تفسير سورة الإسراء

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة بني إسرائيل.
مائة وإحدى عشرة آية. مكية إلا ﴿ وإن كادوا ليفتنونك ﴾ إلى آخر ثمان آيات.

﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير١ ﴾
﴿ سبحان ﴾ اسم بمعنى التسبيح الذي هو التنزيه، وقد يستعمل علما له، فيقطع عن الإضافة ويمنع الصرف. وانتصابه بفعل متروك إظهاره، تقديره : سبحوا الله سبحان، أو : أسبح الله سبحانه، ثم نزل سبحان منزلة الفعل، فسد مسده. ودل على التنزيه البليغ. وتصدير الكلام به للتنزيه عن العجز عما ذكر بعد، ويكون بمعنى التعجب. ﴿ الذي أسرى ﴾ يعني سير ليلا ﴿ بعبده ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم. ﴿ ليلا ﴾ منصوب على الظرف، وفائدةُ ذكره مع أن الإسراء لا يكون إلا بالليل الدلالةُ بتنكيره على تقليل مدة الإسراء. ﴿ من المسجد الحرام ﴾ كما في الصحيحين عن أنس عن مالك بن صعصعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( بينا أنا في المسجد الحرام بين النائم واليقظان، إذ أتاني جبرئيل بالبراق، وفي لفظ : بينما أنا في الحطيم مضطجعا إذ أتاني آت. . ١ الحديث )، وقد ذكرناه في تفسير سورة النجم. وقيل : كان الإسراء من دار أم هانئ، فالمراد بالمسجد الحرام حينئذ : الحرم، سماه المسجد الحرام لأن كله مسجد، أو لأنه محيط به ليطابق المبدأ المنتهي. ويدل على كون النبي صلى الله عليه وسلم في البيت دون المسجد، ما في الصحيحين عن أنس عن أبي ذر يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال :( ففرج عني سقف بيتي وأنا بمكة. . ٢ الحديث ). وذكرناه أيضا في سورة النجم.
وما رواه أبو يعلي في مسنده، والطبراني في الكبير، من حديث أم هانئ أنه كان في بيت أم هانئ، فأسري به فرجع من ليلته، وقص القصة عليها، وقال : مثل لي النبيون فصليت بهم، ثم خرج إلى المسجد، وأخبَرَتْهُ قريشا فتعجبوا منه استحالة، وارتد ناس ممن آمن به، وسعى رجال إلى أبي بكر فقال : إن كان قال : ذلك فقد صدق. قالوا : أتصدقه على ذلك ؟ قال : إني لأصدقه على أبعد من ذلك. وسمى بذلك الصديق. واستنعته طائفة سافروا إلى بيت المقدس، فَجُلي له، فَطفِق ينظر إليه وينعته لهم، فقالوا : أما النعت، فقد أصاب. فقالوا : أخبرنا عن بعيرنا. فأخبرهم بعدد جمالها وأموالها، وقال : يقدم يوم كذا مع طلوع الشمس، يقدمها جمل أورق، فخرجوا يشتدون إلى الثنية، فصادفوا العير كما أخبرهم، ثم لم يؤمنوا وقالوا : ما هذا إلا سحر مبين.
وقلت : يمكن الجمع بين الحديثين بتعدد المعراج، مرة من الحطيم، ومرة من بيت أم هانئ. قال البغوي : قال مقاتل : كانت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة، يقال : كان في رجب. وقيل : في شهر رمضان.
﴿ إلى المسجد ﴾ يعني البيت المقدس، سمي أقصى لبعده من المسجد الحرام، ولم يكن حينئذ وراءه مسجد. وتعجب قريش لبعده، واستحالوه. قال البيضاوي : والاستحالة مدفوعة بما ثبت في الهندسة أن ما بين طرفي قرص الشمس ضِعْفُ ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة، ثم إن طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في الأقل من ثانية. وقد برهن في الكلام أن الأجسام متساوية في قبول الأعراض، وأن الله تعالى قادر على كل شيء من الممكنات، فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة أو أسرع منها، في بدن النبي صلى الله عليه وسلم أو فيما يحمله. والتعجب من لوازم المعجزات.
﴿ الذي باركنا حوله ﴾ بالأنهار والأشجار والثمار. وقال مجاهد : سماه مباركا لأنه مقر الأنبياء، ومهبط الملائكة والوحي، ومنه يحشر الناس يوم القيامة.
﴿ لنريه ﴾ يعني عبده محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ من آياتنا ﴾، أي بعض عجائب قدرتنا، كذهابه في برهة من الليل إلى مسيرة أربعين ليلة، ومن هناك إلى السماوات، وتمثيل الأنبياء له، وما رأى في تلك الليلة من آيات ربه الكبرى. وصرف الكلام من الغيبة إلى التكلم، لتعظيم تلك الآيات.
﴿ إنه هو السميع ﴾ لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، والمجيب لدعائه، ﴿ البصير ﴾ لأفعاله وأحواله، الحفيظ له في ظلمة الليل.
قال البغوي : وروي عن عائشة أنها كانت تقول : ما فُقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أسري بروحه، يعني في المنام. ويدل عليه ما رواه البخاري من حديث أنس بن مالك يقول :( ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة، أنه جاء ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم : أيهم هو ؟ فقال أوسطهم : هو خيرهم. فقال آخرهم : خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى، فيما يرى قلبه، وتنام عينه، ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء، تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم. فلم يكلموه حتى احتملوه، فوضعوه عند زمزم، فشق جبرئيل ما بين نحره إلى لبته، حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده، وساق حديث المعراج بقصته، فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان، قال : هذا النيل والفرات عنصرهما، ثم مضى به في السماء، فإذا هو بنهر آخر، عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب بيده، فإذا هو مسك أذفر، قال : ما هذا يا جبرئيل ؟ قال : هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك، وساق الحديث وقال : ثم عرج به إلى السماء السابعة وقال : قال موسى : رب لم أظن أن يرفع علي أحد، ثم علا فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إليه ما أوحى : خمسين صلاة كل يوم وليلة، فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات، ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال : يا محمد، والله لقد راودتُ بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا عنه وتركوه، وأمتك أضعف أجسادا أو قلوبا وأبدانا وأبصارا وأسماعا، فارجع فليخفف عنك ربك، كلُّ ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبرئيل ليشير عليه ولا يكره ذلك جبرئيل، فرفعه عند الخامسة فقال : يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم واستماعهم وأبدانهم فخفف عنا. فقال الجبار : يا محمد. فقال : لبيك وسعديك. قال : إنه لا يبدل القول لدي، كما فرضت عليك في أم الكتاب، فكل حسنة بعشر أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، وهي خمس عليك. فقال موسى : ارجع إلى ربك فاسأله فليخفف عنك أيضا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله قد استحييت من ربي فيما اختلفت عليه. قال : فاهبط بسم الله. فاستيقظ وهو في المسجد الحرام ). ٣ وروى مسلم هذا الحديث مختصرا.
فإن قوله : فاستيقظ وهو في المسجد الحرام، يدل على كونه رؤيا في المنام. والأكثرون على أن الله تعالى أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج بجسده في اليقظة. وتواترت الأخبار الصحيحة بذلك، وعليه انعقد الإجماع، ولو كان المعراح في المنام لما أنكرت عليه قريش، إذ لا استبعاد في الرؤيا. قال البغوي : قال شيخنا الإمام : قد قال بعض أهل الحديث : ما وجدنا لمحمد بن إسماعيل ولمسلم في كتابيهما شيئا لا يحتمل مخرجا إلا هذا الحديث المذكور، الذي يدل على كون الإسراء في المنام بروحه، وأحال الآفة فيه إلى شريك بن عبد الله. وأنكر أيضا على أن ذلك قبل أن يوحى إليه.
وقد اتفق أهل العلم على أن المعراج كان بعد الوحي بنحو من اثنتي عشرة سنة، قبل الهجرة بسنة. ثم قال البغوي : قال شيخنا الإمام : هذا الاعتراض عندي لا يصح، لأن هذا كان رؤيا في المنام أراه الله تعالى قبل الوحي، ثم عرج به في اليقظة بعد الوحي قبل الهجرة بسنة، تحقيقا لرؤياه من قبل، كما أنه رأى فتح مكة في المنام عام الحديبية، سنة ستة من الهجرة، ثم كان تحققه سنة ثمان، والله أعلم.
قال البغوي : روي أنه لما رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، فكان بذي طوى، قال : يا جبرئيل، إن قومي لا يصدقوني. قال : يصدقك أبو بكر وهو الصديق. قال البغوي : قال ابن عباس وعائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لما كان ليلة أسري بي، فأصبحت بمكة، قطعت بأمري، وعرفت أن الناس مكذبي ). فروي أنه صلى الله عليه وسلم قعد معتزلا محزونا، فمر به أبو جهل، فجلس إليه، فقال له كالمستهزئ : هل استفدت من شيء ؟ قال : نعم. قال : إني أسري بي الليلة. قال : إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس. قال : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال : نعم. فلم ير أبو جهل أن ينكر ذلك، مخافة أن يجحده الحديث. ثم قال : أتحدث قومك بما حدثتني ؟ قال : نعم. فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي، هلم. قال : فانتقضت المجالس، فجاءوا حتى جلسوا إليهما. قال : فَحَدِّث قومك ما حدثتني. قال : نعم، إني أسري بي الليلة. قالوا : إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس. قالوا : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال : نعم. قال : فمن بين مصفق، ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا. وارتد ناس ممن كان آمن به وصدقه. وسعى رجل من المشركين إلى أبي بكر فقال : هل لك في صاحبك ؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس. قال : أو قد قال ذلك ؟ قالوا : نعم. قال : إن كان قال ذلك لصدق. قالوا : وتصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس في ليلة وجاء قبل أن يصبح ؟ قال : نعم، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة وروحة، فلذلك سمي أبو بكر الصديق. قال : وفي القوم من قد أتى المسجد الأقصى، فقالوا : هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد ؟ قال : نعم. قال : فذهبتُ أنعت وأنعت، فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت، قال : فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه، حتى وُضع دون دار عقيل، فنعتُّ المسجد وأنا أنظر إليه، فقالوا : أما النعت، فوالله لقد أصاب. ثم قالوا : يا محمد، أخبرنا عن بعيرنا فهي أهم إلينا، فهل لقيت منها شيئا، قال : نعم، مررت على بعير بني فلان وهي بالروحاء، قد أضلوا بعيرا لهم وهم في طلبه، وفي رحالهم قدح من ماء، فعطشتْ فأخذتْهُ فشرِبَتْهُ ثم وضعته كما كان، فسلوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه. قالوا : هذه آية. قال : ومررت ببعير بني فلان وفلان وفلان راكبان، قعودا لهما بذي مر، فنفر بعيرها مني، فاسئلوهما عن ذلك. قالوا : وهذه آية. قالوا : وأخبرنا عن بعيرنا. قال : مررت بها بالتنعيم. قالوا : فما عدتها وأحمالها وهيئتها ؟ قال : كنت في شغل عن ذلك، ثم مثلت له مكانه بالحرورة بعدتها وهيئتها ومن فيها، قال : نعم هيئتها كذا وكذا، وفيها فلان، يقدمها جمل أورق، عليه غرارتان مخيطتان، يطلع عليكم عند طلوع الشمس. قالوا : وهذه آية. فخرجوا يشتدون نحو الثنية وهم يقولون : والله لقد قص محمد شيئا وبَيَّنَهُ، حتى أتوا كداء، فجلسوا عليه، فجعلوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذبونه، إذ قال قائل منهم : والله هذه الشمس قد طلعت. وقال الآخر : والله وهذه الإبل قد طلعت يقدمها بعير أورق فيها فلان وفلان كما قال لهم. فلم يؤمنوا وقالوا : إن هذا السحر مبين.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لقد رأيتني في الحِجر، وقريش تسئلني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكَرُبْتُ كربا ما كَرُبْتُ مثله قط، فرفعه الله لي أنظر إليه، ما يسئلوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء وإذا موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضَرْبٌ جَعْدٌ، فكأنه من رجال شنؤة أشبه الناس به شبها عروة بن م
قوله تعالى ﴿ وآتينا موسى الكتاب ﴾ التوراة ﴿ وجعلناه ﴾ أي موسى أو الكتاب ﴿ هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا ﴾ أن مفسرة لفعل دل عليه الكتاب يعني كتبنا وفيه معنى القول تقديره كتبنا إليهم أن لا تتخذوا أو مقدر بحرف الجر يعني لأن لا تتخذوا أو قيل أن زائدة والقول مضمر، قرأ أبو عمروا لا يتخذوا بالياء التحتانية على الغيبة والباقون بالتاء الفوقانية على الخطاب ﴿ من دوني وكيلا ﴾ ربا تتوكلون عليه وتكلون إليه أموركم غيري يا ﴿ ذرية من حملنا مع نوح ﴾
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قال البغوي قال محمد بن إسحاق كانت بنو إسرائيل فيهم الأحداث والذنوب وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم محسنا إليهم، وكان أول ما نزل بهم بسبب ذنوبهم كما أخبر الله على لسان موسى عليه السلام أن ملكا منهم كان يدعى صديقه وكان الله تعالى إذا ملك الملك عليهم بعث معه نبيا يسدده ويرشده لا ينزل عليهم الكتب إنما يؤمرون بإتباع التوراة والأحكام التي فيها، فلما ملك ذلك الملك بعث الله معه شيعا بن أمضيا وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وشيعا هو الذي بشر بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام فقال أبشري أورى تعلم الآن يأتيك راكب الحمار ومن بعده صاحب البعير، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث وشعيا معه بعث الله سنحاريب ملك بابل معه ستمائة ألف راية فأقبل سائرا حتى نزل حول بيت المقدس، والملك مريض في ساقه قرحة، فجاء النبي شيعا فقال له يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل قد نزل بك هو وجنوده بستمائة ألف راية وقد هابهم الناس وفرقوا، فكبر ذلك على الملك فقال : يا بني الله هل أتاك وحي الله فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده ؟ فقال : لم يأتيني وحي فبينما هم على ذلك أوحي الله إلى شعيا النبي عليه السلام إن أيت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصية ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته، فأتى شعيا ملك بني إسرائيل صديقة فقال : إن ربك قد أوحي إلي أن آمرك أن توصي وصيتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميت، فلما قال ذلك شعيا لصديقة أقبل على قبلته فصلى ودعا وبكى فقال وهو يتضرع ويبكي ويتضرع إلى الله بقلب مخلص : اللهم رب الأرباب وإله الآلهة يا قدوس المتقدس يا رحمان يا رؤوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم إذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله منك وأنت أعلم به مني سري وعلانيتي لك، وإن الرحمان استجاب دعاءه وكان عبدا صالحا، فأوحى الله إلى شعيا أن تخبر صديقة أن ربه قد استجاب له ورحمه وأخر أجله خمس عشرة سنة وأنجاه من عدوه سخاريب، فأتاه شعيا فأخبره بذلك، فلما قال له ذلك ذهب عنه الروع وانقطع عنه الحزن وخر ساجدا وقال : يا إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبحت وكرمت وعظمت أنت الذي تعطي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء عالم الغيب والشهادة أنت الأول والآخر والظاهر والباطن وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي فلما رفع رأسه أوحي الله إلى شعيا أن قل للملك صديقة فيأمر عبدا من عبيده فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفي فيصبح وقد برئ ففعل فشفي.
وقال الملك لشعيا سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا قال الله لشعيا قل إني قل إني قد كفيتك عدوك وأنجيتك منهم وأنهم سيصبحون كلهم موتى إلا سنحاريب وخمسة نفر من كتابه، فلما أصبحوا جاء صارخ فصرخ على باب المدينة يا ملك بني إسرائيل أن الله قد كفاك عدوك، فاخرج فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا، فلما خرج الملك التمس سنحاريب فلم يوجد في الموتى فأرسل الملك في طلبه فأدركه الطلب في مغارة وخمسة نفر من كتابه أحدهم بخت نصر، فجعلوهم في الجوامع ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل فلما رآهم خر ساجدا من حين طلعت الشمس إلى العصر، ثم قال لسخاريب كيف ترى فعل ربنا بكم ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون، فقال سنحاريب قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي يرحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي فلم أطع مرشدا ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، فقال صديقة الحمد لله رب العزة الذي كفاناكم بما شاء إن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامتك على ربك ولكنه إنما أبقاك ومن معك لتزدادوا شقوة في الدنيا وعذابا في الآخرة، ولتخبروا من ورائكم بما رأيتم من فعل ربنا بكم فتنذر من بعدكم، ولولا ذلك لقتلتكم ولدمك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلت ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه فقذف في رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيليا وكان يرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم، فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل القتل خير مما تفعل بنا فأمر بهم الملك إلى سجن القتل، فأوحي إلى شعيا النبي عليه السلام أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سخاريب ومن معه لينذروا من ورائهم وليكرمهم وليحملهم حتى يبلغوا بلادهم فبلغ شعيا الملك ذلك ففعل الملك صديقة ما أمر به، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده فقال له كهانه وسحرته يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم فلم تطعنا وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم، وكان أمر سخاريب تخويفا لهم ثم كفاهم الله تذكرة وعظة ثم لبث سخاريب بعد ذلك سبع سنين ثم مات واستخلف بخت نصر ابن ابنه فخلف بخت نصر على ما كان عليه جده يعمل عمله فلبث سبعة عشرة سنة.
ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك بعده حتى قتل بعضهم بعضا ونبيهم شعيا عليه السلام معهم ولا يقبلون منه فلما فعلوا ذلك قال الله لشعيا قم في قومك فأوحي على لسانك فلما قام النبي أنطق الله على لسانه بالوحي فقال يا سماء اسمعي ويا أرض أنصتي فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته فاصطنعهم لنفسه وخصهم بكرامته وفضلهم على عباده، وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها فأوى شاذتها وجمع ضالتها وجبر كسيرها وداوى مريضها وأسمن مهزولها وحفظ سمينها، فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت فقتل بعضها بعضا حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير، فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لا يدرون أنى جاءهم الحين، أن البعير مما يذكر وطنه فيستأبه وأن الحمار مما يذكر الأرى الذي يشبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر الأرى الذي يشبع عليه فيراجعه وإن الثور مما يذكر المرج الذي سمن منه فينتابه، وإن هؤلاء القوم لا يذكرون من حيث جاءهم الحين وهم أولو الألباب والعقول ليسوا ببقر ولا حمر، أنى ضارب لهم مثلا فليستمعوه قل لهم كيف ترون في أرض كانت خواء زمانا خربة مواتا لا عمر أن فيها وكان لها رب حكيم قوي فأقبل عليها بالعمارة وكره أن يخرب أرضه وهو قوي أو أن يقال ضيع وهو حكيم فأحاط عليها جدارا وشيد فيها قصرا وأنط نهرا وصفى فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها، وولى ذلك واستحفظه ذا رأي وهمة حفيظا قويا أمينا فلما أطلعت جاء طلعها خروبا قالوا بئست الأرض لهذه، نرى أن يهدم جدارها وقصرها ويدفن نهرها ويقبض فمها ويحرق غرسها حتى تصير كما كانت أول مرة خرابا مواتا لا عمران فيها، قال الله قل لهم فإن الجدار ديني وأن القصر شريعتي وأن النهر كتابي وأن القيم نبي وأن الغرس هم، وأن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وأني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم وأنه مثل ضربته لهم، يتقربون إلي بذبح البقر والغنم وليس ينالني اللحم ولا آكله، ويدعون أن يتقربوا إلي بالتقوى والكف على ذبح الأنفس التي حرمتها فأيديهم مخضوبة منها وثيابهم متزملة بدمائها، ويشيدون لي البيوت مساجد ويطهرون أجوافها ويتنجسون قلوبهم وأجسادها ويدنسوها، ويروقون لي المساجد ويزينونها ويخربون عقولهم وأخلاقهم ويفسدونها، فأي حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها وأي حاجة لي ترويق المساجد ولست أدخلها إنما أمرت برفعها لأذكر وأسبح فيها، يقولون صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تنور صلاتنا وتصدقنا فلم تزك صدقاتنا ودعونا بمثل حنين الحمار وبكينا بمثل عواء الذئاب في كل ذلك لا يستجاب لنا، قال الله : فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم ؟ ألست أسمع السامعين وأبصر الباصرين وأقرب المجيبين وأرحم الراحمين ؟ فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور يتقوون عليه بطعمة الحرام، وكيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادني وينتهك محارمي، أم كيف يزكوا عندي صدقاتهم وهم يتصدقون بأموال غيرهم إنما آجر عليها أهلها المعصومين، أم كيف أستجيب دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد إنما أستجيب للوداع اللين وإنما أسمع قول المستعف المسكين، وإن من علامة رضائي رضاء المساكين، يقولون لما سمعوا كلامي وبلغتهم رسالتي أنها أقاويل متقولة وأحاديث متوارثة وتأليف مما يؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا، ولو شاءوا أن يطلعوا على علم الغيب بما يوحي إليهم الشياطين اطلعوا، وأني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض قضاء أثبته وحتمته على نفسي وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بد أنه واقع فإن صدقوا بما ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى أنفذه أو في أي زمان يكون، وإن كانوا أن يقدروا على أن يأتوا بما يشاءون فليأتوا بمثل القدرة التي بها أمضيه فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون وإن كانوا يقدرون على أن يؤلفوا ما يشاءون فليؤلفوا مثل الحكمة التي بها أدبر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين، وإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض أن أجعل النبوة في الأجراء وأن أجعل الملك في الرعاء والعز في الأذلاء والقوة في الضعفاء والغني في الفقراء والعلم في الجهلة والحكم في الأميين، فسلهم متى هذا ومن القائم به ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون، فإني باعث لذلك نبيا أميا ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا متزين بالفحش ولا قوال للحياء، أسدده لكل خميل وأهب له كل خلق كريم ثم أجعل السكينة لبأسه والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقوله والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والعدل سيرته والحق شريعته والهدى أمامه والإسلام ملته وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة وأعلم به من الجهالة وأرفع به بعد الخمالة وأشهر به بعد النكرة وأكثر به بعد القلة وأغني به بعد العيلة وأجمع به بعد الفرقة وأؤلف به بين قلوب مختلفة وأهواء متشتتة وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر توحيدا إلي وإيمانا بي وإخلاصا لي، يصلون لي قياما وقعودا وركوعا وسجودا ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني، ألهمهم التكبير والتوحيد والتسبيح والتحميد والمدحة والتمجيد لي في مسيرهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، يكبرون ويهللون ويقدسون على رؤوس الأشراف ويطهرون لي الوجوه والأطراف ويعقدون الثياب على الأنصاف، قربانهم دماؤهم وأنا جيلهم صدورهم رهبان بالليل ليوث بالنهار، وذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم، فلما فرغ شعيا من مقالته عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فلقيته شجرة فانفلقت له فدخل فيها فأدركه الشيطان وأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها.
واستخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك رجلا منهم يقال له ناشيه بن أموص وبعث لهم أرميا بن حلقيا نبيا من سبط هارون بن عمران، وذكر ابن إسحاق أنه الخضر عليه السلام واسمه أرميا سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فقام عنها وهي تهتز خضراء فبعث الله أرميا إلى ذلك الملك يسدده ويرشده

﴿ ذرية من حملنا مع نوح ﴾
في السفينة فأنجيناهم، فيه تذكير لأنعام الله عليهم في إنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح في السفينة، ذرية منصوب على الاختصاص أو النداء إن قرأ لا تتخذوا بالتاء الفوقانية للخطاب أو على أنه أحد مفعولي لا تتخذوا ومن دوني حال من وكيلا فيكون كقوله تعالى :﴿ ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ﴾١ ﴿ إنه ﴾ يعني نوحا عليه السلام ﴿ كان عبدا شكورا ﴾ أي كثير الشكر أخرج ابن مردويه عن أبي فاطمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( كان نوح لا يعمل شيئا صغيرا ولا كبيرا إلا قال بسم الله والحمد لله فسماه الله عبدا شكورا ) وأخرج ابن جرير والطبراني عن سعد بن مسعود الثقفي الصحابي قال إنما سمي نوح عبدا شكورا لأنه كان إذا أكل أو شرب أو لبس ثوبا حمد الله وفيه حث على الشكر يعني أنتم ذرية من آمن به وحمل معه فكونوا مثله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قال البغوي قال محمد بن إسحاق كانت بنو إسرائيل فيهم الأحداث والذنوب وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم محسنا إليهم، وكان أول ما نزل بهم بسبب ذنوبهم كما أخبر الله على لسان موسى عليه السلام أن ملكا منهم كان يدعى صديقه وكان الله تعالى إذا ملك الملك عليهم بعث معه نبيا يسدده ويرشده لا ينزل عليهم الكتب إنما يؤمرون بإتباع التوراة والأحكام التي فيها، فلما ملك ذلك الملك بعث الله معه شيعا بن أمضيا وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وشيعا هو الذي بشر بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام فقال أبشري أورى تعلم الآن يأتيك راكب الحمار ومن بعده صاحب البعير، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث وشعيا معه بعث الله سنحاريب ملك بابل معه ستمائة ألف راية فأقبل سائرا حتى نزل حول بيت المقدس، والملك مريض في ساقه قرحة، فجاء النبي شيعا فقال له يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل قد نزل بك هو وجنوده بستمائة ألف راية وقد هابهم الناس وفرقوا، فكبر ذلك على الملك فقال : يا بني الله هل أتاك وحي الله فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده ؟ فقال : لم يأتيني وحي فبينما هم على ذلك أوحي الله إلى شعيا النبي عليه السلام إن أيت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصية ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته، فأتى شعيا ملك بني إسرائيل صديقة فقال : إن ربك قد أوحي إلي أن آمرك أن توصي وصيتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميت، فلما قال ذلك شعيا لصديقة أقبل على قبلته فصلى ودعا وبكى فقال وهو يتضرع ويبكي ويتضرع إلى الله بقلب مخلص : اللهم رب الأرباب وإله الآلهة يا قدوس المتقدس يا رحمان يا رؤوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم إذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله منك وأنت أعلم به مني سري وعلانيتي لك، وإن الرحمان استجاب دعاءه وكان عبدا صالحا، فأوحى الله إلى شعيا أن تخبر صديقة أن ربه قد استجاب له ورحمه وأخر أجله خمس عشرة سنة وأنجاه من عدوه سخاريب، فأتاه شعيا فأخبره بذلك، فلما قال له ذلك ذهب عنه الروع وانقطع عنه الحزن وخر ساجدا وقال : يا إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبحت وكرمت وعظمت أنت الذي تعطي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء عالم الغيب والشهادة أنت الأول والآخر والظاهر والباطن وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي فلما رفع رأسه أوحي الله إلى شعيا أن قل للملك صديقة فيأمر عبدا من عبيده فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفي فيصبح وقد برئ ففعل فشفي.
وقال الملك لشعيا سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا قال الله لشعيا قل إني قل إني قد كفيتك عدوك وأنجيتك منهم وأنهم سيصبحون كلهم موتى إلا سنحاريب وخمسة نفر من كتابه، فلما أصبحوا جاء صارخ فصرخ على باب المدينة يا ملك بني إسرائيل أن الله قد كفاك عدوك، فاخرج فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا، فلما خرج الملك التمس سنحاريب فلم يوجد في الموتى فأرسل الملك في طلبه فأدركه الطلب في مغارة وخمسة نفر من كتابه أحدهم بخت نصر، فجعلوهم في الجوامع ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل فلما رآهم خر ساجدا من حين طلعت الشمس إلى العصر، ثم قال لسخاريب كيف ترى فعل ربنا بكم ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون، فقال سنحاريب قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي يرحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي فلم أطع مرشدا ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، فقال صديقة الحمد لله رب العزة الذي كفاناكم بما شاء إن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامتك على ربك ولكنه إنما أبقاك ومن معك لتزدادوا شقوة في الدنيا وعذابا في الآخرة، ولتخبروا من ورائكم بما رأيتم من فعل ربنا بكم فتنذر من بعدكم، ولولا ذلك لقتلتكم ولدمك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلت ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه فقذف في رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيليا وكان يرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم، فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل القتل خير مما تفعل بنا فأمر بهم الملك إلى سجن القتل، فأوحي إلى شعيا النبي عليه السلام أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سخاريب ومن معه لينذروا من ورائهم وليكرمهم وليحملهم حتى يبلغوا بلادهم فبلغ شعيا الملك ذلك ففعل الملك صديقة ما أمر به، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده فقال له كهانه وسحرته يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم فلم تطعنا وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم، وكان أمر سخاريب تخويفا لهم ثم كفاهم الله تذكرة وعظة ثم لبث سخاريب بعد ذلك سبع سنين ثم مات واستخلف بخت نصر ابن ابنه فخلف بخت نصر على ما كان عليه جده يعمل عمله فلبث سبعة عشرة سنة.
ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك بعده حتى قتل بعضهم بعضا ونبيهم شعيا عليه السلام معهم ولا يقبلون منه فلما فعلوا ذلك قال الله لشعيا قم في قومك فأوحي على لسانك فلما قام النبي أنطق الله على لسانه بالوحي فقال يا سماء اسمعي ويا أرض أنصتي فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته فاصطنعهم لنفسه وخصهم بكرامته وفضلهم على عباده، وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها فأوى شاذتها وجمع ضالتها وجبر كسيرها وداوى مريضها وأسمن مهزولها وحفظ سمينها، فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت فقتل بعضها بعضا حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير، فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لا يدرون أنى جاءهم الحين، أن البعير مما يذكر وطنه فيستأبه وأن الحمار مما يذكر الأرى الذي يشبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر الأرى الذي يشبع عليه فيراجعه وإن الثور مما يذكر المرج الذي سمن منه فينتابه، وإن هؤلاء القوم لا يذكرون من حيث جاءهم الحين وهم أولو الألباب والعقول ليسوا ببقر ولا حمر، أنى ضارب لهم مثلا فليستمعوه قل لهم كيف ترون في أرض كانت خواء زمانا خربة مواتا لا عمر أن فيها وكان لها رب حكيم قوي فأقبل عليها بالعمارة وكره أن يخرب أرضه وهو قوي أو أن يقال ضيع وهو حكيم فأحاط عليها جدارا وشيد فيها قصرا وأنط نهرا وصفى فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها، وولى ذلك واستحفظه ذا رأي وهمة حفيظا قويا أمينا فلما أطلعت جاء طلعها خروبا قالوا بئست الأرض لهذه، نرى أن يهدم جدارها وقصرها ويدفن نهرها ويقبض فمها ويحرق غرسها حتى تصير كما كانت أول مرة خرابا مواتا لا عمران فيها، قال الله قل لهم فإن الجدار ديني وأن القصر شريعتي وأن النهر كتابي وأن القيم نبي وأن الغرس هم، وأن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وأني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم وأنه مثل ضربته لهم، يتقربون إلي بذبح البقر والغنم وليس ينالني اللحم ولا آكله، ويدعون أن يتقربوا إلي بالتقوى والكف على ذبح الأنفس التي حرمتها فأيديهم مخضوبة منها وثيابهم متزملة بدمائها، ويشيدون لي البيوت مساجد ويطهرون أجوافها ويتنجسون قلوبهم وأجسادها ويدنسوها، ويروقون لي المساجد ويزينونها ويخربون عقولهم وأخلاقهم ويفسدونها، فأي حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها وأي حاجة لي ترويق المساجد ولست أدخلها إنما أمرت برفعها لأذكر وأسبح فيها، يقولون صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تنور صلاتنا وتصدقنا فلم تزك صدقاتنا ودعونا بمثل حنين الحمار وبكينا بمثل عواء الذئاب في كل ذلك لا يستجاب لنا، قال الله : فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم ؟ ألست أسمع السامعين وأبصر الباصرين وأقرب المجيبين وأرحم الراحمين ؟ فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور يتقوون عليه بطعمة الحرام، وكيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادني وينتهك محارمي، أم كيف يزكوا عندي صدقاتهم وهم يتصدقون بأموال غيرهم إنما آجر عليها أهلها المعصومين، أم كيف أستجيب دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد إنما أستجيب للوداع اللين وإنما أسمع قول المستعف المسكين، وإن من علامة رضائي رضاء المساكين، يقولون لما سمعوا كلامي وبلغتهم رسالتي أنها أقاويل متقولة وأحاديث متوارثة وتأليف مما يؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا، ولو شاءوا أن يطلعوا على علم الغيب بما يوحي إليهم الشياطين اطلعوا، وأني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض قضاء أثبته وحتمته على نفسي وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بد أنه واقع فإن صدقوا بما ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى أنفذه أو في أي زمان يكون، وإن كانوا أن يقدروا على أن يأتوا بما يشاءون فليأتوا بمثل القدرة التي بها أمضيه فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون وإن كانوا يقدرون على أن يؤلفوا ما يشاءون فليؤلفوا مثل الحكمة التي بها أدبر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين، وإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض أن أجعل النبوة في الأجراء وأن أجعل الملك في الرعاء والعز في الأذلاء والقوة في الضعفاء والغني في الفقراء والعلم في الجهلة والحكم في الأميين، فسلهم متى هذا ومن القائم به ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون، فإني باعث لذلك نبيا أميا ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا متزين بالفحش ولا قوال للحياء، أسدده لكل خميل وأهب له كل خلق كريم ثم أجعل السكينة لبأسه والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقوله والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والعدل سيرته والحق شريعته والهدى أمامه والإسلام ملته وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة وأعلم به من الجهالة وأرفع به بعد الخمالة وأشهر به بعد النكرة وأكثر به بعد القلة وأغني به بعد العيلة وأجمع به بعد الفرقة وأؤلف به بين قلوب مختلفة وأهواء متشتتة وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر توحيدا إلي وإيمانا بي وإخلاصا لي، يصلون لي قياما وقعودا وركوعا وسجودا ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني، ألهمهم التكبير والتوحيد والتسبيح والتحميد والمدحة والتمجيد لي في مسيرهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، يكبرون ويهللون ويقدسون على رؤوس الأشراف ويطهرون لي الوجوه والأطراف ويعقدون الثياب على الأنصاف، قربانهم دماؤهم وأنا جيلهم صدورهم رهبان بالليل ليوث بالنهار، وذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم، فلما فرغ شعيا من مقالته عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فلقيته شجرة فانفلقت له فدخل فيها فأدركه الشيطان وأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها.
واستخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك رجلا منهم يقال له ناشيه بن أموص وبعث لهم أرميا بن حلقيا نبيا من سبط هارون بن عمران، وذكر ابن إسحاق أنه الخضر عليه السلام واسمه أرميا سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فقام عنها وهي تهتز خضراء فبعث الله أرميا إلى ذلك الملك يسدده ويرشده


١ سورة آل عمران، الآية: ٨٠..
قوله تعالى ﴿ وقضينا ﴾ أي أوحينا وحيا مقضيا مبتوتا ﴿ إلى بني إسرائيل في الكتاب ﴾ التوراة بأنكم ﴿ لتفسدن في الأرض ﴾ أرض الشام وقال ابن عباس وقتادة كلمة إلى بمعنى على ومعنى الآية وقضينا على بني إسرائيل في الكتاب أي اللوح المحفوظ لتفسدن جواب قسم محذوف أو جواب لقضينا إجراء للقضاء المبتوت مجرى القسم ﴿ مرتين ﴾ إفسادتين أولاهما أن خالفوا أحكام التوراة وركبوا المحارم وقتلوا شيعا بن أمضيا عليه السلام، وثانيتهما أن قتلوا زكريا ويحيى وقصدوا قتل عيسى عليهم السلام وقيل : أولاهما قتل زكريا وثانيتهما قتل يحيى وقصد قتل عيسى عليهم السلام ﴿ ولتعلن علوا كبيرا ﴾ يعني لتستكبرون عن طاعة الله وتظلمون الناس.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قال البغوي قال محمد بن إسحاق كانت بنو إسرائيل فيهم الأحداث والذنوب وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم محسنا إليهم، وكان أول ما نزل بهم بسبب ذنوبهم كما أخبر الله على لسان موسى عليه السلام أن ملكا منهم كان يدعى صديقه وكان الله تعالى إذا ملك الملك عليهم بعث معه نبيا يسدده ويرشده لا ينزل عليهم الكتب إنما يؤمرون بإتباع التوراة والأحكام التي فيها، فلما ملك ذلك الملك بعث الله معه شيعا بن أمضيا وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وشيعا هو الذي بشر بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام فقال أبشري أورى تعلم الآن يأتيك راكب الحمار ومن بعده صاحب البعير، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث وشعيا معه بعث الله سنحاريب ملك بابل معه ستمائة ألف راية فأقبل سائرا حتى نزل حول بيت المقدس، والملك مريض في ساقه قرحة، فجاء النبي شيعا فقال له يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل قد نزل بك هو وجنوده بستمائة ألف راية وقد هابهم الناس وفرقوا، فكبر ذلك على الملك فقال : يا بني الله هل أتاك وحي الله فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده ؟ فقال : لم يأتيني وحي فبينما هم على ذلك أوحي الله إلى شعيا النبي عليه السلام إن أيت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصية ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته، فأتى شعيا ملك بني إسرائيل صديقة فقال : إن ربك قد أوحي إلي أن آمرك أن توصي وصيتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميت، فلما قال ذلك شعيا لصديقة أقبل على قبلته فصلى ودعا وبكى فقال وهو يتضرع ويبكي ويتضرع إلى الله بقلب مخلص : اللهم رب الأرباب وإله الآلهة يا قدوس المتقدس يا رحمان يا رؤوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم إذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله منك وأنت أعلم به مني سري وعلانيتي لك، وإن الرحمان استجاب دعاءه وكان عبدا صالحا، فأوحى الله إلى شعيا أن تخبر صديقة أن ربه قد استجاب له ورحمه وأخر أجله خمس عشرة سنة وأنجاه من عدوه سخاريب، فأتاه شعيا فأخبره بذلك، فلما قال له ذلك ذهب عنه الروع وانقطع عنه الحزن وخر ساجدا وقال : يا إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبحت وكرمت وعظمت أنت الذي تعطي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء عالم الغيب والشهادة أنت الأول والآخر والظاهر والباطن وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي فلما رفع رأسه أوحي الله إلى شعيا أن قل للملك صديقة فيأمر عبدا من عبيده فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفي فيصبح وقد برئ ففعل فشفي.
وقال الملك لشعيا سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا قال الله لشعيا قل إني قل إني قد كفيتك عدوك وأنجيتك منهم وأنهم سيصبحون كلهم موتى إلا سنحاريب وخمسة نفر من كتابه، فلما أصبحوا جاء صارخ فصرخ على باب المدينة يا ملك بني إسرائيل أن الله قد كفاك عدوك، فاخرج فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا، فلما خرج الملك التمس سنحاريب فلم يوجد في الموتى فأرسل الملك في طلبه فأدركه الطلب في مغارة وخمسة نفر من كتابه أحدهم بخت نصر، فجعلوهم في الجوامع ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل فلما رآهم خر ساجدا من حين طلعت الشمس إلى العصر، ثم قال لسخاريب كيف ترى فعل ربنا بكم ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون، فقال سنحاريب قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي يرحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي فلم أطع مرشدا ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، فقال صديقة الحمد لله رب العزة الذي كفاناكم بما شاء إن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامتك على ربك ولكنه إنما أبقاك ومن معك لتزدادوا شقوة في الدنيا وعذابا في الآخرة، ولتخبروا من ورائكم بما رأيتم من فعل ربنا بكم فتنذر من بعدكم، ولولا ذلك لقتلتكم ولدمك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلت ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه فقذف في رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيليا وكان يرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم، فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل القتل خير مما تفعل بنا فأمر بهم الملك إلى سجن القتل، فأوحي إلى شعيا النبي عليه السلام أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سخاريب ومن معه لينذروا من ورائهم وليكرمهم وليحملهم حتى يبلغوا بلادهم فبلغ شعيا الملك ذلك ففعل الملك صديقة ما أمر به، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده فقال له كهانه وسحرته يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم فلم تطعنا وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم، وكان أمر سخاريب تخويفا لهم ثم كفاهم الله تذكرة وعظة ثم لبث سخاريب بعد ذلك سبع سنين ثم مات واستخلف بخت نصر ابن ابنه فخلف بخت نصر على ما كان عليه جده يعمل عمله فلبث سبعة عشرة سنة.
ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك بعده حتى قتل بعضهم بعضا ونبيهم شعيا عليه السلام معهم ولا يقبلون منه فلما فعلوا ذلك قال الله لشعيا قم في قومك فأوحي على لسانك فلما قام النبي أنطق الله على لسانه بالوحي فقال يا سماء اسمعي ويا أرض أنصتي فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته فاصطنعهم لنفسه وخصهم بكرامته وفضلهم على عباده، وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها فأوى شاذتها وجمع ضالتها وجبر كسيرها وداوى مريضها وأسمن مهزولها وحفظ سمينها، فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت فقتل بعضها بعضا حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير، فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لا يدرون أنى جاءهم الحين، أن البعير مما يذكر وطنه فيستأبه وأن الحمار مما يذكر الأرى الذي يشبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر الأرى الذي يشبع عليه فيراجعه وإن الثور مما يذكر المرج الذي سمن منه فينتابه، وإن هؤلاء القوم لا يذكرون من حيث جاءهم الحين وهم أولو الألباب والعقول ليسوا ببقر ولا حمر، أنى ضارب لهم مثلا فليستمعوه قل لهم كيف ترون في أرض كانت خواء زمانا خربة مواتا لا عمر أن فيها وكان لها رب حكيم قوي فأقبل عليها بالعمارة وكره أن يخرب أرضه وهو قوي أو أن يقال ضيع وهو حكيم فأحاط عليها جدارا وشيد فيها قصرا وأنط نهرا وصفى فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها، وولى ذلك واستحفظه ذا رأي وهمة حفيظا قويا أمينا فلما أطلعت جاء طلعها خروبا قالوا بئست الأرض لهذه، نرى أن يهدم جدارها وقصرها ويدفن نهرها ويقبض فمها ويحرق غرسها حتى تصير كما كانت أول مرة خرابا مواتا لا عمران فيها، قال الله قل لهم فإن الجدار ديني وأن القصر شريعتي وأن النهر كتابي وأن القيم نبي وأن الغرس هم، وأن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وأني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم وأنه مثل ضربته لهم، يتقربون إلي بذبح البقر والغنم وليس ينالني اللحم ولا آكله، ويدعون أن يتقربوا إلي بالتقوى والكف على ذبح الأنفس التي حرمتها فأيديهم مخضوبة منها وثيابهم متزملة بدمائها، ويشيدون لي البيوت مساجد ويطهرون أجوافها ويتنجسون قلوبهم وأجسادها ويدنسوها، ويروقون لي المساجد ويزينونها ويخربون عقولهم وأخلاقهم ويفسدونها، فأي حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها وأي حاجة لي ترويق المساجد ولست أدخلها إنما أمرت برفعها لأذكر وأسبح فيها، يقولون صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تنور صلاتنا وتصدقنا فلم تزك صدقاتنا ودعونا بمثل حنين الحمار وبكينا بمثل عواء الذئاب في كل ذلك لا يستجاب لنا، قال الله : فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم ؟ ألست أسمع السامعين وأبصر الباصرين وأقرب المجيبين وأرحم الراحمين ؟ فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور يتقوون عليه بطعمة الحرام، وكيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادني وينتهك محارمي، أم كيف يزكوا عندي صدقاتهم وهم يتصدقون بأموال غيرهم إنما آجر عليها أهلها المعصومين، أم كيف أستجيب دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد إنما أستجيب للوداع اللين وإنما أسمع قول المستعف المسكين، وإن من علامة رضائي رضاء المساكين، يقولون لما سمعوا كلامي وبلغتهم رسالتي أنها أقاويل متقولة وأحاديث متوارثة وتأليف مما يؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا، ولو شاءوا أن يطلعوا على علم الغيب بما يوحي إليهم الشياطين اطلعوا، وأني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض قضاء أثبته وحتمته على نفسي وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بد أنه واقع فإن صدقوا بما ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى أنفذه أو في أي زمان يكون، وإن كانوا أن يقدروا على أن يأتوا بما يشاءون فليأتوا بمثل القدرة التي بها أمضيه فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون وإن كانوا يقدرون على أن يؤلفوا ما يشاءون فليؤلفوا مثل الحكمة التي بها أدبر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين، وإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض أن أجعل النبوة في الأجراء وأن أجعل الملك في الرعاء والعز في الأذلاء والقوة في الضعفاء والغني في الفقراء والعلم في الجهلة والحكم في الأميين، فسلهم متى هذا ومن القائم به ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون، فإني باعث لذلك نبيا أميا ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا متزين بالفحش ولا قوال للحياء، أسدده لكل خميل وأهب له كل خلق كريم ثم أجعل السكينة لبأسه والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقوله والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والعدل سيرته والحق شريعته والهدى أمامه والإسلام ملته وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة وأعلم به من الجهالة وأرفع به بعد الخمالة وأشهر به بعد النكرة وأكثر به بعد القلة وأغني به بعد العيلة وأجمع به بعد الفرقة وأؤلف به بين قلوب مختلفة وأهواء متشتتة وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر توحيدا إلي وإيمانا بي وإخلاصا لي، يصلون لي قياما وقعودا وركوعا وسجودا ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني، ألهمهم التكبير والتوحيد والتسبيح والتحميد والمدحة والتمجيد لي في مسيرهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، يكبرون ويهللون ويقدسون على رؤوس الأشراف ويطهرون لي الوجوه والأطراف ويعقدون الثياب على الأنصاف، قربانهم دماؤهم وأنا جيلهم صدورهم رهبان بالليل ليوث بالنهار، وذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم، فلما فرغ شعيا من مقالته عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فلقيته شجرة فانفلقت له فدخل فيها فأدركه الشيطان وأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها.
واستخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك رجلا منهم يقال له ناشيه بن أموص وبعث لهم أرميا بن حلقيا نبيا من سبط هارون بن عمران، وذكر ابن إسحاق أنه الخضر عليه السلام واسمه أرميا سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فقام عنها وهي تهتز خضراء فبعث الله أرميا إلى ذلك الملك يسدده ويرشده

﴿ فإذا جاء وعد أولاهما ﴾ أي وعد عقاب أولاهما ﴿ بعثنا ﴾ أي سلطنا ﴿ عليكم عبادا لنا ﴾ يعني سنحاريب من أهل نينوى كذا قال سعيد بن جبير، وقال قتادة يعني جالوت وجنوده الذي قتله داود عليه السلام وقال ابن إسحاق بخت نصر البابلي قال البغوي وهو الأظهر ﴿ أولي بأس شديد ﴾ أي ذووي قوة وبطش في الحرب ﴿ فجاسوا ﴾ أي ترددوا ﴿ خلال الديار ﴾ أي وسط دياركم يطلبونكم ويقتلونكم قال الزجاج الجوس طلب الشيء بالاستقصاء وقال الفراء ماسوا أي قتلوكم بين بيوتكم ﴿ وكان ﴾ وعد عقابكم ﴿ وعدا مفعولا ﴾ أي لا بد أن يفعل
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قال البغوي قال محمد بن إسحاق كانت بنو إسرائيل فيهم الأحداث والذنوب وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم محسنا إليهم، وكان أول ما نزل بهم بسبب ذنوبهم كما أخبر الله على لسان موسى عليه السلام أن ملكا منهم كان يدعى صديقه وكان الله تعالى إذا ملك الملك عليهم بعث معه نبيا يسدده ويرشده لا ينزل عليهم الكتب إنما يؤمرون بإتباع التوراة والأحكام التي فيها، فلما ملك ذلك الملك بعث الله معه شيعا بن أمضيا وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وشيعا هو الذي بشر بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام فقال أبشري أورى تعلم الآن يأتيك راكب الحمار ومن بعده صاحب البعير، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث وشعيا معه بعث الله سنحاريب ملك بابل معه ستمائة ألف راية فأقبل سائرا حتى نزل حول بيت المقدس، والملك مريض في ساقه قرحة، فجاء النبي شيعا فقال له يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل قد نزل بك هو وجنوده بستمائة ألف راية وقد هابهم الناس وفرقوا، فكبر ذلك على الملك فقال : يا بني الله هل أتاك وحي الله فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده ؟ فقال : لم يأتيني وحي فبينما هم على ذلك أوحي الله إلى شعيا النبي عليه السلام إن أيت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصية ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته، فأتى شعيا ملك بني إسرائيل صديقة فقال : إن ربك قد أوحي إلي أن آمرك أن توصي وصيتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميت، فلما قال ذلك شعيا لصديقة أقبل على قبلته فصلى ودعا وبكى فقال وهو يتضرع ويبكي ويتضرع إلى الله بقلب مخلص : اللهم رب الأرباب وإله الآلهة يا قدوس المتقدس يا رحمان يا رؤوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم إذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله منك وأنت أعلم به مني سري وعلانيتي لك، وإن الرحمان استجاب دعاءه وكان عبدا صالحا، فأوحى الله إلى شعيا أن تخبر صديقة أن ربه قد استجاب له ورحمه وأخر أجله خمس عشرة سنة وأنجاه من عدوه سخاريب، فأتاه شعيا فأخبره بذلك، فلما قال له ذلك ذهب عنه الروع وانقطع عنه الحزن وخر ساجدا وقال : يا إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبحت وكرمت وعظمت أنت الذي تعطي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء عالم الغيب والشهادة أنت الأول والآخر والظاهر والباطن وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي فلما رفع رأسه أوحي الله إلى شعيا أن قل للملك صديقة فيأمر عبدا من عبيده فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفي فيصبح وقد برئ ففعل فشفي.
وقال الملك لشعيا سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا قال الله لشعيا قل إني قل إني قد كفيتك عدوك وأنجيتك منهم وأنهم سيصبحون كلهم موتى إلا سنحاريب وخمسة نفر من كتابه، فلما أصبحوا جاء صارخ فصرخ على باب المدينة يا ملك بني إسرائيل أن الله قد كفاك عدوك، فاخرج فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا، فلما خرج الملك التمس سنحاريب فلم يوجد في الموتى فأرسل الملك في طلبه فأدركه الطلب في مغارة وخمسة نفر من كتابه أحدهم بخت نصر، فجعلوهم في الجوامع ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل فلما رآهم خر ساجدا من حين طلعت الشمس إلى العصر، ثم قال لسخاريب كيف ترى فعل ربنا بكم ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون، فقال سنحاريب قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي يرحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي فلم أطع مرشدا ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، فقال صديقة الحمد لله رب العزة الذي كفاناكم بما شاء إن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامتك على ربك ولكنه إنما أبقاك ومن معك لتزدادوا شقوة في الدنيا وعذابا في الآخرة، ولتخبروا من ورائكم بما رأيتم من فعل ربنا بكم فتنذر من بعدكم، ولولا ذلك لقتلتكم ولدمك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلت ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه فقذف في رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيليا وكان يرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم، فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل القتل خير مما تفعل بنا فأمر بهم الملك إلى سجن القتل، فأوحي إلى شعيا النبي عليه السلام أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سخاريب ومن معه لينذروا من ورائهم وليكرمهم وليحملهم حتى يبلغوا بلادهم فبلغ شعيا الملك ذلك ففعل الملك صديقة ما أمر به، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده فقال له كهانه وسحرته يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم فلم تطعنا وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم، وكان أمر سخاريب تخويفا لهم ثم كفاهم الله تذكرة وعظة ثم لبث سخاريب بعد ذلك سبع سنين ثم مات واستخلف بخت نصر ابن ابنه فخلف بخت نصر على ما كان عليه جده يعمل عمله فلبث سبعة عشرة سنة.
ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك بعده حتى قتل بعضهم بعضا ونبيهم شعيا عليه السلام معهم ولا يقبلون منه فلما فعلوا ذلك قال الله لشعيا قم في قومك فأوحي على لسانك فلما قام النبي أنطق الله على لسانه بالوحي فقال يا سماء اسمعي ويا أرض أنصتي فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته فاصطنعهم لنفسه وخصهم بكرامته وفضلهم على عباده، وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها فأوى شاذتها وجمع ضالتها وجبر كسيرها وداوى مريضها وأسمن مهزولها وحفظ سمينها، فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت فقتل بعضها بعضا حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير، فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لا يدرون أنى جاءهم الحين، أن البعير مما يذكر وطنه فيستأبه وأن الحمار مما يذكر الأرى الذي يشبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر الأرى الذي يشبع عليه فيراجعه وإن الثور مما يذكر المرج الذي سمن منه فينتابه، وإن هؤلاء القوم لا يذكرون من حيث جاءهم الحين وهم أولو الألباب والعقول ليسوا ببقر ولا حمر، أنى ضارب لهم مثلا فليستمعوه قل لهم كيف ترون في أرض كانت خواء زمانا خربة مواتا لا عمر أن فيها وكان لها رب حكيم قوي فأقبل عليها بالعمارة وكره أن يخرب أرضه وهو قوي أو أن يقال ضيع وهو حكيم فأحاط عليها جدارا وشيد فيها قصرا وأنط نهرا وصفى فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها، وولى ذلك واستحفظه ذا رأي وهمة حفيظا قويا أمينا فلما أطلعت جاء طلعها خروبا قالوا بئست الأرض لهذه، نرى أن يهدم جدارها وقصرها ويدفن نهرها ويقبض فمها ويحرق غرسها حتى تصير كما كانت أول مرة خرابا مواتا لا عمران فيها، قال الله قل لهم فإن الجدار ديني وأن القصر شريعتي وأن النهر كتابي وأن القيم نبي وأن الغرس هم، وأن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وأني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم وأنه مثل ضربته لهم، يتقربون إلي بذبح البقر والغنم وليس ينالني اللحم ولا آكله، ويدعون أن يتقربوا إلي بالتقوى والكف على ذبح الأنفس التي حرمتها فأيديهم مخضوبة منها وثيابهم متزملة بدمائها، ويشيدون لي البيوت مساجد ويطهرون أجوافها ويتنجسون قلوبهم وأجسادها ويدنسوها، ويروقون لي المساجد ويزينونها ويخربون عقولهم وأخلاقهم ويفسدونها، فأي حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها وأي حاجة لي ترويق المساجد ولست أدخلها إنما أمرت برفعها لأذكر وأسبح فيها، يقولون صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تنور صلاتنا وتصدقنا فلم تزك صدقاتنا ودعونا بمثل حنين الحمار وبكينا بمثل عواء الذئاب في كل ذلك لا يستجاب لنا، قال الله : فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم ؟ ألست أسمع السامعين وأبصر الباصرين وأقرب المجيبين وأرحم الراحمين ؟ فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور يتقوون عليه بطعمة الحرام، وكيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادني وينتهك محارمي، أم كيف يزكوا عندي صدقاتهم وهم يتصدقون بأموال غيرهم إنما آجر عليها أهلها المعصومين، أم كيف أستجيب دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد إنما أستجيب للوداع اللين وإنما أسمع قول المستعف المسكين، وإن من علامة رضائي رضاء المساكين، يقولون لما سمعوا كلامي وبلغتهم رسالتي أنها أقاويل متقولة وأحاديث متوارثة وتأليف مما يؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا، ولو شاءوا أن يطلعوا على علم الغيب بما يوحي إليهم الشياطين اطلعوا، وأني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض قضاء أثبته وحتمته على نفسي وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بد أنه واقع فإن صدقوا بما ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى أنفذه أو في أي زمان يكون، وإن كانوا أن يقدروا على أن يأتوا بما يشاءون فليأتوا بمثل القدرة التي بها أمضيه فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون وإن كانوا يقدرون على أن يؤلفوا ما يشاءون فليؤلفوا مثل الحكمة التي بها أدبر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين، وإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض أن أجعل النبوة في الأجراء وأن أجعل الملك في الرعاء والعز في الأذلاء والقوة في الضعفاء والغني في الفقراء والعلم في الجهلة والحكم في الأميين، فسلهم متى هذا ومن القائم به ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون، فإني باعث لذلك نبيا أميا ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا متزين بالفحش ولا قوال للحياء، أسدده لكل خميل وأهب له كل خلق كريم ثم أجعل السكينة لبأسه والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقوله والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والعدل سيرته والحق شريعته والهدى أمامه والإسلام ملته وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة وأعلم به من الجهالة وأرفع به بعد الخمالة وأشهر به بعد النكرة وأكثر به بعد القلة وأغني به بعد العيلة وأجمع به بعد الفرقة وأؤلف به بين قلوب مختلفة وأهواء متشتتة وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر توحيدا إلي وإيمانا بي وإخلاصا لي، يصلون لي قياما وقعودا وركوعا وسجودا ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني، ألهمهم التكبير والتوحيد والتسبيح والتحميد والمدحة والتمجيد لي في مسيرهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، يكبرون ويهللون ويقدسون على رؤوس الأشراف ويطهرون لي الوجوه والأطراف ويعقدون الثياب على الأنصاف، قربانهم دماؤهم وأنا جيلهم صدورهم رهبان بالليل ليوث بالنهار، وذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم، فلما فرغ شعيا من مقالته عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فلقيته شجرة فانفلقت له فدخل فيها فأدركه الشيطان وأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها.
واستخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك رجلا منهم يقال له ناشيه بن أموص وبعث لهم أرميا بن حلقيا نبيا من سبط هارون بن عمران، وذكر ابن إسحاق أنه الخضر عليه السلام واسمه أرميا سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فقام عنها وهي تهتز خضراء فبعث الله أرميا إلى ذلك الملك يسدده ويرشده

﴿ ثم رددنا لكم الكرة ﴾ أي الدولة والغلبة ﴿ عليهم ﴾ أي على الذين بعثوا قال البيضاوي وذلك بأن الله ألقي في قلب بهمن بن إسفنديار لما ورث الملك من جده كستاسف بن لهراسف شفقة عليهم، فرد أسراهم إلى الشام وملك دانيال عليهم واستولوا على من كان فيها من أتباع بخت نصر أو بأن سلط داود على جالوت فقتله ﴿ وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ﴾ مما كنتم والنفير من ينفر مع الرجل من قومه، وقيل هو جمع نفر على وزن عبيد والنفر قوم مجتمعون للذهاب إلى العدو، فلما رد الله لهم الكرة عاد البلد أحسن مما كان.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قال البغوي قال محمد بن إسحاق كانت بنو إسرائيل فيهم الأحداث والذنوب وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم محسنا إليهم، وكان أول ما نزل بهم بسبب ذنوبهم كما أخبر الله على لسان موسى عليه السلام أن ملكا منهم كان يدعى صديقه وكان الله تعالى إذا ملك الملك عليهم بعث معه نبيا يسدده ويرشده لا ينزل عليهم الكتب إنما يؤمرون بإتباع التوراة والأحكام التي فيها، فلما ملك ذلك الملك بعث الله معه شيعا بن أمضيا وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وشيعا هو الذي بشر بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام فقال أبشري أورى تعلم الآن يأتيك راكب الحمار ومن بعده صاحب البعير، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث وشعيا معه بعث الله سنحاريب ملك بابل معه ستمائة ألف راية فأقبل سائرا حتى نزل حول بيت المقدس، والملك مريض في ساقه قرحة، فجاء النبي شيعا فقال له يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل قد نزل بك هو وجنوده بستمائة ألف راية وقد هابهم الناس وفرقوا، فكبر ذلك على الملك فقال : يا بني الله هل أتاك وحي الله فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده ؟ فقال : لم يأتيني وحي فبينما هم على ذلك أوحي الله إلى شعيا النبي عليه السلام إن أيت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصية ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته، فأتى شعيا ملك بني إسرائيل صديقة فقال : إن ربك قد أوحي إلي أن آمرك أن توصي وصيتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميت، فلما قال ذلك شعيا لصديقة أقبل على قبلته فصلى ودعا وبكى فقال وهو يتضرع ويبكي ويتضرع إلى الله بقلب مخلص : اللهم رب الأرباب وإله الآلهة يا قدوس المتقدس يا رحمان يا رؤوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم إذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله منك وأنت أعلم به مني سري وعلانيتي لك، وإن الرحمان استجاب دعاءه وكان عبدا صالحا، فأوحى الله إلى شعيا أن تخبر صديقة أن ربه قد استجاب له ورحمه وأخر أجله خمس عشرة سنة وأنجاه من عدوه سخاريب، فأتاه شعيا فأخبره بذلك، فلما قال له ذلك ذهب عنه الروع وانقطع عنه الحزن وخر ساجدا وقال : يا إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبحت وكرمت وعظمت أنت الذي تعطي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء عالم الغيب والشهادة أنت الأول والآخر والظاهر والباطن وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي فلما رفع رأسه أوحي الله إلى شعيا أن قل للملك صديقة فيأمر عبدا من عبيده فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفي فيصبح وقد برئ ففعل فشفي.
وقال الملك لشعيا سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا قال الله لشعيا قل إني قل إني قد كفيتك عدوك وأنجيتك منهم وأنهم سيصبحون كلهم موتى إلا سنحاريب وخمسة نفر من كتابه، فلما أصبحوا جاء صارخ فصرخ على باب المدينة يا ملك بني إسرائيل أن الله قد كفاك عدوك، فاخرج فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا، فلما خرج الملك التمس سنحاريب فلم يوجد في الموتى فأرسل الملك في طلبه فأدركه الطلب في مغارة وخمسة نفر من كتابه أحدهم بخت نصر، فجعلوهم في الجوامع ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل فلما رآهم خر ساجدا من حين طلعت الشمس إلى العصر، ثم قال لسخاريب كيف ترى فعل ربنا بكم ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون، فقال سنحاريب قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي يرحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي فلم أطع مرشدا ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، فقال صديقة الحمد لله رب العزة الذي كفاناكم بما شاء إن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامتك على ربك ولكنه إنما أبقاك ومن معك لتزدادوا شقوة في الدنيا وعذابا في الآخرة، ولتخبروا من ورائكم بما رأيتم من فعل ربنا بكم فتنذر من بعدكم، ولولا ذلك لقتلتكم ولدمك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلت ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه فقذف في رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيليا وكان يرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم، فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل القتل خير مما تفعل بنا فأمر بهم الملك إلى سجن القتل، فأوحي إلى شعيا النبي عليه السلام أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سخاريب ومن معه لينذروا من ورائهم وليكرمهم وليحملهم حتى يبلغوا بلادهم فبلغ شعيا الملك ذلك ففعل الملك صديقة ما أمر به، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده فقال له كهانه وسحرته يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم فلم تطعنا وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم، وكان أمر سخاريب تخويفا لهم ثم كفاهم الله تذكرة وعظة ثم لبث سخاريب بعد ذلك سبع سنين ثم مات واستخلف بخت نصر ابن ابنه فخلف بخت نصر على ما كان عليه جده يعمل عمله فلبث سبعة عشرة سنة.
ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك بعده حتى قتل بعضهم بعضا ونبيهم شعيا عليه السلام معهم ولا يقبلون منه فلما فعلوا ذلك قال الله لشعيا قم في قومك فأوحي على لسانك فلما قام النبي أنطق الله على لسانه بالوحي فقال يا سماء اسمعي ويا أرض أنصتي فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته فاصطنعهم لنفسه وخصهم بكرامته وفضلهم على عباده، وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها فأوى شاذتها وجمع ضالتها وجبر كسيرها وداوى مريضها وأسمن مهزولها وحفظ سمينها، فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت فقتل بعضها بعضا حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير، فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لا يدرون أنى جاءهم الحين، أن البعير مما يذكر وطنه فيستأبه وأن الحمار مما يذكر الأرى الذي يشبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر الأرى الذي يشبع عليه فيراجعه وإن الثور مما يذكر المرج الذي سمن منه فينتابه، وإن هؤلاء القوم لا يذكرون من حيث جاءهم الحين وهم أولو الألباب والعقول ليسوا ببقر ولا حمر، أنى ضارب لهم مثلا فليستمعوه قل لهم كيف ترون في أرض كانت خواء زمانا خربة مواتا لا عمر أن فيها وكان لها رب حكيم قوي فأقبل عليها بالعمارة وكره أن يخرب أرضه وهو قوي أو أن يقال ضيع وهو حكيم فأحاط عليها جدارا وشيد فيها قصرا وأنط نهرا وصفى فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها، وولى ذلك واستحفظه ذا رأي وهمة حفيظا قويا أمينا فلما أطلعت جاء طلعها خروبا قالوا بئست الأرض لهذه، نرى أن يهدم جدارها وقصرها ويدفن نهرها ويقبض فمها ويحرق غرسها حتى تصير كما كانت أول مرة خرابا مواتا لا عمران فيها، قال الله قل لهم فإن الجدار ديني وأن القصر شريعتي وأن النهر كتابي وأن القيم نبي وأن الغرس هم، وأن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وأني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم وأنه مثل ضربته لهم، يتقربون إلي بذبح البقر والغنم وليس ينالني اللحم ولا آكله، ويدعون أن يتقربوا إلي بالتقوى والكف على ذبح الأنفس التي حرمتها فأيديهم مخضوبة منها وثيابهم متزملة بدمائها، ويشيدون لي البيوت مساجد ويطهرون أجوافها ويتنجسون قلوبهم وأجسادها ويدنسوها، ويروقون لي المساجد ويزينونها ويخربون عقولهم وأخلاقهم ويفسدونها، فأي حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها وأي حاجة لي ترويق المساجد ولست أدخلها إنما أمرت برفعها لأذكر وأسبح فيها، يقولون صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تنور صلاتنا وتصدقنا فلم تزك صدقاتنا ودعونا بمثل حنين الحمار وبكينا بمثل عواء الذئاب في كل ذلك لا يستجاب لنا، قال الله : فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم ؟ ألست أسمع السامعين وأبصر الباصرين وأقرب المجيبين وأرحم الراحمين ؟ فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور يتقوون عليه بطعمة الحرام، وكيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادني وينتهك محارمي، أم كيف يزكوا عندي صدقاتهم وهم يتصدقون بأموال غيرهم إنما آجر عليها أهلها المعصومين، أم كيف أستجيب دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد إنما أستجيب للوداع اللين وإنما أسمع قول المستعف المسكين، وإن من علامة رضائي رضاء المساكين، يقولون لما سمعوا كلامي وبلغتهم رسالتي أنها أقاويل متقولة وأحاديث متوارثة وتأليف مما يؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا، ولو شاءوا أن يطلعوا على علم الغيب بما يوحي إليهم الشياطين اطلعوا، وأني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض قضاء أثبته وحتمته على نفسي وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بد أنه واقع فإن صدقوا بما ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى أنفذه أو في أي زمان يكون، وإن كانوا أن يقدروا على أن يأتوا بما يشاءون فليأتوا بمثل القدرة التي بها أمضيه فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون وإن كانوا يقدرون على أن يؤلفوا ما يشاءون فليؤلفوا مثل الحكمة التي بها أدبر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين، وإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض أن أجعل النبوة في الأجراء وأن أجعل الملك في الرعاء والعز في الأذلاء والقوة في الضعفاء والغني في الفقراء والعلم في الجهلة والحكم في الأميين، فسلهم متى هذا ومن القائم به ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون، فإني باعث لذلك نبيا أميا ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا متزين بالفحش ولا قوال للحياء، أسدده لكل خميل وأهب له كل خلق كريم ثم أجعل السكينة لبأسه والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقوله والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والعدل سيرته والحق شريعته والهدى أمامه والإسلام ملته وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة وأعلم به من الجهالة وأرفع به بعد الخمالة وأشهر به بعد النكرة وأكثر به بعد القلة وأغني به بعد العيلة وأجمع به بعد الفرقة وأؤلف به بين قلوب مختلفة وأهواء متشتتة وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر توحيدا إلي وإيمانا بي وإخلاصا لي، يصلون لي قياما وقعودا وركوعا وسجودا ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني، ألهمهم التكبير والتوحيد والتسبيح والتحميد والمدحة والتمجيد لي في مسيرهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، يكبرون ويهللون ويقدسون على رؤوس الأشراف ويطهرون لي الوجوه والأطراف ويعقدون الثياب على الأنصاف، قربانهم دماؤهم وأنا جيلهم صدورهم رهبان بالليل ليوث بالنهار، وذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم، فلما فرغ شعيا من مقالته عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فلقيته شجرة فانفلقت له فدخل فيها فأدركه الشيطان وأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها.
واستخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك رجلا منهم يقال له ناشيه بن أموص وبعث لهم أرميا بن حلقيا نبيا من سبط هارون بن عمران، وذكر ابن إسحاق أنه الخضر عليه السلام واسمه أرميا سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فقام عنها وهي تهتز خضراء فبعث الله أرميا إلى ذلك الملك يسدده ويرشده

قال الله تعالى﴿ إن أحسنتم ﴾ بالطاعة ﴿ أحسنتم لأنفسكم ﴾ لأن ثوابه لها والله تعالى غني عن طاعتكم ﴿ وإن أسأتم ﴾ بالفساد ﴿ فلها ﴾ ذكر اللام موضع عليها إزدواجا يعني وبالها عليها ﴿ فإذا جاء وعد ﴾ أي وقت وعد عقوبة المرة ﴿ الآخرة ليسؤا وجوهكم ﴾ أي بعثناهم ليسؤوا وجوهكم أي يجعلوها بادية آثار المساءة فيها، حذف بعثنا ههنا لدلالة ذكره أولا عليه، قرأ الكسائي ويعقوب لنسوءا بالنون وفتح الهمزة على التكلم والتعظيم على وفق قضينا وبعثنا وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر بالياء التحتانية وفتح الهمزة على صيغة الغائب الواحد أي ليسوءا الله وجوهكم أو ليسوءا الوعد أو البعث والباقون بالياء التحتانية وضم الهمزة على صيغة الجمع المذكر للغائب أي ليسوء والعباد أولوا البأس الشديد وجوهكم، قال البغوي سلط الله عليهم الفرس والروم وخردوش وططيوس حتى قتلوهم وسبوهم ونفوهم عن ديارهم ﴿ وليدخلوا المسجد ﴾ يعني بيت المقدس ونواحيه ﴿ كما دخلوه أول مرة وليتبروا ﴾ أي ليهلكوا ﴿ ما علوا ﴾ أي ما غلبوا أو استولوا عليه أو مدة علوهم ﴿ تتبيرا ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:قال البغوي قال محمد بن إسحاق كانت بنو إسرائيل فيهم الأحداث والذنوب وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم محسنا إليهم، وكان أول ما نزل بهم بسبب ذنوبهم كما أخبر الله على لسان موسى عليه السلام أن ملكا منهم كان يدعى صديقه وكان الله تعالى إذا ملك الملك عليهم بعث معه نبيا يسدده ويرشده لا ينزل عليهم الكتب إنما يؤمرون بإتباع التوراة والأحكام التي فيها، فلما ملك ذلك الملك بعث الله معه شيعا بن أمضيا وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وشيعا هو الذي بشر بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام فقال أبشري أورى تعلم الآن يأتيك راكب الحمار ومن بعده صاحب البعير، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث وشعيا معه بعث الله سنحاريب ملك بابل معه ستمائة ألف راية فأقبل سائرا حتى نزل حول بيت المقدس، والملك مريض في ساقه قرحة، فجاء النبي شيعا فقال له يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل قد نزل بك هو وجنوده بستمائة ألف راية وقد هابهم الناس وفرقوا، فكبر ذلك على الملك فقال : يا بني الله هل أتاك وحي الله فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده ؟ فقال : لم يأتيني وحي فبينما هم على ذلك أوحي الله إلى شعيا النبي عليه السلام إن أيت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصية ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته، فأتى شعيا ملك بني إسرائيل صديقة فقال : إن ربك قد أوحي إلي أن آمرك أن توصي وصيتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميت، فلما قال ذلك شعيا لصديقة أقبل على قبلته فصلى ودعا وبكى فقال وهو يتضرع ويبكي ويتضرع إلى الله بقلب مخلص : اللهم رب الأرباب وإله الآلهة يا قدوس المتقدس يا رحمان يا رؤوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم إذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله منك وأنت أعلم به مني سري وعلانيتي لك، وإن الرحمان استجاب دعاءه وكان عبدا صالحا، فأوحى الله إلى شعيا أن تخبر صديقة أن ربه قد استجاب له ورحمه وأخر أجله خمس عشرة سنة وأنجاه من عدوه سخاريب، فأتاه شعيا فأخبره بذلك، فلما قال له ذلك ذهب عنه الروع وانقطع عنه الحزن وخر ساجدا وقال : يا إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبحت وكرمت وعظمت أنت الذي تعطي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء عالم الغيب والشهادة أنت الأول والآخر والظاهر والباطن وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي فلما رفع رأسه أوحي الله إلى شعيا أن قل للملك صديقة فيأمر عبدا من عبيده فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفي فيصبح وقد برئ ففعل فشفي.
وقال الملك لشعيا سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا قال الله لشعيا قل إني قل إني قد كفيتك عدوك وأنجيتك منهم وأنهم سيصبحون كلهم موتى إلا سنحاريب وخمسة نفر من كتابه، فلما أصبحوا جاء صارخ فصرخ على باب المدينة يا ملك بني إسرائيل أن الله قد كفاك عدوك، فاخرج فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا، فلما خرج الملك التمس سنحاريب فلم يوجد في الموتى فأرسل الملك في طلبه فأدركه الطلب في مغارة وخمسة نفر من كتابه أحدهم بخت نصر، فجعلوهم في الجوامع ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل فلما رآهم خر ساجدا من حين طلعت الشمس إلى العصر، ثم قال لسخاريب كيف ترى فعل ربنا بكم ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون، فقال سنحاريب قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي يرحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي فلم أطع مرشدا ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، فقال صديقة الحمد لله رب العزة الذي كفاناكم بما شاء إن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامتك على ربك ولكنه إنما أبقاك ومن معك لتزدادوا شقوة في الدنيا وعذابا في الآخرة، ولتخبروا من ورائكم بما رأيتم من فعل ربنا بكم فتنذر من بعدكم، ولولا ذلك لقتلتكم ولدمك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلت ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه فقذف في رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيليا وكان يرزقهم كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم، فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل القتل خير مما تفعل بنا فأمر بهم الملك إلى سجن القتل، فأوحي إلى شعيا النبي عليه السلام أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سخاريب ومن معه لينذروا من ورائهم وليكرمهم وليحملهم حتى يبلغوا بلادهم فبلغ شعيا الملك ذلك ففعل الملك صديقة ما أمر به، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده فقال له كهانه وسحرته يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم فلم تطعنا وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم، وكان أمر سخاريب تخويفا لهم ثم كفاهم الله تذكرة وعظة ثم لبث سخاريب بعد ذلك سبع سنين ثم مات واستخلف بخت نصر ابن ابنه فخلف بخت نصر على ما كان عليه جده يعمل عمله فلبث سبعة عشرة سنة.
ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك بعده حتى قتل بعضهم بعضا ونبيهم شعيا عليه السلام معهم ولا يقبلون منه فلما فعلوا ذلك قال الله لشعيا قم في قومك فأوحي على لسانك فلما قام النبي أنطق الله على لسانه بالوحي فقال يا سماء اسمعي ويا أرض أنصتي فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته فاصطنعهم لنفسه وخصهم بكرامته وفضلهم على عباده، وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها فأوى شاذتها وجمع ضالتها وجبر كسيرها وداوى مريضها وأسمن مهزولها وحفظ سمينها، فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت فقتل بعضها بعضا حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير، فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لا يدرون أنى جاءهم الحين، أن البعير مما يذكر وطنه فيستأبه وأن الحمار مما يذكر الأرى الذي يشبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر الأرى الذي يشبع عليه فيراجعه وإن الثور مما يذكر المرج الذي سمن منه فينتابه، وإن هؤلاء القوم لا يذكرون من حيث جاءهم الحين وهم أولو الألباب والعقول ليسوا ببقر ولا حمر، أنى ضارب لهم مثلا فليستمعوه قل لهم كيف ترون في أرض كانت خواء زمانا خربة مواتا لا عمر أن فيها وكان لها رب حكيم قوي فأقبل عليها بالعمارة وكره أن يخرب أرضه وهو قوي أو أن يقال ضيع وهو حكيم فأحاط عليها جدارا وشيد فيها قصرا وأنط نهرا وصفى فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها، وولى ذلك واستحفظه ذا رأي وهمة حفيظا قويا أمينا فلما أطلعت جاء طلعها خروبا قالوا بئست الأرض لهذه، نرى أن يهدم جدارها وقصرها ويدفن نهرها ويقبض فمها ويحرق غرسها حتى تصير كما كانت أول مرة خرابا مواتا لا عمران فيها، قال الله قل لهم فإن الجدار ديني وأن القصر شريعتي وأن النهر كتابي وأن القيم نبي وأن الغرس هم، وأن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وأني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم وأنه مثل ضربته لهم، يتقربون إلي بذبح البقر والغنم وليس ينالني اللحم ولا آكله، ويدعون أن يتقربوا إلي بالتقوى والكف على ذبح الأنفس التي حرمتها فأيديهم مخضوبة منها وثيابهم متزملة بدمائها، ويشيدون لي البيوت مساجد ويطهرون أجوافها ويتنجسون قلوبهم وأجسادها ويدنسوها، ويروقون لي المساجد ويزينونها ويخربون عقولهم وأخلاقهم ويفسدونها، فأي حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها وأي حاجة لي ترويق المساجد ولست أدخلها إنما أمرت برفعها لأذكر وأسبح فيها، يقولون صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تنور صلاتنا وتصدقنا فلم تزك صدقاتنا ودعونا بمثل حنين الحمار وبكينا بمثل عواء الذئاب في كل ذلك لا يستجاب لنا، قال الله : فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم ؟ ألست أسمع السامعين وأبصر الباصرين وأقرب المجيبين وأرحم الراحمين ؟ فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور يتقوون عليه بطعمة الحرام، وكيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادني وينتهك محارمي، أم كيف يزكوا عندي صدقاتهم وهم يتصدقون بأموال غيرهم إنما آجر عليها أهلها المعصومين، أم كيف أستجيب دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد إنما أستجيب للوداع اللين وإنما أسمع قول المستعف المسكين، وإن من علامة رضائي رضاء المساكين، يقولون لما سمعوا كلامي وبلغتهم رسالتي أنها أقاويل متقولة وأحاديث متوارثة وتأليف مما يؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا، ولو شاءوا أن يطلعوا على علم الغيب بما يوحي إليهم الشياطين اطلعوا، وأني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض قضاء أثبته وحتمته على نفسي وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بد أنه واقع فإن صدقوا بما ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى أنفذه أو في أي زمان يكون، وإن كانوا أن يقدروا على أن يأتوا بما يشاءون فليأتوا بمثل القدرة التي بها أمضيه فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون وإن كانوا يقدرون على أن يؤلفوا ما يشاءون فليؤلفوا مثل الحكمة التي بها أدبر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين، وإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض أن أجعل النبوة في الأجراء وأن أجعل الملك في الرعاء والعز في الأذلاء والقوة في الضعفاء والغني في الفقراء والعلم في الجهلة والحكم في الأميين، فسلهم متى هذا ومن القائم به ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون، فإني باعث لذلك نبيا أميا ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا متزين بالفحش ولا قوال للحياء، أسدده لكل خميل وأهب له كل خلق كريم ثم أجعل السكينة لبأسه والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقوله والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والعدل سيرته والحق شريعته والهدى أمامه والإسلام ملته وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة وأعلم به من الجهالة وأرفع به بعد الخمالة وأشهر به بعد النكرة وأكثر به بعد القلة وأغني به بعد العيلة وأجمع به بعد الفرقة وأؤلف به بين قلوب مختلفة وأهواء متشتتة وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر توحيدا إلي وإيمانا بي وإخلاصا لي، يصلون لي قياما وقعودا وركوعا وسجودا ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني، ألهمهم التكبير والتوحيد والتسبيح والتحميد والمدحة والتمجيد لي في مسيرهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، يكبرون ويهللون ويقدسون على رؤوس الأشراف ويطهرون لي الوجوه والأطراف ويعقدون الثياب على الأنصاف، قربانهم دماؤهم وأنا جيلهم صدورهم رهبان بالليل ليوث بالنهار، وذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم، فلما فرغ شعيا من مقالته عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فلقيته شجرة فانفلقت له فدخل فيها فأدركه الشيطان وأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها.
واستخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك رجلا منهم يقال له ناشيه بن أموص وبعث لهم أرميا بن حلقيا نبيا من سبط هارون بن عمران، وذكر ابن إسحاق أنه الخضر عليه السلام واسمه أرميا سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فقام عنها وهي تهتز خضراء فبعث الله أرميا إلى ذلك الملك يسدده ويرشده

﴿ عسى ربكم ﴾ يا بني إسرائيل ﴿ أن يرحمكم ﴾ بعد ذلك إن آمنتم بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصلحتم أعمالكم بإتباع القرآن ﴿ وإن عدتم ﴾ إلى المعصية ومخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ عدنا ﴾ إلى العقوبة والانتقام فرحم الله من آمن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم مثل عبد الله بن سلام ومن معه والنجاشي وكعب الأحبار وغيرهم وأثنى عليهم بقوله :﴿ من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ﴾١ الخ وبقوله :﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع ﴾٢ الخ، وعاد بنو قريظة وبنو النضير وأشباههم فأرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم وسحروه وجعلوا السم في طعامه وحاربوه فعاد الله عليهم بالانتقام فقتل بني قريظة وأجلى بني النضير وضرب عليهم الجزية يؤدونها عن يد وهم صاغرون ﴿ وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ﴾ محبسا في الآخرة لا يقدرون على الخروج منها أبدا، وقيل : بساطا كما يبسط الحصير
١ سورة آل عمران، الآية: ١١٣..
٢ سورة المائدة، الآية: ٨٣..
﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي ﴾ للحالة وللطريقة التي ﴿ هي أقوم ﴾ الحالات أو الطرق وأعد لها أو الكلمة التي هي أعدل وهي شهادة أن لا إله إلا الله ﴿ ويبشر ﴾ قرأ حمزة والكسائي بالتخفيف من الأفعال والباقون بالتشديد من التفعيل يعني يبشر القرآن ﴿ المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم ﴾ أي بأن لهم ﴿ أجرا كبيرا ﴾ أي الجنة
﴿ وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما١٠ ﴾ أي النار عطف على أن لهم أجرا كبيرا يعني يبشر المؤمنين ببشارتين ثوابهم وعذاب أعدائهم أو على يبشر بإضمار يخبر
﴿ ويدع الإنسان ﴾ سقط الواو من يدعو من اللفظ لاجتماع الساكنين ومن الخط توقيفا على خلاف القياس، يعني يدعو الله عند غضبه على نفسه وأهله وماله ﴿ بالشر ﴾ أو يدعوه بما يحسبه خيرا وهو شر كمن يدعو أن يعطي الله حظه في الدنيا ﴿ دعاءه ﴾ أي مثل دعائه ﴿ بالخير ﴾ وذلك أن يعطيه ربه في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ويقيه من النار ولو استجاب الله دعائه على نفسه لهلك ولكن الله تعالى قد لا يستجيب بفضله عليه ﴿ وكان الإنسان عجولا ﴾ يسارع إلى كل ما يخطر بباله لا ينظر إلى عاقبته فيدعو على نفسه ما يكره أن يستجاب له وقال ابن عباس يدعو ضجر الأصبر له على سراء ولا على ضراء، قيل : المراد بالإنسان آدم فإنه لما انتهى الروح إلى سرته ذهب لينهض فسقط، أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروى الواقدي في المغازي من طريق مولى عائشة عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها بأسير فقال : اختفي به قالت : فلهوت مع امرأة فخرج ولم أشعر، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عنه فقالت : لا أدري وغفلت عنه فخرج فقال : قطع الله يدك ثم خرج عليه السلام فصاح به فخرجوا في طلبه حتى وجدوه، ثم دخل على فراشي وأنا أقلب يدي فقال : ما لك ؟ قلت : أنتظر دعوتك، فرفع يديه وقال :( اللهم إنما أنا بشر أسف وأغضب كما يغضب البشر فأيما مؤمن أو مؤمنة دعوت عليه بدعوة فاجعلها زكاة وطهرا والله أعلم. والظاهر أن المراد بالإنسان الكافر وبالدعاء الدعاء بالعذاب استعجالا واستهزاء كقول النضر بن الحارث اللهم انصر خير الحربين ﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ﴾ فضرب عنقه يوم بدر صبرا.
﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين ﴾ علامتين دالتين على القادر الحكيم بتعاقبهما على نسق واحد مع إمكان غيره ﴿ فمحونا آية الليل ﴾ أي الآية التي هي الليل والإضافة بيانية كإضافة العدد إلى المعدود يعني جعلناها مظلمة ﴿ وجعلنا آية النهار مبصرة ﴾ يعني جعلنا النهار مضيئا مبصرا للناس وقيل : المراد بالآيتين الشمس والقمر وتقدير الكلام وجعلنا بين الليل والنهار آيتين أو جعلنا الليل والنهار ذوي آيتين فمحونا آية الليل يعني القمر يعني أنقصنا نوره شيئا فشيئا إلى المحاق وجعلنا آية النهار يعني الشمس مبصرة ذات شعاع دائم يبصر الأشياء بضوئها، قال الكسائي يقول العرب أبصر النهار إذا صار بحيث يبصر بها، قال ابن عباس جعل الله ضوء الشمس سبعين جزءا ونور القمر كذلك فمحى من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعلها مع نور الشمس حتى أن الله تعالى أمر جبرئيل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات فطمس عنه الضوء وبقى فيه النور، وسأل أبن الكوا عليا عليه السلام عن السواد الذي في القمر فقال هو أثر المحو ﴿ لتبتغوا فضلا من ربكم ﴾ أي الراحة والفراغ للطاعة بالليل وأسباب المعاش بالنهار ﴿ ولتعلموا ﴾ باختلافهما أو بحركاتهما ﴿ عدد السنين و ﴾جنس ﴿ والحساب وكل شيء ﴾ تحتاجون إليه في أمور الدين والدنيا ﴿ فصلناه تفصيلا ﴾ أي بيناه بيانا شافيا غير ملتبسين فأزحنا عللكم وما تركنا لكم حجة علينا.
﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ﴾ قال ابن عباس عمله وما قدر عليه فهو ملازمه أينما كان، وقال الكلبي ومقاتل خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسب به وقال الحسن يمنه وشؤمه، قال أهل المعاني أراد بالطائر ما قضى عليه أنه عامله وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاء، سمي طائرا على عادة العرب فيما كانت تتفائل وتتشائم به من سوانح الطير وبوارحها، وقال أبو عبيدة والقتيبي أراد بالطائر حظه من الخير والشر من قولهم طارسهم فلان بكذا، وخص العنق من سائر الأعضاء لأنه موضع القلائد والأطواق وغيرها مما يزين أو يشين، فجرى كلام العرب في تشبيه الأشياء اللازمة إلى الأعناق، وعن مجاهد قال : ما من مولود إلا في عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد ﴿ ونخرج له يوم القيامة كتابا ﴾ هي صحيفة عمله قرأ الجمهور نخرج بالنون على التكلم والتعظيم من الأفعال، وكتابا منصوبا على المفعولية أو على أنه حال من مفعول محذوف وهو الطائر ويؤيده قراءة يعقوب وأبي جعفر، وقرأ يعقوب والحسن ومجاهد بفتح الياء المثناة التحتانية وضم الراء أي يخرج له الطائر يوم كتابا ﴿ يلقاه ﴾ قرأ ابن عامر وأبو جعفر بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف يعني يلقي الإنسان ذلك الكتاب أي يؤتاه، والباقون بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف أي يراه ﴿ منشورا ﴾ وهما صفتان لكتاب أو يلقاه صفة ومنشورا حال من مفعوله، قال البغوي جاء في الآثار إن الله تعالى يأمر الملك بطي الصحيفة إذا تم عمر العبد فلا تنشر إلى يوم القيامة
﴿ اقرأ كتابك ﴾ أي يقال له أو خط فيها اقرأ كتابك ﴿ كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ﴾ أي كفى نفسك والباء زائدة وحسيبا تميز وعلى صلته، لأنه إما بمعنى الحاسب كالصريم بمعنى الصارم من حسب عليه كذا، أو بمعنى الكافي وضع موضع الشهيد لأنه يكفي المدعي ما أهمه وتذكيره على أن الحساب والشهادة مما يتولاه الرجال، كأمه قيل كفى بنفسك اليوم رجلا حسيبا، أو على تأويل النفس بالشخص. أخرج البيهقي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الكتب كلها تحت العرش فإذا كان الموقف بعث الله تعالى ريحا فتطير بالإيمان والشمائل ) وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئا في الدنيا، وقال البغوي قال الحسن لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك وأخرج ابن المبارك عن الحسن قال : كل أوتى في عنقه قلادة فيها نسخة عملها فإذا طويت قلدها وإذا بعث نشرت له، وقيل له ﴿ أقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا١٤ ﴾ وأخرج أصبهاني عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الرجل ليؤتي كتابه منشورا فيقول : يا رب فأين حسنات كذا وكذا عملتها ليست في صحيفتي ؟ فيقول : محوت باغتيابك للناس ).
﴿ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ﴾ لها ثوابها لا ينجي اهتداؤه غيره ﴿ ومن ضل فإنما يضل عليها ﴾ عليها عقابه لا يردى ظلاله سواه والله أعلم. أخرج ابن عبد البر بسند ضعيف عن عائشة قالت : سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين ؟ قال :( هم من آبائهم ) ثم سألته بعد ذلك فقال :( الله أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعدما استحكم الإسلام فنزلت ﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ أي لا تحمل حاملة حمل نفس أخرى أي ثقلها من الآثام بل إنما تحمل وزر نفسها ﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ يبين الحجج ويمهد الشرائع فيلزمهم الحجة، قال الشافعي في هذه الآية دليل على أنه لا وجوب قبل البعثة بالعقل فلا يعذب من لم يبلغه الدعوة على الشرك ولا على شيء من المعاصي وقال أبو حنيفة رضي الله عنهم : الحاكم هو الله تعالى لكن العقل قد يدرك بعض ما وجب عليه، وهو التوحيد والتنزيهات والإقرار بالنبوة بعد مشاهدة المعجزات، فهذه الأمور غير متوقفة على الشرع وإلا لزم الدور لأن الشرع يتوقف عليها، فيجب على الإنسان إتيان هذه الأمور قبل بعثة الرسل ويعذب المشرك وإن لم يبلغه الدعوة، ويؤيد هذا القول ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( يقول الله : يا آدم فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك، قال : أخرج بعث النار، قال : وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فعنده يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد، قالوا : يا رسول الله أينا ذلك واحد ؟ قال : أبشروا فإن منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج ألف )١ الحديث. وجه الاستدلال أن يأجوج ومأجوج رجال وراء السد لم يبعث فيهم رسول، فلولا التعذيب على الشرك قبل بعثة الرسل لما عذبت يأجوج ومأجوج، وقد ورد في أهل الفترة ومن لم يبلغه الدعوة من الأمم أحاديث تدل على أنهم يمتحنون يوم القيامة، منها ما أخرج البزار عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إذا كان يوم القيامة جاءت أهل الجاهلية يحملون أوزارهم على ظهورهم، فيسألهم ربهم، فيقولون ربنا لم ترسل إلينا رسولا ولم يأتنا أمر لك، ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك، فيقول لهم ربهم أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعوني فيأخذ على ذلك مواثيقهم، فقال : اعمدوا لها فأدخلوها أي النار فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا فرجعوا فقالوا : ربنا فرقنا منها فلا نستطيع أن ندخلها، فيقول : أدخلوها داخرين ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( لو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسلاما ) وما أخرج أحمد وابن راهويه في مسنديهما والبيهقي في كتاب الاعتقاد وصححه عن الأسود بن سريغ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أربعة يحتجون يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة فأما الأصم فيقول : رب جاء الإسلام وما أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول يا رب جاء الإسلام والصبيان يخذفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول : لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في فترة فيقول : يا رب ما أتاني لك رسول، فأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن أدخلوا النار فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا ) وما أخرج الثلاثة أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا مثله غير أنه كان في آخره فمن دخلها كانت عليه بردا أو سلاما، ومن لم يدخلها يسحب إليها، وأخرج المبارك عن مسلم بن يسار قال لي إنه يبعث يوم القيامة عبد كان في الدنيا أعمى أصم أبكم كذلك لم يسمع شيئا قط ولم يبصر شيئا قط ولم يتكلم شيئا، فيقول الله تعالى ما عملت فيما أمرت به ؟ فيقول : أي رب والله ما جعلت لي بصرا أبصر به الناس فأقتدي بهم، وما جعلت لي سمعا فأسمع به ما أمرت به و نهيت عنه، وما جعلت لي لسانا فأتكلم بخير أو بشر، وما كنت إلا كالخشبة فيقول الله عز وجل تطيعني الآن فيما آمرك به قال نعم فيقول : قع في النار فيأبى فيدفع فيها.
قلت : على ما قالت الحنفية أن المشرك يعذب إن كان عاقلا قبل أن تبلغه الدعوة كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ﴾٢ فإنه يعم أصحاب الفترة، تحمل هذه الأحاديث على أن بعض المشركين من أهل الفترة لعلهم يجادلون الله تعالى ويعتذرون بالجهل فيلزمهم الله تعالى الحجة بالامتحان، كما أن المشركين لما ينكرون شركهم ويقولون :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾٣ ويطلبون على أنفسهم شهودا، فحينئذ يشهد عليهم جوارحهم فيلزمهم الحجة ولله الحجة البالغة، لا ينصب نفسا شاء أن يعذبها إلا عذبها، وهو عادل فيه هذا في التوحيد، وأما سائر الشرائع فالعقل غير كاف في إدراكها، فلا تجب على الإنسان إتيانها قبل البعثة، لقوله تعالى :﴿ وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ﴾٤ وبناء على مذهب الحنفية قال صاحب المدارك في تفسير هذه الآية ما صح منا أن نعذب قوما عذاب استئصال في الدنيا إلا بعد أن نبعث إليهم رسولا فنلزمهم الحجة، قلت وهذا التأويل بعيد جدا، لأن قوله تعالى :﴿ وما كنا معذبين ﴾٥ يدل على عموم نفي التعذيب لوقوع النكرة في سياق النفي، ولا وجه للتخصيص بالتعذيب في الدنيا ولا بتعذيب في الآخرة بالطريق الأولى، فالأولى أن يقال إن عدم التعذيب قبل البعثة مخصوص بالمعاصي دون الشرك حيث قال الله تعالى :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾٦ فالتقدير ما كنا معذبين على المعاصي حتى نبعث رسولا يبين لهم ما يتقون، وقيل : المراد بالرسول أعم من البشر والعقل فإن العقل أيضا رسول من الله يدرك به الخير والشر، فما يدركه العقل ويكفي في إدراكه من الواجبات يعذب الله العاقل عليها على عدم إتيانها.
فصل : هذه الآية تدل على عدم تعذيب الصغار والمجانين وإن كانوا من عداوي المشركين حيث لم يبلغهم دعوة رسول بشرا كان أو عقلا، كما يدل عليه سياق الآية حيث قال الله تعالى :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾٧ ومن الأحاديث ما رواه أحمد بسند حسن عن خنساء بن معاوية بن مريم قال : حدثني عمي قال : قلت : يا رسول الله من في الجنة ؟ قال :( النبي في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة والوئيد في الجنة )٨ وما رواه البخاري سمرة بن جندب في حديث المنام الطويل أنه صلى الله عليه وسلم مر على شيخ تحت شجرة وحوله ولدان، فقال جبرائيل : هذا إبراهيم وهؤلاء أولاد المسلمين وأولاد المشركين، قالوا : يا رسول الله وأولاد المشركين ؟ قال : نعم وأولاد المشركين )٩ ولما روى الطيالسي عن أنس أنه سئل عن أطفال المشركين فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لم يكن لهم سيئات فيكونوا من أهل النار ولم يكن لهم حسنات فيجازوا بها فيكونوا من مملوك أهل الجنة هم خدم أهل الجنة ) وما أخرج ابن جرير عن سمرة قال : سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين ؟ فقال : هم خدم أهل الجنة، وأخرج مثله عن ابن مسعود موقوفا. فإن قيل : في الصحيح ما يدل على عدم الجزم بذلك، أخرج الشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :( أنه سئل عن أطفال المشركين ؟ فقال " الله أعلم بما كانوا عاملين " ١٠ وأخرج مثله من حديث ابن عباس، قلت : هذا الحكم أعني عدم الجزم بكونهم في الجنة الذي دل عليه هذان الحديثان منسوخ كان قبل نزول آية الفتح الناسخة لقوله تعالى :﴿ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ﴾١١ فإنه صلى الله عليه وسلم كان قبل ذلك يرد بها على من شهد لأحد بعينه بالجنة، ورد بها على من شهدت لعثمان بن مظعون كما في الصحيح فلما نزلت آية الفتح سر بها كثيرا وشهد بعدها لجماعة بأعيانهم بالجنة، وهذا هو الجواب لحديث رواه مسلم عن عائشة قالت :( دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقالت : يا رسول الله طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدرك، فقال :( أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم )١٢ فإن هذا الحديث يدل على التوقف في أطفال المسلمين أيضا وقد انعقد الإجماع على كونهم في الجنة، نقله الإمام أحمد وابن أبي زيد وأبو يعلى من الفراء وغيرهم ونصوص الكتاب والأحاديث صريحة في ذلك كذا قال النووي والسيوطي، وهو الجواب عما رواه ابن حبان في صحيحه و البزار عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال أمر هذه الأمة متقاربا ما لم يتكلموا ا في القدر والولدان قال ابن حبان يعني أطفال المشركين فإنا نحمل هذا الحديث أيضا على كونه قبل آية الفتح وقبل أن يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم كونهم في الجنة.
فإن قيل : بعض الأحاديث يدل على كون أطفال المشركين في النار، منها ما أخرج أبو يعلى عن البراء قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المسلمين فقال :" هم مع أبائهم " وسئل عن أطفال المشركين فقال :" هم مع أبائهم " وما روى أبو داود عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله ذراري المؤمنين ؟ قال :( من آبائهم ) فقلت يا رسول الله بلا عمل ؟ قال :( الله أعلم بما كانوا عاملين )١٣ قلت فذراري المشركين " قال من آبائهم، قلت بلا عمل " قال " الله أعلم بما كانوا يعملون " وأخرج أحمد عن عائشة بسند ضعيف جدا أنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أطفال المشركين فقال :( إن شئت أسمعتك تصاعدهم في النار ) وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند بسند فيه مجهول وانقطاع وابن أبي حاتم في السنة عن علي قال سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا في الجاهلية ؟ فقال هما في النار فلما رأى الكراهية في وجهها قال لها ولو رأيت مكانهما لأبغضتهما قالت : فولدي منك ؟ قال : إن المؤمنين وأولادهم في الجنة وإن المشركين أولادهم في النار، ثم تلا ﴿ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ﴾١٤ وأخرج أبو داود عن ابن مسعود بسند حسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الوائدة والموءودة في النار )١٥ وأخرج أيضا بسند حسن عن سلمة بن قيس الأشجعي قال أتيت أنا وأخي النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا : إن أمنا ماتت في الجاهلية وكانت تقري الضيف وتصل الرحم وإنها وأدت أختا لها في الجاهلية لم تبلغ ؟ فقال :( الوائدة والموءودة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فتسلم ) قلنا : أما الموءودة الواردة في الحديث فالمراد بها الموءودة لها يعني الأم، والوائدة هي القابلة دفعا للتعارض، وأن الأحاديث المذكورة في كون أطفال المشركين في النار فليس شيء منها يقوي قوة الأحاديث المتقدمة فسقطت بالأحاديث الصحيحة فضلا عن مصادمة القرآن، والقول بكون تلك الأحاديث منسوخة لا يجوز لأن الأخبار لا يحتمل النسخ، اللهم إلا أن يقال إن الله رفع عنهم العذاب بعدما كتب عليهم بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، يدل عليه حديث ابن أبي شيبة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( سألت ربي اللاهين من ذرية البشر أن لا يعذبهم فأعطانيهم ) قال ابن عبد البر : هم الأطفال لأن أعمالهم كاللهو واللعب من غير عقل ولا عزم.
قال السيوطي : اختلف الناس قديما وحديثا في أطفال المشركين على أقوال : أحدها أنهم في النار للأحاديث المذكورة التي دلت على ذلك لكنها ضعيفة لا تق
١ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قصة يأجوج و مأجوج (٣٣٤٨) وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: قوله صلى الله عليه وسلم:(يقول الله لآدم أخرج بعث النار من كل تسعمائة وتسعة وتسعين) (٢٢٢)..
٢ سورة النساء، الآية: ٤٨..
٣ سورة الأنعام، الآية: ٢٣..
٤ سورة التوبة، الآية: ١١٥..
٥ سورة الإسراء، الآية: ١٥.
٦ سورة النساء، الآية: ٤٨..
٧ سورة الإسراء، الآية: ١٥..
٨ أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في فضل الشهادة (٢٥١٩) وأخرجه أحمد في المسند المجلد الخامس / تابع مسند البصريين..
٩ أخرجه البخاري في كتاب: التعبير، باب: تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح (٧٠٤٧)..
١٠ أخرجه البخاري في كتاب: الجنائز، ما قيل في أولاد المشركين (١٣٨٤) وأخرجه مسلم في كتاب: القدر، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة (٢٦٦٠)..
١١ سورة الأحقاف، الآية: ٩..
١٢ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (٢٦٦٢)..
١٣ أخرجه أبو داود في كتاب: السنة، باب: في ذراري المشركين (٤٧٠٠)..
١٤ سورة الطور، الآية: ٢١..
١٥ أخرجه أبو داود في كتاب: السنة، باب: في ذراري المشركين (٤٨٠٤)..
قوله تعالى﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ﴾ أي متنعميها وجبابرتها، قرأ مجاهد أمرنا بالتشديد أي سلطنا وجعلناهم أمراء، وقرأ الحسن وقتادة ويعقوب أمرنا بالمدأي أكثرنا، وقرأ الجمهور مقصورا مخففا أي أمرنا مترفيها بالطاعة على لسان رسول بعث إليهم، ويدل على هذا التقدير قوله تعالى فيما قبل :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ وفيما بعد ﴿ ففسقوا فيها ﴾ فإن الفسق هو الخروج عن الطاعة والتمرد في العصيان، فيدل على الطاعة، وقيل : معنى الآية أمرنا مترفيها بالفسق ففسقوا، كقولك أمرته فجلس فإنه لا يفهم منه إلا الأمر بالجلوس، والأمر حينئذ ليس بمعناه الحقيقي فإن الله لا يأمر بالفحشاء لكنه مجاز من الحمل عليه والتسبب له، بأن صب عليهم من النعم ما أبصرهم وأمضى بهم إلى الفسوق، وقيل : معناه معني كثرنا يقال أمر الشيء وأمرته فأمر أي كثرته فكثر، وفي الحديث ( خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة ) أي طريقة مصطفة من النخل مصلحة، وولد الفرس أنثى أي كثير النسل والنتاج ومنه قول أبي سفيان في حديث هرقل لقد آمر أمر ابن أبي كبشه أي كثر وارتفع شأنه، يعني النبي صلى الله عليه وسلم ومنه الحديث أن رجلا قال له مالي أرى أمرك يأمر، قال : والله ليأمرن أي يزيد على ما ترى، ومنه حديث ابن مسعود قال : كنا نقول في الجاهلية قد آمر بنوا فلان أي كثروا، وفي القاموس آمره وأمره كنصره لغية كثر نسله وماشيته، ويحتمل أن يكون منقولا من أمر بالضم أمارة أي جعلناهم أمراء، وتخصيص المترفين لأن غيرهم يتبعهم، ولأنهم أسرع إلى الحماقة وأقدر على الفجور ﴿ فحق عليها القول ﴾ أي وجب عليها الكلمة السابقة بالعذاب بحلوله أو الكلمة السابقة بظهور معاصيهم أو انهماكهم فيها ﴿ فدمرناها تدميرا ﴾ أي أهلكناها بهلاك أهلها وتخريب ديارها، وروى البخاري عن أم حبيبة بنت أبي سفيان عن زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا وهو يقول :( لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعيه الإبهام والتي يليها، قالت زينب فقلت : يا رسول الله أنهلك وفيها الصالحون ؟ قال :( نعم إذا كثر الخبث )١.
١ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قصة يأجوج ومأجوج (٣٣٤٦).
.

﴿ وكم ﴾ أي كثيرا ﴿ أهلكنا من القرون ﴾ بيان لكم وتميز له، والقرن القوم المقترنون في زمان واحد، يعني يكون ولادتهم في وقت واحد، في القاموس يقال هو على قرني أي على سني وعمري، وانقضاء القرن أن لا يبقى منهم أحد، في القاموس هو كل أمة هلكت فلم يبقى منها أحد، قلت : وأما قرن الصحابة وقرن التابعين فيقال باعتبار مقارنتهم في مصاحبة الرسول صلى الله عليه وسلم أو مصاحبة أحد ممن صاحبه صلى الله عليه وسلم، وقيل : القرن مدة من الزمان عشرة سنين أو عشرون أو ثلاثون أو أربعون أو خمسون أو ستون أو سبعون أو ثمانون أو مائه سنة أو مائة وعشرون كذا في القاموس من الأقوال، واعتبرت الحنفية في مدة المفقود تسعين سنة والأصح أنه مائة سنة، لما روى محمد بن القاسم عن عبد الله ابن بسر المازني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على رأسه وقال :( يعيش هذا الغلام قرنا ) قال محمد بن القاسم ما زلنا نعد له حتى تمت مائة سنة ثم مات ﴿ من بعد نوح ﴾ كعاد وثمود وغيرهم تخويف لكفار مكة ﴿ وكفى بربك ﴾ في محل الرفع والباء زائدة ﴿ بذنوب عباده ﴾ متعلق بما بعده على سبيل التنازع ﴿ خبيرا ﴾ وإن أخفوها في الصدور ﴿ بصيرا ﴾ وإن أرخو عليها الستور.
﴿ من كان يريد العاجلة ﴾ يعني الدار العاجلة أي الدنيا مقصورا عليها همته ﴿ عجلنا له فيها ﴾ أعطيناه في العاجلة ﴿ ما نشاء ﴾ كل يريده أو بعضه قيد به لأنه لا يجد كل أحد جميع ما يتمناه غالبا ﴿ لمن نريد ﴾ أن نفعل به ذلك بدل من له بدل البعض قيد به لأنه لا يجد كل ممتن متمناه ﴿ ثم جعلنا له ﴾ في الآخرة ﴿ جهنم يصلاها ﴾ يدخل نارها ﴿ مذموما مدحورا ﴾ مطرودا مبعدا من رحمة الله
ومن أراد الآخرة وسعى لها } أي للآخرة حق ﴿ سعيها ﴾ وهو الائتمار بالأوامر والانتهاء عن المناهي، لا بمجرد التمني أو التقرب بما يخترعون بآرائهم فهو منصوب على المصدرية، وجاز كونه منصوبا على المفعولية، وفائدة اللام اعتبار النية والإخلاص ﴿ وهو مؤمن ﴾ إيمانا صحيحا لا شرك معه ولا تكذيب فإنه العمدة ﴿ فأولئك ﴾ أي الجامعون للشرائط الثلاثة ﴿ كان سعيهم مشكورا ﴾ من الله أي مقبولا عنده مثابا عليه فإن شكر الله الثواب على الطاعة
﴿ كلا ﴾ التنوين بدل من المضاف إليه أي كل واحد من الفريقين ﴿ نمد ﴾ بالعطاء مرة بعد أخرى، ونجعل آخره مدد السابقة ﴿ هؤلاء وهؤلاء ﴾ بدل من كلا ﴿ من عطاء ﴾ أي من معطاة ﴿ ربك ﴾ متعلق بنمد ﴿ وما كان عطاء ربك محظورا ﴾ ممنوعا لا يمنعه في الدنيا من مؤمن ولا من كافر تفضلا
﴿ أنظر ﴾ يا محمد ﴿ كيف فضلنا بعضهم على بعض ﴾ في الرزق والجمال في الدنيا وانتصاب كيف بفضلنا على الحال ﴿ وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا٢١ ﴾ أي التفاوت في الآخرة أكثر من التفاوت في الدنيا لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها والنار ودركاتها والله أعلم.
﴿ لا تجعل ﴾ الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، أو لكل واحد أي لا تفعل أيها الإنسان ﴿ مع الله إلها آخر فتقعد ﴾ أي فتصير من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة، أو فتعجز من قولك قعد عن الشيء إذا عجز عنه ﴿ مذموما ﴾ من الملائكة والمؤمنين ﴿ مخذولا ﴾ غير منصور.
﴿ وقضى ربك ﴾أي أمر أمرا مقطوعا به كذا قال ابن عباس وقتادة والحسن والربيع بن أنس ﴿ ألا تعبدوا إلا إياه ﴾ أي بأن لا تعبدوا إلا إياه لأن العبادة التي هي غاية التعظيم لا يحق إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام، وهو كالتفصيل لسعي الآخرة، ويجوز أن يكون أن مفسرة لأن في قضي معني القول ولا يجوز كونها ناصبة ﴿ وبالوالدين إحسانا ﴾ أي وأن تحسنوا أو أحسنوا بالوالدين إحسانا لأنهما السبب الظاهري للوجود والتعيش ﴿ إما ﴾ أن شرطية زيدت عليها ما للتأكيد فأدغمت النون في الميم، ولذلك صح لحوق النون المؤكدة في الفعل وإن أفردت إن لم يصح دخولها، إذ لا يقال إن تكرمن زيدا ﴿ يبلغن ﴾ قرأ حمزة والكسائي يبلغان بالألف على التثنية، والضمير راجع إلى الوالدين ﴿ عندك ﴾ أي في كتفك وكفالتك ﴿ الكبر أحدهما ﴾ بدل من ضمير التثنية في يبلغان ﴿ أو كلاهما ﴾ عطف على أحدهما وقرأ الجمهور بغير ألف وفاعل الفعل أحدهما مع ما عطف عليه أي أن يبلغ الكبر أحدهما أو كلاهما ﴿ فلا تقل لهما أف ﴾ قرأ نافع وحفص وأبو جعفر هنا وفي الأنبياء والأحقاف بالتنوين للتنكير كتنوين صه وكسر الفاء، وابن كثير وابن عامر ويعقوب فتح الفاء من غير تنوين، والباقون بكسرها من غير تنوين، وهي كلمة كراهية صوت يدل على التضجر، وقيل اسم للفعل الذي هو التضجر، قال أبو عبيدة : أصل الأف والتف الوسخ على الأصابع، وفي القاموس الأف قلامة الظفر ووسخه، أو وسخ الأذن وما رفعته من الأرض من عود أو قصبة، آو الأف معناه القلة يعني لا تقل لهما كلمة تدل على أدنى كراهة فيحرم بذلك سائر أنواع الإيذاء بدلالة النص بالطريق الأولى، يقال فلان لا يملك النقير ولا القطمير ﴿ ولا تنهرهما ﴾ أي لا تزجرهما عما لا يعجبك ﴿ وقل لهما قولا كريما ﴾ حسنا جميلا لينا قال ابن المسيب كقول العبد المذنب للسيد الفظ قال مجاهد إذا بلغا عندك من الكبر فلا تقذرهما ولا تقل لهما أف حين تميط عنهما الخلاء والبول كما كانا يميطان عنك صغيرا.
﴿ واخفض لهما جناح الذل ﴾ أي تذال لهما وتواضع فيهما جعل للذل جناحا وأمره بخفضهما مبالغة، أو أراد جناحه كقوله :﴿ واخفض جناحك للمؤمنين ﴾١ وإضافته إلى الذل للبيان والمبالغة، كما أضيف حاتم إلى الجود والمعنى واخفض لهما جناحك الذليل واخضع، وقال عروة بن الزبير لن لهما حتى لا يمتنعا من شيء أحباه ﴿ من الرحمة ﴾ أي من فرط رحمتك عليهما لافتقارهما إلى من كان أفقر خلق الله إليهما ﴿ وقل رب ارحمهما ﴾ يعني أدع الله لهما أن يرحمهما برحمته الباقية ولا تكتف برحمته الفانية، قال البغوي أراد إن كانا مسلمين، قال ابن عباس هذا منسوخ بقوله :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ﴾٢ وقال البيضاوي وإن كانا كافرين لأن من الرحمة أن يهديهما للإسلام ﴿ كما ربياني صغيرا ﴾ أي رحمة مثل رحمتهما علي وتربيتهما علي وإرشادهما لي في صغري وفاء بوعدك للراحمين، عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الوالد أوسط أبواب الجنة فحافظ إن شئت أو ضيع )٣ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم بسند صحيح، وعن عبد الله بن عمرو عليهما السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( رضا الله في رضاء الوالد وسخط الله في سخط الوالد )٤ رواه الترمذي والحاكم وصححه وروى البزار عن ابن عمرو، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يدخل الجنة منان ولا عاق ولا مدمن خمر )٥ ورواه النسائي والدارمي عن ابن عمر، وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي ورغم أنف رجل أتى عليه شهر رمضان فلم يغفر له ورغم أنف رجل أتى عليه شهر رمضان فلم يغفر له ورغم أنف رجل أدرك أبويه الكبر فلم يدخلاه الجنة )٦ رواه البغوي والترمذي وصححه، ورواه مسلم وأحمد بلفظ ( رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه قيل : من يا رسول الله ؟ قال :( من أدرك عنده الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة )٧ وعن أبي أمامة أن رجلا قال يا رسل الله ( ما حق الوالدين على ولدهما ) قال :( هما جنتك ونارك )٨ رواه ابن ماجه، وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من أصبح لله مطيعا في والديه أصبح له بابان مفتوحان من الجنة وإن كان واحدا فواحدا، ومن أمسى عاصيا لله في والديه أصبح له بابان مفتوحان من النار وإن كان واحدا فواحدا، قال رجل وإن ظلماه ؟ قال : وإن ظلماه وإن ظلماه وإن ظلماه ) وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ما من ولد بار ينظر والديه نظر رحمة إلا كتب الله له بكل نظرة حجة مبرورة، قالوا : وإن نظر كل يوم مائة مرة ؟ قال : نعم الله أكبر وأطيب ) وعن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( كل الذنوب يغفر الله منها ما يشاء إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه في الحياة قبل الممات ) روى الأحاديث الثلاثة البيهقي في شعب الإيمان والأول منها ابن عساكر، وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( كل الذنوب يؤخر الله ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه الحياة الدنيا قبل الممات ) رواه الطبراني بسند ضعيف والحاكم.
١ سورة الحجر، الآية: ٨٨..
٢ سورة التوبة، الآية: ١١٣..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء من الفضل في رضا الوالدين (١٩٠٣). وأخرجه ابن ماجة في كتاب: الطلاق، باب: الرجل يأمره أبوه بطلاق امرأته (٢٠٨٩)..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء من الفضل في رضا الوالدين (١٩٠٤)..
٥ أخرجه النسائي في كتاب: الأشربة، باب: الرواية في المدمنين في الخمر (٥٦٧١)..
٦ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، باب: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:(رغم أنف رجل) (٣٥٤٥)..
٧ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: رغم أنف من أدرك أبويه أو أحدهما عند الكبر ثم لم يدخل الجنة (٢٥٥١)..
٨ أخرجه ابن ماجة في كتاب: الآدب، باب: بر الوالدين (٣٦٦٢)..
﴿ ربكم أعلم بما في نفوسكم ﴾ من البر إليهما والاعتقاد بما يجب لهما من التوقير فكأنه تهديد على أن يضمر لهما كراهية واستثقالا، وجاز أن يقال معناه ربكم أعلم بنياتكم في بر الوالدين إن كان ذلك احتسابا وامتثالا لأمر الله تعالى فأجره على الله وإن كان لغرض من أغراض الدنيا فهو على ما نوى ﴿ إن تكونوا صالحين ﴾ أي قاصدين الأجر عند الله والصلاح. وقال البغوي أن تكونوا أبرارا مطيعين بعد تقصير كان منكم في القيام بما لزمكم من حق الوالدين ﴿ فإنه كان للأوابين ﴾ أي التوابين بعد المعصية في حقهما﴿ غفورا ﴾ لما فرط منهم، قال سعيد بن جبير في هذه الآية هو الرجل يكون منه البادرة إلى أبويه لا يريد بذلك إلا الخير فإنه لا يؤاخذ به، وجاز أن يكون الآية عامة لكل تائب و يندرج فيه الجاني على أبويه لوروده على أثره، قال سعيد بن المسيب الأواب الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب وقال سعيد بن جبير الرجاع إلى الخير، وعن ابن عباس قال هو الرجاع إلى الله فيما يجزيه وينوبه، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : هم المسبحون دليله قوله تعالى :﴿ يا جبال أوبي معه ﴾١ وقال قتادة المصلون، وقال عوف العقيلي هم الذين يصلون صلاة الضحى، روى البغوي عن زيد بن أرقم قال :( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال : صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى ) ٢ ورواه أحمد ومسلم ورواه عبد بن حميد وسيبوبه عن عبد الله بن أبي أوفى، قال البغوي وروي عن ابن عباس أنه قال : إن الملائكة لتحف بالذين يصلون بين المغرب والعشاء وهي صلاة الأوابين.
١ سورة سبأ، الآية: ١٠..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الأوابين حين ترمض الفصال (٧٤٨)..
﴿ وآت ذا القربى ﴾ أي ذوي قرابتك ﴿ حقه ﴾ من صلة الرحم وحسن المعاشرة والبر عليهم وعليه أكثر المفسرين، وقال أبو حنيفة يجب النفقة على الغني لكل ذي رحم محرم إذا كان صغيرا فقيرا أو امرأة بالغة فقيرة أو ذكرا زمنا أو أعمى فقيرا، لأن فيه إبقاء النفس وهو أصل البر والصلة، وقد ذكرنا هذه المسألة في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :﴿ وعلى الوارث مثل ذلك ﴾١ وذكر البغوي عن علي بن الحسين عليهما السلام، وكذا أخرج ابن أبي حاتم عن السدي وأخرج الطبراني وغيره عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت ﴿ وآت ذا القربى حقه ﴾ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فأعطاها فدك، وروى ابن مردويه عن ابن عباس مثله، قال ابن كثير هذا مشكل فإنه يشعر بأن الآية مدنية والمشهور خلافه، قلت : وأيضا المشهور المعتمد عليه أن فاطمة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدك فلم يعطها، كذا روى عن عمر بن عبد العزيز، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها فاطمة لما منعها عنها الخلفاء الراشدون لا سيما علي في خلافته والله أعلم ﴿ والمسكين وابن السبيل ﴾ قد مر في سورة البقرة ﴿ ولا تبذر تبذيرا ﴾ أي لا تنفق مالك في المعصية، قال مجاهد لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق ما كان تبذيرا ولو أنفق مدا في الباطل كان تبذيرا، وسئل عن ابن مسعود عن التبذير فقال : إنفاق مال في غير حقه، قال شعبة كنت أمشي مع أبي إسحاق في طريق الكوفة فأتى على جدار بني بجص وآجر فقال هذا التبذير في قول عبد الله إنفاق المال في غير حقه
١ سورة البقرة، الآية: ٢٣٣..
﴿ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ﴾ أي أمثالهم فى الشرارة قال البغوى يقول العرب لكل ملازم سنة قوم هو أخوهم ﴿ وكان الشيطان لربه كفورا ﴾ جحودا للنعمة مبالغا في الكفر. والكفران، فليس ينبغي أن يطاع أعلم أن الشكر على ما قاله أهل التحقيق صرف النعمة في رضاء المنعم، والتبذير صرف المال في المعصية فهو ضد الشكر، فمن أتى به كان كفورا والله أعلم.
أخرج سعيد بن منصور عن عطاء الخراسانى قال : جاء ناس من مزينة يستحملون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال :﴿ لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ﴾ ظنوا ذلك من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى :﴿ وإما تعرضنعنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها ﴾
﴿ وإما تعرضن ﴾ إن شرطية وما زائدة والمعني أن تعرض يا محمد ﴿ عنهم ﴾ يعني عن ذوي القربى والمساكين وابن السبيل أراد بالإعراض عدم الإنفاق عليهم على سبيل الكناية، وقال البغوي نزلت في مهجع وبلال وصهيب وسالم وخباب كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم ما يحتاجون إليه ولا يجد فيعرض عنهم حياء ويمسك عن القول، فنزل ﴿ وإما تعرضن عنهم ﴾ يعني حياء من الرد ﴿ ابتغاء رحمة ﴾أي لأجل انتظار رزق ﴿ من ربك ترجوها ﴾أن يأتيك فتعطيه أو منتظرا له، وقيل معناه لفقد رزق من ربك ترجوه أن يفتح لك، فوضع الابتغاء موضع الفقدان لأنه مسبب عنه، وجاز أن يكون الابتغاء متعلقا بقوله ﴿ فقل لهم قولا ميسورا ﴾ أي قل لهم قولا لينا كي يرحمك الله برحمتك عليهم بإجمال القول، والميسور من يسر الأمر مثل سعد الرجل ونحس، قال البغوى هو العدة أي عدهم وعدا جميلا، وقيل : الدعاء لهم بالميسور وهو اليسر مثل أغناكم الله ورزقنا الله وإياكم والله أعلم.
أخرج سعيد بن منصور عن سيار أبي الحكم قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببز، وكان معطيا كريما فقسمه بين الناس، فأتاه قوم فوجدوه قد فرغ منه، فأنزل الله تعالى :﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ﴾ وأخرج ابن مردويه وغيره عن ابن مسعود قال جاء غلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أمي تسألك كذا وكذا فقال : ما عندنا اليوم شيء، قال فتقول أكسني قميصك فدفعه إليه فجلس في البيت حاسرا، فانزل الله تعالى هذه الآية، وأخرج ابن أبي حاتم عن المنهال بن عمرو بمعناه وأخرج أيضا عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة أنفقي ما ظهر كفى قالت : إذن لا يبقى شيء فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال البغوي قال جابر أتى صبي فقال : يا رسول الله إن أمي تستكسيك درعا، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قميصه، فقال للصبي من ساعة إلى ساعة يظهر فعد وقتا آخر، فعاد إلى أمه فقالت له قل إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم داره ونزع قميصه فأعطاه، وقعد عريانا فأذن بلال بالصلاة فانتظروه فلم يخرج فشغل قلوب أصحابه فدخل عليه بعضهم فرآه عريانا فأنزل الله تعالى﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ﴾ يعني لا تمسك يدك عن النفقة في الحق كالمغلول يده لا يقدر على ردها ﴿ ولا تبسطها ﴾ بالعطاء ﴿ كل البسط ﴾ فتعطي جميع ما عندك بحيث لا تقدر على أداء حقوق نفسك وأهلك ومن له الحق
عليك، قال البيضاوي هذان تمثيلان لمنع الشحيح وإسراف المبذر نهي عنهما وأمر بالاقتصاد بينهما الذي هو الكرم ﴿ فتقعد ملموما ﴾ أي تصير ملوما عند الله وعند الناس بالإمساك مع السعة أو بالإسراف وسوء التدبير ﴿ محسورا ﴾ قال قتادة نادما على ما فرط منك في الفصلين، أو المعنى تصير ملوما يلومك السائلون بالإمساك إذ لم تعطهم مع السعة محسورا منقطعا بك لا شيء عندك، من حسرة السفر إذا بلغ فيه، وحسرته بالمسألة إذا لحفت عليه، فيكون الشر على ترتيب اللف
﴿ إن ربك يبسط ﴾ أي يوسع ﴿ الرزق لمن يشاء ﴾ من عباده وليس البسط إليك ﴿ ويقدر ﴾ أي يضيق الرزق على من يشاء على ما يقتضيه حكمته، فلا لوم عليك إن أمسكت بعض ما تحتاج إليه ﴿ إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ﴾ يعلم سرهم وعلانيتهم فيعلم من مصالحهم ما يخفي عليهم ويرزقهم على حسب مصالحهم ويجوز أن يراد أن البسط والقبض من أمر الله الذي يعلم سرائرهم وظواهرهم، وأما العباد فعليهم أن يقتصدوا، أو يراد أنه تعالى يبسط تارة ويقبض أخرى فاستنوا بسنته ولا تقبضوا كل القبض ولا تبسطوا كل البسط، ويجوز أن يكون هذا تمهيدا لقوله :﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ﴾
﴿ ولا تقتلوا أولادكم ﴾ يعني البنات كما كانوا يفعلون ﴿ خشية إملاق ﴾ مخافة الفقر نهاهم عن القتل وضمن لهم أرزاقهم فقال :﴿ نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا ﴾ قرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان وأبو جعفر بفتح الخاء وسكون الطاء مقصورا، وابن كثير بكسر الخاء وفتح الطاء ممدودا، والباقون بكسر الخاء وسكون الطاء، قال البغوي معنى الكل واحد، أي إثما﴿ كبيرا ﴾ وقال البيضاوي على قراءة الجمهور مصدر من خطأ خطأ كأثم إثما، وعلى قراءة ابن عامر اسم من أخطأ بضاد الصواب وقيل : لغة فيه كمثل ومثل وحذر وحذر وعلى قراءة ابن كثير إما لغة أو مصدر خاطئ خطاء كقاتل قتالا. عن ابن مسعود قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أي الذنب أعظم ؟ قال :( أن تجعل لله ندا وهو خلقك ) قلت : إن ذلك لعظيم ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قلت : ثم أي ؟ قال :( أن تزاني حليلة جارك )١ متفق عليه.
١ أخرج البخاري في كتاب: المحاربين، باب: إثم الزناة (٦٨١١) أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده (٨٦)..
﴿ ولا تقربوا الزنى ﴾ أي لا تأتوا بدواعيها من العزم عليه، أو على بعض مقدماتها فضلأ أن تباشروه ﴿ إنه ﴾ أي الزنى ﴿ كان فاحشة ﴾فعلة ظاهرة القبح زائدته ﴿ وساء سبيلا ﴾ بئس طريقا طريقه، وهو الغصب على الأبضاع المؤدي إلى قطع الأنساب وهيجان الفتن، عن بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن السماوات السبع والأرضين السبع ليلعن الشيخ الزاني وإن فروج الزناة لتؤدي أهل النار بنتن ريحها ) رواه البزار وعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( المقيم على الزنى كعابد وثن ) رواه الخرابطي، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان فكان عليه كالظلة فإذا قلع رجع إليه الإيمان )١ رواه أبو داود واللفظ له والترمذي والبيهقي والحاكم، وفي الصحيحين عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن )٢.
١ أخرجه أبو داود في كتاب: السنة، باب: الدليل على زيارة الإيمان ونقصانه (٤٦٧٨)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الحدود، باب: ما يجذر من الزنا زشرب الخمر () وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن الملتبس بالمعصية على إرادة نفي كما له (٥٧)..
﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله ﴾ قتلها من مسلم أو ذمي ﴿ إلا بالحق ﴾ يعني بحد أو قصاص أو بغي أو سب الصحابة رضي الله عنهم ونحو ذلك وأما المرتد فنفسه ليست مما حرم الله قال الله تعالى :﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا ﴾١ الآية، وقال الله تعالى :﴿ فقاتلوا التي تبغي ﴾٢ وقال الله تعالى :﴿ النفس بالنفس ﴾٣ وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة )٤ رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وليس المراد بتارك دينه المولد لأنه ليس بامرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله بل المراد به الفاني في الهوى المفارق للجماعة من الروافض والخوارج وأمثال ذلك والله أعلم.
فصل : عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أول ما يقضى يوم القيامة في الدماء )٥ متفق عليه، وعن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق )٦ رواه ابن ماجه بسند حسن والبيهقي وزاد ( لو أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا فى دم مؤمن لأدخلهم الله النار ) وروى النسائي من حديث بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا )٧ وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من أعان على قتل مؤمن بشطركلمة لقي الله مكتوب بين عينيه أيس من رحمة الله )٨ رواه ابن ماجه والأصبهاني وزاد قال ابن عيينة هو أن يقول أق لا يتم كلمة أقتل، وأخرج البيهقي من حديث ابن عمر نحوه وعن معاوية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو يقتل مؤمنا متعمدا )٩ رواه النسائى وصححه الحاكم وأخرج أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم من حديث أبي الدرداء نحوه، وعن أبى موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا أصبح إبليس بث جنوده من أضل اليوم مسلما ألبسه التاج قال فيجىء هذا فيقول : لم أزل به حتى طلق امرأته، فيقول : أوشك أن يتزوج، قال ويجيء هذا فيقول : لم أزل به حتى عق والديه فيقول : أوشك أن يبرهما، ويجىء هذا فيقول لم أزل به حتى أشرك فيقول أنت أنت ويجيء هذا فيقول لم أزل به حتى قتل فيقول أنت أنت ويلبسه التاج ) رواه ابن حبان في صحيحه ﴿ ومن قتل مظلوما ﴾ غير مستوجب للقتل عمدا ﴿ فقد جعلنا لوليه ﴾ أي لمن يلي أمره بعد وفاته وهو الوارث ﴿ سلطانا ﴾ أي قوة وتسلطا بالمؤاخذة بالقصاص ﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ قرأ حمزة والكسائي لا تسرف بالتاء الفوقانية على الخطاب، والباقون بالياء التحتانية على الغيبة، قيل : الخطاب للقاتل والضمير راجع إليه، يعني لا يسرف القاتل في القتل بأن يقتل من لا يحق قتله فإن العاقل لا يفعل ما يعود عليه بالهلاك في الدنيا والآخرة، وقال ابن عباس أكثر المفسرين الخطاب والضمير لولي المقتول والمعنى لا يقتل الولي غير القاتل، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل لا يرضون بقتل قاتله حتى يقتلوا أشرف منه، وقال سعيد بن جبير إذا كان القاتل واحدا فلا يقتل جماعة بدل واحد وكان أهل الجاهلية إذا كان المقتول شريفا لا يرضون بقتل القاتل وحده حتى يقتلوا معه جماعة من أقربائه، وقال قتادة معناه لا يمثل بالقاتل ﴿ إنه كان منصورا ﴾ قال مجاهد الضمير راجع إلى من قتل ظلما يعني أن المقتول ظلما منصور في الدنيا بإيجاب القواد على قاتله، وفي الآخرة بتكفير خطاياه وإيجاب النار لقاتله، وقال قتادة الضمير راجع إلى وليه يعني إنه منصور على القاتل باستيفاء القصاص منه يجب على الأئمة نصره وقيل : الضمير راجع إلى الذي يقتله الولي إسرافا بإيجاب القصاص والوزر على المسرف.
١ سورة المائدة، الآية: ٣٣..
٢ سورة الحجرات، الآية: ٩..
٣ سورة المائدة، الآية: ٤٥..
٤ أخرجه البخاري في كتاب: الديات، باب: قول الله تعالى:﴿أن النفس بالنفس﴾ (٦٨٧٨)، أخرجه مسلم في كتاب: القيامة، باب: ما يباح به دم المسلم (١٦٧٦)..
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الديات (٦٨٦٤)، أخرجه مسلم في كتاب: القيامة، باب: المجازاة بالدماء في الآخرة وأنها أول ما يقضي فيه بين الناس يوم القيامة (١٦٧٨)..
٦ أخرجه ابن ماجة في كتاب: الديات، باب: التغليظ في قتل مسلم ظلما (٢٦١٩)..
٧ أخرجه النسائي في كتاب: تحريم الدم، باب: تعظيم الدم (٣٩٨٦)..
٨ أخرجه ابن ماجة في كتاب: الديات، باب: التغليظ في قتل مسلم ظلما (٢٦٢٠) قال في الزوائد: في إسناده يزيد بن أبي زياد بالقوافي تصنيفه..
٩ أخرجه النسائي في كتاب: تحريم الدم (٣٩٨٤)..
﴿ ولا تقربوا مال اليتيم ﴾ فضلا أن تتصرفوا فيه ﴿ إلا بالتي ﴾ أي بالطريقة التي ﴿ هي أحسن ﴾ الطرق من محافظة مال اليتيم والتجارة فيه لأجله ﴿ حتى يبلغ أشده ﴾ غاية لجواز التصرف الصالح الذي دل عليه الاستثناء ﴿ وأوفوا بالعهد ﴾ أي بما عاهدكم الله من تكاليفه وما عاهدتم الناس عهدا مشروعا ﴿ إن العهد كان مسؤولا٣٤ ﴾ أي مطلوبا يطلب من العاهد أن لا يضيعه ويفيء به أو مسؤولا عنه فيسأل عن الناكث ويعاتب عليه أو يسأل العهد تبكيتا للناكث كما يقال للموءودة :﴿ بأي ذنب قتلت٩ ﴾١ ويجوز أن يراد صاحب العهد بحذف المضاف
١ سورة التكوير، الآية: ٩..
﴿ وأوفوا الكيل إذا كلتم ﴾ ولا تبخسوا فيه ﴿ وزنوا بالقسطاس ﴾ قرأ حمزة والكسائي وحفص هنا وفي الشعراء بكسر القاف والباقون بضمها وهو الميزان، قال مجاهد هو لفظ رومي عرب، ولا يقدح ذلك في كون القرآن عربيا لأن اللفظ العجمي إذا استعمل في الكلام العربي وأجري عليه ما يجري على العربي من الإعراب والتعريف والتنكير صار عربيا، وقال الأكثر هو عربي مأخوذ من القسط بمعنى العدل ﴿ المستقيم ﴾ السوي ﴿ ذلك خير ﴾ في الدنيا ﴿ وأحسن تأويلا ﴾ أي عاقبة تفعيل من آل إذا رجع.
﴿ ولا تقف ﴾أي لا تتبع من قفا يقفوا إذا تبع أثره، ومنه القافة لتتبعهم الآثار ﴿ ما ليس لك به علم ﴾أي ما لم يتعلق به علمك بالحس أو الخبر الصادق أو البرهان، احتج بهذه الآية من قال : إنه لا يجوز العمل بالأدلة الظنية، وجوابه أن المراد بالعلم ههنا الاعتقاد الراجح المستفاد من سند سواء كان قطعيا أو ظنيا واستعماله بهذا المعنى شائع، وقيل : إنه مخصوص بالعقائد، وقيل : برمي المحصنات وشهادة الزور قال مجاهد معناه لا ترم أحدا أليس لك به علم، وقال قتادة معناه لا تقل رأيت ولم تره وسمعت ولم تسمعه وعلمته ولم تعلمه، قلت : وجوب العمل بأحاديث الآحاد الجامعة للشرائط في الرواة والقياس الصحيح والحكم بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين ثبت بالأدلة القطعية من النصوص والإجماع، كقوله تعالى ﴿ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا ﴾ وقوله تعالى :﴿ فاعتبروا يا أولي الأبصار ﴾وقوله تعالى ﴿ واستشهدوا شاهدين من رجالكم ﴾ الآية، وبما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرسل آحاد الصحابة لتبليغ الأحكام فإتباعها أتباع للعلم لاستناد الظن بالعلم والله أعلم ﴿ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ٣٦ ﴾ ضمير عنه راجع إلى مصدر لا تقف يعني كل واحد من هذه الأعضاء كان عن ذلك القفوة والأتباع مسؤولا، أو الضمير راجع إلى كل يعني كل من هذه الأعضاء كان مسؤولا عن نفسه يعني عما فعل به صاحبه، أو الضمير راجع إلى صاحب السمع والبصر يعني هذه الأعضاء يسأل عن صاحبها فيسأل السمع أنه هل سمع صاحبه ما قال سمعته، ويسأل البصر هل أبصر صاحبه ما قال رأيت، ويسأل القلب هل علم صاحبه ما قال علمت، عن شكل بن حميد قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت " يا نبي الله علمني تعويذا أتعوذ به ؟ فأخذ بيدي فقال :" قل : أعوذ بك من شر سمعي ومن بصري وشر لساني وشر قلبي وشر منيي، قال حفظتها " رواه الترمذي وأبو داود والنسائي والحاكم وصححه والبغوي، قال سعيد يعني راوي الحديث المني ماؤه يعني يضع ماؤه في مالا يحل، والأعضاء لما كانت مسؤولة عن أحوالها شاهدة على صاحبها أجريت مجرى العقلاء وأطلق عليها لفظ أولئك، أو يقال أن أولاء وإن غلبت في العقلاء لكنه من حيث أنه اسم جمع لذا وهو يعم القبيلتين
جاء لغيرهم، وخص الأعضاء الثلاثة بالذكر لأنها آلات لتحصيل العلوم التي يجب الحصر على أتباعها فإن أكثر المحسوسات يدرك بالسمع والبصر، والمعقولات بأسرها تدرك بالقلب.
﴿ ولا تمش في الأرض مرحا ﴾ أي ذا مرح وهو الكبر والاختيال ﴿ إنك لن تخرق الأرض ﴾ بشدة وطأتك وتكبرك ﴿ ولن تبلغ الجبال طولا ﴾ بتطاولك وإستعلائك وهو تهكم بالمختال وتعليل للنهي بأن الاختيال حماقة محضة لا أصلا ولا يقدر المختال على شيء أصلا إلا بمشيئة الله، عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى أحد على أحد )١ رواه مسلم، وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )٢ الحديث رواه مسلم، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يقول : الله الكبرياء ردائي العظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما أدخلته النار )٣ رواه مسلم، وعن سلمة بن الأكوع قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم )٤ رواه الترمذي، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( يحشر المتكبرون أمثال الذر يوم القيامة في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال )٥ رواه الترمذي، وعن أسماء بنت عميس قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( بئس العبد عبد تخيل واختال ونسي الكبير المتعال )٦ الحديث رواه الترمذي والبيهقي في شعب الإيمان، وعن عمر قال وهو على المنبر :( يا أيها الناس فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من تواضع لله رفعه الله فهو في نفسه صغير وفي أعين الناس كبير من تكبر وضعه الله في أعين الناس صغير وفي نفسه كبير حتى لهو أهون عليهم من كلب أو خنزير ) والله أعلم.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل ثم قرأ ﴿ ولا تجعل مع الله إلها آخر ﴾الآيات
١ أخرجه مسلم في كتاب: الجنو وصفها نعيمها أهلها، باب: الصفات التي يعرف بها فيالدنيا أهل الجنة وأهل النار (٢٨٦٥) وأخرجه أبو داود في كتاب: الأدب، باب: في التواضع (٤٨٨٧)..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه (٩١)..
٣ في رواية:(والعز إزاره والكبرياء رداؤه فمن ينازعني عذبته) في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الكبر (٢٦٠٢)..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: اللباس، باب: ما جاء في الكبر (٢٠٠٨)..
٥ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع (٢٤٩٢)..
٦ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع (٢٤٩٢) وقال ليس إسناده بالقوي..
﴿ كل ذلك كان سيئة ﴾ قرأ الكوفيون وابن عامر بضم الهمزة والهاء على التذكير مرفوعا على أنه اسم كان وما بعده خبره، فذلك إشارة إلى الخصال المذكورة من قوله تعالى :﴿ ولا تجعل مع الله إلها آخر ﴾ وضمير سيئة راجع إلى الكل، أضاف السيئ إلى الكل يعني أن المنهى عن الأشياء المذكورة فإن من الأشياء المذكورة مأمورات ومنهيات، وقرأ أهل الحجاز والبصرة سيئة بفتح التاء للتأنيث مع التنوين منصوبا على أنه خبر كان، والاسم ضمير كل وذلك إشارة إلى ما نهي عنه خاصة من قوله ﴿ ولا تقتلوا أولادكم ﴾ إلى هنا فإنها سيئات لا حسنة فيها وعلى هذا قوله﴿ عند بك مكروها ﴾ بدل من سيئة أو صفة لها محمولة على المعنى فإنه بمعنى سيئا، ويجوز أن يكون مكروها منصوبا على الحال من المستكن في كان أو في الظرف على أنه صفة سيئة، والمراد بالمكروه المبغوض المقابل للمرضي
﴿ ذلك ﴾ أي الأحكام المتقدمة ﴿ مما أوحى إليك ربك من الحكمة ﴾ في القاموس الحكمة بالكسر العدل والعلم والحلم بمعنى الإناءة والعقل والنبوة والقرآن والإنجيل، قلت : والمراد ههنا العلم النافع ﴿ ولا تجعل ﴾ أيها الإنسان ﴿ مع الله إلها آخر ﴾ كرره للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر و شرط لصحة الأعمال كلها ومنتهاه فإنه من قصد بفعله أو تركه غير وجه الله ضاع سعيه وأنه رأس الحكمة وملاكها، فالتوحيد علم مقصود بذاته والعلوم غيره مقصودة للعمل ورتب عليه أولا ما هو عائدة الشرك في الدنيا وثانيا ما هو نتيجة في العقبى فقال﴿ فتلقى في جهنم ملوما ﴾ تلوم نفسك ويلومك الله والخلائق كلها ﴿ مدحورا ﴾ مبعدا عن رحمة الله
﴿ أفأصفاكم ﴾ خطاب لمن قال الملائكة بنات الله، والاستفهام للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أجعل لكم البنين فأصفاكم اختاركم ﴿ ربكم ﴾ بما هو الصفوة من الأولاد أي ﴿ بالبنين واتخذ ﴾ لنفسه بناتا ﴿ من الملائكة إناثا ﴾ وهذا خلاف ما عليه عقولكم وعادتكم ﴿ إنكم لتقولون قولا عظيما ﴾ في القباحة حيث تنسبون الأولاد إليه تعالى وهي من خواص بعض الأجسام التي يتطرق إليها سرعة الزوال ثم تجعلون له تعالى من الأولاد أدون الصنفين ثم تجعلون الملائكة الذين هم ألطف خلق الله أدونها.
﴿ ولقد صرفنا ﴾ أي كررنا هذا المعنى بوجوه من التقرير ﴿ في ﴾ مواضع عديدة من ﴿ هذا القرآن ﴾ أو المعنى ولقد كررنا بوجوه من التقرير ما ذكرنا في هذا القرآن من العبر والحكم والمثال والأحكام والحجج والتذكير، ويجوز أن يراد بهذا القرآن إبطال نسبة الولد لا سيما البنات إليه تعالى، والتقدير ولقد صرفنا القول في هذا المعنى والتشديد في صرفنا للتكثير ﴿ ليذكروا ﴾ قرأ الجمهور بتشديد الذال من التذكر أي ليتعظوا فلا ينسبوا إلى الله تعالى ما لا يليق به ويأتوا بما أمروا وينتهوا عما نهوا عنه، وقرأ حمزة والكسائي بسكون الذال وضم الكاف وكذلك في الفرقان من الذكر وهو أيضا بمعنى التذكر ﴿ وما يزيدهم ﴾ تصريفنا وتذكيرنا شيئا ﴿ إلا نفورا ﴾ أي ذهابا عن الحق وتباعدا
﴿ قل ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين ﴿ لو كان معه آلهة كما يقولون ﴾ قرأ ابن كثير وحفص بالياء على الغيبة على أن الكلام مع الرسول والباقون بالتاء على الخطاب للمشركين ﴿ إذا ﴾ أي إذا كان كذلك ظرف لما بعده ﴿ لابتغوا ﴾ لطلبوا ﴿ إلى ذي العرش ﴾ الذي هو مالك الملك ﴿ سبيلا ﴾ بالمغالبة والقهر كما هو عادة الملوك وإمكان التمانع ثابت بالبداهة والتمانع يستلزم عجز أحدهما أو كليهما وهو مناف للألوهية والجملة جواب لقولهم وجزاء للو
﴿ سبحانه ﴾ تنزه الله تنزيها عن التمانع والعجز المنافي للألوهية ﴿ وتعالى عما يقولون ﴾ أي المشركون ﴿ علوا ﴾ أي تعاليا ﴿ كبيرا ﴾ أي تباعد غاية البعد فإنه تعالى في أعلى مراتب الوجود والبقاء كذاته، واتخاذ الولد من أدنى مراتبه فإنه من خواص ما يتسارع إليه الفناء، والمشاركة من أدنى مراتب المالكية، قرأ حمزة والكسائي تقولون بالتاء خطابا للمشركين والباقون بالياء للغيبة على أنه تعالى تنزه به نفسه عن مقالتهم.
﴿ تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ﴾ قرأ أبو عمرو وحفص والكسائي ويعقوب تسبح بالتاء لتأنيث الفاعل والباقون بالياء التحتانية للحائل وكون التأنيث غير حقيقي ﴿ وإن من شيء إلا يسبح ﴾ له أي ينزهه عما هو من لوازم الإمكان وتوابع الحدوث مناف للألوهيه متلبسا ﴿ بحمده ﴾ على جمال ذاته وكمال صفاته وتواتر إنعاماته بلسان المقال التي أعطاها الله إياه ويسمعها من أعطى الله سبحانه سماعا لقلبه، عن عبد الله بن مسعود قال : كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء فقال : أطلبوا فضلة من ماء ) فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في الإناء ثم قال حي على الطهور المبارك والبركة من الله، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل )١ رواه البخاري، وقال مجاهد كل الأشياء تسبح لله حيا كان أو جمادا وتسبيحها سبحان الله وبحمده، وقال إبراهيم النخعي وإن من شي ء جماد أو حي إلا يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف، وحصر بعضهم التسبيح على الحي من الأشياء وقال قتادة تسبح الحيوانات والناميات، وقال عكرمة الشجرة تسبح والأسطوانة لا تسبح، ولا وجه للقول بالتخصيص وقد صح حنين الأسطوانة بمفارقة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الله تعالى :﴿ يا جبال أوبى معه والطير ﴾ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الجبال ينادي الجبل هل مر بك أحد ذكر الله فإذا قال نعم استبشر ) رواه الطبراني عن ابن مسعود وأيضا يسبح كل شيء بلسان الحال حيث يدل بإمكانها وحدوثها على الصانع القديم الواجب الوجود لذاته المنزه عما لا يليق به من النقص والزوال المتصف بصفات الكمال، والاقتصار على القول بأحد النوعين من التسبيح تقصير ﴿ ولكن لا تفقهون ﴾ أيها الناس يعني أكثرهم ﴿ تسبيحهم ﴾ المقالي والمشركون لكمال غباوتهم والعمه غافلون عن التسبيح الحالي أيضا ﴿ إنه كان حليما ﴾لا يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وشرككم ﴿ غفورا ﴾ لمن تاب منكم.
١ أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام (٣٥٧٩)..
أخرج ابن المنذر عن ابن شهاب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا القرآن على مشركي قريش ودعاهم إلى الله، قالوا يهزؤون به :﴿ قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ﴾ فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم :
﴿ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا ﴾ يحجب القلوب عن فهمه والانتفاع به قال قتادة هو الأكنة ﴿ حجابا ﴾ ذلك الحجاب عن الحس أو مستورا بحجاب آخر حيث لا يفهمون ولا يفهمون أنهم لا يفهمون، وقيل : المستور ههنا بمعنى الساتر كما في قوله تعالى :﴿ كان وعده مأتيا ﴾١ يعني آتيا، وفسر بعضهم بالحجاب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الناس يحجبه صلى الله عليه وسلم عن الأعين الظاهرة كما قال البغوي أنه روى عن سعيد بن جبير أنه لما نزلت ﴿ تبت يدا أبي لهب ﴾ جاءت امرأة أبي لهب ومعها حجر والنبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر فلم تره، فقالت لأبي بكر أين صاحبك ؟ بلغني أنه هجاني فقال : والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله، فرجعت وهي تقول : قد كنت أتيت بهذا الحجر لأرضخ به رأسه، فقال أبو بكر ما رأتك يا رسول الله ؟ قال : لا لم يزل ملك بيني وبينها يسترني، قلت : فحينئذ الآية واقعة حال إذا لم يكن أنه صلى الله عليه وسلم كلما قرأ القرآن لا يراه الكفار
١ سورة مريم، الآية: ٦١..
﴿ وجعلنا على قلوبهم أكنة ﴾ أغطية تكنها وتحول دونها عن إدراك الحق وقبوله ﴿ أن يفقهوه ﴾ أي كراهة أن يفقهوه أو لئلا يفقهوه، ويجوز أن يكون مفعولا لما دل عليه قوله وجعلنا على قلوبهم أكنة أي منعناهم أن يفقهوه ﴿ وفي آذانهم وقرا ﴾ يمنعهم عن السماعة سماع قبول ولما كان القرآن معجزا من حيث اللفظ والمعنى أثبت لمنكريه مانعا عن فهم المعنى وعن إدراك حسن النظم ﴿ وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا٤٦ ﴾ عنه هربا من استماع التوحيد ونفرة فهو منصوب على العلية أو نفورا يعني تولية فهو منصوب على المصدرية، أو نفورا يعني نافرين جمع نافر كعاقد وعقود منصوب على الحال.
﴿ نحن أعلم بما يستمعون به ﴾أي نحن أعلم بالحال أو بالطريقة التي يستمعون القرآن بسببه ولأجله أو متلبسا به من الاستهزاء بك وبالقرآن فمفعول يستمعون محذوف وبه صلة أو حال وبيان لما أي يستمعون القرآن للاستهزاء أو هازئين والواجب أن يستمعوه جادين ﴿ إذ يستمعون إليك ﴾ وأنت تقرأ القرآن ظرف لا علم وكذا ﴿ وإذ هم نجوى ﴾ مصدر بمعنى الفاعل أو محمول بتقدير ذو، أو جمع نجى يعني نحن أعلم بغرضهم من الاستماع حين هم يستمعون إليك مضمرون له، أو حين هم يتناجون بينهم أي يتحدثون أو ذووا نجوى ﴿ إذ يقول الظالمون ﴾ يعني الوليد بن المغيرة وأصحابه، أو بدل من إذ قبله وضع المظهر أي لفظ الظالمين موضع المضمر للدلالة على أن قولهم ﴿ إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ﴾ ظلم والمسحور الذي سحر به فزال غفلة، وقال مجاهد مخدوعا وقيل : مصروفا عن الحق يقال ما سحرك عن كذا يعني ما صرفك، وقال أبو عبيد يعني ذا سحر والسحر الرية يعني بشرا إذا رية مثلكم يأكل ويشرب ويتنفس.
﴿ انظر ﴾ يا محمد ﴿ كيف ضربوا لك الأمثال ﴾ فقال بعضهم ساعدوا قال بعضهم ساحر ومسحور وقال بعضهم كاهن وقال بعضهم مجنون ﴿ فضلوا ﴾ عن الحق حيث ضربوا أمثالا لا مصداق لها أصلا ﴿ فلا يستطيعون سبيلا ﴾ إلى الحق والرشاد حيث جعل الله على قلوبهم أكنة، أو المعنى لا يستطيعون سبيلا إلى ما يريدون من الطعن الموجه بل يأتون طعنا غير موجه، فيتهافتون ويخبطون في أمره كالمتحير في أمره لا يدري ما يصنع.
﴿ وقالوا ﴾ يعني مشركي مكة ﴿ أئذا كنا عظاما ﴾ بعد الموت ﴿ ورفاتا ﴾ وهو ما تكسرو بلى من كل شيء كالفتات والحطام، في القاموس رفته يرفته كسره ودقه وانكسر واندق لازم ومتعد وكغراب الحطام، وقال مجاهد يعني ترابا ﴿ أإنا لمبعوثون خلقا جديدا ﴾ مجددا، إنكار واستبعاد لما بين غضاضة الحي ويبوسة الرميم من المنافاة، وخلقا منصوب على المصدرية من مبعوثين، أو حال من النائب مناب فاعله والعامل في إذا ما دل عليه مبعوثون لا نفسه لأن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها.
﴿ قل ﴾ يا محمد جوابا لهم ﴿ كونوا حجارة أو حديدا ﴾
﴿ أو خلقا ﴾ أي مخلوقا آخر ﴿ مما يكبر في صدوركم ﴾ أي من جنس ما يبعد عندكم من قبول الحياة حتى يكون أبعد في الصدور لقبول الحياة من العظام الرميمة كالسماوات والأرضين والجبال، فإن الله قادر على إحيائكم على ذلك التقدير أيضا لاشتراك الأجسام في قبول الإعراض فكيف إذا كنتم عظاما مرفوقة وقد كانت غضة موصوفة بالحياة قبل ذلك والشيء أقرب للقبول بما عهد فيه مما لم يعهد وليس هذا أمر تكليف وإلزام بل أمر تقدير أي افرضوا أنفسكم حجارة أو حديدا في الشدة وقوة الجمادية بحيث لا يقبل الحياة في زعمكم ﴿ فسيقولون من يعيدنا ﴾ حيا بعد الموت ﴿ قل ﴾ يعيدكم حيا بعد الموت ﴿ الذي فطركم ﴾ خلقكم ﴿ أول مرة ﴾ وقد كنتم ترابا وهو أبعد من الحياة، وليس أول الخلق بأهون من الإعادة ﴿ فسينغضون ﴾أي يحركون ﴿ إليك رؤوسهم ﴾ تعجبا واستهزاء ﴿ ويقولون متى هو قل عسى أن يكون ﴾ هو أي بعثكم وأعادتكم حيا ﴿ قريبا ﴾ فإن كل ما هو آت قريب، أو المعنى يكون أقرب زمانا من بدء خلق العالم، وقريبا منصوب على الخبر وجاز أن يكون اسم عيسى مضمرا وأن يكون خبره وقريبا منصوب على الظرف أي في زمان قريب.
﴿ يوم يدعوكم فتستجيبون ﴾ أي فتجيبون من القبور بدل من قوله قريبا على تقدير كونه خبرا أو ظرفا، أو هو منصوب بأذكر أي يوم يدعوكم الله من القبور إلى موقف القيامة للمحاسبة على لسان إسرافيل عليه السلام فتجيبونه وقيل : معناه يبعثكم فتبعثون استعار لهما الدعاء والاستجابة للتنبيه على سرعتها والمقصود منها الإحضار للمحاسبة والجزاء ﴿ بحمده ﴾ حال من فاعل تستجيبون أي حامدين على كمال قدرته مقرين بأنه خالقهم وباعثهم يحمدون حين لا ينفعهم الحمد، أو المعنى منقادين لبعثه انقياد الحامدين عليه، .
وقيل هذا خطاب مع المؤمنين فإنهم يبعثون حامدين بخلاف الكفار، فإنهم يبعثون قائلين ﴿ يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمان وصدق المرسلون٥٢ ﴾١ ﴿ يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله ﴾٢ روى الختلي في الديباج عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أخبرني جبرئيل أن لا إله إلا الله أنس للمسلم عند موته وفي قبره وحين يخرج من قبره يا محمد لو تراهم حين يقومون من قبورهم ينفضون رؤوسهم، هذا يقول لا إله إلا الله والحمد لله فيبيض وجهه، وهذا ينادي يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله مسودة وجوههم ) وروى الطبرانى وابن حاتم وابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في الموت ولا في القبور ولا في النشور كأني أنظر إليهم عند الصيحة ينفضون رؤوسهم من التراب يقولون : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ) وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه ﴿ وتظنون إن لبثتم ﴾ في الدنيا أو في القبور ﴿ إلا قليلا ﴾ لما يرون من الهول قال قتادة يستحقرون مدة الدنيا في جنب القيامة.
١ سورة يس، الآية، ٥٢..
٢ سورة الزمر، الآية: ٥٦..
قال الكلبي كان المشركون يؤذون المسلمين فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله رضي الله عنه
﴿ وقل ﴾ يا محمد ﴿ لعبادي ﴾ المؤمنين ﴿ يقولوا ﴾ الكلمة ﴿ التي هي أحسن ﴾ الكلمات يعني الدعوة إلى الإسلام وقول لا اله إلا الله بالرفق واللين وإقامة البراهين وإظهار النصح بلا خشونة مع المشركين ولا أن تكافؤهم بسفههم، وقال الحسن يقول له يهديك الله وكان هذا قبل الإذن في القتال، وقيل : نزلت في عمر بن الخطاب شتمه بعض الكفار فأمره بالعفو، وقيل : أمر الله المؤمنين بأن يقولوا ويفعلوا الكلمة والخلة التي هي أحسن الكلمات والخلل، وقيل : الأحسن كلمة الإخلاص لا إله إلا الله ﴿ إن الشيطان ينزغ بينهم ﴾ النزغ إيقاع الشر وإفساد ذات البين، يعني لا يقولوا ما يتطرق إليه الشيطان بالفساد فيفسد ويلقي العداوة بينهم ﴿ إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ﴾ ظاهر العداوة فيفضى الكفار إلى جهنم ويفضى المؤمنين إلى الشر العاجل.
﴿ ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم ﴾ أي يوفقكم للإيمان فيرحمكم ﴿ أو إن يشأ يعذبكم ﴾ أي يميتكم على الشرك فيعذبكم كذا قال ابن جريج، قيل : هذا تفسير للتي هي أحسن وما بينهما اعتراض، أي قولوا لهم هذه الكلمة ونحوها يعني لا تسافهوهم ولا تشاتموهم ولا تصرحوا بأنكم من أهل النار، فإنه يهجهم على الشر مع أن اختتام أمرهم غيب لا يعلمه إلا الله، وقال الكلبي هذا خطاب من الله للمؤمنين والمعنى إن يشأ يرحمكم فينجيكم من أهل مكة آو إن يشأ يعذبكم فيسلطهم عليكم ﴿ وما أرسلناك ﴾ يا محمد ﴿ عليهم ﴾ يعني على الكفار ﴿ وكيلا ﴾ موكولا إليك أمرهم حتى تكرههم على الإيمان وتهتم بكفرهم إنما أرسلناك مبشرا ونذيرا فدارهم ومر أصحابك باحتمال الأذى منهم.
﴿ وربك أعلم بمن في السماوات والأرض ﴾ من غيره يعلم من هو أهل لنبوته وولايته ومخلوق ومخبول للسعادة ومن هو على نقيض ذلك، فهو رد لاستبعاد قريش أن يكون يتيم أبي طالب نبيا ويكون فقراء الناس كبلال وصهيب أولياءه ومن أهل الجنة ويكون شرفاء قريش من أهل النار ﴿ ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ﴾ بالفضائل النفسانية والتبري عن العلائق الجسمانية لا بكثرة الأموال والأولاد ونحو ذلك، قال قتادة في هذه الآية اتخذ الله إبراهيم خليلا وكلم موسى تكليما وقال لعيسى كن فكان ( قلت : كلمه في المهد صبيا وآتاه الكتاب والحكمة وعلمه التوراة والإنجيل وأيده بروح القدس قال وآتى سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده يعني سخر له الجن والإنس والشياطين مقرنين في الأصفاد وآتى داود زبورا كما قال :
﴿ وآتينا داود زبورا ﴾ يعني فضله بما أوحى إليه من الكتاب لا بما أوتي من الملك، ففي هذه الآية على ما أنكر كفار مكة فضل النبي صلى الله عليه وسلم بأن فضل الأنبياء إنما كان بالفضائل النفسانية والتبري عن العلائق الجسمانية والعلوم الموحي إليهم ومراتب القرب من الله تعالى وشيوع الهداية لا بكثرة الأموال والأولاد ونحو ذلك، فالله سبحانه فضله على سائر النبيين بجعله خاتم النبيين وأمته خير والأمم المدلول عليه بما كتب ﴿ في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ﴾١ وأعطاه القرآن أقل حجما وأكثر علما وأظهر معجزة، ورفعه درجات :﴿ ثم دنا فتدلى٨ فكان قاب قوسين أو أدنى٩ ﴾٢ قال البغوي الزبور كتاب علمه الله داود يشتمل على مائة وخمسين سورة كلها دعاء وتحميد وثناء على الله عز وجل ليس فيها حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود انتهى، وتنكيره ههنا وتعريفه في قوله تعالى :﴿ ولقد كتبنا في الزبور ﴾٣ لأنه في الأصل فعول للمفعول كالودود بمعنى المودود، أو للمصدر كالقبول ويؤيده قراءة حمزة بالضم فهو كالعباس والفضل، أو لأن المراد بعض الزبور أو بعضا من الزبور فيه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
أخرج البخاري وغيره عن ابن مسعود قال :( كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجنيون واستمسك الآخرون بعبادتهم )٤ فأنزل الله تعالى ﴿ قل ادعوا الذين زعمتم ﴾.
١ سورة الأنبياء، الآية: ١٠٥..
٢ سورة النجم، الآية: ٨ــ٩..
٣ سورة الأنبياء، الآية: ١٠٥..
٤ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: ﴿قل ادعوا الذين زعمتم من دونه﴾ (٤٧١٤)..
﴿ قل ادعوا الذين زعمتم ﴾ أنها آلهة ﴿ من دونه ﴾ من الجن ﴿ فلا يملكون ﴾ أي لا يستطيعون ﴿ كشف الضر عنكم ﴾ كالمرض والفقر والقحط ﴿ ولا تحويلا ﴾ أي تحويل ذلك منكم إلى غيركم
﴿ أولئك الذين يدعون ﴾ أي يدعوهم المشركون آلهة ويعبدونهم من الجن ﴿ يبتغون إلى ربهم الوسيلة ﴾ حيث آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون إلى الله القربة بالطاعة، وقيل : الوسيلة التوصل إلى شيء برغبة وهي أخص من الوصيلة لتضمنها معنى الرغبة، فالوسيلة إلى الله مراعاة سبيله بالعلم والعمل وتحرى مكارم الشريعة فهي القربة، وفي القاموس الوسيلة والواسلة المنزلة عند الملك الدرجة والقربة ووسل إلى الله تعالى توسلا عمل عملا تقرب به إليه ﴿ أيهم أقرب ﴾ بدل من واو يبتغون أي يبتغي من هو أقرب منهم إلى الله الوسيلة فكيف بغير الأقرب كذا قال الزجاج، وقيل : معناه يطلبون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به أو ضمن يبتغون الوسيلة معنى يحرصون فكأنه قال يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله وذلك بالطاعة وازدياد الخير ﴿ ويرجون رحمته ويخافون عذابه ﴾ فكيف يزعمون أنها آلهة ﴿ إن عذاب ربك كان محذورا ﴾ حقيقا بأن يحذره كل أحد حتى الرسل والملائكة، وقال البيضاوي المراد أن الذين زعمتم أنها آلهة من دونه كالملائكة والمسيح وعزير لا يملكون كشف الضر ويبتغي أقربهم إلى الله الوسيلة قال ابن عباس ومجاهد عيسى وأمه عزير والملائكة والشمس والقمر والنجوم يطلبون إلى ربهم الوسيلة، ويرجون رحمته ويخافون عذابه، وقال البغوي أصاب المشركين قحط شديد حتى أكلوا الميتة والجيف فاستغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليدعوا لهم فأنزل الله تعالى قل للمشركين أدعوا الذين زعمتم إنها آلهة من دون الله فلا يملكون كشف الضر عنكم.
﴿ وإن ﴾ أي ما ﴿ من قرية ﴾ من القرى ﴿ إلا ﴾ قرية ﴿ نحن مهلكوها ﴾ أي مخربوها ومهلكوا أهلها بالموت ﴿ قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا ﴾ إذا كفروا وعصوا قال مقاتل وغيره يعني مهلكوها في حق المؤمنين بالإماتة أو معذبوها في حق الكفار بأنواع العذاب قال ابن مسعود إذا ظهر الزنى والربا في قرية أذن الله في هلاكها ﴿ كان ذلك في الكتاب ﴾ أي في اللوح المحفوظ ﴿ مسطورا ﴾ مكتوبا عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب، قال : ما أكتب ؟ قال : أكتب القدر فكتب ما كان وما هو كائن إلى الأبد )١ رواه الترمذي وقال : هذا حديث غريب إسنادا والله أعلم.
١ أخرجه مسلم في كتاب: التفسير، باب: في قوله تعالى:﴿أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة﴾ (٣٠٣٠)..
أخرج الطبراني والحاكم عن ابن عباس والطبراني وابن مردويه عن ابن الزبير نحوه أبسط منه أنه سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا، فأوحى الله إلى رسوله إن شئت إن استأني بهم فعلت وإن شئت أن أوتيهم ما سألوا فعلت فإن لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا بل تستان بهم فأنزل الله عز وجل ﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات ﴾ التي سألها الكفار استعير المنع لترك إرسال الآيات وأن مع صلتها في موضع النصب على أنه مفعول ثان لمنعنا ﴿ إلا أن كذب بها ﴾ أي بالآيات المقترحة المستثنى في محل الرفع بمنعنا ﴿ الأولون ﴾ أي كفار الأمم السابقة الذين كفار مكة أمثالهم في الطبع والعادة فأهلكوه، وأنه لو أرسلنا بالآيات لكذب هؤلاء كما كذب أولئك فيهلك هؤلاء كما أهلك أولئك، لأن من سنتنا في الأمم أنهم إذا سألوا الآيات ثم لم يؤمنوا بعد إرسال الآيات أن نهلكهم ولا نمهلهم، وقد حكمنا بإمهال هذه الأمة قال الله تعالى :﴿ بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر٤٦ ﴾١ ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بسبب تكذيب الآيات المقترحة فقال :﴿ وآتينا ثمود الناقة ﴾ بسؤالهم ﴿ مبصرة ﴾ أي آية بينة ذات أبصار﴿ فظلموا ﴾ أي كفروا ﴿ بها ﴾ أو ظلموا أنفسهم بعقرها فأهلكوا ﴿ وما نرسل بالآيات ﴾ المقترحة الباء زائدة ﴿ إلا تخويفا ﴾ من نزول العذاب المستأصل في الدنيا، فإن لم يخافوا نزل بهم العذاب في الدنيا، أو المعنى ما نرسل بالآيات التي نرسلها يعني غير المقترحة من المعجزات أو آيات القرآن إلا تخويفا بعذاب الآخرة منصوب على العلية وجاز أن يكون بالآيات في موضع الحال ويكون المفعول محذوفا، أي ما نرسل الرسل متلبسين بالآيات إلا لأجل التخويف من عذاب الآخرة
١ سورة القمر، الآية: ٤٦..
﴿ وإذ قلنا لك ﴾ أي أذكر إذ أوحينا إليك ﴿ إن ربك أحاط بالناس ﴾ ذاتا وعلما وقدرة فلا تبال أحدا منهم وبلغ ما أرسلت به، أو المعني أحاط بقريش بمعنى أهلكهم من أحاط بهم العدو، فهو بشارة بوقعة بدر والتعبير بلفظ الماضي لتحقق وقوعه والله أعلم.
أخرج أبو يعلى عن أم هاني وابن المنذر عن الحسن نحوه أنه صلى الله عليه وسلم لما أسري به يعني ليلة المعراج أصبح يحدث نفرا من قريش وهم يستهزءون به، فطلبوا منه آية فوصف لهم بيت المقدس وذكر لهم قصة العير، فقال الوليد بن المغيرة هذا ساحر، فأنزل الله تعالى :﴿ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك ﴾ ليلة المعراج من الآيات ﴿ إلا فتنة للناس ﴾ حيث أنكرها كفار مكة وارتد ناس ممن آمن به، ومن هذه الآية قال من قال أن المعراج كان بالمنام أسرى بروحه دون بدنه كما ذكرنا قول عائشة ويدل عليه حديث رواه البخاري، وقال ابن عباس المراد بالرؤيا ههنا عين وهو قول سعيد ابن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريج والأكثرين، والعرب تقول رأيت بعيني رؤية ورؤيا، وقال بعضهم كان له صلى الله عليه وسلم معراجان معراج رؤية بالعين ومعراج رؤية بالقلب، وأخرج ابن مردويه عن الحسن بن علي عليهما السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح يوما مهموما فقيل مالك يا رسول الله قال : إني رأيت في المنام كأن بني أمية يتعاورون منبرى هذا، فقيل : يا رسول الله لا تهتم فإنها دنيا تنالهم فأنزل الله تعالى ﴿ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ﴾ والمراد بالفتنة على هذا ما حدث في أيامهم من البدعة والفسوق، وأخرجه ابن جرير من حديث سهل بن سعد بلفظ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني فلان ينزون على منبره نزوة القردة فساءه ذلك فأنزل الله لك وأخرجه ابن أبي حاتم من حديث عمرو بن العاص ومن حديث يعلى بن مرة، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن سعيد بن المسيب مرسلا قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أمية على المنابر فساءه ذلك فأوحى الله إليه إنما أعطوها فقرت عينه، وأسانيد هذه الأحاديث ضعيفة. وقال قوم أراد بهذا الرؤيا ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية أنه دخل مكة هو وأصحابه فعجل السير إلى مكة قبل الأجل فصده المشركون فرجع فكان رجوعه فى ذلك العام بعدما أخبر أنه يدخلها فتنة وموجبا للشك لبعض الناس حتى دخلها في العام المقبل فأنزل الله تعالى :﴿ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق ﴾١ قال البيضاوي وفيه نظر إذ الآية مكية إلا أن يقال رآها بمكة وحكاها حينئذ، قلت : وهو أيضا غير سديد وقال : لعله رؤيا رآها ما كان فى وقعة بدر كقوله :﴿ إذ يريكهم الله في منامك قليلا ﴾٢ فقد روي أنه لما ورد ماءه قال :( لكأني أنظر إلى مصارع القوم هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان ) فتسامعت به قريش واستسخروا منه.
﴿ والشجرة ﴾ يعني شجرة الزقوم عطف على الرؤيا يعني وما جعلنا الشجرة ﴿ الملعونة في القرآن ﴾ إلا فتنة للناس، قال البغوي وذلك الفتنة من وجهين أحدهما أن أبا جهل قال إن ابن كبشة يوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أنها تنبت فيها شجرة وتعلمون أن النار تحرق الشجرة، ولم يشعر السفيه أن من قدر على أن يحفظ دبر السمندل من أن يحرقه النار وأحشاء النعامة من أذى الحمر وقطع الحديد المحماة التي تبلعها قادر على أن يخلق في النار شجرة لا يحرقها، قال في المدارك السمندل دويبة ببلاد الترك يتخذ منها مناديل إذا توسخت طرحت في النار فذهب الوسخ وبقي المنديل سالما لا يعمل فيه النار، وفي القاموس هو طائر ببلاد الهند لا يحترق بالنار، ثانيهما أن ابن الزبعري قال : إن محمدا يخوفنا بالزقوم نعرف الزقوم إلا الزبد والتمر، فقال : أبو جهل يا جارية تعالى زقمينا فأتت بالزبد والتمر فقال يا قوم تزقموا فإن هذا ما يخوفكم به محمد فوصفه الله في الصافات وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال : لما ذكر الله الزقوم وخوف به هذا الحي من قريش قال
أبو جهل هل تدرون ما هذا الزقوم الذي يخوفكم به محمد ؟ قالوا : لا قال : عجوة يثرب بالزبد أما لئن أمكننا منها لنتزقمنها تزقما فأنزل الله تعالى :﴿ والشجرة الملعونة في القرآن ﴾ الآية وأنزل :﴿ إن شجرة الزقوم٤٣ طعام الأثيم٤٤ ﴾٣ ولعنها في القرآن بمعنى لعن طاعمها وصفه به على المجاز للمبالغة أو وصفها به لأنها في أصل الجحيم وهو أبعد مكان من الرحمة، أو لأنها مكروهة مؤذية يقول العرب لكل طعام كريه ضار ملعون وقد أولت بالشيطان وأبي جهل والحكم بن أبي العاص ﴿ ونخوفهم ﴾ بأنواع التخويف ﴿ فما يزيدهم ﴾ تخويفنا شيئا ﴿ إلا طغيانا كبيرا ﴾ أي تمردا وعتوا عظيما.
١ سورة الفتح، الآية: ٢٧..
٢ سورة الأنفال، الآية: ٤٣..
٣ سورة الدخان، الآية: ٤٣ــ٤٤..
﴿ و ﴾ أذكر ﴿ إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا٦١ ﴾ أي لمن خلقته من طين فنصبه بنزع الخافض أو على التميز، ويجوز أن يكون حالا من الراجع المحذوف إلى الموصول أي خلقته وهو طين وحمله باعتبار ما كان أو وهو من طين، وفيه على الوجوه إيماء لعلة الإنكار، قال البغوي وذلك ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الله بعث إبليس حتى أخذ كفا من تراب الأرض من عذبها وملحها فخلق منه آدم فمن خلقه من العذب فهو سعيد وإن كان ابن كافرين ومن خلقه من الملح فهو شقي وإن كان ابن نبيين، وروى أحمد والترمذي وأبو داود والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي موسى الأشعري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوا آدم من قدر الأرض منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب )١
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة البقرة (٢٩٥٥) وأخرجه أبو داود في كتاب: السنة، باب: في القدر (٤٦٨١)..
﴿ قال ﴾ إبليس ﴿ أرأيتك ﴾ الكاف لتأكيد الخطاب لا محل له من الإعراب ﴿ هذا الذي كرمت علي ﴾ هذا مفعول أول لا رأيت والموصول صفته والمفعول الثاني محذوف لدلالة صلته عليه، والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته علي وتأمروني بالسجود له لم كرمته علي ﴿ لئن أخرتن ﴾أثبت الياء في الحالين ابن كثير وأثبتها في الوصل فقط نافع وأبو عمرو وحذفها الباقون في الحالين والمعنى لئن أمهلتني ولا تميتني ﴿ إلى يوم القيامة ﴾ ولهذا كلام مبتدأ واللام موطئة للقسم وجوابه ﴿ لأحتنكن ذريته ﴾ أي لاستأصلنهم بالإغواء من
احتنك الجراد الزرع إذا أكله كله، أو المعنى لأقودنهم كيف شئت واستولين عليهم من قول العرب حنك الدابة يحنكها إذ أشد في حنكها الأسفل حبلا يقودها، في القاموس احتنكه استولى عليه والجراد الأرض أكلت ما عليها ﴿ إلا قليلا ﴾ يعني المعصومين الذين استثناهم الله تعالى وقال ﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ﴾ قال البيضاوي إنما علم أن ذلك يتسهل له ما استنباطا من قول الملائكة :﴿ أتجعل فيها من يفسد فيها ﴾١ مع التقرير أو تفرسا من خلقته ذا وهم وغضب وشهوة.
١ سورة البقرة، الآية: ٣٠..
﴿ قال ﴾ الله تعالى ﴿ اذهب ﴾ امض لما قصدته وهو طرد وتخلية بينه وبين ما سولت له نفسه ثم عقبه بما أفضى إليه سوء اختياره فقال ﴿ فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم ﴾ أي جزاؤك وجزاء أتباعك فغلب المخاطب على الغائب ﴿ جزاء موفورا ﴾ أي وافرا مكملا من قولهم وفر لصاحبك عرضه، وانتصاب جزاء على المصدر بإضمار فعله أو حال موطية لقوله﴿ موفورا ﴾
﴿ واستفزز ﴾أي استخف واستزل واستجهل، في القاموس استفزه استخفه وأخرجه من داره ﴿ من استطعت ﴾ أن تستفزه ﴿ منهم ﴾ أي من ذرية آدم ﴿ بصوتك ﴾ قال ابن عباس أي بدعائك إياهم إلى المعصية وكل داع إلى معصية الله فهو من جند إبليس، وقال الأزهري أي ادعهم دعاء تستفزهم به إلى جانبك وقال مجاهد أي بالغناء والمزامير ﴿ وأجلب عليهم ﴾ جلبه يجلبه اجتلبه ساقه من موضع إلى آخر كذا في القاموس، ومنه في الحديث لا جلب، قال في النهاية الجلب في شيئين أحدهما أن يقدم المصدق على الزكاة فينزل موضعا يرسل من يجلب إليه فنهى عن ذلك وأمر أن تؤخذ صدقاتهم على مياههم وأماكنهم، ثانيهما في السباق وهو أن يتبع الرجل فرسه فيزجره ويجلب عليه ويصيح حثا له على الجري فنهى عن ذلك وفي القاموس أجلب على الفرس زجره وأيضا الجلبة الصوت، في القاموس رعد فجلب أي فصوت وأجلب عليه إذا صاح به واستحثه في حديث الزبير يقود الجيش ذا الجلب قال القتيبي هو جمع جلبة وهو الأصوات، وأيضا الجلب الاجتماع، قال في النهاية يقال أجلبوا عليه إذا تجمعوا وأجلبه أي أعانه في حديث العقبة إنكم تبايعون محمدا صلى الله عليه وسلم على أن تحاربوا العرب والعجم مجلبة أي مجتمعة على الحرب، فمعنى الآية اجمع مكائدك وخيلك ورجلك أو المعنى صح عليهم وحثهم على المعاصي أو المعنى سقهم إلى المعاصي أو المعنى أعنهم على المعاصي وقال معناه استعن عليهم ﴿ بخيلك ورجلك ﴾ أي بركبانك ومشاتك، قال أهل التفسير كل راكب وماش في المعاصي فهو من جند إبليس، وقال مجاهد قتادة إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس وهو كل من يقاتل في المعصية، وقال البيضاوي معناه صح عليهم بإغوائك من راكب وراجل، ويجوز أن يكون تمثيلا لتسلطه على من يغويه بمن عدا على قوم فاستفزهم من أماكنهم وأجلب عليهم بجنده حتى استأصلهم، قرأ حفص رجلك بكسر الجيم والباقون بسكونها وهما لغتان ﴿ وشاركهم في الأموال ﴾ بحملهم على كسبها وجمعها من الحرام وصرفها فيها كذا قال مجاهد والحسن وسعيد بن جبير، وقال عطاء هو الربا وقال هو ما كان المشركون يحرمونه من الأنعام كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وقال الضحاك وما كانوا يذبحونه لآلهتهم ﴿ والأولاد ﴾ روي عن ابن عباس أنها المؤودة، وقال مجاهد والضحاك هم أولاد الزنى، وقال الحسن وقتادة هو أنهم هودوا أولادهم ونصروهم ومجسوهم، وعن ابن عباس رواية أخرى هو تسمية الأولاد عبد الحارث وعبد الشمس وعبد العزى وعبد الدار ونحوها، وروي عن جعفر بن محمد عليهم السلام :( إن الشيطان يقعد على ذكر الرجل فلم يقل بسم الله أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها كما ينزل الرجل " قال البغوي وفي بعض الأخبار إن فيكم مغربين قيل : ومن المغربين ؟ قال : الذين شارك فيهم الجن ﴿ وعدهم ﴾ المواعيد الباطلة كشفاعة الأصنام والاتكال على كرامة الآباء وتأخير التوبة وأن لا جنة ولا نار ولا بعث فإن قيل : هذا أمر بالمعصية والله لا يأمر بالفحشاء ؟ قلنا : هذا أمر بمعنى التهديد كقوله تعالى :﴿ اعلموا ما شئتم ﴾١ أو للإهانة يعني لا يخل ذلك بملكي ﴿ وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ﴾ اعتراض لبيان مواعيده والغرور تزيين الباطل بما يظن أنه حق.
قال البغوي في الآثار أن إبليس لما خرج إلى الأرض، قال : يا رب أخرجتني من الجنة لأجل آدم فسلطني عليه وعلى ذريته، قال : أنت مسلط فقال : لا أستطيعه إلا بك فزدني قال ﴿ واستفزز من استطعت منهم بصوتك ﴾٢ الآية، وقال آدم يا رب سلطت إبليس علي وعلى ذريتي وإني لا أستطيعه إلا بك، قال : لا يولد لك ولد إلا وكلت به.
قال : زدني قال : الحسنة بعشر أمثالها، قال : زدني قال : التوبة معروضة ما دام الروح.
قال : زدني قال :﴿ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا ﴾٣ الآية. وفي الخبر أن إبليس قال : يا رب بعثت أنبياء وأنزلت كتبا، فما قراءتي ؟ قال : الشعر، قال : فما كتابي ؟ قال : الوشم، قال : ومن رسلي ؟ قال : الكهنة، قال : وأين مسكني ؟ قال : الحمامات، قال : وأين مجلسي ؟ قال : الأسواق، قال : أي شيء مطعمي ؟ قال : ما لم يذكر عليه اسمي، قال : ما شرابي ؟ قال : كل مسكر، قال : وما حبالتي ؟ قال النساء، قال : وما أداتي ؟ قال المزامير
١ سورة فصلت، الآية: ٤٠..
٢ سورة الإسراء، الآية: ٦٤..
٣ سورة الزمر، الآية: ٥٣..
﴿ إن عبادي ﴾ أي المخلصين والإضافة للتعظيم ﴿ ليس لك عليهم ﴾ أي على إغوائهم ﴿ سلطان ﴾ قدره ﴿ وكفى بربك وكيلا ﴾ أي من يتوكلون به في الاستعاذة منك ويوكلون إليه أمورهم فهو يحفظهم منك.
﴿ ربكم الذي ﴾ أي هو الذي ﴿ يزجي ﴾أي يسوق ويجري ﴿ لكم الفلك ﴾ أي السفن ﴿ في البحر لتبتغوا من فضله ﴾ الربح وأنواع الرزق ما ليس عندكم ﴿ إنه كان بكم رحيما ﴾ حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهل لكم ما تعسر
﴿ وإذا مسكم الضر ﴾ شدة الخوف من الغرق ﴿ في البحر ضل ﴾ أي ذهب عن خواطركم ﴿ من تدعون ﴾ أي من تدعونه آلهة ﴿ إلا إياه ﴾ أي إلا الله تعالى فإنكم لا تذكرون حينئذ سواه، أو ضل من تدعونه آلهة عن إغاثتكم ولكن الله يذهب عنكم الضر فالاستثناء حينئذ منقطع ﴿ فلما نجاكم ﴾ من الغرق ﴿ إلى البر أعرضتم ﴾ عن التوحيد ﴿ وكان الإنسان كفورا ﴾ للنعم هذا كالتعليل للإعراض
﴿ أفأمنتم ﴾ الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم فحملكم ذلك على الإعراض ولا ينبغي ذلك فإنه من قدر أن يهلككم في البحر بالغرق قدر ﴿ أن يخسف بكم جانب البر ﴾ أي يقلب الله ناحية البر وأنتم عليه أو يقلبه بسببكم فيهلككم فقوله بكم إما حال أو صلة ﴿ أو يرسل عليكم حاصبا ﴾ أي ريحا يحصب به أي يرمي بالحصباء أي الحصى وهي الحجارة الصغار ﴿ ثم لا تجدوا لكم وكيلا ﴾ مانعا يحفظكم من ذلك إذ لا راد لفعله
﴿ أم أمنتم أن يعيدكم فيه ﴾ أي في البحر ﴿ تارة ﴾ مرة ﴿ أخرى ﴾ يخلق دواعي يلجيكم إلى أن ترجعوا فتركبوا البحر ﴿ فيرسل عليكم قاصفا من الريح ﴾ قال ابن عباس أي عاصفا وهي الريح الشديدة، وقال عبيدة التي تقصف أي تدق وتحطم كل شيء وقال القتيبي هي التى تقصف الشجر أي تكسره ﴿ فيغرقكم بما كفرتم ﴾ أي بسبب إشراككم أو بكفرانكم نعمة الإنجاء أول مرة، قرأ ابن كثير وأبو عمرو أن نخسف ونرسل ونعيد ونغرقكم بالنون فيهن على التكلم والتعظيم والباقون بالياء على الغيبة غير أن أبا جعفر ويعقوب قرأ فتغرقكم بالتاء الفوقانية على التأنيث والضمير راجع إلى الريح ﴿ ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ﴾ أي ناصرا وثائرا يتبعنا مطالبا بالثأر وقيل : من يتبعها بالإنكار.
﴿ ولقد كرمنا بني آدم ﴾ بحسن الصورة والمزاج الأعدل واعتدال القامة والتميز بالعقل والإفهام بالنطق والإشارة والخط والتهدي إلى أسباب المعاش والمعاد والتسلط على ما في الأرض بأن سخر لهم سائر الأشياء والتمكن من الصناعات واتساق الأسباب والمسببات العلوية والسفلية إلى ما يعود عليهم بالمنافع وأن يتناول الطعام بيده إلى فيه بخلاف سائر الحيوانات والعشق والمعرفة والوحي ومراتب القرب من الله تعالى، أخرج الحاكم في التاريخ والديلمي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الكرامة الأكل بالأصابع )١ ﴿ وحملناهم في البر ﴾ على الدواب ﴿ والبحر ﴾ على السفن من حملته حملا إذا جعلت له ما يركبه أو حملناهم فيهما حتى لا يخسف بهم الأرض ولم يغرقهم الماء ﴿ ورزقناهم من الطيبات ﴾ أي المستلذات من المطاعم والمشارب ﴿ وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ﴾الفضل في اللغة الزيادة والمراد ههنا الزيادة في الثواب ومراتب القرب إلى الله تعالى فالضمير المنصوب في فضلناهم راجع إلى بني آدم باعتبار بعض أفراده يعني المؤمنين كما في قوله تعالى :﴿ والمطلقات يتربصن ﴾ إلى قوله تعالى ﴿ وبعولتهن ﴾أي الرجعيات منهن ﴿ أحق بردهن ﴾٢ وذلك لأن الكفار منهم هم أدون خلق الله وأبغضهم إليه وأخبثهم ﴿ أولئك هم شر البرية٦ ﴾ وظاهر الآية تدل على أن فضلهم على كثير من الخلائق لا على كلهم فقال قوم فضلوا على جميع الخلق إلا الملائكة، وقال الكلبي فضلوا على الخلائق كلهم إلا على طائفة من الملائكة منهم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وقال قوم فضلوا على جميع الخلق وعلى الملائكة كلهم وقد يوضع الأكثر موضع الكل كما قال الله تعالى :﴿ هل أنبئكم على ما تنزل الشياطين٢٢١ ﴾٣ إلى قوله ﴿ وأكثرهم كاذبون ﴾٤ أي كلهم ويؤيده حديث جابر يرفعه قال ( لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة فقال الله تعالى لا أجل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان ) رواه البيهقي في شعب الإيمان.
والتحقيق أن عوام المؤمنين أي الصالحين منهم وهم أولياء الله أفضل من عوام الملائكة وأما غير الأولياء من المؤمنين فبعدما يمحصون من الخطايا إما بالمغفرة وإما بالعقاب بقدر ذنوبهم ويدخلون الجنة يلتحقون بالأولياء، وخواص المؤمنين وهم الأنبياء عليهم السلام أفضل من خواص الملائكة قال الله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية٧ ﴾٥ وروي عن أبي هريرة أنه قال : المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده ) كذا ذكر البغوي، ورواه ابن ماجه بلفظ ( المؤمن أكرم على الله من بعض ملائكته )٦ يعني جنس المؤمن أكرم على الله من بعض ملائكته قلت : قيد الأكثر في هذه الآية وكذا قيد البعض في حديث أبي هريرة عند ابن ماجه لا ينفي أفضلية بعض المؤمنين يعني الأنبياء على جميع الملائكة إلا بالمفهوم ولا عبرة بالمفهوم لا سيما في مقابلة عموم منطوق قوله تعالى :﴿ أولئك هم خير البرية ﴾. ألا ترى أن معنى الآية فضلنا جميع المؤمنين يعني كل واحد منهم على كثير من الخلائق، وذا لا ينافي ما قال أهل السنة في كتب العقائد أن الخواص منهم فضلوا على كل ملك حتى خواصهم ووجه فضلهم على الملائكة أنهم مجبولون على الطاعة فيهم عقل بلا شهوة وفي البهائم شهوة بلا عقل وفي الإنسان عقل وشهوة فمن عمل على مقتضى عقله وترك شهوته جاهد في الله حق جهاده فاجتباه الله وقال الله تعالى :﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين٦٩ ﴾٧ ومن عمل بشهوته وأهمل عقله :﴿ وآثر الحياة الدنيا٣٨ ﴾٨ فالجحيم له المأوى وهم :﴿ كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ﴾. ٩
١ رواه الديلمي عن جابر.
انظر كشف الخفاء (٢٩٧٠)..

٢ سورة البقرة، الآية: ٢٢٨..
٣ سورة الشعراء، الآية: ٢٢١..
٤ سورة الشعراء، الآية: ٢٢٣..
٥ سورة البينة، الآية: ٧..
٦ أخرجه ابن ماجة في كتاب: الفتن، باب المسلمون في ذمة الله عز وجل (٣٩٤٧) في الزوائد. إسناده ضعيف لضعف يزيد بن سفيان أبي المهزم..
٧ سورة العنكبوت، الآية: ٦٩..
٨ سورة النازعات، الآية: ٣٨..
٩ سورة الأعراف، الآية: ١٧٩..
﴿ يوم ندعوا ﴾ منصوب بإضمار اذكر أو ظرف لما دل عليه ﴿ ولا يظلمون ﴾ ﴿ كل أناس بإمامهم ﴾ قال مجاهد وقتادة أي بنبيهم، وقال أبو صالح والضحاك بكتابهم الذي أنزل إليهم، أخرج ابن مردويه عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يدعى قوم بإمام لهم و كتاب ربهم ) وعن سعيد بن جبيرعن ابن عباس : بإمام زمانهم الذي دعاهم فى الدنيا إلى ضلالة أو هدى قال الله تعالى :﴿ وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ﴾١ وقال :﴿ وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ﴾٢ وقيل : بمعبودهم، وعن سعيد بن المسيب قال : كل قوم يجتمعون إلى رئيسهم في الخير والشر، وقال الحسن وأبو العالية أعمالهم التي قدموها، وقال قتادة أيضا بكتابهم الذي فيه أعمالهم بدليل سياق الآية ويسمى الكتاب إماما، قال الله تعالى :﴿ وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ﴾٣ وقيل : بالقوى الحاملة لهم على عقائدهم وأفعالهم، وقال محمد بن كعب بأمهاتهم جمع أم كخف وخفاف والحكمة في ذلك إجلال عيسى عليه السلام وإظهار شرف الحسن والحسين عليهما السلام، وأن لا يفتضح أولاد الزنى، قوله بإمامهم حال أي مختلطين بمن أيتموا به من نبي أو كتاب أو رئيس في الخير أو الشر أو حاملين أعمالهم أو صحائفها، أو صلة لندعوا يعني ندعوهم باسم إمامهم يقال يا أمة فلان يا أتباع فلان يا أهل دين وكتاب كذا يا أصحاب أعمال كذا يا ابن مريم يا ابن فاطمة ونحو ذلك ﴿ فمن أوتي ﴾ من المدعوين ﴿ كتابه ﴾ أي كتاب عمله ﴿ بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا٧١ ﴾ منصوب على المصدرية أي لا يظلمون ظلما قدر فتيل، أو على المفعولية بتضمين ينقصون أي لا تنقص من أجورهم أدني شيء قدر فتيل، والفتيل ما يكون في شق النواة أو ما فتلتة بين أصابعك من الوسخ، وجمع اسم الإشارة والضمير لأن من أوتي في معنى الجمع وتعليق القراءة بإيتاء الكتاب باليمين يدل على من أوتي كتابه بشماله أو وراء ظهره إذا أطلع ما فيه غشيهم من الخجل و الحيرة ما يحبس ألسنتهم من القراءة فلا يقرؤون بل يقولون ﴿ يا ليتني لم أوت كتابيه ﴾٤ ولم يذكر الكفار وإيتاء كتبهم اكتفاء بقوله ﴿ ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى ﴾
١ سورة الأنبياء، الآية: ٧٣..
٢ سورة القصص، الآية: ٤١..
٣ سورة يس، الآية: ١٢..
٤ سورة الحاقة، الآية: ٢٥..
﴿ ومن كان في هذه أعمى ﴾ قيل : هذه إشارة إلى النعم التي عدها الله من قوله ﴿ ربكم الذي يزجي لكم الفلك ﴾١ إلى قوله ﴿ تفضيلا ﴾٢ يعني من كان في هذه النعم التي قد عاين أعمى فهو في الآخرة التي لم يره أشد عمى وأضل سبيلا، ويروى هذا عن ابن عباس، وقيل : إشارة إلى الدنيا يعني من كان في هذه الدنيا أعمى القلب عن رؤية أدلة التوحيد وطريق الحق ﴿ فهو في الآخرة أعمى ﴾ قيل : معناه التفضيل يعني أشد عمى منه في الدنيا لا يرى طريق النجاة أصلا. فإن قيل : أفعل التفضيل شرطه أن لا يكون من لون أو عيب فكيف اعتبر فيه معنى التفضيل ؟ قلنا : المراد بالعمى ههنا عمى القلب والمانع من بناء أفعل التفضيل العيب الظاهري، فالأعمى ههنا كالأحمق والأجهل والأبله ولذلك أمال أبو عمرو ويعقوب في الأول فقط، ولم يميلا في الثانية لأن أفعل التفضيل إذا استعمل بمن كانت ألفه في حكم المتوسط فلا يمال بخلاف أفعل الصفة وأما أبو بكر وحمزة والكسائي فقرءوا بالإمالة في الحرفين وورش بين بين فيهما والباقون بالفتح فيهما على أصولهم فهم لا يعتبرون معنى التفضيل ﴿ وأضل سبيلا ﴾ منه في الدنيا لزوال الاستعداد وفقدان الآلة والمهلة وكان في الدنيا تقبل توبته إن تاب وفي الآخرة لا تقبل توبته أو المعنى أضل سبيلا من الأعمى.
١ سورة الإسراء، الآية: ٦٦..
٢ سورة الإسراء، الآية: ٧٠..
أخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة عن ابن عباس قال : خرج أمية بن خلف وأبو جهل بن هشام ورجال من قريش فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد تعال فتمسح بآلهتنا وندخل معك في دينك وكان يجب إسلام قومه فرق لهم فأنزل الله تعالى :﴿ وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك ﴾ الآية، قال صاحب لباب النقول في أسباب النزول هذا أصح ما ورد في سبب نزولها وهو إسناد جيد وله شواهد، أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الحجر فقالوا : لا ندعك تستلم حتى تلم بآلهتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( وما علي لو فعلت والله يعلم مني خلافه ) وذكر البغوي نحوه وفيه والله يعلم أني لكاره بعد أن يدعوني حتى أستلم الحجر، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب نحوه والله أعلم، وأخرج ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير أن قريشا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن كنت أرسلت إلينا فاطرد الذين اتبعوك من سقاط الناس ومواليهم فنكون نحن أصحابك فركن رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فنزلت، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ النجم :﴿ أفرأيتم اللآت والعزى١٩ ﴾١ فألقى عليه الشيطان تلك الغرانيق العلى إن شفاعتهن لترتجى فنزلت هذه الآية فما زال مهموما حتى أنزل الله تعالى :﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ﴾٢ الآية، وفي هذه الأحاديث دليل على أن هذه الآية مكية، وقيل : إنها مدنية وذكر سبب نزوله ما أخرجه ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس أن ثقيفا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أجلنا سنة حتى تهدى لآلهتنا فإذا قبضنا الذي تهدى للآلهة أحرزنا بم أسلمنا، فهم أن يؤجلهم فنزلت وإسناده ضعيف وذكر البغوي هذه القصة بأنه قال ابن عباس وفد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال قال : وما هن ؟ قالوا : لا نحني في الصلاة أي لا نخني، ولا نكسر أصنامنا بأيدينا، وأن تمتعنا باللات يوم عبارة والعزى سنة من غير أن نعبدها، فقال صلى الله عليه وسلم : لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود وأما أن لا تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم وأما الطاغية يعني اللات فإني غير ممتعكم بها ) قالوا يا رسول الله إنا نحب أن يسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا فإن خشيت أن يقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمر بذلك فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم ذلك فأنزل الله تعالى :﴿ وإن كادوا ليفتنونك ﴾ الآية، إن هي المخففة واللام هي الفارقة والمعنى إن الشأن أنهم قاربوا بمبالغتهم أن يوقعوك في الفتنة بالاستنزال عن الذي أوحينا إليك من الأحكام ﴿ لتفتري ﴾ أي لتختلق ﴿ علينا غيره ﴾ أي غير ما أوحينا إليك ﴿ وإذا ﴾ أي إذا فعلت ذلك الافتراء ﴿ لاتخذوك خليلا ﴾ وليا لهم.
١ سورة النجم، الآية: ١٩..
٢ سورة الحج، الآية: ٥٢..
﴿ ولولا أن ثبتناك ﴾ يعني لولا ثبت تثبيتنا إياك على الحق ﴿ لقد كدت تركن إليهم ﴾ أي لقاربت أن تميل إلى إتباع مرادهم ﴿ شيئا ﴾ من الركون والميل ﴿ قليلا ﴾ منصوب على المصدرية يعني كنت على قرب من الركون إليهم لقوة خدعهم وشدة احتيالهم وحرصك على إسلامهم قليلا من الركون لا كثيرا منه لولا عصمتنا إياك ولكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب من أدنى الركون إليهم فضلا من القرب إلى شدة الركون ومن نفس الركون بالطريق الأولى، فالآية دلت على كمال الاستقامة والصلاح في استعداد النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث لو لم يتداركه العصمة والتثبيت من الله فرضا لا تقرب من الميلان إلى المعصية إلا قليلا وقليل الاقتراب إلى المعصية لا يقتضي الوقوع في المعصية فكيف إذا أدركته العصمة ومنعته من قليل الاقتراب من الركون فضلا من كثير الاقتراب وشتان بينه وبين نفس الركون فالآية صريح في أنه صلى الله عليه وسلم ما هم بإجابتهم مع قوة الداعي والله أعلم.
﴿ إذا ﴾ أي إذا قاربت إلى الركون شيئا قليلا ﴿ لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ﴾ أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ضعف ما يعذب به في الدارين غيرك لأن خطأ الخطير أخطر، وكان أصل الكلام عذابا ضعفا في الحياة وعذابا ضعفا في الممات يعنى مضاعفا ثم حذف الموصوف وأقيم الصفة مقامه ثم أضيفت لما تضاف موصوفها، وقيل : الضعف من أسماء العذاب سمى العذاب ضعفا لتضاعف الألم فيه والمعنى عذاب الحياة الدنيا ومن عذاب الممات ما يكون بعد الموت، وقيل : المراد بضعف الحياة عذاب الآخرة وبضعف الممات عذاب القبر ﴿ ثم لا تجد لك علينا نصيرا ﴾ يدفع العذاب عنك والله أعلم.
أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل من حديث شهر بن حوشب عن عبد الرحمن ابن غنم أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن كنت نبيا فالحق بالشام فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء فصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالوا وغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى آيات من سورة بني إسرائيل
﴿ وإن كادوا ليستفزونك ﴾ أي ليزعجونك والاستفزاز الإزعجاج بسرعة ﴿ من الأرض ﴾ أي المدينة ﴿ ليخرجوك منها ﴾ فأمره بالرجوع إلى المدينة فقال له جبرئيل سل ربك فإن لكل نبي مسألة فقال : ما تأمرني أن أسئل قال :﴿ وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ﴾١ فهؤلاء نزلن في رجعته من تبوك هذا مرسل ضعيف وله شواهد من مرسل سعيد بن جبير عند أبي حاتم ولفظه قالت المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم كانت الأنبياء تسكن الشام فمالك والمدينة فهم أن يشخص فنزلت، وله طريق أخرى مرسلة عند ابن جرير أن بعض اليهود قال له، وذكر البغوى قول الكلبى أنه لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كره اليهود مقامه في المدينة حسدا فأتوه وقالوا : يا أبا القاسم لقد علمت ما هذه بأرض الأنبياء وإن أرض الأنبياء الشام وهي الأرض المقدسة وكان بها إبراهيم والأنبياء عليهم السلام فإن كنت نبيا مثلهم فأت الشام، وإنما يمنعك من الخروج إليها مخافتك الروم وإن الله سيمنعك منهم إن كنت رسوله فعسكر النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أميال من المدينة وفي رواية إلى ذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه ويخرج فأنزل الله هذه الآية، وقال مجاهد وقتادة الأرض أرض مكة والآية مكية هم المشركون أن يخرجوه منها فكفهم الله عنها حتى أمره الله بالهجرة فخرج بنفسه، قال البغوي وهذا أليق بالآية لأن ما قبلها خبر عن أهل مكة والسورة مكية، وقيل : هم الكفار كلهم أرادوا أن يستفزوه من أرض العرب باجتماعهم وتظاهروا عليه فمنع الله رسوله صلى الله عليه وسلم ولم ينالوا منه ما أملوه والله أعلم ﴿ وإذا ﴾ أي إذا استفزوك ﴿ لا يلبثون خلافك ﴾ قرأ ابن عامر وحمزة والكسائى ويعقوب خلافك بكسر الخاء والألف بعد اللام والباقون بفتح الخاء وإسكان اللام والمعنى واحد يعني بعد خروجك أو بعد استفزازك ﴿ إلا قليلا ﴾ أي إلا زمانا قليلا، قيل : وكان كذلك فإن يهود المدينة قتل منهم بنوا قريظة وأجلي بنو النضير وأجلي يهود خيبر في خلافة عمر وقتل مشركوا مكة بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر وأخرج الكفار كلهم من جزيرة العرب، وقيل لم يتحقق الاستفزاز ولو استفزوا لاستوصلوا.
١ سورة الإسراء، الآية: ٨٠..
﴿ سنة ﴾ نصب على المصدر أي سن الله ذلك سنة وهو أن يملك كل أمة أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم فهذه سنة الله تعالى وإنما أضاف إلى الرسل حيث قال ﴿ من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ﴾ لأن ذلك السنة كان لأجل الرسل ﴿ ولا تجد لسنتنا تحويلا ﴾ أي تغيرا.
﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس ﴾ اللام للتأنيث كما في قولك لثلاث خلون، يعني صل وقت دلوك الشمس، ومعناه الزوال على قول ابن عباس وابن عمر وجابر وهو قول عطاء وقتادة ومجاهد والحسن وأكثر التابعين كذا روى ابن مردويه عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا روى البزار وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ويدل عليه ما رواه إسحاق بن راهويه في مسنده وابن مردويه في تفسيره والبيهقي في المعرفة من حديث أبي مسعود الأنصاري قوله صلى الله عليه وسلم :( أتاني جبرئيل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر ) الحديث وهو من الدلك لأن الناظر إليها يدلك عينه ليدفع شعاعها، وقيل معنا الغروب قال البغوي روي عن ابن مسعود أنه قال : الدلوك الغروب وهو قول إبراهيم النخعي ومقاتل بن حبان والضحاك والسدي ومعنى اللفظ يجمعهما لأن أصل الدلوك الميل والشمس يميل إذا زالت أو غربت، وفي القاموس دلكت الشمس دلوكا غربت أو اصفرت أو زالت عن كبد السماء، قال البيضاوي أصل التركيب للانتقال ومنه الدلك فإن الدالك لا يستقر يده وكذا ما يتركب من الدال واللام كدلج ودلح ودلع ودلف ودله، قال البغوي والحمل على الزوال أولى القولين لكثرة القائلين به ولأنا إذا حملنا عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلها حيث قال الله تعالى :﴿ إلى غسق الليل ﴾ أي إلى غيبوبة شفق الليل وامتلائه ظلمة ومعنى الغسق الامتلاء كما ذكرنا في سورة الفلق وفي القاموس الغسق ظلمة أول الليل والغاسق القمر أو الليل إذا غاب الشفق فذكر فيه مواقيت أربع من الصلوات الخمس الظهر والعصر والمغرب والعشاء وذكر وقت الفجر بقوله :﴿ وقرءان الفجر ﴾ أي صلاة الفجر سميت الصلاة قرآنا لأن القرآن ركن فيها، كما سميت ركوعا وسجودا، وانتصاب القرآن إما على أنه عطف على الصلاة أي وأقم قرآن الفجر قاله الفراء، وقال أهل البصرة هو على الإغراء أي وعليك قرآن الفجر، وجاز أن يكون التقدير واقرأ قرآن الفجر يعني اقرأ القرآن في صلاة الفجر، فيكون أمرا بالقراءة في صلاة الفجر عبارة وفي غيرها دلالة، وقد ذكرنا مواقيت الصلاة في سورة النساء في تفسير
قوله تعالى :﴿ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ﴾١ ﴿ إن قرآن الفجر كان مشهودا ﴾ يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار وعن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( تفضل صلاة الجميع على صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءا ويجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر، ثم يقول أبو هريرة اقرءوا إن شئتم ﴿ وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا٧٨ ﴾٢ رواه البخاري وغيره، قال البيضاوي أو يشهده شواهد القدرة من تبدل الظلمة بالضياء والنوم الذي هو أخو الموت بالانتباه، أو كثير من المصلين أو من حقه أن يشهده الجمع الغفير، وقيل : المراد بالصلاة في قوله تعالى أقم الصلاة صلاة المغرب لدلوك الشمس أي وقت غروبها إلى غسق الليل أي إلى غيبوبة الشفق ففيه بيان لمبدأ وقت المغرب ومنتهاه ودلت الآية على هذا على كون وقت المغرب ممتد إلى غيبوبة الشفق فحينئذ أمر الله بالصلاتين لكمال اهتمامهما.
١ سورة النساء، الآية: ١٠٣..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الجماعة والإمامة، باب: فضل صلاة الفجر في جماعة (٦٢١)..
﴿ ومن الليل ﴾ أي بعض الليل ﴿ فتهجد به ﴾ أي فاترك الهجود يعني النوم للصلاة والضمير في به للقرآن، في القاموس الهجود بضم الهاء النوم كالتهجد وتهجد استيقظ كهجد ضد وأهجد نام وأنام كهجد وهجده تهجيدا أيقظه ونومه ضد، والحاصل أن التشديد إن كان للإزالة فمعناه ترك النوم وهو المراد ههنا وإن كان للتعدية فمعناه نومه، قال البغوي التهجد لا يكون إلا بعد النوم يقال تهجد إذا قال بعد ما ينام، قلت : لما كان معناه ترك النوم للصلاة فهو يشتمل من ترك النوم الليل كله أو بعضه بعد النوم أو قبله فلا وجه لاشتراط النوم قبل الصلاة لقيام الليل. عن أبي ذر قال : صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقى سبع، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل فلما كانت السادسة لم يقم بنا فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل، فقلت : يا رسول الله لو نفلتنا قيام هذه الليلة، قال :( إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة ) فلما كانت الرابعة لم يقم بنا حتى بقي ثلث الليل فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، قلت : ما الفلاح ؟ قال : السحور ثم لم يقم بنا بقية الشهر )١ رواه أصحاب السنن إلا أن الترمذي لم يذكر ثم لم يقم بقية الشهر، وعن السائب بن يزيد قال : أمر عمر أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس بإحدى عشر ركعة فكان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصا من طول القيام، فما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر رواه مالك وعن أبي ابن كعب كان يقول : كنا ننصرف في رمضان من القيام فيستعجل الخدم بالطعام مخافة السحور وفي رواية مخافة الفجر رواه مالك، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافر إلى قريب من الصبح وفي حديث ابن عمر قال :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض ويوتر على راحلته )٢ متفق عليه وقال ابن عباس كان صلاتهم أول الليل هي اشد وطأ، بمعنى أجدر أن يحصوا ما فرض الله عليكم من القيام لأن الإنسان إذا نام لم يدر متى يستيقظ، لكن التهجد آخر الليل أفضل وأكثر ثوابا منها أول الليل لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر )٣ الحديث، وعن عبد الرحمن بن عبد القارى قال :( خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة إلى المسجد يعني في رمضان فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل ويصلي بصلاته الرهط فقال عمر لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، قال : ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر : نعمت البدعة هذه والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله )٤ رواه البخاري والله أعلم.
مسألة : كانت صلاه الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم في الابتداء وعلى الأمة بقوله تعالى :﴿ يأيها المزمل١ قم الليل إلا قليلا٢ ﴾٥ ثم نزل التخفيف فصار الوجوب منسوخا في حق الأمة بالصلوات الخمس وبقي الاستحباب قال الله تعالى :﴿ فاقرؤوا ما تيسر منه ﴾٦ واختلفوا في أنه هل بقي وجوب قيام الليل في حق النبي صلى الله عليه وسلم خاصة أم صار منسوخا في حقه أيضا ؟ فقال بعض الناس ببقاء وجوب قيام الليل في حق النبي صلى الله عليه وسلم لما روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ثلاث هن علي فريضة وهي سنة لكم الوتر والسواك وقيام الليل )٧ فالأمر على هذا في هذه الآية للوجوب ومعنى قوله تعالى :﴿ نافلة لك ﴾ فريضة زائدة على سائر الفرائض فرضها الله تعالى عليه والمختار عندي أن افتراض قيام الليل نسخ عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا وكان له تطوعا كما هو مدلول هذه الآية صحيحا ولو كان المعنى فريضة زائدة لقال نافلة عليك فإن صلة الوجوب يكون على دون اللام. فإن قيل : فما وجه تخصيصه بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو نافلة للعباد كلهم ؟ قلنا : وجه التخصيص أن نوافل العباد كفارة لذنوبهم والنبي صلى الله عليه وسلم كان معصوما لم يكن عليه ذنب وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يعني زلاته، وما هو من قبيل ترك الأولى فيبقى له التهجد نافلة أي زائدة في رفع الدرجات، كذا روى مجاهد والحسن وأبو أمامة ويدل على كون التهجد تطوعا في حق النبي صلى الله عليه وسلم حديث المغيرة قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه فقيل له لم تصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال :( أفلا أكون عبدا شكورا )٨ ولم يقل إنه فريضة علي خاصة وحديث ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يصلي في السفر على راحلته حيث توجهت به يومئ إيماء صلاة الليل إلا الفرائض ويوتر على راحلته )٩ متفق عليه. مسألة : اختلفوا في أن التهجد في حق الأمة من المؤكدات أو من المستحبات ) ؟ والمختار عندي أنه من المؤكدات لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم ولحديث ابن مسعود قال : ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقيل له ما زال نائما حتى أصبح ما قام إلى الصلاة قال :( ذاك رجل بال الشيطان في أذنه )١٠ متفق عليه، ولا شك أن تارك المندوبات لا يستحق اللوم والعتاب، وقوله تعالى :﴿ نافلة لك ﴾ منصوب على أنه حال من الضمير المجرور في به أو على المصدرية وضع نافلة موضع تهجدا نافلة أي عبادة زائدة مفروضة أو تطوعا وقد ذكرنا فضائل صلاة الليل وبعض مسائلها ومقدار ما ينبغي القراءة فيها في تفسير سورة المزمل.
فصل : كيف كان قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يتهجد من الليل ؟ عن زيد بن خالد الجهني أنه قال : لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم الليلة فتوسدت عتبته أو فسطاطه فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة )١١ رواه مسلم، ذكر البغوي قوله ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثلاث مرات، وذكره في المشكاة أربع مرات وقال : هكذا في صحيح مسلم وأفراده من كتاب الحميدي وموطأ مالك وسنن أبي داود وجامع الأصول فمعنى قوله أوتر على هذا أوتر بواحدة وعلى ما ذكره البغوي معناه أوتر بثلاث، وعن عائشة قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشر ركعة يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسئل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا، قالت عائشة فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر ؟ فقال :( يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي )١٢ متفق عليه، وعنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ثم يوتر بواحدة ويسجد سجدتين قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه وإذا سكت المؤذن من أذان الفجر وتبين له الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة فيخرج )١٣ متفق عليه، وعن أنس بن مالك قال : ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل مصليا إلا رأيناه وما نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه، وقال : كان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر منه شيئا ويفطر حتى نقول لا يصوم منه شيئا )١٤ رواه النسائي، وعنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر )١٥ رواه مسلم، وعن مسروق قال سألت عائشة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل ؟ قالت : سبع وتسع وإحدى عشرة ركعة سوى ركعتي الفجر )١٦ رواه البخاري، وعن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا قام من الليل ليصلي افتتح صلاته بركعتين خفيفتين )١٧ رواه مسلم، وروى أيضا عن أبى هريرة مرفوعا ( إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين ) وعن ابن عباس رضي الله عنهما ( أنه رقد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستيقظ فتسوك وهو يقول :﴿ إن في خلق السماوات والأرض ﴾ حتى ختم السورة يعني آل عمران ثم قام فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود ثم انصرف فنام حتى نفخ ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هؤلاء الآيات ثم أوتر بثلاث )١٨ رواه مسلم، وعن عائشة قالت : لما بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر صلاته جالسا )١٩ متفق عليه، وعن حذيفة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل فكان يقول : الله أكبر ثلاثا والملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة ثم استفتح فقرأ البقرة ثم ركع ركوعه نحوا من قيامه فكان يقول سبحان ربي العظيم ثم رفع رأسه من الركوع فكان قيامه نحوا من ركوعه يقول لربى الحمد، ثم سجد فكان سجوده نحوا من قيامه فكان يقول : في سجوده سبحان ربى الأعلى ثم رفع رأسه من السجود وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده وكان يقول : رب اغفر لي رب اغفر لي فصلى أربع ركعات قرأ فيهن البقرة وآل عمران والنساء والمائدة أو الأنعام شك شعبة )٢٠ رواه أبو داود، وعن أبي ذر قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح بآية والآية ﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم١١٨ ﴾ )٢١ وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : لما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء اضطجع هويا من الليل ثم استيقظ فنظر في الأفق فقال :﴿ ربنا ما خلقت هذا باطلا ﴾ حتى بلغ ﴿ إنك لا تخلف الميعاد ﴾ ثم أهوى إلى فراشه فاستل منه سواكا ثم أفرغ في قدح من أدواة عندنا فاستن ثم قام فصلى حتى قلت : قد صلى قدر ما نام ثم اضطجع حتى قلت قد نام قدر ما صلى ثم استيقظ ففعل كما فعل أول مرة وقال مثل ما قال ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قبل الفجر )٢٢ رواه النسائي، وعن أم سلمة قالت :( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام قدر ما صلى ثم يصلي قدر ما نام ثم ينام قدر ما صلى حتى يصبح ثم نعتت قراءته فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا )٢٣ رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
﴿ عسى أن يبعثك ربك ﴾ يوم القيامة ﴿ مقاما محمودا ﴾ منصوب على الظرف بإضمار فعله أي فيقيمك مقاما محمودا، أو بتضمين يبعثك معنى يقيمك أو على الحال بمعنى يبعثك ذا مقام محمود يحمده الأولون والآخرون، قال البغوي عن أبي وائل عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله اتخذ إبراهيم خليلا وإن صاحبكم خليل الله وأكرم الخلق على الله ثم قرأ ﴿ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ﴾ قال : يجلسه على العرش ) وعن عبد الله بن سلام قال يقعده على الكرسي، والصحيح أن المقام المحمود مقام الشفاعة، أخرج أحمد وابن أبي حاتم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال : هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي، وفي الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يهموا بذلك فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون : أنت آدم أبو الناس خلقك الله بيده وأسكنك في جنته وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكانن
١ أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في تمام قيام شهر رمضان (١٣٧٤) وأخرجه النسائي في كتاب: السهو، باب: ثواب من صلى مع الإمام حتى ينصرف (١٣٥٧) وأخرجه ابن ماجة في كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء في قيام شهر رمضان (١٣٢٧)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الوتر، باب: الوتر في السفر (١٠٠٠) وأخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة في السفر حيث توجهت (٧٠٠)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: التهجد، باب: الدعاء والصلاة من آخر الليل (١١٤٥) وأخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل (٧٥٨)..
٤ أخرجه البخاري في كتاب: صلاة التراويح، باب: فضل من قام رمضان (٢٠١٠)..
٥ سورة المزمل، الآية: ١ ـ ٢..
٦ سورة المزمل، الآية: ٢٠..
٧ أخرجه الحاكم في المستدرك وأحمد في مسنده.
قال الذهبي: حديث منكر، وأورده ابن عدي في منكرات أبي جناب. انظر فيض القدير (٣٤٧٦)..

٨ أخرجه البخاري في كتاب: التهجد، باب: قيام النبي صلى الله عليه وسلم حتى ترم قدماه (١١٣٠) وأخرجه مسلم في كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، باب: إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (٢٨١٩)..
٩ أخرجه البخاري في كتاب: الوتر، باب: الوتر في السفر (١٠٠٠)..
١٠ أخرجه البخاري في كتاب: التهجد، باب: إذا نام ولم يصل بال الشيطان في أذنه (١١٤٤) وأخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح (٧٧٤)..
١١ أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه (٧٦٥).
وأخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في صلاة الليل (١٣٦٥) وأخرجه مالك في الموطأ في كتاب: الصلاة، باب: صلاة الليل(١٦٧)..

١٢ أخرجه البخاري في كتاب: التهجد، باب: قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل في رمضان وغيره (١١٤٧) وأخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم في الليل (٧٣٨)..
١٣ أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: من انتظر الإقامة (٦٢٦) وأخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل وعدد ركعات النبي صلى الله عليه وسلم في الليل (٧٣٦)..
١٤ أخرجه النسائي في كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: ذكر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل (١٦١٨)..
١٥ أخرجه البخاري في كتاب: التهجد، باب: كيف كان صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وكم كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل (١١٤٠)..
١٦ أخرجه البخاري في كتاب: التهجد، باب: كيف كان صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وكم كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل (١١٣٩) وأخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الليل وعدد الركعات النبي صلى الله عليه وسلم في الليل (٧٣٨).
١٧ أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه (٧٦٧)..
١٨ أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه (٧٦٣)..
١٩ أخرجه مسلم في كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز النافلة قائما وقاعدا وفعل بعض الركعة قائما وبعضها قاعدا (٧٣٢)..
٢٠ أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (٨٧٢)..
٢١ أخرجه النسائي في كتاب: الافتتاح، باب: ترديد الآية (١٠٠٤) وأخرجه ابن ماجة في كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء في القراءة في صلاة الليل (١٣٥٠)..
٢٢ أخرجه النسائي في كتاب: قيام الليل وتطوع النهار، باب: بأي شيء تستفتح صلاة الليل (١٦١٧)..
٢٣ أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل القرآن، باب: ما جاء كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم (٢٩٢٣) وأخرجه النسائي في كتاب: الافتتاح، باب: تزيين القرآن بالصوت (١٠١٦)..
أخرج الترمذي عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة فنزلت عليه ﴿ وقل رب أدخلني مدخل صدق ﴾ يعني المدينة ﴿ وأخرجني مخرج صدق ﴾ يعني مكة كذا قال الحسن وقتادة، والمدخل والمخرج اسم ظرف منصوب على الظرفية أو مصدر يعني أدخلني المدينة إدخالا مرضيا لا أرى فيه ما أكره وأخرجني من مكة إخراجا مرضيا لا ألتفت بقلبي إليها، وقال الضحاك معناه أخرجني من مكة مخرج صدق آمنا من المشركين وأدخلني مكة مدخل صدق ظاهرا عليها بالفتح، وقال مجاهد أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة مدخل صدق وأخرجني من الدنيا وقد قمت بما وجب علي من حقها مخرج صدق، وعن الحسن قال : أدخلني مدخل صدق الجنة وأخرجني مخرج صدق من مكة، قلت : الأولى أن يقال في مقابلة أدخلني الجنة مدخل صدق أخرجني من الدنيا مخرج صدق، وقال البيضاوي أدخلني في القبر إدخالا مرضيا وأخرجني منه عند البعث إخراجا تلقي بالكرامة، وقيل : معناه أدخلني في طاعتك وأخرجني من المناهي، وقيل : المراد إدخاله في كل ما يلابس من مكان أو أمر وإخراجه منه أي لا تجعلني ممن يدخل بوجه ويخرج بوجه فإن ذا الوجهين لا يكون أمينا عند الله وحيها، وقيل : المراد إدخاله الغار وإخراجه منه سالما، ووصف الإدخال والإخراج بالصدق لما يؤل إليه الخروج والدخول من مرضاة الله تعالى والنصر والعز والكرامة ودولة الدين كما وصف القدم بالصدق فقال :﴿ أن لهم قدم صدق عند ربهم ﴾١ والتحقيق في ذلك أن الصدق والكذب في الأصل هما صفتا القول بل الخبر منه دون الإنشاء وهو مطابقة الخبر الواقع وقد يطلق على الإنشاء لتضمنه معنى الإخبار كقول القائل أزيد في الدار يتضمن أنه جاهل بحاله، وقد يستعملان في أفعال الجوارح فيقال : صدق في القتال إذ وفى حقه وفعل على ما ينبغي ومنه :﴿ رجال صدقوا ما عاهدوا الله ﴾٢ أي حققوا العهد، وقوله تعالى :﴿ صدق الله رسوله الرؤيا ﴾٣ أي حقق أيضا، ويعبر بالصدق عن كل فعل فاضل ظاهرا وباطنا فيضاف إليه ذلك الفعل الذي يوصف به ومنه قوله تعالى :﴿ في مقعد صدق ﴾٤ و :﴿ لهم قدم صدق ﴾٥ ﴿ وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ﴾٦ ﴿ وأجعل لي لسان صدق ﴾٧ فإن ذلك سؤال أن يجعل الله ذلك صالحا بحيث إذا أثنى عليه أحد كان صادقا والله أعلم ﴿ وأجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ﴾ قال مجاهد حجة بينة، وقال الحسن ملكا قويا تنصر به على من ناوأني وعزا ظاهرا أقيم به دينك، فوعده الله لينزعن ملك فارس والروم وغيرهما فيجعله له، قال قتادة علم نبي الله صلى الله عليه وسلم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان نصير من الله تعالى فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله وحدوده وإقامة دينه، قلت : بل علمه الله ذلك وأمره بأن يسأل من تعالى سلطانا نصيرا، قيل : سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة وملكا ينصر الإسلام على الكفر فاستجاب الله بقوله :﴿ فإن حزب الله هم الغالبون ﴾٨ ﴿ ليظهره على الدين كله ﴾٩ ﴿ ليستخلفنهم في الأرض ﴾١٠.
١ سورة يونس، الآية: ٢..
٢ سورة الأحزاب: الآية: ٢٣..
٣ سورة الفتح، الآية: ٢٧..
٤ سورة القمر، الآية: ٥٥..
٥ سورة يونس، الآية: ٢..
٦ سورة الإسراء: الآية: ٨٠..
٧ سورة الشعراء، الآية: ٨٤..
٨ سورة المائدة، الآية: ٥٦..
٩ سورة التوبة، الآية: ٣٣..
١٠ سورة النور، الآية: ٥٥..
﴿ وقل ﴾ يا محمد عند دخولك مكة حين فتحت ﴿ جاء الحق ﴾ أي الإسلام وعبادة الله وحده أو القرآن ﴿ وزهق الباطل ﴾ أي ذهب وهلك الشرك وعبادة الأصنام من زهق روحه إذا خرج ﴿ إن الباطل كان زهوقا ﴾ أي حقيقا للزهوق وعدم الثبات لبنائه على ما لا أصل له، عن ابن مسعود قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده ويقول :﴿ جاء الحق وزهق الباطل ﴾ ﴿ وما يبدئ الباطل وما يعيد٤٩ ﴾١ رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وأخرج الطبراني في الصغير وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس نحوه.
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: ﴿قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا﴾ (٤٧٢٠) وأخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: إزالة الأصنام من حول الكعبة (١٧٨١)..
﴿ وننزل ﴾ قرأ البصريان بالتخفيف من الأفعال والباقون بالتشديد من التفعيل ﴿ من القرآن ﴾ من للبيان ﴿ ما هو شفاء ﴾ من أمراض الكفر والجهالات جلاء لظلمات القلوب والأنفس، ماح لكدورات القلبية والقالبية والنفسانية، دافعة لرذائلها، وقيل : من للتبعيض والشفاء الشفاء من الأمراض الظاهرة والمراد من بعض القرآن ما هو يشفي السقيم كالفاتحة ونحوها، وهو المعنى بقوله صلى الله ليه وسلم ( عليكم بالشفائين العسل والقرآن } ١ وقد مر في سورة النحل ﴿ ورحمة ﴾ من الله تعالى ﴿ للمؤمنين ﴾ أي للذين آمنوا وانتفعوا به خاصة يفيد لهم الفوائد الدينية والدنيوية والأخروية ﴿ ولا يزيد الظالمين ﴾ أي المنكرين بالقرآن ﴿ إلا خسارا ﴾ لتكذيبهم وكفرهم به قال قتادة لن يجالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان قضى الله تعالى الذي قضى ﴿ شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ﴾.
١ أخرجه ابن ماجة في كتاب: الطب، باب: العسل (٣٤٥٢) قال في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات..
﴿ وإذا أنعمنا على الإنسان ﴾ بالصحة والسعة أو بنزول القرآن ﴿ أعرض ﴾ عن ذكر الله يعني لم يشكره ﴿ ونأى ﴾ قرأ الجمهور على وزن رمى بمعنى تباعد وقرأ ابن ذكوان ههنا وفي فصلت على وزن جاء ومعناه نهض وقيل : معناه بعد كذا في القاموس والمآل واحد، أمال الكسائي وخلف فتحة النون والهمزة ههنا وفي فصلت وأمال خلاد فتحة الهمزة فيهما فقط، وقد روي عن أبي شعيب مثل ذلك وأمال أبو بكر فتحة الهمزة ههنا وأخلص هناك والباقون بفتحها وورش على أصله في ذوات الياء ﴿ بجانبه ﴾ أي لوى عنقه وبعد بنفسه كأنه مستغن عنه ﴿ وإذا مسه الشر ﴾ من مرض أو فقر ﴿ كان يئوسا٨٣ ﴾شديد اليأس والقنوط من روح الله.
﴿ قل كل ﴾ أي كل واحد من الناس الشكور والكفور ﴿ يعمل على شاكلته ﴾ قال ابن عباس على ناحيته أي جانبه الذي يميل إليه من الهدى أو الضلال، وقال الحسن وقتادة على نيته يعني من كان يميل إلى الدنيا ينوي بعمله صلاح الدنيا ومن كان يميل إلى الآخرة ينوي بعمله وجه الله وصلاح الآخرة، وقال مقاتل على جبلته وقال الفراء على طريقته التي جبل عليها، وقال القتيبي على طبيعته وخليقته ومآل الأحوال الثلاثة واحد يعني على حسب استعداده الذي أودع الله فيه فهو نظير قوله صلى الله عليه وسلم :( كل ميسر لما خلق له )١ في الحديث متفق عليه عن علي مرفوعا وعن أبي الدرداء قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذكر ما يكون إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوه وإذا سمعتم برجل تغير عن خلقه فلا تصدقوا فإنه يصير إلى ما جبل عليه ) رواه أحمد، والاستعداد عبارة عن الكيفية الحاصلة لكل أحد باعتبار علته الفاعلية والمادية أما باعتبار علته الفاعلية فكونه ظلا من ظلال الاسم الهادي أو الاسم المضل وأما باعتبار علته المادية فهو الكيفية المزاجية الحاصلة من تركيب العناصر الأربعة وإنما اختلاف شهوات النفوس على حسب اختلاف ثوران بعض العناصر دون بعض واختلاف طبائع الأجزاء الأرضية كما مر قوله صلى الله عليه وسلم :( فجاء بنوا آدم على قدر الأرض منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب )٢ وقيل : على شاكلته أي سبيله الذي اختاره لنفسه، قال البيضاوي أي على طريقته التي تشاكل حاله في الهدى أو الضلالة أو جوهر روحه وأحواله التابعة لمزاج بدنه وفي القاموس الشكل الشبه والمثل وما يوافقك ويصلحك وصورة الشيء المحسوسة والمتوهمة والشاكلة الشكل والناحية والنية والطريقة والمذهب ﴿ فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ﴾ أي أسد طريقا وأبين منهجا يعني من هو على طريقة موصلة الحق من العقائد والأعمال ومن في طريقته اعوجاج قليل أو كثير والله أعلم.
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: ﴿فسنيسره للعسرى﴾ (٤٩٤٩) وأخرجه مسلم في كتاب: البر والآصال والآداب، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (٢٦٤٧)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة البقرة (٢٩٥٥) وقال: حديث حسن صحيح..
خرج البخاري عن ابن مسعود قال : كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث المدينة وهو يتوكأ على عسيب معه فمر على نفر من اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح وقال بعضهم لا تسألوه لا يجيء إلا بشيء تكرهونه فقال بعضهم لنسألنه فقام رجل منهم فقال يا أبا القاسم ما الروح ؟ فسكت فقلت : إنه يوحى إليه فقمت فلما انجلى عنه الوحي قال :
﴿ ويسألونك عن الروح ﴾ أي الذي يحيى به بدن الإنسان ويدبره ﴿ قل الروح من أمر ربي ﴾ أي من الإبداعيات الكائنة بقوله كن من غير مادة ونولد عن أصل كأعضاء الجسد ولما كان هذا غاية البيان باللسان على قياس فهم السائلين بحيث يحصل به امتياز الروح عن سائر الماديات ولم يكن مفيدا العلم بحقيقته المسؤلة بقولهم وما الروح اعتذر عنه وقال ﴿ وما أوتيتم ﴾ أيها السائلون ﴿ من العلم ﴾ بالأشياء الكائنة ﴿ إلا قليلا ﴾ أي ما تستفيدونه بتوسط حواسكم فإن اكتساب العقل للمعارف النظرية إنما هو من الضروريات المستفادة من إحساس الجزئيات ولذلك قيل من فقد حسا فقد فقد علما ولعل أكثر الأشياء لا يدركها الحس فلا يحصل عنده ذاتياتها فلا يدرك بعضها إلا بعوارض تميزه عما يلتبس به والألفاظ إنما وضعت بإزاء أشياء محسوسة أو معقولة منتهية اكتسابها إلى أشياء محسوسة ولذلك أقتصر موسى عليه السلام في جواب قول فرعون :﴿ وما رب العالمين ﴾١ بذكر بعض صفاته، وهذه الآية لا يقتضي نفي العلم بالروح للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحاب البصائر من أتباعه، فإن طور علمهم وراء طور علم العالمين بتوسط الحواس والاكتساب فإنهم يلهمون من الله تعالى حقائق الأشياء بلا توسط الحواس والاكتساب، فإن لقلوبهم أسماع يسمعون بها ما لا يسمعه الآذان وأبصار يبصرون بها ما لا يبصره العيون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى :﴿ لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به )٢ الحديث، وقد أدرك أصحاب البصائر حقيقة الروح وظهر لهم أن لكل إنسان خمسة من الأرواح العلوية، والروح السفلى المسمى بالنفس سادسها، والخمسة القلب والروح والسر والخفي والأخفى، يمتاز عندهم كل منها عن الآخر ذاتا وصفاتا، ويعرفونها كما يعرفون أبناءهم، وقد يشتبه عند بعضهم بعضها ببعض، بل قد تشتبه هي لأجل لطافتها بمراتب الوجوب، حتى قال بعضهم عبدت الروح ثلاثين سنة ثم أظهر الله تعالى حقيقته وإمكانه وحدوثه عليه، فقال :{ لا أحب الآفلين ﴾٣ فإن قيل أخرج ابن مردويه عن عكرمة إنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك قالوا نحن مختصون بهذا الخطاب قال بل نحن وأنتم فقالوا ما أعجب شأنك ساعة تقول :﴿ من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ﴾٤ وساعة تقول هذا، فنزلت :﴿ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام ﴾٥ الآية وهذه الرواية تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا لم يكن عارفا بحقيقة الروح، قلنا لو صح هذه الرواية فالمعنى أن الخطاب بقوله :﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ﴾ يعم كلا الفريقين فلا شك أن علوم الأنبياء والملائكة وسائر الخلائق قليلة في جنب علم الله تعالى كما يدل عليه قوله تعالى :﴿ ولو أنما في الأرض من شجرة ﴾٦ الآية، ولا منافاة بين كون الحكمة الموهوبة للأنبياء وكمل إتباعهم ومنها العلم بحقيقة الروح وغير ذلك خيرا كثيرا في نفسه متكفلا لكمالات الإنسان ظاهرا وباطنا وبين كونها قليلا بالنسبة إلى علم الله الغير المتناهي.
فائدة : ما ذكرنا من القصة يدل على كون الآية مدنية، وقال البغوي روي عن ابن عباس أنها نزلت بمكة حيث قال : إن قريشا اجتمعوا، وقالوا : إن محمدا أنشأ فينا بالأمانة والصدق وما اتهمناه بكذب وقد ادعى ما ادعى، فابعثوا نفرا إلى اليهود بالمدينة واسألوهم عنه فإنهم أهل كتاب، فبعثوا جماعة إليهم فقالت اليهود سلوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب عن كلها أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبي، وإن أجاب عن الاثنين ولم يجب عن الواحد فهو نبي، فسلوه عن فتية قد أووا في الزمن الأول ما كان من أمرهم فإنه كان لهم حديث عجيب، وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها ما خبره، وعن الروح. فسألوه فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : أخبركم بما سألتم غدا ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي قال مجاهد اثنتا عشرة ليلة، وقيل : خمس عشرة، وقال عكرمة أربعين يوما وأهل مكة يقولون : وعدنا محمد غدا وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكث الوحي وشق عليه ما يقول أهل مكة، إذ نزل جبرئيل بقوله تعالى :﴿ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا٢٣ إلا أن يشاء الله ﴾٧ ونزل في الفتية :﴿ أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا٩ ﴾٨ ونزل فيمن بلغ الشرق والغرب :﴿ ويسألونك عن ذي القرنين ﴾٩ ونزل في الروح :﴿ قل الروح من أمر ربي ﴾١٠ وروى الترمذي هذه القصة مختصرا عنه قال ابن كثير يجمع بين الحديثين بتعدد النزول، وكذا قال الحافظ ابن حجر وزاد أو يحمل سكوته حين سؤال اليهود على توقع مزيد بيان في ذلك، وإلا فما في الصحيح أصح وأيضا يرجح ما في الصحيح بأنه رواية حاضر القصة بخلاف ابن عباس، وقال البغوى وروي عن ابن عباس أن الروح الذي وقع السؤال عنه هو جبرئيل وهو قول الحسن وقتادة قلت : وكذا أخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن الضحاك، وقال البغوي وروي عن علي عليه السلام أن الروح هو ملك له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله تعالى بكلها، وقال مجاهد هو خلق على صورة ابن ادم لهم أيد وأرجل ورؤوس وليسوا بملائكة ولا ناس يأكلون الطعام، وقال سعيد بن جبير لم يخلق الله خلقا أعظم من الروح غير العرش لو شاء أن يبتلع السموات السبع والأرضين السبع ومن فيها بلقمة واحدة لفعل، صورة خلقه على صورة الملائكة وصورة وجهه على صورة وجه الآدميين، يقوم يوم القيامة على يمين العرش وهو أقرب الخلق إلى الله عز وجل عند الحجب السبعين، وأقرب إلى الله يوم القيامة وهو يشفع لأهل التوحيد لولا أن بينه وبين الملائكة سترا من نور لاحترق أهل السماوات من نوره، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال : الروح أعظم خلقا من الملائكة، ولا ينزل ملك إلا ومعه روح، وقيل : الروح القرآن ومعني قوله تعالى ﴿ من أمر ربي ﴾ إنه من وحي الله وقيل المراد عيسى فإنه روح الله وكلمته، ومعنى الآية إنه ليس كما يقول اليهود حيث بهتوا أمه، ولا كما يقوله النصارى أنه ابن الله، بل هو مخلوق من أمر الله بكلمة كن من غير أب.
ولما ذكر الله سبحانه أن علم العالمين قليل بالنسبة إلى علمه تعالى، نبه على نعمة الوحي وأنه أوتي من العلوم ما لم يؤت غيره حثا بالصبر على أذى الكفار بقوله :
﴿ ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ﴾
١ أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: قول الله تعالى:﴿وما أوتيكم من العلم إلا قليلا﴾ (١٢٥) وأخرجه مسلم في كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم، باب: سؤال اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح (٢٧٩٤)..
٢ سورة الشعراء، الآية: ٢٣..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: التواضع (٦٥٠٢)..
٤ سورة الأنعام، الآية: ٧٦..
٥ سورة البقرة، الآية: ٢٦٩..
٦ سورة لقمان، الآية: ٢٧..
٧ سورة الكهف، الآية: ٢٣ ــ ٢٤..
٨ سورة الكهف، الآية: ٩..
٩ سورة الكهف، الآية: ٨٣..
١٠ سورة الإسراء، الآية: ٨٥..
﴿ ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ﴾ اللام الأولى موطية للقسم وقوله لنذهبن جوابه النائب مناب جزاء الشرط، والمعنى إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه عن المصاحف والصدور ﴿ ثم لا تجد لك به علينا وكيلا ﴾ يتوكل علينا استرداده محفوظا ومسطورا
﴿ إلا رحمة من ربك ﴾ يعني إلا أن ينالك رحمة من ربك فهي لسترده، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا ومعناه ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به، فيكون امتنانا بإبقائه بعد المنة في تنزيله ﴿ إن فضله كان عليك كبيرا ﴾ حيث بعثك نبيا وأنزل عليك الكتاب والتزم عليه جمعه في المصاحف والصدور وقرآنه وبيانه وأعطاك المقام المحمود والحوض المورود وغير ذلك، قال البغوي قال ابن مسعود اقرؤوا القرآن قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع، قيل هذه المصاحف يرفع فكيف بما في الصدور، قال : ليسري عليه ليلا فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئا ولا يجدون في المصاحف شيئا، ثم يفيضون في الشعر، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث نزل له دوي حول العرش كدوي النحل فيقول الرب ما لك ؟ فيقول : يا رب أتلى ولا يعمل بي، قلت هكذا ذكر البغوي وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسألوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا )١ وروى أحمد وابن ماجه عن زياد بن لبيد قال : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فقال ذلك عند أوان ذهاب العلم، قلت : يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرءه أبناءنا ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ قال : فقال :( ثكلتك أمك زياد إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا يعملون بشيء مما فيهما )٢ وروى الترمذي عنه، نحوه وروى الدارمي عن أبي أمامة نحوه، قلت : ولعل ابن مسعود زعم رفع القرآن عن المصاحف والصدور بما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( تعلموا العلم وعلموه الناس تعلموا الفرائض وعلموها الناس تعلموا القرآن وعلموه الناس فاني امرؤ مقبوض والعلم سيقبض ويظهر الفتن حتى يختلف اثنان في فريضة لا يجدان
أحدا يفصل بينهما ) رواه الدارقطني والدارمي عن ابن مسعود، ومقتضى حديث الصحيحين أن يحمل قبض العلم في هذا الحديث على قبضة بقبض العلماء لا بالانتزاع، مقتضى حديث زياد أن معنى ذهاب العلم ذهاب توفيق العمل به، قلت : والجمع بينهما أنه يذهب توفيق العمل بالعلم أولا كما تراه في زماننا، ثم يذهب العلم مطلقا بقبض العلماء كما ترى قلة العلم في ذلك الزمان إلى هذا الغاية بقلة العلماء بعدما كان كثيرا بكثرة العلماء وقلة توفيق التعليم والتعلم والله أعلم.
١ أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: كيف يقبض العلم (١٠٠) وأخرجه مسلم في كتاب: العلم، باب: رفع العلم وقبضه (٢٦٧٣)..
٢ أخرجه ابن ماجة في كتاب: الفتن، باب: ذهاب القرآن والعلم (٤٠٤٨) وفيه انقطاع..
أخرج ابن إسحاق وابن جرير من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم في جماعة يهود سماهم فقالوا كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأن هذا الذي جئت به لا نراه متناسقا كما تناسق التوراة فأنزل علينا كتابا نقرؤه نعرفه وإلا جئناك بمثل ما تأتي به فأنزل الله تعالى :
﴿ قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ﴾ في البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى ﴿ لا يأتون بمثله ﴾ أي لا يقدرون على ذلك وفيهم العرب العرباء وأرباب البيان والشعراء وأهل التحقيق والبلغاء، وهو جواب قسم دل عليه اللام الموطئة ولولا هي لكان جواب الشرط بلا جزم يكون الشرط ماضيا ﴿ ولو كان بعضهم لبعض ﴾ أي لبعضهم ﴿ ظهيرا ﴾عونا ومظاهرا على الإتيان به وقال البغوي نزلت الآية حين قال الكفار :﴿ لو نشاء لقلنا مثل هذا ﴾١ فكذبهم الله وفيه معجزة حيث كان كما أخبر الله تعالى به، ولم يقدروا على إتيان أقصر سورة منه مع كمال حرصهم على المعارضة، قال البيضاوي لعله لم يذكر الله تعالى الملائكة لأن إتيانهم بمثله لا يخرجه عن كونه معجزة ولأنهم كانوا وسائط في إتيانه، قلت المراد بالإتيان الأتيان من عند أنفسهم على سبيل المعارضة والمجادلة من غير وحي من الله تعالى ولا شك أن الملائكة أيضا لا يقدرون على إتيان كلام مثل كلام غير مخلوق، لكنهم لم يذكروا لأن الإتيان المذكور كفر إنما يتصور من المنكر، والملائكة معصومون يؤمنون به ولا يتصور منهم الإنكار والله أعلم وجاز أن يكون الآية تقريرا لقوله :﴿ لا تجد لك به علينا وكيلا ﴾٢.
١ سورة الأنفال، الآية: ٣١..
٢ سورة الإسراء، الآية: ٨٦..
﴿ ولقد صرفنا ﴾ كررنا بوجوه مختلفة في التقرير والبيان ﴿ للناس في هذا القرآن من كل مثل ﴾ من كل معنى من العبر والأحكام والوعد والوعيد وغيرها هو كالمثل في غرابته وحسنه ووقوعه موقعا في الأنفس ﴿ فأبى أكثر الناس إلا كفورا ﴾ جاز ههنا وقوع المستثنى مفرغا في الإثبات لكونه في قوة النفي ومعناه فلم يرض ولم يأت أكثرهم إلا كفورا أي جحودا وإنكارا.
ذكر البغوي عن عكرمة عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان ابن حرب ورجلا من بني عبد الدار سماه البغوي النضر بن الحارث وأبا البختري والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله ابن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ومنيبا ومنبها ابني الحجاج اجتمعوا ومن اجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض ابعثوا إلى محمد فكلموه خاضموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا، وهو يظن أنه بدا لهم في أمره بدءا وكان عليهم حريصا يحب رشدهم حتى جلس إليهم فقالوا : يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثر مالا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملحا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك ربيا تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده بذلنا لك أموالنا في طلب الطب ( وكانوا يسمون التابع من الجن الربي ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم ولا الشرف عليكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالته ونصحتكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم بيننا وبينكم، قالوا : يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا فاسأل لنا ربك الذي بعثك فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليفجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من قد مضى من آبائنا وليكن منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدقوك صدقناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما بهذا بعثت فقد بلغتكم ما أرسلت به فإن تقبلوا فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه أصبر لآمر الله ) قالوا : فإن لم تفعل هذا فسل ربك أن يبعث لنا ملكا يصدقك وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، قال :( ما بعثت بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا ) قالوا : فأسقط السماء كما زعمت أن ربك لو شاء فعل، فقال : ذلك إلى الله إن شاء فعل ذلك بكم فعله، وقال قائل منهم لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا. فلما قالوا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه عبد الله بن أبي أمية وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب، فقال : يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورا يعرفون بها منزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل فوالله لا أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك نسخة منشورة ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك بما تقول وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدقك فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا لما رأى من مباعدتهم فأنزل الله تعالى :﴿ وقالوا ﴾ عطف على أبى ﴿ لن نؤمن لك ﴾ الآية إلى قوله ﴿ بشرا رسولا ﴾.
وأخرج ابن جرير من طريق ابن إسحاق عن شيخ من أهل مصر عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرج سعيد بن منصور عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال : نزلت في أخي أم سلمة عبد الله بن أمية قال في لباب النقول : هذا مرسل صحيح شاهد لما قبله يجبر المبهم في إسناده، يعني قال كفار مكة تعنتا واقتراحا بعد ما لزمتهم بيان إعجاز القرآن وانضمام غيره من المعجزات لن نؤمن لك ﴿ حتى تفجر ﴾ قرأ الكوفيون بفتح التاء وضم الجيم مخففا من المجرد، والباقون بضم التاء وفتح الفاء وكسر الجيم مشددا من التفعيل ﴿ لنا من الأرض ﴾ أرض مكة ﴿ ينبوعا ﴾ أي عينا لا ينضب ماؤها يفعول من نبع الماء
﴿ أو تكون لك جنة ﴾ بستان ﴿ من نخيل وعنب فتفجر ﴾ من التفعيل باتفاق القراء ﴿ الأنهار خلالها ﴾ وسطها ﴿ تفجيرا ﴾ تشقيقا
﴿ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ﴾ يعنون قوله تعالى :﴿ أو تسقط عليهم كسفا من السماء ﴾١ قرأ نافع وابن عمر وعاصم بفتح السين كقطع لفظا ومعنى جمع كسفة وهي القطعة والباقون بسكون السين على التوحيد وجمعه كسياف وكسوف أي يسقطها طبقا واحدا وقيل : معناه أيضا القطع وهي جمع مثل سدرة وسدر، وقرأ في الشعراء كسفا بالفتح حفص، وفي الروم ساكنة أبو جعفر وابن عامر ﴿ أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ﴾ قال ابن عباس والضحاك أي كفيلا لما تدعيه أي شاهدا على صحته ضامنا لدركه، وقال قتادة أي مقابلا نراهم عيانا كالعشير بمعنى المعاشر وقال الفراء هو من قول العرب لقيت فلانا قبيلا وقبلا أي معاينة، وهو حال من الله والحال من الملائكة محذوف لدلالتها عليه، وقال مجاهد هو جمع القبيلة أي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة صنفا صنفا فيكون حالا من الملائكة
١ سورة سبأ، الآية: ٩..
﴿ أو يكون لك بيت من زخرف ﴾ أي ذهب وأصله الزينة ﴿ أو ترقى ﴾ أي تصعد ﴿ في السماء ﴾ في معارجها هذا قول عبد الله بن أمية ﴿ ولن نؤمن لرقيك ﴾ أي لصعودك وحده ﴿ حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ﴾ وكان فيه تصديقك ونؤمر فيه بإتباعك ﴿ قل ﴾ قرأ ابن كثير وابن عامر على صيغة الماضي أي قال محمد والباقون على صيغة الأمر أي قل يا محمد تعجبا من
اقتراحاتهم وتنزيها لله تعالى من أن يأتي أو يتحكم عليه أو يشاركه أحد في القدرة ﴿ سبحان ربي هل كنت ﴾ أي ما كنت ﴿ إلا بشرا رسولا ﴾ يعني ليس ما سألتم في طوق البشر بل لو أراد الله أن ينزل ما طلبوا لفعل ولكنه لا ينزل الآيات على ما يقترحه البشر غالبا وقد أعطى الله تعالى لرسوله من الآيات والمعجزات ما يغني عن هذا كله مثل القرآن وانشقاق القمر ونبع الماء من بين الأصابع وما أشبهها وهذا هو الجواب المجمل وأما التفصيل فقد ذكر في آيات أخر ﴿ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس ﴾١ الآية ﴿ ولو فتحنا عليهم بابا من السماء ﴾٢ ﴿ ولو أن قرءانا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ﴾٣ يعني لم يؤمنوا ﴿ بل لله الأمر جميعا ﴾٤.
١ سورة الأنعام، الآية: ٧..
٢ سورة الحجر، الآية: ١٤..
٣ سورة الرعد، الآية: ٣١..
٤ سورة الرعد، الآية: ٣١..
﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا ﴾ محل أن النصب على أنه مفعول ثان لمنع ﴿ إذ جاءهم الهدى ﴾ أي النبي والقرآن ﴿ إلا أن قالوا ﴾ محله الرفع على أنه فاعل منع ﴿ أبعث الله بشرا رسولا ﴾ يعني ما منعهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن بعد نزول الوحي وظهور الحق شيء إلا قولهم على سبيل الإنكار يعني إلا إنكارهم أن يرسل الله بشرا، وهذا الإنكار واقع غير موقعه فإن النقل والعقل حاكم بأن الرسول لا بد أن يكون من جنس المرسل إليهم حتى يبلغهم رسالات ربهم فيستفيدون منه لأجل المناسبة نبه الله سبحانه على هذا المعنى بقوله :﴿ قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ﴾
﴿ قل ﴾ يا محمدا جوابا لشبهتهم ﴿ لو كان في الأرض ملائكة يمشون ﴾ كما يمشي بنوا آدم ﴿ مطمئنين ﴾ ساكنين فيها غير ذاهبين إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلموا ما يجب عليهم ﴿ تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا٩٣ ﴾ يعني لا نرسل إلى قوم رسولا إلا من جنسهم ليمكنهم من الاجتماع به والتلقي منه، وملكا يحتمل أن يكون حالا من الرسول أو موصوفا به وكذلك بشرا والأول أوفق
﴿ قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ﴾ على أني رسوله إليكم فإنه تعالى أظهر المعجزات على يدي على وفق دعواي أو على أني بلغت ما أرسلت به إليكم وأنكم عاندتم بعد ظهور الحق فهو يحكم بيننا وبينكم بإثباته المحق وتعذيب المبطل، وشهيدا نصب على الحال أو التميز ﴿ إنه كان بعباده ﴾ المنذرين والمنذرين ﴿ خبيرا بصيرا ﴾ يعلم بظواهر أحوالهم وبواطنها فيجازيهم عليه، فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديد للكفار.
﴿ ومن يهد الله فهو المهتد ﴾ أثبت الياء في الوصل نافع وحذفها الباقون في الحالين ﴿ ومن يضلل ﴾ أي من يخذله ولم يعصم حتى قبل وسواس الشيطان ﴿ فلن تجد له أولياء ﴾ يهدونه ﴿ من دونه ونحشرهم يوم القيامة ﴾ يمشون ﴿ على وجوههم ﴾ أو يسحبون عليها عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم :( سئل كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ قال :( أليس الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه )١ متفق عليه، وأخرج أبو داود والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف ركبانا ومشاة وعلى وجوههم، فقال رجل يا رسول الله أو يمشون على وجوههم ؟ قال ( الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم )٢ وكذا أخرج الترمذي وحسنه، وروى الترمذي وحسنه عن معاوية بن حيدة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إنكم تحشرون رجالا وركبانا وتجرون على وجوهكم )٣ أخرج النسائي والحاكم والبيهقي عن أبي ذر قال :«حدثني الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج فوج طاعمين كاسين راكبين وفوج يمشون ويسعون وفوج يسحبهم الملائكة على وجوههم )٤ ﴿ عميا ﴾لا يرون ما تقربه أعينهم ﴿ وبكما ﴾ لا ينطقون بحجة أو اعتذار يقبل منهم ﴿ وصما ﴾ لا يسمعون شيئا يسرهم لأنهم في الدنيا لم يستبصروا بالآيات والعبر وتصاموا عن استماع الحق وأبوا أن ينطقوا بالصدق كذا ذكر البغوي قول ابن عباس فلا منافاة بين هذه الآية وبين قوله تعالى :﴿ ورءا المجرمون النار ﴾٥ قوله تعالى :﴿ دعوا هنالك ثبورا ﴾٦ وقوله تعالى :﴿ سمعوا لها تغيظا وزفيرا١٢ ﴾٧ وقوله تعالى :﴿ ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا ﴾٨ وغيرها من الآيات التي تثبت لهم الرؤية والكلام والسمع، وقيل : يحشرون كما وصفهم الله تعالى ثم يعطي لهم السمع والبصر والنطق إذا عرضوا على النار وعند الحساب، وقيل : يحشرون بعد الحساب من الموقف إلى النار مؤفي القوى والحواس، وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن محمد بن كعب قال : لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله في أربع فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا ﴿ قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل١١ ﴾ فيجيبهم ﴿ قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل١١ ذلكم بأنه إذا دعا الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير١٢ ﴾٩ الآية ثم يقولون :﴿ ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ﴾ فيجيبهم ﴿ فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون١٤ ﴾١٠ الآية ثم يقولون :﴿ ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل ﴾ فيجيبهم ﴿ أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ﴾١١ الآية ثم يقولون :﴿ ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل ﴾١٢ فيجيبهم ﴿ أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ﴾١٣الآية ثم يقولون :﴿ قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين١٠٦ ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون١٠٧ ﴾١٤ فيجيبهم ﴿ اخسئوا فيها ولا تكلمون ﴾١٥ فلا يتكلمون بعدها أبدا ﴿ مأواهم جهنم كلما خبت ﴾ أي سكن لهبها بأن أكلت جاودهم ولحومهم ﴿ زدناهم سعيرا٩٧ ﴾ وقودا فيتوقد النار بأن يبدل جلودهم ولحومهم كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء جزاهم الله بأنهم لا يزالون على الإفناء والإعادة وإليه أشار بقوله﴿ ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا٩٨ ﴾
١ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: كيف الحشر (٦٥٢٣) وأخرجه مسلم في كتاب: صفة القيامة الجنة والنار، باب: يحشر الكافر على وجهه (٢٨٠٦)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة بني إسرائيل (٣١٤٢)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقاق والورع، باب: ما جاء في شأن الحشر (٢٤٢٤)..
٤ أخرجه النسائي في كتاب: الجنائز، باب: البعث (٢٠٧٧)..
٥ سورة الكهف، الآية: ٥٣..
٦ سورة الفرقان، الآية: ١٣..
٧ سورة الفرقان، الآية: ١٢..
٨ سورة السجدة، الآية: ١٢..
٩ سورة غافر، الآية: ١١ ــ ١٢..
١٠ سورة السجدة، الآية: ١٢ ــ ١٤..
١١ سورة إبراهيم، الآية: ٤٤..
١٢ سورة فاطر، الآية: ٣٦..
١٣ سورة فاطر، الآية: ٣٦..
١٤ سورة المؤمنون، الآية: ١٠٦ ــ ١٠٧..
١٥ سورة المؤمنون، الآية: ١٠٨..
﴿ ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا٩٨ ﴾
فإن الإشارة بذلك إلى ما تقدم من عذابهم
﴿ أولم يروا ﴾ الاستفهام للإنكار والعطف على محذوف تقديره أنكروا البعث ولم يعلموا ﴿ أن الله الذي خلق السماوات والأرض ﴾ مع عظمها وشدتها من غير سبق مثال ﴿ قادر على أن يخلق مثلهم ﴾ مع صغرهم وضعفهم فإنهم ليسوا أشد خلقا منهن ولا الإعادة أصعب عليه من الإبداء ﴿ وجعل لهم ﴾ عطف على خبر إن يعني ألم يعلموا أن الله جعل لهم ﴿ أجلا ﴾ أي وقتا لعذابهم ﴿ لا ريب فيه ﴾أي في أن يأتيهم قيل : هو الموت وقيل : يوم القيامة ﴿ فأبى الظالمون ﴾ مع وضوح الحق ﴿ إلا كفورا ﴾ أي جحودا وإنكارا عطف على لم يروا يعني ألم يروا قدرة الله على خلقه وجعله لهم أجلا فأبوا كل شيء إلا جحودا، وفيه وضع الظاهر أي الظالمون موضع الضمير للتصريح بكونهم ظالمين في الإنكار والكفر.
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ لو أنتم ﴾ أيها الناس مرفوع بفعل يفسره ﴿ تملكون ﴾ وفائدة الحذف والتفسير المبالغة والدلالة على الاختصاص مع الإيجاز ﴿ خزائن رحمة ربي ﴾ أي رزقه وسائر نعمائه قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ إذا ﴾ أي إذا ملكتم ظرف لما بعده ﴿ لأمسكتم ﴾ وبخلتم ﴿ خشية الإنفاق ﴾ أي لأجل الخوف من الفقر بالإنفاق، وقيل : خشية النفاد يقال نفق الشيء إذا ذهب ﴿ وكان الإنسان قتورا ﴾ بخيلا ممسكا لأن بناء أمره على الحاجة والبخل بما يحتاج إليه وملاحظته العوض فيما يبذل بخلاف الله سبحانه فإنه جواد غير محتاج إلى شيء قادر على إيجاد أضعاف غير متناهية مما وجد فلا ينفد خزائنه.
﴿ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ﴾ أي معجزات واضحات قال ابن عباس والضحاك هي العصا، واليد البيضاء، والعقدة التي كانت بلسانه فحلها، وفلق البحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم. وقال عكرمة ومجاهد وعطاء هي الثمرات، قال : وكان رجل منهم مع أهله في فراشه وقد صارا حجرين والمرأة منهم قائمة تختبز فصارت حجرا، وذكر محمد بن كعب القرظي الطمس وانفلاق البحر ونتق الطور على بني إسرائيل، وقيل : الطوفان والسنون ونقص الثمرات مكان الثلاثة الأخيرة، وعن صفوان بن عسال قال : قال يهودي لصاحبه اذهب بنا إلى هذا النبي فقال له صاحبه لا تقل له نبي إنه لو سمعك لكان له أربع أعين فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات بينات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببرئ إلى ذي سلطان ليقتله ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولوا للفرار يوم الزحف وعليكم خاصة اليهود أن لا تعتدوا في السبت، قال : فقبلا يديه ورجليه وقالا : نشهد أنك نبي، قال : فما يمنعكم أن تتبعوني ؟ قالا : إن داود عليه السلام دعا ربه أن لا يزال من ذريته نبي وإنا نخاف إن تبعناك أن يقتلنا اليهود )١ رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال : حسن صحيح والحاكم وقال صحيح لا نعرف له علة، وروى البغوي بلفظ أن يهوديا قال لصاحبه تعال حتى نسأل هذا النبي فقال الآخر لا تقل له إنه نبي أنه لو سمع صارت له أربع أعين فأتياه فسألاه عن هذه الآية :﴿ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ﴾ الحديث فعلى هذا المراد بالآيات الأحكام العامة للملل الثابتة في كل الشرائع، سمى بذلك لأنها تدل على حال من يتعاطى متعلقها في الآخرة من السعادة والشقاوة وقوله وعليكم خاصة اليهود أن لا تعتدوا حكم مستأنف زائد على الجواب ولذلك غير فيه سياق الكلام ﴿ فسئل ﴾ أي فقلنا لموسى فاسأل ﴿ بني إسرائيل ﴾ من فرعون ليرسلهم معك، أو سل يا موسي بني إسرائيل عن دينهم ويؤيد كون الخطاب لموسى قراء ة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل على لفظ الماضي بغير همزة الوصل أخرجه سعيد بن منصور في سننه وأحمد في الزهد عن ابن عباس ﴿ إذ جاءهم ﴾ متعلق بقلنا مقدر أو المعنى فاسأل يا محمد بني إسرائيل عما جرى بين موسى وفرعون إذ جاءهم وعن الآيات ليظهر للمشركين صدقك أو لتسلي نفسك وتعلم أنه تعالى لو أتى بما اقترحوا لأصروا على العناد والمكابرة كمن قبلهم أو ليزداد يقينك لأن تظاهر الأدلة توجب قوة اليقين وطمأنينة القلب، وعلى هذا كان إذ منصوبا بآتينا أو بإضمار يخبروك على أنه جواب الأمر أو بإضمار أذكر على الاستيناف ﴿ فقال له ﴾ أي لموسى ﴿ فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا ﴾ سحرت فاختل عقلك حيث تدعي أما مستحيلا يعني الرسالة من الله تعالى كذا قال الكلبي، وقيل : مصروفا عن الحق، وقال الفراء وأبو عبيدة ساحرا وضع المفعول موضع الفاعل، وقال محمد بن جرير معطى علم السحر فهذه العجائب التي تفعلها من سحرك.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الاستئذان والآداب، باب: ما جاء في قبلة اليد والرجل (٢٧٣٣).
وأخرجه النسائي في كتاب: تحريم الدم، باب: السحر (٤٠٧٦)..

﴿ قال ﴾ موسى في جوابه ﴿ لقد علمت ﴾ قرأ الكسائي بضم التاء على إخباره عن نفسه أي علمت أنا ويروى ذلك عن علي، وقال : لم يعلم الخبيث أن موسى على الحق ولو علم لا من ولكن موسى هو الذي علم، وقرأ الباقون بفتح التاء أي لقد علمت أنت يا فرعون، قال ابن عباس علمه فرعون ولكن عاند قال الله تعالى :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ﴾١ ﴿ ما أنزل هؤلاء ﴾ الآيات ﴿ إلا رب السماوات والأرض بصائر ﴾ جمع بصيرة أي بينات يبصرك صدقي ولكنك تعاند وانتصاب على الحال ﴿ وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ﴾ قال ابن عباس ملعونا وقال مجاهد هالكا، وقال قتادة مهلكا، وقال الفراء مصروفا ممنوعا عن الخير مطبوعا على الشر من قولهم ما ثبرك عن هذا أي ما صرفك، نازع ظنه بظنه وشتان ما بين الظنين فإن ظن فرعون باطل معارض للأدلة الموجبة لليقين، وظن موسى يحوم حول اليقين من تظاهر أماراته
١ سورة النمل، الآية: ١٤..
﴿ فأراد ﴾ فرعون ﴿ أن يستفزهم ﴾ أي يستخف ويخرج موسى وقومه ﴿ من الأرض ﴾ أرض مصر والأرض مطلقا بالقتل والاستئصال ﴿ فأغرقناه ومن معه جميعا ﴾ على عكس ما أراد بموسى وقومه يعني فاستفززناه وقومه بالإغراق
﴿ وقلنا من بعده ﴾ أي من بعد فرعون وإغراقه ﴿ لبني إسرائيل اسكنوا الأرض ﴾ التي أراد فرعون أن يستفزكم منها ﴿ فإذا جاء وعد الآخرة ﴾ أي الكرة أو الحياة أو الساعة أو الدار الآخرة يعني قيام القيامة ﴿ جئنا بكم لفيفا ﴾ أي جميعا مختلطين إياكم وإياهم ثم يحكم ويميز سعداءكم من أشقيائكم، واللفيف الجماعات من قبائل شتى إذا اختلطوا وجمع القيامة كذلك فيهم المؤمن والكافر والبر والفاجر وقال الكلبي فإذا جاء وعد الآخرة يعني مجيء عيسى من السماء جئنا بكم لفيفا أي كل قوم من ههنا وههنا لقوا جميعا.
﴿ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ﴾ تقديم الظرف يفيد الحصر يعني ما أنزلنا القرآن إلا متلبسا بالحق أي بالحكمة المقتضية لإنزالها وما نزل إلا متلبسا بالحق أي الحكمة والصدق الذي اشتمل عليه، وقيل : معناه ما أنزلناه من السماء إلا محفوظا بالرصد من الملائكة وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط الشياطين، أراد نفي اعتراء البطلان أوله وآخره ﴿ وما أرسلناك ﴾ يا محمد ﴿ إلا مبشرا ﴾ للمطيعين بالجنة ﴿ ونذيرا ﴾ للعاصين من النار، فليس عليك إلا التبشير والتنذير دون جبرهم على الهداية.
﴿ وقرآنا ﴾ منصوب بفعل يفسره ﴿ فرقناه ﴾ يعني نزلناه نجوما متفرقا ولم ننزله جملة، بدليل قراءة ابن عباس بالتشديد لكثرة نجومه فإنه نزل في عشرين سنة، أو معناه فصلناه وبيناه وقال الحسن معناه فرقنا فيه الحق والباطل فحذف كما حذف في قوله ويوما شهدناه ﴿ لتقرأه على الناس على مكث ﴾ أي مهلة فإنه أيسر للحفظ وأعون للفهم ﴿ ونزلناه تنزيلا ﴾ على حسب الحوادث.
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ آمنوا به ﴾ أي القرآن ﴿ أو لا تؤمنوا ﴾ هذا على طريق التهديد والوعيد يعني إيمانكم وإنكاركم لا يعود على القرآن منفعة، فإن إيمانكم لا يزده كمالا بل لأنفسكم، وامتناعكم عنه لا يورثه نقصانا بل يضركم وقوله ﴿ إن الذين أوتوا العلم من قبله ﴾ تعليل له يعني فإن لم تؤمنوا فقد آمن غيركم الذين هم خير منكم، وهم علماء أهل الكتاب الذين قرؤوا الكتب السابقة، وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة، وتمكنوا من التميز بين المحق والمبطل، حيث قروا نعتك وصفة ما أنزل إليك في تلك الكتب، وقيل المراد بالموصول الذين كانوا يطلبون الدين قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلموا بعد مبعثه مثل زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان الفارسي وأبو ذر وغيرهم، ويجوز أن يكون تعليلا على سبيل التسلية كأنه قيل تسل بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة ولا تكترث بإيمانهم وإعراضهم ﴿ إذا يتلى عليهم ﴾ القرآن ﴿ يخرون للأذقان ﴾ قال ابن عباس أراد به الوجوه أي يسقطون على وجوههم ﴿ سجدا ﴾ تعظيما لأمر الله وشكرا لإنجازه وعده في تلك الكتب ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل، وإنزال القرآن عليه
﴿ ويقولون سبحان ربنا ﴾ عن خلف الموعد ﴿ إن كان ﴾ يعني أنه كان ﴿ وعد ربنا لمفعولا ﴾ كائنا لا محالة يعنى ما وعد الله تعالى في الكتب المنزلة وبشر به من بعثه محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه كان منجزا كائنا البتة
﴿ ويخرون للأذقان يبكون ﴾ كرر لاختلاف الحال أو السبب فإن الأول للشكر عند إنجاز الوعد، والثاني لما أثر فيهم من مواعظ القرآن، وجملة يبكون في محل النصب على الحال يعني يخرون حال كونهم باكين من خشية الله، وذكر الذقن لأنه أول ما يلقى الأرض من وجه الساجد واللام فيه لاختصاص الخرور بها ﴿ ويزيدهم ﴾ سماع القرآن﴿ خشوعا ﴾ أي يزيدهم علما ويقينا وخشوعا لأجل نزول بركات القرآن على بواطنهم.
مسألة : يستحب البكاء عند قراءة القرآن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يلج النار من بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري مسلم أبدا )١ رواه البغوي ورواه الحاكم وصححه والبيهقي عنه بلفظ :( حرم على عينين أن تنالهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس الإسلام وأهله من أهل الكفر ) وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( حرمت النار على ثلاثة أعين عين بكت من خشية الله وعين سهرت في سبيل الله وعين غضت عن محارم الله ) رواه البغوي، وعن أبي ريحانة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( حرمت النار على عين بكت من خشية الله وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله وحرمت النار على عين غضت عن محارم الله أو عين فقئت في سبيل الله ) رواه الطبراني في الكبير وصححه وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ما من عبد مؤمن يخرج من عينه دموع وإن كان مثل رأس الذباب من خشية الله ثم يصيب شيئا من حر وجهه إلا حرمه الله على النار )٢ رواه ابن ماجه والله أعلم.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، باب: ما جاء في فضل البكاء من خشية الله تعالى (٢٣١١).
وأخرج النسائي في كتاب: الجهاد، باب: فضل من عمل في سبيل الله على قدمه (٣٠٩٨)..

٢ أخرجه ابن ماجة في كتاب: الزهد، باب: الحزن والبكاء (٤١٩٧) قال في الزائد: إسناده ضعيف..
أخرج ابن مردويه وغيره عن ابن عباس قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فدعا فقال في دعائه يا الله يا رحمن فقال المشركون أنظروا إلى هذا الصابيء ينهانا أن ندعو إلهين فأنزل الله تعالى :﴿ قل أدعوا الله أو أدعوا الرحمن ﴾ وذكر البغوي قول ابن عباس أنه سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ذات ليلة فجعل يقول في سجوده يا الله يا رحمن فقال أبو جهل إن محمدا ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين فأنزل الله تعالى هذه الآية ومعناها أنهما اسمان لذات واحدة وإن اختلفا اعتبار إطلاقهما وذلك لا ينافي توحيد ذات واحدة يستحق العبادة هو لا غير، وكلمة أو للتخيير، وقيل : قالت اليهود إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثره الله في التوراة فأنزل الله تعالى هذه الآية والمعنى أنهما متساويان في حسن الإطلاق والإفضاء إلى المقصود ﴿ أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ﴾ الدعاء ههنا بمعنى التسمية وهو معدى إلى مفعولين حذف أولهما استغناء عنه، والتنوين في أيا عوض عن المضاف إليه وما صلة لتأكيد ما في أي من الإبهام، والضمير في له للمفعول الأول المحذوف يعني أيا ما تدعوه فله أي لذات المعبود بالحق الأسماء الحسنى، وجملة له الأسماء الحسنى واقعة موقع الجزاء للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه وكان أصل الكلام أي اسم من هذين الإسمين تدعوا الله أي تسموه به فهو حسن صحيح لأن له تعالى الأسماء الحسنى منها هذين الإسمين وكونها حسنى لدلالتها كلها على صفات الجلال والكمال والتنزه عن النقص والزوال، وقد ذكرنا أسماء الله سبحانه وما يتعلق بها في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى :﴿ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ﴾ الآية. ١
﴿ ولا تجهر بصلاتك ﴾ أي بقراءتك في الصلاة بحيث يسمعها المشركون ﴿ ولا تخافت بها ﴾ كل المخافة بحيث لا يسمع من خلقك من المؤمنين ﴿ وابتغ ﴾ أي أطلب ﴿ بين ذلك ﴾ أي كمال الجهر والمخافة ﴿ سبيلا ﴾ متوسطا فإن خير الأمور أوسطها، والمراد بالصلاة صلاة الليل فريضة كانت أو نافلة للإجماع على وجوب الأخفاة في صلاة النهار للنقل المتوارث، أو المعنى وابتغ بين ذلك سبيلا يعني بالإخفاء نهارا وحيث يكون بمسمع من المشركين وبالجهر المتوسط ليلا، روى البغوي من طريق البخاري عن أبي بشير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال : نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختفي بمكة كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ ولا تجهر بصلاتك ﴾ أي بقراءتك فيستمع المشركون فيسبوا القرآن ﴿ ولا تخافت بها ﴾ عن أصحابك فلا تسمعهم وروى البخاري عن أبي بشير بإسناد مثله وزاد ﴿ وأبتغ بين ذلك سبيلا ﴾ لسمعهم ولا تجهر حتى لا يأخذوا عنك القرآن٢، قال البغوي وقال قوم الآية في الدعاء وهو قول عائشة والنخعي ومجاهد ومكحول رضي الله عنهم روى البخاري عن عائشة ﴿ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ﴾ قالت : أنزل ذلك في الدعاء، وأخرج ابن جرير من طريق ابن عباس مثله ثم رجح الرواية الأولى بكونها أصح سندا، وكذا أرجحها النووي وغيره قال الحافظ ابن حجر لكن يحتمل الجمع بينهما بأنها نزلت في الدعاء داخل الصلاة، وقد أخرج ابن مردويه من حديث أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى عند البيت رفع صوته بالدعاء فنزلت قلت : وهذا الجمع عندي غير مرضي لأن الدعوات المأثورة في الصلاة المتوارث فيها إلا خفاة ولا خوف إلا في دعاء القنوت وأيضا قوله تعالى :﴿ أدعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين٥٥ ﴾٣ يقتضي الإخفاء في الدعوات كلها في الصلاة وخارجها فالأولى أن يقال : المراد بالدعاء في قول عائشة أنها نزلت في الدعاء وكذا في حديث أبي هريرة رفع صوته بالدعاء سورة الفاتحة لاشتمالها على قوله تعالى :﴿ أهدنا الصراط المستقيم٦ ﴾ الخ وما أخرج ابن جرير والحاكم عن عائشة قالت : اللهم ارحمني فنزلت وأمروا أن لا تخافتوا ولا تجهروا، وما قال البغوي قال عبد الله بن شداد كان أعراب بني تميم إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : اللهم ارزقنا مالا وولدا ويجهرون بذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية يجب رده للنقل المتوارث فلا يصادم ما في الصحيح في سبب نزول هذه الآية والله أعلم.
روى البغوي من طريق الترمذي عن عبد الله بن رباح الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر ( مررت بك وأنت تقرأ وتخفض من صوتك ) فقال : إني أسمعت من ناجيت فقال ( ارفع قليلا ) وقال لعمر ( مررت بك وأنت ترفع صوتك ) فقال : إني أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان قال ( أخفض قليلا )٤ وروى أبو داود وغيره من حديث أبي قتادة نحوه، وقد ذكرنا بعض مسائل الجهر بالقراءة والإخفاء بها في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى :﴿ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون٢٠٤ واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين٢٠٥ ﴾٥ الآية وذكرنا مسألة ذكر الجهر والخفي أيضا في تلك السورة في تفسير قوله تعالى :﴿ ادعوا ربكم تضرعا وخفية ﴾٦ الآية.
فصل : كيف كان قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة قال :( كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم يرفع طورا ويخفض طورا )٧ رواه أبو داود، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم على قدر ما يسمعه من في الحجرة وهو في البيت )٨ رواه أبو داود وعن أم مسلمة أنها نعتت قراءته صلى الله عليه وسلم فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا )٩ رواه أبو داود والترمذي والنسائي وعن أم هانئ قالت :( كنت أسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم الليل وأنا على عريشي )١٠ رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وعن عبد الله بن قيس قال سألت عائشة عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم كان يسر بالقراءة أم يجهر ؟ قالت : كل ذلك قد كان يفعل ربما أسرو ربما جهر، قلت : الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة١١، قال الترمذي حديث حسن صحيح غريب والله أعلم.
أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : إن اليهود والنصارى قالوا : اتخذ الله ولدا وقالت العرب لبيك لا شريك لك لبيك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك قال الصابئون والمجوس لولا أولياء الله لذل فأنزل الله تعالى :﴿ وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ﴾.
١ سورة الأعراف، الآية: ١٨٠..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: ﴿ولا تهجر بصلاتك ولا تخافت بها﴾ (٤٧٢٢)..
٣ سورة الأعراف، الآية: ٥٥..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في قراءة الليل (٤٤٤) وأخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل (١٣٢٧)..
٥ سورة الأعراف، الآية: ٢٠٤ــ ٢٠٥..
٦ سورة الأعراف، الآية: ٥٥..
٧ أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل (١٣٢٦)..
٨ أخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل (١٣٢٥)..
٩ أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل القرآن، باب: ما جاء كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم (٢٩٢٣).
وأخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: كيف يستحب الترتيل في القراءة (١٤٦٥).
وأخرجه النسائي في كتاب: الافتتاح، باب: تزيين القرآن بالصوت (١٠١٦)..

١٠ أخرجه النسائي في كتاب: الافتتاح، باب: رفع الصوت بالقرآن (١٠٠٧) وأخرجه ابن ماجة في كتاب: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما جاء في القرآن في صلاة الليل (١٣٤٩)..
١١ أخرجه الترمذي في كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في قراءة الليل (٤٤٦)..
﴿ وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ﴾ أي في الألوهية ﴿ ولم يكن له ولي من الذل ﴾ أي ولي يواليه من أجل مذله به ليدفعها بولايته، نفى عنه أن يكون له ما يشاركه من جنسه ومن غير جنسه اختبارا واضطرارا، وما يعاونه ويقويه، ورتب الحمد عليه للدلالة على أنه يستحق جنس الحمد لأنه كامل الذات المتفرد بالإيجاد المنعم على الإطلاق وما عداه ناقص مملوك نعمة أو منعم عليه فكل حمد راجع إليه تعالى ﴿ وكبره تكبيرا ﴾ أي عظمه عن أن يكون له شريك أو ولي تعظيما بالغا، روى أحمد في مسنده والطبراني بسند حسن عن معاذ الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول :( آية العز ﴿ الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ﴾ إلى آخر السورة ) والله أعلم، في هذه الآية تنبيه على أن العبد وأن بالغ في التنزيه والتمجيد واجتهد في العبادة والتحميد ينبغي أن يعترف بالقصور عن حقه في ذلك، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الحامدون الذين يحمدون في السراء والضراء ) رواه الطبراني والحاكم وصححه والبيهقى، وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده ) رواه البيهقي وعبد الرزاق في الجامع، وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن أفضل الدعاء الحمد لله وأفضل الذكر لا إله إلا الله )١ رواه الترمذي وابن ماجه، وعن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أحب الكلام إلى الله أربع لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله لا يضرك بأيتهن بدأت )٢ رواه مسلم وأحمد بسند صحيح وروى البغوي الأحاديث الأربعة وعن عمران بن حصين ( إن أفضل عباد الله يوم القيامة الحامدون ) رواه الطبراني، وعن أبى ذر ( أحب الكلام إلى الله أن يقول العبد سبحان الله وبحمده )٣ رواه أحمد ومسلم والترمذي، وعن أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الولد من بني عبد المطلب علمه ﴿ وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ﴾ الآية، وأخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة، وكذا أخرج من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ورواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة في مصنفهما من حديث عمرو بن شعيب مفضلا والله أعلم.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله تعالى على خير خلقه محمد وآله وأصحابه أجمعين.
تم تفسير سورة بني إسرائيل من التفسير المظهري ويتلوه إن شاء الله تعالى تفسير سورة الكهف قد تم ثالث رمضان من السنة الثانية بعد المائتين وألف سنة ١٢٠٢ من الهجرة.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات، باب: ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة (٣٣٨٣).
وأخرجه ابن ماجة في كتاب: الدعاء، باب: فضل الحامدين (٣٨٠٠)..

٢ أخرجه مسلم في كتاب: الآداب، باب: كراهة التسمية بالأسماء القبيحة وبنافع ونحوه (٢١٣٧)..
٣ أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة، باب: فضل سبحان الله بحمده (٢٧٣١)..
Icon