تفسير سورة الإسراء

جهود القرافي في التفسير
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب جهود القرافي في التفسير .
لمؤلفه القرافي . المتوفي سنة 684 هـ

٧٨٠- أي : فعليها. ( الذخيرة : ١١/٢٩٤ ).
٧٨١- يدل على اشتراط العلم في التكليف قوله تعالى :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾. نفى التعذيب حتى يحصل العلم بالتبليغ للسامع. ( شرح التنقيح : ٧٩ ).
٧٨٢- فائدة : الاستدلال بقوله تعالى :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ لا يتم إلا بمقدمتين :
فإنه لا يلزم من نفي التعذيب نفي التكليف لاحتمال أن يكون المكلف أطاع فلا تعذيب حينئذ، مع أن التكليف واقع ؛ أو يكون عصى غير أن العذاب قد تأخر إلى بعد البعثة، كما تأخر عن بعد البعثة إلى يوم القيامة. فلابد من مقدمتين وهم قولنا : " لو كلفوا قبل البعثة لتركوا عملا بالغالب، فإن الغالب على العالم العصيان لقوله تعالى :﴿ وما وجدنا لأكثرهم من عهد ﴾١، وقوله تعالى :﴿ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ﴾٢. فهذه هي إحدى المقدمتين.
الثانية : أنهم لو تركوا لعوقبوا عملا بالأصل، لأن الأصل ترتيب المسبب على سببه. والعصيان سبب العقوبة، فيترتب عليه، فتنتظم ملازمتان هكذا : " لو كلفوا لتركوا، ولو تركوا لعذبوا ". فالعذاب لازم التكليف، ولازم اللازم لازم، فانتفاء اللازم الأخير يقتضي انتفاء الملزوم الأول، كما أن انتفاء الشرط يقتضي انتفاء المشروط. فلذلك يلزم من انتفاء العذاب قبل البعثة انتفاء التكليف قبل البعثة، وهو معنى قولي : " نفى التعذيب قبل البعثة فينتفي ملزومه " ٣. ( نفسه : ٩٤ ).
١ - سورة الأعراف: ١٠٢..
٢ - سورة الأنعام: ١١٦..
٣ - رد الإمام القرافي بهذا التفسير على المعتزلة القائلين بأن حسن الشيء وقبحه "هو عقلي لا يفتقر إلى ورود الشرائع، بل العقل يستقل بثبوته قبل الرسل، وإنما الشرائع مؤكدة لحكم العقل فيما علمه ضرورة. (حيث قال): وعندنا الشرائع الواردة منشئة للجميع، فعلى رأينا لا يثبت حكم قبل الشرع خلافا للمعتزلة في قولهم: إن كل ما يثبت بعد الشرع فهو ثابت قبله..." ن: الذخيرة: ١/٧٢. أو: شرح التنقيح: ٨٨..
٧٨٣- قوله تعالى :﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ﴾ أي : شرع لكم ذلك وأمركم به. ( شرح التنقيح : ١٨٩ )
* قوله تعالى :﴿ فلا تقل لهما أف ﴾ :
٧٨٤- إنه يدل على تحريم ما فوق التأفيف من الشتم والضرب وأنواع الأذى. وهذه الأنواع غير متناهية الأفراد، وقد شملها حكم التحريم بدلالة الالتزام. ( العقد : ١/ ٣٧٨ ).
٧٨٥- هو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى. ( الذخيرة : ٣/٣٠٨ ).
٧٨٦- فهمنا أن علة هذا النهي هو العقوق، ونحن نعلم أن العقوق بالضرب اشد فنأخذ من تحريم التأفيف تحريم الضرب بطريق الأولى، فصار تحريم الضرب بينا بسبب التعليل١. ( شرح التنقيح : ٢٧٨ ).
١ - قال القرافي: "مفهوم الموافقة نوعان: أحدهما: إثباته في الأكثر نحو قوله تعالى: ﴿فلا تقل لهما أف﴾ فإنه يقتضي تحريم الضرب بطريق الأولى. وثانيهما: إثباته في الأقل، نحو قوله تعالى: ﴿ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار لا يرده إليك﴾ (آل عمران: ٧٥) فإنه يقتضي ثبوت الأمانة في الدرهم بطريق الأولى " ن: الذخيرة: ١/٦٤..
٧٨٧- قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله : إنه يتعين أن الوعد بالغفران هاهنا مختص بمن تقدم ذكره من المخاطبين في قوله تعالى :﴿ إن تكونوا ﴾ ولا يعم هذا الحكم جميع الخلائق ولا جميع الأمم الماضية بسبب أن التعاليق اللغوية أسباب والجزاءات المترتبة عليها مسببات، والمسبب ناشئ عن سببه، وصلاحنا نحن لا يكون سببا لمغفرة ذنوب الأمم السالفة من عادة الله تعالى في خلقه، وإن صلاح كل أمة يختص بها ولا يعد إصلاح أحد لغيره إلا أن يكون له في ذلك سبب أو معونة، لقوله تعالى :﴿ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ﴾١، وقال عليه السلام : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " ٢. ( العقد : ٢/ ٤٦٢ ).
٧٨٨- قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : " الشرط المتقدم هو صلاح المخاطبين الحاضرين، وصلاحهم لا يكون سببا للمغفرة لمن تقدم من الأمم، أو يأتي بعده، فإن قواعد الشرع تأبى ذلك. وإن سعي كل أحد لا يتعداه لغفران غيره إلا أن يكون له فيه تسبب. وهاهنا لا تسبب، فلا يتعدى، فيتعين أن يكون المراد : " فإنه كان للأوابين منكم غفورا " فإن شرط الجزاء لا يترتب جزاؤه على غيره. وهذه قاعدة لغوية وشرعية. أما إذا لم يكن شرطا أمكن جريان الخلاف ". ( شرح التنقيح : ٢٢٢ ).
١ - سورة النجم: ٣٩..
٢ - خرجه مسلم في صحيحه: كتاب الوصية، باب: ما يلحق الإنسان من الثواب. كما خرجه أبو داود والنسائي في سننيهما: كتاب الوصايا، باب: ما جاء في الصدقة على الميت..
٧٨٩- إن القتل الغالب عليه أن لا يقع في الأولاد إلا لتوقع ضرر كالإملاق الذي هو الفقر أو نحو ذلك من الفضيحة فلا تكون له دلالة على جواز القتل عند عدم خوف الإملاق. ( الفروق : ٣/١٣٨ ).
٧٩٠- مفهومه : " أنكم إذا لم تخشوا الإملاق لا يحرم عليكم القتل "، وهو مفهوم ملغى إجماعا بسبب أنه قد غلب في العادة أن الإنسان لا يقتل ولده إلا لضرورة وأمر قاهر لأن حنة الأبوة مانعة من قتله. فتقييد القتل بخشية الإملاق تقييد له بوصف هو كان الغالب١ عليهم في القتل في ذلك الوقت، فكانوا لا يقتلون إلا خوف الفقر أو الفضيحة في البنات وهو الوأد الذي صرح به في الكتاب العزيز. ( نفسه : ٢/٤٠ ).
٧٩١- قاعدة أصولية : " اللفظ إذا خرج مخرج الغالب لا يكون له مفهوم كقوله تعالى :﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ﴾ ". ( الذخيرة : ١/٢٩١ ).
١ - قال الإمام القرافي: "إن القاعدة المنصوص عليها في أصول الفقه أن الوصف إذا خرج مخرج الغالب لا يكون حجة إجماعا. وضابط ذلك أن يكون الوصف المذكور غالبا على وقوع ذلك الحكم المذكور أو على تلك الحقيقة المحكوم عليها" ن: الفروق ٣/١٣٧-١٣٨. وتنقيح الفصول "مع الذخيرة": ١/١٠٢..
٧٩٢- هذا عام في كل نفس، والقضاء فيه بالسلب على كل فرد من أفراد النفوس، فإذا قال بعد ذلك : " لا تقتلوا النفس القرشية التي حرم الله بالحق " خرج من النهي من ليس بقرشي، ولم يحصل مفهوم العموم الأول الذي في ضمن المقيد البتة، بل حصل التنافي بين النصين والتنافر، وتعذر الجمع بين مفهوم المطلق والمقيد. ( العقد المنظوم : ٢/٤٨٦ ).
* قوله تعالى :﴿ ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ﴾ :
٧٩٣- وكل الله تعالى بيان هذا السلطان للنبي صلى الله عليه وسلم فبينه بالقسامة١. ( الذخيرة : ١٢/٢٨٨ ).
١ - يعرف القرافي القسامة بقوله: "هي مصدر أقسم، معناه: حلف حلفا، والمراد هاهنا: الأيمان المذكورة في دعوى القتل، وقيل: هي الأيمان إذا كثرت على وجه المبالغة، وأهل اللغة يقولون: إنها القوم الحالفون، سموا بالمصدر، نحو: رجل عدل ورضا". ن، الذخيرة: ١٢/٢٨٧- ٢٨٨. وقد أورد القرافي الحديث الذي بين فيه عليه السلام السلطان، القسامة، وهو: "أن عبد الله بن إسماعيل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم، فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن إسماعيل قد قتل وطرح في فقير بئر، فأتى يهود فقال: أنتم والله قتلتموه، قالوا: والله ما قتلناه...- إلى أن قال رسول عليه السلام لأولياء عبد الله بن إسماعيل-: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟... الحديث". ن: الذخيرة ١٢/٢٨٨. وقد خرج هذا الحديث مالك في الموطإ، كتاب القسامة، باب تبرئة أهل الدم من القسامة. عن سهل بن أبي خثمعة. كما خرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأحكام، ومسلم في صحيحه: كتاب القسامة..
٧٩٤- نهى الله تعالى نبيه صلى عليه السلام عن إتباع غير المعلوم، فلا يجوز الشروع في شيء حتى يعلم فيكون طلب العلم واجبا في كل حالة. ( الفروق : ٢/١٤٩ ).
٧٩٥- لا يجوز التقليد في أصول الدين لمجتهد لا للعموم عند الجمهور لقوله تعالى :﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم ﴾ ولعظم الخطإ والخطر في جانب الربوبية، بخلاف الفروع، ولأنه ربما كفر في الأول ويثاب في الثاني جزما. ( تنقيح الفصول، مع الذخيرة : ١/١٤٨. وشرح التنقيح : ٤٤٣-٤٤٤ ).
٧٩٦- الأصل ألا يعتبر في الشرع إلا العلم لقوله تعالى :﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم ﴾ لعدم الخطإ فيه قطعا. ( الذخيرة : ١/٢١٨ ).
٧٩٧- إن الأصل في التكاليف العلم لقوله تعالى :﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم ﴾. ( نفسه : ٢/١٢٤ و٢/٢٩٤ ).
٧٩٨- في الآية من الأسئلة : كيف يكون تكذيب الأولين مانعا لله تعالى، والله تعالى لا يمنعه من التصرف في ملكه مانع ؟ وهل هذا المانع عقلي أو عادي ؟ وهل هذا الاستثناء متصل أم لا ؟ وما موضع " أن " الأولى و " أن " الثانية ؟ وهل إعرابها واحد أو مختلف ؟.
والجواب : إن هذه الآية من المشكلات، وتحتاج إلى تحرير من علم البيان وأصول الديانات، وقد احتج بها الملحدة وأرباب الشبهات على أن الله تعالى لم يبعث محمدا عليه السلام بشيء من المعجزات، لذكره تعالى المانع من إرسال الآيات.
وأصل المعنى في الآية : أن الله تعالى أجرى عادة في خلقه أن متى اقترح قوم آية وجاءت، ولا يؤمن أولئك المقترحون عجلوا بالعذاب، وجرى بذلك قضاؤه وقدره وسابق علمه، وتعلق به كلامه النفساني وجرى قدره أيضا سبحانه وتعالى أن هذه الأمة لا تعامل بهذه المعاملة ببركة نبيها ولطفه، ونعمته تعالى على نبيه وعليها، وأنه تعالى قدر أن يخرج من هؤلاء الكفار من أصلابهم المؤمنون، والعلماء، والشهداء، والصديقون، والأولياء إلى قيام الساعة. فيكون تقدير الآية من جهة علم البيان : " وما منعنا أن نرسل بالآيات المقترحات إلا كراهة سنة أن كذب بها الأولون ". فيبقى لفظ الآية على صورته ووضعه، ولا يتغير فيه شيء، وحذف مضافين لا غرو فيهما، فقد يحذف أكثر من كما في قوله تعالى :﴿ فقبضت قبضة من أثر الرسول ﴾١ قال أرباب علم البيان : " أصله : فقبضت قبضة من أثر تراب حافر فرس الرسول ".
وكراهة الله تعالى هي متعلق إرادته بضد المكروه في مثل هذا السياق.
وقد يكون بغير هذا المعنى، كقوله تعالى :﴿ كره الله انبعاثهم ﴾٢. أي : أراد إقامتهم ". وكذلك فسره العلماء.
فكراهة الله تعالى لسنة الأولين : إرادة ضدها، وهو الاهمال، لأنه ضد التعجيل.
وهذا المانع عقلي، لأن خلاف ما تعلقت به الإرادة أو العلم أو الخبر محال عقلا. وليس في ذلك وصمة ولا خلل في كمال الربوبية ونفوذ التصرف، فإن المنع جاء من التصرف وتعليق الإرادة بالضد، فلو جاء بغير التصرف فمنع التصرف ورد السؤال وأشكل، وليس كذلك، بل ذلك بمشيئة الله تعالى وقضاه وقدره، فلا خلل حينئذ.
والمانع حينئذ ليس تكذيب الأولين، وإنما المانع المضاف المحذوف، ولا ينتظم الكلام إلا به، وهو المراد.
وكيف يتصور عاقل أن تكذيبا مضى أهله، ولم يبق له أثر يمنع في الوقت الحاضر من فعل أقل الفاعلين والمتصرفين ؟ فكيف برب العالمين وأقدر القادرين ؟.
ويكن هذا الاستثناء متصلا، لأن المتقدمة سلبت جميع الموانع بالنفي.
وتقدير الكلام : " ما منعنا مانع من إرسال الآيات المقترحات إلا كراهة سنة أن كذب بها الأولون " وهذا مانع من جملة الموانع، فيكون الاستثناء متصلا، ولا يكون للملحدة في هذه الآية شبهة. فإن الآيات المنفية في هذه الآية إنما هي المقترحات، وأما غير المقترحات فلم تنف، بل صرح القرآن بوجودها في غير موضع من القرآن، كقوله تعالى :﴿ وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ﴾٣.
وأخبر الله تعالى أن جملة القرآن آيات بقوله تعالى :﴿ بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ﴾٤... إلى غير ذلك من الألفاظ الدالة على الإتيان بالمعجزات والآيات البينات.
فإن قلت : قد ورد في الأخبار أنهم اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر ومجيء الشجر، فلم تنتف الآيات المقترحات كلها.
قلت : " المراد المقترح الملجئ للإيمان في مجرى العادة، ولا تبقى معه شبهة كناقة صالح وخروجها من الحجر، وقول قريش : " أزل عنا الجبال وتبقى مواضعها أرضا نزرعها " و " اجعل لنا الصفا ذهبا ". فإنها أمور تدوم ويحصل بها من الإلجاء ما لا يحصل من مكث المعجزة الساعة الواحدة، والزمن الذي لا يدوم ".
فإن قلت : لم قدرت مضافين ؟ ولم لا اكتفيت بواحدة وهو " سنة الأولين " أو كراهة أن كذب بها الأولون ؟
قلت : " يتعين المضافان بسبب أن الكراهة مع التكذيب فقط تقتضي أن الأولين آمنوا، فإن الله تعالى إذا كره تكذيبهم فقد أراد إيمانهم، ولو أراد إيمانهم لآمنوا، لكنهم لم يؤمنوا، فلا يكون الله تعالى أراد إيمانهم.
ولو قدرنا " سنة أن كذب بها الأولون " فقط كان ذلك فعلا قد مضى، وانقضى، وهو عقوباتهم وتعجيلها لهم، وذلك لا يصلح للمنع فيتعين أن يكون التقدير : " كراهة سنة أن كذب الأولون ".
وأما الأولى فموضعها نصب " يمنعنا " وتقديره : " وما منعنا إرسال الآيات " وأن الثانية موضعها رفع، لأنه الفاعل ب : " منعنا " وكلاهما مع ما بعده من الفعل بتأويل المصدر، لكن أحد المصدرين في موضع نصب والآخر في موضع رفع. ( الاستثناء : ٣٣٥ إلى ٣٣٨ ).
٧٩٩- قوله تعالى :﴿ وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ﴾ المراد بالآيات هاهنا، قال المفسرون : الآيات التي تقع في الوجود على طول الأيام مثل : الخسف والكسوف والخسوف والريح العاصفة والزلزلة، ونحو ذلك، فإن الله تعالى يبعثها في الوجود ليخاف العباد ؛ فإنها علامات على قيام الساعة وما وعدوا به من خراب العالم فيخافون المآل وسوء الحال، فهو استثناء من الأسباب، أي : " لم يقع إرسال إلا لهذا السبب دون غيره " وهو استثناء متصل. ( الاستغناء : ٥٠٤ ).
١ - سورة طه: ٩٦..
٢ - سورة التوبة: ٤٦..
٣ - سورة الأنعام: ٥..
٤ - سورة العنكبوت: ٤٩..
٨٠٠- قال صاحب القبس : " تقول العرب : رأيت رؤية : إذا عاينت ببصرك. ورأيت رأيا : إذا اعتقدت بقلبك. ورأيت رؤيا- بالقصر- إذا عاينت في منامك. وقد تستعمل في اليقظة " ١. قلت : قال الله سبحانه وتعالى :﴿ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ﴾. والجمهور على أنها في اليقظة٢. ( الفروق : ٤/٢٤١ ).
٨٠١- المراد هاهنا بالرؤيا رؤية الإسراء. واختلف العلماء فيها، فقيل : هي رؤيا عين ويقظة وعليه الجمهور. وقالت عائشة رضي الله عنها : " هي رؤيا منام " ٣.
وظاهر الآية يعضد الجمهور٤، لأنها وصفت بأنها فتنة، والمنام لا فتنة فيه، فلو قال الرسول عليه السلام : " رأيت في المنام أني صعدت إلى السماء " لما صعب ذلك على نفوس الناس، فإن لا أحد يتوقع له مثل ذلك في منامه. وإنما يصح وصفها بالفتنة إلا إذا كانت رؤيا يقظة.
والفتنة هاهنا : الاختيار، من قولك : " فتنت الذهب في النار " : إذا اختبرته.
والأخبار بالإسراء وقع به اختبار ثابت بالإيمان من ضعيف الإيمان، وتبين به ما في النفوس، فمن مصدق ومن مستبعد٥ فهلك من هلك عن بينة، وحيي من حيي عن بينة، فهذا هو الفتنة.
فإن قلت : إن الله تعالى جعل هذه الرؤيا التي هي الإسراء لأجل أمور، أحدها : الافتتان، ومع ذلك تشريف للرسول صلى الله عليه وسلم بأنواع المواهب لا يحصى عددها، وفرض الصلاة، وغير ذلك من الأسباب، فكيف يصح الحصر في أنها لم تجعل إلا لهذا الغرض ؟ بل إذا قيس هذا بالنسبة إلى ما تقدم من المقاصد كان أضعف وأقل منها، فكيف يقع الحصر فيه ؟
قلت : هذا حصر بحسب بعض الاعتبارات، أي باعتبار الملتبس أمرهم من الناس، فيتبين حالهم، أي أثر الجعل في هذه الطائفة : اختبارهم، وإن كان الجعل أمور عظيمة لكن ليست هي باعتبار هذه الطائفة فالحصر في الآية مقيد لا مطلق. ( الاستغناء : ٥٠٥ ).
١ - القبس: ٣/١١٣٥ بتصرف طفيف..
٢ - انظر مختلف روايات حادثة الإسراء بطولها في تفسير ابن كثير: ٣/٦ إلى ٤٠. وهي روايات منقولة عن صحيحي البخاري ومسلم، وسنن أبي داود والنسائي والبيهقي ومسند أحمد بن حنبل، وغيرها من كتب الحديث..
٣ - قال ابن كثير: "حدثني بعض آل أبي بكر عن عائشة كانت تقول: "ما فقد جسد رسول الله عليه السلام ولكن أسري بروحه". قال ابن إسحاق: فلم ينكر ذلك من قولها" تفسير القرآن العظيم: ٣/٤٠..
٤ - يقول ابن حجر: "إن الإسراء والمعراج وقعا في ليلة واحدة في اليقظة بجسده وروحه عليه السلام وإلى هذا ذهب جمهور من علماء الحديث والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ولا ينبغي العدول عن ذلك؛ إذ ليس في العقل ما يحيله حتى يحتاج إلى تأويل" ن: فتح الباري على صحيح البخاري: ٧/١٣٦-١٣٧.
ويقول الإمام النووي: "والحق الذي عليه أكثر الناس ومعظم السلف وعامة المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين أنه أسري بجسده عليه السلام" النووي على شرح مسلم: ٢/٣٩٠..

٥ - روى البيهقي بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما أسري برسول عليه السلام إلى المسجد الأقصى، أصبح يحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر فقالوا: هل لك في صاحبك؟ (فقاموا يشككونه في صدق إسراء الرسول) عليه السلام ثم قال: نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك: أصدقه في خبر السماء". ن-تفسير ابن كثير: ٣/٣٧.
وعن ابن عباس قال: "أسري بالنبي عليه السلام إلى بيت المقدس، ثم جاء من ليلته فحدثهم بمسيره إلى بيت المقدس، وبعيرهم، فقال ناس: نحن نصدق محمدا بما يقول. فارتدوا كفارا". خرجه أحمد في مسنده، ح: ٤٥٤٦..

٨٠٢- أي : نعذبك مثل ما نعذب غيرك على هذا الذنب مرتين في الحياة ومرتين في الممات. ( العقد : ٢/٤٧٣. والذخيرة : ١/٥٠. )
٨٠٣- قوله تعالى :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس ﴾ أي : لأجله. ( الفروق : ٢/١٧٩ ).
٨٠٤- ﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس ﴾ هي الظهر والعصر. ﴿ إلى غسق الليل ﴾ : المغرب والعشاء. ﴿ وقرآن الفجر ﴾ : الصبح. قاله ابن عباس وعكرمة ومالك بن أنس. ( الذخيرة : ٢/٩٢ ).
٨٠٥- ﴿ قبيلا ﴾ أي : ضامنا. ( الفروق : ٣/٣٤ ).
٨٠٦- القبيل : قوة استيفاء الحق. ( الذخيرة : ٩/١٩٠ ).
٨٠٧- الاستثناء مفرغ لوقوعه بين الفعل المقدم والفاعل المؤخر، وهو قوله تعالى :﴿ أن قالوا ﴾، فإنه الفاعل.
وفيه أسئلة، وهي أن يقال : ما المستثنى منه ؟ وما وجه هذا الحصر في هذا المانع، فإن عوائدهم الفاسدة وقرناءهم وغير ذلك هي أيضا موانع، فكيف يصح الحصر مع عدم الحصر ؟ وكيف الجمع بينه وبين قوله تعالى في سورة الكهف :﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا ﴾١، فإنه تعالى حصر المانع في الآية الأولى فيقتضي أن غيره غير مانع، وهذه الآية حصره في مانع آخر يقتضي أن الأول غير مانع. فكل آية تمنع المانع الذي في غيرها أن يكون مانعا، فيحتاج للجمع بينهما. وهذا السؤال تداوله مجموعة من الفضلاء، وعسر الجواب على كثير منهم. وفي آية " سبحان " ٢ سؤال آخر يخصها، وهو أنهم لم يقصدوا ما ذكر مانعا فكيف يجعل مانعا ؟
والجواب : أما المستثنى منه فهو الفاعلون، جميع الفاعلين الذي يتوهم أنهم يمنعون منفيون إلا ما ذكر فهو مستثنى من الفاعل في اللفظ والمعنى.
وأما وجه الحصر فلا شك أن الموانع كثيرة غير هذا القول، وأعظمها قضاء الله وقدره، ومنها عادة الآباء وما نشئوا عليه، وغير ذلك من الموانع.
غير أنه قد تقدم أن الحصر تارة يكون مطلقا لا يعرج فيه على اعتبار معين، وتارة يكون ليس مطلقا، بل يلاحظ فيه اعتبار معين يقع الحصر باعتباره كما تقدم في قوله تعالى :﴿ إن أنا إلا نذير وبشير ﴾، وقوله عليه السلام : " إنما أنا بشر "، وقد تقدم بسطه٣.
كذلك هاهنا، ليس الحصر ثابتا على وجه الإطلاق، بل بحسب اعتبار معين، وهو حال الرسول المبعوث إليهم، فإنهم قالوا : " كان ينبغي أن يكون الرسول من الملائكة "، كقولهم :﴿ لولا تأتينا الملائكة أو نرى ربنا ﴾٤، وذلك في غير ما موضع من كتاب الله تعالى. فكون الرسول صلى الله عليه وسلم رجلا من أحدهم هذا القدر جعلوه مانعا.
وكذلك احتج الله عليهم في غير ما موضع، كقوله تعالى :﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ﴾٥ أي : لا ملائكة، ليقرر عليهم أنها عادة الله في إرساله لبني آدم.
فالموانع إذا اعتبرت من صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمنعهم منها إلا كونه بشرا. وينبغي أن يحمل هذا على بعض أحوالهم، فإنهم كانوا في بعض الأوقات يعللون المنع بغير هذا، كقولهم :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ﴾٦، فمنهم كونه ليس من الملوك والرؤساء المتمولين. بل هذا المانع مخصوص ببعض أحوالهم، فيصير معنى الآية : " لا مانع لهم من صفات رسولهم في هذه الحالة التي توجهوا فيها لهذا القصد إلا كونه بشرا ". فهو حصر بسبب بعض الاعتبارات لا مطلقا في نفس الأمر. فهو حصر صحيح.
وأما وجه الجمع بين الآيتين، فكان الشيخ الإمام شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام يورد هذا السؤال ويجيب عنه بأن المانع في هذه الآية هو باعتبار قصدهم وما في نفوسهم. فهم امتنعوا لأجل هذا المانع، وهم يعتقدونه مانعا.
وأما آية الكهف فلم يمتنعوا لفرض إتيان العذاب ولا اعتقدوه قط، بل يعتقدون أنهم مصيبون وأنهم لا يأتيهم عذاب أصلا. بل معنى الآية : الأمر بالتأسف عليهم والبينة على سوء حالهم، كما تقول : " ما نام زيد في هذه البرية إلا ليأكله الأسد "، أي : " أمره آيل لذلك وإن لم يقصده ". لذلك هؤلاء ما امتنعوا من الإيمان إلا ليكونوا من الأشقياء المعذبين في الدار الآخرة، أو ليعاجلهم ما عادته يأتي الأولين من العذاب والهلاك. فهو مانع محصور فيه باعتبار ما يؤول إليه حالهم. وآية " سبحان " مانع باعتبار ما في صدورهم.
فهذا وجه الجمع، وثبت الحصر في الآيتين ولم تبطل إحداهما الأخرى، واتضح معنى الآيتين. وينبغي أن يعلم أن القول في نفسه ليس مرادا، وإنما عبر بالقول عن المقول كما جرت عادة العرب بالتعبير عن المفعول أو الفاعل بالمصدر، كقوله تعالى :﴿ فإذا جاء وعد الآخرة ﴾٧، أي : موعودها. ﴿ ولا يحيطون بشيء من علمه ﴾٨، أي : من معلومه. وهو كثير.
كذلك هاهنا ﴿ أن يقولوا ﴾ مع الفعل بتأويل المصدر، والمصدر عبر به عن المقول. فاعلم ذلك وإلا فالقول نفسه ليس مانعا البتة. ( الاستغناء : ٢٢١ إلى ٢٢٣ ).
١ - سورة الكهف: ٥٥..
٢ - يقصد الآية ٩٤ من سورة الإسراء..
٣ - ن: ما قاله في تفسير الآية ١٨٨ من سورة الأعراف في هذه الرسالة..
٤ - يقصد قوله تعالى على لسان الكفار: ﴿لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا﴾ الفرقان: ٢١..
٥ - سورة النحل: ٤٣..
٦ - سورة الزخرف: ٣١..
٧ - سورة الإسراء: ٤..
٨ - سورة البقرة: ٢٥٥..
Icon