تفسير سورة الطور

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة الطور من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
سورة الطور كلها١ مكية
١ أدرج قبلها في الأصل وم: ذكر أن سورة الطور..

سُورَةُ الطُّورِ
ذكر أن سورة الطور كلها مَكِّيَّة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (وَالطُّورِ (١) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (٧) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (٩) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦).
قول - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالطُّورِ (١) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣). الآية.
ثم اختلف بالقسم بالطور وما ذكر؛ قال قائلون: القسم إنما هو بمنشئ هذه الأشياء التي ذكر، لا بهذه الأشياء أنفسها؛ إذ اللَّه تعالى نهى الخلق أن يقسموا بغيره، فكيف يقسم بنفسه.
وقال قائلون: يجوز أن يقسم - جل وعلا - بما شاء وبمن شاء، بالذي عظم قدره عندهم.
وقد ذكرنا: أن الأقسام إنما تكون بالأشياء التي عظمت أقدارها ومحلها عند الخلق، يقسم بها لدفع الشبه التي تمنع وقوع العلم لهم بذلك والمعرفة بالذي اشتبه عليهم والتبس؛ ليعرفوا أن ذلك كائن لا محالة، وأنه بالذي اشتبه عليهم والتبس، وأنه حق، بما لو تفكروا في تلك الأشياء وأمعنوا النظر فيها على غير قسم، لوقع لهم العلم بذلك وتحقق، واللَّه أعلم.
ثم اللَّه تعالى أقسم بأشياء سواه، وليس للخلق ذلك؛ لأن قسم الخلق يخرج مخرج الفزع إليه والتضرع، ولا يجوز الفزع إلا من سواه والاستعانة به، فأما القسم من اللَّه تعالى حقيقة فهو على التذكير والتنبيه للخلق، وتأكيد ما وعد لهم من الجزاء؛ فيجوز له القسم بكل ما يكون لهم التذكير والتنبيه والتأكيد، وإن كان بغيره وسواه مما لذلك خطر ومحل عند الناس وعند اللَّه تعالى، واللَّه أعلم.
ولأن القسم المذكور في القرآن لإثبات صدق أخبار الرسل إليهم، وأنهم رسله، وأنهم إذا فعلوا كذا ينزل عليهم من العذاب كذا؛ لأن أُولَئِكَ الكفرة لم يكذبوا اللَّه تعالى في خبر حتى يكون قسمه لإثبات صدق خبره، وإنما يتحقق صدق خبرهم بما أقاموا من المعجزات والبراهين، لكن يتأكد بالقسم فيحصل ذلك بذكر ما له خطر ومحل عندهم،
فأما قسم الخلق لإثبات أصل الصدق؛ فيجب أن يقسموا بذكر ما هو النهاية في العظمة والقدر في القلوب، وهو أسماء اللَّه تعالى وصفاته، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون القسم بهذه الأشياء من الرسل - عليهم السلام - فإن كان كذلك فهو على الإضمار؛ كأنهم قالوا: بمنشئ الطور، وكتاب مسطور وما ذكر إلى آخره؛ إذ القسم مِن البشر يكون باللَّه - سبحانه وتعالى - وصفاته، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالطُّورِ) جائز أن يكون القسم واقعا بالجبال كلها؛ لما أن الله تعالى أنشأ الأرض خلقًا تميد بأهلها، وأرسى فيها هذه الجبال ووتدها حتى استقرت وسكنت، حتى وصل الخلائق إلى الانتفاع بهذه الأرض والقرار عليها، وصارت مهادا لهم، وفراشا لهم؛ على ما ذكر؛ يتقلبون فيها، ويتصرفون كيف شاءوا وإن أرادوا ذا، أرادوا حيث أحبوا، ثم إذا عرفوا ذلك، لزمهم أن يعرفوا أن عليهم شكر ما أنعم عليهم، فإذا تركوا ذلك لزمهم عقوبة الكفران وجزاؤه، وأوعد لهم ذلك؛ فيؤكد ما ذكر من القسم وقوع ما ذكر من العذاب بهم؛ حيث قال: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (٧) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (٨).
ويحتمل أن يكون المراد بالطور: هو جبل خاص، وهو الجبل الذي كلم اللَّه - سبحانه وتعالى - موسى عليه، وأنزل عليه التوراة، وهو طور سيناء، وذلك جبل مما عظم قدره عند بني إسرائيل حتى عرفوا قدره وفضله، فأقسم بذلك الجبل (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ).
ويحتمل أن يكون المراد بالطور: هو جبال خاصة، وهي الجبال التي أوحى عليها إلى رسله - عليهم الصلاة والسلام - على ما روي في الخبر: " أوحى اللَّه تعالى إلى موسى - عليه السلام - في جبل ساعور، وإلى مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في جبل فاران "، فأقسم بها أن ما وعد من العذاب واقع بهم، واللَّه أعلم.
وفي الآية دلالة إثبات الرسالة؛ فإنه أخبر - عليه الصلاة والسلام - عن أمكنة الوحي، وفضل تلك الجبال ومعرفة ذلك إنما هو من الكتب المتقدمة، وهم قد أحاطوا العلم بأنه لم يكن اختلف إلى أحد ممن له معرفة بتلك الكتب حتى يعلم منه؛ فدل أنه باللَّه - عز وجل - عرف أمكنة الوحي، وفضل تلك الجبال، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (٢).
يحتمل القسم بجميع الكتب المنزلة على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - إذ بها يوصل إلى معرقة آيات الرسل - عليهم السلام - وإلى معرفة ما يؤتى ويتقى، وإلى أخبار السماء، ومعرفة الأحكام والحدود، وغير ذلك من أحكام من وجوه الحكمة، أقسم بها
أن العذاب واقع بهم، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن القسم يرجع إلى عدد من الكتب: كالتوراة، والإنجيل، والزبور - المعروفة التي عرف أهل الإيمان بها حقها ونزولها من السماء.
ويحتمل أنه راجع إلى خاص من الكتب، وهو القرآن بما عظم قدره عندهم؛ لما يعجز البشر عن إتيان مثله؛ على ما ذكرنا في الطور، واللَّه أعلم.
ويحتمل ما ذكره أهل التأويل: أنها الكتب التي يكتب فيها أعمال بني آدم، ولم يذكروا جهة القسم بها، ولست أعرف وجهه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) أي: غير مطوي.
وقال أبو عبيدة: الرق: الورق.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الرق: الكتاب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤).
يحتمل البيوت كلها جملة، وهي البيوت التي جعل اللَّه تعالى للخلق، يسكنون فيها، ويتقون بها من الحر والبرد، ويأمنون فيها، وهو ما قال اللَّه تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا...) الآية. ما عرف كل منافعها، وعظم نعمة اللَّه تعالى عليهم في ذلك؛ ليستأدي بذلك شكرا، فأقسم بما ذكر أن من لم يقم بوفاء الشكر، استوجب العذاب والعقوبة، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكون القسم بالبيت المعمور هو الكعبة، وهو معمور، قد عظم اللَّه شأنه وأمره في قلوب الناس كافة، في قلوب الكفار والمؤمنين جميعًا، حتى كانت قريش وسائر العرب يحجونه ويزورونه، ويعظمونه، فأقسم به؛ على ما ذكر، واللَّه أعلم.
وقال أبو عبيدة: البيت المعمور: الكثير الأهل.
وأهل التأويل يقولون: البيت المعمور هو في السماء، يزوره أهل السماء، ويطوفونه، لكن القسم به يبعد؛ لما لم يسبق لهم المعرفة والمشاهدة به، فكيف أقسم بشيء لم يعرفوه، ولا وقع لهم العلم بالمشاهدة؛ إلا أن يقال: إن القسم به لأهل الكتاب، وذلك في كتبهم يعرفونه، فأما من لم يسبق له الخبر والمعرفة بذلك مشاهدة فبعيد، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) هو السماء التي رفعها بلا عمد يرونها من أسفل، ولا تعليق من الأعلى، على بعدها من الأرض، وسعتها وعرضها وشدتها
الآية ٤ وقوله تعالى :﴿ والبيت المعمور ﴾ يحتمل البيوت كلها جملة، وهي البيوت التي جعل الله تعالى للخلق يسكنون فيها، ويتّقون بها الحرّ /٥٣٣-ب/ والبردَ، ويؤمنون فيها، وهو ما قال الله تعالى :﴿ والله جعل لكم من بيوتكم سَكَنًا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتًا ﴾ الآية [ النحل : ٨٠ ] ما عرف كلٌّ منافعها وعظم نعمة الله تعالى عليهم في ذلك ليستأدي شكرا، فأقسم بما ذكر إن لم يقم بوفاء الشكر استوجب العذاب والعقوبة، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون القسم بالبيت المعمور، هو الكعبة، وهو معمور، قد عظّم الله شأنه وأمره في قلوب الناس كافّة : في قلوب الكفار والمؤمنين جميعا، حتى كانت قريش وسائر العرب يحُجّونه، ويزورونه، ويعظّمونه فأقسم به على ما ذكر، والله أعلم.
وقال أبو عبيدة :﴿ والبيت المعمور ﴾ الكثير الأهل، وأهل التأويل يقولون : البيت المعمور، هو في السماء يزوره أهل السماء، ويطوفونه، لكن القسم به يبعُد لما يسبق لهم المعرفة والمشاهدة به، فكيف أقسم بشيء لم يعرفوه، ولا وقع لهم العلم بالمشاهدة إلا أن يقال : إلا أن القسم به لأهل الكتاب، وذلك في كتبهم، يعرفونه. فأما من لم يسبق له الخبر والمعرفة بذلك مشاهدة فبعيد، والله أعلم.
الآية ٥ وقوله تعالى :﴿ والسّقف المرفوع ﴾ هو السماء التي رفعها بلا عَمَد يرون من أسفل ولا تعليق من الأعلى على بُعدها من الأرض في وسَعَتها وعرضها وشدّتها وغلظها ليُعلم أن من فعل هذا لا يفعله لغير شيء، بل ليمتحن : يأمُر وينهى، ليستأدي شكره. فمن خالف أمره ونهيه، وكفر نِعمه، وانتهك محارمه، استوجب ما ذكر، والله أعلم، وليُعلم أنّ من قدر على ما ذكرنا قادر على كل شيء، لا يُعجزه شيء، يذكر سلطانه وقدرته وعظمته، والله أعلم.
وغلظها؛ ليعلم أن من فعل هذا، لا يفعله لغير شيء؛ بل ليمتحن، ويأمر، وينهى، وليستأدي شكره، فمن خالف أمره ونهيه، وكفر نعمه، وانتهك محارمه، استوجب ما ذكر، واللَّه أعلم.
وليعلم أن من قدر على ما ذكرنا قادر على كل شيء، لا يعجزه شيء، يذكر سلطانه وقدرته وعظمته، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦).
قال أهل الأدب: هو البحر الملآن الحار؛ لأنه - جل وعلا - منذ أنشأه، أنشأه حارًّا ممتلئًا، عميقا، لم يتغير في وقت من الأوقات، ولا في حال من الأحوال، بل كان على حالة واحدة حارًّا، مالحًا ممتلئًا عميقا عريضا، ليس كسائر الأنهار التي ربما تتغير عن جهتها من قلة الماء وسكونه وغورها في الأرض وامتلائها من الطين، وحاجتها إلى الحفر، وغير ذلك من التغير الذي يكون بها، فأما البحر على حالة واحدة في الأحوال كلها، فأقسم به: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ)، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (٩) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (١٠).
بين الوقت الذي ينزل بهم العذاب الموعود حين قال: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ)، ودل أن وقت تعذيب هذه الأمة يوم القيامة، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ).
وفيه وصف ذلك اليوم بالأهوال والشدة؛ لأنه تعالى ذكر أن السماء تمور مورًا، أي: تستدير استدارة، وتتحرك تحركًا، وذكر سير الجبال وما ذكر، وهذه الأشياء من أشد الخلائق وأصلبها، فهول ذلك اليوم وشدته عمل فيها ما ذكر من التحرك والسير والتغير وغير ذلك.
وفيه أن هذا العالم كله أنشأه بحيث يفنيه وينشئ عالمًا آخر؛؛ لأنه ذكر فيه التغير من حال إلى حال؛ لأنه ذكر مرة سيرها وتحركها حيث قال: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ)، وذكر السماء وتحركها ومورها، وذكر للأرض انشقاقها، حيث قال: (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ)، وقال في آية أخرى: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ)، وقال: (يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا)، وقال هاهنا: (وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا)، وكذلك قال في السماء والأرض اختلاف الأحوال، فقال: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ)؛ فدل إثبات التغير في هذه الأشياء على هلاكها، كما دل أنواع الأمراض والتغير من حال إلى حال في أهلها على هلاكها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) أي: المكذبين لرسلهم،
الآيتان ٧ و٨ أقسم به [ ثم قال :]١ ﴿ إن عذاب ربك لواقع ﴾ ﴿ ما له من دافع ﴾ والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل وم..
الآيتان ٩ و١٠ وقوله تعالى :﴿ يوم تمُور السماء مَوْرًا ﴾ ﴿ وتسير الجبال سيرًا ﴾ بين الوقت الذي ينزل بهم العذاب الموعود حين قال :﴿ إن عذاب ربك لواقع ﴾ ودلّ أن وقت تعذيب هذه الأمة يوم القيامة، وهو ما قال عز وجل :﴿ والساعة أدهى وأمرّ ﴾ [ القمر : ٤٦ ] والله أعلم.
وفيه وصف ذلك اليوم بالأهوال [ والشدة لأنه تعالى ذكر أن السماء تمور مورا، أي تستدير استدارة، وتتحرك تحرّكا، وذكر سير الجبال، وهذه الأشياء من أشد الخلائق وأصلبها، فهول ذلك اليوم وشدّته عمل فيها ]١ ما ذكر من التحرّك والسير والتّغيير وغير ذلك.
وفيه أن هذا العالم كلّه أنشأه بحيث يفنيه، ويُنشئ عالما آخر لأنه ذكر فيه التغيير من حال إلى حال ؛ ذكر٢ مرة سيرها وتحرُّكها حين٣ قال :﴿ وتسير الجبال سيرًا ﴾ وذكر السماء وتحرّكها ومورها، وذكر الأرض انشقاقها حين٤ قال :﴿ وتنشقّ الأرض ﴾ [ القمر : ٤٦ ] وقال في آية أخرى :﴿ وتكون الجبال كالعهن المنفوش ﴾ [ القارعة : ٥ ] وقال [ في آية أخرى ]٥ :﴿ ينسفُها ربي نسفا ﴾ [ طه : ١٠٥ ] وقال ههنا :﴿ وتسير الجبال سيرا ﴾.
وكذلك قال في السماء والأرض اختلاف الأحوال :﴿ يوم نطوي السماء كطيّ السّجل للكُتب ﴾ [ الأنبياء : ١٠٤ ] فدلّ إثبات التغيير في هذه الأشياء على هلاكها كما دلّ أنواع الأعراض والتغيُّر من حال إلى حال في أهلها على هلاكها، والله أعلم.
١ من م، في الأصل: و..
٢ أدرج قبلها في الأصل وم: لأنه..
٣ في الأصل وم: حيث..
٤ في الأصل وم: حيث..
٥ ساقطة من الأصل وم..
الآية ١١ وقوله تعالى :﴿ فويل يومئذ للمكذبين ﴾ أي المكذبين لرُسلهم عليهم السلام ويحتمل لتوحيده أو لحُججه أو للبعث.
عليهم السلام.
ويحتمل: لتوحيده، أو لحججه، أو للبعث.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢).
نعتهم ووصف أمرهم، حيث قال: (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ)، والخوض: هو البحث عن الشيء، إلا أن الخوض المطلق ذكروه واستعملوه في الباطل خاصة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣).
أي: يدفعون في النار على وجوههم.
وقال أبو عبيدة: يدفعون دفعًا في القفا خاصة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٤).
هو على الإضمار؛ كأنه يقال لهم: هذه النار التي كنتم بها تكذبون في الدنيا، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (١٥).
يقال لهم في الآخرة لما ألقوا في النار: أفسحر هذا؟! مقابل ما قالوا هم للحجج والبراهين في الدنيا إنها سحر.
(أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ) هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: يقال لهم لما أدخلوا النار: لعل ما أنتم فيه ليس بعذاب، وأنها ليست بنار، وأنتم لا تبصرون لذلك؛ كما أخبر عنهم في الدنيا: أنهم يقولون لحججه؛ حيث قال: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا...) الآية، فقال مقابل ذلك (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ) أي: لعلكم لا تبصرون.
والثاني: يقول: (أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ) في الدنيا: أن هذا ينزل بكم في الآخرة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ... (١٦) هذا كما قال إبليس: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ)؛ فعلى ذلك قوله - عز وجل -: (اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ) أصبرتم أو جزعتم؛ فلا ينفعكم ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
الآية ١٣ وقوله تعالى :﴿ يوم يُدّعون إلى نار جهنم دعًّا ﴾ أي يُدفعون في النار على وجوههم.
وقال أبو عبيدة : يدفعون دفعا في القفاء خاصة.
الآية ١٤ وقوله تعالى :﴿ هذه النار التي كنتم بها تكذّبون ﴾ هو على الإضمار ؛ كأنه يقال لهم :﴿ هذه النار التي كنتم بها تكذّبون ﴾ في الدنيا، والله أعلم.
الآية ١٥ وقوله تعالى :﴿ أفسِحرٌ هذا أم أنتم لا تُبصرون ﴾ يقال لهم في الآخرة لما يُلقون١ في النار :﴿ أفسحرٌ هذا ﴾ مقابل ما قالوا هم للحُجج والبراهين في الدنيا : إنها سحر.
[ وقوله تعالى ]٢ :﴿ أم أنتم لا تبصرون ﴾ يخرّج على وجهين :
أحدهما : يقال لهم لما يُدخلون٣ النار : لعل ما أنتم فيه، ليس بعذاب، وإنها ليست بنار، وأنتم لا تُبصرون ذلك، كما أخبر عنهم في الدنيا أنهم يقولون [ عن حُججه حين ]٤ قال :﴿ ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلّوا فيه يعرُجون ﴾ ﴿ لقالوا إنما سُكّرت أبصارنا ﴾ الآية [ الحجر : ١٤ و١٥ ] فقال مقابل ذلك :﴿ أفسحر هذا أم أنتم لا تُبصرون ﴾ أي لعلكم لا تُبصرون.
والثاني : يقول :﴿ أفسحر هذا أم أنتم لا تُبصرون ﴾ أن هذا ينزل بكم في الآخرة، والله أعلم.
١ في الأصل وم: القوا..
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: ادخلوا..
٤ في الأصل وم: لحججه حيث..
الآية ١٦ وقوله تعالى :﴿ اصلَوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم ﴾ هذا كما قال إبليس :﴿ سواء علينا أجزِعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ﴾ [ إبراهيم : ٢١ ] فعلى ذلك قوله تعالى :﴿ اصلَوها فاصبروا أو لا تصبروا سواءٌ عليكم ﴾ أي سواء عليكم أصبرتم أو جزعتم فلا ينفعكم ذلك.
وقوله تعالى :﴿ تُجزون ما كنتم تعملون ﴾ أي ذلك استوجبتم بأعمالكم، لا أن أوجبت عليكم شيئا، لم تستوجبوه.
أي: ذلك استوجبتم بأعمالكم، لا أن أوجبت عليكم شيئًا لم تستوجبوه.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ. كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٢٥) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ...) الآية.
يحتمل: في جنات وفي نعيم.
ويحتمل: في جنات فيها نعيم؛ فتكون الواو بمعنى " مع "، أي: في جنات مع نعيم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (١٨).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أي: ناعمين متنعمين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: معجبين وهما واحد المعجب به والناعم سواء؛ لأنه إذا كان ناعما متنعما، كان معجبا مسرورًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (فَاكِهِينَ): ناعمين، و (فَاكِهِينَ) معجبين بذلك؛ وهو قول الْقُتَبِيّ.
ثم ذكر هاهنا: (فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ)، وذكر في سورة " الذاريات ": (آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ)، فالفاكه ما ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ).
أي: آخذين ما آتاهم ربهم بالشكر منه والحمد، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ)، هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: وقاهم، أي: عصمهم في الدنيا عن الأعمال التي توبقهم وتهلكم لو أتوا بها وعملوها، فإذا عصمهم عن ذلك، وقاهم عن عذاب الجحيم، واللَّه أعلم.
والثاني: وقاهم أي: عفا عنهم في الآخرة، وصفح عما عملوا من الأعمال الموبقات في الدنيا ما لولا عفوه إياهم، لكانت توبقهم، ويستوجبون ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) كأنه على الإضمار، أي: يقال لهم لما أدخلوا الجنة، ونزلوا منازلهم: كلوا واشربوا.
وقوله: (هَنِيئًا) أي: ليس عليهم في ذلك خوف التبعة، ولا خوف حدوث مكروه في
الآية ١٨ وقوله تعالى :﴿ فاكهين بما آتاهم ربهم ﴾ قال بعضهم : أي ناعمين متنعّمين، وقال بعضهم : مُعجَبين، وهما واحد : المُعجَب به، والناعم سواء لأنه إذا كان ناعما متنعّما كان مُعجبا مسرورا، وقال بعضهم :﴿ فاكهين ﴾ ناعمين، وفكِهين١ مُعجَبين بذلك، وهو قول القتبيّ.
ثم ذكر ههنا :﴿ فاكهين بما أتاهم ربهم ﴾ وذكر في سورة : والذاريات :﴿ آخذين ما آتاهم ربهم ﴾ [ الآية : ١٦ ] فالفاكهة ما ذكرنا، وقوله عز وجل :﴿ آخذين ما أتاهم ربهم ﴾ بالشكر منه الحمد، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ووقاهم ربهم عذاب الجحيم ﴾ هذا يخرّج على وجهين :
أحدهما : وقاهم أي عصمهُم في الدنيا عن الأعمال التي توبقهم، وتهلكهم لو أتوا بها، وعمِلوها. فإذا عصمهم عن ذلك وقاهم عذاب الجحيم، والله أعلم.
والثاني : وقاهم أي عفا عنهم في الآخرة، وصفح عما عمِلوا من الأعمال الموبقات في الدنيا ما لولا عفوُه إياهم لكانت توبقهم، ويستوجبون ذلك، والله أعلم.
١ انظر معجم القراءات القرآنية ج٦/٢٥٥..
الآية ١٩ وقوله تعالى :﴿ كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون ﴾ كأنه على الإضمار، أي يقال لهم عندما [ يُدخلون الجنة، ويُنزلون ]١ منازلهم : كلوا، واشربوا.
وقوله تعالى :﴿ هنيئا ﴾ أي ليس عليهم في ذلك خوف التّبِعة ولا خوف حدوث مكروه في أنفسهم ولا آفة، لأن ذلك يُنغِّص عليهم ذلك، ليس كما يُؤكَل في الدنيا فيه خوف التّبعة، ولا خوف حدوث المكروه والآفات في أنفسهم والضّرر، فأخبر أن يكون لهم في الجنة ذلك لئلا يُنغّص عليهم نِعمها، والله أعلم.
١ في الأصل وم: ادخلوا الجنة ونزلوا..
أنفسهم ولا آفة؛ لأن ذلك ينغص عليهم ذلك، ليس كما يؤكل في الدنيا، فيه خوف التبعة، وخوف حدوث المكروه والآفات في أنفسهم والضرر، فأخبر: ألا يكون لهم في الجنة ذلك؛ لئلا ينغص عليهم نعمها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) ذكر أن لهم في الجنة جميع ما ترغب إليه أنفسهم في الدنيا، ويتمنون بها، كقوله تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ)، وقوله: (وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا. وَكَأْسًا دِهَاقًا)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ)، وأشباه ذلك مما يكثر عده مما تحدث به أنفسهم في الدنيا، ورغبهم فيه؛ ليرغبوا في طلبها وليتركوا ما في الدنيا من ذلك؛ ليصفوا لهم ذلك في الآخرة.
وهذه الأحوال التي ذكر وأخبر أنه تكون لهم في الآخرة من الاتكاء على السرر، والمقابلة في المجلس وغير ذلك من الأشياء التي ذكرها في الكتاب.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ).
كما يقال: تزوجت بفلانة وفلانة؛ فعلى ذلك هذا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (٢١).
قيل فيه بوجوه:
أحدها: ما قال أبو بكر الكيساني: أي: يلحق الأولاد بإيمانهم وأعمالهم درجات الآباء والأمهات، ولو قصرت أعمال الذرية عن أعمال الآباء والأمهات لأن الدرجات إنما تكون بالأعمال، فهم وإن لم يبلغوا في الأعمال مبلغ آباهم؛ فإنهم يلحقون بهم في الدرجات، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الذرية التقنوا الإيمان من آبائهم وأمهاتهم، وأخذوه منهم، ولم يبحثوا عن حجته وبرهانه حتى يكون أخذهم وقبولهم عن البحث عن الحجة والبرهان، فهم وإن كانوا مقلدين آباءهم في الإيمان، متلقنين منهم فإنهم يلحقون بآبائهم وإن كان الإيمان عن الحجة أفضل من الإيمان بالتقليد والالتقان.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الذرية وإن لم يبلغوا مبلغا يكون منهم الإيمان، فإنهم يلحقون بآبائهم وأمهاتهم في إيمانهم، وإن لم يكن منهم الإيمان ولم يأتوا به، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ).
على تأويل أبي بكر: أي: وما ألتنا من أعمال الذرية من شيء؛ أي: ما نقصنا أعمال آبائهم في الثواب وإن قصرت أعمالهم عن أعمالهم، بل يبلغون درجات آبائهم، ويوفرون
الآية ٢١ وقوله تعالى :﴿ والذين آمنوا واتّبعتهم ذريتهم ﴾ قيل فيه بوجوه :
أحدها : ما قال أبو بكر الكيسانيّ : أي يلحق الأولاد بإيمانهم وأعمالهم درجات الآباء والأمهات، وإن قصّرت أعمال الذّرية عن أعمال الآباء والأمهات، لأن الدّرجات إنما تكون بالأعمال ؛ فهم، وإن لم يبلُغوا في الأعمال مبلغ آبائهم، فإنهم يلحقون بهم في الدرجات، والله أعلم.
[ والثاني : ما ]١ قال بعضهم : إن الذُّرّية التقنوا الإيمان عن آبائهم وأمّهاتهم، وأخذوه منهم، ولم يبحثوا عن حجّته وبرهانه حتى يكون أخذهم وقبولهم دون٢ البحث عن الحجّة والبرهان. فهم، وإن كانوا مقلّدين آباءهم في الإيمان متلقّنين منهم، فإنهم يلحقون بآبائهم، وإن كان الإيمان عن الحجة أفضل من الإيمان بالتقليد والالتقان.
[ والثالث : ما ]٣ قال بعضهم : إن الذُّرّية، وإن لم يبلُغوا مبلغا يكون منهم الإيمان، فإنهم يلحقون بآبائهم وأمهاتهم في إيمانهم، وإن لم يكن منهم الإيمان، ولم يأتوا به، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وما ألتناهم من عملهم من شيء ﴾ على تأويل أبي بكر، أي وما ألتنا من أعمال الذُّرّية من شيء، أي ما نقصنا أعمال آبائهم في الثواب، وإن قصّرت أعمالهم عن أعمالهم، بل يبلُغون درجات آبائهم، ويُوفَّرون كما يُوفَّر على آبائهم، وتأويله أبعد هذه التأويلات التي ذكرنا.
وعلى تأويل غيره أي على ما نقصنا من أعمال آبائهم شيئا أي أنهم، وإن بلغوا مبلغ الآباء، فإن الآباء لا يُنقصون من أعمالهم شيئا، ذكر هذا حتى لا يُظنّ أنه يُنقَص من ثواب آبائهم، ويعطي لهم، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ كل امرئ بما كسب رهين ﴾ قال بعضهم : هذا صلة قوله عز وجل :﴿ اصلَوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تُجزَون ما كنتم تعملون ﴾ [ الآية : ١٦ ] ﴿ كل امرئ بما كسب رهين ﴾ وهو يرد قول من يقول : إن الرهن لصاحبه، له أن يَحلُبه وأن يركبه وأن ينتفع به، ثم يُردّ إلى المُرتهِن، ولو كان له هذا لكان لا يكون رهنا، إذ أخبر أنه رهين أي محبوس، فالرّهن هو الذي يُحبَس في كل وقت، والله أعلم.
١ في الأصل وم: و..
٢ في الأصل وم: عن..
٣ في الأصل وم: و..
كما يوفر على آبائهم؛ وتأويله أبعد هذه التأويلات التي ذكرنا.
وعلى تأويل غيره: أي: ما نقصنا من أعمال آبائهم شيئًا، أي: إنهم وإن بلغوا مبلغ الآباء، فإن الآباء لا ينقصون من أعمالهم شيئًا، ذكر هذا حتى لا يظن أنه ينقص من ثواب آبائهم ويعطي ذلك لهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا صلة قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)، وهو يرد قول من يقول بأن الرهن لصاحبه، له أن يحلبه، وأن يركبه، وأن ينتفع به، ثم يرد إلى المرتهن، ولو كان له هذا، لكان لا يكون رهنا؛ إذ أخبر: أنه رهين -أي: محبوس- فالرهن هو الذي يحبس في كل وقت، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢).
أي: وأمددناهم فاكهة، والباء في (الفاكهة) زائدة كما ذكرنا في قوله تعالى: (بِحُورٍ عِينٍ).
ثم يحتمل أن يكون قوله: (وَأَمْدَدْنَاهُمْ) إخبارًا عن دوامها وكثرتها، أي: لا تنقطع ولا تقل، وليس كفواكه الدنيا أنها لا توجد في كل وقت.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ).
أخبر أنهم يأكلون جميع ما يشتهون، ويجدون ما يتمنون، ليس كالدنيا، ربما يشتهي شيئًا لا يجده، ويجد ما لا يشتهيه، وهو كقوله - تعالى -: (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (٢٣) أي: يتعاطون فيها كأسا، ويأخذ بعضهم من بعض، كما يكون في الدنيا لا يكون لكل أحد كأس على حدة، وهو كما روي في الخبر: أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل مع بعض أزواجه وربما تتنازع أيديهما.
وقال أبو بكر الكيساني: الكأس هو الخمر.
وقال غيره: هو الإناء المملوء من الخمر، وأما الذي لا شراب فيه فهو الإناء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا لَغْوَ فيها وَلَا تَأْثِيمَ) قرئ: (لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ) بالرفع والتنوين.
قال أبو عبيدة: إنه خبر بأنه ليس فيها لغو ولا تأثيم، كما قال: (لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ).
الآية ٢٣ وقوله تعالى :﴿ يتنازعون فيها كأسا ﴾ أي يتعاطون فيها كأسا، ويأخذ بعضهم من بعض كما يكون في الدنيا ؛ لا يكون لكل أحد كأس على حِدة. وهو كما رُوي في الخبر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل مع بعض أزواجه، وربما تتنازع أيديهما.
وقال أبو بكر الكيسانيّ : الكأس هو الخمر، وقال غيره : هو الإناء المملوء من الخمر، وأما الذي لا شراب فيه فهو الإناء.
وقوله تعالى :﴿ لا لغو فيها ولا تأثيم ﴾ بالرفع والتنوين. [ وقرئ١ : لا لغو فيها ولا تأثيم ]٢.
قال أبو عُبيدة : إنه خبّر بأنه ليس فيها لغو ولا تأثيم كما قال :﴿ لا فيها غولٌ ولا هم فيها يُنزَفون ﴾ [ الصافات : ٤٧ ] وقرئ بالنصب فيهما على التنزيه، وهو وجه غير مدفوع.
وتأويل الآية : أي لا يكون منهم من اللغو ما يؤثَم من القول كما يكون في شراب الدنيا من اللغو وقول الإثم. وقيل :﴿ لا لغو فيها ولا تأثيم ﴾ لأنها أُحلّت لهم، والله أعلم.
١ الواو ساقطة من الأصل وم..
٢ أدرجت هذه العبارة في الأصل وم بعد وقوله تعالى. انظر معجم القراءات القرآنية ح٦/٢٥٩..
وقرئ بالنصب فيهما على التنزيه، وهو وجه غير مدفوع.
وتأويل الآية: أي: لا يكون منهم من اللغو، وما يؤثم من القول؛ كما يكون في شراب الدنيا من اللغو وقول الإثم.
وقيل: (لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ)؛ لانها أحلت لهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤).
يرغبهم فيها كما رغب إليهم أنفسهم في الدنيا من الخدم، والفواكه، والبسط ليطلبوها، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٢٥).
قال أبو بكر الكيساني: يتساءلون عن المعاصي التي كانت منهم في الدنيا، واستدل بقوله على أثر هذه الآية: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (٢٦) يحتمل قوله: (فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ) وجهين:
أحدهما: إنا كنا قبل وأهلنا مشفقين كقوله: (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا).
والثاني: أي: إنا كنا قبل على أنفسنا وأهلنا مشفقين، أي: خائفين على ما كان منا من الجنايات والمعاصي.
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨).
أي - واللَّه أعلم -: إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين على أنفسنا؛ لجناياتنا وراجين رحمته بقوله تعالى: (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)، وصف اللَّه تعالى في غير آي من القرآن بالإشفاق والخشية، والطمع والرجاء: كقوله تعالى: (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا)، وقوله: (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا)، ونحو ذلك.
ثم قوله: (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) قرئ: (أَنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) بنصب الألف وخفضه؛ فمن كسره، حمله على الابتداء؛ أي: ربنا كذلك على كل حال، ومن نصب أراد: يدعوه ثانيا؛ لأنه هو البر الرحيم، أي: يدعوه لأجل أنه كذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ).
دل قوله: (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ): أن لله أن يعذبهم بعذاب السموم، لكنه بمنِّه وفضله وقاهم، ولو كان عليه ذلك كما قالت المعتزلة لم يكن لذكر المنة معنى.
* * *
قوله تعالى: (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ
الآية ٢٥ وقوله تعالى :﴿ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ﴾ قال أبو بكر الكيسانيّ : يتساءلون عن المعاصي التي كانت منهم في الدنيا، واستدل بقوله على إثر هذه الآية ﴿ قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مُشفقين ﴾.
الآية ٢٦ [ وقوله تعالى :﴿ إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ﴾ ]١ يحتمل قوله :﴿ في أهلنا ﴾ وجهين :
أحدهما :﴿ إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ﴾ كقوله :﴿ قوا أنفسكم وأهليكم نارا ﴾ [ التحريم : ٦ ].
والثاني : أي كنا قبل على أنفسنا وأهلنا مشفقين أي خائفين على ما كان منا من الجنايات والمعاصي. دليله٢ قوله تعالى [ على إثره ]٣ :﴿ إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البَرّ الرحيم ﴾ [ الآية : ٢٨ ] أي، والله أعلم :﴿ إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين ﴾ على أنفسنا لجناياتنا وراجين رحمته بقوله تعالى :﴿ إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم ﴾ [ الآية : ٢٨ ] وصفهم٤ الله تعالى في غير آية٥ من القرآن بالإشفاق والخشية والطّمع والرجاء كقوله تعالى :﴿ يدعون ربهم خوفا وطمعا ﴾ [ السجدة : ١٦ ] وقوله تعالى :﴿ ويدعوننا رغَبًا ورهبًا ﴾ [ الأنبياء : ٩٠ ] ونحو ذلك.
ثم قوله تعالى :﴿ إنه هو البر الرحيم ﴾ قرئ أنه هو البر بنصب٦ الألف وخفضه. فمن كسره حمله على الابتداء، أي ربنا كذلك على كل حال. ومن نصب أراد : يدعوه ثانيا لأنه هو البر الرحيم، أي يدعوه لأجل أنه كذلك، والله أعلم.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل وم: و..
٣ ساقطة من الأصل وم..
٤ في الأصل وم: وصف..
٥ في الأصل وم: آي..
٦ انظر معجم القراءات القرآنية ح٦/٢٦٠..
الآية ٢٧ وقوله تعالى :﴿ فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السَّموم ﴾ دلّ قوله :﴿ فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السّموم ﴾ أن لله أن يعذّبهم بعذاب السّموم، لكنه بمنّه وفضله وقاهم. ولو كان عليه ذلك ما قالت المعتزلة : لم يكن للمنّة معنى.
الآيتان ٢٨ و٢٩ وقوله تعالى :﴿ إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم ﴾ ]١ ﴿ فذكّر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ﴾ أي بما أنعم عليك من النبوّة والقرآن لست بكاهن ولا مجنون. ثم هذا يخرّج على وجهين :
أحدهما : أي إنك لم تقابل نعمة ربك [ بما يَجب أن تُبتلى بجنون أم كهانة أو ما ذكروا قبل.
والثاني : أي أنت بنعمة ربك ]٢ عوفيت، وعُصمت عما ذكروا من الجنون والسحر وغير ذلك، والله أعلم.
دلّت هذه الآية على أنهم قالوا : إنه كاهن ومجنون. وكذا كانت عادة أولئك ؛ إنهم ينسُبون الحجج عند عجزهم عن مقابلتها إلى السحر، والأنباء المتقدمة إلى الكهانة، وخلاف رسلهم عليهم السلام لقادتهم وفراعنتهم إلى الجنون، والكلام المُستملَح والمستلذّ إلى الشِّعر تلبيسا للأمر على أتباعهم. هذه كانت عادتهم مع العلم منهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كذلك لما لم يختلف إلى أحد من الكهنة ولا السحرة، ولا كان القرآن على نظم الشعر، وعجزوا عن إتيان مثله، وهم عن الشعر غير عاجزين.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم..
أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣).
وقوله: (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (٢٩).
أي: بما أنعم عليك من النبوة والقرآن لست بكاهن ولا مجنون.
ثم هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أي: إنك لم تقابل نعمة ربك بذلك، عوفيت وعصمت عما ذكروا من الجنون، والسحر وغير ذلك، واللَّه أعلم.
دلت هذه الآية على أنهم قالوا له: إنه كاهن، ومجنون، وكذا كانت عادة أُولَئِكَ أنهم ينسبون الحجج عند عجزهم عن مقابلتها إلى السحر، والأنباء المتقدمة إلى الكهانة، وخلاف الرسل - عليهم السلام - لقادتهم وفراعنتهم إلى الجنون، والكلام المستملح والنظم الجيد إلى الشعر؛ تلبيسا للأمر على أتباعهم، هذه كانت عادتهم، مع العلم منهم أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ليس كذلك، ولا اختلف إلى أحد من الكهان ولا السحرة ولا كان القرآن على نظم الشعر؛ إذ عجزوا عن إتيان مثله، وهم عن الشعر غير عاجزين، ثم لما عجزوا عن مقابلة ما آتاهم من الحجج قالوا: (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) أي: عن قريب يرجعون إلى ديننا، وإلى ما نحن فيه، وكانوا يقولون للضعفاء أصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: إن محمدًا يموت ويصير الأمر لنا؛ فترجعون إلينا؛ فقال تعالى: (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أي: تربصوا ذلك؛ فإني متربص ذلك بكم؛ فكانوا جميعًا أو عامتهم - أعني: الذين قالوا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: إنه شاعر نتربص به ريب المنون - أهلكوا قبل وفاة رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فحل بهم ما ظنوا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، واللَّه أعلم.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: ريب المنون: حوادث الدهر وأوجاعه ومصائبه، والمنون: الدهر.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: ريب المنون، أي: المنية، وريبها: ما تأتي به.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا... (٣٢) قد ذكرنا في غير موضع معنى حرف " أم " أي: ليست لهم عقول تأمرهم بذلك، أي: من يأمر بهذا فليس بعاقل.
والثاني: " على تسفيه أحلامهم، أي: أي عقل يأمر بعبادة الأصنام، وينهى عن عبادة اللَّه تعالى؟! أي: لا عقل يأمر به.
وقوله: [(أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)].
الآية ٣٠ ثم لمّا عجزوا عن مقابلة ما أتاهم من الحجج قالوا :﴿ نتربّص به ريب المَنُون ﴾ أي عن قريب يرجعون إلى ديننا وإلى ما نحن فيه، وكانوا يقولون للضعفاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن محمدا يموت، ويصير الأمر لنا، وترجعون إلينا.
الآية ٣١ وقوله تعالى :﴿ قل تربّصوا فإني معكم من المتربّصين ﴾ أي تربّصوا ذلك فإني متربّصٌ ذلك بكم ؛ فكانوا جميعا أو عامتهم، أعني الذين قالوا [ عن رسول ]١ الله صلى الله عليه وسلم : إنه ﴿ شاعر نتربّص به ريب المنون ﴾ أُهلكوا قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلّ بهم ما ظنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
وقال القتبيّ : ريب المَنونِ حوادث الدهر وأوجاعه ومصائبُه، والمنون الدهر.
وقال أبو عوسجة : ريب المنون أي المنيّة، وريبها ما يأتي به.
١ في الأصل وم: لرسول..
الآية ٣٢ وقوله تعالى :﴿ أم تأمرهم أحلامُهم بهذا ﴾ [ يخرّج على وجهين :
أحدهما :]١ قد ذكرنا في غير موضع أن حرف /٥٣٤-ب/ أم [ يفيد تحقيق النفي، أي ]٢ ليست لهم عقول تأمرهم بذلك، أن من يأمر بهذا فليس بعاقل.
والثاني : على سفه أحلامهم : أي عقل يأمر بعبادة الأصنام، وينهى عن عبادة الله تعالى ؟ أي لا عقل يأمر به.
وقوله تعالى :﴿ أم هم قوم طاغون ﴾ أي طاغون في ذلك، والطغيان، هو المجاوزة عن الحد في العداوة.
١ ساقطة من الأصل وم..
٢ ساقطة من الأصل وم: انظر ما ذكره المؤلف في تفسير قوله تعالى ﴿أم يقولون افتراه﴾ [السجدة: ٣].
.

أي: طاغون في ذلك، والطغيان: هو المجاوزة عن الحد في العداوة.
وقوله: (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣) أي: يعلمون أنك لست بمتقول، ولكن ينسبونك إلى التقول، لتكذيبهم بآيات اللَّه تعالى؛ وهو ما ذكر في آية أخرى: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ) -بالتخفيف والتشديد- (وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)، يقول: إنهم لا يقولون: إنك كاذب فيما تقول، ولا ينسبونك إلى الكذب، ولكن إنما يكذبون الآيات، ويعتقدون كذبها؛ فعلى ذلك تقوله على علم منهم: أنك لم تتقول، ولكن اعتقدوا تكذيب الآيات والجحود لها، فيقولون: إنك تتقول من أعند نفسك، قال: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (٣٤) أي: لو كانوا صادقين بأن محمدًا يتقول على اللَّه، فليأتوا بمثل ما أتى به مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) وإن خرج مخرج الأمر في الظاهر، فهو في الحقيقة ليس بأمر؛ لأنه لا يحتمل أن يأمرهم أن يأتوا بالكذب والافتراء، ثم هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: على الإعجاز عن أن يأتوا بمثله.
والثاني: على التوبيخ والتوعيد على ما قالوا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الافتراء والتقول، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (٣٥).
قال عامة أهل التأويل: أم خلقوا من غير أب، ولكن ليس فيما ذكروا كثير فائدة، لو خلقوا من غير أب، إلا أن يريدوا بذلك: حتى لم يعرفوا من خلقهم، وممن خلقوا، بل كانت لهم آباء عودوهم وأعلموهم بأن لهم خالقا، وأنهم مخلوقون، وليسوا بخالقين، أو كلام نحوه، فكيف يتكلمون بما هو سفه، وكيف يصرون عليه.
وعندنا يخرج على وجهين:
أحدهما: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أي: يعلمون أنهم لم يخلقوا لغير شيء، إذ لو خلقوا من تراب، ولغير معنى وحكمة، لكان خلقهم عبثًا باطلا، وهم يعلمون أنهم لم يخلقوا لعبًا باطلا.
والثاني: يقال: لا يخلو إما أن يكون خلقوا من غير شيء، أو خلقوا من تراب وماء، فكيفما كان؛ فدل أن قدرته ذاتية لا مستفادة؛ فلا يحتمل أن يعجزه شيء.
الآية ٣٤ [ وقوله تعالى :]١ ﴿ فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ﴾ بأن محمدا يتقوّل على الله فليأتوا بمثل ما أتى محمد.
ثم قوله تعالى :﴿ فليأتوا بحديث مثله ﴾ وإن خُرّج مُخرَج الأمر الظاهر، فهو في الحقيقة ليس بأمر ؛ لأنه لا يحتمل أن يأمرهم إن تابوا بالكذب والافتراء. ثم هذا يخرّج على وجهين :
أحدهما : على الإعجاز عن أن يأتوا بمثله.
والثاني : على التوبيخ والتوعُّد على ما قالوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الافتراء والتقوّل، والله أعلم.
١ في الأصل وم: من قال..
الآية ٣٥ وقوله تعالى :﴿ أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ﴾ قال عامة أهل التأويل : أي أم خُلقوا من غير أب، ولكن ليس في ما ذكروا كثير فائدة لو خُلقوا من غير أب إلا أن يريدوا ذلك حتى لم يعرفوا من خلقهم، وممن خُلقوا. بل كانت لهم آباء عوّدوهم، وأعلموهم بأن لهم خالقا، وأنهم مخلوقون، وليسوا بخالقين، أو كلام نحوه. فكيف يتكلّمون بما هو سفه ؟ وكيف يصرّون عليه.
وعندنا يخرّج على وجهين :
أحدهما :﴿ أم خُلقوا من غير شيء ﴾ أي يعلمون أنهم [ لو خُلقوا من غير ]١ شيء، أو خُلقوا من تراب ولغير معنى وحكمة لكان خلقُهم عبثا باطلا، وهم يعلمون أنهم لم يُخلقوا لعبا وباطلاً.
والثاني : يقال : لا يخلو ؛ إما أن يكونوا خُلقوا من غير شيء، وإما خُلقوا من تراب وماء. فكيف ما كان، فدلّ أن قدرته ذاتية لا مستفادة٢، فلا يُحتمل أن يعجزه شيء.
وقوله تعالى :﴿ أم هم الخالقون ﴾ أي ليسوا هم بخالقين.
١ في الأصل وم: لم يخلقوا الغير..
٢ من م، في الأصل: مستعانة..
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ).
أي: ليسوا هم بخالقين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ... (٣٦) أي: يعلمون أنهم لم يخلقوهما.
وقوله: (بَلْ لَا يُوقِنُونَ) يخرج على وجهين:
أحدهما: أن ما يقولون إنما يقولون على الظن لا على اليقين.
والثاني: (بَلْ لَا يُوقِنُونَ) أي: لا يصدقون، وذلك في قوة علم اللَّه تعالى بأنهم لا يؤمنون.
فإن كان التأويل هذا، ففيه دلالة إثبات الرسالة؛ حيث أخبر عن الغيب.
وإن كان التأويل هو الأول، ففيه أن جميع ما يقولون، إنما يقولون على الظن والجهل، لا على اليقين، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أي: ليس عندهم خزائن ربك؛ على ما ذكرنا في قوله تعالى: (أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) أي: لم يخلقوا؛ فعلى ذلك هذا: ليس عندهم خزائن ربك، ولا هم المصيطرون.
ثم الآية تحتمل وجوها أيضًا:
تحتمل (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ)، أي: الذي منعهم عن اتباع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - هو المنعة التي عندهم، ليس ذلك عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ فيكونون هم لذلك أحق بالرسالة، أي: ليسوا بأحق.
ويحتمل قوله تعالى: (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ) أي: علم الغيب، أطلعوا على ذلك فعلموا أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد تَقَوَّلَ على اللَّه تعالى؟! أي: ليس لهم علم الغيب.
ويحتمل (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ)، أي: علم الغيب، ليس ذلك عند رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، بل عند رسوله ما يخبره ربه - جل وعلا - ليس عندهم شيء من ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ).
أي: ليس هم المسلطين على أرزاقهم، ولا أرزاق غيرهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المسيطر: الرب تعالى، يقال: سيطر فلان، أي: صار ربا؛ وهو قول الْقُتَبِيّ.
وقال الزجاج: المسيطر: المسلط؛ يقال: سيطر، أي: تسلط.
وقال أبو بكر: المسيطر: الغالب القاهر، لكن الغلبة والقهر بالحجة عليهم، وهذا يخرج على المقابلة برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ما ذكر، ويحتمل على غير المقابلة، واللَّه أعلم.
الآية ٣٧ وقوله تعالى :﴿ أم عندهم خزائن ربك ﴾ الآية، أي ليس عندهم خزائن ربك على ما ذكرنا في قوله تعالى :﴿ أم خلقوا السماوات والأرض ﴾ أي لم يخلُقوا. فعلى ذلك هذا، ليس عندهم خزائن ربك ولا هم المُصيطِرون.
ثم الآية تحتمل وجوها :
أحدها : تحتمل ﴿ أم عندهم خزائن ربك ﴾ أي الذي منعهم عن اتّباع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المَنَعة التي عندهم، ليست تلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكونوا هم لذلك أحق بالرسالة، أي ليسوا بأحق.
[ والثاني ]١ : يحتمل قوله تعالى :﴿ أم عندهم خزائن ربك ﴾ أي علم الغيب، أطّلعوا على ذلك، فعلِموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تقوّل على الله تعالى ؟ أي ليس لهم علم الغيب.
[ والثالث ]٢ : يحتمل ﴿ أم عندهم خزائن ربك ﴾ أي علم الغيب، ليس ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بل عند٣ رسوله ما يُخبره ربه، جلّ، وعلا، ليس عندهم شيء من ذلك.
وقوله تعالى :﴿ أم هم المُصيطرون ﴾ أي [ ليسوا هم المسلّطين ]٤ على أرزاقهم ولا أرزاق غيرهم.
وقال بعضهم : المُسيطِر :٥ الرب تعالى ؛ يقال : صيطر فلان، أي صار ربّا، وهو قول القتبيّ.
وقال الزّجّاج : المسيطر المسلَّط ؛ يقال : صيطر، أي تسلّط.
وقال أبو بكر : المصيطِر الغالب القاهر. لكن الغَلبة والقهر بالحجّة عليهم. وهذا يخرّج على المقابلة برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما ذكر، ويحتمل على غير المقابلة، والله أعلم.
١ في الأصل، م: و..
٢ في الأصل وم: و..
٣ أدرج قبلها في الأصل وم: وهو..
٤ في الأصل وم: ليس هم المسلطون..
٥ في م: في الأصل: المصيطرون..
وقوله: (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٣٨).
هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: أم لهم سبب وقوة؛ فيصعدون السماء؛ فيستمعون من أخبارها؛ فعلموا بذلك أن محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تقوَّل على اللَّه تعالى.
والثاني: (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ)، أي: لهم حجة وبرهان يستمعون فيه أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على ما ذكروا، فإن قالوا: نعم لنا ذلك، يقال لهم عند ذلك: (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) أي: بحجة بينة، أي: ليس لهم ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩).
هذا ليس من نوع ما سبق ذكره؛ لأن ما تقدم من الآيات بينهم وبين رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على المقابلة، وهذا راجع إلى اللَّه تعالى في الظاهر على ما سبق منهم القول: إن الملائكة بنات اللَّه، وهو ما قال: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ)، يذكر سفههم في نسبتهم البنات إلى اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - وهم يأنفون من نسبتهن إليهم، فيسكن بذلك صدر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ويصبره على أذاهم، أي: إنهم يقولون فيَّ ما قالوا؛ فاصبر على ما يقولون فيك، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن خرج ما ذكرنا من المقابلة برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ومعناه: أم لرسول الله البنات، ولكم البنون؛ فتتركون اتباعه لذلك؟! واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠).
أي: لست تسألهم أجرا على اتباعك، فيمنعهم ذلك عن اتباعك، يذكر أن ليس لهم أسباب المنع، وهذه أسباب المنع، وإنما امتنعوا عن الاتباع تعنتا ومكابرة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أي: عندهم علم الغيب؛ فيعلمون أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - تقوَّله؛ بل ليس عندهم ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢).
أي: يريدون كيدا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، لكن هم المكيدون، أي: إليهم يرجع ذلك الكيد، والذي أرادوا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
ثم يحتمل ذلك الكيد الذي أخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أنه عليهم في الدنيا؛ على ما قاله أهل التأويل: إنهم قتلوا يوم بدر، ويحتمل ذلك في الآخرة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣).
أي: أم لهم إله يأمرهم بالذي يدعون على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؟ أي: أم لهم إله غير الله
الآية ٣٩ وقوله تعالى :﴿ أم له البنات ولكم البنين ﴾ هذا ليس من نوع ما سبق ذكره، لأن ما تقدّم من الآيات بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم على المقابلة، وهذا راجع إلى الله تعالى في الظاهر على ما سبق منهم القول : إن الملائكة بنات الله : وهو ما قال :﴿ وإذا بُشّر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مسودّا وهو كظيم ﴾ [ النحل : ٥٨ ].
يذكر سفههُم في نسبتهم البنات إلى الله عز وجل وهم يأنفون من نسبتهن إليهم، فيُسكّن بذلك صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصبّره على أذاهم، أي إنهم يتقوّلون١ في ما قالوا، فاصبر على ما يقولون فيك، والله أعلم.
ويحتمل إن خُرّج ما ذكرنا من المقابلة برسول الله صلى الله عليه وسلم [ أن يكون ]٢ معناه : أم لرسول الله البنات ولكم البنون، فيتركون اتّباعه لذلك، والله أعلم.
١ في الأصل وم: يقولون..
٢ ساقطة من الأصل وم..
الآية ٤٠ وقوله تعالى :﴿ أم تسألهم أجرا فهُم من مَغرمٍ مُثقلون ﴾ أي لست تسألهم أجرا على اتباعك، فيمنعَهم ذلك عن اتباعك ؛ يذكر أن ليس لهم أسباب المنع، وهذه أسباب المنع، وإنما امتنعوا عن الاتباع تعنُّتا ومُكابَرة.
الآية ٤١ وقوله تعالى :﴿ أم عندهم الغيب فهم يكتبون ﴾ أي عندهم علم الغيب، فيعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقوّله، بل ليس عندهم ذلك.
الآية ٤٢ وقوله تعالى :﴿ أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون ﴾ أي يريدون كيدا برسول الله صلى الله عليه وسلم لكن هم المكيدون أي إليهم يرجع ذلك الكيد الذي أرادوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم يحتمل ذلك الكيد الذي أخبر عز وجل أنه عليهم في الدنيا على ما قاله أهل التأويل، إنهم قُتلوا يوم بدر، ويحتمل ذلك في الآخرة.
الآية ٤٣ وقوله تعالى :﴿ أم لهم إله غير الله ﴾ أي أم لهم إله يأمرهم بالذي يدّعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أم لهم إله غير الله يمنعهم من عذاب الله تعالى، أي ليس لهم. ويحتمل :﴿ أم لهم إله غير الله ﴾ يأمرهم بالذي يدّعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم من التّقوُّل على الله تعالى، أو يُطلعهم على ذلك، ويدفع عنهم ما ينزل من السماء من العذاب، وهو ما قال :﴿ إن عذاب ربك لواقع ﴾ ﴿ ما له من دافع ﴾ [ الطور : ٧ و٨ ].
ثم نزّه نفسه عما أشركوا به من الأوثان في تسمية الألوهية واستحقاق العبادة، فقال :﴿ سبحان الله عما يُشركون ﴾.
يمنعهم من عذاب اللَّه تعالى؟! أي: ليس لهم.
ويحتمل: أم لهم إله غير اللَّه يأمرهم بالذي يدعون على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من التقول على الله تعالى، أو يطلعهم على ذلك؟ أي: ليس لهم إله يطلعهم على ذلك، ويدفع عنهم ما ينزل من السماء من العذاب، وهو ما قال: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (٧) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ).
ثم نزه نفسه عما أشركوا معه من الأوثان في تسمية الألوهية واستحقاق العبادة، فقال: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
* * *
قوله تعالى: (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ. يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (٤٩).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ).
يخبر عن عناد أُولَئِكَ الرؤساء ومكابرتهم، وإنما قالوا ما قالوا على التعنت، لا على الاسترشاد، وأن هذه الآيات من قوله: (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا...)، إلى قوله: - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ)، كلها محاجة مع أُولَئِكَ الرؤساء المعاندين؛ يبين ذلك قوله تعالى: (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ) يقول: إنهم وإن يروا ما توعدهم من عذاب ينزل بهم يقولوا -لتعنتهم ومكابرتهم-: إنه سحاب، ليس بعذاب، وهو كما قال: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا)، يخبر عن عنادهم، وكقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ)، لا يؤمنون، ويقولون: ما ذكر إنه سحاب مركوم؛ تعنتا ومكابرة.
ثم أمر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بأن يعرض عنهم وألا يشتغل بهم؛ لما علم اللَّه تعالى أنهم لا يؤمنون، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يؤيس رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عن إيمانهم، ويأمره بالصبر على أذاهم، وترك المكافأة لهم، ويخبر أنهم لا يؤمنون إلا في اليوم الذي فيه يصعقون، أي: يموتون.
ثم قرئ قوله: (يُصْعَقُونَ) بفتح الياء وضمه؛ فمن قال بالنصب، احتج بقوله: (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)، ولم يقل فَصُعِقَ.
ثم يحتمل الصعقة التي ذكر: ما ذكرنا؛ أي: يموتون.
ويحتمل: أي: تنزل بهم الشدائد والأوجاع، ولكن لا ينفعهم الإيمان في ذلك الوقت؛
الآية ٤٥ ثم أمر رسوله عليه السلام بأن يُعرِض عنهم وألا يشتغل بهم لما علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون، وهو ما قال عز وجل :﴿ فذرهم حتى يُلاقوا يومهم الذي فيه يُصعَقون ﴾ يُؤيِس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إيمانهم، ويأمره بالصبر على أذاهم وترك المكافآت لهم، ويخبره١ أنهم لا يؤمنون إلا في اليوم الذي فيه يُصعقون، أي يموتون.
ثم قرئ قوله ﴿ يُصعقون ﴾ بفتح الياء وضمّها٢. فمن قال بالنصب احتجّ بقوله :﴿ فصَعِق من في السماوات ومن في الأرض ﴾ [ الزمر : ٦٨ ] ولم يقل فصُعِق.
ثم تحتمل الصّعقة التي ذكرنا ما ذكرنا، أي يموتون، ويحتمل أي تنزل بهم الشدائد والأوجاع، ولكن لا ينفعهم الإيمان في ذلك الوقت لأنه إيمان دفع العذاب عن أنفسهم.
١ الهاء ساقطة من الأصل وم..
٢ في الأصل وم: وضمه، انظر معجم القراءات القرآنية ح٦/٢٦٢..
لأنه إيمان دفع العذاب عن أنفسهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا... (٤٦).
برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - عما ينزل بهم يومئذ؛ جزاء على كيدهم برسول اللَّه - ﷺ -.
ويحتمل ألا يغنيهم من عذاب اللَّه تعالى الأصنام التي عبدوها؛ رجاء أن تشفع لهم، أو تقربهم إلى اللَّه زلفى؛ كما أخبر - عَزَّ وَجَلَّ -، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٧).
قال أهل التأويل: أي: لمشركي أهل مكة عذاب دون عذاب النار، وهو القتل بالسيف يوم بدر.
ويحتمل أن يكون قوله: (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا)، أي: للكفرة عذاب في الدنيا دون الذي ذكر في يوم القيامة؛ حيث قال: (حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ)، ثم قال: (عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ)، وهم ما داموا كفارا فهم في عذاب، يكونون في خوف وذل وخزي؛ فذلك كله عذاب اللَّه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
أي: لا ينتفعون بعلمهم، أو لا يعلمون حقيقة؛ لما لم ينظروا في أسباب العلم، ولم يتفكروا فيها؛ حتى يمنعهم ويزجرهم عن صنيعهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨).
دل هذا الحرف أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قد كلف أمرا شديدًا شاقًّا عليه حتى قال: (وَاصْبِرْ)؛ إذ الأمر بالصبر لا يكون إلا في أمور شاقة شديدة؛ ولذلك قال له: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)، أمره بالصبر على ما كلفه، كما صبر إخوانه على ما لحقهم من الأمور الشاقة، وما قال (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ)، أخبر أنه لو صبر إنما يصبر بتوفيق اللَّه إياه، أو فيه: أنه إذا صبر يكون صبره لله تعالى؛ حتى يسهل عليه احتمال ذلك، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِحُكْمِ رَبِّكَ)، يحتمل وجوها:
أحدها: ما أمر من تبليغ الرسالة إلى الفراعنة الذين كانت همتهم القتل لمن خالفهم، فذلك أمر شديد؛ فأمره بالصبر على ذلك، والتبليغ إلى أُولَئِكَ.
والثاني: أمره بالصبر على أذاهم واستهزائهم به، وترك المكافأة لهم.
ويحتمل أن يكون الأمر بالصبر على الأمور التي كانت عليه في خالص نهيه من احتمال غصة التكذيب، وحزنه على تركهم التوحيد والإيمان، وإنما ذلك كله حكم اللَّه تعالى.
413
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا).
أي: بمنظر وعلم منا، فإن كان الأمر بالصبر على القيام بتبليغ الرسالة إلى من ذكرنا؛ فيخرج قوله: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) مخرج وعد النصر والمعونة؛ كقوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
وإن كان الأمر بالصبر على ترك مكافأتهم، أو على القيام بالأمور التي فيما بينه وبين ربه تعالى؛ فيصير كأنه قال: على علم منا بما يكون منهم من التكذيب والاستهزاء والأذى، كلفناك، لا عن جهل منا بذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ).
أي: نزهه عن معاني الخلق، وعما لا يليق، واذكر الثناء عليه بما هو أهله.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (حِينَ تَقُومُ).
يحتمل: حين تقوم من مجلسك، أو من منامك، أو حين تقوم للتعيش والانتشار.
فإن كان المراد: حين تقوم من مجلسك؛ فيكون التسبيح ما ذكر في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " من جلس مجلسا كثر فيه لغطه، فليقل قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، غفر له ما كان في مجلسه ذلك " ولم يذكر الآية.
وإن كان المراد: حين تقوم من منامك، فجائز أن يكون المراد منه: الصلاة.
وإن كان حين تقوم للانتشار والتعيش؛ فيصير كأنه أمر بالتسبيح بالنهار في وقت الانتشار؛ وعلى هذا قوله: (وَمِنَ اللَّيْلِ) أي: سبح بالليل في وقت الراحة، فيصير كأنه قال: وسبح بحمد ربك في الأوقات كلها، بالليل والنهار، في وقت الراحة، وفي وقت الانتشار.
وروى الضحاك عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) تقول في الصلاة المفروضة قبل أن تكبر: " سبحانك اللهم وبحمدك... " إلى آخره.
وروى الضحاك: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دخل في الصلاة، قال ذلك؛ وذلك قوله تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ).
وروى أبو سعيد وعائشة - رضي اللَّه عنهما - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان إذا افتتح الصلاة قال: " سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك ".
414
الآية ٤٧ وقوله تعالى :﴿ وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ﴾ قال أهل التأويل : أي لمُشركي مكة عذاب١ دون عذاب النار ؛ وهو القتل بالسيف يوم بدر.
ويحتمل أن يكون قوله :﴿ وإن للذين ظلموا ﴾ أي للكفرة عذاب في الدنيا دون الذي ذكر يوم القيامة حين٢ قال ﴿ حتى يُلاقوا يومهم الذي فيه يُصعَقون ﴾.
ثم قوله٣ : لهم عذاب دون ذلك، وهو ما داموا كفارا فهم في عذاب، ويكونون٤ في خوف وذُلّ وخزي. فذلك كله عذاب الله، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ أي لا ينتفعون بعلمهم، أو لا يعلمون حقيقة [ العلم ]٥ لما لم ينظروا في أسباب العلم، ولم يتفكروا فيها حتى تمنعهم، وتزجُرهم عن صنيعهم.
١ في الأصل وم: عذاب..
٢ في الأصل وم: حيث..
٣ في الأصل وم: قال..
٤ الواو ساقطة من الأصل وم..
٥ ساقطة من الأصل وم..
الآية ٤٨ وقوله تعالى :﴿ واصبر لحُكم ربك ﴾ دلّ هذا الحرف أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كُلّف أمرا شديدا شاقا عليه حتى قال له :﴿ واصبر ﴾ إذ الأمر بالصبر لا يكون إلا في أمور شاقة شديدة، وكذلك١ قال له :﴿ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ﴾ [ الأحقاف : ٣٥ ] أمره بالصبر على ما كلّفه كما صبر إخوانه على ما لحقهم من الأمور الشاقة. وما قال :﴿ واصبر وما صبرك إلا بالله ﴾ [ النحل :‍‌‍١٢٧ ] أخبر أنه لو صبر إنما يصبر بتوفيق الله تعالى إياه.
[ وفيه ]٢ أنه إذا صبر يكون صبره لله تعالى حتى يسهُل عليه احتمال ذلك، والله أعلم.
ثم قوله تعالى :﴿ لِحُكم ربك ﴾ يحتمل وجوها :
أحدها : ما أمر من تبليغ الرسالة إلى الفراعنة الذين كان همّهم القتل لمن خالفهم، فذلك أمر شديد، فأمره بالصبر على ذلك والتبليغ إلى أولئك.
والثاني : أمره بالصبر على أذاهم واستهزاءهم به وترك المكافأة لهم.
[ والثالث ]٣ : يحتمل أن يكون الأمر بالصبر على الأمور التي كانت عليه في [ خاص نفسه ]٤ من احتمال غصّة التكذيب وحُزنه على تركهم التوحيد والإيمان. وإنما ذلك كله حكم الله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ فإنك بأعيُننا ﴾ أي بمنظر وعلم منا :
فإن كان الأمر بالصبر على القيام بتبليغ الرسالة إلى من ذكرنا فيُخرّج قوله :﴿ فإنك بأعيُننا ﴾ مُخرَج وعد النصر والمعرفة كقوله تعالى :﴿ والله يعصِمُك من الناس ﴾ [ المائدة : ٦٧ ].
وإن كان الأمر بالصبر على ترك مكافأتهم أو على القيام بالأمور التي في ما بينه وبين ربه تعالى، فيصير كأنه قال : على علم منا بما يكون منهم من التكذيب والاستهزاء والأذى كلّفناك لا عن جهل منا بذلك، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وسبّح بحمد ربك ﴾ أي نزّهه عن معاني الخَلق وعما لا يليق، واذكر الثناء عليه بما هم أهله.
وقوله تعالى :﴿ حين تقوم ﴾ يحتمل ﴿ حين تقوم ﴾ من مجلسك أو من مقامك أم ﴿ حين تقوم ﴾ للتعيُّش والانتشار.
فإذا كان المراد ﴿ حين تقوم ﴾ من مجلسك، فيكون التسبيح ما ذُكر في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه قال :( من جلس مجلسا كثُر فيه لغَطُه فقل قبل أن تقوم من مجلسك : سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك، وأتوب إليك، غفر له ما كان في مجلسه ذلك ) [ الترمذي ٣٤٣٣ ] ولم يذكر الآية.
وإن كان المراد ﴿ حين تقوم ﴾ من منامك، فجائز أن يكون المراد منه الصلاة، وإن كان ﴿ حين تقوم ﴾ الانتشار والتعيّش، فيصير كأنه [ أمر ]٥ بالتسبيح بالنهار في وقت الانتشار.
١ في الأصل وم: ولذلك..
٢ في الأصل وم: أو فيه..
٣ في الأصل وم: و..
٤ من نسخة الحرم المكي، في الأصل وم: خالص نهيه..
٥ من م، ساقطة من الأصل..
وروي عن مجاهد أنه قال: حين تقوم من كل مجلس، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (٤٩).
قال أهل التأويل: هو ركعتا الفجر كما روي عن جماعة من الصحابة، رضوان اللَّه عليهم أجمعين.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - مرفوعًا: أنه أراد بإدبار النجوم: الركعتين قبل الفجر، وأدبار السجود: الركعتين بعد المغرب؛ فإن ثبت فهو التأويل، فإن كان على هذا فهو يدل على تأخير صلاة الفجر؛ لأن إدبار النجوم إنما يكون ذهابها وانقضاءها، وذلك لا يكون بأول وقت طلوع الفجر، وإنما يكون وقت الإسفار؛ فيكون حجة لنا، واللَّه أعلم.
* * *
Icon