرج في بقية المحرم سنة سبع إلى خيبر، وحاصر أهلها فهمت حلفاء يهود خيبر من أسد وغطفان ويهود المدينة أن يغيروا على عيال المسلمين وذراريهم
(١) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ٨٨ عن قتادة، وابن أبي ليلى، وانظر: "تفسير الثعلبي" ١٠/ ١٣٨ ب، "تفسير البغوي" ٦/ ٣٥٧.
(٢) انظر:"تفسير الثعلبي" ١٠/ ٣٨٠ ب، "تفسير البغوي" ٧/ ٣٠٦، "زاد المسير" ٧/ ٤٣٥، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٧٨.
(٣) انظر: "تنوير المقباس" ص ٥١٣.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٣، ٧٤.
(٥) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٩٥، "تفسير الثعلبي" ١٠/ ١٣٨ ب، "تفسير البغوي" ٧/ ٣٠٦، "زاد المسير" ٧/ ٤٣٥، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٧٨.
306
بالمدينة فكف الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم، وهذا قول قتادة (١) ومقاتل (٢)، وقال عطاء عن ابن عباس: أراد بالناس أهل مكة (٣).
قوله: ﴿وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: ولتكون هزيمة هؤلاء الذين هموا بذراري المسلمين وسلامتكم آية للمؤمنين على صدقك ونبوتك، وهذا معنى قول مقاتل (٤).
وقال مقاتل بن حيان وقتادة: وليكون كف أيديهم عن عيالكم عبرة للمؤمنين (٥)، وأجود القولين أن يكون المعنى: ولتكون هذه التي عجلها لكم آية للمؤمنين على صدقك حيث وعدتهم أن يصيبوها (٦). وذلك أنا إن قلنا: ولتكون الهزيمة، كان إخباراً عما لم يجر له ذكر، إذ الهزيمة لم تذكر، وإن قلنا: وليكون كف أيدي الناس آية، وجب أن يقال: وليكون بالياء، لأن الكف مصدر مذكر، والواو في (ولتكون) مقحمة على مذهب الكوفيين، وعلى مذهب البصريين الواو عاطفة على مضمر بتقدير: وكف أيدي الناس عنكم لتشكروه ولتكون آية للمؤمنين (٧).
﴿وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ أي: يزيدكم هدى بالتصديق لمحمد ولما
(١) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ٩٠ عن قتادة، ونسبه الثعلبي ١٠/ ١٣٨ ب، وعبد الرزاق في "تفسيره" ٢/ ٢٧٧ لقتادة.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٤.
(٣) ذكر ذلك بغير نسبة: الطبري ١٣/ ٩٠، والثعلبي ١٠/ ١٣٨ أ، والماوردي ٥/ ٣١٧، والبغوي ٧/ ٣٠٦.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٤.
(٥) أخرج ذلك الطبري عن قتادة، وانظر: "تفسير الماوردي" ٥/ ٣١٧، "زاد المسير" ٧/ ٤٣٦، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٧٩.
(٦) ذكر ذلك السمرقندى في "تفسيره" ٣/ ٢٥٦، (٨) الماوردي، وابن الجوزي، والقرطبي.
(٧) ذكر ذلك القرطبي في "الجامع" ١٦/ ٢٧٩، وأبو حيان في "البحر" ٨/ ٩٧.
307
جاء به مما ترون من عدة الله في القرآن بالفتح والغنيمة، وهذا قول مقاتل (١).
وقال غيره: ويهديكم صراطاً مستقيماً يعني: طريق التوكل والتفويض (٢)، وذلك أنه لما جاءهم أمر من هم بهم من عدوهم، وكان بذلك هادياً لهم إلى طريق التوكل حتى يتوكلوا على الله فيما نابهم فيكفيهم كما كفاهم هذا من غير سعي منهم.
٢١ - ثم ذكر ما وعدهم سوى خيبر مما يفتحه عليهم فقال: (وأخرى) وهي في محل النصب بالعطف على قوله: ﴿مَغَانِمَ كَثِيرَةً﴾ على تقدير: ووعدكم مغانم أخرى على ما قال الزجاج (٣)، وبلاداً أو قرى أخرى على ما ذكر المفسرون.
قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد فارس والروم، وهو قول أكثرهم (٤).
قوله: ﴿لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا﴾ خطاب للعرب وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم وفتح مدائنها، بل كانوا خولاً لهم حتى قدروا عليها بالإسلام، وعز أهله.
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٤.
(٢) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٩١، "الثعلبي" ١٠/ ١٣٨ ب، "زاد المسير" ٧/ ٤٣٦.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٦، "إعراب القرآن" للنحاس ٤/ ٢٠١، "مشكل إعراب القرآن" لمكي ٢/ ٣١١.
(٤) أخرج ذلك الطبري عن ابن عباس، ونسبه الثعلبي في "تفسيره" ١٠/ ١٤٢ ب، لابن عباس، وابن أبي ليلى والحسن ومقاتل، ونسبه الماوردي لابن عباس ٥/ ٣١٨، ونسبه البغوي ٧/ ٣١٣ لابن عباس والحسن ومقاتل، ونسبه الشرطبي ١٦/ ٢٧٩ لابن عباس، والحسن، ومقاتل، وابن أبي ليلى.
قوله تعالى: ﴿قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا﴾ قال الكلبي: أحاط الله لكم بها وجعلها لكم وحواها لكم (١).
قال الفراء: أحاط الله بها لكم حتى يفتحها عليكم (٢)، ومعنى الإحاطة على هذا القول: الحفظ، كأنه قال: حفظها لكم ومنعها عن غيركم حتى تفتحوها (٣) فتأخذوها.
وقال ابن عباس: علم أنها ستكون لكم (٤)، وهو قول مقاتل (٥)، واختيار الزجاج قال: أحاط الله بها قد علمها الله، وقال: وهو ما يغنم المسلمون إلى أن لا يقاتلهم أحد (٦)، وهذا معنى قول مجاهد في تفسير (وأخرى لم تقدروا عليها) لأنه قال: هي ما فتحوا حتى اليوم (٧)، ومعنى الإحاطة في هذا القول: العلم، ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ من فتح القُرَى وغير ذلك ﴿قَدِيرًا﴾.
٢٢ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قال ابن عباس في رواية
(١) قال في "تنوير المقباس" ص ٥١٣ (قد علم الله أنها ستكون وهي غنيمة فارس).
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٦٧.
(٣) انظر: "تفسير الماوردي" ٥/ ٣١٨، "تفسير البغوي" ٧/ ٣١٢، "زاد المسير" ٧/ ٤٣٧، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٧٩.
(٤) ذكر ذلك البغوي ٧/ ٣١٢، وابن الجوزي في "زاد المسير" ولم ينسبه ٧/ ٤٣٧، والقرطبي في "الجامع" ولم ينسبه ١٦/ ٢٧٩.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٤.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٦.
(٧) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ٩١ عن مجاهد، انظر: "تفسير مجاهد" ص ٦٠٨، ونسبه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٤٣٦ لمجاهد.
الكلبي: يعني: أسد وغطفان والذين أرادوا نصرة يهود خيبر (١)، وقد ذكرناهم، وقال في رواية عطاء: يريد أهل مكة، وهو قول قتادة (٢)، والضحاك ومقاتل (٣).
وقال أبو إسحاق: لو قاتلك من لم يقاتلك لنصرت عليهم (٤)، وهذا عام في كل من يخالفه في دينه.
قوله: ﴿ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ قال ابن عباس: يريد: من تولَّى غير الله خذله الله ولم ينصره (٥)، ثم ذكر أن سنة الله النصرة لأوليائه، قوله:
٢٣ - ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ﴾ قال الزجاج: (سنة الله) منصوبة على المصدر لأن قوله: ﴿لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ﴾ معناه: سَنّ الله خذلانهم سنة (٦)، قال ابن عباس في هذه الآية: يريد: هذه سنتي في أهل طاعتي وأوليائي، وهذه سنتي في أعدائي وأهل معصيتي، يريد: أنصرُ أوليائي وأخذل أهل معصيتي (٧).
٢٤ - ثم ذكر سنته بالمحاجزة بين الفريقين، فقال: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ
(١) ذكر ذلك من غير نسبة كل من الثعلبي ١٠/ ١٤٢ ب، والسمرقندي ٣/ ٢٥٧، والبغوي ٧/ ٣١٢، والقرطبي ١٦/ ٢٨٠، وانظر: "تنوير المقباس" ص ٥١٣.
(٢) أخرج ذلك الطبري عن قتادة، انظر: "تفسيره" ١٣/ ٩٣، ونسبه الثعلبي في "تفسيره" لقتادة ١٠/ ١٤٢ ب، وكذلك نسبه ابن الجوزي لقتادة ٧/ ٤٣٧، وأيضًا نسبه لقتادة القرطبي في "الجامع" ١٦/ ٢٨٠.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٤، ولم أقف على نسبته للضحاك.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٦.
(٥) ذكر ذلك في "الوسيط" عن ابن عباس، انظر ٤/ ١٤١.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٦.
(٧) ذكر ذلك في "الوسيط" عن ابن عباس، انظر ٤/ ١٤١.
310
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} قال ابن عباس: يريد: أيدي أهل مكة، وذلك أن المشركين جاءوا يصدون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن البيت وعليهم عكرمة ابن أبي جهل، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد إليه ومعه خيل المسلمين فهزمه حتى أدخله حيطان مكة، وكان يومئذ بينهم قتال بالحجارة، وهذا قول ابن عباس في رواية عكرمة وعطاء والكلبي (١)، ونحو هذا قال مقاتل قال: كانوا قد خرجوا يقاتلون النبي -صلى الله عليه وسلم- فهزمهم بالطعن والنبل، حتى أدخلهم بيوت مكة (٢)، فمعنى قوله: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ﴾: يعني: حتى لم تقتلوا منهم ببطن مكة، قال عطاء: يريد: الحديبية (٣).
وقال مقاتل: يعني: ببطن أرض مكة كلها، والحرم كله مكة (٤).
وقال الكلبي: يعني: جوف مكة، وبكة الأرض التي فيها البيت، ومكة التي فيها الحديبية اسم الأرض، هذا كلامه (٥)، والحديبية: من الحل (٦)،
(١) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ٩٤ عن عكرمة، وكذلك نسبه الثعلبي ١٠/ ١٤٣ أ، وانظر: "تنوير المقباس" ص ٥١٤.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٥.
(٣) أخرج الطبري ١٣/ ٩٤ عن قتادة، قال: بطن مكة الحديبية، ونسب ابن الجوزي ٧/ ٤٣٨ هذا القول لأنس، وأورده القرطبي ١٦/ ٢٨٢ ولم ينسبه.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٥
(٥) ذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" أن بكة المسجد والبيت، ومكة: اسم للحرم كله، قاله الزهري وضمرة بن حبيب، انظر: "زاد المسير" ١/ ٤٢٥.
وذكره القرطبي في "الجامع" أن بكة: موضع البيت، ومكة سائر البلد، عن مالك ابن أنس، وقال محمد بن شهاب: بكة المسجد، ومكة الحرم كله تدخل فيه البيوت، قال مجاهد: بكة هي مكة فالميم على هذا مبدلة من الباء، كما قالوا: طين لازِبٌ ولازم، وقال الضحاك والمؤرج، انظر: "الجامع" ٤/ ١٣٨.
(٦) قال الشافعي في "الأم" ٢/ ٢١٨: ونحر -صلى الله عليه وسلم- في الحل، وقد قيل في الحرم، وإنما =
311
وعلى ما ذكروا اسم مكة يجب أن يكون واقعاً على الحل والحرم.
قوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ يريد: أن الظفر كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- على أهل مكة، والمعنى: أن الله تعالى يذكر منته بحجزه بين الفريقين حتى لم يقتتلا، وحتى اتفق بينهم الصلح الذي كان أعظم من الفتح، وسلم للرجل من بينه وبينه قرابة، ومن هو مؤمن من أهل مكة أن يصاب، وهذا قول عامة المفسرين.
وقال عبد الله بن المغفل: بينا نحن بالحديبية، وكتاب الصلح يكتب بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ خرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح، فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هل جئتم في عهد أحد، أو هل جعل لكم أحد أمانة"، قالوا: اللهم لا، فخلى سبيلهم، فأنزل الله هذه الآية (١).
وقال أنس: إن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر عام الحديبية ليقتلوهم فأخذهم
= ذهبنا إلى أنه نحو في الحل، وبعضها في الحرم، لأن الله -عز وجل- يقول: ﴿وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ والحرم كله محله عند أهل العلم، وانظر: "أحكام القرآن" للشافعي ٢/ ١٣١، ونقل ابن القيم في "زاد المعاد" ٣/ ٣٠٣ عن الشافعي أن الحديبية بعضها في الحل، وبعضها في الحرم ٣/ ٣٠٣.
(١) أخرج ذلك النسائي في "السنن الكبرى"، كتاب: التفسير ٦/ ٤٦٤، وأخرج الطبري في "تفسيره" ١٣/ ٩٤، وأخرجه الحاكم في "المستدرك" كتاب: التفسير ٢/ ٤٦٠، وقال حديث صحيح، على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وقال الهيثني في "مجمع الزوائد" رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، انظر: "مجمع الزوائد" ٦/ ١٤٥، وأخرجه البغوي في "تفسيره" ٧/ ٣١٣.
312
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أعتقهم فأنزل الله هذه الآية (١)، ثم ذكر سبب منعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك العام عن دخول مكة في قوله:
٢٥ - ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يعني: كفار مكة ﴿وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ قال ابن عباس ومقاتل: أن تحلوا من عمرتكم وتطوفوا به (٢) ﴿وَالْهَدْيَ﴾ منصوب......... (٣) المعنى وصدوا الهدي.
وقال ابن عباس: يعني البدن التي ساقها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان قد ساق معه سبعين بدنة (٤)، بدنة بين عشرة، وبقرة بين سبعة، وقال مقاتل: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أهدى عام الحديبية مائة بدنة (٥).
قوله تعالى: (معكوفاً) قال المفسرون: محبوساً، والعكف: الحبس، يقال: عكفه يعكفه عكفاً، إذا حبسه، وعكفت القوم عن كذا،
(١) أخرجه مسلم في الجهاد والسير باب (٤٦) قول الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ﴾ ٢/ ١٤٤٢ رقم ١٨٠٨. وأخرجه الطبري ١٣/ ٩٤، البغوي ٧/ ٣١٣.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" ٧/ ٣٢٠، "زاد المسير" ٧/ ٤٤٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٨٣، "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٥.
(٣) غير واضحة في الأصل عليها آثار مسح، لكن في "معاني القرآن" للزجاج عبارة مطابقة للصورة الموجودة وهي: الهدي منصوب سبق على الكاف والميم المعنى وصدوا الهدي، انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٧، وقال في "الدر المصون" ٦/ ١٦٣، ﴿وَالْهَدْيَ﴾ العامة على نصبه والمشهور أنه نسق على الضمير المنصوب في ﴿صَدُّوكُمْ﴾ وقيل: نصب على المعية، وفيه ضعف لإمكان العطف.
(٤) أخرج الطبري ١٣/ ٩٥ - ٩٦ عن مروان بن الحكم، والمسور بن مخرمة أن هديه كان سبعين بدنة، وأخرجه عنهما أيضًا البغوي ٧/ ٣١٣.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٥ وقد أشار إلى القول: بأنها سبعين بدنة، كما أشار السمرقندي ٣/ ٢٥٧ إلى القولين جميعًا.
313
أي: حبستهم، ويقال: إنك لتعكفني عن حاجتي، أي: تصرفني (١)، قال الأزهري: يقال: عكفته عكفاً فعكف عكوفاً (٢)، وهو لازم وواقع، كما يقال: رجعته فرجع، إلا أن المصدر اللازم العكوف، ومصدر الواقع العكف.
قوله: ﴿أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ قال الزجاج: موضع (أن) منصوب على معنى وصدوا الهدي محبوساً عن أن يبلغ محله (٣).
قال مقاتل: يعني منحره (٤)، وهو الحرم كله.
﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ﴾ يعني: المستضعفين من المؤمنين الذين كانوا بمكة بين ظهراني الكفار وهم كالوليد بن المغيرة، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وأبي جندل (٥) بن سهيل وأشباههم (تعلموهم) أي: لم تعرفوهم كقوله: ﴿لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ [الأنفال:
(١) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ٩٥، وتفسير السمرقندي ٣/ ٢٥٧، "تفسير البغوي" ٧/ ٣٢٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٨٣.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" عكف ١/ ٣٢١.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٧.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٥.
(٥) أبو جندل بن سهيل بن عمرو بن عامر بيب لؤي، وأبوه سهيل بن عمرو الذي بعثته قريش إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية، ولما اتفق مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الصلح جاء ابنه أبو جندل يوسف في الحديد قد انفلت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رأى سهيل ابنه أبا جندل أخذه وقال: يا محمد قد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، قال: "صدقت"، وأخذه ليرده إلى قريش، فصاح أبو جندل: يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين ليفتنوني في دينى؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "احتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا" توفي رحمه ألله سنة ٢٣ هـ، انظر: "الكامل" لابن الأثير ٢/ ١٣٨، ٣/ ٤١.
314
٦٠]، قال مقاتل: لم تعلموهم أنهم مؤمنون (١).
قوله: ﴿أَنْ تَطَئُوهُم﴾ أي: بالقتل وتوقعوا بهم، يقال: منه وطِئت القوم أي: أوقعت بهم، ومنه قول الشاعر:
ووطِئَتْنَا وَطْأً على حَنَقٍ وطْأَ المُقَيَّدِ يابِسَ الهَرْمِ (٢)
قال أبو إسحاق: موضع (أن) رفع بدل من رجال، المعنى: لولا أن تطأوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات (٣).
قوله: ﴿فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ﴾ قال مقاتل وابن زيد: إثم (٤)، قال أبو عبيدة وابن هانئ: المعرفة: الجناية، أي: جناية كجناية العَرِّ وهو الجَرَب (٥).
وقال النضر: يقال عَرَّه بشر، أي: ظلمه وشتمه وأخذ ماله.
وقال شمر: المعرفة التي كانت تصيب المؤمنين أنهم لو كبسوا (٦) أهل مكة وبين ظهرانيهم قوم مؤمنون لم يتميزوا من الكفار، لم يأمنوا أن يطؤوا المؤمنين بغير علم فيقتلوهم، فتلزمهم دياتهم وتلحقهم سُبَّةُ بأنهم قتلوا من
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٥.
(٢) البيت: لزهير، انظر: "تهذيب اللغة" (هرم) ٦/ ٢٩٦، "اللسان" (هرم) ١٢/ ٦٠٧، "الدر المصون" ٦/ ١٦٤.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٧.
(٤) انظر: "تفسير الماوردي" ٥/ ٣٢٠، "تفسير البغوي" ٧/ ٣٢٠، "زاد المسير" ٧/ ٤٤٠، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٨٦، وقد نسب كل منهم هذا القول لابن زيد، ولم أجده في "تفسير مقاتل".
(٥) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢١٧، "تهذيب اللغة" (عر) ١/ ٩٩، "فتح القدير" للشوكاني ٥/ ٥٤.
(٦) قال في "تهذيب اللغة" (كبس) التكْبِيسُ: الاقتحام على الشيء تقول كبَّسُوا عليهم ١٠/ ٨٠.
315
هو على دينهم إذ كانوا مختلطين بهم، فهذه المعرة التي صان الله المؤمنين عنها هي غُرم الديات ومسبة الكفار إياهم، انتهى كلامه (١)، أما غرم الدية فهو قول محمد بن إسحاق بن يسار (٢)، وهو غلط لأن الله تعالى لم يوجب على قاتل المؤمن خطأ في دار الحرب الدية، وإنما أوجب الكفارة في قوله: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ﴾ [النساء: ٩٢]، فالصحيح أن يقال: غرم الكفارة (٣)، وأما المَسَبّة فهو اختيار أبي إسحاق (٤).
قوله: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ مقدم في المعنى، كأن التقدير: لولا أن تطؤوهم بغير علم (٥)، وهذه الآية دليل على أن القرية من قرى المشركين إذا كان فيها طائفة من المسلمين لا يجوز البيات عليهم ولا تعميمهم بالحرق والغرق والمجانيق، وفي هذه الآية ضروب من النظم.
قال صاحب النظم: التأويل: ولولا تطؤوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات لا تعرفون إيمانهم فتوقعون، فلما قدم ذكر الرجال والنساء، والمراد في التقديم، الوطأة بَنَى عليه الوطاة (٦) كالتكرير في ذكره، وهذا معنى ما ذكره أبو إسحاق أن قوله: أن ﴿تَطَئُوهُمْ﴾ بدل من قوله: (رجال) (٧).
واختلفوا في جواب قوله: (ولولا رجال) فذهب قوم إلى أنه محذوف
(١) انظر قولي النضر وشمر في "تهذيب اللغة" (عر) ١/ ٩٩ - ١٠٠.
(٢) أخرجه الطبري ١٣/ ١٠٢ عن ابن إسحاق، وذكره الثعلبي ١٠/ ١٥١ أ، والماوردي ٥/ ٣٢٠، والبغوي ٧/ ٣٢٠، وابن الجوزي ٧/ ٤٤٠، والقرطبي ١٦/ ٢٨٦.
(٣) وهذا اختيار الطبري ١٣/ ١٠٢، وأورده الثعلبي ١٠/ ١٥١أ، والبغوي ٧/ ٣٢٠.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٧.
(٥) انظر: "تفسير الوسيط" ٤/ ١٤٣.
(٦) كذا رسمها في الأصل ولم أقف عليه.
(٧) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٧.
316
علي تقدير: لسلطناكم عليهم ولأذنا لكم في دخولها، وحذف الجواب كثير في التنزيل، وقال آخرون: جوابه قوله: (لعذبنا الذين كفروا) وهو جواب لكلامين أحدهما: لولا رجال، والثاني: لو تزيلوا (١).
قوله تعالى: ﴿لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ اللام متعلق بمحذوف دل عليه معنى الكلام على تقدير: حال بينكم وبينهم ليدخل الله في رحمته من يشاء، يعني من أسلم من الكفار بعد الصلح، ودل على الحيلولة قوله: (ولولا رجال مؤمنون) (٢).
وقال أبو جعفر النحاس: أجاز أبو حاتم الوقف على قوله: (بغير علم)، وجعل اللام في قوله: (ليدخل الله) لام قسم كما جعل في قوله: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ﴾ ما تقدم الآية [لما لم (٣) ير قبل اللام فعلاً متعلقاً به]، وفي هذا المعنى لطف، فلذلك أشكل عليه، والتقدير: لم يأذن لكم في القتال ودخول مكة على سبيل العرب، ليدخل الله في رحمته من يشاء ممن يسلمون وتم الكلام (٤)، ثم قال: ﴿لَوْ تَزَيَّلُوا﴾ قال أبو عبيدة: لو انمازوا (٥)، وقال الفراء والزجاج: لو تميزوا (٦)، وذكرنا تفسير هذا الحرف عند قوله: ﴿فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ﴾ [يونس: ٢٨]. قال الكلبي: لو تفرق بعضهم من
(١) انظر: "التبيان في إعراب القرآن" للعكبري ٢/ ١١٦٧، "الدر المصون" ٦/ ١٦٤.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" ٧/ ٣٢٠، "البحر المحيط" ٨/ ٩٩.
(٣) نص العبارة عند النحاس (فجلها لام قسم لما لم ير الفعل قبلها يتعلق به). انظر: "القطع والائتناف" للنحاس ص ٦٧١.
(٤) انظر: "القطع والائتناف" ص ٦٧١.
(٥) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢١٧
(٦) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٦٨، "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٧.
317
بعض حتى يخلص الكفار وحدهم (١).
قوله تعالى: ﴿لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ وقال مقاتل: لو اعتزل المؤمنون الذين بمكة من كفارهم لعذبنا الذين كفروا (٢).
قال الفراء: أي: لو خلص الكفار من المؤمنين لأنزل الله بهم القتل والعذاب (٣).
وقال ابن قتيبة: لو تميزوا من المشركين لعذبنا المشركين بالسيف عذاباً أليماً (٤). قال مجاهد: يعني القتل والسبي (٥).
٢٦ - قوله: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ﴾ (إذ) متعلق بقوله: (لعذبنا) لأن المعنى: لعذبنا الذين كفروا إذ جعلوا في قلوبهم الحمية، وهي مصدر قولك: حمى فلانٌ أنفه يحميه حَمِيَّة أو مَحْمِيَّة، وفلان ذو حمية منكرة، إذا كان ذا غضب وأنفة (٦)، ومعناها الحفاظ من قولهم: حمي فلان الشيء يحميه، إذا منعه من أن يُقْرَب ويجوز أن يكون من الحمى بمعنى الحرارة، قال الليث: حميت من هذا الشيء أحمي منه
(١) ذكر ذلك الماوردي في "تفسيره" ٥/ ٣٢٥، والقرطبي في "الجامع" ١٦/ ٢٨٦، وانظر: "تنوير المقباس" ص ٥١٤.
(٢) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٥.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٦٨.
(٤) انظر: "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة ٢/ ١٣٤.
(٥) لم أقف على هذا القول، وقال الطبري ١٣/ ١٠٣: لقتلنا من بقي فيها بالسيف أو لأهلكناهم ببعض ما يؤلمهم من عذابنا العاجل، وذكره في "الوسيط" ٤/ ١٤٣ بلفظ المؤلف ولم ينسبه.
(٦) انظر. "تهذيب اللغة" (حمى) ٥/ ٢٧٤.
318
حمية، أي أنفاً وغضباً، منه لرجل حمي لا يحتمل الضيم، وحمي الأنف (١).
قال المبرد: الحمية الأنفة والإنكار، فإذا كانت مما لا يوقف من مثله فهو ضلالة وعلو، كما قال تعالى: ﴿حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ وإذا كانت لما يجب أن يوقف منه فصاحبها محمود.
قال الفراء: حموا أنفاً أن يدخلها عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- (٢).
قال المقاتلان: قال أهل مكة: قد قتلوا أبناءنا وإخواننا ويدخلون علينا في منازلنا ونسائنا، وتحدث العرب أنهم قد دخلوا علينا على رغم أنفنا، واللات والعزى لا يدخلونها علينا -يعنون محمداً وأصحابه- فهذه الحمية الجاهلية التي دخلت قلوبهم (٣).
وقال الزهري: كانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم (٤). وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وذلك أن سهيل بن عمرو كان عند النبي صلى -صلى الله عليه وسلم- وهو يملي كتاب الصلح، وسهيل مشرك فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال سهيل: لا ندري ما الرحمن، ولكن اكتب: بسمك اللهم. ثم قال:
(١) انظر: "العين" (حمى) ٣/ ٣١٢، "تهذيب اللغة" (حمى) ٥/ ٢٧٤ لكن بلفظ (أنفًا وغيظًا) بدل غضبًا.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٦٨. ولم أقف على قول المبرد.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٥، ٧٦، وأورد السمرقندي ٣/ ٢٨٥ هذا القول ولم ينسبه، وذكره البغوي ٧/ ٣٢١ ونسبه لمقاتل، وأورده ابن الجوزي في "زاد المسير" ولم ينسبه ٧/ ٤٤١، ونسبه في "الوسيط" ٤/ ١٣ للمقاتلان.
(٤) أخرج ذلك الطبري١٣/ ١٠٣ عن الزهري. وأورده الثعلبي ولم ينسبه ١٠/ ١٥١ ب، ونسبه للزهري: الماوردي ٥/ ٣٢٠، والقرطبي ١٦/ ٢٨٨، ٢٨٩.
319
"اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله"، فقال سهيل: لو علمنا أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك (١).
قوله تعالى: ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ تفسير السكينة في هذه السورة قد مر مراراً، ومعناها هاهنا ما ذكره الفراء: أذهب الله عن المؤمنين أن يدخلهم ما دخل أؤلئك من الحمية فيعصوا الله (٢).
قوله تعالى: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى﴾ قال مقاتل: ألزم المؤمنين كلمة الإخلاص وهي: لا إله إلا الله (٣)، وهذا قول جماعة المفسرين (٤)، ورواية أبي بن كعب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال في تفسيرها هي: لا إله إلا الله (٥)، وزاد علي وابن عمر: والله أكبر (٦).
قال عمرو بن ميمون: ما تكلم الناس بشيء أعظم عند الله من لا إله إلا الله، وهي الكلمة التي ألزمها الله أصحاب محمد (٧).
(١) أورد ذلك الطبري ١٣/ ٩٩، الثعلبي ١٠/ ١٤٧ ب، "البغوي" ٧/ ٣١٦.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٦٨.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٦.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ١٠٤، ١٠٥، "الثعلبي" ١٠/ ١٥٢ أ، "السمرقندي" ٣/ ٢٥٨، "الماوردي" ٥/ ٣٢١، "البغوي" ٧/ ٣٢١.
(٥) أخرج ذلك الترمذي في التفسير باب (٤٩) ومن سورة الفتح ٥/ ٣٨٦، وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث الحسن بن قزعة، قال: وسألت أبا زرعة عن هذا الحديث فلم يعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، والثعلبي ١٠/ ١٥٢ أعن أبي بن كعب. ونسبه البغوي ٧/ ٣٢١، والقرطبي ١٦/ ٢٨٩.
(٦) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١٠٤ عن علي -رضي الله عنه-، والثعلبي ١٠/ ١٥٢ أ، ونسبه ابن الجوزي ٧/ ٤٤٢، والقرطبي ١٦/ ٢٨٩، والبغوي ٧/ ٣٢١ لعلي وابن عمر.
(٧) أخرجه الطبري ١٣/ ١٠٥ عن عمرو بن ميمون قال: لا إله إلا الله فقط دون ما ذكره المؤلف.
320
وقال الزهري: هي بسم الله الرحمن الرحيم (١)، يعني أن المشركين لما أبوا أن يقروا بهذا خص الله بهذه الكلمة المؤمنين (٢)، والقول هو الأول لأن معنى كلمة التقوى هي التي يتقى بها من الشرك وهي: لا إله إلا الله.
قوله: ﴿وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ قال مقاتل: كانوا أحق بها من كفار مكة، وكانوا أهلها في علم الله (٣).
وقال أبو إسحاق: أي كانوا أحق بها من غيرهم؛ لأن الله جل وعز اختار لنبيه ولدينه أهل الخير ومستحقيه، ومن هو أولى بالهداية من غيرهم (٤).
قوله: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ قال مقاتل: عليماً بأنهم كانوا أهلاً للتوحيد في علم الله (٥). والمعنى: أنه عليم بأمر الكفار وما يستحقونه، وأمر المؤمنين وما يستحقونه.
٢٧ - وقوله: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ﴾ قال مقاتل: إن الله تعالى أرى نبيه -عليه السلام- في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية كأنه وأصحابه حلقوا وقصروا، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلوه عامهم ذلك، وقالوا: إن رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم- حق، فلما انصرفوا ولم
(١) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١٠٦ عن الزهري، وأخرجه الثعلبي عن الزهري ١٠/ ١٥٢ أ، وعبد الرزاق في "تفسيره" عن الزهري ٢/ ٢٢٩، ونسبه الماوردي ٥/ ٣٢١، والبغوي ٧/ ٣٢٢، وابن الجوزي للزهري ٧/ ٤٤٢.
(٢) ذكر ذلك القرطبي في "الجامع" ١٦/ ٢٨٩.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٦.
(٤) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٨، بلفظ: (ومن هو أولى بالهداية من غيره).
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٦.
321
يدخلوه قال المنافقون: والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام، فأنزل الله هذه الآية (١).
وقال مجاهد: أري هذه الرؤيا بالحديبية، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية أين رؤيا محمد -صلى الله عليه وسلم-، فنزلت الآية (٢)، والمعنى: أن الله تعالى يخبر عن صدق ما أرى رسوله بقوله: صدقه الله رؤياه، أي: أراه الصدق في منامه لا الباطل.
قوله تعالى: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ المفسرون يجعلون هذا تفسير رؤياه وشرح ما رأى، ومقاتل يجعل هذا ابتداء إخبار عن الله تعالى أخبر المؤمنين أنهم يدخلونه فقال: (لتدخلن)، يعني: العام المقبل (٣)، وابن كيسان يجعل هذا الكلام خبراً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال ذلك لأصحابه (٤) والتقدير: فقال: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾، والاستثناء بالمشيئة على هذا القول حسن، لأنه من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم معنى الاستثناء بالمشيئة يجوز أن يعود إلى الدخول، ويجوز أن يعود إلى الأمن، أي: لتدخلنه إن شاء الله الدخول، أو لتدخلنه آمنين إن شاء الله الأمن (٥)، وإذا
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٦، "تفسير الطبري" ١٣/ ١٠٧، وقد أخرجه عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأورده البغوي ٧/ ٣٢٢ بغير سند ٧/ ٣٢٢، ونسبه القرطبي ١٦/ ٢٨٩ لقتادة.
(٢) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١٠٧ عن مجاهد، وانظر: "تفسير مجاهد" ص ٦٠٩، "تفسير البغوي" ٧/ ٣٢٢.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٦، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٩٠.
(٤) ذكر ذلك الثعلبي ١٠/ ١٥٢ ب، البغوي ٧/ ٣٢٣، والقرطبي ١٦/ ٢٩٠.
(٥) ذكر ذلك الثعلبي ١٠/ ١٥٢ ب، البغوي ٧/ ٣٢٣، وابن الجوزي ٧/ ٤٤٣.
322
من هذا من كلام الله واختاره للمؤمنين بذلك، فوجه الاستثناء مختلف فيه.
قال أبو عبيدة: (إن) بمعنى إذ يعني: إذ شاء الله، حيث أرى رسوله ذلك (١)، وذكر أبو إسحاق فيه وجهين أحدهما: أن معناه: لتدخلن إن أمركم الله، فالمشيئة هاهنا بمعنى الأمر؛ لأنه إذا شاء أمر، والثاني: أن يكون (إن شاء الله) على ما أمر الله به في كلِّ ما يُتوقع فقال: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ (٢) [الكهف: ٢٣]، وهذا معنى ما روي عن أبي العباس أنه سئل عن هذا فقال: استثنى الله فيما يعلم، ليستثني الخلق فيما لا يعلمون (٣).
قوله تعالى: ﴿آمِنِينَ﴾ أي من العدو، و ﴿مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ﴾ يقال: حَلَقَ رأسَه، وحَلّق رأسه، والمحلق موضع حلق الرأس بمنى، ومنه قول الراجر:
(١) لم أجد قول أبي عبيدة في "مجاز القرآن"، ولكن قد نسبه إليه الثعلبي ١٠/ ١٥٢ ب، البغوي ٧/ ٣٢٣، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٤٤٣ والقرطبي ١٦/ ٢٩٠، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٨/ ١٠١، والمؤلف في "الوسيط" ٤/ ١٤٥، وقال النحاس في "إعراب القرآن" ٤/ ٢٠٤: (وقد زعم بعض أهل اللغة أن المعنى لتدخلن المسجد الحرام إذ شاء الله وزعم أنه مثل قوله: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ وأن مثله: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) وهذا قول لا يعرج عليه ولا يَعرِفُ أحد من النحويين (إن) بمعنى (إذ) وإنما تلك (أن) فَغَلِطَ وبينهما فصل في اللغة والأحكام عند الفقهاء والنحويين). وقال ابن عطية: وقال قوم: إن بمعنى إذ فكأنه قال: إذ شاء الله، وهذا حسن في معناه، ولكن كون إن بمعنى إذ غير موجود في لسان العرب. انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية ١٥/ ١٢٠.
(٢) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٨.
(٣) ذكر ذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٤٤٣، والقرطبي ١٦/ ٢٩٠ عن ثعلب.
323
كلا وربِّ البيْتِ والمُحَلّقِ (١)
قوله: ﴿وَمُقَصِّرِينَ﴾ أي من الشعر، يقال: قصر شعره، إذا جز من طوله، وهذا يدل على أن المُحْرم بالخيار عند التحلل من الإحرام إن شاء حلق وإن شاء قصر (٢).
قوله: ﴿لَا تَخَافُونَ﴾ حال من المحلقين والمقصرين، على تقدير غير خائفين (٣).
قوله تعالى: ﴿فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا﴾ أي: علم الله ما في تأخير الدخول من الخير والصلاح، ولم تعلموه أنتم وهو خروج المؤمنين من بينهم والصلح المبارك موقعه العظيم أثره. قال مقاتل: فعلم الله أنه يفتح عليهم خيبر قبل ذلك، ولم يعلموا (٤).
وقال غيره: علم الله أن ذلك كائن إلى سنة، ولم تعلموا أنتم (٥).
(١) ورد الرجز في "اللسان" غير منسوب. انظر: "اللسان" (حلق) ١٠/ ٦٤.
(٢) أخرج البخاري عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم ارحم المحلقين". قالوا: والمقصرين يا رسول الله. قال: "اللهم ارحم المحلقين". قالوا: والمقصرين يا رسول الله. قال: و"المقصرين". انظر: "صحيح البخاري" كتاب الحج- باب الحلق والتقصير عند الإحلال ٢/ ١٨٨.
وقال القرطبي ٢/ ٣٨١: قال علماؤنا: ففي دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمحلقين ثلاثًا وللمقصرين مرة دليل على أن الحلق في الحج والعمرة أفضل من التقصير، وأجمع أهل العلم على أن التقصير يجزئ عن الرجال إلا شيء ذكر عن الحسن أنه كان يوجب الحلق في أول حجة يحجها الإنسان.
(٣) انظر: "مشكل إعراب القرآن" لمكي ٢/ ٣١٢.
(٤) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٧.
(٥) ذكر ذلك السمرقندي في "تفسيره" ٣/ ٢٥٨ ونسبه للكلبي، ونسبه الماوردي في "تفسيره" ٥/ ٣٢٢، والقرطبي ١٦/ ٢٩١ للكلبي.
324
قوله: ﴿فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ أي: من قبل الدخول فتحاً قريباً، يعني فتح خيبر في قول ابن عباس في رواية عطاء ومقاتل وابن زيد (١)، وفي قول الآخرين هو صلح الحديبية (٢).
٢٨ - قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ﴾ مفسَّر في سورة براءة [آية: ٣٣] إلى قوله: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ أي: على ما أرسل، قال مقاتل: وهذا رد على المشركين لمَّا أملى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذا ما صالح عليه محمد رسوله، أنكروا ذلك على ما بينا، فأنزل الله هذه الآية (٣).
٢٩ - قوله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس: شهد له بالرسالة (٤) وهو جملة مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون محمد ابتداء، ورسول الله نعته، والذين معه عطف على الابتداء، وخبره فيما بعده (٥).
قال ابن عباس: (والذين معه) أهل الحديبية (٦).
(١) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١٠٨ عن ابن زيد، "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٧، ونسبه الثعلبي في "تفسيره" لابن زيد ١٠/ ١٥٣ أ، ونسبه ابن الجوزي ٧/ ٤٤٤ لابن عباس وعطاء وابن زيد ومقاتل، ونسبه القرطبي لابن زيد والضحاك ١٦/ ٢٩١.
(٢) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١٠٨ عن مجاهد والزهري وابن إسحاق، ونسبه الثعلبي لأكثر المفسرين ١٠/ ١٥٣ أ، ونسبه الماوردي لمجاهد ٥/ ٣٢٢، وانظر: "تفسير مجاهد" ص ٦٠٩، ونسبه ابن الجوزي لمجاهد والزهري وابن إسحاق ٧/ ٤٤٤، ونسبه القرطبي لمجاهد ١٦/ ٢٩١.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٧، "زاد المسير" ٧/ ٤٤٥، "القرطبي" ١٦/ ٢٩٢.
(٤) ذكر ذلك ابن الجوزي في "زاد المسير" ٧/ ٤٤٥، وفي "الوسيط" ٤/ ١٤٦ عن ابن عباس.
(٥) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٤/ ٢٠٥، "مشكل إعراب القرآن" لمكي ٢/ ٣١٣.
(٦) ذكر ذلك القرطبي "الجامع" ١٦/ ٢٩٢، ونسبه لابن عباس، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس، انظر ٤/ ١٤٦.
325
وقال مقاتل: والذين آمنوا معه من المؤمنين (١).
﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ غلاظ عليهم كالأسد على فريسته ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ يرحم أحدهم الآخر، قال ابن عباس: الرجل للرجل منهم كالولد لوالده، والعبد لسيده (٢).
وقال مقاتل: متوادون بعضهم لبعض (٣)، وهذا كقوله: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: ٥٤].
﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ إخبار عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها، قال ابن عباس: إن عروة بن مسعود الثقفي أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بالحديبية فأقام بلال فتقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهم خلفه وعروة يعجب من حسن ما يرى من ركوعهم وسجودهم (٤).
قوله تعالى: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ قال مقاتل: يعني الجنة ورضا الله (٥).
﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: أي: مما حملت من الأرض جباههم، وهذا قول عكرمة وسعيد بن جبير وأبي العالية، قال سعيد: هو ندى الطهور وندى الأرض (٦).
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٨.
(٢) ذكره بغير نسبة: البغوي ٧/ ٣٢٣ - ٣٢٤ دون قوله: والعبد لسيده، والمصنف في "الوسيط" ٤/ ١٤٦ بنصه.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٨.
(٤) لم أقف عليه.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٨، ونص العبارة: (فضلاً، يعني: رزقًا من الله ورضوانًا، يعنىِ يطلبون رضي ربهم).
(٦) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١١١ - ١١٢ عن سعيد بن جبير وعكرمة، ونسبه الثعلبي =
326
وقال أبو العالية: لأنهم يسجدون على التراب لا على الأثواب (١).
وقال شمر بن عطية: هو التهيج والصفرة في الوجه وأثر السهر (٢). وهو قول الحسن والضحاك، قال الحسن: تحسبهم مرضى وما هم بمرضى، يعني من كثرة السهر للصلاة.
وقال الضحاك: إذا سهر الرجل أصبح مصفراً.
وقال عطية: (مواضع السجود (٣) أشد وجوههم بياضاً يوم القيامة) (٤)، وعلى هذا القول هذه السيما تعرف في وجوههم يوم القيامة، وهذا قول الزهري وشهر بن حوشب، قال: يكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر، والقولان جميعاً ذكرهما الكلبي عن ابن عباس فقال: سيماهم من السهر بالليل والصفرة في وجوههم يعرفون بها يوم القيامة غرًّا (٥).
وقال مجاهد: هو الخشوع والتواضع وأنكر أن يكون [السحادة] (٦)
= لعكرمة وسعيد بن جبير، انظر: "تفسيره" ١٠/ ١٥٣ ب، ونسبه الماوردي ٥/ ٣٢٣ لسعيد بن جبير، ونسبه البغوي ٧/ ٣٢٤ لعكرمة وسعيد بن جبير.
(١) ذكر ذلك الثعلبي ١٠/ ١٥٣، ١٥٤، والبغوي ٧/ ٣٢٤، وابن الجوزي ٧/ ٤٤٦.
(٢) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١١١ عن شمر، وذكر ذلك الثعلبي ١٠/ ١٥٣ ب، وابن الجوزي ٧/ ٤٤٧، والقرطبي ١٦/ ٢٩٤ ونسبوه لشمر.
(٣) نص العبارة عند ابن الجوزي: (مواضع السجود من وجوههم يكون أشد وجوههم بياضًا يوم القيامة) انظر: "زاد المسير" ٧/ ٤٤٧. ونصها عند الطبري ١٣/ ١١٠: (مواضع السجود من وجوههم يوم القيامة أشد وجوههم بياضًا).
(٤) ذكر هذه الأقوال الثعلبي ١٠/ ١٥٣ ب، والماوردي ٥/ ٣٢٣، البغوي ٧/ ٣٢٤، وابن الجوزي ٧/ ٤٤٦ - ٤٤٧، والقرطبي ١٦/ ٢٩٤.
(٥) ذكر ذلك الثعلبي ١٠/ ١٥٣ - ١٥٤، وابن الجوزي ٧/ ٤٤٧، والقرطبي ١٦/ ٢٩٤.
(٦) كذا في الأصل، ولعل المراد (السحنة).
327
بين العينين، وقال إنه ليكون في وجه الرجل مثل ركبة العنز، وإنه لأخبث من كذا (١)، وهذا قول طاوس ومقاتل، ورواية الوالبي عن ابن عباس، قالوا: هو الهدي والسمت الحسن وسيما الإسلام وسحنته (٢)، وعلى هذا معنى قوله (من أثر السجود) أي: من أثر الصلاة، والمعنى: أن السجود أورثهم ذلك الخشوع والسمت الحسن الذي يعرفون به.
وحكى أبو إسحاق: أن هذه السيما هو أنهم يبعثون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الطهور، يجعله الله لهم يوم القيامة علامة يبين بها فضلهم على غيرهم (٣).
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾ يعني: ما ذكر من وصفهم وهو ما وصفوا في التوراة أيضًا، والمعنى أنهم وصفوا في التوراة بما وصفوا في القرآن، وتم الكلام هاهنا في قول ابن عباس فيما روى عنه ابن جريج، وهو قول الضحاك وقتادة ومقاتل وابن زيد (٤).
(١) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١١١ عن مجاهد، وذكره الثعلبي ١٠/ ١٥٣ ب، والقرطبي ١٦/ ٢٩٤، ونسباه لمجاهد مع اختلاف في بعض الألفاظ، ونسبه في "الوسيط" ٤/ ١٤٦ لمجاهد.
(٢) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١١١ عن ابن عباس، ونسبه الثعلبي ١٠/ ١٥٣ ب، والبغوي ٧/ ٣٢٤ لابن عباس، وانظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٨، ونسبه في "الوسيط" لابن عباس في رواية الوالبي.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٩، وقد ورد ذلك في الحديث الصحيح عند مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أمتي يأتون يوم القيامة غرًا محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فيلفعل"، انظر: "صحيح مسلم"، كتاب: الطهارة باب (١٢) اسححباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء ١/ ٢١٦.
(٤) أخرج ذلك الطبرى عن قتادة والضحاك وابن زيد ورجح هذا القول، انظر: =
328
قال مقاتل: يقول ذلك الذي ذكر نعت أمة محمد عليه السلام في التوراة، ثم ذكر نعتهم في الإنجيل (١) فقال: ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ﴾ وقال مجاهد: المثلان في التوراة والإنجيل واحد، وهذا قول ابن عباس في رواية الكلبي قال: يقول صفتهم في التوراة والإنجيل كصفتهم في القرآن (٢)، وذكر الفراء القولين أيضًا (٣)، وتمام الكلام على قول مجاهد: عند قوله في الإنجيل، ثم ابتدأ، فقال: كزرع، أي: هم كزرع، أو هو يعني: رسول الله كزرع، والكاف في محل الرفع، لأنه خبر المبتدأ المحذوف (٤).
قوله تعالى: ﴿أَخْرَجَ شَطْأَهُ﴾ يقرأ: بسكون الطاء وفتحها (٥)، قال أبو زيد: أشطأت الشجرة بغصونها، إذا أخرجت غصونها (٦)، وقال ابن الأعرابي: أخرج شطأه، أي: فراخه، وجمعه أشطاء، وقد أشطأ الزرع، إذا فرخ (٧)، ونحو هذا قال أبو عبيدة (٨).
= "تفسيره" ١٣/ ١١٢ - ١١٣، وكذلك الثعلبي فسره بذلك، انظر: "تفسيره" ١٠/ ١٥٤ أ، وكذلك فسره به البغوي ٧/ ٣٢٤، وأشار ابن الجوزي ٥/ ٣٢٣ إلى القولين ونسب هذا القول للضحاك وابن زيد ونسب القول بأنه مثل واحد لمجاهد، وأورد القولين من غير نسبة ولا ترجيح الماوردي في "تفسيره" ٥/ ٣٢٣.
(١) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٨.
(٢) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١١٣ عن مجاهد، ونسبه القرطبي ١٦/ ٢٩٤ لمجاهد.
(٣) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٦٩.
(٤) انظر: "مشكل إعراب القرآن" لمكي ٢/ ٣١٤، "الدر المصون" ٦/ ١٦٦.
(٥) قرأ ابن كثير وابن عامر: بالفتح، وقرأ الباقون: بالسكون، انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ٢٠٣.
(٦) انظر: "الحجة" ٦/ ٢٠٤ "تهذيب اللغة" (شطأ) ١١/ ٣٩٢.
(٧) انظر: "تهذيب اللغة" (شطأ) ١١/ ٣٩٢، "اللسان" (شطأ) ١/ ١٠٠.
(٨) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢١٨.
329
وقال الزجاج: أخرج نباته (١).
وقال المبرد: أشطأ فراخ الزرع يقال قد أشطأ الزرع، ومن هذا يقال للواحد من الأولاد: إنك لشطأةٌ صالحة (٢).
وقال أبو علي الفارسي: والشَّطْأ والشَطَأ يشبه أن يكونا لغتين، كالشَّمْع والشَّمَع والنَّهْر والنَّهَر (٣).
أما التفسير فقال أنس بن مالك: نباته وفروخه (٤).
وقال مجاهد: جوانبه (٥)، وقال [أبو زيد] (٦): أولاده (٧).
وقال الضحاك: هو ما يخرج بجنب الحلقة فينمو (٨).
قوله تعالى: ﴿فآزره﴾ القراءة بالمد، وقرأ ابن عامر: (فأزره) مقصوراً على فعله (٩).
(١) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٩.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ٢٠٤.
(٤) أخرج ذلك الطبري ١٣/ ١١٣ عن أنس بدون لفظ (فروخه)، ونسبه له الثعلبي ١٠/ ١٥٤ أ.
(٥) أخرج الطبري ١٣/ ١١٤ عن مجاهد بلفظ: (ما يخرج بجنب الحلقة فيتم وينمو)، وكذلك الثعلبي نسب هذا المعنى لمجاهد، انظر: "تفسيره" ١٠/ ١٥٤ أ.
(٦) كذا في الأصل، وهو تصحيف والصحيح [ابن زيد].
(٧) أخرج الطبري هذا القول عن ابن زيد انظر: "تفسيره" ١٣/ ١١٤، وكذلك نسبه الثعلبي لابن زيد ١٠/ ١٥٤ أ، وكذلك نسبه القرطبي ١٦/ ٢٩٤ لابن زيد وغيره.
(٨) أخرج الطبري ١٣/ ١١٤ هذا عن مجاهد، ونسبه الثعلبي في "تفسيره" لمجاهد والضحاك ١٠/ ١٥٤ أ.
(٩) انظر: "السبعة" لابن مجاهد ص ٦٠٤ - ٦٠٥، "الحجة" لأبي علي ٦/ ٢٠٤
330
قال أبو عبيدة: ساواه وصار مثل الأم، وأنشد لحميد الأرقط (١):
يَسْقِي بغَيْثٍ غَدِقٍ السَّاحَاتِ زَرْعَاً وقَضْباً مُؤْزَر النباتِ (٢)
وقال المبرد: معناه: أن هذه الأفرخ لحقت الأمهات حتى صارت مثلها (٣)، والمعنى: آزر الشطأ الزرع فصار في طوله.
وقال الأصمعي: فساوى الفراخ الطوال فاستوى طولها، وأنشد قول امرئ القيس:
بِمَحْنِيَّةٍ قَدْ آزَرَ الضَّالَ نَبْتُها مَجَرَّ جُيُوشٍ غانِمِيْنَ وخُيَّبِ (٤)
قال: أراد: أن نبت هذه المحنية طال حتى ساوى السدر، لأن الناس هابوه فلم يرعوه، وعلى قول هؤلاء فاعل (آزر) الشطأ، وآزر وزنه أفعل، ويدل عليه قول حميد.
وقال بُزُرْج: يقال: وأزرني فلان على الأمر وآزرني، والألف أعرب (٥) وهو من المؤازرة، وفعلت منها آزرت أزراً (٦).
(١) لم أقف على ترجمته.
(٢) انظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ٢/ ٢١٨، والبيت بلفظ: (السَّحات).
(٣) ذكر ذلك في "الوسيط" ونسبه للمبرد، انظر ٤/ ١٤٦.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" (وزر) ١٣/ ٢٤٧، "اللسان" (أزر) ٤/ ١٨، "الحجة" لأبي علي ٦/ ٢٠٤، "شرح الأبيات المشكلة الإعراب" ص ٣٣٢ - ٣٣٣، والمحنية: واحدة المحاني، وهي معاطف الأودية، والمحنية أخصب موضع في الوادي، والضال: شجر السدر، وآزر: ساوى، يريد: لحق النبت بالشجر، وهي مجمع للجيوش فلا ينزلها أحد ليرعاها خوفًا من الجيوش، وانظر: "ديوان امرئ القيس" ص ٥١.
(٥) في "تهذيب اللغة" (والألف أفصح) انظر: "تهذيب اللغة" (وزر) ١٣/ ٢٤٦.
(٦) انظر. "تهذيب اللغة" (وزر) ١٣/ ٢٤٦ - ٢٤٧.
331
وقال الفراء: آزرت فلاناً آزره أزراً، قويته على وزن عَزَّرته، وآزرته عاونته (١).
وقال الزجاج: آزرت الرجل على فلان، إذا أعنته عليه وقويته (٢)، وعلى هذا القول آزر وزنه فاعل.
قال المبرد: يقال: آزرني على أمري، أي: قواني (٣) ومنه قوله تعالى: ﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾ [طه: ٣١]، وفلان موازر، لفلان على أمره وليس هذا من الوزير لأن هذا فاؤه مهموز، والوزير فاؤه وواوه، فا عل (آزر) على هذا القول الزرعُ، والمعنى: آزر الزرعُ الشطأ (٤).
قال أبو الحسن الأخفش: الأشبه في آزر أفعل (٥) لا فاعل ليكون قول أبي عامر أزره فعله، فيكون فيه لغتان فَعَل وأفْعَل، لأنهما كثيرًا ما يتعاقبان على الكلمة كما قالوا: ألَتَهُ وآلَتَهُ يُولِتُهُ، وكذلك آزره وأزره (٦).
قال ابن عباس ومقاتل ومجاهد: فآزره فشده وأعانه (٧)، وقال الزهري وقتادة: فتلاحق (٨).
(١) انظر: "تهذيب اللغة" (وزر) ١٣/ ٢٤٧، "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٦٩.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" (وزر) ١٣/ ٢٤٧، ونسبه للزجاج والذي في "معاني القرآن" ٥/ ٢٩ للزجاج: (فآزره أي: فآزر الصغار الكبار حتى استوى بعضه مع بعض).
(٣) لم أقف على قول المبرد، وفي "تهذيب اللغة" الأزر: القوة (وزر) ١٣/ ٢٤٧، وفي "اللسان" الأزر: القوة والشدة (أزر) ٤/ ١٧.
(٤) انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ٢٠٥، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٩٥.
(٥) انظر: "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٦٩٥، وهذا النقل بنصه في "الحجة" ٦/ ٢٠٥.
(٦) انظر: "الحجة" لأبي علي ٦/ ٢٠٥.
(٧) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ١١٤، "الثعلبي" ١٠/ ١٥٤ ب، "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٨.
(٨) أخرج ذلك الطبري عن قتادة والزهري، انظر: "تفسيره" ١٣/ ١١٥.
332
قوله: ﴿فَاسْتَغْلَظَ﴾ يقال: استغلظ الشيء، إذا صار غليظاً، وهذا لازم، واستغلظت الثوب، إذا خيّل إليك أنه غليظ (١) واقع، واستغلظ النبات والشجر إذا غلظ، قوله: ﴿فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ﴾ ذكرنا تفسير السوق عند قوله: ﴿فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ﴾ [ص: ٣٣] وهي جمع ساق، قال الكلبي: فقام على قصبه وأصوله فأعجب ذلك زارعه (٢) وهو قوله: ﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾، وقال مقاتل: يعجب الزارع حُسْنُ زرعه حين استوى قائماً على ساقه (٣).
قال المفسرون: وهذا كله مثل ضربه الله تعالى لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فالزرع محمد، والشطأ أصحابه والمؤمنون حوله، وكانوا في ضعف وقلة (٤)، كان أول الزرع دقيقاً ثم غلظ وقوي وتلاحق، كذلك المؤمنون يقوي بعضهم بعضاً حتى يستغلظوا ويستووا على أمرهم، كما استغلظ هذا الزرع واستوى على سوقه، وهذا قول مقاتل (٥).
وقال الكلبي: محمد -صلى الله عليه وسلم- بدأ حين بدأ وحْدَه، فجعل الناس يأتونه وجعلوا يزدادون ويكثرون حتى امتنعوا وهابهم العدو وقهروا من حولهم (٦).
(١) انظر: "تهذيب اللغة" (غلظ) ٨/ ٨٤.
(٢) لم أقف عليه بهذا النص، وقد ذكر الثعلبي أنه بمعنى أصوله ولم ينسبه ١٠/ ١٥٤ ب، وكذا البغوي ٧/ ٣٢٥، وذكره في "الوسيط" ٤/ ١٤٧ بنص ما هنا ولم ينسبه.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٨.
(٤) انظر: "تفسير الطبري" ١٣/ ١١٥، "تفسير الثعلبي" ١٠/ ١٥٤ ب، "تفسير الماوردي" ٥/ ٣٢٤، "تفسير البغوي" ٧/ ٣٢٥، "زاد المسير" ٧/ ٤٤٨، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٩٥.
(٥) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٨.
(٦) ذكر نحو ذلك في "تنوير المقباس" ص ٥١٥، وفي "تفسير الوسيط" ٤/ ١٤٧ ولم ينسبه.
333
قوله تعالى: ﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾ من صفة كمال ذلك الزرع وحسنه.
وقال أبو إسحاق: (الزُّراع) الدعاة إلى الإسلام (١)، وعلى هذا معنى الكلام: أن قوة صحابة محمد -صلى الله عليه وسلم- وكثرتهم تعجب الدعاة إلى دينه، كما يعجب حسن هذا الزرع الذين زرعوه، وتم الكلام ثم قال: ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ واللام متعلق بمحذوف دل عليه ما سبق والتقدير: فعل الله بهم ذلك ليغيظ بهم الكفار (٢)، أي: إنما كثرهم وقواهم لكونوا غيظاً للكافرين، وروي لنا عن الشافعي -رضي الله عنه- أنه قال في قوله: ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ ما آمن أن يكونوا قد صارعوا الكفار، يعني: الرافضة، لأن الله تعالى يقول: ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ فمن غاظه واحد من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- خفت عليه أن يكون ممن دخل في قوله: ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ (٣).
وقوله: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، قال أبو إسحاق: فيها قولان: يكون منهم تخليصاً للجنس من غيره، كما تقول: أنفق نفقتك من الدراهم، أي: اجعل نفقتك هذا الجنس، والمعنى: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المؤمنين أجراً عظيماً، فضلهم على غيرهم لسابقتهم وعظم أجرهم، هذا كلامه في أحد القولين، وبياف أنه ليس يمكن حمل قوله: (منهم) على التبعيض لأنهم كلهم مؤمنون
(١) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٩.
(٢) انظر: "الدر المصون" ٦/ ١٦٧، "البحر المحيط" ٨/ ١٠٣.
(٣) ذكر القرطبي ١٦/ ٢٩٧ نحو هذه المقالة، وكذلك أبو حيان في "البحر المحيط" ٨/ ١٠٣، وابن كثير ٦/ ٣٦٥ ونسبوها جميعًا لمالك.
334
فحمله على الجنس ليدخل فيه كلهم، وتخصيصهم بوعد المغفرة والأجر تفصيل لهم، وإن وعد المؤمنون كلهم ذلك، ولكنهم إذا ذكروا على التخصيص كان ذلك فضيلة لهم، قال: والقول الثاني: أن يكون المعنى وعد الله الذين آمنوا، أي: أقاموا على الإيمان والعمل الصالح (١).
قوله تعالى: ﴿مِنْهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ قال ابن عباس: ثواباً لا ينقطع (٢)، وقال مقاتل: يعني الجنة (٣) والله تعالى أعلم.
(١) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ٥/ ٢٩ - ٣٠، "الدر المصون" ٦/ ١٦٧، "الجامع لأحكام القرآن" ١٦/ ٢٩٥ - ٢٩٦.
(٢) لم أقف عليه.
(٣) انظر: "تفسير مقاتل" ٤/ ٧٨.
335
سورة الحجرات
337
Icon