بسم الله الرحمن الرحيم
٥١ – سورة الذارياتقال المهايميّ : سميت بها لأنها مبدأ الخيرات، فأشبهت العناية الإلهية. وهي مكية. وآيها ستون.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الذارياتقال المهايميّ: سميت بها لأنها مبدأ الخيرات، فأشبهت العناية الإلهية. وهي مكية. وآيها ستون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١)وَالذَّارِياتِ ذَرْواً يعني: الرياح التي تذرو البخارات ذروا. أي نوعا من الذرو ليعقدها سحبا. أو النساء الولود، فإنهن يذرين الأولاد، مجازا شبه تتابع الأولاد بما يتطاير من الرياح. أو الأسباب التي تذري الخلائق من الملائكة وغيرهم. وهو استعارة أيضا شبهت الأشياء المعدة للبروز من كمون العدم، بالرياح المفرقة للحبوب ونحوها.
والذَّارِياتِ اسم فاعل (ذرا) المعتل بمعنى فرّق وبدّد ما رفعه عن مكانه.
ويقال: أذرى أيضا. وأما (ذرأ) المهموز فبمعنى أنشأ وأوجد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : آية ٢]
فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢)
فَالْحامِلاتِ وِقْراً أي السحب الحاملة للأمطار المنبتة للزروع والأشجار لإفادة الحبوب والثمار. كما قال زيد بن عمرو بن نفيل:
وأسلمت نفسي لمن أسلمت | له المزن تحمل عذبا زلالا |
و (الوقر) بسكر الواو، كالحمل وزنا ومعنى. وقرئ بفتح الواو على أنه مصدر سمي به المحمول.
فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤)
فَالْجارِياتِ يُسْراً أي السفن الجارية في البحر سهلا. أو الرياح الجارية في مهابّها. أو الكواكب التي تجري في منازلها. ويُسْراً صفة مصدر محذوف. أو جريا ذا يسر فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً أي الملائكة التي تقسّم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرهما، أو ما يعمهم وغيرهم من أسباب القسمة. أو الرياح يغسمن الأمطار بتصريف السحاب.
تنبيهات:
الأول- ذكرنا أن هذه الأمور الأربعة يجوز أن تكون أمورا متباينة، وأن تكون أمرا له أربعة اعتبارات. والأول هو المأثور عن عليّ رضي الله عنه: أن الذاريات هي الرياح، والحاملات هي السحاب، والجاريات هي السفن، والمقسمات هي الملائكة.
واختار بعضهم في (الجاريات) أنها الكواكب، ليكون ذلك ترقيا من الأدنى إلى الأعلى: فالرياح فوقها السحاب، والنجوم فوق ذلك، والملائكة فوق الجميع، تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية.
واستظهر الرازيّ أن الأقرب أن تكون صفات أربع للرياح، وأطال في ذلك.
واللفظ متسع بجوهره للكل- والله أعلم-.
الثاني- فائدة (الفاء) إن قيل إنها صفات الرياح، فلبيان ترتيب الأمور في الوجود. فإن الذاريات تنشئ السحاب. فتقسم الأمطار على الأقطار. وإن قيل إنها أمور أربعة، فالفاء للترتيب الذكريّ أو الرتبيّ.
الثالث- ذكر الرازيّ في الحكمة في القسم وجوها:
أحدها- أن الكفار كانوا في بعض الأوقات يعترفون بكون النبيّ ﷺ غالبا في إقامة الدليل، وكانوا ينسبونه إلى المجادلة، وإلى أنه عارف في نفسه بفساد ما يقوله، وأنه يغلبنا بقوة الجدل، لا بصدق المقال. كما أن بعض الناس إذا أقام عليه الخصم الدليل، ولم يبق له حجة، يقول: إنه غلبني لعمله بطريق الجدل، وعجزي عن ذلك.
وهو يعلم في نفسه أن الحق بيدي، فلا يبقى للمتكلم المبرهن طريق غير اليمين، فيقول: والله! إن الأمر كما أقول، ولا أجادلك بالباطل. وذلك لأنه لو سلك طريقا آخر من ذكر دليل آخر، فإذا تمّ الدليل الآخر يقول الخصم فيه مثل ما قال في الأول، إن
ثانيها- أن العرب كانت تحترز عن الأيمان الكاذبة، وتعتقد أنها تدع الديار بلاقع. ثم إن النبيّ ﷺ أكثر من الأيمان بكل شريف، ولم يزده ذلك إلا رفعة وثباتا.
وكان يحصل لهم العلم بأنه لا يحلف بها كاذبا، وإلا لأصابه شؤم الأيمان، ولناله المكروه في بعض الأزمان.
ثالثها- أن الأيمان التي أقسم الله تعالى بها، كلها دلائل أخرجها في صورة الأيمان. مثاله قول القائل لمنعمه: وحق نعمك الكثيرة إني لا أزال أشكرك. فيذكر النعم، وهي سبب مفيد لدوام الشكر، ويسلك مسلك القسم. كذلك هذه الأشياء كلها دليل على قدرة الله تعالى على الإعادة.
فإن قيل: فلم أخرجها مخرج الأيمان؟ نقول: لأن المتكلم إذا شرع في أول كلامه بحلف، يعلم السامع أنه يريد أن يتكلم بكلام عظيم، فيصغي إليه أكثر من أن يصغي إليه حيث يعلم أن الكلام ليس بمعتبر، فبدأ بالحلف، وأدرج الدليل في صورة اليمين، حيث أقبل القوم على سماعه، فخرج لهم البرهان المبين، والتبيان المتين، في صورة اليمين. انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٥ الى ٦]
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ جواب القسم و (ما) موصولة أو مصدرية. والموعود هو قيام الساعة، وبعث الموتى من قبورهم. و (صادق) بمعنى صدق. فوضع الاسم مكان المصدر، أو هو من باب (عيشة راضية). وَإِنَّ الدِّينَ أي الجزاء على الأعمال. إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر لَواقِعٌ أي لحاصل. قال قتادة: وذلك يوم القيامة، يوم يدين الله العباد بأعمالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٧ الى ٩]
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩)
وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ أي الطرق المختلفة التي هي دوائر سير الكواكب.
و (الحبك) أصل معناها ما يرى كالطريق في الرمل والماء، إذا ضربته الريح.
مكلل بأصول النّجم تنسجه | ريح خريق لضاحي مائه حبك |
وعن الحسن: (ذاتِ الْحُبُكِ) أي النجوم قال: حبكت بالخلق الحسن، حبكت بالنجوم. وذلك لأنها تزين السماء، كما يزين الثوب الموشّى تحبيكه، فشبهت النجوم بطرائق الوشي مجازا بالاستعارة.
وقال بعض علماء الفلك: الحبك جمع حبيكة، بمعنى محبوكة، أي: مربوطة.
فمعنى (ذاتِ الْحُبُكِ) ذات المجاميع من الكواكب المربوط بعضها ببعض بحبال من الجاذبية، فإن كل حبيكة مجموعة من الكواكب المتجاذبة. فالآية الشريفة نص على تعدد المجاميع وعلى الجاذبية التي يزعم الأفرنج أنهم مكتشفوها. وعليه، في إحدى معجزات القرآن العلمية. انتهى.
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ أي متخالف متناقض. قال ابن زيد: يتخرصون يقولون: هذا سحر ويقولون: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يُؤْفَكُ أي يصرف عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي صرف عن الحق الصريح الصرف التام، إذ لا صرف أشد منه.
وقد ذكر القاضي في مناسبة المقسم به للمقسم عليه، هو تشبيه أقوالهم في اختلافها، وتنافي أغراضها، بالطرائق للسموات في تباعدها، واختلاف غاياتها.
ثم أشار أنهم لم يؤفكوا لاتباعهم الدلائل، بل لأخذهم بالخرص والتخمين، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١٠ الى ١٣]
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ أي لعن الآخذون بالتخمين، مع ترك دلائل اليقين الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ أي في جهل يغمرهم عن وجوب اتباع الدلائل القاطعة، وترك الشبهات الواهية ساهُونَ أي غافلون عما أتاهم، وعما نزل إليهم، بالانهماك في اللذات البدنية، واستئثار الحظوظ العاجلة يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي متى يوم الجزاء، ويوم
قال القاضي: جواب للسؤال. أي يقع يوم هم على النار يفتنون، أو هو يوم هم.. إلخ، وفتح (يوم) لإضافته إلى غير متمكن، ويدل عليه أنه قرئ بالرفع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : آية ١٤]
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤)
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي مقولا لهم: ذوقوا عذابكم الذي طلبتموه، بل الذي استعجلتموه قبل وقته، كما قال: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ أي حصوله في الدنيا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : الآيات ١٥ الى ١٩]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي الذين اتقوا الله بطاعته، واجتناب معاصيه في الدنيا، وبتجنب القول بالخرص والتخمين في الأمور الاعتقادية فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ قال ابن جرير: أي عاملين ما أمرهم به ربهم، مؤدين فرائضه. وقال غيره: أي قابلين لما أعطاهم من النعيم الأخرويّ، راضين به.
وهذا هو الوجه. ولذا قال ابن كثير: والذي فسر به ابن جرير فيه نظر، لأن قوله تبارك وتعالى آخِذِينَ حال من قوله فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ فالمتقون في حال كونهم في الجنات والعيون، آخذين ما آتاهم ربهم. أي من النعيم والسرور والغبطة.
ثم أشار إلى سر استحقاقهم لذلك بقوله: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ يعني: في الدنيا مُحْسِنِينَ أي قد أحسنوا أعمالهم لغلبة محبة الله على قلوبهم، بظهور آثارها في أفعالهم وأقوالهم، كما بينه بقوله سبحانه كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ أي كانوا يهجعون هجوعا قليلا. لتقوى نفوسهم على عبادته تعالى، بنشاط.
روى ابن جرير عن أنس في الآية أنهم كانوا يصلّون ما بين هاتين الصلاتين، ما بين المغرب والعشاء.
وعن مطرّف: قلّ ليلة أتت عليهم، إلا صلوا فيها من أولها أو من وسطها.
وعن الحسن قال: لا ينامون من الليل إلا أقله، كابدوا قيام الليل.
وقرأ الأحنف بن قيس هذه الآية فقال: لست من أهل هذه الآية.
وعن الضحاك: أن الوقف على قوله تعالى كانُوا قَلِيلًا أي أن المحسنين كانوا قليلا ثم ابتدئ فقيل مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ و (ما) نافية. أي لا يهجعون.
قال ابن كثير: هذا القول فيه بعد وتعسف.
لطيفة:
في هذه الجملة الكريمة مبالغات في وصف هؤلاء بقلة النوم، وترك الاستراحة.
وذلك ذكر القليل. والليل الذي هو وقت النوم، والهجوع الذي هو الخفيف من النوم، وزيادة (ما) لأنها تدل على القلة. وبالجملة. ففي الآية استحباب قيام الليل، وذم نومه كله. والأحاديث على ذلك كثيرة شهيرة وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال القاضي: أي أنهم مع قلة هجوعهم، وكثرة تهجدهم، إذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم.
قال الرازيّ: في الآية إشارة إلى أنهم كانوا يتهجّدون ويجتهدون، ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك، وأخلص منه، فيستغفرون من التقصير. وهذا سيرة الكريم: يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقله، ويعتذر من التقصير. واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره، ويمنّ به. وفيه وجه آخر ألطف منه: وهو أنه تعالى، لما بين أنهم يهجعون قليلا، والهجوع مقتضى الطبع، قال يَسْتَغْفِرُونَ أي من ذلك القدر من النوم القليل. وفيه لطيفة أخرى نبيّنها في جواب سؤال: وهو أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع،. ولم يمدحهم بكثرة السهر، وما قال: كانوا كثيرا من الليل ما يسهرون، فما الحكمة فيه؟ مع أن السهر هو الكلفة والاجتهاد، لا الهجوع؟ نقول: إشارة إلى أن نومهم عبادة، حيث مدحهم الله تعالى بكونهم هاجعين قليلا، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى، وهو الاستغفار، في وجوه الأسحار ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم والاستكبار.
ثم قال: والاستغفار يحتمل طلب المغفرة بالذكر بقولهم: ربنا اغفر لنا.
وطلب المغفرة بالفعل، أي بالأسحار. يأتون بفعل آخر طلبا للغفران، وهو الصلاة.
والأول أظهر، والثاني عند المفسرين أشهر. انتهى.
لطيفة:
قال الزمخشريّ في (أساس البلاغة) إنما سمي (السحر) استعارة، لأنه وقت إدبار الليل، وإقبال النهار، فهو متنفس الصبح. انتهى.
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أي الفقير المتعفف الذي يظن غنيا، فيحرم الصدقة.
قال قتادة: هذان فقيرا أهل الإسلام: سائل يسأل في كفه، وفقير متعفف ولكليهما عليك حق، يا ابن آدم.
وفي الصحيح «١» عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان. ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه.
وروى الإمام أحمد عن الحسين بن عليّ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للسائل حق وإن جاء على فرس. ورواه أبو داود وأسنده عن عليّ كرم الله وجهه.
ويدخل في (المحروم) كل من لا مال له، ومن هلك ماله بآفة، ومن حرم الرزق واحتاج، إلا أن أهم أفراده المتعفف. ولذا عوّل عليه الأكثر.
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: في أموالهم حق سوى الزكاة يصلون بها رحما، أو يقرون بها ضيفا، أو يحملون بها كلّا.
ثم أشار تعالى إلى أنه لا حاجة إلى الخرص والتخمين في باب الاعتقادات، لكثرة الآيات الواضحة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : آية ٢٠]
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : آية ٢١]
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١)
وَفِي أَنْفُسِكُمْ، أَفَلا تُبْصِرُونَ أي في حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال، واختلاف ألسنتها وألوانها، وما جبلت عليه من القوى والإرادات، وما بينها من التفاوت في العقول والأفهام، وما في تراكيب أعضائها من الحكم في وضع كل عضو منها، في المحل المفتقر إليه، إلى غير ذلك مما لا يحصيه قلم كاتب، ولا لسان بليغ.
أنشد الحافظ ابن أبي الدنيا في كتابه (التفكير والاعتبار) لشيخه أبي جعفر القرشيّ:
وإذا نظرت تريد معتبرا | فانظر إليك، ففيك معتبر |
أنت الذي تمسي وتصبح في ال | دّنيا وكلّ أموره عبر |
أنت المصرّف كان في صغر | ثم استقلّ بشخصك الكبر |
أنت الذي تنعاه خلقته | ينعاه منه الشّعر والبشر |
أنت الذي تعطى وتسلب، لا | ينجيه من أن يسلب الحذر |
أنت الذي لا شيء منه له | وأحقّ منه بما له القدر |
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢)
وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ يعني ب (السماء) المزن، وب (الرزق) المطر، فإنه سبب الأقوات. والمراد ب ما تُوعَدُونَ العذاب السماويّ، لأن مؤاخذات المكذبين الأولين كانت من جهتها. والخطاب لمشركي مكة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : آية ٢٣]
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣)
فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي الذي خلقهما للاستدلال بهما على حقيقة ما أخبر
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٢٤ الى ٣٠]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ يعني: الملائكة الذي دخلوا عليه في صورة ضيف. قال الزمخشريّ: فيه تفخيم للحديث، وتنبيه على أنه ليس من علم رسول الله ﷺ وإنما عرفه بالوحي. وإكرامهم أن إبراهيم خدمهم بنفسه، وأخدمهم امرأته، وعجل لهم القرى، أو أنهم في أنفسهم مكرمون.
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ أي سلام عليكم قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي أنتم قوم لا أعرفكم. وهو كالسؤال منه عن أحوالهم، ليعرفهم. فإن قولك لمن لقيته:
أنا لا أعرفك! في قوة قولك: عرف لي نفسك وصفها.
فَراغَ إِلى أَهْلِهِ أي ذهب إليهم في خفية من ضيوفه. ومن أدب المضيف أن يخفي أمره، وأن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف، حذرا من أن يكفّه ويعذره- قاله الزمخشريّ- وأيده الناصر بما حكى عن أبي عبيد: أنه لا يقال راغ، إلا إذا ذهب على خفية وأنه يقال روّغ اللقمة إذا غمسها فرويت سمنا. قال الناصر: وهو من هذا المعنى، لأنها تذهب مغموسة في السمن حتى تخفى. ومن مقلوباته (غور الأرض) والجرح. وسائر مقلوباته قريبة من هذا المعنى. انتهى.
فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ أي قد أنضجه شيا فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ أي بأن وضعه بين أيديهم قالَ أَلا تَأْكُلُونَ أي منه. قال القاضي: وهو مشعر بكونه حنيذا. والهمزة فيه للعرض، والحث على الأكل على طريقة الأدب، إن قاله أول ما وضعه. وللإنكار، إن قاله حينما رأى إعراضهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٣١ الى ٣٧]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥)
فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧)
قالَ أي إبراهيم لضيفه فَما خَطْبُكُمْ أي أمركم وشأنكم أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ أي مؤاخذتهم لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ أي رجما لهم على فعلهم الفاحشة مُسَوَّمَةً أي مرسلة، أو معلّمة عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ أي المتعدّين حدود الله. الكافرين به فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها أي في تلك القرية مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي بإيحاء الخروج إليهم على لسان الملائكة، وهم لوط وابنتاه عليهم السلام. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يعني بيت لوط عليه السلام وَتَرَكْنا فِيها أي في تلك القرية آيَةً أي علامة تدل على إهلاكهم الدنيويّ الدال على الأخرويّ لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي في الآخرة وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠)
وَفِي مُوسى عطف على (فيها) بإعادة الجار، لأن المعطوف عليه ضمير مجرور. أي وتركنا في قصة موسى بإهلاك أعدائه، آية وحجة تبين لمن رآها حقية دعواه.
إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي ببرهان ظاهر فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ أي
أي آت بما يلام عليه من الكفر والعناد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢)
وَفِي عادٍ أي وتركنا في عاد، قوم هود عليه السلام آية إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ أي التي لا خير فيها من إنشاء مطر، أو إلقاح شجر. وهي ريح الهلاك.
ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ أي الشيء الهالك. وأصل الرميم: البالي المفتت، من عظم أو نبات أو غير ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٤٣ الى ٤٥]
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥)
وَفِي ثَمُودَ أي وتركنا في ثمود، قوم صالح عليه السلام إِذْ قِيلَ لَهُمْ أي بعد عقرهم الناقة تَمَتَّعُوا أي في داركم حَتَّى حِينٍ يعني: ثلاثة أيام، كما بينته الآية الأخرى.
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي فاستكبروا عن امتثاله فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ يعني العذاب الحالّ بهم، المعهود وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي إليها. فإنها نزلت بهم نهارا.
فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ أي نهوض، فضلا عن دفاع عذاب الله وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ أي ممتنعين من العذاب. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : آية ٤٦]
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦)
وَقَوْمَ نُوحٍ قرئ بالجر عطفا على وَفِي ثَمُودَ أو المجرورات قبل.
أو على محل وَفِي مُوسى مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي: مخالفين أمر الله، خارجين عن طاعته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٤٧ الى ٤٨]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨)
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ أي رفعناها بقوة وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ أي لقادرون على الإيساع، كما أوسعنا بناءها. وَالْأَرْضَ فَرَشْناها أي مهدناها ليتمتعوا بها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي لهم. وفي إيثار صيغة فاعل من (مهد على فرش) إشارة إلى أن من المواد ما تختلف صيغته في النظم فعلا واسما، فيكون في أحدهما أرق وألطف وأفصح، فيؤثر على غيره في ظرف، ويؤثر عليه غيره في آخر. والمرجع الذوق- كما بسطه ابن خلدون وابن الأثير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : آية ٤٩]
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩)
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ أي ذكرا وأنثى، أو نوعين متقابلين.
قال ابن كثير: جميع المخلوقات أزواج: سماء وأرض. وليل ونهار. وشمس وقمر. وبر وبحر. وضياء وظلام. وإيمان وكفر. وموت وحياة. وشقاء وسعادة. وجنة ونار. حتى الحيوانات والنباتات. انتهى. وهو مأخوذ من كلام ابن جرير في تأييد تفسير مجاهد، وعبارة ابن جرير:
وأولى القولين في ذلك قول مجاهد: وهو أن الله تبارك وتعالى خلق لكل ما خلق من خلقه ثانيا له، مخالفا في معناه. فكل واحد منهما زوج للآخر، ولذلك قيل خَلَقْنا زَوْجَيْنِ وإنما نبه جلّ ثناؤه بذلك من قوله: خلقه على قدرته على خلق ما يشاء، وأنه ليس كالأشياء التي شأنها فعل نوع واحد دون خلافه، إذ كل ما صفته فعل نوع واحد دون ما عداه، كالنار التي شأنها التسخين ولا تصلح للتبريد، وكالثلج الذي شأنه التبريد ولا يصلح للتسخين، فلا يجوز أن يوصف بالكمال، وإنما كمال المدح للقادر على فعل كل ما شاء فعله من الأشياء المختلفة والمتفقة. انتهى.
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ قال ابن جرير: أي لتذكّروا وتعتبروا بذلك، فتعلموا أيها
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : آية ٥٠]
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠)
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أي فرّوا من عقابه إلى رحمته، بالإيمان به، واتباع أمره، والعمل بطاعته. قال الشهاب: الأمر بالفرار من العقاب، المراد به الأمر بالإيمان والطاعة، لأنه لأمنه من العقاب بالطاعة، كأنه فر لمأمنه. فهو استعارة تمثيلية. إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي أنذركم عقابه، وأخوّفكم عذابه الذي أحلّه بهؤلاء الأمم الذين قص عليكم قصصهم، والذي هو مذيقهم في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : آية ٥١]
وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١)
وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي قد أبان النذارة قال أبو السعود: وفيه تأكيد لما قبله من الأمر بالفرار من العقاب إليه تعالى، لكن لا بطريق التكرير- كما قيل- بل بالنهي عن سببه، وإيجاب الفرار منه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٥٢ الى ٥٤]
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤)
كَذلِكَ أي كما ذكر من تكذيبهم الرسول، وتسميتهم له ساحرا أو مجنونا ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ يعني تقليدا لآبائهم، واقتداء لآثارهم، فمورد جهالتهم مؤتلف، ومشرع تعنتهم متحد. وقوله تعالى:
أَتَواصَوْا بِهِ إنكار وتعجيب من حالهم وإجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة التي لا تكاد تخطر ببال أحد من العقلاء، فضلا عن التفوّه بها. أي أأوصى بهذا القول بعضهم بعضا حتى اتفقوا عليه. وقوله تعالى: بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ إضراب عن كون مدار اتفاقهم على الشر تواصيهم بذلك، وإثبات لكونه أمرا أقبح من التواصي وأشنع منه، من الطغيان الشامل للكل، الدالّ على أن صدور تلك الكلمة الشنيعة من كل واحد منهم، بمقتضى جبلته الخبيثة، لا بموجب وصية من قبلهم بذلك- أفاده أبو السعود-.
تنبيه:
قول بعض المفسرين هنا- فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي فأعرض عن مجادلتهم، بعد ما كررت عليهم الدعوة- بعيد عن المعنى بمراحل، لأن مجادلتهم مما كان مأمورا بها على المدى، لأنها العامل الأكبر لإظهار الحق، كما قال تعالى: وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً [الفرقان: ٥٢].
وكذا قول البعض في قوله تعالى: فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ أي في إعراضك بعد ما بلغت فإنه مناف للأمر بالذكرى بعد. فالصواب ما ذكرناه في تفسير الآية، لأنه المحاكي لنظائرها. وأقعد التفاسير ما كان بالأشباه والنظائر- كما قيل-: وخير ما فسرته بالوارد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : آية ٥٥]
وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥)
وَذَكِّرْ أي عظهم فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ أي من قدّر الله إيمانه، أو الذين آمنوا، فإنهم المقصودون من الخلق، لا من سواهم، إذ هم العابدون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : آية ٥٦]
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦)
وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي لهذه الحكمة، وهي عبادته تعالى:
بما أمر على لسان رسوله، إذ لا يتم صلاح، ولا تنال سعادة في الدارين، إلا بها. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨)
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ بيان
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : آية ٥٩]
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩)
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بتكذيب الرسول والإصرار على الشرك والبغي والفساد، ذَنُوباً أي نصيبا وافرا من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ أي مثل أنصباء نظرائهم من الأمم المحكية. وأصل (الذنوب) الدلو العظيمة الممتلئة ماء، أو القريبة من الامتلاء. وهي تذكّر وتؤنّث، فاستعيرت للنصيب مطلقا، شرا كالنصيب من العذاب في الآية، أو خيرا كما في العطاء في قول عمرو بن شاس:
وفي كل حيّ قد خبطت بنعمة | فحقّ لشأس من نداك ذنوب |
فَلا يَسْتَعْجِلُونِ أي لا يطلبوا مني أن أعجل به قبل لأجله، فإنه لا بد آتيهم، ولكن في حينه، المؤخر لحكمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الذاريات (٥١) : آية ٦٠]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ أي أوعدوا فيه نزول العذاب بهم، ماذا يلقون فيه من البلاء والجهد. و (اليوم) إما يوم القيامة، أو يوم بدر.
قال أبو السعود: والأول هو الأنسب بما في صدر السورة الكريمة الآتية.
والثاني هو الأوفق لما قبله، من حيث إنهما من العذاب الدنيوي- والله أعلم-.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الطورقال المهايميّ: سميت به لأنه لما تضمن تعظيم مهبط الوحي، فالوحي أولى بالتعظيم، فيعظم الاهتمام بالعمل، لا سيما وقد عظم مصعد العمل وثمرته. وهذا من أعظم مقاصد القرآن وهي مكية، وآيها تسع وأربعون.
روي الشيخان «١» ومالك عن جبير بن مطعم قال: سمعت النبيّ ﷺ يقرأ في المغرب بالطور، فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه.
وروي البخاري «٢» : عن أم سلمة قالت: شكوت إلى رسول الله ﷺ إني اشتكي! فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة. فطفت ورسول الله ﷺ يصلي إلى جنب البيت، يقرأ بالطور وكتاب مسطور.
وأخرجه مسلم في: الصلاة، حديث رقم ١٧٤.
(٢) أخرجه البخاري في: التفسير، ٥٢- سورة الطور، ١- حدثنا عبد الله بن يوسف، حديث رقم ٣٠٩.