ﰡ
وسُمِّي مسجدُ بيتِ المقدس المسجدَ الأقصى ؛ لأنه لم يكن وراءَهُ مسجدٌ يُعْبَدُ اللهُ فيه. وقيل : لأنه أبعدُ المساجدِ التي تُزار، قالَ ﷺ :" أنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْحِجْرِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، إذْ أتَانِي جِبْرِيلُ بالْبُرَاقِ... " وذكرَ حديث المعراجِ ".
وقال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا :(أُسْرِيَ بهِ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئ بنْتِ أبي طَالِبٍ أُخْتِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، وَالْحَرَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ). وعن الكلبي عن أبي صالحٍ عن أُمِّ هانئ أنَّها كانت تقولُ :(مَا أُسْرِيَ برَسُولِ اللهِ ﷺ إلاَّ وَهُوَ فِي بَيْتٍ)، قال مقاتلُ :(كَانَ الإسْرَاءُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بسَنَةٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ صفةُ بيتِ المقدسِ، بارَكَ الله فيما حولَهُ بالأشجار والأثمار والأنهار حتى لا يحتَاجُون إلى أنْ يُجلَبَ إليهم من موضعٍ آخر : وَقِيْلَ : يَعْنِي ﴿ بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ : جعلنَاهُ مَوضعاً للأنبياءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ، وفيه مَهبطُ الملائكةِ، وفيه الوحيُ، وفيه الصَّخرةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ ﴾ ؛ أي من عَجائب قُدرَتِنا، ﴿ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ﴾ ؛ لمقالةِ قُريشٍ وإنكارِهم ﴿ البَصِيرُ ﴾ ؛ بهم وبأعمالهم.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ " لَمَّا كَانَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بي وَأنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، جَاءَنِي جِبْرِيلُ عليه السلام وَقَالَ لِي : يَا مُحَمَّدُ قُمْ، فَقُمْتُ فَإذا جِبْرِيلُ مَعَهُ مِيكَائِيلُ، فَقَالَ لِي : تَوَضَّأْ، فَتَوَضَّأْتُ، ثُمَّ قَالَ لِي : انْطَلِقْ يَا مُحَمَّدُ، فَقُلْتُ : إلَى أيْنَ ؟ فَقَالَ : إلَى رَبكَ. فَأَخَذ بيَدِي وَأخْرَجَنِي مِنَ الْمَسْجِدِ، فَإذا بالْبُرَاقِ دَابَّةٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، خَدُّهُ كَخَدِّ الإنْسَانِ، وَذنَبُهُ كَذنَبِ الْبَعِيرِ، وَأظْلاَفُهُ كَأَظْلاَفِ الْبَقَرِ، وَصَدْرُهُ كَأَنَّهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ، وَظَهْرُهُ كَأَنَّهُ دُرَّةٌ بَيْضَاءُ، عَلَيْهِ رَحْلٌ مِنْ رحَالِ الْجَنَّةِ، خَطْوُهُ مُنْتَهَى طَرْفِهِ. فَقَالَ لِي : ارْكَبْ، فَلَمَّا وَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ شَمَسَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ : مَهْلاً يَا بُرَاقُ ؛ أمَا تَسْتَحِي! فَوَاللهِ مَا رَكِبَكَ نَبيٌّ أكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذا، هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. فَارْتَعَشَ الْبُرَاقُ، وَتَصَبَّبَ عَرَقاً حَيَاءً مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ثُمَّ خَفَضَ حَتَّى لَزَقَ بالأَرْضِ، فَرَكِبْتُهُ وَاسْتَوَيْتُ عَلَى ظَهْرِهِ.
قَامَ جِبْرِيلُ نَحْوَ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى يَخْطُو مَدَّ الْبَصَرِ، وَالْبُرَاقُ يَتْبَعُهُ لاَ يَفُوتُ أحَدُهُمَا الآخَرَ حَتَّى أتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَإذا بالْمَلاَئِكَةِ قَدْ نَزَلُوا مِنَ السَّمَاءِ يَتَلَقَّوْنِي بالْبشَارَةِ وَالْكَرَامَةِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَلَمَّا وَصَلْتُ بَابَ الْمَسْجِدِ أنْزَلَنِي جِبْرِيلُ، وَرَبَطَ الْبُرَاقَ بالْحَلَقَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرْبطُ بهَا الأَنْبيَاءُ، وَكَانَ لِلبُراقِ خِطَامٌ مِنْ حَرِيرِ الْجَنَّةِ، فَصَلَّيْتُ فِي الْمَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ، وَالْمَلاَئِكَةُ خَلْفِي صُفُوفاً يُصَلُّونَ مَعِي.
ثُمَّ أخَذ جِبْرِيلُ بيَدِي، وَانْطَلَقَ بي إلَى الصَّخْرَةِ فَصَعَدَ بي عَلَيْهَا. وَإذا مِعْرَاجٌ أصُلُهُ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَرَأسُهُ مُلْتَصِقٌ بالسَّمَاءِ، إحْدَى عَارِضَيْهِ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاء وَالأُخْرَى زُبُرْجُدَةٌ خَضْرَاءُ، وَدَرْجُهُ زُمُرُّدٌ مُكَلَّلٌ بالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، فَاحْتَمَلَنِي جِبْرِيلُ حَتَّى وَضَعَنِي عَلَى جَنَاحَيْهِ، ثُمَّ صَعَدَ بي ذلِكَ الْمِعْرَاجَ حَتَّى وَصَلَ بي إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا.
فَقَرَعَ الْبَابَ فَقِيلَ : مَنْ هَذا ؟ قَالَ : جِبْرِيلُ، قَالُوْا : مَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. فَفَتَحُواْ الْبَابَ فَدَخَلْنَا، فَقَالُواْ : مَرْحَباً وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، قَالَ : فَأَتَيْتُ عَلَى آدَمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ : يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذا ؟ قَالَ : أبُوكَ آدَمُ، فَسَلَّمْتُ عَلِيْهِ فَقَالَ : مَرْحَباً بكَ، بالابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبيِّ الصَّالِحِ.
ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى أتَيْنَا السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَفَتَحُواْ لَنَا وَقَالُواْ : مَرْحَباً برَسُولِ اللهِ ﷺ وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ رَسُولُ اللهِ، فَأَتَيْتُ عَلَى عِيسَى وَيَحْيَى فَقُلْتُ : يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذانِ ؟ قَالَ : عِيسَى وَيَحْيَى ابْنَا الْخَالَةِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمَا، فَقَالاَ : مَرْحَباً بالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبيِّ الصَّالِحِ.
ثُمَّ انْطَلَقْنَا إلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقَالُواْ : مَنْ هَذا ؟ قَالَ : جِبْرِيلُ وَمَعِي مُحَمَّدٌ ﷺ، فَفَتَحُواْ وَقَالُواْ : مَرْحَباً بهِ وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ : جَاءَ، قَالَ : فَأَتَيْتُ عَلَى يُوسُفَ عليه السلام فَقَالَ : مَرْحَباً بالأَخِ الصَّالِحِ.
ثُمَّ أتَيْنَا السَّمَاءَ الرَّابعَةَ فَكَانَ مِنَ الاسْتِفْتَاحِ وَالْجَوَاب مِثْلَ مَا تَقَدَّمْ، فَوَجَدْتُ إدْريسَ فَقَالَ لِي : مَرْحَباً بالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبيِّ الصَّالِحِ. وَفِي السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ وَجَدْتُ هَارُونَ فَقَالَ لِي كَذلِكَ، وَفِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ وَجَدْتُ مُوسَى فَقَالَ لِي كَذلِكَ، وَفِي السَّمَاءِ السَّابعَةِ وَجَدْتُ إبْرَاهِيمَ فَقَالَ لِي : مَرْحَباً بالابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبيِّ الصَّالِحِ.
ثُمَّ رُفِعْتُ إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَإنَّ نَبقَهَا مِثْلَ قِلاَلِ هَجَرٍ، وَوَرَقُهَا كَأَذانِ الْفِيَلَةِ، وَرَأيِْتُ أرْبَعَةَ أنْهَارٍ تَجْرِي مِنْ أصْلِهَا، فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الأَنْهَارِ ؟ فَقَالَ : النَّهْرَانِ الْبَاطِنَانِ فِي الْجَنَّةِ، وأمَّا النَّهْرَانِ الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ، وَفِيهَا مَلاَئِكَةٌ لاَ يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إلاَّ اللهُ، وَمَقَامُ جِبْرِيلَ فِي وَسَطِهَا، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إلَيْهَا فَقَالَ لِي جِبْرِيلُ : تَقَدَّمْ، فَقُلْتُ : تَقَدَّمْ أنْتَ يَا جِبْرِيلُ! فَقَالَ : بَلْ تَقَدَّمْ أنْتَ يَا مُحَمَّدُ ؛ فَأَنْتَ أكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنِّي.
قَالَ : فَتَقَدَّمْتُ وَجِبْرِيلُ عَلَى إثْرِي حَتَّى انْتِهَائِي إلَى حِجَابٍ مِنْ ذهَبٍ، فَحَرَّكَهُ، فَقِيلَ : مَنْ هَذا ؟ قَالَ : جِبْرِيلُ وَمَعِي مُحَمَّدٌ، فَأَخْرَجَ الْمَلَكُ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ الْحِجَاب، فَاحْتَمَلَنِي وَتَخَلَّفَ جِبْرِيلُ، فَقُلْتُ : إلَى أيْنَ ؟ فَقَالَ : وَمَا مِنَّا إلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، وَإنَّمَا أُذِنَ لِي فِي الدُّنُوِّ مِنَ الْحِجَاب لإكْرَامِكَ وَإجْلاَلِكَ. فَانْطَلَقَ بي الْمَلَكُ فِي أسْرَعِ مِنْ طُرْفَةِ عَيْنٍ إلَى حِجَابٍ آخَرَ، فَحَرَّكَهُ فَقَالَ الْمَلَكُ : مَنْ هَذا ؟ فَقَالَ : هَذا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَعِي، فَأخْرَجَ يَدَهُ مِنَ الْحِجَاب، فَاحْتَمَلَنِي حَتَّى وَسِعَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ.
فَلَمْ أزَلْ كَذلِكَ مِنْ حِجَابٍ إلَى حِجَابٍ حَتَّى سَبْعِينَ حِجَاباً، غِلْظُ كُلِّ حِجَابٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَمَا بَيْنَ الْحِجَاب إلَى الْحِجَاب خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ احْتُمْلِتُ إلَى الْعَرْشِ "
وذلك أنَّ رجُلاً من أهلِ الكتاب يقالُ له : كُورشُ غزَا أرضَ بابل، وهي بلادُ بَخِتْنَصَّر، فظهرَ عليهم فقتلَهم وسكنَ ديارَهم، وتزوَّجَ امرأةً مِن بني إسرائيلَ أُخْتُ مَلكِ بني إسرائيلَ، فطلَبت من زوجِها أن يَرُدَّ قومَها إلى أرضِهم ففعلَ، فمكثَ في بيتِ المقدس مِائتين وعشرين سنةً، وقامت بينهم الأنبياءُ، ورجَعُوا الى أحسنَ ما كانوا عليهِ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ﴾.
وعن حذيفةَ بن اليمانِ قالَ : قال رسولُ الله ﷺ في هذهِ الآية :" إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ لَمَّا اعْتَدَواْ وَقَتَلُواْ الأَنْبيَاءَ، بَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَلِكَ الرُّومِ بَخِتْنَصَّرَ، فَسَارَ إلَيْهِمْ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَحَاصَرَهُمْ وَفَتَحَهَا، فَقَتلَ عَلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا أرْبَعِينَ ألْفاً - وَقِيْلَ : سَبْعِينَ ألْفاً - وَسَبَى أهْلَهَا، وَسَلَبَ حُلِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ ابْنُ دَاوُدَ قَدْ بَنَاهُ مِنْ ذهَبٍ وَيَقُوتٍ وَزُبُرْجُدٍ، وَعَمُودُهُ ذهَبٌ، أعْطَاهُ اللهُ ذلِكَ وَسَخَّرَ الشَّيَاطِينَ لَهُ يَأْتُونَهُ بهَذِهِ الأَشْيَاءِ.
ثُمَّ سَارَ بَخِتْنَصَّرَ بالأُسَارَى حَتَّى نَزَلَ بَابلَ فَأَقَامَ بَنُو إسْرَائِيلَ فِي مُدَّتِهِ سَنَةً تَتَعَبَّدُ الْمَجُوسَ وَأبْنَاءَ الْمَجُوسِ، ثُمَّ إنَّ اللهَ تَعَالَى رَحِمَهُمْ فَسَلَطَ مَلِكاً مِنْ مُلُوكِ فَارسَ يُقَالُ لَهُ كُورشُ وَكَانَ مُؤْمِناً، فَسَارَ إلَيْهِمْ فَاسْتَنْقَذ بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْهُمْ، وَاسْتَنْقَذ حُلِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى رَدَّهُ إلَيْهِ، فَأَقَامَ بَنُو إسْرَائِيلَ مُطِيعِينَ اللهَ زَمَاناً، ثُمَّ عَادُوا إلَى الْمَعَاصِي، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَلِكاً آخَرَ وَحَرَقَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَسَبَاهُمْ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا ﴾[الإسراء : ٥] يعني أُولى الْمَرَّتَين، واختلَفُوا فيها، فعلى قولِ قتادة :(إفْسَادُهُمْ فِي الْمَرَّةِ الأُوْلَى مَا تَرَكُواْ مِنْ أحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَعَصَوا رَبَّهُمْ وَلَمْ يَحْفَظُوا أمْرَ نَبيِّهِمْ مُوسَى، وَرَكِبُواْ الْمَحَارمَ).
وعن ابنِ مسعود رضي الله عنه (أنَّ الْفَسَادَ الأَوَّلَ قَتْلُ زَكَرِيَّا)، وَقِيْلَ : قَتْلُهُمْ شَعْيَا نَبيُّ اللهِ فِي الشَّجَرَةِ، قال ابنُ اسحق :(إنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أخْبَرَهُ أنَّ زَكَرِيَّا مَاتَ مَوْتاً وَلَمْ يُقْتَلْ، وَإنَّمَا الْمَقْتُولُ شَعْيَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ ﴾[الإسراء : ٥] يعني جَالُوتَ وجنودَهُ، وقال ابنُ اسحق :(بَخِتْنَصَّرَ الْبَابليُّ وَأصْحَابُهُ، أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ؛ أيْ ذوِي بَطْشٍ شَدِيدٍ فِي الْحَرْب، فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَار ؛ أيْ طَافُوا وَدَارُواْ). وقال الفرَّاء : قتلوكم بين بيوتكم، قال حَسَّنُ : وَمِنَّا الَّذِي لاَقَى بسَيْفٍ مُحَمَّدٍ فَجَاسَ بهِ الأَعْدَاءَ عَرْضَ الْعَسَاكِرِوَقِيْلَ :(فَجَاسُواْ) أي طلَبُوا مَن فيها كما تُجَاسُ الأخبارُ.
وقولهُ تعالى :﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ ﴾[الإسراء : ٧] أي المرَّة الآخرة، وهو قصدُهم قتلَ عيسى حين رُفِعَ، وقتلُهم يحيى بن زكريَّا عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ، فسلَّطَ الله عليهم طَطُوسُ بن استِيباتيُوس فَارسَ وَالروُّمَ حِينَ قَتَلُوهُمْ وسَبَوهم، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾[الإسراء : ٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ ﴾ ؛ أي وعدَ المرَّة الآخرة في الفسادِ، ﴿ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ ؛ بالقتلِ والسَّبي، ﴿ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ ﴾ ؛ أي مسجدَ بيتِ المقدس، ﴿ كَمَا دَخَلُوهُ ﴾ ؛ دخلَهُ بَخِتْنَصِّر وأصحابهُ، ﴿ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً ﴾ ؛ أي وليُخَرِّبوا ما عَلَوا عليه تخريباً، والتَّبَارُ والرَّماد والهلاكُ بمعنى واحدٍ.
ذلك أن اللهَ سلَّط عليهم بعدَ مائتين وعشرين سنةً ططوس بن استيباتوس الرومي، فحاصَرَهم وقَتَلَ منهم مائةَ ألفٍ وثمانين، وخرَّبَ بيتَ المقدس، وذلك بعدَ قَتلِهم يحيى عليه السلام، فلم يزَلْ كذلك خَراباً إلى أن بناهُ المسلمون، فلم يدخلْهُ رُومِيٌّ بعد ذلكَ إلا خائفاً، كما قالَ تعالى :﴿ أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ ﴾[البقرة : ١١٤].
وذهبَ بعضُهم إلى أن بَخِتْنَصَّرَ غَزَا بني إسرائيلَ مرَّتين، ففتحَ مدينَتهم في المرَّة الأولى، وجَاسُوا خلالَها يَقتُلون فيهم، فتابَتْ بنو إسرائيلَ إلى اللهِ تعالى فأظهرَهم اللهُ تعالى على بختنصِّر فرَدَّ عنهم، ثم بعثَ الله إلى بني اسرائيلَ (أرْضِيَّا) النبيَّ عليه السلام، فقامَ فيه بوحيِِ الله تعالى، فضربوهُ وقيَّدوه وحبسوهُ، فسلَّطَ الله عليهم بختنَصِّر مرَّةً أُخرى ففعلَ ما فعلَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ﴾ ؛ ثواباً عظيماً وهو الجنَّةُ، ﴿ وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ ؛ أي إنَّ الذين لا يُؤمنون بالآخرةِ يُبشِّرُهم بعذابٍ أليم وهو النارُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً ﴾ ؛ أي عَجُولاً في الدُّعاء بما يكرَهُ أن يستجابَ لهُ، وقال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَاهُ ضَجُوراً لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ). وَقِيْلَ : أرادَ به آدمَ عليه السلام لَمَّا نُفِخَ في الروحُ فبلغَ إلى رجليه، قصدَ القيامَ قبلَ أن يجرِيَ فيه الروحُ فسقَطَ، فقيل له : لاَ تَعْجَلْ).
وقال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أيضاً :(جَعَلَ اللهُ نُورَ الشَّمْسَ سَبْعِينَ جُزْءاً، وَنُورَ الْقَمَرِ سَبْعِينَ جُزْءاً، فَأُمْحِيَ مِنْ نُور الْقَمَرِ تَسْعَةٌ وَسِتُّونَ جُزْءاً فَجَعَلَهَا مِنْ نُور الشَّمْسِ، فَصَارَ ضَوْءُ الشَّمْسِ مِائَةً وَثَلاَثِينَ جُزْءاً، وَالْقَمَرُ جُزْءاً واحداً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ﴾ ؛ وهي الشَّمسُ مُبْصِرَةً مُضِيئةً مُنِيرةً، ﴿ لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ ؛ أي لتَسكنُوا بالليلِ، وتطلبُوا معايشَكم بالنهار، إلاَّ أنه حذفَ لتَسكنُوا بالليلِ ؛ لأنه ذكرَهُ في موضعٍ آخر، ﴿ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾ ؛ أي جعَلنا ذلك لتَعلَمُوا حسابَ الشُّهور والأيَّامِ ومواقيتَ الصلاةِ والصيام والحجِّ، يعني بمَحْوِ آيةِ الليل، ﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ ﴾ ؛ من الأمرِ والنهي والحلال والحرامِ، ﴿ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ﴾ ؛ أي بَيَّنَّاه في القرآنِ ؛ ليكونَ أقربَ إلى معرِفَتكم، وبَيَّنَّاهُ تبييناً ؛ لئلا يلتبسَ بغِيرِهِ.
وفي الآية تشبيهُ العملِ بالطائرِ الذي يجيءُ من ناحية اليمينِ فيُتبَرَّك بهِ، والذي يجيءُ من ذاتِ الشِّمال فيُتشاءَمُ به، وأما الإضافةُ إلى العُنقِ دون سائرِ الأعضاء ؛ فلأنَّ ما يتزيَّن به من طَوقٍ أو ما يشين من غِلٍّ فإنما يضافُ إلى الأعناقِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ﴾ ؛ أي يرفعُ الله يوم القيامةِ كتابَهُ يرَى فيه جزاءَ أعمالهِ، قرأ الحسنُ ومجاهد :(وَنُخْرَجُ) على ما لَم يسَمَّ فاعلهُ، على معنى : ونخرجُ له الطائرَ كتاباً. وانتصبَ قولهُ (كِتَاباً) على الحالِ.
وقرأ أبو جعفرٍ :(وَيُخْرِجُ) بالياء مسمَّى الفاعل ؛ أي ويَخرُجُ له الطائرُ يومَ القيامةِ. وقرأ يحيى بن وثَّاب (وَيُخْرِجُ) بضمِّ الياء وكسر الراء، المعنى : ويخرِجُ اللهُ له كتاباً، وقرأ الحسنُ ومجاهد :(ألْزَمْنَاهُ طَيْرَهُ) بغيرِ ألف، وقال أهلُ المعاني : أرادَ بالطائرِ ما قضَى عليهِ أنه فاعلهُ، وما هو صائرٌ إليه من شقاوةٍ أو سعادة. قَوْلُهُ تَعَالَى :(يُلَقَّاهُ مَنشُوراً) قرأ أبو جعفر بضمِّ الياء وفتحِ اللام وتشديدِ القاف، يعني يَلقى الإنسانُ ذلك الكتابَ الذي يؤتى، وقرأ الباقون بالتخفيفِ ؛ أي يراهُ مَنشورةً فيه حسناتهُ وسيئاته.
قال ابنُ عباس (يُعْطَى الْمُؤْمِنُ كِتَاباً بيَمِينِهِ وَهِيَ صَحِيفَتُهُ، يَقْرَأ فِيْهَا حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ فِي بَطْنِهَا : عَمِلْتَ كَذا، وَقُلْتَ كَذا فِي سَنَةِ كَذا، فِي شَهْرِ كَذا، فِي يَوْمِ كَذا، فِي سَاعَةِ كَذا، فِي مَكَانِ كَذا. فَإذا انْتَهَىَ إلَى أسْفَلِهَا قِيْلَ لَهُ : قَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ، إقْرَأ مَا فِي ظَاهِرِهَا، فَيْقْرَأ حَسَنَاتِهِ فَيَسُرُّهُ مَا يَرَى فِيْهَا، وَيُشْرِقُ لَوْنُهُ عِنْدَ ذلِكَ﴿ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَءُواْ كِتَـابيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ ﴾[الحاقة : ١٩ و٢٠]).
قال :(وَيُعْطَى الْكَافِرُ كِتَابَهُ بشِمَالِهِ، فَيَقْرَأُ حَسَنَاتِهِ فِي بَاطِنِهَا، فَيَجِدُ عَمِلْتْ كَذا فِي سَنَةِ كَذا فِي شَهْرِ كَذا، فِي يَوْمِ كَذا، فِي سَاعَةِ كَذا. فَإذا انْتَهَى إلَى آخِرِهَا قِيلَ لَهُ : هَذِهِ حَسَنَاتُكَ قَدْ رُدَّتْ عَلَيْكَ، إقْرَأْ مَا فِي ظَاهِرِ كِتَابكَ، فَيَرَى مَا فِي ظَاهِرِ كِتَابِهِ كُلَّ سَيِّئَاتِهِ، كُلَّ صَغِيرَةٍ وَكَبيرَةٍ، فَيَسْوَدُّ وَجْهُهُ وَتَزْرَقُ عَيْنَاهُ، وَيَقُولُ عِنْدَ ذلِكَ﴿ يالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ﴾[الحاقة : ٢٥ و٢٦]).
وإنما ذكرَ الرؤساءَ دون المتبوعين ؛ لأن غيرَهم تَبَعٌ لَهم، فيكون الأمرُ لهم بالطاعةِ أمرٌ للأَتباع. وقرأ مجاهدُ وأبو رجاء (أمَّرْنَا) بالتشديدِ ؛ أي جعَلنا لهم إمْرَةً وسُلطاناً. وقولهُ تعالى :﴿ فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ﴾ ؛ أي وجبَ عليها القولُ بالعذاب، ﴿ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ﴾ ؛ أي أهلَكناها هَلاكاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ ﴾ ؛ أي بهذا الذي لم يُرِدِ اللهَ بعمَلهِ، ﴿ يَصْلاهَا ﴾ ؛ أي يدخُلها، ﴿ مَذْمُوماً ﴾ ؛ بذمِّ نفسهِ ويَذُمُّهُ الناسُ، ﴿ مَّدْحُوراً ﴾ ؛ أي مَطرُوداً مُبعَداً من كلِّ خيرٍ.
والثانِي : أن يسعَى في العملِ الذي يستحقُّ به ثوابَ الآخرةِ. والثالثُ أن يكون مُؤمناً ؛ لأنه إذا كان كَافراً لا ينتفعُ بشيءٍ من عملهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً ﴾ ؛ أي تُضَعَّفُ لهم الحسناتُ، وتُمْحَى عنهم السَّيئاتُ، وتُرفَعُ لهم الدرجاتُ، وقال مجاهدُ :(شُكْرُهُ أنْ يُثِبَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِمْ لَهُ، وَيَعْفُوَ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ﴾ ؛ تقذُّراً حين ترَى منهما شيئاً من الأذى، بل أمِطْ عنهما كما كانا يُمِيطَانِ عنكَ في حالةِ الصِّغَرِ، والأُفُّ هو وسَخُ الأظفارِ، والتُّفُّ وسخُ الأُذن، والمعنى : لا تتأَذى بهما، كما لم يكُونَا يتأذيان بكَ، قال ﷺ " لَوْ عَلِمَ اللهُ شَيْئاً مِنَ الْعُقُوقِ أدْنَى مِنْ أُفٍّ لَحَرَّمَهُ، فَلْيَعْمَلِ الْعَاقُّ مَا شَاءَ أنْ يَعْمَلَ، فَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ. وَلْيَعْمَلِ الْبَارُّ مَا شَاءَ أنْ يَعْمَلَ، فَلَنْ يَدْخُلَ النَّارَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ﴾ ؛ أي لا تَزجُرهما بإغْلاَظٍ وصِيَاحٍ في وجُوهِهِما، ولا تُكلِّمْهُما ضَجِراَ، ﴿ وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾ ؛ أي يكون فيه كرامةٌ لهما كقولِ العبدِ الْمُذْنِب للسيِّد الغليظِ، كذا قال ابنُ المسيَّب، وقال عطاءُ :(لاَ تَشْتُمْهُمَا وَلاَ تُبْكِيهِمَا، وقُلْ لَهُمَا : يَا أبَتَاهُ، يَا أُمَّاهُ).
وعن عُروة بنِ الزُّبير قال :(مَا أبَرَّ وَالِدَهُ مَنْ أحَدَّ النَّظَرَ إلَيْهِ). وَقِيْلَ : خفضُ الجناحِ عبارةٌ عن السُّكون، قرأ الحسنُ وسعيد بن جبير وعاصم :(جَنَاحَ الذِّلِّ) بكسرِ الذال ؛ أي لا تَسْتَصْعِبْ معَهُما.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾ ؛ وهذا أمرٌ بالدُّعاء لهما بالرحمةِ والمغفرةِ إذا كانا مُسلِمين، والمعنى : رب ارحَمهُما مثلَ رَحمتِهما أيَّايَ في صِغَري حتى ربَّيانِي، وقال قتادةُ :(هَكَذا عُلِّمْتُمْ، بهَذا أُمِرْتُمْ).
قال ﷺ :" رضَا اللهِ مَعَ رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللهِ مَعَ سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ "، وقال ﷺ :" " مَنْ أمْسَى مَرْضِيّاً لِوَالِدَيْهِ وَأصْبَحَ، أصْبَحَ لَهُ بَابَانِ مَفْتُوحَانِ إلَى الْجَنَّةِ، وَإنْ كَانَ وَاحِداً فَوَاحِدٌ. وَمَنْ أمْسَى مُسْخِطاً لِوَالِدَيْهِ وَأصْبَحَ، أصْبَحَ لَهُ بَابَانِ مَفْتُوحَانِ إلَى النَّارِ، وَإنْ كَانَ وَاحِداً فَوَاحِدُ " فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ فَإْنْ ظَلَمَاهُ ؟ قَالَ :[وَإنْ ظَلَمَاهُ ؛ وَإنْ ظَلَمَاهُ ؛ وَإنْ ظَلَمَاهُ] " ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ﴾ ؛ التبذيرُ : تفريقُ المالِ في المعصية، قال مجاهدُ :(لَوْ أنْفَقَ دِرْهَماً أوْ مُدّاً فِي مَعْصِيَةِ اللهِ تَعَالَى كَانَ مُبَذِّراً، وَلَوْ أنْفَقَ فِي مِثْلِ أبي قُبَيْسٍ فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ مُبَذِّراً). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ﴾ ؛ أي أتباعَ الشَّياطين، يَتبعونَهم ويَجْرُونَ على سُنَنِهم، وَقِيْلَ : يُقْرَنُونَ بالشَّياطينِ في النارِ، ﴿ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ﴾ ؛ أي لا تُخرِجْ جميعَ ما في يدِكَ مع حاجتِكَ وحاجة عيالك إليه، ﴿ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً ﴾ ؛ ذا حَسرَةٍ تلومُ نفسَكَ وتُلاَمُ، وتبقَى الحسرَةُ على ما تُخرِجهُ من يدِكَ، والحسرةُ : الغَمُّ لانْحِسَارِ مَا فَاتَ، وحَسَرَ عن ذراعهِ يَحْسُرُ حَسْراً إذا كَشَفَ عنه.
وقد قِيْلَ : إنَّ المرادَ بالخطاب في هذه الآية غيرُ النبيِّ ﷺ ؛ لأنه ﷺ لم يكن يدَّخِرُ شيئاً لِغَدٍ، وكان يجوعُ حتى يشُدَّ الحجرَ على بطنهِ، وقد كان كثيرٌ من فُضَلاءِ الصَّحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمُ يُنفقون جميعَ أمْلاكِهم في سبيلِ الله تعالى، مِثْلَ ما فعلَهُ أبو بكرٍ رضي الله عنه حتى يبقَى في عباءة، فلم يُعنِّفْهمُ النبيُّ ﷺ، ولم يُنكِرْ عليهم لصحَّةِ يقينهم وشدَّةِ بصائرهم.
وإنما نَهَى اللهُ تعالى عن الإفراطِ في الإنفاقِ مَن خِيفَ عليه الحسرةَ على ما يخرجهُ من يدهِ، كما رُوي :" أنَّ رَجُلاً أتَى رَسُولَ اللهِ ﷺ بمِثْلِ بَيْضَةٍ مِنْ ذهَبٍ، فَقَالَ : وَجَدْتُهَا فِي مَعْدِنِ كَذا وَلاَ أمْلِكُ غَيْرَهَا، فَتَصَدَّقَ بهَا، فَأَخَذهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَرَمَاهُ بهَا حَتَّى لَوْ أصَابَهُ بهَا لَشَجَّهُ، ثُمَّ قَالَ :" إنَّ أحَدَكُمْ لَيَتَصَدَّقُ بجَمِيعِ مَالِهِ، ثُمَّ يَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ ". " ومن الدليلِ أنَّ النبي ﷺ لَم يكن دَاخِلاً في هذا الخطاب : أن اللهَ تعالى قال ﴿ مَلُوماً مَّحْسُوراً ﴾ ومعلومٌ أنه ﷺ لم يكن يتحسَّرُ على ما كان يملِكهُ.
وذهبَ بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ الخطابَ للنبيِّ ﷺ، وأن سببَ نُزولِ هذه الآية ما رُوي :" أنَّ امْرَأةً بَعَثَتِ ابْنَهَا إلَى النِّبيِّ ﷺ فَقَالَتْ لَهُ : قُلْ : إنَّ أُمِّي تَسْتَكْسِيكَ دِرْعاً، فَإنْ قَالَ لَكَ حَتَّى يَأْتِينَا شَيْءٌ، فَقُلْ لَهُ : فَإنَّهَا تَسْتَكْسِيكَ قَمِيصَكَ، فَفَعَلَ الابْنُ كَمَا قَالَتْ أُمُّهُ، فَنَزَعَ النَّبيُّ ﷺ قَمِيصَهُ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ قَمِيصٌ يَخْرُجُ فِيْهِ إلَى الصَّلاَةِ "، فنَزلت هذه الآيةُ بما فيها من الدلالةِ بالنَّهي عن الإمساكِ، فيكون التحسُّرُ على هذا القولِ لتأخُّرِ خروجهِ إلى الصلاةِ بسبب القَميصِ.
وقوله تعالى :﴿ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم ﴾ أي إنَّ رِزقَكم ورزقَ بناتِكم على اللهِ، وإنْ كان لسببٍ يجري على أيدِيكم، فإنَّ اللهَ تعالى لو لَم يُقوِّكُم على الاكتساب ولَم يُمكِّنكُم من تحصيلِ النفقة لم تتمَكَّنوا من تحصيلٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً ﴾ ؛ أي إنَّ دَفنَهم أحياءً كان ذنباً عظيماً في العقوبةِ، يقال : خَطِأَ الرجُل يَخْطَأُ خطأً مثل أثِمَ يأثَمُ إثماً، وقرأ ابنُ عامر (خَطَأً) بفتحِ الخاء على أنه مصدرُ أخْطَأَ، فيكون المعنى على هذا أنَّ قَتلَهم كان غيرَ صوابٍ.
قال ﷺ :" وَفِي الزِّنَى سِتُّ خِصَالٍ : ثَلاَثٌ فِي الدُّنْيَا، وَثَلاَثٌ فِي الآخِرَةِ. فَأمَّا اللَّوَاتِي فِي الدُّنْيَا : فَيُذْهِبُ نُورَ الْوَجْهِ وَيَقْطَعُ الرِّزْقَ وَيُسْرِعُ الْفَنَاءَ. وأمَّا اللَّوَاتِي فِي الآخِرَةِ : فَغَضَبُ الرَّب وَسُوءُ الْحِسَاب وَالدُّخُولُ فِي النَّارِ "، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَسَآءَ سَبِيلاً ﴾ ؛ أي بئْسَ الزِّنَى طَريقاً لمن يسلكهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً ﴾ ؛ أي مَن قُتل بغيرِ حقٍّ، فقد جَعلنا لوارثهِ حجَّةًُ في كتاب الله تعالى في إيجاب القَوَدِ على القاتلِ، وعن ابنِ عبَّاس أنه قالَ :(الْمُرَادُ بهَذا السُّلْطَانِ : أنَّ لِلْوَلِيِّ أنْ يَقْتُلَ إنْ شَاءَ، أوْ أخَذ الدِّيَةَ، أوْ عَفَى). ويجوزُ أن يكون المرادُ بالسُّلطان السلطانَ الذي يلِي الأمرَ والنهيَ يجب عليه أن يُعِينَ ولِيَّ القتيلِ حتى يطلبَ قاتلَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ﴾ ؛ السَّرَفُ : أن يقتُلَ غيرَ القاتلِ كما يفعلهُ العربُ. وَقِيْلَ : معناهُ : ولا تُمَثِّلُوا بالقاتلِ في القتل. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ﴾ ؛ يعنِي ولِيَّ المقتولِ، حكمَ اللهُ له بذلك، وأمرَ المؤمنين أن يُعينوهُ، ويجبُ أيضاً على الإمامِ أن يُدفَعَ إليه القاتلُ. ويقالُ : معناه : إن المقتولَ كان منصُوراً بالثَّوابِ وبإيجاب القَصَاصِ لِوَلِيِّهِ، وعن رسولِ الله ﷺ أنه قالَ :" إنَّ مِنْ أعْتَى النَّاسِ عَلَى اللهِ ثَلاَثةٌ : رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أوْ قَتَلَ بدَخَنٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أوْ قَتَلَ فِي حَرَمِ اللهِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ﴾ ؛ أي وأوْفُوا بعهدِ الله إليكم في أموالِ اليتَامى، وكلُّ ما أمرَ اللهُ به ونَهى عنهُ فهو من العهدِ، ﴿ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ﴾ عنه للجزاءِ، فحُذِفَ استكفاءً بدلالةِ الحال.
والقَفْوُ في اللغة : اتِّباعُ الأمرِ كأنه يتبَعُ الأثرَ، ومنه القِيَافَةُ، كانت العربُ يتَّبعون فيها أثرَ الآباءِ، ويقولُ : قفوتُ الشيءَ أقْفُوهُ ؛ إذا اتَّبَعْتَ أثَرَهُ، والمعنى على هذا : لا تُتْبعَنَّ لسَانَكَ مِن القول ما ليس لكَ به علمٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ ﴾ ؛ يعني إنَّ المرءَ مسؤُولٌ يومَ القيامةِ عمَّا يفعلهُ بهذه الجوارحِ مِن الاستماعِ لِمَا لا يحلُّ، والنظر الى ما لا يجوزُ، والارادةِ لِمَا يَقْبُحُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كُلُّ أُولـائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ ؛ أي كلُّ هذه الجوارجِ والأعضاء، ولَم يقُل تلكَ، قال الشاعرُ : ذّمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُوْلَئِكَ الأَيَّامِويجوزُ أن يكون راجعاً إلى أصحَابها وأربَابها.
قال الكلبيُّ وابنُ عبَّاس :(هَذِهِ الثَّمَانِي عَشْرَةَ آيَةً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهاً آخَرَ... ﴾ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ كُلُّ ذلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ﴾[الإسراء : ٣٨] كَانَتْ فِي ألْوَاحِ مُوسَى عليه السلام حِينَ كَتَبَهَا اللهُ لَهُ، وَقَدْ أنْزَلَهَا عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ وَهِيَ فِي الْكُتُب كُلِّهَا مَوْجُودَةٌ لَمْ تُنْسَخْ قَطُّ).
وَقِيْلَ : إن الترابَ يسبحُ ما دام يَابساً، فإذا ابْتَلَّ تركَ التسبيحَ! وإنَّ الماءَ يُسَبحُ ما دامَ جَارياً، فإذا ركَدَ تركَ التسبيحَ! وإنَّ الورقَ ما دامَ على الشَّجرِ يسبحُ، فإذا سقطَ تركَ التسبيحَ! وإنَّ الثوبَ يسبحُ ما دامَ جَديداً، فإذا توَسَّخَ تركَ التسبيحَ! وإنَّ الوحشَ إذا صاحتَ سبَّحَتْ، فإذا سكَتَتْ تَرَكَتِ التسبيحَ.
وعن أنسٍ رضي الله عنه قالَ :" كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَخَذ كَفّاً مِنْ حَصَى فَسَبَّحَ فِي يَدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَتَّى سَمْعْنَا التَّسْبيحَ، فَصَبَّهُنَّ فِي أيْدِينَا فَمَا سَبَّحْنَ فِي أيْدِينَا "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾ ؛ أي حَليماً لا يَعْجَلُ بعقاب الكفَّار، غَفُوراً يَسْتُرُ الذنوبَ على عبادهِ.
وعن سعيدِ بن جُبير قال :" (لَمَّا نَزَلَتْ ﴿ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ [المسد : ١] جَاءَتِ امْرَأةُ أبي لَهَبٍ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَمَعَهُ أبُو بَكْرٍ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ تَجَنَّبْتَ عَنِ امْرَأةِ أبي لَهَبٍ لِئَلاَّ تُسْمِعَكَ، فَإنَّهَا امْرَأةٌ نَدِيَّةٌ، فَقَالَ ﷺ :" إنَّّهُ سَيُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا " فَجَاءَتْ أُمُّ جَمِيلٍ وَلَهَا وَلْوَلَةٌ وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ، وَهِيَ تَقُولُ : هَذا مِمَّا أبَيْنَا وَدِينِهِ قَلَيْنَا وَأمْرِهِ عَصَيْنَا.
وَرَسُولُ اللهِ ﷺ جَالِسٌ وَأبُو بَكْرٍ إلَى جَنْبهِ. فَقَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : لَقَدْ أقْبَلَتْ هَذِهِ وَأنَا أخَافُ أنْ تَرَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ : إنَّهَا لَنْ تَرَانِي، وَقَرَأ ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً ﴾. قَالَ : فَجَاءَتْ حَتَّى قَامَتْ عِنْدَ أبي بَكْرٍ وَلَمْ تَرَ النَّبيَّ ﷺ فَقَالَتْ : يَا أبَا بَكْرٍ بَلَغَنِي أنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، فَقَالَ : لاَ وَرَب الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ، فَانْدَفَعَتْ رَاجِعَةً، فَقَالَ أبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللهِ أمَا رَأتْكَ ؟ قَالَ :" لا ". قال : لِمَ ؟ قَالَ :" نَزَلَ مَلَكٌ بَيْنِي وَبَيْنَهَا يَسْتُرُنِي حَتَّى ذهَبْتُ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ حِجَاباً مَّسْتُوراً ﴾ أي سَاتِراً لَهم عن إدراكهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ﴾ ؛ أي منعناهم عن تدبُّرِ كلامِ النبيِّ ﷺ في وقتٍ مخصوصٍ، وهو الوقتُ الذي أرادوا إيذاءَهُ فيهِ، ﴿ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً ﴾ ؛ ففِي ذلك الوقتِ صرَفنا آذانَهم عن الاستماعِ إليه، والمعنى : طبَعنا على قُلوبهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ ﴾ ؛ يعني إذا قُلتَ : لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ، وأنتَ تَتلُو القرآنَ، ﴿ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً ﴾، قال ابنُ عبَّاس :(كَارهِينَ أنْ يُوَحِّدُواْ اللهَ)، وقال قتادةُ :" إنَّ النَّبيَّ ﷺ لَمَّا قَالَ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، أنْكَرَ ذلِكَ الْمُشْرِكُونَ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمْ ". والمعنى : انصَرَفُوا عنكَ هاربين ؛ كراهةً لما يسمعونَهُ من توحيدِ الله.
وَقِيْلَ : إنَّ رسولَ اللهِ ﷺ أمَرَ عَلِيّاً رضي الله عنه أنْ يتَّخِذ طَعاماً، فيدعُو إليه أشرافَ قُريش من المشركين، ففعلَ ذلكَ، ودخلَ رسولُ اللهِ ﷺ وقرأ عليهم القرآنَ، ودعاهُم إلى التوحيدِ، فكانوا يستَمِعون ويقولون فيما بينهم مُتَنَاجِينَ : هو ساحرٌ، وهو مجنون مسحورٌ.
فأخبرَ اللهُ تعالى نَبيَّهُ بذلكَ، وأنزلَ عليه ﴿ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ﴾ أي يتناجَون بينهم بالتكذيب والاستهزاءِ، ﴿ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ ﴾ ؛ أي أُولئك المشرِكون :﴿ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ﴾ أي مغلوبَ العقلِ قد سُحِرَ، وأُزيلَ عن حدِّ الاستواءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا ﴾ أي إذا قُلْتَ لهم ذلكَ فسيقولون لكَ : مَن يُعِيدُنا ؟ ﴿ قُلِ ﴾ ؛ لَهم : يُعِيدُكم، ﴿ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ ؛ لأنَّ مَن قَدَرَ على البناءِ كان على الهدمِ أقدرَ، ومَن قدر على ابتداءِ الشيء كان على إعادتهِ أقدرَ.
قولهُ :﴿ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ ﴾ ؛ أي فسيُحرِّكون إليكَ رُؤوسَهم تعجُّباً لقولِكَ، والإنْغَاضُ : تحرُّكُ الرأس بالارتفاع والانخفاضِ على جهة الاستهزاءِ والاستبطاء، ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ ﴾ ؛ أي متى تكون الإعادةُ، ﴿ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً ﴾ ؛ أي قل عسى أن تكون الإعادةُ قريبةً، و(عَسَى) مِن الله واجبةٌ، ﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ﴾ ؛ في النَّفخةِ الثانية، فتجيبون دَاعِيَ اللهِ حامِدين لله، قال سعيدُ بن جبير :(يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورهِمْ يَقُولُونَ : سُبْحَانَكَ وَبحَمْدِكَ، وَلاَ يَنْفَعُهُمْ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ ؛ لأَنَّهُمْ حَمَدُوا حِينَ لاَ يَنْفَعُهُمُ الْحَمْدُ).
قولهُ :﴿ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ ؛ أي تظُنون أنَّكم لم تلبَثُوا في الدُّنيا إلا قَليلاً لسُرعةِ انقلاب الدُّنيا إلى الآخرةِ، كما قال الحسنُ :(كَأَنَّكَ بالدُّنْيَا وَلَمْ تَكُنْ وَبالآخِرَةِ وَلَمْ تَزَلْ).
ومِن المفسِّرين مَن قالَ : هذه الآية خطابٌ للمؤمنِين ؛ لأنَّهم يستَجيبون للهِ بحمده على إحسانهِ إليهم، كما قالَ ﷺ :" كَأَنِّي بأَهْلِ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَهُمْ يَنْفِضُونَ التُّرَابَ عَنْ رُؤُوسِهِمْ وَيَقُولُونَ : الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ".
والمعنى : قُل للمؤمنين يقولون للكفَّار، والمقالَةُ التي هي أحسَنُ من الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر على وجه الرِّفقِ، ويقولون لَهم : يَهدِيكُمُ اللهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ﴾ ؛ أي يُغْرِي المشركين على المسلمين، فيوقعُ العداوةَ بينهم ويفسِدُ نيَّتَهم، ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً ﴾ ؛ مُظْهِراً للعداوةِ.
قال قتادةُ :(اتَّخَذ اللهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً، وَجَعَلَ عِيسَى كَلْمَتَهُ وَرُوحَهُ، وَآتَى سُلَيْمَانَ مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ، وَغَفَرَ لِمُحَمَّدٍ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ﴾ ؛ يعني كِتَابَهُ الذي أعطاهُ إياه، وهو مِائَةٌ وخمسون سورةً، ليس فيها حُكمٌ ولا فريضة، وإنما هو ثناءٌ على اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ﴾ أي أقرَبُ إلى اللهِ بالوسيلة، يعني يتقرَّبون إليه بالعملِ الصالح، وعن ابنِ مسعودٍ في تفسيرِ هذه الآية :(أنَّ قَوْماً مِنَ الإنْسِ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَوْماً مِنَ الْجِنِّ، فَأَسْلَمَ الْجِنُّ وَبَقِيَ الإنْسُ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
وقولهُ تعالى :﴿ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ﴾ أي يطلبُون أن يعلَمُوا أيُّهم أقربُ إلى اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ﴾ ؛ أي يريدون جَنَّتَهُ، ﴿ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً ﴾ ؛ أي مما يجبُ أن يُحذرَ عنهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَانَ ذالِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً ﴾ ؛ أي قضاءً من اللهِ، كما يسمَعون ليس منه بدٌّ، وَقِيْلَ : كان ذلك في اللَّوحِ المحفوظِ مَكتوباً، فإنه مكتوبٌ فيه كيفَ يُهلِكهم اللهُ، ومتى يُهِلِكهم، وبأَيِّ عذابٍ يُهلكهم.
وموضع (أنْ) الأُولى نُصِبَ بتكذيب الأوَّلين برفعِ المنع عليه، وموضعُ (أنْ) الثانية رَفعٌ تقديره : وما مَنَعَنَا الإرسالَ بالآياتِ إلا تكذيب الأوَّلين بها، وهذا اللفظُ أغنَى عن لفظ المنعِ على طريق المجازِ ؛ لأن المنعَ لا يجوزُ على اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ﴾ ؛ أي أخرَجنا لثمودَ الناقةَ ليُبصِرُوا بها الْهُدَى من الضَّلالة، والسعادةَ من الشقاوةِ، ﴿ فَظَلَمُواْ بِهَا ﴾ ؛ أي جَحَدوا بها وعَقَرُوها. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً ﴾ ؛ أي العِبَرَ والدلالاتِ إلا تَخْوِيفاً للعبادِ ليُؤمِنُوا، فإذا لم يفعَلُوا عُذِّبُوا.
قال قتادةُ :(يُخَوِّفُ اللهُ الْخَلْقَ بمَا شَاءَ مِنْ آيَةٍ لَعَلَّهُمْ يَعْتَبرُونَ أوْ يَرْجِعُونَ، ذُكِرَ لَنَا أنَّ الْكُوفَةَ رَجَفَتْ عَلَى عَهْدِ عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ : يَا أيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللهَ يَسْتَعْتِبُكُمْ فَاعْتِبُوهُ). وعن الحسنِ في قوله :﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً ﴾ قال :(الْمَوْتُ الذريعُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ ﴾ ؛ قال أكثرُ المفسِّرين : يعني ما ذُكِرَ في أوَّلِ هذه السُّورة من الإسراءِ في ليلةٍ واحدة من المسجدِ الحرام إلى المسجدِ الأقصَى على معنى أنَّها شدَّةٌ من التكليفِ، كما رُوي أنَّ المشركين استعظَمُوا ذلك وكذبوهُ، فيكون معنى الرُّؤيا رؤيةَ العينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ ﴾ ؛ أي وما جعَلنا الشجرةَ الملعونةَ إلاَّ فتنةً للناس، والشجرةُ الْمَلْعُونَةُ : شجرةُ الزَّقُّومِ، يقولُ العرب : لكُلِّ طعامٍ منارٌ معلوم، وسَمَّوها فتنةً ؛ لأنَّهم قالوا : إنَّ النارَ تأكلُ الشجرةَ، فكيف تنبتُ الشجرة في النارِ؟!
وقال ابن الزُّبْعَرَى :(مَا نَعْلَمُ الزَّقُّومَ إلاَّ التَّمْرَ وَالزَّبَدَ) فَهَذا الْكَلاَمُ مِنْهُمْ هُوَ فِتْنَتُهُمْ ؛ أيْ فُتِنُواْ بذلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً ﴾ ؛ أي نُخوِّفُهم بما نُرسِلُ الآياتِ، فما يزدادون إلا تَجاوُزاً عن الحدِّ.
قال اللهُ تعالى حَاكياً عن إبليس :﴿ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـاذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ﴾ أي قالَ إبليس : أخبرنِي عن هذا الذي كرَّمتهُ عليَّ، لِمَ كرَّمتَهُ علَيَّ، وقد خلَقتَني من نارٍ وخلقتهُ من طينٍ؟! اعتقدَ إبليس أنَّ النارَ أكرَمُ أصلاً من الطينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ ؛ أي لأَستَأْصِلَنَّ ذُرِّيتَهُ بإغوائِهم، إلاَّ قليلاً منهم وهمُ الذين عصَمتَهم مني، تقولُ العربُ : احْتَنَكَتِ السَّنَةُ أمْوالَنَا ؛ أي استأْصَلَتْهَا، قال الشاعرُ : أشْكُو إلَيْكَ سَنَةً قَدْ أجْحَفَتْ وَاحْتَنَكَتْ أمْوَالَنَا وَاجْتَلَفَتْوَاحْتَنَكَتْ حَلَقَتْ، وَاحْتَنَكَتِ الْجَرَادُ مَا عَلَى الأَرْضِ. وَقِيْلَ : معنى ﴿ لأَحْتَنِكَنَّ ﴾ أي لأقتَطِعَنَّ ذُرِّيتَهُ إلى المعاصي، يقالُ : احْتَنَكَ فلانٌ ما عندَ فلانٍ من مالٍ، إذا اقتطعَهُ. وَقِيْلَ : معناهُ : لأَقُودَنَّ ذُريَّتَهُ إلى المعاصِي وإلى النار، مِن قولهم : حَنَكَ دَابَّتَهُ يَحْنِكُهَا من الأَسْفَلِ بحَبْلٍ يَقُودُهَا بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ ﴾ ؛ شِركَتهُ في الأموالِ أن يجعَلُوا شيئاً من أموالهم لغيرِ الله، كما جعَلُوا من الحرثِ والأنعامِ، وشِركَتهُ في الأولادِ أن سَمَّوا أولادَهم : عبدَ يَغُوث، وعبدَ شمسٍ، وعبدَ الحرب. وقال بعضُهم : شِركتهُ في أولادِهم أولاد الزِّنَى، كذا قال مجاهدُ والضحَّاك. ويقالُ شركتهُ في الأموالِ كلَّ ما أُخذ من حرامٍ وأُنفِقَ في حرامٍ، وشركتهُ في الأولادِ الذي يُهَوِّدَاهُ أبَوَاهُ ويُنَصِّرانِهِ ويُمَجِّسانِه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ﴾ ؛ أي مَنِّيهِمْ بما شِئتَ من الغُرور : من طولِ الحياةِ، والتَّشكيكِ في البعثِ، وما تكون مواعيدُ الشَّيطان إلا غُروراً ؛ أي تَزييناً بَاطِلاً.
ثُم ذكَرَ سبحانَهُ نِعَمَهُ على عبادهِ فقال :
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ ﴾ ؛ أي ربُّكم الذي يسوقُ لكم، ويُجرِي لكم السُّفنَ في البحرِ، ﴿ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ ؛ أي لتطلبُوا ما كان مصلحةً لكم في دُنياكم وآخِرَتِكم من التِّجارة وغيرِها، ﴿ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ﴾ ؛ حين أنعمَ عليكم بهذه النِّعم.
قال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَاهُ : إذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ نَسِيتُمُ الأَنْدَادَ وَالشُّرَكَاءَ، وَتَرَكْتُمُوهُمْ وَأخْلَصْتُمْ للهِ)، ﴿ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ ﴾، فَلَمَّا أجَابَ دُعَاءَكُمْ وَنَجَّاكُمْ مِنَ الْبَحْرِ، وَأخْرَجَكُمْ إلى البَرِّ ونجاكم، ﴿ أَعْرَضْتُمْ ﴾ ؛ عن الإيمانِ والطاعة، ورجعتُم إلى ما كنتم عليهِ، ﴿ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً ﴾ ؛ لنِعَمِ اللهِ تعالى، وأرادَ بالإنسانِ الكافرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ ؛ أي فضَّلنَاهم على كثيرٍ من حيواناتِ البرِّ والبحرِ، ومِن تفضيلهم أنَّهم يأكُلون بالأيدِي، وغيرُهم من الحيواناتِ يأكلون بالأفواهِ. ويقالُ : إنَّ ابنَ آدم يَمشِي مُنتَصِباً قائماً وسائرُ الحيواناتِ تَمشِي مُنْكَبَّةً.
ولم يقُل في الآية : عَلَى كلِّ مَنْ خلَقْنَا ؛ لأن اللهَ فضَّلَ الملائكةَ كما قالَ تعالى :﴿ وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ﴾[النساء : ١٧٢] ولكنَّ ابنَ آدمَ مُفَضَّلٌ على سائرِ الحيوانات، وقال عطاءُ في هذه الآيةِ :(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ بتَعْدِيلِ الْقَامَةِ وَامْتِدَادِهَا)، وقال محمَّدُ بن كعبٍ :(بأَنْ جَعَلَ مُحَمَّداً ﷺ مِنْهُمْ). وَقِيْلَ : بحُسنِ الصُّورة، وَقِيْلَ : الرِّجالُ باللِّحَا والنِّساءُ بالذوائب.
وَقِيْلَ : بتسلِيطهم على غيرِهم من الخلائقِ، وبتسخيرِ الخلائق لَهم. وعن النبيِّ ﷺ في تفسيرِ الآية قال :" الْكَرَامَةُ الأَكْلُ بالأصَابعِ " وقولهُ :﴿ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾ يعني الثِّمارَ والحبوبَ، وكلَّ طعامٍ لَيِّنٍ، ورَزَقَ الدوابَ التِّبنَ والحشيشَ والشَّوكَ.
ثم يقالُ : هاتُوا متَّبعي الشيطانِ رؤساءَ الضَّلالةِ، هاتوا مُتَّبعي الطاغوتِ، فيقُومون ويُعطَونَ كُتبَهم بشمائلِهم. ويقالُ : يُدعَى كلُّ أُناسٍ بعَملهِ، فيقالُ : أين صاحبُ هذا الكتاب ؟ أين فلانُ بن فلان الْمُصَلِّي ؟ وأين فلانُ بن فلان الصَّوَّام ؟ إلى أن يُنادِي بالعازفِ والدفَّافِ والرَّقاصِ، فيُدعَى كلُّ أُناسٍ بعملهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴾ ؛ أي مَن أُعطِيَ كتابَهُ الذي فيه ثوابُ عملهِ بيمينه، ﴿ فَأُوْلَـائِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ ﴾ ؛ يفرَحُون ويُسَرُّونَ بما يقرَأُون، وقولهُ تعالى :﴿ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾ ؛ ولا يُنقَصُونَ من ثواب أعمالهم مقدارَ الفَتِيلِ، وهو القِشْرُ الذي في شِقِّ النَّواةِ، ويقالُ : هو الوَسَخُ الذي تَفْتِلُهُ بين إصبعَيكَ.
فَقَالَ لَهُمُ النَّبيُّ ﷺ :" لاَ خَيْرَ فِي دِينٍ لاَ صَلاَةَ فِيْهِ وَلاَ رُكُوعَ وَلاَ سُجُودَ، وَأمَّا قَوْلُكُمْ عَلَى أنْ لاَ تَكْسِرُواْ أصْنَامَكُمْ بأَيْدِيكُمْ فَذلِكَ لَكُمْ، وَنَحْنُ نَبْعَثُ لَهَا مَنْ يَكْسِرُهَا، وأمَّا الأَصْنَامُ فَأَنَا غَيْرُ مُمَتِّعُكُمْ بهَا " فَقَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ فَإنَّا نُحِبُّ أنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أنَّكَ أعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ غَيْرَنَا، فَإنْ خِفْتَ أنْ تَقُولَ الْعَرَبُ أعْطَيْتَهُمْ مَا لَمْ تُعْطِنَا، فَقُلِ اللهُ أمَرَنِي بذلِكَ! فَسَكَتَ النَّبيُّ ﷺ وَلَمْ يَقُلْ لاَ : رَجَاءَ أنْ يُسْلِمُواْ "، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ ﴾ أي يَصرِفُونَكَ عن الذي أمَرنَاكَ من كَسْرِ آلِهتِهم وعَيب دِينِهم ؛ لتَفتَرِيَ علينا غيرَ الذي أمرنَاكَ به، فلو فعلتَ ما أرادوهُ، ﴿ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ﴾ ؛ أي صَفِيّاً لمبايَعتِكَ إيَّاهم.
وذهبَ السديُّ في هذه الآياتِ :(إلَى أنَّ قُرَيْشاً قَالَتْ لِلنَّبيِّ ﷺ : إنَّكَ تَرْفُضُ آلِهَتَنَا كُلَّ الرَّفْضِ، فَلَوْ أنَّكَ تأْتِيهَا وَتَلْمِسُهَا وَتَبْعَثُ بَعْضَ وَلَدِكَ فَيَمْسَحُهَا، كَانَ أرَقَّ لِقُلُوبنَا وَأحْرَى أنْ نَتَّبعَكَ! فَهَمَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ أنْ يَبْعَثَ بَعْضَ وَلَدِهِ فَيَمْسَحَهَا، فَنَهَاهُ اللهُ عَنْ ذلِكَ). ويقال : إنَّهم قالوا : أُطْرُدْ سِقَاطَ الناسِ وموالِيهم، هؤلاءِ الذين رائحتُهم كرائحةِ الضَّأنِ حتى نتَّبعَكَ، فَهَمَّ رسولُ الله ﷺ أن يفعلَ رجاءَ أن يُسلِمُوا، فأنزلَ اللهُ هذه الآياتِ.
وقولهُ تعالى :﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا ﴾ ؛ وذلك أنَّ النبيَّ ﷺ لِمَّا قَدِمَ المدينةَ، حسَدَتْهُ اليهودُ قالوا له : يَا مُحَمَّدُ أنَبيٌّ أنْتَ ؟ فَقَالَ :" نَعَمْ " قَالُواْ لَهُ : وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَذِهِ بأرْضِ الأَنْبيَاءِ، وَإنَّ أرْضَ الأَنْبيَاءِ الشَّامُ، كَانَ بهَا إبْرَاهِيمُ وَعِيسَى، فَإنْ كُنْتَ نَبيّاً فَأْتِ الشَّامَ، فَإنَّ اللهَ سَيَمْنَعُكَ بهَا مِنَ الرُّومِ إنْ كُنْتَ رَسُولَهُ، وَهِيَ الأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ وَأرْضُ الْمَحْشَرِ. فَهَمَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ أنْ يَخْرُجَ إلَى الشَّامِ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بهَذِهِ الآيَةِ. ومعناها : وقد كَادُوا ليَستَفِزُّونَكَ من أرضِ المدينة ليُخرِجُوكَ منها إلى الشَّامِ، ﴿ وَإِذاً ﴾ ؛ لو أخرَجُوكَ، ﴿ لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ ؛ أي الاَّ مدَّةً يسيرةً حتى يُهلِكَهم اللهُ. ومن قرأ (خِلاَفَكَ) فمعناهُ : مُخالَفَتِكَ.
وقال مجاهدُ وقتادة :(هَمَّ أهْلُ مَكَّةَ بإخْرَاجِ النَّبيِّ ﷺ مِنْ مَكَّةَ حِينَ شَاوَرُواْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَوْ فَعَلُواْ مَا أُمْهِلُواْ، وَلَكِنَّ اللهَ كَفَّهُمْ عَنْ إخْرَاجِهِ حَتَّى أمَرَهُ بالْخُرُوجِ). والقَلِيلُ : مَا لَبثُوا بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى أهْلَكَهُمُ اللهُ يَوْمَ بَدْرٍ، غيرَ أن التأويلَ الأول أصحُّ.
قوله تعالى :﴿ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ﴾ ؛ صلاةَ الفجرِ تشهدُها ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النهارِ يُصلُّونَها مع المسلمين. وإنما سُميت صلاةُ الفجرِ قُرْآناً ؛ لأن القراءةَ فيها طولٌ، ولأن القراءةَ فريضةٌ من الرَّكعتين، وفي هذا بيانُ أن الصلاةَ لا تكون إلا بقراءةٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ نَافِلَةً لَّكَ ﴾ أي تطَوُّعاً، وَقِيْلَ : فضيلةً لكَ لرفعِ الدرجات لا للكفَّارات، فإنه عليه السلام قد غُفِرَ له من ذنبهِ ما تقدَّمَ وما تأخَّرَ، وليست لنا بنافلةٍ، لكَثرَةِ ذُنوبنا وإنما هي كفارةٌ لغيرِ النبيِّ ﷺ، هكذا قال مجاهدُ. وقد رُوي ما يدلُّ على أنَّها نافلةٌ لغيرِ النبيِّ ﷺ وهو ما روَى أبو أُمامة عن النبيِّ ﷺ أنه قالَ :" الْوُضُوءُ يُكَفِّرُ مَا قَبْلَهُ، وَتَصِيرُ الصَّلاَةُ نَافِلَةً " قِيلَ لَهُ : أنْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ ﷺ ؟ قَالَ : نَعَمْ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلاَ مَرَّتَيْنِ وَلاَ ثَلاَثٍ وَأرْبَعٍ وَلاَ خَمْسٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً ﴾ ؛ أي المقامَ الذي تُحْمَدُ عاقبتهُ، وهو المقامُ الذي يُعطيهِ اللهُ النبيَّ ﷺ فيه لواءُ الْحَمْدِ تجتمعُ تحته الملائكةُ والأنبياء، فيكون النبيُّ ﷺ أوَّلَ شافعٍ وأوَّلَ مُشفَّعٍ، قال ابنُ عبَّاس :(وَعَسَى مِنَ اللهِ وَاجِبَةٌ). ويعني بقولهِ ﴿ مَقَاماً مَّحْمُوداً ﴾ أي يُعطِيكَ اللهُ يومَ القيامة مقاماً يحمدُكَ فيه الأوَّلون والآخِرون شرفٌ به على جميعِ الخلائق، والمقامُ المحمود مقامُ الشَّفاعَةُ، ومعنى ﴿ يَبْعَثَكَ ﴾ يُقِيمُكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً ﴾ ؛ أي واجعَلْ لي من عندَكَ قوَّةً أمتنِعُ بها عن مَن عادَانِي. وقِيْلَ : حجَّةً أتقَوَّى بها على إبطالِ سائرِ الأديان الباطلة.
وعن محمَّد بن المنكدر قال :" قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حِينَ دَخَلَ الْغَارَ : أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ " وقال الضحَّاكُ :(مَعْنَاهُ أخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ مِنْ مَكَّةَ آمِناً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأدْخِلْنِي مَكَّةَ مُدْخَلَ صِدْقٍ ظَاهِراً عَلَيْهَا بالْفَتْحِ)، وقال عطيةُ عن ابنِ عبَّاس :(أدْخِلْنِي الْقَبْرَ مُدْخَلَ صِدْقٍ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَأخْرِجْنِي مِنْهُ مُخْرَجَ صِدْقٍ عِنْدَ الْبَعْثِ). وَقِيْلَ : المعنى : أدخلني حيث ما أدخلتَني بالصِّدقِ، وأخرجني منه بالصِّدقِ، أي لا تجعلني مِمَّن يدخلُ بوجهٍ ويخرجُ بوجهٍ آخرَ، فإنَّ ذا الوجهَين لا يكون أمِيناً عند الله.
قال ابنُ مسعودٍ وابن عبَّاس :[ " لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَكَّةَ، وَجَدَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ صَنَماً، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بمخْصَرَةٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ : جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً " فَكَانَ الصَّنَمُ يَنْكَبُّ لِوَجْهِهِ، وَكَانَ أهْلُ مَكَّةَ يَتْبَعُونَهُ وَيَقُولُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ : مَا رَأيْنَا رَجُلاً أسْحَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي نعمةٌ مِن الله تعالى عليهم، وكونُ القرآن شفاءٌ ؛ أي يُزِيلُ عمَى الجهلِ وحيرةَ الشكِّ، فهو شفاءٌ من داءِ الجهلِ. وقال ابنُ عبَّاس :(يُرِيدُ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ)، ويؤيِّدُ هذا ما رُوي أنَّ النبي ﷺ قال :" مَنْ لَمْ يَسْتَشْفِ بالْقُرْآنِ فَلاَ شَفَاهُ اللهُ " قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً ﴾ ؛ أي لا يُزَادُ الكفارُ عند نزولِ القرآن إلا خَسَاراً لأنه لا ينتفِعُ به.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً ﴾ ؛ أي إذا أصابتْهُ شدَّةٌ كان قَنُوطاً من رجاءِ الفَرَجِ من اللهِ، لا يَثِقُ بفضلِ الله تعالى على عبادهِ فيطمعُ في كشفِ تلك البليَّةِ من جهتهِ، وهذه صفةُ الكافرِ.
وعن عبدِالله بن مسعود قال :(كُنْتُ أمْشِي مَعَ النَّبيِّ ﷺ، فَمَرَّ بقَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : اسْأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لاَ تَسْأَلُوهُ، ثُمَّ أتَاهُ نَفَرٌ مِنْهُمْ فَقَالُواْ لَهُ : يَا أبَا الْقَاسِمِ مَا تَقُولُ فِي الرُّوحِ ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ قَامَ فَاشْتَدَّ بيَدِهِ عَلَى جَبْهَتِهِ، فَعَرَفْتُ أنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَحْيٌ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ... ﴾ الآية).
وعن ابن عبَّاس :(أنَّ الْيَهُودَ اجْتَمَعُواْ فَقَالُواْ لِقُرَيْشٍ : سَلُوا مُحَمَّداً فِي ثَلاَثٍ، فَإنْ أخْبَرَكُمْ باثْنَيْنِ وَأمْسَكَ عَنِ الثَّالِثَةِ فَهُوَ نبيٌّ، سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ مَضَوا فِي الزَّمَانِ، وَعَنْ رَجُلٍ بَلَغَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَاسْأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ. فَسَأَلُوهُ عَنْ ذلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي الْفِتْيَةِ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ﴾[الكهف : ٩]... إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، وَأنْزَلَ اللهُ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ﴾[الكهف : ٨٣]... إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، وَأنْزَلَ اللهُ فِي الرُّوحِ ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ... ﴾ الآيَةُ، وإنَّمَا سَأَلَتْهُ الْيَهُودُ عَنِ الرُّوحِ لأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ قِصَّتُهُ وَلاَ تَفْسِيرُهُ، وَلَيْسَ فِيهَا إلاَّ ذِكْرُ اسْمِهِ الرُّوحُ).
وقال سعيدُ بن جبير :(لَمْ يَخْلُقِ اللهُ خَلْقاً أعْظَمَ مِنَ الرُّوحِ غَيْرَ الْعَرْشِ، لَوْ شَاءَ أنْ يَبْلَعَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضَ السَّبْعِ وَمَنْ فِيْهِمَا بلُقْمَةٍ فَعَلَ، صُورَةُ خَلْقِهِ عَلضى صُورَةِ الْمَلاَئِكَةِ، وَصُورَةُ وَجْهِهِ عَلَى وَجْهِ الآدَمِيِّينَ، وَلَوْلاَ أنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلاَئِكَةِ سِتْراً مِنْ نُورٍ لاحْتَرَقَتِ السَّمَوَاتُ مِنْ نُوره).
ويقالُ : أرادَ بالرُّوحِ روحَ الحيوانِ وهو ظاهرُ الكلامِ، وفي روحِ الحيوان خِلافٌ بين العلماءِ، وكلُّ حيوانٍ فهو روحٌ وبَدَنٌ، وروحُ الحيوان جسمٌ رقيق على بُنيَةٍ حيوانيَّة، في كلِّ جُزءٍ منها حياةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ أي من الأمرِ الذي لا يعلمهُ إلا ربي، وإنما لم يُجِبْهُمْ عن ذلك ؛ لأن اليهودَ هم الذين سألوهُ عن الروحِ، وكان في كتابهم أنه إنْ أجابَهم عن الروحِ فليس بنبيٍّ! فلم يُجِبهُم تصديقاً لِمَا في كتابهم، وكانت المصلحةُ في هذا أن لا يُعرِّفَهم الروحَ من جهة النصِّ، بل يكلِّمُهم في تعريفهِ إلى ما في عقولهم، لِمَا في ذلك من الرياضةِ باستخراج الفائدة.
وقال بعضُهم : هو الدمُ! ألا ترَى أنه مَن نَزَفَ دمهُ ماتَ، والْمَيْتُ لا يَفْقُدُ من جسمهِ إلا الدمَ.
وعن رسولِ الله ﷺ :" أنَّهُ خَرَجَ وَهُوَ مَعْصُوبُ الرَّأسِ مِنْ وَجَعٍ، فَصَعَدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمَدَ اللهَ وَأثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ :" يَا أيُّهَا النَّاسُ، مَا هَذِهِ الْكُتُبُ الَّتِي تَكْتُبُونَ ؟ أكِتَابٌ غَيْرُ كِتَاب اللهِ، كُلُّ مَنْ كَتَبَ كِتَاباً غَيْرَ كِتَاب اللهِ يُوشِكُ أنْ يَغْضَبَ اللهُ عَلَيْهِ لِكِتَابهِ، وَلاَ يَدَعُ وَرَقاً وَلاَ قَلْباً إلاَّ أُخِذ مِنْهُ " قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ فَكَيْفَ بالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ :" مَنْ أرَادَ اللهُ بهِ خَيْراً بَقِيَ فِي قَلْبهِ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ".
وعن عبدِالله بن مسعودٍ :(إنَّ أوَّلَ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الأَمَانَةُ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الصَّلاَةَ، وَلَيُصَلِّيَنَّ أَقْوَامٌ ولاَ دِينَ لَهُمْ، وَإنَّ هَذا الْقُرْآنَ لَيُصْبحَنَّ وَمَا فِيكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ) فَقَالَ رَجُلٌ : كَيْفَ يَكُونُ ذلِكَ يَا أبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ وَقَدْ أتْقَنَّاهُ فِي قُلُوبنَا، وَأثْبَتْنَاهُ فِي مَضَاجِعِنَا، نُعَلِّمُهُ أبَاءَنَا وَأبْنَاءَنَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ :(يَسْرِي بهِ فِي لَيْلَةٍ فَيَذْهَبُ مَا فِي الْمَصَاحِفِ وَمَا فِي الْقُلُوب. وقرأ عبدُالله :﴿ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾ ).
وعن عبدِالله قالَ :(أكْثِرُواْ الطَّوَافَ بالْبَيْتِ قَبْلَ أنْ يُرْفَعَ وَتَبْنِي النَّاسُ مَكَانَهُ، وَأكْثِرُواْ مِنْ تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ قَبْلَ أنْ يُرْفَعَ) فَقِيلَ : هَذِهِ الْمَصَاحِفُ تُرْفَعُ، فَكَيْفَ بمَا فِي صُدُور الرِّجَالِ ؟ قَالَ :(يَسْرِي عَلَيْهِ لَيْلاً فَتُصْبحُواَ مِنْهُ فُقَرَاءَ، وَتَنْسَوْنَ قَوْلَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وَتَقَعُونَ فِي قَوْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأشْعَارهِمْ).
وعن عبدِالله بن عَمروٍ قال :(لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَرْتَفِعَ الْقُرْآنُ مِنْ حَيْثُ نَزَلَ بهِ، لَهُ دَويٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ : مَا بَالُكَ ؟ فَيَقُولُ : يَا رَب مِنْكَ خَرَجْتُ وَإلَيْكَ أعُودُ، أُتْلَى وَلاَ يُعْمَلُ بي).
فَجَاءَ إلَيْهِمُ النَّبيُّ ﷺ سَرِيعاً يَظُنُّ أنَّهُ بَدَا لَهُمْ فِي أمْرِهِ شَيْءٌ، فَجَلَسَ إلَيْهِمْ فَقَالُواْ : يَا مُحَمَّدُ وَاللهِ مَا نَعْلَمُ رَجُلاً مِنَ الْعَرَب أدْخَلَ عَلَى قَوْمِهِ مَا أدْخَلْتَ عَلَى قَوْمِكَ، لَقَدَ شَتَمْتَ الآبَاءَ، وَعِبْتَ الدِّينَ، وَسَفَّهْتَ الأَحْلاَمَ، وَشَتَمْتَ الآلِهَةُ، وَفَرَّقْتَ الْجَمَاعَةَ. فَمَا أمْرٌ قَبيحٌ إلاَّ وَقَدْ جِئْتَهُ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، فَإنْ كُنْتَ إنَّمَا جِئْتَ بهَذا الْحَدِيثَ تَطْلُبُ مَالاً، جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أكْثَرَنَا مَالاً، وَإنْ كُنْتَ تَطْلُبُ بهِ الشَّرَفَ فِيْنَا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإنْ كَانَ هَذا الَّذِي بكَ تَابعٌ مِنَ الْجِنِّ، بَدْلْنَا أمْوَالَنَا فِي طَلَب الطِّب لَكَ حَتَّى نُبْرِيَكَ مِنْهُ!
فَقَالَ ﷺ :" مَا بي مَا تَقُولُونَ، مَا جِئْتُكُمْ بهِ لِطَلَب أمْوَالِكُمْ وَلاَ الشَّرَفَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَنِي رَسُولاً وَأنْزَلَ عَلَيَّ كِتَاباً، وَأمَرَنِي أنْ أكُونَ لَكُمْ بَشِيراً وَنَذِيراً، فَبَلَّغْتُكُمْ رسَالَةَ رَبي وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أصْبرُ عَلَى مَا أمَرَ اللهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمِ ".
فَقَالُواْ : يَا مُحَمَّدُ فَإنْ كُنْتَ غَيْرَ قَابلٍ مِنَّا مَا عَرَضْنَا عَلَيْكَ، فَقَدْ عَلِمْتَ أنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أحَدٌ أضْيَقَ بلاَداً وَلاَ أقَلَ مِنَّا، فَاسْأَلْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي بَعَثَكَ إلَيْنَا أنْ يُسَيِّرَ عَنَّا هَذِهِ الْجِبَالَ الَّتِي ضَيَّقَتْ عَلَيْنَا، وَيَبْسُطَ لَنَا بلاَدَنَا وَيُجْرِيَ لَنَا فِيهَا أنْهَاراً كَأَرْضِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَلْيَبْعَثْ لَنَا مَنْ مَضَى مِنْ أبَائِنَا، وَلْيَكُنْ مِمَّنْ يَبْعَثُ لَنَا قُصَيَّ بْنَ كِلاَبٍ فَإنَّهُ كَانَ شَيْخاً صَدُوقاً، فَنَسْأَلُهُمْ عَنْ مَا تَقُولُ : أحَقٌّ هُوَ أمْ بَاطِلٌ ؟ فَإنْ صَنَعْتَ لَنَا مَا سَأَلْنَاكَ وَصَدَّقُوكَ صَدَّقْنَاكَ، وَعَرَفْنَا بذلِكَ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ اللهِ بأَنَّهَ بَعَثَكَ رَسُولاً كَمَا تَقُولُ. فَقَالَ ﷺ :" مَا بهَذا بُعِثْتُ، إنَّمَا جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ بمَا بَعَثَنِي ".
قَالُواْ : وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ هَذاَ فَاسْأَلْ رَبَّكَ يَبْعَثْ مَلَكاً يُصَدِّقُكَ، وَيُعِينُكَ عَمَّا نَرَى بكَ، فَإنَّكَ تَقُومُ فِي الأَسْوَاقِ تَتَلَمَّسُ الْمَعَاشَ. فَقَالَ ﷺ :" مَا أنَا بالَّذِي يَسْأَلُ اللهَ هَذا، وَلَكِنَّ اللهَ بَعَثَنِي بَشِيراً ونَذِيراً ".
قَالُواْ : فَأَسْقِطِ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً، كَمَا زَعَمْتَ أنَّ اللهَ مَا شَاءَ فَعَلَ! فَقَالَ ﷺ :" ذلِكَ إلَى اللهِ، إنْ شَاءَ فَعَلَهُ بكُمْ " فَقَالُواْ : قَدْ أُعْذِرْنَا إلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، أمَا وَاللهِ مَا نَتْرُكُكَ وَمَا فَعَلْتَ بنَا حَتَّى نُهْلِكَكَ أوْ تُهْلِكَنَا. وَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى تَأْتِيَ باللهِ وَالْمِلاَئِكَةِ قَبيلاً.
فَلَمَّا قَالُواْ ذلِكَ قَامَ النَّبيُّ ﷺ، فَقَامَ مَعَهُ عَبْدُاللهِ بْنُ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيُّ، وَهُوَ ابْنُ عَمَّتِهِ عَاتِكَةُ بنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِب، فَقَالَ لَهُ : يَا مُحَمَّدُ عَرَضَ عَلَيْكَ قَوْمُكَ مَا عَرَضُواْ فَلَمْ تَقْبَلْ مِنْهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ أُمُوراً لأَنْفُسِهِمْ ؛ لِيَعْرِفُواْ بهَا مَنْزِلَتَكَ مِنَ اللهِ فَلَمْ تَفْعَلْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ أنْ تُعَجِّلَ لَهُمْ مَا خَوَّفْتَهُمْ بهِ مِنَ الْعَذاب فَلَمْ تَفْعَلْ، فَوَاللهِ لاَ أُؤْمِنُ بكَ أبَداً حَتَّى تَتَّخِذ سُلَّّماً إلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ تَرْقَى فِيْهِ وَأنَا أنْظَرُ حَتَّى تَلِجَ بَابَهَا، أوْ تَأْتِيَ مَعَكَ بنُسْخَةٍ مَنْشُورَةٍ، وَنَفَرٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ يَشْهَدُونَ أنَّكَ نِبيٌّ كَمَا تَقُولُ، وَأيْمِ اللهِ لَمْ فَعَلْتَ ذلِكَ لَظَنَنْتُ أنِّي لاَ أُصَدِّقُكَ.
ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إلَى مَنْزِلهِ حَزِيناً لِمَا نَالَهُ مِنْ سَفَاهَةِ قَوْمِهِ وَتَبَاعُدِهِمْ مِنَ اللهِ، فَقَالَ أبُو جَهْلٍ حِينَ قَامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنَّ مُحَمَّداً قَدْ أتَى إلَى مَا تَرَوْنَ مِنْ عَيْب دِينِنَا وَشَتْمِ آبَائِنَا وَتَسْفِيهِ أحْلاَمِنَا وَتَتْبيب آلِهَتِنَا، إنِّي أُعَاهِدُ اللهَ لأَجْلِسُ لَهُ بحَجَرٍ غَداً قَدْرَ مَا أُطِيقُ حَمْلَهُ، فَإذا سَجَدَ فِي صَلاَتِهِ رَضَخْتُ بهِ رَأسَهُ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً ﴾ "
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ﴾ ؛ قال قتادةُ والضحَّاك :(عَيَاناً)، والمعنى : تأتِي بهم حتى نرَاهُم مقابلةً ونُشاهِدُهم، ويشهَدُون على صدقِ دعوَاكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي ﴾ ؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّد : تَنْزِيهاً لرَبي عن المقابَلةِ التي وصَفتُمْ، فإنَّ العارفَ باللهِ يعلمُ أنه لا يجوزُ المقابَلةُ على اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً ﴾ ؛ أي ما كنتُ إلا بَشراً رَسُولاً كسائرِ الرُّسل، فلا أقدرُ على الإتيانِ بالآيات المقترَحة، كما لم يقدِرْ عليها مَن قبلِي من الأنبياءِ.
قرأ ابنُ مسعودٍ (أوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ ذهَبٍ) قال مجاهدُ :(كُنْتُ مَا أدْرِي مَا الزُّخْرُفُ حَتَّى رَأْيْتُهُ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي ﴾، قرأ أهلُ مكَّة والشام :(قَالَ سُبْحَانَ رَبي) يعني مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم.
وَقِيْلَ : يُحشَرون في أول الحشرِ عُمياً وبُكماً وصُمّاً على هذه الصفةِ، ثم تزولُ هذه الصفات عنهم فيَرَونَ ويتكلَّمون ويسمعون كما قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ ﴾[الكهف : ٥٣] وقال﴿ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ﴾[الفرقان : ١٢] وقال﴿ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ﴾[الفرقان : ١٣]. ويقالُ : إنه لَمْ يُرِدْ بالحشرِ في هذه الآية الحشرَ عن القبرِ، وإنما أرادَ به الحشرَ عن موضعِ الْمُحاسَبَة، فإنَّهم يُسحَبُونَ عن ذلك الموضعِ على وجُوهِهم على هذه الصِّفاتِ. وعن أنسٍ :" أنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافُِ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ :" إنَّ الَّذِي أمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُمْشِيهِ عَلَى وَجْهِهِ ".
وعن أبي هريرةَ قال : قالَ رسولُ اللهِ ﷺ :" " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أصْنَافٍ : صِنْفٌ مُشَاةٌ، وَصِنْفٌ رُكْبَانٌ، وَصِنْفٌ عَلَى وُجُوهِهِمْ " قِيْلَ : يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ ؟ قَالَ :" إنَّ الَّذِي أمْشَاهُمْ عَلَى أرْجُلِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ، يَتَّقُونَ بوُجُوهِهِمْ كُلَّ حَدَبٍ وَشَوْكٍ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ ؛ أي مَصيرُهم إليها. وقولهُ تعالى :﴿ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ﴾ ؛ أي كلَّما سَكَنَ لَهبُها من جانبٍ زدنَاها اشْتِعَالاً من جانبٍ آخر، يقالُ للنار اذا سَكَنَ لَهبُها : خَمَدَتْ، فَإذا أُطْفِئَتْ ولَمْ يبقَ فيها شيءٌ من النارِ قِيْلَ : هَمَدَتْ، وقال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ خَبَتْ ﴾ أيْ سَكَنَتْ)، وقال مجاهدُ :(طُفِئَتْ)، وقال قتادةُ :(لاَنَتْ وَضَعُفَتْ)، وقولهُ تعالى :﴿ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ﴾ أي وَقُوداً.
ثم بَيَّنَ اللهُ تعالى لماذا يزدَادُون سَعيراً، فقال تعالى :﴿ ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا ﴾ ؛ أي ذلك العذابُ جزاءُ كُفرِهم بدلاَئِلنا، وإنكارِهم للبعثِ، وهو قولُهم :﴿ وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾ ؛ أي جعلَ لإعادَتِهم وقتاً لا شكَّ فيه أنه كائنٌ، ﴿ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً ﴾ ؛ جُحوداً مع وضُوحِ الدلالة والحجَجِ.
قال محمَّد بن كعبٍ في الطَّمسِ :(كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ مَعَ أهْلِهِ فِي فِرَاشِهِ، وَإذا قَدْ صَارَا حَجَرَيْنَ، وَأنَّ الْمَرْأةَ الْقَائِمَةَ تَخْبزُ وَقَدْ صَارَتْ حَجَراً، وَأنَّ الْمَرْأةَ فِي الْحَمَّامِ وَأنَّهَا لَحَجَرٌ، وَكَانَتْ تَنْقَلِبُ الْفَوَاكِهُ وَالْفُلُوسُ وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ أحْجَاراً).
ورُوي :" أنَّ يَهُودِيّاً قَالَ لِصَاحِبهِ : تَعَالَ حَتَّى نسْأَلَ هَذا النَّبيَّ، فَأَتَيَاهُ فَسَأَلاَهُ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ قَالَ :" لاَ تُشْرِكُواْ باللهِ شَيْئاً، وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَسْرِقُواْ، وَلاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلاَ تَسْحَرُواْ، وَلاَ تَمْشُواْ ببَرِيءٍ إلَى سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلاَ تَقْذِفُواْ الْمُحْصَنَةَ، وَلاَ تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً يَا يَهُودُ أنْ لاَ تَعْدَواْ فِي السَّبْتِ " فَقَبَّلُواْ يَدَهُ وَقَالُواْ : نَشْهَدُ أنَّكَ نَبيٌّ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ ﴾ ؛ الخطابُ للنبيِّ ﷺ والمرادُ به غيرهُ ؛ لأنه ﷺ كان يقعُ له العِلمُ من عندِ الله، فكان لا يحتاجُ في معرفةِ ذلك إلى الرُّجوعِ إلى أهلِ الكتاب، فكأنَّهُ تعالى قال : فاسأل أيها السامعُ وأيها الشَّاكُّ بنَي إسرائيلَ إذ جاءَهم موسى بالبيِّنات، قال ابنُ عباس :(فَاسْأَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ، يَعْنِي الْمُؤمِنِينَ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّظِيرِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يامُوسَى مَسْحُوراً ﴾ ؛ أي إنِّي لأَظُنُّكَ يا موسى قد سُحِرتَ فلذلك تدَّعي النبوةَ، وَقِيْلَ : هذا مفعولٌ بمعنى فاعلٍ كأنه قالَ : إنِّي لأَظُنكَ ساحراً، وَقِيْلَ : المسحورُ المخدوع.
وقرأ الكسائيُّ (لَقَدْ عَلِمْتُ) بضمِّ التاء، وهي قراءةُ عليٍّ (كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ) وقالَ :(وَاللهَ مَا عَلِمَ عَدُوُّ اللهِ، وِلَكِنْ مُوسَى هُوَ الَّذِي عَلِمَ) فبلغَ ذلك ابنَ عبَّاس فقالَ :( ﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ ﴾ تَصْدِيقاً لِقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ﴾[النمل : ١٤]). وقراءةُ النصب أصحُّ وأشهر، وليست قراءةُ الضمِّ مشهورةً عن عليٍّ رضي الله عنه ولا ثابتة، وإنما روَاها عنه رجلٌ مجهول لا يُعْرَفُ، ولا تَمسَّكَ بها أحدٌ من القرَّاء غيرَ الكسائيِّ.
وقولهُ تعالى :﴿ مَثْبُوراً ﴾ قال ابنُ عبَّاس :(مَغْلُوباً)، وقال مجاهدُ :(هَالِكاً)، وَقِيْلَ : مُخَبَّلاً لا عقلَ لكَ، وَقِيْلَ : بَعِيداً من الخيراتِ، وَقِيْلَ : سِلاَخاً في القطيفةِ، قال مجاهدُ :(دَخَلَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَعَلَيْهِ قَطِيفَةٌ، فَأَلْقَى عَصَاهُ فَرَأى فِرْعَوْنَ ثُعْبَاناً فَفَزِعَ وَأحْدَثَ فِي الْقَطِيفَةِ).
وروَى أبو سعيدٍ الجوهريُّ قال :(كُنْتُ قَائِماً عَلَى رَأسِ الْمَأْمُونِ وَهُوَ يُنَاظِرُ رَجُلاً وَهُوَ يَقُولُ : يَا مَثْبُورُ، ثُمَّ أقْبَلَ إلَيَّ فَقَالَ : مَا مَعْنَى (مَثْبُوراً) ؟ قُلْتُ : لاَ أدْرِي، فَقَالَ : حَدَّثَنِي الرَّشِيدُ قَالَ : حَدَّثَنِي الْمَهْدِي قَالَ : كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ أمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُور، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لِرَجُلٍ : يَا مَثْبُورُ، فَقُلْتُ : يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا مَعْنَى يَا مَثْبُورُ ؟ قَالَ مَيْمُونُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (يَا فِرْعَوْنَ مَثْبُوراً) مَا مَثْبُوراً ؟ قَالَ : نَاقِصُ الْعَقْلِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً ﴾ ؛ يعني يومَ القيامةِ جِئنَا بكم جَميعاً ؛ أي أتَينا بكم مِن كلِّ قبيلةٍ، واللَّفِيفُ : الجماعاتُ من قبائلَ شتَّى، وَقِيْلَ : جئنا بكم مُختَلِطِينَ لا تتعارَفُون، والمعنى : جِئنا بكم من قُبورِكم إلى الْمَحْشَرِ أخلاطاً، يعني جميعَ الخلقِ، المسلمَ والكافرَ والبَرَّ والفاجرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ ﴾ ؛ أي مِن قبلِ نُزولِ القرآن، والمرادُ بهم مُؤمِنوا أهلِ الكتاب، ﴿ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ ؛ القرآنُ، ﴿ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ ﴾ ؛ أي يقَعُون على وجُوهِهم ﴿ سُجَّداً ﴾ ؛ لله، والمرادُ بالأذقانِ الوجوهَ، كذا قال ابنُ عبّاس.
وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ البكاءَ في الصَّلاةِ من خوفِ الله لا يقطعُ الصلاةَ ؛ لأن اللهَ مدَحَهم عليه. " وعن رسولِ الله ﷺ " أنَّهُ كَانَ يُصَلِّي، فَيُسْمَعُ لِصَدْرِهِ أزيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ ". وعن عبدِالله بن شدَّاد قالَ :(كُنْتُ أُصَلّي خَلْفَ عُمَرَ رضي الله عنه صَلاَةَ الصُّبْحِ، وَكَانَ يَقْرَأُ سُورَةَ يُوسُفَ حَتَّى إذا بَلَغَ﴿ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ﴾[يوسف : ٨٦] سَمِعْتُ نَشِيجَهُ، وَأَنَا فِي آخِرِ الصُّفُوفِ).
ومعناها : قل يا مُحَمَّدُ : أُدعوا اللهَ يا معشرَ المؤمنين، أو ادعُو الرَّحْمَنَ، إنْ شِئتُم فقُولُوا : يا رَحْمَنُ، وإنْ شِئتُم فقولوا : يَا اللهُ يا رَحْمَنُ ؛ ﴿ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ ﴾ ؛ أيُّ أسماءِ الله تدعوهُ بها، ﴿ فَلَهُ الأَسْمَآءَ الْحُسْنَى ﴾ ؛ فأسْماؤهُ كلُّها حَسنةٌ فادعوهُ بصفاتهِ. وقوله تعالى :﴿ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ ﴾ قال بعضُهم :(مَا) في هذا صِلَةٌ، ومعناها التأكيدُ، تقديرهُ : أيّاً تدعون، ومِثلهُ : عمَّا قليلٍ، وخُذ مَا هُنالِكَ، و﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾[أل عمران : ١٥٩].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(نَزَلَتْ بمَكَّةَ، كَانَ النَّبيُّ ﷺ إذا صَلَّى بأَصْحَابهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بالْقُرْآنِ، فَإذا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بهِ، وَلَعِبُوا وَصَفَّقُوا وَصَفَّرُواْ وَلَغَطُوْا، كُلُّ ذلِكَ لِيُغْلِطُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ، وَكَانُوا بهِ يُؤْذُونَهُ، وَإذا خَافَتَ بالْقِرَاءَةِ لَمْ يَسْمَعْهُ أصْحَابُهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). أي لا تجهَرْ بقِراءَتِكَ في الصَّلاةِ فيسمَعُها المشركون فيُؤذونَكَ، فِي الصَّلاَةِ كُلِّهَا وَلاَ تُخَافِتْ بهَا فِي الصَّلاَةِ كُلِّهَا، وَلَكِنِ اجْهَرْ بهَا فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ، وَخَافِتْ بهَا فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ).
" وَسَأَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أبَا بَكْرٍ عَنْ قِراءَتِهِ باللَّيْلِ، فَقَالَ :(أُخَافِتُ بهَا كَيْ لاَ أُؤْذِي جَاري، أُنَاجِي رَبي وَقَدْ عَلِمَ بحَاجَتِي، فَقَالَ ﷺ " أحْسَنْتَ " وَسَأَلَ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْ قِرَاءَتِهِ باللَّيْلِ فَقَالَ : أرْفَعُ صَوْتِي أُوْقِظُ الْوَسْنَانَ وَأطْرُدُ الشَّيْطَانَ، فَقَالَ :" أحْسَنْتَ " فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ لأبي بكر :" زدْ فِي صَوْتِكَ " وقال لعُمر :" انْقُصْ مِنْ صَوْتِكَ " ﴿ وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ﴾. وعن ابن عباس أن معنى الآية :(لاَ تُصَلِّ مُرَاءَاةً لِلنَّاسِ وَلاَ تَدَعَهَا مَخَافَةً لِلنَّاسِ). " وسئل رسول الله ﷺ عن أحسنِ الناس قراءةً ؟ فقال :" الَّذِي إذا سَمِعْتَ قِرَاءَتَهُ رَأيْتَ أنَّهُ يَخْشَى اللهَ تَعَالَى ".
وقوله تعالى :﴿ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ﴾ ؛ أي عظِّمهُ عظمّةً تامة عن أن يكون له شريك أو ولي وصِفْهُ بأنه أكبر من كل شيء، وأنه القادر الذي لا يُعجِزهُ شيءٌ، العالِمُ الذي لا يخفى عليه شيء، الغنيُّ عن كل شيء. معتقداً لذلك بقلبك، عاملاً على أمره فيما أمركَ. وعن رسول الله ﷺ " أَنَّهُ كَانَ إذا أفْصَحَ الْوَلَدُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَّمَهُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً... ﴾ الآية ".
وروي أنَّ " رَجُلاً جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي كَثِيرُ الدَّينِ كَثِيرُ الْهَمِّ، فَقَالَ :" إقْرَأ آخِرَ سُورَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ ﴿ قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـانَ... ﴾ [الإسراء : ١١٠] إلَى آخِرِ السُّورَةِ، ثُمَّ قُلْ : تَوَكَّلْتُ عَلَى الَّذِي لاَ يَمُوتُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ".
وعن ابن عباس أنه قال :((مَنْ قَرَأ سُورَةَ بَنِي إسْرَائِيلَ فِي سَفَرٍ أوْ حَضَرٍ إيْمَاناً وَاحْتِسَاباً ضَرَبَ اللهُ عَلَيْهِ سُوراً مِنْ حَدِيدٍ مِنَ الْغَرَقِ وَالْحَرْقِ وَالْبَرْقِ)). وعن عبدِالحميد أنه قال :((مَنْ قَرَأ آخِرِ بَنِي إسْرَائِيلَ، كَتَبَ اللهُ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضِينَ السَّبْعِ، وَالْبحَارِ وَالْجِبَالِ)).