ﰡ
" وجعلنا الليل والنهار آيتين، فمحونا آية الليل، وجعلنا آية النهار مبصرة، لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا "
( سورة الإسراء الآية ١٣ )
مناسبة الربط
لله تعالى في سور القرآن، وعالم الأكوان، آيات بينات دالة على وجوده، وقدرته، وإرادته، وعلمه، وحكمته. ونعم سابغات موجبة لحمده وشكره وعبادته.
ولما ذكر تعالى آيته ونعمته بالقرآن الذي يهدي للتي هي أقوم، ذكر آيته ونعمته بالليل والنهار المتعاقبين على هذا الكون الأعظم. فقال تعالى :" وجعلنا الليل والنهار آيتين.... "
الشرح والبيان :
" جعلنا الليل والنهار " : خلقناهما، ووضعناهما آيتين. وجعل الشيء هو وضعه على حالة أو كيفية خاصة، فهما حادثان مسيران بتدبير وتقدير.
و «الليل " : هو الوقت المظلم الذي يغشى جانبا من الكرة الأرضية، عندما تكون الشمس منيرة لجانبها المقابل.
و " النهار " : هو الوقت الذي يتجلى على جانب الكرة المقابل للشمس فتضيئه بنورها. و لا يزالان هكذا متعاقبين على جوانب هذه الكرة و أمكنتها :
يكور١الليل على النهار، بأن يحل محله في جزء من الكرة – وجزء الكرة مكور – فيكون النهار الحال مكورا بحكم تكور المحل.
وكذلك النهار يكور عليه فيحل محله من الكرة، فيكون أيضا مكورا بحكم تكور المحل. و إنما جعلنا تكوير أحدهما على الآخر بحلوله محله ؛ لأنه لا يمكن تكويره عليه بحلوله عليه نفسه ؛ لأنهما ضدان لا يجتمعان، و ليسا جسمين يحل أحدهما على الآخر.
الآية
" والآية " : هي العلامة الدالة. و كان الليل والنهار " آيتين " بتعاقبهما مقدرين بأوقات متفاوتة بالزيادة والنقص في الطول والقصر، على نظام محكم وترتيب بديع، بحسب الفصول الشتوية والصيفية، وبحسب الأمكنة ومناطق الأرض : المناطق الاستوائية، والقطبية الشمالية، والجنوبية، و ما بينهما.
حتى يكونا في القطبين ليلة و يوما في السنة، ليلة فيها ستة أشهر هي شتاء القطبين، و يوم فيه ستة أشهر هو صيفهم.
فهذا الترتيب والتقدير والتيسير، دليل قاطع على وجود خالق حكيم قدير لطيف خبير.
الليل في نفسه آية، وفيه آيات، و أظهر آياته هو القمر. فيقال في القمر :
" آية الليل ". و النهار في نفسه آية، و فيه آيات، و أظهر آياته هي الشمس، فيقال في الشمس :" آية النهار ".
وبعد ما ذكر تعالى الليل والنهار آيتين في أنفسهما، ذكر أظهر آيات كل واحد منهما و أضاف إليه. فقال تعالى :" فمحونا آية الليل... "
ترجيح الإمام
وليس محور القمر و إبصار الشمس متأخرا عن الليل والنهار. وكيف ؟ ! و ما كان الليل والنهار إلا باعتبار إضاءة الشمس لجانب، وعدم إضاءتها لمقابله.
فليست الفاء في " فمحونا " للترتيب في الوجود، و إنما هي للترتيب في الذكر، و للترتيب في التعقل : فإن القمر والشمس بعض من آيات الليل والنهار، والجزء متأخر في التعقل عن الكل.
و قد اتفق الكاتبون على الآية – ممن رأينا على أن المراد من لفظ الآية في الموضعين واحد :
أ – فإما أن يراد بها نفس الليل والنهار، و الإضافة في " آية الليل " و " آية النهار " للتبيين كإضافة العدد للمعدود٢.
أو يراد بها الشمس والقمر فيكون :" وجعلنا الليل والنهار آيتين "، على تقدير مضاف في الأول تقديره هكذا : وجعلنا نيري٣الليل والنهار.
أو في الأخير٤ مقدرا هكذا : وجعلنا الليل والنهار ذوي آيتين.
ب – و إما على تقديرنا المتقدم فإن لفظ " آيتين " صادق على الليل والنهار. ولفظ " آية الليل " و " آية النهار "، صادق على الشمس والقمر.
و عليه يكون تقدير الآية هكذا : وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا قمر الليل وجعلنا شمس النهار مبصرة.
و هو تقدير صحيح لا معارض له من جهة اللفظ و لا من جهة المعنى، و سالم من دعوى تقدير محذوف، ومفيد لكثرة المعنى بأربع آيات : بالليل وقمره والنهار وشمسه. فالتقرير به أولى، ولذلك فسرنا الآية عليه.
معنى محو آية الليل
" فمحونا " : المحو هو الإزالة إزالة الكتابة من اللوح، و إزالة آثار من الديار. فمحو " آية الليل " إزالة الضوء منها، و هذا يقتضي أنه كان فيها ضوء ثم أزيل ؛ فتفيد الآية أن القمر كان مضيئا، ثم أزيل ضوؤه فصار مظلما.
رأي الجغرافيين
و قد تقرر في علم الهيئة أن القمر جرم مظلم يأتيه نوره من الشمس.
واتفق علماء الفلك في العصر الحديث بعد الاكتشافات والبحوث العلمية أن جرم القمر – كالأرض – كان منذ أحقاب طويلة و ملايين السنين شديد الحمو والحرارة ثم برد، فكانت إضاءته في أزمان حموه و زالت لما برد.
معجزة علمية قرآنية
لنقف خاشعين متذكرين أمام معجزة القرآن العلمية : ذلك الكتاب الذي جعله الله حجة لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، و برهانا لدينه على البشر مهما ترقوا في العلم و تقدموا في العرفان ! !
فإن ظلام جرم القمر لم يكن معروفا أيام نزول الآية عند الأمم إلا أفرادا قليلين من علماء الفلك. و إن حمو جرمه أولا، وزواله بالبرودة ثانيا. ما عرف إلا في هذا العهد الأخير.
و الذي تلا هذه الآية و أعلن هذه الحقائق العلمية منذ نحو أربعة عشر قرنا نبي أمي : من أمه أمية. كانت في ذلك العهد أبعد الأمم عن العلم ؛ فلم يكن ليعلم هذا إلا بوحي من الله الذي خلق الخلائق و علم حقائقها ! !
كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم٥
***
" وجعلنا آية النهار مبصرة " :
فقد وضعت كذلك من أول خلقها " مبصرة " يبصر بها. والإسناد مجازي كما نقول لسان متكلم، أي متكلم به، فيسند الشيء إلى ما يكون به من آلة وسبب٦.
والمبصرون حقيقة ذوو الأبصار، ولكنهم لا ينتفعون بأبصارهم إلا في ضوئها، و لا ينتفعون بها في الظلام.
قدرة إلهية
و إذا كان الضوء يكون من النار ! فأين ضوء النار من ضوء الشمس في القوة والدوام والعموم ؟ ! !
استنتاج
وكما أفادت الآية زوال نور القمر، بعد أن كان بمقتضى لفظه " فمحونا " ومدلولها لغة – فإنها تشير إلى أن نوره مكتسب، و تومىء إلى أنه من الشمس، وذلك أننا نرى فيه نورا، مع علمنا أن نوره قد أزيل ؛ فنعلم قطعا أن ذلك النور ليس منه.
و إذا كان مذكورا مع الشمس المبصرة في الاستدلال والامتنان، ومعاقبا مصاحبا لها في الظهور، فنوره جاءه منها وهي التي أبصرته.
سر الترتيب
وقدم الليل و آيته على النهار وآيته في ترتيب النظم، لأنه ظلام، والظلام عدم الضوء. والعدم مقدم على الوجود في هذه المخلوقات.
" لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلمواعدد السنين والحساب "
النعمة في آيتي الليل والنهار
ذكر تعالى الليل والنهار و آيتيهما استدلالا على الخلق ليعرفوه. وذكر ما فيها من النعمة عليهم ليشكروه ويعبدوه.
فكانت فائدة خلقها على هذا الوجه راجعة للعباد، ليبتغوا ويطلبوا فضلا من ربهم بالسعي لتحصيل المعاش، وأسباب الحياة، ووجوه المنافع.
وليضبطوا أوقاتهم بعلم عدد السنين الشمسية والقمرية، و ما اشتملت عليه السنون من الشهور والأيام والساعات.
وليعلموا جنس الحساب الذي منه حساب الشمس وتنقلها في منازلها، وحساب القمر وتنقله في بروجه، وحساب أبعادهما، وسعتهما، ومسير نورهما. ثم حساب ما يرتبط بهما من أجرام سابحة في الفضاء.
الابتغاء وسر التسمية به
" والابتغاء " : هو طلب الشيء بسعي إليه و محبة فيه. ويسمي – تعالى- طلب أسباب الحياة ابتغاء، تنبيها على هذا السعي وهذه المحبة، فهما الشرطان اللازمان للفوز بالمطلوب.
كما يسمي- تعالى- المطلوب بالابتغاء فضلا من الرب، وفضله من رحمته.
ورحمته واسعة لا تضبطها حدود، و لا تحصرها الأعداد – تنبيها على سعة هذا الفضل ليذهب الخلق في جميع نواحيه، و يأخذوا بجميع أسبابه مما أذن لهم فيه.
وليكونوا – إذا ضاق بهم مذهب – آخذين بمذهب آخر من مسالك هذا الفضل الرباني الواسع غير المحصور.
وتنبيها أيضا على قوة الرجاء في الحصول على البغية لأن طلبهم طلب لفضل رب كريم.
الرب
و يقول تعالى :" من ربكم " – والرب المالك المدبر لمملوكه بالحكمة فيعطيه في كل حال من أحواله ما يليق به، ليكون الخلق بعد قيامهم بالعمل راضين بما ييسره الله من أسباب، وما يقسمه لهم من رزق، ثقة بعدله وحكمته، فلا يبغي أحد على أحد بتعد أو حسد٧.
إرشاد
فهذه الكلمات القليلة الكثيرة، وهي :" لتبتغوا فضلا من ربكم " جمعت جميع أصول السعادة في هذه الحياة :
بالعمل مع الجد فيهن والمحبة له والرجاء في ثمرته، الذي به قوام العمران.
وبالرضا والتسليم للمولى، الذي به٨طمأنينة القلب وراحة الضمير.
وبالكف للقلب واليد عن الناس، الذي به٩الأمن والسلام.
ضبط الأعمال بالأوقات
ويذكر تعالى علم عدد السنين، المتضمن لعدد الشهور والأيام والساعات.
تنبيها لخلقه على ضبط الأعمال بالأوقات، فإن نظام الأعمال واطرادها وخفتها والنشاط فيها و قرب إنتاجها... إنما هو بهذا الضبط لها على دقائق الزمان١٠
كما ذكر- تعالى- جنس الحساب تنبيها على لزومه لهذا الضبط، ولجميع شؤون الحياة من علم وعمل ؛ فكل العلوم الموصلة إلى هذا العد وهذا الحساب هي وسائل لها حكم مقصدها في الفضل والنفع والترغيب.
" وكل شيء فصلناه تفصيلا " :
ترغيب
فكل ما يحتاج إليه العباد لتحصيل السعادتين من عقائد الحق، و أخلاق الصدق، و أحكام العدل، ووجوه الإحسان.. كل هذا فصل في القرآن تفصيلا : كل فصل على غاية البيان والأحكام.
وهذا دعاء وترغيب للخلق أن يطلبوا ذلك كله من القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم في العلم والعمل، ويأخذوا منه ويهتدوا به ؛ فهو الغاية التي ما وراءها غاية في الهدى والبيان.
" من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصليها مذموما مدحورا.
ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيا وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ".
( سورة الإسراء الآيتان ٢٠، ١٩ )
الشرح والمعنى :
أنواع الناس في الدنيا
كل الناس في هذه الحياة حارث وهمام، عامل ومريد، فسفيه ورشيد، وشقي وسعيد :
مريد الدنيا وجزاؤه :
منهم من يريد بأعماله هذه الدار العاجلة والحياة الدنيا، عليها قصر همه، وعلى حظوظها عقد ضميره. وجعلها وجهة قصده، ونصبها غاية سعيه، لا يرجوا ورائها ثوابا، ولا يخاف عقابا، فهو مقبل عليها بقلبه وقالبه، معرض عن غيرها بكليته، فلا يجيب داعي الله بترغيب و لا ترهيب، ولا يتقيد في سلوكه بشرائع العدل والإحسان.
تفسير بن باديس – م
فمن كانت هذه إرادته، ولهذا عمله، عجل الله له في الدنيا ما مضى في مشيئته تعالى أن يعجله له، إن كان ممن أراد التعجيل لهم، بحكم إبدال الجار والمجرور في قوله :" لمن نريد "، من الجار والمجرور في قوله :" عجلنا له ". فالتعجيل منه تعالى لم يريد، لا لكل مريد.
والشيء المعجل – في قدره وجنسه ومدته- على ما يشاء الرب المعطي، لا على ما يشاء العبد المريد.
فكم من مريد الدنيا من يقصد الشيء فلا ينال إلا بعضه، فيضيع عليه شطر عمله، فلا في هذه الدار، ولا في تلك الدار.
وكم منهم من سعى واجتهد وانتهى بالخيبة والحرمان، فعاد- بعد النصب- ولا ثمرة حصلها عاجلا، ولا ثوابا ادخره آجلا، وذلك هو الخسران المبين١.
ثم إذا قدم على الله في الآخرة جعل له وحضر له جهنم دار العذاب، واضطره إلى دخولها. فيصليها مذموما : مذكورا بقبح فعله وسوء صنيعه في قلة شكره لربه، وعدم استعماله لما كان أنعم عليه به في طاعته، وعدم نظره لعاقبة أمره. مدحورا : مبعدا في أقصى النار مطرودا من الرحمة.
حرم نفسه من استثمار رحمة الله في الدنيا بالشكر عليها، فكان عدلا أن يحرم منها في الآخرة.
ونظير هذه الآية آية :" ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ". عمل للدنيا فنال نصيبه منها، ولم يعمل للآخرة فلم يكن له نصيب فيها٢.
و التقييد بمن في قوله تعالى :" منها " على أن ما يناله – سواء أكان كل ما أراد أو بعضه – ما هو إلا بعض من الدنيا.
و إذا كانت الدنيا كلها شيئا زهيدا، بقلتها وفنائها ونغصها بالنسبة لأقل شيء من نعيم الآخرة – فما بالك بما هو بعض منها ؛ فلقد خاب وخسر من استبدل بنعيم الآخرة هذا القليل الخسيس المنغص الزهيد !
و نظيرها أيضا آية :" من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون " ٣.
و توفيتهم أعمالهم، إنالتهم ثمراتها مكملة في الدنيا، وهم فيها لا يبخسون : لا ينقصون من جزائهم عليها بتحصيل المسببات التي توسلوا إليها بأسبابها. ثم في الآخرة تحبط تلك الأعمال فلا يكون عليها من جزاء و لا لها من ثمرة، لأنها كانت أعمالا باطلة لا ثبات لها.
عمل لدنيا دار الزوال فزالت بزوالها، و بقي على عمالها إثم عدم شكرهم لربهم فدخلوا به النار، وتلك عاقبة الظالمين.
فرق
غير أن هاتين الآيتين مطلقتان في الشيء المعطى والشخص المعطى له.
و آية " الإسراء " مقيدة بمشيئة الله تعالى و إرادته فيهما، والمطلق محمول على المقيد في البيان والأحكام.
الأسباب وسائل المسببات ولو اختلفت الاعتقادات
و قد أفادت هذه الآيات كلها، أن الأسباب الكونية التي وضعها الله في هذه الحياة وسائل لمسبباتها، موصلة – بإذن الله تعالى- من تمسك بها إلى ما جعلت وسيلة إليه، بمقتضى أمر الله وتقديره وسنته في نظام هذه الحياة
والكون، ولو كان ذلك المتمسك بها لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا يصدق المرسلين.
ومن مقتضى هذا : أن من أهمل تلك الأسباب الكونية التقديرية الإلهية، ولم يأخذ بها لم ينل مسبباتها و لو كان من المؤمنين، وهذا معلوم ومشاهد من تاريخ البشر في ماضيهم وحاضرهم٤.
نعم لا يضيع على المؤمن أجر إيمانه، ولكن جزاءه عليه في غير هاته الدار، كما أن الآخر لم يضع عليه أخذه بالأسباب، فنال جزاءه في دار الأسباب وليس له في الآخرة إلا النار.
أقسام العباد :
فالعباد- إذن- على أربعة أقسام :
١- مؤمن آخذ بالأسباب الدنيوية، فهذا سعيد في الدنيا والآخرة.
٢- ودهري٥ تارك لها، فهذا شقي فيهما.
٣- و مؤمن تارك للأسباب، فهذا شقي في الدنيا وينجو- بعد المؤاخذة على الترك – في الآخرة.
٤- و دهري آخر آخذ بالأسباب الدنيوية، فهذا سعيد في الدنيا ويكون في الآخرة من الهالكين.
فلا يفتنن المسلمون بعد علم هذا ما يرونه من حالهم وحال من لا يدين دينهم. فإنه لم يكن تأخرهم لإيمانهم، بل بترك الأخذ بالأسباب الذي هو سبب تأخرنا من ضعف إيمانهم. ولم يتقدم غيرهم بعد إيمانهم، بل بأخذهم بأسباب التقدم في الحياة.
وقد علموا أنهم مضت عليهم أحقاب وهم من أهل القسم الأول بإيمانهم و أعمالهم. وما صاروا من أهل القسم الثالث إلا لما ضعف إيمانهم وساءت أعمالهم وكثر إهمالهم ؛ فلا لوم – إذن – إلا عليهم في كل ما يصيبهم، وربك يقضي بالحق وهو الفتاح العليم٦.
.
٢ الآية :" من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها، وما له في الآخرة من نصيب". سورة الشورى، الآية ٢٠، ولاحظ "نزد له"، و "نؤته منها".
.
٣ سورة هود. الآيتان ١٥. ١٦.
.
٤ و حاضر المؤمنين وماضيهم خير شاهد على ذلك.
.
٥ الدهرى هو من لا يؤمن بالله، و إنما ينسب الأشياء للطبيعة والدهر.
.
٦ يريد الإمام أن يقول : بأن العلم والرقي فيه خط بشري، والدين خط إلهي – فمن سار في الخط البشري و أخذ بالأسباب الكونية وصل بإذن الله إلى الرقي والتقدم.
و إذن ليس تأخر المسلمين بسبب إسلامهم حاشا وكلا، و إنما هو لترك مواصلة العمل على الخط البشري العلمي و الإسلام يبارك العلم ويناصره ويدعو إلى رقيه والنهوض به. أيا كان نوعه ما دام لخير البشرية وإسعادها.
.
مريد الآخرة وجزاءه :
وهذا قسم آخر من الخلق، قصد بعمله الآخرة و إياها طلب، وثوابها انتظر يرجوا أن يزحزح فيها عن النار ويفوز بالجنة، ويحل عليه الرضوان.
فهذا كان سعيه مشكورا بثلاثة شروط :
شروط السعي المشكور :
الشرط الأول :
أن يقصد بعمله ثواب الآخرة قصدا مخلصا، كما يفيده فعل الإرادة في :
" ومن أراد الآخرة "، ولام الأجل في " وسعى لها١ "
الشرط الثاني :
أن يعمل لها عملها المعروف في الشرع اللائق بها الذي لا عمل يفضي إلى نيل ثوابها سواه، وهو طاعة الله تعالى وتقواه، بامتثال أوامره ونواهيهن والوقوف عند حدوده.
الشرط الثالث :
أن يكون مؤمنا موقنا بثواب الله تعالى وعظيم جزائه.
فإذا توفرت هذه الشروط الثلاثة لهم " كان سعيهم مشكورا " متقبلا مثابا عليه بحسن الثناء، وجميل الجزاء، على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة :" والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ".
و إذا اختل واحد منها فليس العمل بمتقبل ولا بمثاب عليه، بضرورة انعدام المشروط بانعدام شرطه.
و في هذه الشروط مباحث :
المبحث الأول :
أن قصد الثواب والجزاء على العمل لا ينافي الإخلاص فيه لله ؛ لأن الإخلاص هو أن تجعل عبادتك لله وحده، و رجاؤك الثواب وطمعك فيه، و حذرك العقاب وخوفك منه، هما مقامان عظيمان لك في جملة عبادتك.
يجب عليك أن تكون فيهما أيضا مخلصا، لا ترجو إلا ثوابه، و لا تخاف إلا عقابه.
و إذا أخلصت في رجائك وخوفك هانت عليك نفسك فقمت في طاعته مجاهدا لا يردك معارض، و لا تأخذك في الله لومة لائم. و صغرت في نظرك العوالم كلها فنطقت بقولك :" الله أكبر " نطق عالم واجد مشاهد.
والمقصود : أن رجاء الثواب وخوف العقاب روحهما الإخلاص فكيف ينافيانه ؟٢.
فالعامل الراجي للثواب الخائف من العقاب المخلص في الجميع، آت بأربع عبادات : عمله، ورجائه، وخوفه، وإخلاصه، وهو٣ روح الجميع.
وقد جاء في القرآن ثناء شيخ الأنبياء ابراهيم الخليل، عليه وعليهم الصلاة والسلام هكذا :
" والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين " ٤
وذكر تعالى دعاء عباد الرحمن الصالحين هكذا :
" ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما " ٥.
و في دعاء القنوت :( نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد ) إلى غير هذا من أدلة كثيرة تؤيد ما ذكرناه٦.
المبحث الثاني :
أفاد هذا الشرط أن من لم يرد الآخرة لم يكن سعيه مشكورا.
و في هذا تفصيل :
أ – لأن العامل إما أن يكون في عبادته لم يرد بها الآخرة أصلا، بل أراد بها شيئا دنيويا من محمدة الخلق، أو استفادة شيء، أو تحصيل منفعة العمل.
أو أراد الآخرة، وشيئا مما ذكر شركة متساوية أو متفاوتة.
ب – و إما أن يكون في عمل عادة، لم يرد بها الآخرة أصلا. بل أراد الغرض الدنيوي.
أو أرادهما معا، والدنيوي وسيلة للأخروي.
فهنالك – إذن أقسام :
القسم الأول :
العامل في أمر تعبدي كالصلاة، والصدقة، والحج، والعلم، فهذا إذا لم يرد الآخرة أصلا فهو موزور غير مشكور، و فيه جاء حديث أبي هريرة في الصحيح قال :" سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يقول :
" إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها : قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت. قال : كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء. فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
و رجل تعلم العلم وعلمه، و قرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال : فماذا عملت فيها : قال تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن.
قال : كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال : عالم، و قرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار.
ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال : فما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن بنفق فيها إلا أنفقت فيها لك. قال : كذبت، و لكنك فعلت ليقال هو جواد. فقد قيل : ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار ".
و هذا الذي كان من هؤلاء هو الرياء وهو : أن يفعل العبادة ليقال إنه مطيع. وما دخل الرياء في عبادته إلا أحبطها، ولو كان قليلا ؛ لحديث أبي هريرة في الصحيح / قال رسول الله صلى الله عيه وآله وسلم :
قال الله تبارك وتعالى : أنا أغني الشركاء عن شرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ". و إشراك غيره معه صادق بالقليل والكثير، فلا فرق بينهما في الإحباط. والعامل المرائي موزور غير مشكور.
القسم الثاني :
العامل في العبادة الذي يقصد بها ثواب الآخرة وشيئا آخر من أعراض الدنيا : كالرجل يبتغي الجهاد، وهو يريد من عرض الدنيا. و قد سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا، فقال :" لا أجر له ". رواه أبو داود وابن حبان.
تنظير
و على وازنه نقول : من قصد الهجرة والتزوج لامرأة معا.
أو قصد الوضوء والتبرد، أو قصد الصوم والحمية – و إن صحت عبادته، لأن الصحة تتوقف على نية القصد، والثواب يتوقف على نية الإخلاص – لا أجر له.
هذا إذا سوي ما بينهما في القصد كما هو ظاهر لفظ الحديث. و أما إذا كان الغالب هو قصد العبادة فالظاهر أنه له من الأجر بقدر ما غلب من قصده.
القسم الثالث :
العامل في العبادة الذي يكون قصده إلى ثواب الآخرة، و ما عداه من منافع تلك العبادة ملحوظ له على سبيل التبع لها من حيث إنه مصلحة شرعية معتبرة في التشريع.
و الأحكام الشرعية المعللة بفوائدها في الآيات و الأحاديث لا تحصى كثرة ومنها في الحج. " ليشهدوا منافع لهم "، ومن منافع الحج الحركة الاقتصادية لخير تلك البقاع ومصلحة أهلها، وغزارة عمرانها. و لذا قال تعالى :" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ". والفضل هنا هو الاتجار في مواسم الحج.
فكل منفعة تجلبها عبادة، أو مضرة تدفعها، فملاحظتها عند قصد العبادة لا تنافي الإخلاص، ولا تنقص من أجر العامل، و هي مثل الثواب المرتب على العمل : هي في الدنيا وهو في الآخرة، وكلاهما من رحمة الله التي نرجوها بأعمالنا. ويشملها لفظ دعاء القنوت :" نرجو رحمتك " إذ هو تبارك وتعالى رحمان الدنيا و الآخرة ورحيمها.
القسم الرابع :
العامل لعمل عادي دنيوي، من أكل وشرب ونوم وجماع و نحوها، فهذا إذا قصد بعمله النفع الدنيوي، ولا قصد له في الثواب، فهو غير مأجور ولا مأزور، وهذه هي حالة أهل الغفلة والجهل.
القسم الخامس :
عامل الأعمال العادية الذي يتناولها بنية كونها مباحا تناولها شرعا.
ويقصد بها التوسل إلى ما يتوقف عليها من أعمال واجبة ومندوبة. و إلى الانكفاف بها عن المحرمات والمكروهات.
كمباضعة زوجته للقيام بواجب حقها، وكف نفسه وكفها.
وكالنوم ليقوى على العبادة.
والرياضة ليصح للطاعة. فهذا مثاب وسعيه مشكور، وله ما نوى.
وبهذه السبيل يستطيع العبد الموفق أن تكون حركاته وسكناته كلها لله و في طاعته، دائم الذكر له يعبده كأنه يراه، لأن من كان يعبد كأنه يرى مولاه لا يمكن أن يغفل عنه قلبه ويشغل بسواه، حتى إذا اشتغل بشيء كان بإذنه ورضاه فلم يخرج في أي عن حضرة قدس الله.
ومن أدلة هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أبي ذر رضي الله عنه عند مسلم :
" وفي بضع٧ أحدكم صدقة. قالوا يا رسول الله : أيأتي أحدنا شهوته و يكون له فيها أجر ؟ قال : أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر٨ ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر ".
***
٣- المبحث الثالث :
من الناس من يخترع أعمالا و أوضاعا من عند نفسه، ويتقرب بها إلى الله مثل : ما اخترع المشركون عبادة الأوثان بدعائها، والذبح عليها، والخضوع لديها، وانتظار قضاء الحوائج منها... وهم يعلمون أنها مخلوقة لله، مملوكة له، وإنما يعبدونها – كما قالوا – لتقربهم إلى الله زلفى.
وكما اخترع طوائف من المسلمين الرقص، والزمر، والطواف حول القبور، والنذر لها، والذبح عندها، ونداء أصحابها، وتقبيل أحجارها ونصب التوابيت عليها، وحرق البخور عندها، وصب العطور عليها...
فكل هذه الاختراعات فاسدة في نفسها، لأنها ليست من سعي الآخرة الذي كان يسعاه محمد – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – و أصحابه من بعده، فساعيها موزور غير مشكور.
المبحث الرابع :
ثبوت الإيمان شرط العمل :
شكر الرب لعبده هو جزاء شكر عبده له، و إنما يكون العبد شاكرا لربه إذا كان عاملا بطاعته مؤمنا به ؛ فإذا انعدم الإيمان لم يتصور شكران وهذا مستفاد من قوله تعالى :( وهو مؤمن ).
و أفادت الجملة الإسمية ثبوت الإيمان و رسوخه حال العمل.
وعلى قدر ثبوت الإيمان ورسوخه يكون الثبات والدوام على الأعمال :
فالمؤمن بالله يعمل موقنا برضاه، موقنا بلقائه وعظيم جزائه، فهو يعمل ولا يفشل، وسواء عليه أوصل إلى الغاية التي يسعى إليها، أم لم يصل إليها : حال بينه وبينها موانع الدنيا أو مانع الموت، كانت مما تجنى ثماره في جيله أو لا تجنى ثماره إلا بعد أجيال٩.
فأفادت الجملة المذكورة شرط القبول للعمل، وسر الدوام عليه والمضي بغبطة وسرور فيه.
الجانب العلمي في الآية :
إن المسلمين كلهم – والحمد لله – أهل إيمان، فليستشعروه عند جميع الأعمال، و لا يخلون من عمل لمعاشهم أو لمعادهم، فليقصدوا بذلك كله وجه الله وامتثال أمره و حسن جزائه. وليقتصروا في عبادتهم على ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليكونوا على يقين من موافقة رضى الله، وسلوك طريق النجاة١٠.
فإذا فعلوا هذا و صمدوا إليه و جاهدوا أنفسهم في حملها عليه – كانوا شاكرين مشكورين على تفاوتهم في منازل العاملين عند رب العالمين، والله يقول الحق و هو يهدي السبيل.
٢ استفهام بمعنى النفي، أي لا ينافيه..
٣ الإخلاص..
٤ سورة الشعراء الآية ٧٢..
٥ سورة الفرقان الآية ٦٥. وغراما لازما موجعا.
.
٦ و سيأتي بسط واسع في هذا المقام عند شرح قوله تعالى :" ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما".
.
٧ البضع قطعة من اللحم. والمراد هنا أن يأتي الرجل زوجته، ويقصد بذلك ما سبق، فله أجر
.
٨ استفهام تقريري بمعنى : نعم.
.
٩ كزراعة الشجر الذي لا يثمر إلا بعد وقت طويل كالنخل، وقصد الإسلام من ذلك تعمير الكون وعماره، كحديث إذا قامت القيامة وبيد أحدكم فسيلة، فاستطاع أن يزرعها
فليزرعها.
.
١٠ يحرص الإمام في تفسيره لآيات القرآن الكريم على أن يلتمس العبرة، ويشير إلى مواطن العظة، وكيفية تنفيذ الجانب العلمي في الآية، وحتى نعلم ما هي معطيات الآية فنطلبها منها، و ما ليس منها فلا نقسرها عليه بأن نخضع آياته لما نريد، و إنما تنزل على ما يريد بعد عرض حالنا عليه.
.
" كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا.
أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض و للآخرة أكبر درجات و أكبر تفضيلا ".
( سورة الإسراء الآيتان ٢١، ٢٢ )
تمهيد :
الموجودات مشمولة بالرحمة
إن هذه الموجودات كلها علويها وسفليها، مشمولة برحمة الله مغمورة بنعمته. و أول تلك النعم هو وجودها١، و ذلك الوجود من مقتضى الرحمة.
ثم تتنوع تلك النعم الرحمانية بتنوع أجناس الموجودات و أنواعها و أصنافها و أفرادها، وتتفاوت أيضا حسب ذلك. وينال كل حظه منها بتقدير الحكيم العليم.
ومن مظاهر هذه الرحمة العامة أن كل موجود قد أعطي من التكوين ما يناسب وجوده، و ما يتوقف عليه بقاؤه، أو ارتقاؤه٢، سواء أكان من عالم الجماد، أو عالم النبات، أو عالم الحيوان.
نعم خاصة وعامة
و قد مضى قبل هذه الآية ذكر مريدي العاجلة الذين لا يعملون إلا لها، و ما أعد لهم من عذاب النار. و ذكر مريدي الآخرة بأعمالهم في الدنيا، و ما أعد لهم من حسن الجزاء. فحالتهم في الآخرة متباينة : هؤلاء في النعيم المقيم، و أولئك في العذاب الأليم، هذا في الآخرة.
و أما في الدنيا فإنهم قد أعطوا من نعم الحياة، ومكنوا من أسبابها.
فقد تساووا في الخلقة البشرية، وفي العقل المميز المفكر، و في الإرادة الحرة.
و قد أظلتهم السماء، و أصابتهم نعمة الشمس والقمر والكواكب و ما ينزل من السماء.
و قد أقلتهم الأرض و شملتهم نعمة الهواء، والماء، والغذاء، والدواء، من النبات والحيوان والجماد، وكل ما يخرج من الأرض.
و شاهدوا كلهم آيات الله الكونية الدالة عليه.
وجاءتهم كلهم رسل الله بآياته السمعية داعية إليه، فاختار كل بعقله – و هو حر في إرادته حرية لا يمكن لأحد أن يكابر فيها٣ ما اختار لنفسه.
وحجة الله بما تقدم قائمة عليه. و بقوا بعد ذلك الاختيار – الذي اختلفت به منازلهم عند الله – فيما أعد لهم يوم لقاه، سواء في تلك النعم الدنيوية، والتمكن من أسباب بقائها والتقدم فيها، لا فرق في ذلك بين بر و فاجر، ومؤمن وكافر.
و هذا معنى قوله تعالى :" كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك ".
العصيان لا يمنع الرزق :
وليس تعالى مانعا كافرا لكفره، أو عاصيا لعصيانه من هذه الحياة و أسبابها، وليس أحد على منع ما لم يمنعه الله بقادر.
وهذا معنى قوله تعالى :" وما كان عطاء ربك محظورا ".
( والحظر ) المنع، والمحظور الممنوع.
و تركيب الآية يفيد أن عطاء الرب لا يمنع، و لا يجوز أن يمنع، لأن من مقتضى ربوبيته دوام عطائه و مدده لعموم خلقه بعلمه وحكمته.
نكت لفظية :
وقدم المفعول، وهو ( كلا ) ردا على من يعتقد أن الله تعالى يمد بعضا دون بعض. وفيه إيجاز بالحذف، والأصل كلا الفريقين : يعني فريق مريدي العاجلة، و مريدي الآخرة.
و( نمد ) من الإمداد وهو المواصلة بالشيء، وذلك الشيء يسعى مددا.
و أصل المدد البسط للشيء، فيستطيل ويتسع ومن مد يده ومد شبكته، ومنه مد الله لك أسباب السعادة أي بسطها ووسعها. والإمداد بالشيء والمواصلة به يكون به دوام فائدته وامتداد النفع به. والخلق كلهم في حاجة دائمة، وفاقة مستمرة إلى مدد الله وعطائه، و أنواع بره و إحسانه.
و هو تبارك وتعالى لا يزال يواصلهم في كل لحظة من وجودهم بما يحتاجون إليه من فيض عطائه.
و أضاف العطاء للرب٤ لأنه من مقتضى ربوبيته بتكوينه للخلق، وتطويرهم، و إعطائهم ما يحفظهم في تلك الأطوار.
و أضاف الرب إلى ضمير المخاطب٥، و هو النبي صلى الله عليه و آله وسلم لتشريفه بهذه الإضافة. ولما تشرف بهذه الإضافة الربانية – والرب جل جلاله قد مضى في وصفه في الآية أنه عام الرحمة والنعمة والنوال ؛ فمن شكر نعمة هذا الشرف أن يتخلق العبد – وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم – بما هو من مقتضى وصف ربه.
هذا من فوائد هذه الإضافة في هذا المقام.
نحن والرسول
وقد كان – صلى الله عليه و آله وسلم – رحمة للعالمين، شديد الشفقة على الخلق أجمعين، حريصا على هدايتهم إلى الصراط المستقيم، حتى خاطبه ربه بقوله :" لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين " : أي قاتل نفسك غما لعدم إيمانهم.
وكان أساس شرعه على العدل والإحسان : العدل مع كل أحد، و الإحسان إلى كل شيء، فقال تعالى :" و لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا – أي لا يحملنكم بغض قوم على عدم العدل فيهم – و قال صلى الله عليه و آله وسلم :" إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، و إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة " ٦.
الخير للحق سبحانه
و لما كان هو عليه الصلاة والسلام قدوتنا، فنحن مخاطبون بأن نكون مثله في عموم رحمته وشفقته وعدله وبره وإحسانه : نفعل الخير عاما كما تعم خيرات الله تعالى العباد، نفعله لأنه خير نستطعم لذته، غير منتظرين جزاءه.
تفسير ابن باديس – م
إلا من الله ؛ لأن من انتظر الجزاء من الناس في هذه الحياة لابد أن يميل بخيره عن جهة إلى جهة، و ربما يكون في ميله قد أخطأ وجه الصواب، ولابد أيضا أن ييأس فيفتر في العمل، أو ينقطع عنه عندما يرى عدم المكافأة من الناس وعدم ظهور أثر خيره في الحياة، وأبناء الحياة٧.
عظة
و قد أفادت الآية – حسبما تقدم أن أسباب الحياة والعمران والتقدم فيهما مبذولة للخلق على السواء، وأن من تمسك بسبب بلغ – بإذن الله- إلى مسببه، سواء أكان برا أو فاجرا، مؤمنا أو كافرا٨.
وهذا الذي أفادته الآية الكريمة مشاهد في تاريخ المسلمين قديما وحديثا :
فقد تقدموا حتى سادوا العالم، ورفعوا علم المدنية الحقة بالعلوم والصنائع لما أخذوا بأسبابها كما يأمرهم دينهم.
و قد تأخروا حتى كادوا يكونون دون الأمم كلها بإهمال تلك الأسباب فخسروا دنياهم، وخالفوا مرضاة ربهم، و عوقبوا بما هم عليهم اليوم من الذل و الانحطاط.
و لن يعود إليهم ما كان لهم إلا إذا عادوا إلى امتثال أمر ربهم في الأخذ بتلك الأسباب.
فهذه الآية من أنجع الدواء لفتنة المسلم المتأخر بغيره المتقدم، لما فيها من بيان أن ذلك المسلم ما تأخر بسبب إسلامه، و أن غيره تقدم بعدم إسلامه لأن السبب في التقدم والتأخر هو التمسك أو الترك للأسباب.
ولو أن المسلم تمسك بها كما يأمره الإسلام، لكان – مثل سالف أيامه – سيد الأنام.
.
٢ و كل ميسر لما خلق له.
.
٣ يرجح الإمام دائما في كل كتاباته جانب الحرية والاختيار للإنسان، فهو مخير لا مسير.
.
٤ في "من عطاء ربك"..
٥ "في ربك".
.
٦ والإسلام بذلك راعى حقوق الإنسان والحيوان، لا الإنسان وحده منذ ١٤ قرنا.
حتى نهى عن أن تذبح البهيمة و بجانها أخرى تنظر إليها !!
.
٧ هكذا كانت روح الإمام خيرة محسنة عادلة، ونقول بل إن الإسلام ليأمر بالإحسان ثم يوصينا بشكر من أحسنا إليه.
.
٨ فلا يتهمن أحد الإسلام – بسبب جهل أبنائه وتخلفهم – بأنه سبب تخلف وجمود.
.
التفاضل وسببه
" أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض، وللآخرة أكبر درجات و أكبر تفضيلا ".
إن من أعظم العبرة ما نشاهده في أحوال الخلق، أمما وجماعات وأفرادا من الاختلاف الشديد : فقد اختلفت بواطنهم النفسية، كما اختلفت ظواهرهم الجسدية. و إنك كما تجد أبناء الأمة الواحدة يتشابهون في تركيب أجسامهم، ثم لا بد من فروق تتمايز بها أشخاصهم.
كذلك تجدهم يتشابهون في شؤونهم النفسية، مع فروق لازمة تتمايز بها شخصياتهم. و يتبع هذا الاختلاف اختلافهم في إدراكهم، وتمييزهم، وأخلاقهم، وعاداتهم، في ضلالهم و هداهم، و في درجات الهدى ودركات الضلال١.
كل هذا دال على بديع صنع الخالق القدير، وعجيب وضع العليم الحكيم، فمكنهم تعالى كلهم من الأسباب، وإدراك العقل و حرية الإرادة. ثم فضل بينهم هذا التفضيل.. فكان منهم المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والشقي والسعيد، إلى تقسيم كثير.
وفقه أسباب هذا التفضيل، هو فقه الحياة والعمران والاجتماع. فلذا أمر تعالى بالنظر في أحوال هذا التفضيل بقوله :" أنظر كيف فضلنا بعضهم على بعض ".
( وكيف ) سؤال عن الأحوال، والنظر المأمور به هو نظر القلب بالفكرة والاعتبار.
والجملة في محل نصب على العامل عن لفظها بكلمة الاستفهام.
التفاضل والتفاوت الأخروي
وكما فضل بعض خلقه على بعض في دار الابتلاء، كذلك فضل بعضهم على بعض في دار الجزاء. لكن التفضيل هناك أكبر، والتفاوت بين العباد أظهر ؛ في مواقف القيامة، وفي داري٢الإقامة، ويا بعد ما بين من في الجنة ومن في النار !
و أهل النار متفاوتون في دركاتها، و أهل الجنة متفاوتون في درجاتها.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال :
" إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ".
و روى البخاري ومسلم عن أبي سعد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم قال :
" إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب، لتفاضل ما بينهم. قالوا : يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين ".
و قال تعالى :" إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار٣ ". وهذا التفضيل الأخروي هو المراد بقوله تعالى :" وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا
و في هذا ترغيب للخلق في تحصيل الفضل في درجات الآخرة ؛ فإنهم إنما يتهالكون في الدنيا على أن يفضل بعضهم بعضا في شيء منها، وهي الدار الفانية. فلم لا يتسابقون فيما ينالون به الفضل في الدار الباقية ؟ ! مع أن من عمل لنيل الفضل غي الآخرة – وما عملها إلا الخير والمعروف – حاز الفضل والسعادة فيهما على أفضل وجه، وأكمل حال.
فللآخرة ونيل درجاتها فليعمل العاملون، و في ذلك فليتنافس المتنافسون.
.
٢ داري الإقامة : الجنة والنار..
٣ سورة النساء : الآية ١٤٥
.
من قوله تعالى :
" لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا ".
إلى قوله تعالى :
" لا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ".
( سورة الإسراء – الآيات من ٢٣ حتى ٤٠ ).
تمهيد :
من إعجاز القرآن :
قد أوتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصارا ؛ فالآية من كتاب الله، و الأثر من حديث رسول الله، تجد فيه من أصول الهداية، ودقيق العلم ولطيف الإشارة في لفظ قليل، وكلام بين – ما فيه الكفاية لمن أوتي العلم ومنح التوفيق.
فهذه ثمان عشرة آية من سور الإسراء قد أتت في إيجاز ووضوح على أصول الهداية الإسلامية كلها. وأحاطت بأسباب السعادة في الدارين من جميع وجوههما.
وهي – فوق بلاغتها التي عرف العرب إعجازها بسليقتهم و أدركه علماء البيان بعلمهم ومرانهم – قد جاءت معجزة للخلق من أي جنس كانوا، أو بأي لغة نطقوا، بما جمعت من أصول الهداية التي تدركها الفطر وتسلمها العقول.
وإنك لست واجدا مثلها في مقدارها و أضعاف مقدارها من كلام الخلق بجمع ما جمعت من هدى وبيان.
و هذا أحد وجوه إعجاز القرآن العامة التي تقوم بها حجته على الناس أجمعين.
موقع هذه الآيات موقع البيان والتفصيل للسعي المشكور المتقدم في قوله تعالى :" فأولئك كان سعيهم مشكورا " ووقوعها بلصق قوله تعالى :" وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ". إشارة إلى أن التفاضل في تلك الدرجات مرتبط بالتفاضل في السلوك والسعي المشكور، المستفاد من هذه الآيات.
التوحيد العلمي والعملي :
" لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا ".
التوحيد العلمي :
هذا هو١ أساس الدين كله، وهو الأصل الذي لا تكون النجاة ولا تقبل الأعمال إلا به. وما أرسل الله رسولا إلا داعيا إليه، ومذكرا بحججه.
وقد كانت أفضل كلمة قالها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي كلمة " لا إله إلا الله٢ ". وهي كلمته الصريحة فيه.
و لا تكاد سورة من سور القرآن تخلوا من ذكره والأمر به والنهي عن ضده.
و أنت ترى أن هذه الآيات الجامعة قد جعلت بين آيتين صريحتين فيه.
المفردات :
( لا تجعل ) الجعل يكون عمليا كجعلت الماء مع اللبن في إناء واحد.
و يكون اعتقاديا كجعلت مع صديقي صديقا آخر. والجعل في الآية من هذا الثاني.
( مع الله ) المعية هنا أيضا هي معية اعتقادية.
( إلها آخر ) الإله هو المعبود والعبادة نهاية الذل والخضوع مع الشعور بالضعف والافتقار و إظهار الانقياد والامتثال ودوام التضرع والسؤال.
( فتقعد ) القعود ضد القيام، والعرب تكنى بالقيام عن الجد في الأمر والعمل فيه سواء أكان العمل قائما أو جالسا، فتقول : قام بحاجتي إذا جد وعمل فيها، ولو كان لم يمش فيها خطوة و إنما قضاها بكلمة قالها، أو خطاب أرسله. و تكني كذلك بالقعود عن الترك للعمل وانحلال العزيمة وبطلان الهمة سواء أكان الشخص واقفا أو جالسا، فتقول : قد زيد عن نصرة قومه إذا لم يعمل في ذلك عملا، ولم تكن له فيه همة ولا عزيمة، و لو كان قائما يمشي على رجليه. فالقعود في الآية بمعنى المكث كناية عن بطلان العمل وخيبة السعي وخور القلب وفراغ اليد من كل خير.
( مذموما ) مذكورا بالقبيح موصوفا به.
( مخذولا ) متروكا بلا نصير مع حاجتك إليه.
فنهى الله الخلق كلهم عن أن يعتقدوا معه شريكا في ألوهية، فيعبدوه معه، ليعتقدوا أنه الإله وحده فيعبدوه وحده.
و بين لهم أنهم إن اعتقدوا معه شريكا وعبدوه معه فإن عبادتهم تكون باطلة، وعملهم يكون مردودا عليهم، وأنهم يكونون مذمومين من خالقهم، ومن كل عقل سليم من الخلق، يكونون مخذولين لا ناصر لهم : فأما الله فإنه يتركهم وما عبدوا معه، وأما معبوداتهم فإنها لا تنفعهم لأنها عاجزة مملوكة مثلهم فما لهم – قطعا من نصير.
الخطاب وسره
والخطاب و إن كان موجها للنبي صلى الله عليه و آله وسلم فإنه عام للمكلفين.
و سر مثل هذا الخطاب تنبيه الخلق إلى أن شرائع الله وتكاليفه عامة للرسول والمرسل إليهم، وإن كان هو٣قد عصم من الخالفة فلا يبقى بعد ذلك وجه لدعوى مدع : خروج فرد من أفراد الأمة المكلفين عن دائرة التكليف٤.
.
٢ لقوله (ص) :"أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله ".
.
٣ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
.
٤ كما يقول بعضهم – جهلا – إن فلانا خرج عن دائرة التكليف، لأنه متصل، وهذا زعم غريب : فإن الإسلام لم يرخص لأحد – مثلا- في ترك الصلاة، حتى ولو كان لا يقوى على الحركة.. ونحن نوافق هؤلاء على ترك التكاليف إذا كانوا مجانين.
.
( القضاء ) يكون بمعنى الإرادة، وهذا هو القضاء الكوني التقديري الذي لا يتخلف متعلقه فما قضاه الله لابد من كونه. ويكون القضاء بمعنى الأمر والحكم، وهذا هو القضاء الشرعي الذي يمتثله الموفقون، ويخالفه المخذولون، والذي في الآية من هذا الثاني.
[ ربك ] الرب هو الخالق المدبر المنعم المتفضل.
[ أن ] مصدرية، والتقدير : بألا تعبدوا إلا إياه أي بعدم عبادتكم سواه، بأن تكون عبادتكم مقصورة عليه.
فالعبادة بجميع أنواعها لا تكون إلا له فذل القلب وخضوعه، والشعور بالضعف والافتقار والطاعة والانقياد والتضرع والسؤال، هذه كلها لا تكون إلا لله.
تحذير
فمن خضع قلبه لمخلوق على أنه يملك ضره أو نفعه فقد عبده.
ومن ألقى قياده بيد مخلوق يتبعه فيما يأمره وينهاه غير ملتفت إلى أنه من عنده، أو من عند الله فقد عبده.
ومن توجه لمخلوق فدعاه ليكشف عنه السوء أو يدفع عنه الضر فقد عبده.
و من شعر بضعفه وافتقاره أمام مخلوق على أنه يملك إعطاءه أو منعه فقد عبده.
فالله تعالى يعلم الخلق كلهم في هذه الآية بأنه أمر أمرا عاما، وحكم حكما جازما بأن العبادة لا تكون إلا له.
و جيء باسم الرب في مقام الأمر بقصر العبادة عليه تنبيها على أن الذي يستحق العبادة هو من له الربوبية بالخلق والتدبير والملك والإنعام، وليس ذلك الإله. فلا يستحق العبادة بأنواعها سواه، فهو تنبيه بوحدانية الربوبية التي من مقتضاها انفراده بالخلق والأمر الكوني والشرعي على وحدانية الألوهية التي من مقتضاها استحقاقه وحده عبادة جميع مخلوقاته١.
التوحيد العملي
وكما انتظمت هذه الجملة توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية كذلك انتظمت مع الآية السابقة التوحيد العلمي والتوحيد العملي :
فالأولى : نهي عن أن تعتقد الألوهية لسواه، و هو يتضمن النهي عن اعتقاد ربوبية سواه وهذا من باب العلم.
والثانية : أمر بأن تكون عبادتك مقصورة عليه لأنه هو ربك وحده، وهذا من باب العمل :
فمن وحد الله جل جلاله في ربوبيته و ألوهيته علما وعملا.. فقد استكمل حظه من مقام هذا الأساس العظيم.
و من أخل بشيء من ذلك نقصا في دينه بقدر ما أخل حتى ينتهي الأمر إلى خلص المشركين٢.
نعوذ بالله من الشرك جلية وخفية، إنه سميع عليم.
بيان واستدلال :
ألوان الذل
يكون ( الذل ) بمعنى ضعف الحال، و هذا قد يكون لأهل التوحيد و الإيمان كما في قوله تعالى :" ولقد نصركم الله ببدر و أنتم أذلة " ٣.
و يكون بمعنى اللين المشوب بالعطف وهذا من صفات المؤمنين الممدوحة إذا وقعت في محلها كما في قوله :" أذلة على المؤمنين " ٤.
و يكون الذل بمعنى خنوع القلب وخضوعه وانكساره للضعف والافتقار، و هذا هو الذي يكون من المؤمن الموحد لربه كما في حديث دعاء القنوت :( ونخنع لك ) ؛ أي نذل ونخضع لك.
و هذا الخنوع هو أساس العبادة القلبية فلذلك لا يكون إلا لله.
و إن من أسرار كلمة " الله أكبر " التي يأتي بها المؤمن مرات كثيرة في صلواته وغيرها من أحواله، حفظ القلب من الخنوع للخلق باستشعار عظمة الخالق التي يصغر عندها كل مخلوق، فلا يزال المؤمن لهذا قوي القلب، عزيز النفس بالله، لا ينتظر قوة ضعفه إلا به، ولا سد مفاقره إلا منه.
و لقلب المؤمن الموحد أمام من يحب في الله ويعظم بتعظيم الله خضوعا أيضا، ولكنه خضوع هيبة وتوقير و إجلال لا خضوع ذل وخنوع وضعف. وافتقار، إذ هذا – كما قدمنا – لا يكون إلا للغني القوي العزيز القهار.
مظاهر الخنوع
من مظاهر هذا الخنوع الذي لا يكون إلا لله الطاعة والانقياد، وهي أيضا لا تكون إلا له.
و قد قال تعالى :" أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ". أي أطاعه واتبعه.
كما قال تعالى :" واتبعوا أهوائهم ".
فمن اتبع مخلوقا و أطاعه فيما يأمره وينهاه، دون أن يكون في طاعته مراعيا طاعة الله فقد عبده، واتخذه ربا فيما أطاعه فيه.
و في حديث عدي بن حاتم الذي رواه الترمذي وغيره، لما جاء للنبي صلى الله عليه و آله وسلم وسمعه يتلوا قوله تعالى :
" اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله ". فقال عدي : يا رسول الله، إنهم لم يكونوا يعبدونهم. قال :" أليس كانوا إذا حرموا عليهم شيئا حرموه، و إذا أحلوا لهم شيئا أحلوه ؟ " قال، قلت : نعم. قال رسول الله – صلى الله عليه و آله وسلم - :" فتلك عبادتهم إياهم " !
فالمؤمن الموحد لا تكون طاعته إلا لله أو لمن طاعته طاعة لله.
الدعاء و منزلته
و من مظاهر ذلك الخنوع : الدعاء والسؤال والتضرع والجؤار٥إليه.
قال تعالى :" وما بكم من نعمة فمن الله، ثم إذا مسكم للضر فإليه تأجرون ".
و قال تعالى :" أمن يجيب المضطر إذا دعاه ". و قال تعالى :" إذ تستغيثون ربكم ". و في القرآن آيات كثيرة بهذا المعنى.
و قال صلى الله عليه وآله وسلم – من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الترمذي - :" إذا سألت فاسأل الله ". و في أحاديث كثيرة.
فلا يدعوا المؤمن الموحد فير الله، و لا أحدا مع الله إذ الدعاء عبادة، كما في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه يرفعه٦ :" الدعاء و العبادة ". رواه أحمد و أصحاب السنن الأربعة.
و كما في حديث أنس رضي الله عنه برفعه :" الدعاء مخ العبادة ". رواه الترمذي. وكل عبادة لا تكون إلا لله فالدعاء لا يكون إلا لله.
و إنما كان للدعاء من العبادة هذي المنزلة لأن حقيقة العبادة هي التذلل و الخضوع، و هو حاصل في الدعاء غاية الحصول و ظاهر فيه أشد الظهور.
ألهمنا الله رشدنا، و أعاذنا من شرور أنفسنا، إنه سميع قريب مجيب.
بر الوالدين
( سورة الإسراء الآية من ٢٤، ٢٥ )
" وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه، وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف، ولا تنهرهما، وقل لهما قولا كريما.
و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة، و قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ".
تمهيد :
لطائف في سبب الربط والإحسان
الله هو الخالق، و الوالدان – بوضع الله – هما السبب المباشر في التخليق.
و الله هو المبتدئ بالنعم عن غير عمل سابق، و هما يبتدئان بالإحسان عن غير إحسان تقدم.
و الله يرحم و يلطف و هو الغني عن مخلوقاته، و هم الفقراء، وهما يكنفان بالرحمة و اللطف الولد، و هما في غنى عنه، وهو في افتقار إليهما.
و الله يوالي إحسانه ولا يطلب الجزاء، و هما يبالغان في الإحسان دون تحصيل الجزاء..
فلهذه الحالة التي خصهما الله بها و أعانهما بالفطرة عليها، قرن ذكرهما بذكره ؛ فلما أمر بعبادته أمر بالإحسان إليهما في هذه الآية، و في قوله تعالى :
" واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانا ".
و لما أمر بشكره أمر بشكرهما فقال تعالى :" أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير ".
و في هذا الجمع في القضاء والحكم بالإحسان و الأمر بالشكر لهما مع الله تعالى أبلغ التأكيد و أعظم الترغيب.
ثم زاد هذا الحكم وهذا الأمر تقريرا بلفظ التوصية بهما في قوله تعالى :" ووصينا الإنسان بوالديه حسنا "، ليحفظ حكم الله و أمره فيهما، و لا يضيع شيئا من حقوقهما، فكان حقهما بهذه الوصاية، أمانة خاصة، ووديعة من الله عظيمة عند ولدهما، و كفى بهذا داعيا إلى العناية بهذه الأمانة و حفظها وصيانتها..
و كما جاء هذا الجمع في باب الأمر في القرآن كذلك جاء في الجمع بينهما في باب النهي و كبر المعصية، في السنة : ففي الصحيح عن أبي بكرة رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم :" ألا أخبركم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله. قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين ".
و تقدير نظم الآية هكذا :
الإحسان
( وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه، و بأن تحسنوا للوالدين إحسانا ).
فحذف أن تحسنوا لوجود ما يدل عليه و هو إحسانا. و في تنكيره٧إفادة للتعظيم، فهو إحسان عظيم في القول و الفعل والحال. وتقول أحسنت إليه، و أحسنت به، وأحسنت به أبلغ، لتضمن أحسنت معنى لطفت، ولما في الباء من معنى اللصوق. و لهذا عدي في الآية بالباء ليفيد الأمر باللطف في الإحسان و المبالغة في تمام اتصاله بهما، فلا يريان و لا يسمعان و لا يجدان من ولدهما إلا إحسانا، و لا يشعران في قلوبهما منه إلا بالإحسان.
لطيفة أخرى
و من الإحسان ما يكون ابتداء و فضلا، و منه ما يكون جزاء و شكرا فعليه أن يعلم أن كل إحسانه هو شكر لهما على سابق إحسانهما، الذي لا يمكنه أن يكافئه بمثله لثبوت فضيلة سبقه.
و في تعليق الحكم – وهو الأمر بالإحسان – بلفظ الوالدين المشتق من الولادة، إيذان بعليتها في الحكم، فيستحقان الإحسان بالوالدية سواء أكانا مؤمنين أم كافرين، بارين أو فاجرين، محسنين أو مسيئين.
و قد جاء هذا صريحا في قوله تعالى :
" و إن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما و صاحبهما في الدنيا معروفا " فأمر بمصاحبتهما بالمعروف على كفرهما.
و في الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر الصديق – رضي الله عنهما - قالت :" قدمت علي أمي و هي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، قلت : قدمت علي أمي و هي راغبة ( أي في العطاء والإحسان ) أفأصل أمي ؟ قال :" نعم صلي أمك٨.
إكرام الأم
و هذا الإحسان الواجب لهما، جانب الأم آكد فيه من جانب الأب، و حظها فيه أوفر من حظه. ويشير إلى هذا تخصيصها بذكر أتعابها في قوله تعالى :
" " ووصينا الإنسان بواليه حملته أمه وهنا على وهن٩ و فصاله في عامين ".
و في الآية الأخرى :
" ووصينا الإنسان بوالديه حسنا، حملته أمه كرها ووضعته كرها، و حمله وفصاله ثلاثون شهرا ". فذكر ما تعانيه من ألم الحمل، ومشقة الوضع، ومقاساة الرضاع والتربية.
و جاء التصريح بهذا في الحديث الصحيح :
" فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : من أحق الناس بحسن صحابتي ؟١٠قال أمك. قال : ثم من ؟ قال : أمك. قال ثم من ؟ قال : أبوك ". فذكر الأب في الثالث. و في طريق آخر للحديث، ذكره في الرابعة.
و لقد كان لها هذا بما ذكر من مزيد تعبها، وضعف جانبها، ورقة عاطفتها، و شدة حاجتها. فكان هذا الترجيح لجانبها من عدل الحكيم العليم و محاسن الشرع الكريم١١.
ومن الإحسان إليهما طاعتهما في الأمر والنهي، ومن عقوقهما مخالفتهما فيهما.
متى تحل مخالفتهما ؟
و إنما تحل له مخالفتهما إذا منعاه من واجب عيني١٢، أو أمراه بمعصية١٣، لما في الصحيح من قوله صلى الله عليه و آله وسلم :" لا طاعة لأحد في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف ". و عند الحاكم و أحمد :" لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " !
و من الدليل على رجحان جانبهما على الواجب الكفائي :
ما ثبت في الصحيح من حديث الرجل الذي أتى النبي – صلى الله عليه و آله وسلم – يستأذنه في الجهاد فقال : أحي والدك ؟ قال نعم. قال : ففيهما فجاهد.
ومن الطريق الثاني، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه :" أقبل رجل إلى النبي صلى الله عليه و آله وسلم فقال : أبايعك على الهجرة و الجهاد ابتغاء الأجر من الله. قال : فهل من والديك أحد حي ؟ اقل : نعم، بل كلاهما. قال : فتبتغي الأجر من الله ؟ قال : نعم. قال : فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما ".
هذا لأن القيام عليهما فرض عين
.
٢ أي شركا خالصا مع المشركين..
٣ سورة آل عمران، الآية ١٢٣..
٤ سورة الفتح، الآية ٢٩
.
٥ أي رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة..
٦ أي أن الحديث مرفوع، و هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه و آله وسلم من قول أو فعل أو تقرير، تصريحا أو حكما.
.
٧ لفظة " إحسانا ".
٨ ألا ما أوسع و أشمل إحسان الإسلام و رحمته !!.
٩ ضعفا على ضعف..
١٠ أي صحبتي من حسن العشرة والبر و التكرمة.
.
١١ و الإسلام إذن كرم المرأة و لم يمتهنها، وجعل الجنة أيضا تحت أقدامها.
.
١٢ كأن يأمراه بترك الصلاة، وتعاليم الإسلام.
١٣ كأن يأمراه بشرب لخمر أو أكل الخنزير..
أدب الفعل :
مضى فيما تقدم أدب القول، وهذا أدب الفعل، وبيان الحال التي يكون عليها : فالوالدان عند ولدهما في كنفه كالفراخ الضعيفة المحتاجة للقوت والدفء والراحة، وولدهما يقوم لهما بالسعي، كما يسعى الطائر لفراخه، و يحيطهما بحنوه و عطفه كما يحيط الطائر فراخه، فشبه الولد في سعيه وحنوه و عطفه على والديه بالطائر في ذلك كله على فراخه، وحذف المشبه به، و أشير إليه بلازمه و هو خفض الجناح، لأن الطائر هو ذو الجناح، و إنما يخفض جناحه حنوا وعطفا و حياطة لفراخه.. فيكون في الكلام استعارة بالكناية١، و أضيف الجناح إلى الذل – و هو الهون واللين – إضافة موصوف إلى صفة : أي اخفض لهما جناحك الذليل، و هذا ليفيد هونه و انكساره عند حياطتها.. حتى يشعر بأنهما مخدومان باستحقاق، لا متفضل عليهما بالإحسان.
صورة بليغة :
و في ذكر هذه الصورة التي تشاهد من الطير تذكير بليغ مرقق للقلب موجب للرحمة، وتنبيه للولد على حالته التي كان عليها معهما في صغره، ليكون ذلك أبعث له على العمل و عدم رؤية عمله أمام ما قدما إليه.
و ( من ) في قوله تعالى :" من الرحمة " للتعليل متعلقة ب ( اخفض )، فتفيد مع متعلقها الأمر بأن يكون ذلك الخفض ناشئا عن الرحمة الثابتة في النفس، لا عن مجرد استعمال ظاهر، كما كانا يكنفانه و يعطفان عليه عن رحمة قلبية صادقة. فيكون هذا مفيدا و مؤكدا لما قدمناه، من لزوم أن يتطابق على الإحسان إليهما الظاهر و الباطن، ليتم البرور.
" وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ".
برهما بالدعاء
مهما اجتهد الولد في الإحسان إلى أبويه فإنه لا يجازي سابق إحسانهما٢ بأن يتوجه٣ بسؤال الرحمة لهما من الله تعالى، و هي النعمة الشاملة لخير الدنيا والآخرة إظهارا لشدة رحمته لهما، و رغبة في وصول الخير العظيم من المولى الكريم إليهما، و اعترافا بعجزه عن مجازاتهما.
يدعوا لهما هكذا في حياتهما، وبعد مماتهما.
أما في حياتهما فيدعوا لهما بالرحمة سواء كانا مسلمين أم كافرين، ورحمة الكافرين بهدايتهما إلى الإسلام.
و أما بعد الموت فلا يسأل الرحمة لهما إلا إذا ماتا مسلمين. لقوله تعالى :" ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين و لو كانوا أولي قربى، من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " ٤.
[ والكاف ] في قوله تعالى :( كما ربياني صغيرا ) للتعليل أي رب ارحمهما لتربيتهما لي، و جزاء على إحسانهما إلي في حالة الصغر : حالة الضعف و الافتقار. و في هذا اعتراف بالجميل و إعلان لسابق إحسانهما العظيم، وتوسل إلى الله تعالى في قبول دعائه لهما بما قدما من عمل ؛ لأنه وعد أنه يجزي العاملين، وقد كانت تربيتهما لولدهما من أجل مظاهر الرحمة، وهو قد أخبر تعالى على لسان رسوله :( أنه يرحم الراحمين ) و لا ارحم – بعده تعالى – من الوالدين.
خاتمة :
من بر الوالدين :
١ – أن نتحفظ من كل ما يجلب لهما سوءا من غيرنا، فإن فاعل السبب فاعل للمسبب، و من هذا أن لا نسب الناس حتى لا يسبوا والدينا، لأنا إذا سببنا الناس فسبوهما كنا قد سببناهما، و سبهما من أكبر الكبائر : ففي الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، قال : قال رسول الله – صلى الله عليه و آله وسلم - :" إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه ! قيل يا رسول الله : وكيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : يسب أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه.
برهما بعد موتهما
٢- و من برهما حفظهما بعد موتهما بالدعاء و الاستغفار، و إنفاذ عهدهما، و إكرام صديقهما و صلة رحمهما، فقد روى ابن ماجة و أبو داوود وابن حبان في صحيحه، عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي البدري رضي الله عنه، قال :
" بينا نحن جلوس عند رسول الله – صلى الله عليه و آله وسلم – إذ جاء رجل من بني سلمة، فقال : يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء، أبرهما به بعد موتهما ؟ قال : نعم، الصلاة٥ عليهما و الاستغفار لهما، و إنفاذ عهدهما من بعدهما، و صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، و إكرام صديقهما ".
و في إكرام صديقهما جاء في الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه :( أن رجلا من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله، وحمله على حمار كان يركبه، و أعطاه عمامة كانت على رأسه (. قال ابن دينار : فقلنا له : أصلحك الله إنهم الأعراب، و إنهم يرضون باليسير. فقال عبد الله : إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب. و إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يقول :
" إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه ".
هذا، و إن من راض نفسه على هذه الأخلاق الكريمة والمعاملة الحسنة و الأقوال الطيبة التي أمر بها مع والديه – يحصل له من الارتياض٦عليها كمال أخلاقي مع الناس أجمعين. و كان ذلك من ثمرات امتثال أمر الله و طاعة الوالدين.
والله يوفقنا ويهدينا سواء السبيل، إنه المولى الكريم رب العالمين٧
.
٢ نعم، فهو مهما بذل لهما لا يساوي ذلك شيئا من تعبهما و أفضالهما عليه، و أيضا كانا يفعلان ما يفعلان و يودان حياته، ولعله يقوم بشيء من ذلك، و يود موتهما. فمهما اجتهد المرء فلن يوفي طلقة من طلقات أمه حين الوضع. و لكن عليه أن يواصل برهما بالفعل والقول، عسى أن يوفقه الله.
.
٣ لعل تقدير الكلام هكذا : فيجب عليه أن يتوجه.. ’
.
٤ سورة التوبة، الآية ١١٣
.
٥ أي الدعاء
.
٦ التعود برضي و طيب نفس..
٧ و لله در الشاعر أمية بن أبي الصلت الذي يعتب على ولده، لعدم إحسانه إليه فيقول في عتاب مر مؤلم، نذكره هنا في التعليق لطرافته :
غذوتك مولودا ومنتك يافعا تعل بما أجني عليك و تنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لشكواك إلا ساهرا أتأمل
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك و إنها لتعلم أن الموت حتم مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إن لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
.
" ربكم أعلم بما في نفوسكم، إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا ".
الشرح والمعنى :
صلاح الشيء : هو كونه على حالة اعتدال في ذاته وصفاته، بحيث تصدر عنه أو به أعماله المرادة منه على وجه الكمال.
و فساد الشيء هو كونه على حالة اختلال في ذاته أو صفاته، بحيث تصدر عنه أو به تلك الأعمال على وجه النقصان.
مثال الصلاح والفساد :
اعتبر هذا في البدن، فإن له حالتين : حالة صحة، وحالة مرض.
و الأولى هي حالة صحته باعتدال مزاجه، فتقوم أعضاؤه بوظائفها و ينهض هو بأعماله.
و الثانية هي حالة فساد باختلال مزاجه، فتتعطل أعضاؤه أو تضعف كلها أو بعضها عن القيام بوظائفه، ويقعد هو أو يثقل عن أعماله.
هذا الذي تجده في البدن هو نفسه تجده في النفس : فلها صحة، و لها مرض، حالة صلاح وحالة فساد.
الإصلاح والإفساد :
( والإصلاح ) هو إرجاع الشيء إلى حالة اعتداله، بإزاء ماطرا عليه من فساد.
( و الإفساد ) هو إخراج الشيء عن حالة اعتداله بإحداث اختلال فيه.
إصلاح البدن والنفس :
فإصلاح البدن بمعالجته بالحمية١ و الدواء، و إصلاح النفس بمعالجتها بالتوبة الصادقة.
وإفساد البدن بتناول ما يحدث به الضرر، و إفساد النفس بمقارفة المعاصي والذنوب. وهكذا تعتبر النفوس بالأبدان في باب الصلاح والفساد، في كثير من الأحوال، غير أن الاعتناء بالنفوس أهم و ألزم ؛ لأن خطرها أكبر وأعظم.
العناية الشرعية بالنفس :
إن المكلف المخاطب من الإنسان هو نفسه، وما البدن إلا آلة لها ومظهر تصرفاتها، وإن صلاح الإنسان و فساده إنما يقاسان بصلاح نفسه و فسادها. و إنما رقيه وانحطاطه باعتبار رقي نفسه و انحطاطها، وما فلاحه إلا بزكائها، وما خيبته إلا بخبثها. قال تعالى :" قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها٢ ".
و في الصحيح :" ألا و إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، و إذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ".
ما هو القلب ؟
و ليس المقصود من القلب مادته وصورته، و إنما المفصود النفس الإنسانية المرتبطة به٣.
و للنفس ارتباط بالبدن كله، و لكن القلب عضو رئيسي في البدن، و مبعث دورته الدموية، و على قيامه بوظيفته تتوقف صلوحية البدن، لارتباط النفس به، فكان حقيقا لأن يعبر به عن النفس عن طريق المجاز.
و صلاح القلب – بمعنى النفس – بالعقائد الحقة، و الأخلاق الفاضلة، و إنما يكونان بصحة العلم، وصحة الإرادة، فإذا صلحت النفس هذا الصلاح صلح البدن كله، يجريان الأعضاء كلها في الأعمال المستقيمة. و إذا فسدت النفس من ناحية العقد، أو ناحية الخلق، أو ناحية العلم، أو ناحية الإرادة... فسد البدن، وجرت أعمال الجوارح على غير وجه السداد.
مقصود الأديان :
فصلاح النفس هو صلاح الفرد، وصلاح الفرد هو صلاح المجموع والعناية الشرعية متوجهة كلها إلى إصلاح النفوس : إما مباشرة و إما بواسطة.
فما من شيء مما شرعه الله تعالى لعباده من الحق و الخير والعدل و الإحسان إلا وهو راجع عليها بالصلاح.
و ما من شيء نهى الله عنه من الباطل و الشر والظلم و السوء إلا وهو عائد عليها بالفساد.
فتكميل النفس الإنسانية هو أعظم المقصود من إنزال الكتب، و إرسال الرسل، و شرع الشرائع.
وهذه الآيات الثمان عشرة قد جمعت من أصول الهداية ما تبلغ به النفوس – إذا تمسكت به – غاية الكمال.
وجه الارتباط
قد أمر تعالى في الآيات المتقدمة بعبادته و الإخلاص له.
و أمر ببر الوالدين، والإحسان إليهما في الظاهر والباطن.
كما أمر بغير ذلك في الآيات اللاحقة. ووضع هذه الآية أثناء ذلك، وهي متعلقة بالنفس و صلاحها.. لينبه الخلق على أصل الصلاح الذي منه يكون، ومنشؤه الذي منه يبتدئ. فإذا صلحت النفس قامت بالتكاليف التي تضمنتها هذه الآيات الجامعة لأصول الهداية، وهذا هو وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها وما بعدها، الذي يكون قبل التدبر خفيا٤.
و نظير هذه الآية في موقعها و دلالتها على ما به يسهل القيام بأعباء التكاليف - قوله تعالى :
" حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا لله قانتين " ٥.
فقد جاءت أثناء آيات أحكام أحكام الزوجية آمرة بالمحافظة على الصلوات، تنبيها للعباد على أن المحافظة عليها عل وجهها، تسهل القيام بأعباء تكاليف تلك الآيات، لأنها تزكي النفس بما فيها من ذكر وخشوع و حضور وانقطاع إلى الله تعالى، وتوجه إليه، ومناجاة له.
و هذا كله تعرج به النفس في درجات الكمال.
اللذة في الطاعة
و النفوس الزكية الكاملة تجد في طاعة خالقها لذة و أنسا تهون معهما أعباء التكليف.
ثم إن العباد بنقص الخلقة و غلبة الطبع.. معرضون للتقصير في ظاهرهم وباطنهم في صور أعمالهم و دخائل أنفسهم – وخصوصا في باب الإخلاص – فذكروا بعلم ربهم بما في نفوسهم في قوله تعالى :" ربكم أعلم بما في نفوسكم " ليبالغوا في المراقبة فيتقنوا أعمالهم في صورها و يخلصوا بها له. و هذه المراقبة هي الإحسان الذي هو عبادتك الله كأنك تراه.
و ذكر اسم الرب لأنه المناسب لإثبات صفة العلم، فهو الرب الذي خلق النفوس وصورها ودبرها. و لا يكون ذلك إلا بعلمه بها في جميع تفاصيلها
و كيف يخفى عليه شيء و هو خلقها ؟
" ألا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير٦ " ؟ !.
و الصالحون في قوله تعالى :" إن تكونوا صالحين "، هم الذين صلحت أنفسهم فصلحت أقوالهم و أفعالهم و أحوالهم.
ميزان الصلاح
و صلاح النفس وهو صفة لها.. خفي كخفائها ؛ و كما أننا نستدل على وجود النفس وارتباطها بالبدن بظهور أعمالها في البدن، كذلك نستدل على اتصافها بالصلاح وضده بما نشاهده من أعمالها :
فمن شاهدنا منه الأعمال الصالحة – و هي الجارية على سنن الشرع، و آثار النبي صلى الله عليه و آله وسلم – حكمنا بصلاح نفسه، و أنه من الصالحين ومن شاهدنا منه خلاف ذلك حكمنا بفساد نفسه، و أنه ليس منهم.
و لا طريق لنا في معرفة صلاح النفوس و فسادها إلا هذا الطريق. وقد دلنا الله تعالى عليه في قوله تعالى :
" من أهل الكتب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل و هم يسجدون، يؤمنون بالله، وباليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويسارعون في الخيرات، و أولئك من الصالحين٧ ".
فذكر الأعمال، ثم حكم لأهلها بأنهم من الصالحين. فأفادنا : أن الأعمال هي دلائل الصلاح، وأن الصلاح لا يكون إلا بها، ولا يستحقه إلا أهلها.
تفاوت الصلاح
ثم إن العباد يتفاوتون في درجات الصلاح على حسب تفاوتهم في الأعمال. و يكون لنا أن نقضي بتفاوتهم في الظاهر بحسب ما نشاهد. و لكن ليس لنا أن نقضي بين أهل الأعمال الصالحة في تفاوتهم عند الله في الباطن ؛ فندعي أن هذا أعلى درجة في صلاحه عند الله تعالى من هذا، لأن الأعمال قسمان : أعمال الجوارح، وأعمال القلوب، وهذه أصل لأعمال الجوارح.
وقد قال النبي صلى الله عليه و آله وسلم :" التقوى ههنا "، ويشير إلى صدره ثلاث مرات. فمنازل الصالحين عند ربهم لا يعلمها إلا الله.
( والأوابون ) في قوله تعالى :" فإنه كان للأوابين غفورا ". هم الكثيرو الرجوع إلى الله تعالى.
و الأوبة في كلام العرب هي الرجوع، قال عبيد٨ :
و كل ذي غيبة يؤوب و غائب الموت لا يؤوب
التوبة وشروطها
والتوبة، هي الرجوع عن الذنب و لا يكون إلا بالإقلاع عنه، واعتبر
فيها الشرع الندم على ما فات، والعزم على عدم العود، و تدارك ما يمكن تداركه. فيظهر أن الأوبة أعم من التوبة : فتشمل من رجع إلى ربه تائبا من ذنبه، ومن رجع إليه يسأله و يتضرع إليه أن يرزقه التوبة من الذنوب.
فائدة
فنستفيد من الآية الكريمة : سعة باب الرجوع إلى الله تعالى. فإن تاب العبد، فذاك هو الواجب عليه، والمخلص له – بفضل الله – من ذنبه. و إن لم يتب فليدم الرجوع إلى الله تعالى بالسؤال و التضرع، والتعرض لمظان الإجابة وخصوصا في سجود الصلاة، فقمين – إن شاء الله تعالى – أن يستجاب له.
شر العصاة
وشر العصاة هو الذي ينهمك في المعصية، مصرا عليها، غير مشمئز منها، ولا سائل من ربه – بصدق وعزم – التوبة منها، ويبقى معرضا عنه ربه كما أعرض هو عنه، و يصر على الذنب حتى يموت قلبه. ونعوذ بالله من موت القلب فهو الداء العضال الذي لا دواء له.
دواء النفوس في التوبة
و جاء لفظ " الأوابين " جمعا لأواب، و هو فعال من أمثلة المبالغة فدل على كثرة رجوعهم إلى الله. و أفاد هذا طريقة إصلاح النفوس بدوام علاجها بالرجوع إلى الله : ذلك أن النفوس – بما ركب فيها من شهوة، وبما فطرت عليه من غفلة، وبما عرضت له من شؤون الحياة، و بما سلط عليها من قرناء السوء من شياطين الإنس والجن، لا تزال – إلا من عصم الله – في مقارفة ذنب، و مواقعة معصية صغيرة أو كبيرة، من حيث تدري و من حيث لا تدري. و كل ذلك فساد يطرأ عليها، فيجب إصلاحها بإزالة نقصه، و إبعاد ضرره عنها. وهذا الإصلاح لا يكون إلا بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى.
و لما كان طروء الفساد متكررا فالإصلاح بما ذكر يكون دائما متكررا.
والمداومة على المبادرة إلى إصلاح النفس من فسادها. والقيام في ذلك، والجد فيه، والتصميم عليه، هو من جهاد النفس الذي هو أعظم الجهاد.
ومن معنى هذه الآية قوله تعالى :" إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " ٩. وهم الذين كلما أذنبوا تابوا، والتوبة طهارة للنفس من درن المعاصي.
( والغفور ) في قوله تعالى " إنه كان للأوابين غفورا ". هو الكثير المغفرة، لأنه على وزن فعول، وهو من أمثلة المبالغة الدالة على الكثرة. و المغفرة سترة للذنب وعدم مؤاخذته به.
ولما ذكر من وصف الصالحين كثرة رجوعهم إليه، ذكر من أسمائه الحسنى ما يدل على كثرة مغفرته ليقع التناسب في الكثرة من الجانبين، و مغفرته أكبر. و ليعلم أن كثرة الرجوع إليه يقابله كثرة المغفرة منه، فلا يفتأ العبد راجعا راجيا للمغفرة، ولا تقعده كثرة ما يذنب عن تجديد الرجوع، و لا يضعف رجاءه في نيل مغفرة الغفور كثرة الرجوع.
نكتة نحوية
وقد أكد الكلام ( بإن ) لتقوية الرجاء في المغفرة. وجيء بلفظة كان، لتفيد أن ذلك هو شأنه مع خلقه من سابق، وهذا مما يقوي الرجاء فيه في اللاحق ؛ فقد كان عباده يذنبون و يتوبون إليه، و يغفر لهم، ولا يزالون كذلك، ولا يزال تبارك و تعالى لهم غفورا.
تطلب التوبة مهما عظمت الذنوب
و إنما احتيج إلى هذا التأكيد كله في تقوية رجاء المذنب في المغفرة، ليبادر الرجوع على كل حال، لأن العبد مأخوذ بأمرين يضعفان رجاءه في المغفرة :
أحدهما كثرة ذنوبه التي يشاهدها فتحجبها كثرتها عن رؤية مغفرة الله تعالى، التي هي أكبر و أكثر.
و الآخر رؤيته لطبعه البشري ؛ و طبع بني آدم من المنع عند كثرة السؤال، كما قال شاعرهم – أي البشر لأن الشاعر العربي١٠ عبر عن طبع بشري :
سألنا فأعطيتم، وعدنا فعدتم ومن أكثر التسآل يوما سيحرم
فيقوده القياس – وهو من طباع البشر أيضا – الفاسد : إلى ترك الرجوع و السؤال، من الرب الكريم العظيم النوال.
فهذان الأمران يقعدانه عن الرجوع و التوبة، فيستمر في حمأة المعصية، و ذلك هو الهلاك المبين. فكان حاله مقتضيا لأن يؤكد حصول المغفرة عند رجوعه بتلك المؤكدات.
و نكتة بلاغية :
٢ سورة الشمس، الآيتان ٩، ١٠..
٣ أو منطقة ما وراء الحس و الشعور كما يعبر علماء النفس.
.
٤ هذا رأي عظيم من الإمام في وجه الارتباط. وبعض المفسرين يقولون أيضا في وجه الارتباط : بأن العباد بما جبلوا عليه من سهو ونقصان، ربما يبدر منهم ما يخالف الشرع و يغضب الوالدين عن خطأ و غلط، لا عن قصد وعمد، إذ كل بني آدم خطاء، وخيرهم المستغفر ؛ وهنا ينظر الله إلى قلوبهم فإن كانت صالحة و بدر منها هذا الخطأ، فإنه يغفر لهم ما بدر منهم، متى رجعوا إليه..
٥ سورة البقرة ٢٣٨.
٦ سورة الملك، الآية ١٤..
٧ سورة آل عمران : الآيتان ١١٣ و ١١٤.
٨ هو عبيد بن الأبرص الأسدي شاعر جاهلي فحل. قال أيضا في هذه البائية :
من يسأل الناس يحرموه و سائل الله لا يخيب
ساعد بأرض إن كنت فيها و لا تقل : إنني غريب.
٩ سورة البقرة، الآية ٢٢٢
.
١٠ هو زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رياح الزنى، أحد فحول الجاهلية الأربعة. وهو أعف الشعراء قولا و أكثرهم تهذيبا لشعره، وجرت أبيات كثيرة له مجرى المثل. و كثير من أصوله و فروعه شعراء لا يشق لهم غبار.
.
" و آت ذا القربى حقه والمسكين و ابن السبيل و لا تبذر تبذيرا.
إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا.
و إما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا.
و لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك و لا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا.
إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر، إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ".
( ' سورة الإسراء : الآيات من ٢٩ حتى ٣١ ).
تمهيد :
الإنسان مدني بالطبع :
الناس كلهم في حاجة مشتركة إلى بعضهم١. و ما من أحد إلا وله حقوق على غيره، و لغيره حقوق عليه.
و لهذه الحاجة المشتركة و الحقوق الممتزجة كان الاجتماع و التعاون ضروريين لحياة المجتمع البشري، واطراد نظامه.
و قيام كل واحد من أفراد المجتمع بما عليه من حقوق نحو غيره هو الذي يسد تلك الحاجة المشتركة بين الناس. وعندما يؤدي كل واحد حق غيره فليست خدمته له وحده، بل هي خدمة للمجتمع كله. و بالأحرى، هي خدمة له هو في نفسه، لأنه جزء من المجتمع. و ما يصيب الكل يعود على جزئه.
المجتمع السعيد :
فإذا تواردت أفراد المجتمع على هذه التأدية سعدت و سعد مجتمعها بنيله حاجيات الحياة ولوازم البقاء والتقدم في العمران.
أما إذا توانى الأفراد في القيام بالحقوق، وقصروا في تأديتها إلى بعضهم، فإن الحاجة المشتركة من العلم، والثقافة، وحفظ الصحة، والأخلاق، وأنواع الصناعة تتعطل، وبتعطلها يختل نظام الاجتماع، ويعود إلى الانحلال والتقهقر، وينحط بأفراده إلى أسفل الدركات.
وجه الارتباط
فلهذا بعد ما أمر الله تعالى بإيتاء حقه – وهو توحيده في عبادته – أمر بإيتاء حقوق العباد القريب منهم والبعيد.
***
حق القريب :
" و آت ذا القربى حقه " :
ابتدأ بحق القربى لوجوه :
الأول : أنه هو مقتضى طبيعة الترتيب.
الثاني : تأكيد حق القريب.
الثالث : أن من حكمة التربية أن يبدأ من الأوامر بما تعين فطرة النفوس الإنسانية على قبوله ببداهة الفكرة، أو بشعور العاطفة. وكلتا هاتين يجب للنفس إيتاء حق القريب بابتدائه في الأمر، ليكون تقبلها له أسهل، ومبادرتها للامتثال أسرع.
فإذا سخت النفوس بإيتاء حق القريب، ومرنت عليه، اعتادت الإيتاء و صار من ملكاتها فسهل عليها إيتاء كل حق، و لو كان لأبعد الناس.
و شيء آخر، وهو أن الأقارب قد تكون بينهم المنافسات والمنازعات لقريب المنازل، أو تصادم المنافع، أو التشاح على المواريث ما لا يكون بين الأباعد، فيقطعوا حق القرابة ويهدموا بناء الأسرة، و يعود ذلك عليهم أولا بالوبال، ويرجع ثانيا على مجتمعهم – والمجتمع مؤلف من الأسر – بالتضعضع، فكان هذا من جملة ما يقتضي الابتداء بحقهم إلى المقتضيات المتقدمة الأخرى.
المفردات
و قوله تعالى :" ذا القربى "، عام يشمل الأصل – وهو الأبوان – وما يتصل بالمرء من ناحيتهما من أصولهما وفصولهما، ويشمل الفصل – و هو الأبناء والبنات – وما يتصل به منهما من فصول.
غير أن الوالدين لمزيد العناية بهما خصصا بالذكر في الآيات المتقدمة، و إن كانا داخلين في هذا العموم.
( والحق ) في قوله تعالى :" حقه " هو الثابت له شرعا، المبين في آيات من الكتاب من صلة رحم، ونصيب إرث، ونفقة فرض، و ندب، وإحسان بالقول والعمل، ومؤاساة عن محبة وعطف.
***
حق المسكين :
" وآت ذا القربى حقه والمسكين ".
المسكين والفقير
قد ذكر في آية الزكاة للفقير والمسكين. والحق أنهما متغايران ؛ والراجح أن الفقير من له بلغة٢ لا تكفيه. والمسكين من لا شيء له، فهو أشد٣ حالا من الفقير ؛ ولذا لما أريد هنا ذكر أحدهما اقتصر عليه تنبيها بالأعلى في الفقر على الأدنى، فالمراد أهل الفقر والحاجة كلهم.
و حق المساكين ما ثبت لهم من الزكاة، و كذلك ما تدعوا إليه الحاجة من تعليمهم، و إيوائهم، و تجهيز موتاهم، مما تقوم به الجمعيات الخيرية في هذا العصر.. فكل هذا مما تصرف إليه الزكاة، ويجب القيام به عند عدم الزكاة أو فنائها، أو قصورها عنه.
و يجب القيام به واجبا موزعا على كل واحد ما استطاع. فإذا لم يقم به المجتمع عاد الإثم على جميع الأفراد كل بقدر ما قصر فيما استطاع.. ثم ما إلى هذا من عموم الصدقة والإحسان.
***
حق ابن السبيل
" و آت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل " :
( السبيل ) هي الطريق، وابنها هو المسافر ؛ لأنه منها أتى كما أتى الابن من أمه.
( وحقه ) هو الثابت له في الزكاة، فيأخذ منها إذا قطع به ولم يكن
معه ما يبلغه ولو كان غنيا في بلده، وعلى جماعة المسلمين تبليغه إذا لم تكن ثم زكاة، ومن حقه ضيافتها حسب السنة٤و إرشاده و دلالته على ما يريد معرفته من طريقه أو مرافقها.
الآية جامعة
و بذكر ابن السبيل والمسكين مع ذي القربى.. جمعت الآية القريب والبعيد من ذوي الحقوق.
وبذكر ابن السبيل والمسكين. جمعت ذا الحاجة الثابتة. وهو المسكين، والحاجة العارضة وهو ابن السبيل، وقدم الأول لأصالة حاجته، و في ذكرهما أيضا جمع ما بين القريب الدار، والبعيد الدار والمسافر.
كل هذا ليعلم أن ذا الحق يعطي حقه على كل حال. وبقطع النظر عن أي اعتبار. وسمي هؤلاء الثلاثة بأسمائهم المذكورة ؛ لأنها ترقق عليهم القلوب، من القربة والمسكنة، وغربة الطريق.
و سمي ما ينالونه ( حقا ).. ليشعر المكلف بتأكده، ويحذر المعطي المن به، فلا ينكسر قلب آخذه ! !
***
الإنفاق في غير وجه شرعي :
" ولا تبذر تبذيرا " :
المال قوام الأعمال، و أداة الإحسان، وبه يمكن القيام بالحقوق : فصاحبه هو مالكه، ولكن الحقوق فيه تشاركه، ولا يقوم له بجميع تلك الوجوه إلا إذا أحسن التدبير في التفريق، و أساص الحكمة في التوزيع.
فلذا بعدما أمر الله تعالى بإعطائه الحقوق لأربابها.. نهى عن تبذير المال الذي هو أصلها، و به يمكن إعطاؤها.
( والتبذير ) هو التفريق للمال في غير وجه شرعي، أو في وجه شرعي دون تقدير، فيضر بوجه آخر :
فالإنفاق في المطلوبات ليس بتبذير و لو كان كثيرا. إلا إذا أنفق في مطلوب دون تقدير فأضر بمطلوب آخر : كمن أعطى قريبا، وأضاع قريبا آخر، أو أنفق في وجوه البر وترك أهله يتضورون بالجوع. وقد نبه النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – على هذا بقوله :" وابدأ بمن تعول ".
و الإنفاق في المباحات إذا لم يضيع مطلوبا، ولم يؤد إلى ضياع رأس المال، بحيث كان ينفق في المباح من فائدته ليس بتبذير. ف إذا توسع في المباحات و قعد عن المطلوبات، أو أداه إلى إفناء ماله فهو تبذير مذموم.
و أفادت النكرة و هي قوله :" تبذيرا " بوقوعه بعد النهي٥العموم. فهو نهي عن كل نوع من أنواع التبذير : القليل منه و الكثير، حتى لا يستخف بالقليل ؛ لأن من تساهل في القليل وصلت به العادة إلى الكثير.
الناس للناس من بدو وحاضرة | بعض لبعض و إن لم يشعروا خدم. |
٢ ما تبلغ به من مال و مؤنة.
.
٣ أكثر فقرا..
٤ حيث أوصي الرسول صلى الله عليه و آله وسلم بإكرام الضيف، في قوله :" من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم ضيفه "
.
٥ و لا تبذر.
.
" إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، و كان الشيطان لربه كفورا "
إن الشيطان يعمل، و أعماله كلها في الضلال و الإضلال، فقد ضيع أعماله في الباطل، وقد كان يمكنه أن يجعلها في الخير. وهو جاد في ذلك ضار١عليه لرسوخه في نفسه. والمبذر يضيع أمواله في الباطل، وقد كان يمكنه أن يجعلها في الخير. و قد أخذت عادة التبذير بخناقه واستولت عليه ؛ فهو أخوا الشيطان لمشاركته له في وصفه، كمشاركة الأخ لأخيه. وهو أخوه بامتثاله لأمره، وصحبته له في الحال و في المآل، وفي سوء العاقبة في العاجل والآجل.
سلاح ذو حدين :
المال، كما هو أداة لكل خير، كذلك هو أداة لكل شر : فالمبذر المفرق لماله في وجوه الباطل بالغ – لا محالة – بماله إلى شر كثير وفساد كبير ؛ و لذلك وصف بأنه أخ الشيطان الذي هو أصل الشر و الفساد.
ووصف الله تعالى الشيطان بقوله :" وكان الشيطان لربه كفورا " ؛ لأنه أنعم عليه بنعمة، فبدلا من أن يستعملها في طاعة في الخير قصرها على المعصية والشر.
وذكر هذا في وصف الشيطان بعد ما تقدم يفيد انه من وصف المبذر أيضا : فالمبذر أخو الشيطان، والشيطان كان لربه كفورا.
فالمبذر كان لربه كفورا، ذلك لأن الله تعالى أنعم عليه بالمال الذي هو أداة لكل خير، وعون عظيم على الطاعة، فجعله أداة في الشر، واستعان به على المعصية.
ومكنه الله بالمال من نعمة القدرة على القيام بالحقوق فضيعها وقام بالشرور
والمفاسد ؛ وهذا من أقبح الكفر لنعمة ربه الذي كان به مضارعا٢للشيطان معرضا عن أخيه، والعياذ بالله.
.
٢ مضارعا : مشابها.
.
" و إما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة ربك ترجوها، فقل لهم قولا ميسورا ".
للمرء حالتان :
حالة وجد. وحالة عوز١.
فلما علمنا الله تعالى ما نصنع في حالة الوجد من الإيتاء لذوي القربى واليتامى والمساكين – علمنا ما نصنع في حالة العوز من الرد الجميل، والقول اللين الحسن.
مفردات :
و قوله تعالى :" تعرضن " من الإعراض و هو الانصراف عن الشيء، و هو كناية عن عدم العطاء ؛ لأن من يأبى أن يعطي يعرض بوجهه، ولو إعراضا قليلا. ولما كان الإعراض كناية عن عدم العطاء، فإنه يشمل عدم العطاء عند السؤال، الذي قد يكون معه الإعراض بالفعل ولو قليلا، ويشمل عدم العطاء لمن هو أهل لأن يعطي مع عدم وجود السؤال.
وقوله تعالى :" ابتغاء رحمة من ربك ترجوها " :( الابتغاء ) هو الطلب باجتهاد، وذلك بالأخذ في الأسباب، و الاعتماد على مسببها وهو الله تعالى...
( ورحمة الرب ) هنا رزقه، ( ورجاؤها ) هو انتظارها مع الأخذ في أسبابها بالقلب والعمل.
وابتغاء رحمة الرب ورجاؤها كناية عن حالة العوز و الإعسار ؛ لأن شأن المعوز المؤمن.. أن يكون كذلك.
وقوله تعالى :" فقل لهم قولا ميسورا "، تقول : يسرت له القول، إذا لينته له، فالقول الميسور هو القول الملين.
و حاصل المعنى :
إن أعرضت عنهم فلا تعطهم لأنك لم تجد ما تعطيهم – وهي الحالة التي تكون فيها تطلب رحمة من ربك راجيا رزقه – فقل لهم قولا لينا سهلا، فتواسيهم بالقول عند عدم السؤال، فتقول لهم : يرزق الله، ونحوه من لين الكلام.
و في الآية تعليم وتربية للمعسر من ناحيتين :
الأولى : معاملته لذوي القربى واليتامى والمساكن عند السؤال وعدمه.
وعرف من الآية أنه مطالب بحسن المقال بدلا مما عجز عنه من النوال.
والثانية : أدبه هو في نفسه والحالة التي ينبغي له أن يكون عليها : فإن حالة العسر حالة شدة وبلاء يحتاج المكلف أشد الحاجة أن يعرف دواءه فيها لسيرته العملية، وحالته النفسية، فأعطته هذه الآية الكريمة الدواء لهما.
فأما في سيرته العملية فعليه أن يكون ساعيا في الأسباب حسب جهده، وذلك هو ما يفيده قوله :" ابتغاء رحمة من ربك ".
و أن يكون مطمئن القلب بالله، معتمدا عليه، قوي الثقة فيه٢ وذلك
ما يفيده قوله :" ترجوها ".
وقد ذكر رحمة الرب – جل جلاله – لوجوه :
الأول : تقوية رجائه، فإنه يعلم سعة رحمة الله وغمره بها في كل حين.
ومن ذا الذي لم يجد نفحات الرحمات في أكثر الأوقات في أحرج الساعات ؟
الثاني : بعثه على الصبر و التسليم وعدم الضجر و السأم من الطلب والانتظار ؛ فإنها رحمة الرب، ومن مقتضى ربوبيته تدبيره للخلق بحكمته.
فما جاء منه – كيف جاء وفي أي وقت جاء : أبطأ أم تأخر هو مقبول منه محمود منا عليه.
الثالث : بعث عاطفة الرحمة على غيره، فإن من كان يرجو رحمة ربه جدير بأن يكون رحيما بعباده. و رحمته بعباد الله تعينه على القيام بما أمر به من حسن المقال عند العسر، و جميل النوال عند اليسر ؛ وتكون سببا له في رحمة الله إياه. والراحمون يرحمهم الرحمن، و إنما يرحم الله من عباده الرحماء.
.
٢ وهذا دواء الحالة النفسية.
.
" و لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك، و لا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ".
لما أمرنا الله تعالى بالإنفاق، علمنا كيف ننفق، وبين لنا أدب الإنفاق في هذه الكلمات.
تمثيل البخيل
إذا شبهت حالة وهيئة البخيل الذي الذي لا يكاد يرشح بشيء، ولا يقدر لبخله على إخراج شيء من ماله.. بحاله و هيئة الذي جعل يده مغلولة مجموعة بغل١ إلى عنقه : فذاك لا تتوجه نفسه للبذل، و لا تمتد يده للعطاء، وهذا لا تمتد يده للتصرف. و نقل الكلام المركب الدال على المشبه به، فاستعمل في المشبه على طريق الاستعارة التمثيلية لتقبيح حالة البخيل.
والمعنى :
لا تبخل بالنفقة في حقوق الله، و لا تمسك إمساك المغلولة يده الذي لا يقدر على الأخذ بها والإعطاء.
تمثيل هيئة المسرف
و شبهت حالة المسرف الذي لا يبقى على شيء، بحالة الشخص الباسط لكفيه فلا يمسكان عليه من شيء : فذاك يملك المال، ولكنه بسرفه لا يبقى له منه شيء، وهذا قد يمر الشيء على يده، ولكنه لا يبقى فيها شيء. ونقل المركب الدال على المشبه به إلى المشبه، استعارة تمثيلية أيضا.
المعنى :
و لا تخرج جميع ما تملك مع حاجتك إليه، ولا تنفق جميع مالك.
وبهذا يعلم أن " كل البسط " المنهي عنه هنا غير التبذير المنهي عنه في الآية المتقدمة : ذاك توزيع المال و تبديده في غير وجوهه، وهذا التجاوز في الإنفاق المطلوب والتوسع في الإنفاق المأذون حتى يبقى بلا شيء.
نهى تعالى بهذه الآية عن طرفي الإفراط و التفريط، وهما الإسراف.
فالمأمور به : هو العدل الوسط، فعلى ذى المال أن يأخذ في إنفاقه بهذا الميزان، ليكون إنفاقه محمودا : فلا يمسك عما يستطيع، و لا يتجاوزه إلى ما لا يستطيع، أو إلى ما يوقعه في عسر وضرر.
وكان النهي عن البسط لأنه هو الذي فيه إسراف.
و أما أصل البسط الذي هو توسعه بحكمة، فغير منهي عنه لأنه لا ضرر فيه.
وحذر تعالى من سوء عاقبة الإسراف و التقتير بقوله :( فتقعد ملوما محسورا ). فالبخيل الممسك ملوم من الله تعالى.
ومن العباد إذا من لم تلمه نفسه الخبيثة لموت قلبه. على أنه سيلوم هو نفسه بعد الموت. والمسرف ملوم من الجميع، و من نفسه بعد ضياع ما في يده.
( والمحسور )، المتعب المضني، الذي انكشفت عنه القوة، ولم تبق به قدرة على شيء، تقول العرب : حسرت البعير أي أنضيته و أتعبته بالسير، حتى لم تبق به قدرة عليه.
والجمل لا يقطع الطريق و يصل إلى الغاية إلا إذا حافظ صاحبه على ما فيه من قوة ؛ فسار به سيرا وسطا. أما إذا أجهده واستنزف قوته، فإنه يسقط كليلا محسورا : فلا قطع طريقه، ولا وصل منزله، ولا أبقى جمله٢.
فكذلك الإنسان في طريق هذه الحياة محتاج إلى قوة المال، فإذا أنفقه بحكمة نفع به وانتفع، و بلغ غاية حياته هادئا رضيا، و إذا بسط يده فيه كل البسط أتى عليه فانقطع النفع و الانتفاع، ولم يبلغ غاية حياته إلا بأتعاب و مشاق.
وعلم من هذا أن قوله " ملوما " يرجع للمقتر و المسرف. وقوله :" محسورا " يرجع للمسرف فقط. ولكن لما كان المحسور هو الذي ذهبت قوته فلا قدرة له على شيء، فقد نقول : إن البخيل أيضا مبغوض من الناس مخذول منهم، فلا يجد في ملماته معينا، و لا في نوائبه معزيا، فهو أيضا ضعيف الجانب لا قوة له. فالمسرف ضيع المال، والبخيل ضيع الإخوان، فكلاهما مكسور الظهر، عديم الظهير.
***
المخاطب بالاعتدال :
و المخاطب إما مفرد غير معين ؛ فيشمل جميع المكلفين غير النبي – صلى الله عليه و آله وسلم – لأنه كان يأخذ لعياله قوت سنتهم حين أفاء الله عليه ( النضير، وفدك، وخيبر٣ )، ثم يصرف ما بقي في الحاجات حتى يأتي أثناء الحلول، و ليس عنده شيء، ولا كان ملوما و لا محسورا، بل كان على ذلك صبارا شكورا مشكورا.
و إما هو٤ النبي – صلى الله عليه و آله وسلم – و المراد أمته : و عادة العرب أن تخاطب سيد القوم، تريد القوم، وتعبر بالمتبوع عن أتباعه. ونظير هذه الآية في ذلك :" فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك "، " و لئن أشركت ليحبطن عملك ".
فالنبي – صلى الله عليه و آله وسلم – غير داخل في هذا الخطاب بإجماع.
و قد تقدم قوله تعالى :" إما يبلغن عندك الكبر " يعني الوالدين : و كان والداه عليهما الرحمة قد توفيا، فلم يدخلا في الخطاب قطعا فكذلك هنا.
***
المخاطب في رأي ابن العربي :
قال الإمام ابن العربي في تعليل عدم دخوله – صلى الله عليه و آله وسلم - في هذا الخطاب.
لما هو عليه من الخلال، والجلال، وشرف المنزلة، وقوة النفس على الوظائف، وعظيم العزم على المقاصد.
فأما سائر الناس : فالخطاب عليهم وارد، و الأمر والنهي – كما تقدم – إليهم متوجه.
إلا أفرادا أخرجوا من ذلك بكمال صفاتهم، وعظيم أنفسهم، منهم أبو بكر الصديق ؛ خرج عن جميع ما يملك للنبي صلى الله عليه و آله وسلم فقبله منه الله سبحانه وتعالى، وأشارعلى أبي لبابة، وكعب بالثلث من جميع مالهم ؛ لنقصهم عن هذه المرتبة في أحوالهم.
و أعيان الصحابة كانوا على هذا، فأجراهم النبي – صلى الله عليه و آله وسلم – وائتمروا بأمر الله، واصطبروا على بلائه، ولم تتعلق قلوبهم بدنيا، ولا ارتبطت أبدانهم بمال منها، وذلك لثقتهم بموعود الله في الرزق، وعزوف أنفسهم عن التعلق بغضارة٥ الدنيا.
و قد كان من أشياخي من ارتقى إلى هذه المنزلة : فما ادخر قط شيئا لغد و لا نظر بمؤخر عينه إلى أحد، ولا ربط على الدنيا بيد.
أقسام الناس في الحظوظ
فههنا ثلاثة أصناف من الخلق : العم الأكثر، وهم أهل الحظوظ البشرية.
و الأقل الأندر، وهم الذين زالت منهم تلك الحظوظ.
و قد أفادتنا السنة العلمية المتقدمة في كلام الإمام ابن العربي :
إن لأهل الصنف الثاني أن يخرجوا عن كثير من أمالهم على مقدار ما بقي من حظوظهم.
و أن لأهل الصنف الثالث أن يخرجوا منها كلها.
و أما أهل الصنف الأول فلا يخرجون عن الوسط الذي بينته الآية.
عموم الآية
و قد جاءت الآية الكريمة على مقتضى حال الأعم الأكثر ؛ لأنها قاعدة عامة في سياسة الإنفاق، وشأن القواعد العامة أن يعتبر فيها جانب الأعم الغالب، ولا يلتفت للنادر.
وقد وكل للنبي – صلى الله عليه و آله وسلم – بيانه، فجاء مبينا فيما تقدم من سننه.
وتقررت القاعدة و استناؤها أمن الكتاب والسنة، و هما مصدر التشريع.
.
٢ إن المنبت لا أرضا قطع و لا ظهرا أبقى.
.
٣ غزوات انتصر فيها النبي صلى الله عليه و آله وسلم، ووسع الله على المسلمين بالجزية أو الخراج..
٤ أي المخاطب بهذا الخطاب.
.
٥ نضارتها و زخرفتها و زينتها..
تفاوت الأرزاق، من حكمة الخلاق :
" إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر، إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ".
لما أرشدنا تعالى إلى السلوك الأقوم في العمل في باب الإنفاق، أرشدنا إلى العقد الصحيح في مسألة تفاوت الأرزاق، وفي ذلك تمام الهداية إلى الاستقامة في الظاهر والباطن.
و إن أحوال العباد في الغنى والفقر، والسعة والضيق، وتعاقبهما عليهم بسرعة و بمهل وتفاوتهم فيها لما يخفي و لما يظهر من العلل – لأمر عجب عجاب، يحير الألباب ! !١
تفسير بن باديس – م
فعلمنا الله تعالى في هذه الآية أن الرب – وهو الذي يربي المربوب في أحواله و أطواره، بمقتضى الصلاح و الصواب – هو الذي يبسط و يوسع على من يشاء – و لا يشاء إلا ما هو حق، وعدل، وصواب، وإن خفي علينا وجهه٢.
[ و يقدر ] : أي يضيق على من يشاء، وكل أحد هو حقيق بالحال الذي هو فيه. و أنه كان بعباده ( خبيرا ) مطلعا على دواخل أموره، وبواطن أسرارهم من أنفسهم، ومما يرتبط بهم و من سوابقهم و مصائرهم ( بصيرا ) منكشفة له جميع أمورهم.
وكما أنه بالعمل بآية الإنفاق ينتظم أمر العباد في معاشهم، كذلك بالإيمان بهذه العقيدة تزول حيرتهم، وتطمئن قلوبهم فيما يرونه من أحوال الرزق في أنفسهم، و في غيرهم.
و الله يبصر القلوب، و يقوم الأعمال، إنه سميع مجيب.
كم عالم عالم تلقاه محروما وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقا
و لكن الغنى غنى النفس، و حسب ابن آدم لقيمات. ومن رضي عاش هنيا و من استعف يعفه الله..
٢ و قد ورد أن من العباد من يفسده الغنى و لا يصلحه إلا الفقر، والعكس بالعكس.
.
بحفظ النسل و حفظ الفرج و عدم العدوان
" و لا تقتلوا أولادكم خشية إملاق، نحن نرزقهم و إياكم، إن قتلهم كان خطئا كبيرا.
ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا.
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل، إنه كان منصورا ".
( سورة الإسراء – الآية ٣٢، ٣٣، ٣٤ ).
الأرواح الإنسانية :
تمهيد :
إن الأرواح الإنسانية كريمة الجوهر ؛ لأنها من عالم النور ؛ فقد خلقت من نفخ الملك. كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه الثابت في الصحيح :
" إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح.... "
والملائكة – كما في الصحيح – خلقوا من النور، و أنها كريمة الخلقة أيضا لأنها فطرت على الكمال.
ولذا أضافها١ الله تعالى إلى نفسه في معرض الامتنان، في قوله تعالى :" ثم سواه ونفخ فيه من روحه ".
دع ما يطرأ عليها بعد اتصالها بالبدن من تزكية ترقى بها في معارج الكمال، أو تدسية تنحط بها إلى أسفل سافلين٢
وبعد ارتباطها بالبدن.. يتكون منهما المخلوق العظيم العجيب المسمى بالإنسان الذي جعله الله تعالى خليفة في الأرض ليعمرها، ويستثمرها ويعبرها إلى دار الكمال الحق، والحياة الدائمة الأبدية.
هذه النفوس البشرية جاءت الشرائع السماوية كلها بإيجاب حفظها، فكان حفظها أصلا قطعيا، وكلية عامة في الدين. وجاءت هذه الآيات في تقرير هذا الحفظ من وجوه ثلاثة سنتكلم عليها واحدا.
حفظ النسل :
" ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم و إياكم، إن قتلهم كان خطئا كبيرا ".
الموءودة في الجاهلية
العرب في زمان البعثة هم المخاطبون قبل الناس بالقرآن، وهم المأمورون أول الناس – لعموم الرسالة – بالبلاغ، وعلى اهتدائهم كان يتوقف اهتداء غيرهم ؛ فمن الحكمة توجه القصد إلى تطهيرهم من مفاسدهم.
و قد كانوا في الجاهلية منهم من يقتل البنات خشية الفقر، وليوفر ما ينفق عليهم لينفقه على نفسه وبيته و بنيه، ويرى النفقة عليهن ضائعة ؛ لأنه لا ينتظر منهن سعيا للكسب و لا نصرة على العدو. و هذه هي الموءودة المذكورة في قوله تعالى :" و إذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت " ٣.
فضلاء أحيوا الموءودة على أنه قد كان من ساداتهم من يحيي الموءودة فيشتريها من عند أبيها، و ينجيها من القتل : كزيد بن نفيل القرشي، أبي سعيد بن زيد، أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم، وصعصعة بن ناجية التميمي الصحابي جد الفرزدق الشاعر المشهور. وقد كان قتل البنات شائعا فيهم مستفيضا في قبائل معدودة.
و منهم – كما في لسان العرب – من كان يئد البنين عند المجاعة. فجاء النهي عن القتل في الآية متعلقا بلفظ الولد شاملا للبنات والبنين، ومعه السبب الذي كان يحملهم على القتل، و هو خشية الإملاق أي خوف الفقر والإقتار.
( والمملق ) هو الذي خرج ماله من يده فلم يبق بها شيء. و من مادته الملقة وهي الصفاة الملساء. فنهوا عن هذا القتل الفظيع مع ذكر سببه، لتصوير حالتهم بوجه تام، وليتخلص من كر السبب إلى إبطاله ورده.
معالجة هذه الرذيلة بإبطال سببها، و عظيم قبحها : وسوء عاقبتها :
أبطل تعالى خوفهم من الفقر بقوله :" نحن نرزقهم و إياكم " ؛ فأخبر أن رزق الجميع عليه، وأنه متكفل برزق خلقه بما يسر لهم من أسباب جلية أو خفية، لا فرق في ذلك بين الذكر و الأنثى، والكبير والصغير.
كما انه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، كما في الآية السابقة، فهما مرتبطان بهذه المناسبة.
و من ضلالهم : أنهم نظروا إلى قوة الكبير فحسبوه مرزقا من نفسه، فهداهم بقوله :" وإياكم " إلى أن الكبار مرزوقون من الله بتقديره و تيسيره٤.
و لما كان لا فرق بين الكبير والصغير في الحاجة إلى لطف الله، وضمان الرزق من الله، فلا وجه لخوف الفقر من وجود الأولاد و كثرتهم، لأنه ما من واحد منهم إلا ورزقه مضمون من خالقه جل جلاله.
و بين تعالى فظاعة هذا القتل بقوله :" أولادكم " بإضافة الأولاد إليهم، فإن الأولاد أفلاذ الأكباد، وقطعة من لحم المرء ودمه، ونسخة من ذاته، فمحبتهم فطرة، والعطف التام عليهم خلقة، فكيف يكون قبح وفظاعة فعل من بلغ بهم القتل
و أي خير يرجى من قاتل ولده لغيره من الناس، بعدما جنى أفظع الجنايات على ألصق الناس به ؟ ؟
و بين تعالى سوء العاقبة لهذا القتل بقوله :" إن قتلهم كان خطئا كبيرا " ؛ أي إثما كبيرا لما فيه من قتل النفس، وقطع النسل، وهلاك الجنس، وخراب العمران، و سوء الظن بالله، وعدم خشيته، و عدم الشفقة على خلقه.
يقال خطىء يخطأ إذا قصد الفعل القبيح ففعله. و أخطأ يخطىء خطئا إذا قصد شيئا فأصاب غيره.
ومن مثل وعيد الآية ما ثبت في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه :" أن النبي صلى الله عليه و آله وسلم سئل : أي الذنب أعظم ؟ قال : أن
تجعل لله ندا و هو خلقك. قال : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ".
عموم حكم الآية و ترغيبها :
العبرة بعموم٥ اللفظ لا بخصوص السبب، والحكم يعم بعموم اللفظ. كما أن ذكر سبب القتل في الآية لا يقتضي التخصيص، لأنه ذكر لتصوير الحال الذي كانوا عليه، فالقتل حرام لأي سبب كان.
فعل الجاهلية باق و هذا الفعل الذي كان في الجاهلية على الوجه المتقدم، و هو فعل مؤد إلى قطع النسل وخراب العمران – لا تسلم منه الأمم الأخرى في مختلف الأزمنة و البلدان : إما بالقتل بعد الولادة.
و إما بإفساد الحمل بعد التخليق، وهو حرام باتفاق.
و قد يكون الامتناع من التزويج.
أو بعد الإنزال في الفرج و هو العزل.
و الآية كما نهت عن القتل، قد رغبت في النسل بذكر ضمان الرزق.
فعلى المؤمن أن يسعى لذلك من طريقه المشروع، و أن يتلقى ما يعطيه الله من نسل ابن أو بنت، بفرج، لنعمة الله و ثقة برزق الله، و إيمان بوعده.
٢ " قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ".
.
٣ سورة التكوير، الآيتان ٨، ٩..
٤ هذه نكتة لطيفة ذكرها الإمام بجانب هذا التعبير : نحن نرزقهم و إياكم. و أيضا لأن خوف الفقر قد لا يكون فقرا، و إنما هو خوف فقط، وقد يكونون في الحقيقة أغنياء، لذا جاء التعبير في عجز الآية مناسبا لصدرها. و هذا بخلاف آية الأنعام :" و لا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم و إياهم ". فالفقر هنا متحقق عند الآباء، ولذا قال :" من إملاق "، ثم جاء عجز الآية مناسبا للآية، بأنكم مرزوقون و إياهم، فجاء النهي عن قتلهم، ورزقكم جميعا في السماء وما توعدون.
.
٥ العموم..
" ولاتقربوا الزنى، إنه كان فاحشة و ساء سبيلا ".
الزنى كالقتل
في الزنا إراقة للنطفة، وسفح لها في غير محلها، فلو كان منها ولد لكان مقطوع النسب، مقطوع الصلة، ساقط الحق. فمن تسبب في وجوده على هذه الحالة كأنه كقتله. ولهذا بعد ما نهى عن الزنا الذي هو كقتلهم، لأنه سبب لوجودهم غير مشروع.
قال الجوهري :( قربته أقربه قربانا، أي دنوت منه ). فقوله تعالى :" ولا تقربوا الزنى "، في النهي أبلغ و آكد من و لا تزنوا ؛ لأنه بمعنى و لا تدنوا من الزنا، و أفاد هذا تحريم الزنا، وتحريم الدنو منه، لا بالقلب و لا بالجوارح، فقد جاء في الصحيح :
" كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى فهو مدرك ذلك لا محالة. العينان زناهما النظر، و الأذنان زناهما الإستماع، و اللسان زناه الكلام، و اليدان زناهما البطش، والرجل زناه الخطأ، والقلب يهوى ويتمنى، و يصدق ذلك الفرج أو يكذبه " ؛ فزنا هذه الجوارح دنو من الزنى الحقيقي، و مؤد إليه.
حمى الشرع
وقد حمى الشرع الشريف العباد من هذه الفاحشة بما فرض من الحجاب الشرعي، و هو ستر الحرة ماعدا وجهها و كفيها جمع ثيابها عند الخروج بالتجلبب، وبما حرم من تطيب المرأة، وقعقعة حليها عند الخروج، وخلوتها بالأجنبي، واختلاط النساء بالرجال.
فتضافر النهي و التشريع على إبعاد الخلق عن هذه الرذيلة.
والمسلم، من تحرى مقتضى هذا النهي و هذا التشريع في الترك و الابتعاد.
الفطر تدرك الحسن والقبيح :
معالجة هذه الرذيلة بتقبيحها و سوء عاقبتها : بين تعالى قبحها بقوله :" إنه كان فاحشة " و الفاحشة هي الرذيلة التي تجاوزت الحد في القبح و عظم قبح الزنا مركوز في العقول من أصل الفطرة كان و لم يزل كذلك معروفا.
و من رحمة الله تعالى بخلقه أن ركز في فطرهم إدراك أصول القبائح و المحاسن، ليسهل انقيادهم للشرع عندما تدعوهم الرسل إلى فعل المحاسن و ترك القبائح، و تأتيهم بما هو معروف في الحسن أو القبح لهم فتبين لهم حكم الله فيه، وما لهم من الثواب أو العقاب عليه.
أثر الزنا وعاقبته :
و بين تعالى سوء عاقبة الزنا بقوله :" وساء سبيلا " أي بئس طريقا طريقه، طريق مؤد إلى شرور و مفاسد كثيرة في الدنيا، وعذاب عظيم في الأخرى :
فهو طريق إلى هلاك الأبدان، وفساد الأعراض، وضياع الأموال، و خراب البيوت، وانقطاع الأنساب، وفساد المجتمع وانقراضه.
زيادة على ما فيه من معنى القتل للنفوس الذي تقدم في صدر الكلام.
الوقاية منه
فعلى المؤمن إذا وسوس له الشيطان بهذه الرذيلة أن يتعوذ بالله منه، و يستحضر قبحها والمفاسد التي تجر إليها، و الإثم الكبير الذي يعقبها، و قبل ذلك كله حرمة النهي الشرعي عنها، فيكون ذلك له – بإذن الله – وقاية منها.
في الصحاح.
" ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ".
جاء أسلوب هذه الآيات تدرجا من الخاص إلى العام : فقتل الأولاد قتل للنفس التي حرم الله، و الزنا كالقتل للنفس كما قدمناه، و جيء هنا بالنهي الصريح عن قتل النفس، و أكد مقتضى النهي بوصف النفس بقوله :" التي حرم الله ".
( والتحريم ) هو المنع، فحرم الله معناه منع الله، و التقدير : حرم الله قتلها، فحذف لدلالة " لا تقتلوا " عليه. فالمنهي عنه هو القتل، والمحرم هو القتل، فتأكد المنع بالنهي والتحريم.
و في إسناد التحريم إلى الله بعث للنفوس على الخشية من الإقدام على المخالفة، و تنبيه لها على ما يكفها عن الإقدام، و هو استشعار عظمة الله.
القتل المحرم :
و بين تعالى بقوله :" إلا بالحق " أن القتل المحرم هو القتل الباطل، و أن القتل بالحق ليس بمنهي عنه. و بين الحق في الحديث الصحيح بقوله صلى الله عليه و آله وسلم :
القتل الحق و من يتولاه
" لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني، والنفس بالنفس، و التارك لدينه، المفارق للجماعة ". في غير هذه الثلاث. أو يقال بتقدم هذا الحصر في الورود عليها، و هذا القتل الحق لا يتولاه أفراد الناس في بعضهم، و إنما يتولاه الامام الذي إليه القيام بتنفيذ الأحكام و فصل الحقوق.
الرد عن العدوان بشرع القصاص :
القتل وسفك الدم عمل قديم في البشر، فلهم – على الجملة – ضراوة عليه و إلف به. و أعظم ما يكف الشخص عن نفس أخيه خوفه على نفسه.
فلذالك شره الله تعالى القصاص بين النفوس، وبين تعالى ذلك بقوله :" و من قتل مظلوما فقد جعلناه لوليه سلطانا ".
( المظلوم ) من قتل عمدا عدوانا.
( والولي ) هو القريب.
( والسلطان ) هو التسلط.
والمعنى :
ومن قتل عمدا عدوانا، فقد جعلناه لقريبه تسلطا بتمكينه من القصاص.
لا يحفظ النفوس إلا بالعدل :
النفس بالنفس
كفاء النفس نفس. فلا يقتل إلا القاتل بما قتل دون غيره، ودون تمثيل به. و بين تعالى هذا بقوله :" فلا يسرف في القتل "، أي لا يتجاوز القصاص المشروع ؛ لأن الإسراف ظلم. و مثير للحفائظ فيتسلسل الشر.
تسكين نفس الموتور :
الموتور هو من قتل قريبه، ولفقد القريب لوعة، ربما تذهب بالنفس إلى شر غاية، فذكر بقوله تعالى :" إنه كان منصورا ". فإن قريب المقتول قد نصره الله إذا جعل له حق الاقتصاص، فإذا لم يستوف له في الدنيا استوفي له في الأخرى.
و المؤمن بيقينه لا يرى يوم القيامة إلا قريبا. وكفى بالله حسيبا.
" و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده، و أوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا.
و أوفوا الكيل إذا كلتم و زنوا بالقسطاس المستقيم، ذلك خير و أحسن تأويلا ".
مال الشخص : هو ما كان ملكا له
المفردات والتراكيب
( واليتيم ) : هو من عدم أباه، من اليتم بمعنى الانفراد، ومنه الدرة اليتيمة. و من عدم أباه فقد عدم ناصره. فإذا بلغ النكاح فقد بلغ القوة، فاستغنى عن الناصر، فلا يقال فيه يتيم في اللغة.
و اعتبر الشرع الشريف وجود قوة العقل فمنع استغلاله، ودفع ماله إليه بعد البلوغ حتى يؤنس منه الرشد.
( والتي هي أحسن( : الفعلة والخصلة التي هي أنفع.
و البلوغ إلى الشيء : الوصول والانتهاء إليه.
( والأشد ) : جمع شدة كأنعم جمع نعمة، فالأشد هو القوى. وبلوغ الأشد هو بولغ القوى، والوصول إلى الحالة التي تحصل فيها القوى للإنسان، القوى البدنية، والقوى العقلية. و لا يقال في الشخص قد بلغ أشده إلا إذا حصل على قواه من الجهتين. فأما القوى البدنية فعلامة حصولها هو البلوغ. و أما القوى العقلية فعلامة حصولها هو الرشد الذي يظهر في حسن التصرف.
وقد جمع العلامتين قوله تعالى :" وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم١ ".
فابتداء الأشد من البلوغ إذا كان معه رشد، و لا يزال يتدرج حتى يستكمل في الأربعين، كما قال تعالى :
" حتى إذا بلغ أشده، و بلغ أربعين سنة٢ ". فالأربعون هي سن الاستكمال، والاستواء، والتمام في القوى، وهي السن التي بعث الله فيها النبي – صلى الله عليه و آله وسلم – للعالمين بشيرا ونذيرا.
ولا يزال الإنسان في قوته – ما لم تعرض الطوارىء – إلى الخمسين ثم يأخذ في التراجع.
وجه الارتباط
مال المرء كقطعه من بدنه، ويدافع عنه كما يدافع عن نفسه. و به قوام أعماله في حياته.
فالأموال مقرونة بالنفوس في الاعتبار ؛ فقرنت في النظم آية حفظ الأموال بآيات حفظ النفوس، كما فرن بينهما النبي – صلى الله عليه و آله وسلم – في قوله٣ :
فإن دماءكم، و أموالكم، و أعراضكم عليكم حرام ".
مال اليتيم
نهى تعالى عن قربان مال اليتيم إلا بالوجه الذي هو أنفع، فلا بد لكافل اليتيم من النظر والتحري عند التصرف في ماله : حتى يعرف ما هو ضار و ما هو نافع، و ما هو لا ضار و لا نافع، و ما هو أنفع ؛ فلا يتصرف إلا بما هو نافع. فإذا تعارض وجهان نافعان تحرى أنفعهما لليتيم. و في هذا النهي _ بطريق الأحر – تحريم أخذ مال اليتيم بالباطل، والتعدي عليه ظلما٤.
و مثل اليتيم في وجهي النهي المتقدمين غيره ؛ فكل ذي ولاية أو أمانة على مال غيره يجب عليه أن يتحرى التحري المذكور.
كما يحرم على كل أحد أن يتعدى على مال غيره.
و إنما خص اليتيم بالذكر، لأنه ضعيف لا ناصر له، والنفوس أشد طمعا في مال الضعيف، فالعناية به أوكد، والعقوبة عليه أشد.
ومن تأدب بأدب الآية في مال الضعيف كاليتيم، كان حقيقا أن يتأدب بأدبها في مال غيره.
من بلاغة القرآن
و من بليغ إيجاز القرآن في بيانه أنه يذكر الشيء ليدل به على تأثيره، أو الذي هو أحرى بالحكم منه، أو لكون امتثاله في غيره بالمساواة، أو الأحروية.
و أجاز تعالى لولي اليتيم واستقلاله حالتان، كلتاهما حق وخير، إذا كانت كل واحدة منهما في وقتها المناسب لها وكل واحدة منهما تكون ظلما و شرا إذا كانت في غير وقتها المناسب لها. فلذا بين تعالى الحالتين ووقتهما بما قبل ( حتى ) و ما بعدها : فوقت عدم بلوغ الأشد هو وقت الولاية.
حكم الولاية
فمن الفروض الكفائية على الأمة أن يكون أيتامها مكفولين غير مهملين.
ووقت بلوغ الأشد – ببلوغ الحلم والرشد – هو وقت استقلال من كان يتيما ووقت دفع ماله إليه، فلا يجوز حينئذ الاستيلاء على ماله و السيطرة عليه.
الوفاء بالعهد :
" و أوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا ".
المفردات واللغة
أوفى العهد إذا أتى بما التزم تاما وافيا. والعهد من عهد إليه بالشيء إذا أعلمه به. قال تعالى :" وعهدنا إلى آدم من قبل فنسي ". أي أعلمناه. فالعهد هو الإعلام بالالتزام، أو الإعلام بما يلتزم :
فمن الأول : عاهدت زيدا على كذا، أي أعلمته بالتزامي لهن وتعاهد القوم على الموت أي أعلم بعضهم بعضا بالتزامه.
ومن الثاني : عهد الله إلى العباد أي إعلامهم بما عليهم أن يلتزموه.
و قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه :( الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا إلينا و عهدنا إليكم ). أي إعلامه لنا و إعلامنا لكم بما يلتزم.
( والمسؤول ) من سأل، و سأل بمعنى طلب : إما طلب علما، و إما طلب شيئا، فإن كانت الأولى تعدى الفعل إلى المفعول الثاني بعن، تقول : سألته عن كذا فأجابني، و إن كانت الثانية تعدى الفعل إليه بنفسه تقول : سألته ثوبا فأعطانيه.
فقوله تعالى :" إن العهد كان مسؤولا "
إذا كان من الأولى فالأصل مسؤولا عنه فحذف إيجاز لظهور المراد.
و إذا كان من الثاني فلا حذف و معنى حينئذ مطلوب أي مطلوب الوفاء به.
ضرورة الوفاء بالعهد :
الوفاء بالعهد شرط ضروري لحصول السعادتين :
عهد الله تعالى لعباده هو ما شرعه لهم من دينه، فوفاؤهم بعهده قيام بأعباء ذلك الدين الكريم، وانتظام شؤونهم في هذه الحياة – أفرادا و جماعات و أممار – متوقف على الوفاء من بعضهم لبعض بما بينهم من عهود ؛ فالوفاء ضروري لنجاة العباد مع خالقهم ؛ و لسلامتهم من الشرور و الفوضى و الفتن. وضروري – إذن – لتحصيل سعادة الدنيا و سعادة الآخرة.
و لمكانة هذا الأصل و ضرورته تكرر في الكتاب و السنة الأمر به على وجه عام بين الأفراد و الأمم، بلا فرق بين الأجناس و الملل. وجاء هنا في آية الوصاية باليتيم – و هي آية حفظ الأموال باحترام الملكية – لوجهين.
الأول : أن الكافل لليتيم قد أعلن بكفالته – بلسان حاله- أنه ملتزم لحفظه في بدنه وماله، فهذا عهد منه يطالب بالوفاء به، ويسأل عن ذلك الوفاء.
الثاني : أن الآية في حفظ الأموال و عدم التعدي على ملك أحد.
والناس يتعاملون بحكم الضرورة، ويبنون تعاملهم على تبادل الثقة و العهود المبذولة من بعضهم لبعض بلسان المقال أو بلسان الحال، فأمروا بالوفاء بالعهد الذي هو أساس للتعامل، وفي ذلك سلامة مال كل أحد من التعدي عليه.
و لا ينافي هذا عموم اللفظ الذي يقتضي الأمر بالوفاء عاما، لأنه باق على عمومه٥و إنما يدخل فيه هذان الوجهان المذكوران في ارتباط النظم دخولا أوليا.
ومن بديع إيجاز القرآن في نظم الآيات أن يؤتى باللفظ مفيدا للعام، و مقويا للخاص.
الترغيب في الوفاء، والترهيب من الخيانة :
معنى السؤال عن العهد
" إن العهد كان مسؤولا "
إذ كان مسؤول بمعنى مطلوب، أي مطلوب الوفاء به، فإنه مطلوب في الفطرة، و في الشريعة ؛ فالعباد فطروا على استحسان الوفاء، و مطالبة
تفسير بن باديس – م ( ١٠ )
بعضهم بعضا به، والشرع طالبهم بالوفاء وشرعه لهم، ووعدهم الثواب عليه – ففي قوله :" إن العهد كان مسؤولا " ترغيب لهم في الوفاء بحسنه و مشروعيته وحسن الجزاء عليه. و يتضمن هذا الترغيب التخويف من ترك المطلوب.
و إذا كان مسؤول بمعنى مسؤول عنه، فإن المعنى أن الله تعالى يسأل العباد يوم القيامة عن عهودهم : هل أوفوا بها ليجازيهم على الوفاء بحسن الجزاء، و على الخيانة بالعذاب و الإهانة ؟ فينصب لكل غادر لواء يوم القيامة، ويقال :" هذه غدرة فلان "، كما جاء في الصحيح. ففي الآية على هذا – أيضا – ترغيب وترهيب.
.
٢ سورة الاحقاف، الآية ١٥
.
٣ في حجة الوداع.
.
٤ وحسب المعتدين قوله تعالى: " إن اللذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا، و سيطلون سعيرا".
.
٥ فيجب الوفاء بكل شيء.
.
" و أوفوا الكيل إذا كلتم و زنوا بالقسطاس المستقيم، ذلك خير و أحسن تأويلا ".
المفردات واللغة
( إيفاء الكيل ) : إتمامه.
( والقسطاس ) : هو الآلة التي يحصل بها الإيفاء من المكيال و الميزان على تعدد أنواعهما.
( والمستقيم ) : الصحيح الذي لا عيب فيه مما يجعله غير صالح للوفاء بالعدل، ككسره أو اعوجاجه أو أي خلل في تركيبه.
( والخير ) : النافع. ( و التأويل ) : مصدر أول بمعنى رجع من آل يؤول أولا، بمعنى : رجع، و هو هنا المرجع و المآل، أي العاقبة.
وجه الارتباط
الأمر بإيفاء الكيل من موضوع ما قبله : في الأمر بحفظ الأموال و احترام الملكية.
والمكيلات والموزونات مورود عظيم للتعامل، ومعرضة تعريضا كبيرا للبخس، و التطفف، و أخذ مال الناس بالزيادة، أو بالتنقيص : إما بفعل الشخص، و إما بفساد الآلة. فأمر تعالى بإيفاء الكيل، و أمر باختيار الآلة الصالحة لذلك، و بين أن الوفاء يكون عند الكيل بقوله :" إذا كلتم "، على سبيل التأكيد حتى لا يتأخر الوفاء عن الكير، بأن يكمل ما نقص، أو يرد ما زاد، فإن الذي يفصل الحق، ويطيب النفوس هو الوفاء وقت الكيل.
الترغيب في إيفاء الكيل :
" ذلك خير و أحسن تأويلا " :
رغب الله تعالى في الإيفاء بوجهين :
الأول : أنه ( خير ) فيفيد العدل والحق، و أكل الحلال، و راحة البال. و فيه حصول الثقة التي هي رأس مال التاجر.
و فيه حفظ نظام التعامل الذي هو ضروري للحياة. وهذه كلها وجوه نفع وخير.
الثاني : أنه ( أحسن ) عاقبة.
عاجلا في نفس الشخص، و أخلاقه و في عرضه، و سمعته، وفي سلامته من المطالبات، والمنازعات.
و آجلا بحسن جزائه عند الله بما أعد للموفين من الأجر العظيم.
تركيب على هذا الترغيب :
هذان الوجهان١ اللذان رغب الله تعالى بهما في الوفاء – ينبغي للعاقل أن يجعلهما نصب عينيه في كل ما يتناوله و يعمله ؛ فيقتصر على ما هو خير ينفعه في الحال، وحسن العقبة بنفعه وعدم ضرره في المآل.
و الله يوفقنا إلى خير الأقوال و الأعمال، إنه الكريم الواسع النوال.
.
" و لا تقف ما ليس لك به علم، عن السمع والبصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ".
المناسبة :
العلم الصحيح، والخلق المتين، هما الأصلان اللذان ينبني عليهما كمال الإنسان، وبهما يضطلع بأعباء ما تضمنته الآيات المتقدمة، من أصول التكليف ؛ فهما أعظم مما تقدمهما من حيث توقفه عليهما. فجيء بهما بعده، ليكون الأسلوب من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى.
و لما كان العلم أساس الأخلاق قدمت آيته على آيتها تقديم الأصل على الفرع.
آية العلم :
المفردات والتراكيب :
( القفو ) : اتباع الأثر، تقول : قفوته أقفوه، إذا اتبعت أثره. والمتبع لأثر شخص موال في سيره لناحية قفاه ؛ فهو يتبعه دون علم بوجهة ذهابه، و لا نهاية سيره.
فالقفو : اتباع عن غير علم، فهو أخص من مطلق الاتباع، ولذلك اختيرت مادته هنا.
و لكونه اتباعا بغير علم، جاء في كلام العرب بمعني قول الباطل. قال جرير : وطال حذاري خيفة البين و النوى و أحدوثة من كاشح متقوف١
( والعلم )، إدراك جازم مطابق للواقع عن بينة، سواء أكانت تلك البينة حسا ومشاهدة، أو كانت برهانا عقليا : كدلالة الأثر على المؤثر، والصنعة على الصانع.
فإذا لم تبلغ البينة بالإدراك رتبة الجزم فهو ظن. هذا هو الأصل.
و يطلق العلم أيضا على ما يكاد يقارب الجزم و يضعف فيه احتمال النقيض جدا. كما قال تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام :
" وما شهدنا إلا بما علمنا و ما كنا للغيب حافظين " ٢. فسمى القرآن إدراكهم لما شاهدوا- علما ؛ لأنه إدراك كاد يبلغ الجزم لانبنائه على ظاهر الحال، و إن كان ثم احتمال خلافه في الباطن، لأنه احتمال ضعيف بالنسبة لما شاهدوه.
السمع
( والسمع ) : القوة التي تدرك بها الأصوات بآلة الأذن.
البصر
( والبصر ) : القوة التي تدرك بها الأشخاص و الألوان بآلة العين، وقدم السمع على البصر، لأنه به إدراك العلوم، وتعلم النطق فلا يقرأ و لا يكتب إلا من كان ذا سمع و قتا من حياته.
الفؤاد
( والفؤاد ) : القلب، والمراد به هنا العقل من حيث اعتقاده لشيء ما.
و إطلاق لفظ الفؤاد والقلب على العقل مجاز مشهور. وكان تفيد ثببوت خبرها لاسمها، ولكونها على صورة الماضي لا يدل على انقضاء ذلك الارتباط.
ومثل هذا التركيب يفيد في استعمال استحقاق الاسم للخير ؛ فالجوارح مستحقة للسؤال، ويكون ذلك بالفعل يوم القيامة.
( والمسؤول )، الموجه إليه السؤال ليجيب.
( وألئك ) إشارة إلى هذه الثلاثة. وضمير كان عائد على كل، وضمير ( عنه ) عائد على ما، وضمير مسؤولا عائد على ما عاد عليه ضمير كان.
و التقدير : كل واحد من هذه الثلاثة : السمع، والبصر، والفؤاد، كان مسؤولا عما ليس لك به علم.
العقل ميزة الإنسان و أداة عمله :
فضل الإنسان بعقله
يمتاز الحيوان عن الجماد بالإدراك، و يمتاز الإنسان عن سائر الحيوان بالعقل، و عقله هو القوة الروحية التي يكون بها التفكير.
و تفكيره هو نظره في معلوماته التي أدرك حقائقها، و أدرك نسب بعضها للبعض إيجابا و سلبا، وارتباط بعضها ببعض نفيا وثبوتا. و ترتيب تلك المعلومات بمقتضى ذلك الارتباط على صورة مخصوصة، ليتوصل بها إلى إدراك أمر مجهول.
فالتفكير اكتشاف المجهولات من طريق المعلومات، والمفكر مكتشف ما دام مفكرا.
ولما امتاز الإنسان عن سائر الحيوان بالعقل والتفكير – امتاز عنه بالتنقل والتحول في أطوار حياته، و نظم معيشته بمكتشفاته و مستنبطاته : فمن المشي على الأقدام، إلى التحليق في الجو، مثلا. و بقي سائر الحيوان على الحال التي خلق عليها دون أي انتقال.
فضل المسلمين على المدنية :
و بقدر ما تكثر معلومات الإنسان، ويصح إدراكه لحقائقها و لنسبها، ويستقيم تنظيمه لها – تكثر اكتشافاته واستنباطاته في عالمي المحسوس والمعقول، و قسمي العلوم و الآداب.
و هذا كما كان العرب والمسلمون أيام، بل قرون مدنيتهم : عربوا كتب الأمم إلى ما عندهم، ونظروا وصححوا و استدركوا واستكشفوا ؛ فأحيوا عصور علم من كانوا قبلهم، و أناروا بالعلم عصرهم، و مهدوا الطريق ووضعوا الأسس لما جاء بعدهم ؛ فأدوا لنوع الإنسان بالعلم والمدنية أعظم خدمة تؤديها له أمة في حالها و ماضيها ومستقبلها.
استفاد الغرب من العرب :
و كما نرى الغرب في مدنيته اليوم :
ترجم كتب المسلمين فعرف علوم الأمم الخالية التي حفظتها العربية و أدتها بأمانة.
و عرف علوم المسلمين و مكتشفاتهم، فجاء هو أيضا بمكتشفاته العجيبة التي هي ثمرة علوم الإنسانية من أيامها الأولى إلى عهده و ثمرة تفكيره و نظره فيها.
المكتشفات تتوالى بالتفكير :
و قد كانت مكتشفاته أكثر من مكتشفات جميع من تقدمه- كما كانت مكتشفات صدر هذا القرن أكثر من مكتشفات عجز القرن الماضي- لتكاثر المعلومات ؛ فإن المكتشفات تضم إلى المعلومات، فتكثر المعلومات، فيكثر ما يعقبها من المكتشفات على نسبة كثرتها.
و هكذا يكون كل قرن – ما دام التفكير عمالا- أكثر معلومات ومكتشفات من الذي قبله.
فإذا قلت معلوماته قلت اكتشافاته. وهذا كما كان النوع الإنساني في أطواره الأولى.
أثر الاهمال و الجهل :
و إذا كثرت معلوماته و أهمل النظر فيها.. بقي حيث هو جامدا، ثم لا يلبث أن تتلاشى من ذهنه تلك المعلومات المهملة حتى تقل أو تضمحل ؛ لأن المعلومات إذا لم تتعاهد بالنظر زالت من المحافظة شيئا فشيئا. وهذا هو طور الجمود الذي يصيب الأمم المتعلمة في أيامها الأخيرة، عندما تتوافر الأسباب العمرانية القاضية-بسنة الله – بسقوطها.
و إذا لم يصح إدراكه للحقائق، أو لنسبها، أو لم يستقم تنظيمه لها – كان ما يتوصل إليه بنظره خطأ في خطأ وفسادا في فساد. و لا ينشأ عن هذين إلا الضرر في المحسوس، والضلال في المعقول. و في هذين هلاك الفرد والنوع جزئيا وكليا من قريب أو من بعيد.
و هذا هو طور انحطاط الأمم، الانحطاط التام، وذلك عندما يرتفع منها العلم، و يفشو الجهل، و تنتشر فيها الفوضى بأنواعها، فتتخذ رؤوسا جهالا لأمور دينها و أمور دنياها، فيقودونها بغير علم، فيضلون و يضلون، و يهلكون ويهلكون، و يفسدون و لا يصلحون.
و ما أكثر هذا – على أخذه في الزوال بإذن الله – في أمم الشرق والإسلام اليوم.
العلم وحده الإمام المتبع في الحياة
في الأقوال والأفعال والاعتقادات :
ارتباطات السلوك بالتفكير
سلوك الإنسان في الحياة مرتبط بتفكيره ارتباطا وثيقا : يستقيم باستقامته و يعوج باعوجاجه، ويثمر بإثماره، ويعقم بعقمه، لأن أفعاله ناشئة عن اعتقاداته، و أقواله إعراب عن تلك الاعتقادات، و اعتقاداته ثمرة إدراكه الحاصل عن تفكيره ونظره.
مراتب الإدراك
و هذه الإدراكات الحاصل عن التفكير والنظر ليست على درجة واحدة في القوة والضعف : فمنها ما هو قوي معتبر، ومنها ما هو ضعيف ساقط عن الاعتبار
فالأول : العلم وهو إدراك أمر على وجه لا يحتمل أن يكون ذلك الأمر على وجه من الوجوه سواه، وهو علم الاعتبار.
و يليه الظن، وهو إدراك لأمر على وجه هو أرجح الوجوه المحتملة، وهو معتبر عندما تتبين قوة رجحانه فيما لا يمكن فيه إلا ذاك. و هذه هي الحالة التي يطلق عليه فيها لفظ العلم مجازا.
والثاني : الوهم، وهو إدراك الأمر على وجهين، أو وجوه متساوية في الاحتمال، و كلا هذين لا يعول عليه.
العلم ضابط كل شيء
ولما كان الإنسان – بما فطر عليه من الضعف و الاستعجال – كثيرا ما يبني أقواله و أفعاله و اعتقاداته على شكوكه و أوهامه، و على ظنونه حيث لا يكتفي بالظن، وفي هذا البناء الضرر و الضلال.. بين الله تعالى لعباده في محكم كتابه أنه لا يجوز لهم، و لا يصح منهم البناء لأقوالهم، وأعمالهم، واعتقاداتهم، إلا على إدراك واحد وهو العلم، فقال تعالى :
" ولا تقف ما ليس لك به علم " أي لا تتبع ما لا علم لك به فلا يكن منك اتباع بالقول، أو بالفعل، أو بالقلب، لما لا تعلم ؛ فنهانا عن أن نعتقد إلا عن علم أو نفعل إلا عن علم، أو نقول إلا عن علم.
العلم ضابط ما ترى :
فما كل ما نسمعه و ما كل ما نراه نطوي عليه عقد قلوبنا، بل علينا أن ننظر فيه، ونفكر، فإذا عرفناه عن بينة اعتقدناه، و إلا تركناه حيث هو، في دائرة الشكوك والأوهام، أو الظنون التي لا تعتبر.
و ما تسمع :
و لا كل ما نسمعه أو نراه أو نتخيله نقوله. فكفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع، كما جاء في الصحيح.
بل علينا أن نعرضه على محك الفكر ؛ فإن صرنا منه على علم قلناه، مراعين فيه آداب القول الشرعية، ومقتضيات الزمان، والمكان والحال، فقد أمرنا أن نحدث الناس، بما يفهمون – و ما حدث قوم بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان عليهم فتنة – و إلا طرحناه.
و ما تفعل :
ولا كل فعل ظهر لنا نفعله. بل حتى نعلم حكم الله٣ تعالى فيه، لنكون على بنية من خيره وشره، ونفعه وضره فما أمر تعالى إلا بما هو خير وصلاح لعباده، و ما نهى تعالى إلا عما هو شر و فساد لهم، أو مؤد إلى ذلك.
و إذا كان من المباحات نظرنا في نتائجه و عواقبه ووازنا بينهما، فإذا علمنا بعد هذا كله من أمر ذلك الفعل ما يقتضي فعله فعلناه، و إلا تركناه.
و أثر ذلك :
فلا تكون عقائدنا – إذا تمسكنا بهذا الأصل الإسلامي العظيم – إلا حقا.
و لا تكون أقوالنا إلا صدقا.
و لا تكون أفعالنا إلا سدادا.
أس البلاء :
و لعمر الله إنه ما دخل الضلال في عقائد الناس، ولا جرى الباطل والزور على ألسنتهم، ولا كان الفساد والشر في أفعالهم، إلا بإهمالهم، أو تساهلهم في هذا الأصل العظيم.
المعنى :
نهينا عن أن نتبع ما ليس لنا به علم، فالذي نتبعه هو ما لنا به علم ؛ أي لنا به علم يقتضي اتباعه ؛ بأن يكون من عقائد الحق، و أقوال الصدق، وأفعال السداد :
فأما ما كان من عقائد الحق في أمر الدين، أو في أمر الدنيا، فلا حظر في اعتقاد شيء منه.
و أما ما كان من أفعال السداد فكذلك.
ليس كل صدق يقال :
و أما ما كان من أقوال الصدق ففيه تفصيل : إذ ليس كل قول صادق يقال.
فالنقائص الشخصية في الإنسان لا تقال في غيبته : لأنها غيبة محرمة، و لإيجابه بها في حضوره لأنها أداة ؛ إلا إذا أوجبها على وجه النصيحة بشروطها المعتبرة، التي من أولها ألا تكون في الملأ.
و هكذا يحدث في مثل هذه الأصول الكلية عندما يتفقه فيها : أن ينظر فيما جاء من الآيات والأحاديث مما في البيان لها، والتفصيل في مفاهيمها.
تفريع :
الفرع الأول :
من اتبع ما ليس به علم فقد اعتقد الباطل في أمر الدين، أو في حق الناس، أو قال الباطل كذلك فيهما، أو فعل المحظور.. فهو آثم من جهتين :
( ١ ) اتباعه ما ليس له به علم. واعتقاده أو قوله للباطل وفعله للمحظور.
ومن اعتقد حقا من غير علم، أو قال في الناس صدقا عن غير علم، أو فعل غير محظور عن غير علم فإنه – مع ذلك – آثم من جهة واحدة، وهي اتباعه ما ليس له به علم، ومخالفته لمقتضى هذا النهي.
الفرع الثاني :
حكم المقلد
المقلد في العقائد الذي لا دليل عنده أصلا، و إنما يقول : سمعت الناس يقولون فقلت. هذا آثم لاتباعه ما ليس له به علم. فأما إذا كان عنده دليل إجمالي كاستدلاله بوجود المخلوق على وجود خالقه فقد خرج من الإثم، لتحصيل هذا الاستدلال له العلم.
و المقلد في الفروع دون علم بأدلتها متبع لمفتيه فيها، يصدق عليه باعتبار ا
وحذاري : حذري. والبين والنوى : البعد والفراق. والكاشح المتفوق : المتقول بالباطل.
.
٢ سورة يوسف. الآية ٨٢.
.
٣ أي بعرض كل على كتاب الله و سنة رسوله، ليقولا رأي الحكيم الخبير فيه، لا أن نرى ذلك و نقوله ونفعله، ثم نلتمس له الفتوى من القرآن و السنة قهرا وقسرا.
.
" ولا تمش في الأرض مرحا، إنك لن تخرق الأرض و لن تبلغ الجبال طولا.
كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها.
ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة و لا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ".
المفردات والتراكيب :
( المرح ) : مشية فيها خفة ونشاط واختيال، ناشئة عن شدة فرح بالنفس.
تقول العرب : أمرح الكلأ الفرس فمرح فهو فرس مرح وممراح، إذا شبع فأخذ يمشي بخفة و نشاط واختيال. ويقال : مرح الرجل إذا اختال في مشيته و نظر في عطفيه، ولا يكون ذلك إلا لفرحه بنفسه و إعجابه بها.
( وخرق الأرض ) : ثقبها.
( والطول ) : ارتفاع القامة.
اللغة :
نصب مرحا بتمش ؛ لأنه متضمن له تضمن الكلي لجزئيه ؛ إذ المرح جزئي من جزئيات المشي ؛ فكأنه قال : لا تمرح مرحا. و نظيره قول الشاعر :
يعجبه السخون والبرود و التمر حبا ما له مزيد فنصب حبا بيعجب ؛ لأن الإعجاب متضمن للحب.
أو نصب على أنه حال كجاءني زيد ركضا.
ونصب طولا على أنه تمييز، أي من جهة الطول. والتقدير : ولن يبلغ طول الجبال.
المعنى :
حب النفس سبب العجب
حب الإنسان لنفسه غريزة فيه، و ذلك يحمله على الإعجاب والفرح بها، و بكل ما يصدر عنها. ويستخفه ذلك حتى يتركه يمشي بين الناس مختالا متبخترا‘ و هذه هي مشية المرح التي نهى الله تعالى في هذه الآية عنها.
و لما كانت هي فرعا عن الإعجاب بالنفس والفرح بها، فالنهي منصب على أصلها كما انصب عليها.
لطيفة في الدواء :
و لما كانت هذه العلة ناشئة عن علة العجب، أعقب الله تعالى بيان الداء الذي نهى بذكر الدواء الذي يقلعه من أصله، فقال تعالى :
" إنك لن تخرق الأرض و لن تبلغ الجبال طولا ". فذكر الإنسان بضعفه بين مخلوقين عظيمين من فوقه ومن تحته، فإذا ضرب برجليه الأرض في مرحه فهو لا يستطيع خرقها، و إذا تطاول بعنقه في اختياله فهو لن يبلغ طول الجبال، فقد أحاط به العجز من ناحيته.
و ذكر الإنسان لضعفه و عجزه أنجع دواء لمرض إعجابه بنفسه.
نعمن الإنسان أعظم من الأرض والجبال بعقله، و لكنه لو سار على نور عقله لما مشى في الأرض مرحا، لأن عقله يبصره بعيوب نفسه، و نقائص بشريته، فلا يدعه يعجب فلا يكون من المرحين، فما مرح إلا وهو محروم من نور العقل مفتون بمادة الجسم، فذكر بضعف هذا الجسم وصغارته.
العجب أصل الهلاك :
الإنسان بأخلاقه :
إذا أعجب المرء بنفسه عمي عن نقائصها، فلا يسعى في إزالتها، و لهى عن الفضائل فلا يسعى في اكتسابها ؛ فعاش ولا أخلاق له، مصدرا لكل شر، بعيدا عن كل خير.
و عن العجب بالنفس ينشأ الكبر على الناس، والاحتقار لهم، ومن احتقر الناس لم يرد لهم حقا، ولم يعتقد لهم حرمة، ولم يراقب فيهم إلا و لا ذمة، وكان عليهم – مثل ما كان على نفسه- أظلم الظالمين.
هلاك إبليس لعجبه :
و إبليس اللعين – نعوذ بالله تعالى منه – كان أصل هلاكه، من عجبه بنفسه، و أنه خلق من النار، وأنه خير من آدم فتكبر عليه فكان من الظالمين الهالكين.
ترك العجب في حسن وكمال الأخلاق :
تربية النفوس تكون بالتخلية عن الرذائل، والتحلية بالفضائل.
و العجب هو أساس الرذائل، فأول الترك تركه.
وهو المانع من اكتساب الفضائل فشرط وجودها تركه كذلك.
و من لم يكن معجبا بنفسه، كان بمدرجة التخلق بمحاسن الأخلاق و التنزه عن نقائصها، لأن الإنسان مجبول على محبة الكمال و كراهة النقص، فإذا سلم من العجب فإن تلك الجبلة تدعوه إلى ذلك التخلق والتنزه، فإذا نبه على نقصه لم تأخذه العزة، و إذا رغب في الكمال كانت له إليه هزة، فلا يزال بين التذكيرات الإلهية، والجبلة الإنسانية الخلقية، يتهذب، و يتشذب، حتى يبلغ ما قدر له من كمال.
و لهذه المعاني التي تتصل بتفسير هذه الآية الكريمة – و هي أصول في علم الأخلاق – عنونا عليها بآية الأخلاق.
تأكيد الأوامر والنواهي المتقدمة بطريق الإيجاز :
.
المناسبة :
إن الغاية التي يسعى إليها كل عاقل هي السعادة الحقة، و إن التكاليف الإسلامية كلها شرعت لسوقه إليها ؛ و لما كانت أصولها قد تضمنتها الآيات السابقة أمرا ونهيا بطريق الإطناب والتفصيل ؛ أعيد الحديث عنها في هذه الآية بطريقة الإيجاز و الإجمال، قصدا للتأكيد و تقرير هذه الأصول العظيمة في النفوس، مع اشتمال هذه الآية الموجزة على ما لم يشتمل عليه ما تقدمها. وهذا من بديع التأكيد، لاشتماله على السابق مع شيء جديد.
المفردات والتراكيب :
( السيء ) : هو القبيح، والقبائح المنهي عنها فيما تقدم قبيحة لذاتها، ولنهي الله تعالى عنها.
( والمكروه ) هو المبغوض المسخوط عليه، و هو ضد المحبوب المرضي عنه.
والمحاسن محبوبة لله أمر بها ويثيب عليها و يرضى على فاعلها، و المقابح مبغوضة له تعالى، نهى عنها، ويعاقب عليها، و يسخط على مرتكبها.
و ليس المكروه بمعنى عدم المراد، لأنه لا يكون في ملكه تعالى ما لا يريد، وما تشاءون إلا أن يشاء الله.
و ليس بمعنى المنهي عنه نهيا غير جازم١ لأن ذلك اصطلاح فقهي حادث بعد نزول القرآن، والقرآن لا يفسر الحادثة بالاصطلاحات٢.
توجيه القراءات :
( ذلك ) : إشارة إلى جميع ما تقدم من المأمورات والمنهيات على قراءة ( سيئة ) فالمكروه هو سيء ما تقدم، وهو القبائح المنهي عنها.
أو إشارة إلى خصوص القبائح على قراءة :( سيئة ).
( و مكروها ) : خبر كان على القراءة الأولى، وخبر ثان على القراءة الثانية.
و تقدير الكلام على القراءة الأولى :
كل ذلك المذكور كان سيئه – وهو المنهيات – مكروها عند ربك.
ومفهومه :٣أن حسنه – وهو المأمورات – محبوب عنده.
وعلى الثانية كل ذلك المنهي عنه كان سيئه مكروها عند ربك. ومفهومه :
أن المأمور به حسن عنده.
المعنى :
عرف تعالى عباده في هذه الآية بمنطوقها ومفهومها – على ما تقدم في التقرير- أن ما أمرهم هو الحسن المحبوب، و أن ما نهاهم عنه هو القبيح المبغوض.
فعلموا من ذلك أن أوامر الشرع و نواهيه هي على مقتضى العقل الصحيح و الفطرة السليمة، و أنه – تعالى- لا يأمر بقبيح و لا ينهى عن حسن.
و في علمهم بهذا ما يحملهم على الامتثال ويرغبهم فيه. فإن الحسن تميل إليه النفوس، والقبيح تنفر منه.
و في قوله تعالى :" عند ربك " غاية الترغيب في الحسن والتنفير من القبيح، فإن الحسن جد الحسن ما كان حسنا عند الله تعالى، والقبيح جد القبيح ما كان قبيحا عنده. و في اسم الرب تنبيه على أن العلم بالحسن والقبيح على وجه التفصيل والتدقيق – حتى يكون المأمور به حسنا قطعا، والمنهي عنه قبيحا قطعا – إنما هو له تعالى. و أن أوامره ونواهيه – تعالى – الجارية على مقتضى ذلك هي من مقتضى ربوبيته – تعالى – و تدبيره لخلقه.
.
٢ أي التي تحدث بعد ذلك.
.
٣ المنطوق، هو ما دل عليه اللفظ في محل النطق، صراحة ولزوما. والمفهوم ما دل عليه اللفظ لا من محل النطق، وهو قسمان : مفهوم موافقة ومخالفة.
.
" ذلك مما أوحي إليك ربك من الحكمة " :
المناسبة
لما بينت الأصول تمام البيان، و قررت غاية التقرير – جاءت هذه الآية للتنويه بها لحث العباد على تحصيل ما فيها من علم، والتحلي بما دعت إليه من عمل.
المفردات والتراكيب
الحكمة هي العلم الصحيح، والعمل المتقن المبني على ذلك العلم.
وقال مالك بن أنس رضي الله عنه :" هي الفقه في دين الله والعمل به ".
و القرآن حكمة لدلالته على ذلك كله.
( ذلك ) : إشارة إلى ما تضمنته الآيات المتقدمة من قوله تعالى :" لا تجعل مع الله إله آخر " ومن في " مما " تبعيضية. ومن في " من الحكمة "
بيانية، مجرورها بين المبهم، وهو ما في قوله " مما ". والتقدير : ذلك الذي تقدم بعض الحكمة التي أوحاها إليك ربك.
المعنى :
هذا ضرب آخر من تأكيد العمل بما تقدم، والترغيب فيه : فبين تعالى أن ما تضمنته الآيات المتقدمة كله حكمة، فالمتحقق بما فيها من علم، والمتحلي بما حثت عليه من أعمال، هو الحكيم الذي كمل من جهته العلمية وجهته العملية، وتلك أعلى رتب الكمال للإنسان.
و في ذكر أنها بعض من كل.
تنبيه على جلالة كلها، وهو عموم ما أوحى الله تعالى إلى نبيه – صلى الله عليه وآله وسلم.
و تنبيه أيضا على أن شرح هذه الأصول فيما أفادته من علم وعمل، والتفقه فيها يرجع فيه إلى الوحي، ويعتمد في ذلك على بيانه.
و فيه بيان أن الوحي هو المرجع الوحيد لبيان دين الله تعالى وشرعه، وما أنزله لعباده من الحكمة، وذلك الوحي هو القرآن العظيم، وسنة النبي صلى الله عليه و آله وسلم، الذي أرسل ليبين للناس ما نزل إليهم.
ختام الآيات :
" ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ".
المناسبة :
لما كانت هذه الآيات في أصول الهداية، و أساس الهداية و شرطها هو التوحيد : ختمت الآيات بالنهي عن الشرك كما بدأت به.
المفردات والتراكيب :
( الإلقاء ) : هو الطرح :
( والملوم ) : هو الذي يقال له لم فعلت القبيح ؟ وما حملك عليه ؟ و نحو هذا..
( والمدحور ) : المبعد. وانتصابا١على الحال.
المعنى :
نهى تعالى عن الشرك : و أن يعبد معه سواه، فالعبادة بالقلب واللسان والجوارح لا تكون إلا له.
و كما حذر في فاتحة الآيات بقعود المشرك في الدنيا مذموما بالشرك الذي ارتكبه مخذولا لا ناصر له – كذلك حذر هنا بمآل المشرك في آخرته، بإلقائه في جهنم، ملوما عل ما قدم، مطرودا مبعدا في دركات الجحيم.
نظرة عامة في الآيات المتقدمة :
الحاصل :
قد تضمنت هذه الآيات على قلتها : الأصول : التي عليها تتوقف حياة النوع البشري وسعادته :
من حفظ النفوس والعقول، :" و لا تقف ما ليس لك به علم... "
الأنساب، والأموال، والحقوق، " و أوفوا بالعهد... " " و أوفوا الكيل.. "
و الأعراض :" ولا تقربوا الزنا... "، " و لاتقف... "
والدين الذي هو عمدة ذلك كله وفي حفظه حفظ لجميعها.
البدء والختام :
و في افتتاح الآيات بقوله تعالى :
" لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا ". وختمها بقوله تعالى :" ولا تجعل مع الله إلها آخر، فتلقى في جهنم ملوما مدحورا "، بيان من الله تعالى لخلقه، بأن الدين هو أصل هذه الكمالات كلها، وهو سياج وقيتها، وسور حفظها، و إن التوحيد هو ملاك الأعمال وقوامها، ومنه بدايتها و إليه نهايتها٢.
و كذلك المسلم الموفق يبتدي حياته بكلمة التوحيد حتى يموت عليها.
فالله نسأل – كما من علينا بها في البداية – أن يمن علينا بها في النهاية.
الله هذا لنا، وللمسلمين أجمعين.
٢ و من ثم فثلاثة عشرة سنة في مكة، كان الرسول – صلى الله عليه و آله وسلم – يدعو فيها الناس إلى الإيمان، و إلى التوحيد، ولم تكن عبثا؛ إذ هو أساس الدين كله.
.
" وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن، إن الشيطان ينزغ بينهم، إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا.
ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم، أو إن يشأ يعذبكم و ما أرسلناك عليهم وكيلا "
( سورة الإسراء. الآيتان ٥٣، ٥٤ ).
تمهيد :
اللسان وخطره :
اللسان أداة البيان، وترجمان القلب والوجدان.
والكلام به يتعارف الناس ويتقاربون، و به يتحاجون ويتفاضلون، ولولاه لما ظهرت ثمرات العقول والمدارك، ولما تلاحقت الأفكار والمشاعر، ولما تزايدت العلوم والمعارف، ولما ترقى الإنسان في درجات أنواع الكمالات، ولما امتاز على بقية الحيوانات.
فهو رابطة أفراد النوع الإنساني وعشائره و أممه. وبريد عقله وواسطة تفاهمه.
فإذا حسن قويت روابط الألفة، وتمكنت أسباب المحبة، وامتد رواق السلام بين الأفراد والعشائر و الأمم. وتقاربت العقول والقلوب بالتفاهم، وتشابكت الأيدي في التعاون والتآزر.
و يعني العالم من وراء ذلك تقرر الأمن واطراد العمران.
و إذا قبح كان الحال على ضد ذلك :
فالكلام السيء قاطع لأواصر الأخوة، باعث على البغضاء والنفرة، يبعد بين العقول فتحرم الاسترشاد و الاستعداد والتعاون. وبين القلوب فتفقد عواطف المحبة وحنان الرحمة، وهما أشرف ما تتحلى به القلوب، وإذا بطلت الرحمة والمحبة بطلت الألفة والتعاون، وحلت القساوة والعداوة، وتبعهما التخاصم والتقاتل.
و في ذلك كل الشر لأبناء البشر.
القول الحسن :
فالمحصل للناس سعادتهم وسلامتهم، والمبعد لهم عن شقاوتهم وهلاكهم – هو القول الحسن :
ولهذا أمر الله تعالى نبيه – صلى الله عليه و آله وسلم – أن يرشد العباد إلى قول التي هي أحسن، فقال تعالى :" وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ".
( والعباد المأمورون هنا هم المؤمنون لوجهين :
الأول : أنهم أضيفوا إليه وهذه إضافة شرف لا يكون إلا للمؤمنين به.
الثاني : أن الذين يخاطبون بهذا الإرشاد و يكون منهم الامتثال إنما هم من حصلوا أصل الإيمان.
التي هي أحسن و مواطنها :
( والتي هي أحسن ) هي الكلمة الطبية، والمقالة التي هي أحسن من غيرها.
فيعم ذلك.
ما يكون من الكلام في التخاطب العادي بين الناس، حتى ينادي بعضهم بعضا بأحب الأسماء إليه١.
و ما يكون من البيان العلمي فيختار أسهل العبارات و أقربها للفهم حتى لا يحدث الناس بما لا يفهمون، فيكون عليهم حديثه فتنة و بلاء.
و ما يكون من الكلام في مقام التنازع والخصام فيقتصر على ما يوصله إلى حقه في حدود الموضوع المتنازع فيه، دون أذاية لخصمه، ولا تعرض لشأن من شؤونه الخاصة به٢.
وما يكون من باب إقامة الحجة وعرض الأدلة، فيسوقها بأجلى عبارة و أوقعها في النفس، خالية من السب والقدح، ومن الغمز والتعرض، ومن أدنى تلميح إلى شيء قبيح.
عموم الأمر :
و هذا يطالب به المؤمنون سواء كان ذلك فيما بينهم، أو بينهم وبين غيرهم.
و قد جاء في الصحيح :" أن رهطا من اليهود دخلوا على النبي – صلى الله عليه و آله وسلم –
فقالوا : السام عليكم٣ ففهمتها عائشة – رضي الله عنها – فقالت : و عليكم السام واللعنة. فقال لها رسول الله – صلى الله عليه و آله وسلم - : مهلا يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله. فقالت : ألم تسمع ما قالوا ؟ فقال : قد قلت : وعليكم ".
فكان الرد عليهم بمثل قولهم بأسلوب العطف على كلامهم، وهو قوله و عليكم، أحسن من الرد عليهم باللعنة. فقال – صلى الله عليه و آله وسلم- القولة التي هي أحسن، وهذا أدب الإسلام للمسلمين مع جميع الناس.
و أفاد قوله تعالى :" أحسن " بصيغة اسم التفضيل أن علينا أن نتخير في العبارات الحسنة، فننتقي أحسنها في جميع ما تقدم من أنواع مواقع الكلام.
خطر الكلمة :
فحاصل هذا التأديب الرباني هو اجتناب الكلام السيء جملة، و الاقتصار على الحسن، وانتقاء واختيار الأحسن من بين ذلك الحسن. وهذا يستلزم استعمال العقل و الروية عند كل كلمة تقال٤، ولو كلمة واحدة :
فرب كلمة واحدة أوقدت حربا، و أهلكت شعبا، أو شعوبا.
و رب كلمة واحدة أنزلت أمنا و أنقذت أمة أو أمما.
و قد بين لنا النبي – صلى الله عليه و آله وسلم – مكانة الكلمة الواحدة من الأثر في قوله :" الكلمة الطيبة صدقة، واتقوا النار و لو بكلمة طيبة ".
ضرورة الأدب الإسلامي :
و هذا الأدب الإسلامي – و هو التروي عند القول، واجتناب السيء
واختيار الأحسن – ضروري لسعادة العباد وهنائهم. و ما كثرت الخلافات وتشعبت الخصومات وتنافرت المشارب، وتباعدت المذاهب حتى صار المسلم عدو المسلم.
و النبي صلى الله عليه و آله وسلم يقول - :" المسلم أخو المسلم " – إلا بتركهم هذا الأدب، وتركهم للتروي عند القول والتعمد السيء، بل للأسوأ في بعض الأحيان.
التحذير من كيد العدو الفتان :
" إن الشيطان ينزغ بينهم، إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا "
( نزغ الشيطان ) وسوسته ليهيج الشر والفساد. وعداوته باعتقاده البغيض، و سعيه في جلب الشر والضر. و إبانته لعداوته بإعلانه لها كما علمنا القرآن.
كيف ينزغ الشيطان :
وهو يلقي للإنسان كلمة الشر والسوء، و يهيج غضبه ليقولها، و يهيج السامع ليقول مثلها، وهكذا حتى يشتد المراء ويقع الشر والفساد.
ولون آخر من نزغه، و هو أنه يحسن للمرء قول الكلمة التي يكون فيها احتمال السوء، ويلح عليها في قولها، ويبالغ في تحسين الوجه السالم منه، وفي تهوين أمر وجهها القبيح - حتى يقولها.
فإذا قالها عاد لسماعه بالنزغ يطمس عنه الوجه السالم منهان ويكبر له الوجه القبيح، ولا يزال به يثير نخوته، ويهيج غضبه، حتى يثور فيقع الشر والفساد بينه وبين صاحبه.
فحذر الله تعالى عباده من كيده حتى يحترسوا منه إذا تكلموا، وإذا سمعوا فيتباعدون عما فيه احتمال السوء، فضلا عن صريحه و يحملون الكلام على وجهه الحسن عند احتماله له، و يتجاوزون عن سيئة الصريح ما أمكن التجاوز، المحاسنة على الحال والظاهر والتفويض إلى الله تعالى
.
٢ و الرسول صلى الله عليه و آله وسلم دعا بالرحمة لرجل سهل إذا باع أو اشترى أو قضى أو اقتضى.
.
٣ والسام، هو الموت.
.
٤ و رب كلمة حق يرفع الله بها الدرجات، ورب كلمة سوء تهوي بصاحبها في الدركات.
.
" ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم، أو إن يشأ يعذبكم، وما أرسلناك عليهم وكيلا ".
وجادلهم بالتي هي أحسن :
أقوى الأحوال مظنة لكلمة السوء هي حالة المناظرة والمجادلة.
و أقرب ما تكون إلى ذلك إذا كان الجدال في أمر الدين والعقيدة، فما أكثر ما يضلل بعض بعضا أو يفسقه أو يكفره، فيكون ذلك سببا لزيادة شقة الخلاف اتساعا، وتمسك كل برأيه و نفوره من قول خصمه. دع ما يكون عن ذلك من البغض والشر.
فذكر الله تعالى عباده بأنه هو العالم ببواطن خلقه و سرائرهم وعواقب أمرهم، فيرحم من يشاء، و يعذب من يشاء، بحكمته وعدله :
فلا يقطع لأحد بأنه من أهل النار لجهل العاقبة سواء كان من أهل الكفر، أو كان من أهل الفسق، أو كان من أهل الابتداع١.
كما لا يقطع لأحد بالجنة كذلك، إلا من جاء النص بهم٢.
من أدب الجدال :
فلا يقال للكافر عند دعوته أو مجادلته : إنك من أهل النار٣، ولكن تذكر الأدلة على بطلان الكفر، وسوء عاقبته.
و لا يقال للمبتدع : يا ضال٤، وإنما تبين البدعة وقبحها.
و لا يقال لمرتكب الكبيرة٥ : يا فاسق، ولكن يبين قبح تلك الكبيرة و ضررها وعظم إثمها.
فتقبح القبائح و الرذائل في نفسها، وتجتذب أشخاص مرتكبها٦.
إذ رب شخص هو اليوم من أهل الكفر و الضلال تكون تكون عاقبته إلى الخير والكمال. ورب شخص هو اليوم من أهل الإيمان ينقلب – والعياذ بالله تعالى – على عقبه في هاوية الوبال.
و إن عليك إلا البلاغ :
و خاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه و آله وسلم : إنه لم يرسله وكيلا على الخلق، حفيظا عليهم، كفيلا بأعمالهم.
فما عليه إلا تبليغ الدعوة، ونصرة الحق بالحق. والهداية والدلالة، إلى دين الله، و صراطه المستقيم.
خاطبه بهذا ليؤكد لخلقه ما أمرهم به، من قول التي هي أحسن للموافق والمخالف.
تفسير ابن باديس – م ( ١٢ )
فلا يحملنهم بغض الكفر و المعصية على السوء في القول لأهلها ؟ فإنما عليهم تبليغ الحق كما بلغه نبيهم صلى الله عليه و آله وسلم.
و لن يكون أحد أحرص منه على تبليغه ؛ فحسبهم أن يكونوا على سنة وهديه.
أحيانا الله عليهما، و أماتنا عليهما، و حشرنا في زمرة أهلهما. آمين.
و قد يعمل الرجل بعمل أهل النار حتى يكون بينه وبينها ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيكون من أهل الجنة | كما حكى حديث الرسول صلى الله عليه و آله وسلم، فسبحان مقلب القلوب، وهو الغفور الرحيم. |
٢ كالمبشرين بالجنة أو اهل بدر، والشهداء في سبيل الله..
٣ إذ ربما أهاجه ذلك فيزداد في طغيانه وكفره،
.
٤ إذ ربما أهاجه ذلك فيزداد في طغيانه وكفره،.
٥ وذلك من أدب الدعوة.
.
٦ كما ذكر في هامش ١..
من دعا غير الله، فقد عبد ما دعاه وهو في عبادته من الخاسرين.
" قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا.
أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، و يرجون رحمته، ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محذورا ".
المفردات :
( الدعاء ) : هو النداء لطلب شيء من المدعو، ولذلك لا يدعو إلا العاقل، أو ما نزل منزلته مجازا من الجمادات، أو ما كان له فهم لبعض الأصوات من العجماوات.
و إذا كان لشيء معظم، ليطلب منه ما هو وراء الأسباب العادية، وفوق الطاقة البشرية، فهو عبادة. ولا يكون إلا من المخلوق لخالقه، وإذا لم يكن كذلك فهو عادة، و هو دعاء المخلوقين بعضهم بعضا لغرض من الأغراض.
و( الزعم ) القول بغير دليل.
( ومن دونه ) أي غيره. ( والملك ) الاستلاء على الشيء، والتمكن من التصرف فيه.
( وكشف الضرر ) : إزالته.
( ولا تحويلا ) : نقلا له إلى شخص آخر.
التراكيب :
أمر بالدعاء لتوقيفهم على خيبتهم فيه بظهور عجز من يدعون. وحذف مفعولا زعم، والتقدير : زعمتموهم آلهة ؛ للعلم بهما ؛ لأنهم ما دعوهم إلا كونهم آلهة في زعمهم.
( ولا يملكون ) وقع بعد الفاء ولم يجزم في جواب الأمر ؛ لأنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره فهم لا يملكون، وهذا لأن الفاء قصد بها العطف، ولم يقصد بها السببية، و لا يصح أن تقصد بها السببية – لأن ذلك يقتضي أن يكون عدم ملكهم متسببا عن الدعاء، مثلها في قول الشاعر :
رب وفقني فلا أعدل عن سنن الساعين في خير سنن
فإن عدم العدول متسبب عن التوفيق.
وليس كذلك الأمر في هذه الآية ؛ فإن عدم ملكهم متحقق، سواء دعوا أم لم يدعوا.
فلذلك امتنع النصب ووجب الرفع على التقدير المتقدم.
المعنى :
قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك – الذين اتخذوا آلهة من دون الله فعبدوها - : ادعوا معبوداتكم هذه التي زعمتموها آلهة من دون الله، عندما ينزل بكم الضر، وانظروا :
هل تستطيع تلك المعبودات الباطلة أن تكشف و تزيل عنكم ذلك ؟
أو أن تحوله عنكم إلى غيركم ؟ فإنكم تجدونها عاجزة عن ذلك غير قادرة على شيء منه.
و إنما يقدر على ذلك الإله الحق، و هو الله الذي خلقها وخلقكم، فاعبدوه هو، و أقلعوا عن عبادة ودعاء ما سواه.
الأحكام :
تدل الآية على أن دعاء غير الله – تعالى – لدفع الضر، ومثله جلب النفع، عبادة للمدعو :
من الإشراك بالله دعوة غيره فإن المشركين كانوا يتعبدون لآلهتهم بهذا الدعاء، الذي نهاهم الله تعالى عنه ببيان خيبتهم فيه، ووقوعه في غير محله.
وتسمية الدعاء عبادة ثابتة لغة وشرعا بغير دليل :
منها حديث النعمان بن بشير عند أحمد و أصحاب السنن مرفوعا :" الدعاء هو العبادة ".
و حديث أنس عند الترمذي مرفوعا :" الدعاء مخ العبادة ".
وهذا لأن العبادة هي الخضوع والتذلل، لمن بيده الخلق والتصرف، و العطاء والمنع. ومظهر هذا الخضوع والتذلل هو الدعاء لدفع الضر، أو جلب النفع، فلذلك عبر عنه في الحديث الأول بأنه هو العبادة، أي معظمها.
وفي الثاني بأنه مخ العبادة أي خالصها.
الدعاء لله :
ودلت الآية أيضا على أنه لا يجوز دعاء غير الله من المخلوقين، أي مخلوق كان لدفع ضر، ومثله جلب نفع ؛ لأن الآية نعت على المشركين دعاءهم من لا يملك كشف الضر ولا تحويله، وهذا أمر يشترك فيه جميع المخلوقين، فلا مخلوق يستطيع كشف الضر أو تحويله عن نفسه ولا عن غيره.
فلا مخلوق يجوز دعاؤه.
النافع الضار هو الله :
ودلت على أن كشف الضر أو تحويله – ومثله جلب النفع – إنما هو للمعبود الحق، لأن الآية استدلت عليهم في مقام الأمر بتوحيد الله بالعبادة بانتفاء ملك كشف الضر أو تحويله عن غير الله، فأفاد ذلك قصر هذا التصرف عليه تعالى وحده.
استنتاج :
حكم من دعا غير الله :
لما ثبت شرعا، أن الدعاء عبادة – فمن دعا شيئا فقد عبده ولو كان هو لا يسمي دعاءه عبادة – جهلا منه، أو عنادا - ؛ لأن العبرة بتسمية الشرع واعتباره لا بتسمية المكلف واعتباره.
ألا ترى لو أن شخصا قام للصلاة بدون وضوء مستحلا لذلك، فلما أنكرنا عليه قال : إنني لا أعتبر هذه الأفعال و الأقوال عبادة، و لا أسميها صلاة. أترى ذلك يجيز فعله، ويدفع عنه تبعته ؟ ؟ كلا ! !و لا خلاف في ذلك بين المسلمين.
بل قد حكموا بردته إن كان يفعل ذلك و يراه حلالا، لأنه يكون قد أنكر معلوما من الدين بالضرورة.
فالداعي لغير الله تعالى يطلب منه قضاء حوائجه، قد عبد من دعاه و إن لم يعتبر دعاءه عبادة، لأن الله قد سماه عبادة.
و إذا استمر على فعله ذلك مستحلا له بعدم تعليمه و إرشاده، يكون قد أنكر معلوما من الدين بالضرورة، وهو أن العبادة – والدعاء منها – لا تكون إلا لله فيحكم بردته، نظير مستحل الصلاة بلا وضوء، بلا فارق.
تطبيق :
إذ علمت هذه الأحكام، فانظر إلى حالتنا معشر المسلمين الجزائريين، و غير الجزائريين تجد السواد الأعظم من عامتنا غارقا في هذا الضلال :
فتراهم يدعون من يعتقدون فيهم الصلاح من الأحياء والأموات، يسألونهم حوائجهم من دفع الضر، وجلب النفع، وتيسير الرزق، وإعطاء النسل، وإنزال الغيث، وغير ذلك مما يسألون.
و يذهبون إلى الأضرحة التي شيدت عليها القباب، أو ظلمت بها المساجد فيدعون من فيها، ويدقون قبورهم، وينذرون لهم. ويستشيرون حميتهم، بأنهم خدامهم و أتباعهم، فكيف يتركونهم ؟ ؟ و قد يهددونهم بقطع الزيارة، وحبس النزور.
و تراهم في ذل وخشوع و توجه، قد لا يكون في صلاة من يصلي منهم ! !
فأعمالهم هذه من دعائهم، وتوجههم كلها عبادة لأولئك المدعوين، و إن لم يعتقدوها عبادة، إذ العبرة باعتبار الشرع، لا باعتبارهم.
فيا حسرتنا على أنفسنا كيف لبسنا الدين لباسا مقلوبا، حتى أصبحنا في هذه الحالة السيئة من الضلال.
تحذير و إرشاد :
فليحذر قراؤنا من أن يتوجهوا بشيء من دعائهم لغير الله، وليحذروا غيرهم منه.
ولينشروا هذه الحقائق بين إخوانهم المسلمين، بما استطاعوا، عسى أن يتنبه الغافل، ويتعلم الجاهل، ويقلع الضالون عن ضلالهم، و لو بطريق التدريج ؛ وبذلك يكون قراؤنا قد أدوا أمانة العلم، وقاموا بفريضة النصح، و خدموا الإسلام والمسلمين.
" أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة، أيهم أقرب، و يرجون رحمته و يخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محذورا ".
المفردات والتراكيب :
( يبتغون ) يطلبون باعتناء واهتمام.
( الوسيلة ) سبب الوصول إلى البغية، و القرب من المطلوب، والوسيلة الموصلة إلى الله هي عبادته وطاعته بامتثال أوامره ونواهيه، والتزام محارمه و اجتناب مكارهه، و هذا المعنى هو المراد هنا.
( أقرب ) أي في المكانة والمنزلة.
( يرجون رحمته ) ينتظرون إنعاماته لافتقارهم إليه.
( ويخافون عذابه ) يخشون عقوبته وانتقامه ؛ لعلمهم بقوته وسلطانه، وقصورهم عن القيام بجميع واجب حقه.
( محذورا )، مخفيا متحرزا منه.
( أولئك ) إشارة إلى المعبودين الذين وصفهم.
( و يدعون ) : ضميره للداعين، و أصله يدعونهم يبتغون خير أولئك.
( أيهم )، اسم موصول مضاف إلى ضمير المبتغين، وهو بدل بعض من كل من الواو في يبتغون.
( و أقرب ) : خبر مبتدأ محذوف تقديره ( هو ) والجملة صلة الموصول.
و يحتمل أن يكون أيهم استفهاما مبتدأ و أقرب خبر. وتقدير الكلام : ينظرون أيهم أقرب.
سبب نزول الآية :
قال ابن مسعود رضي الله عنه : هي في نفر من الإنس، كانوا يعبدون نفرا من الجن، فأسلم الجن، و بقي الإنس، على عبادتهم. ١
و جاء عنه و عن غيره٢ : أنها في الذين كانوا يعبدون الملائكة من العرب.
المعنى :
على الإعراب الثاني٣
[ أولئك الجن و الملائكة الذين يدعوهم هؤلاء المشركون أربابا قد أسلموا ؛ فصاروا من عباد الله المؤمنين، يطلبون أسباب الزلفة والقرب عند ربهم، ينظرون من هو الذي يكون منهم أقرب مكانة باجتهاده وصالح عمله.
وعلى الأعراب الأول :٤
يطلب الذي هو أقرب منهم أسباب الزلفة٥ عند الله، فأحرى وأولى غيره.
ويرجون بأعمالهم الصالحة رحمته، و يخافون بمخالفتهم عذابه. إن عذاب ربك من حقه و شأنه أن يتقي ويحذر، لما فيه من عظيم الخزي وشديد الألم.
الأحكام :
متى تنفع العبادة العبد :
أفادت الآية أن العبادة لا تنفع صاحبها إلا إذا كانت على وجه الحق، و إلا فإنه لا يحصل منها إلا على الخيبة و الوبال.
و إن المكلف لا يحمل شيئا من إثم عمل إذا لم يكن راضيا به، ولو كان ذلك العمل متسببا عنه إذا لم يكن متسببا هو فيه.
و إن المكلف مطالب بأن يطلب أسباب القرب إلى الله تعالى بجد واجتهاد.
و أن يكون جامعا بين الرجاء و الخوف في سلوكه.
التطبيق :
نعرف كثيرا من الصالحين – رحمهم الله تعالى – قد شيدت عليهم القباب، و نذرت لهم النذور، و قصدوا لقضاء الحاجات، و دعوا في المهمات.
وكان ذلك كله مما أحدثه المحدثون بعدهم، وبالغ فيه المستغلون له، ممن ينتمون إليهم، فهم٦- إن شاء الله تعالى – برآء من إثم ذلك كله، و إنما إثمه على فاعليه.
عبرة وتحذير :
يأتي يوم القيامة أولئك الذين كانوا يدعون الملائكة والجن المسلمين وعباد الله الصالحين، ويحسبون أنهم ينفعونهم في ذلك اليوم، فيتبرأ منهم أولئك الذين كانوا يعبدونهم بدعائهم، ويتركونهم في ذلك الموقف العصيب.
فما أمر خيبتهم يومذاك ! ! و ما أعظم حسرتهم !. و يا لها من عبرة لقوم يعقلون !
فحذار يا إخواننا من هذه العاقبة السيئة، و هذا الموقف المخزي، فبادروا إلى توحيد الله بالدعاء الذي هو مخ العبادة.
واقتصروا في جانب الصالحين وعلى محبتهم ( والترضية ) عليهم و سؤال الرحمة لهم٧ والإقتداء بهم فيما كان منهم من طاعة وخير، و لا تعظموهم بما لا يكون إلا لله رب العالمين.
والله يبصرنا بالحق و يهدينا إليه، ويجعلنا من حزبه، و يميتنا عليه آمين يا رب العالمين.
٢ فارغ؟؟؟؟؟؟.
٣. رأي آخر في سبب النزول..
٤ بتقدير: ينظرون أيهم أقرب، فأيهم مبتدأ، وأقرب خبر..
٥ على أن الذي يدل بعض من الواو في يبتغون، وأقرب خبر لمبتدأ محذوف.
الزلفة : التقرب إلى الله.
.
٦ الصالحون.
٧ أي قولة : رضي الله عنهم، ورحمهم..
" وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة، أو معذبوها عذابا شديدا، كان ذلك في الكتاب مسطورا ".
( سورة الإسراء الآية ٥٩ )
تمهيد :
أطوار الأمم :
الأمم كالأفراد، تمر عليها ثلاثة أطوار : طور الشباب، وطور الكهولة، وطور الهرم.
فيشمل الطور الأول.
نشأتها إلى استجماعها قوتها ونشاطها، مستعدة للكفاح والتقدم في ميدان الحياة.
و يشمل الطور الثاني :
ابتداء أخذها في التقدم والانتشار، و سعة النفوذ، وقوة السلطان إلى استكمالها قوتها، وبلوغها غاية ما كان لها أن تبلغه من ذلك، بما كان فيها من مواهب، وما كان لها من استعداد، وما لديها من أسباب.
و يشمل الطور الثالث.
إبداءها في التقهقر والضعف و الانحلال، إلى أن يحل بها الفناء والاضمحلال، إما بانقراضها من عالم الوجود، وإما باندراسها في عالم السيادة والاستقلال.
وما من أمة إلا ويجري عليها هذا القانون العام، وإن اختلفت أطوارها في الطول والقصر، كما تختلف الأعمار.
من معجزات القرآن :
هذه السنة الكونية التي أجرى الله عليها حياة الأمم في هذه الدنيا، أشار إليها في كتابه العزيز في غير ما آية :
فذكر أعمار الأمم، مقدرة محددة بآجالها في مثل قوله تعالى :
" لكل أمة اجل، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون ".
وذكر إنشاء الأمم على إثر الهالكين في مثل قوله تعالى :
" وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة و أنشأنا بعدها قوما آخرين١ ".
وذكر طور شباب الأمة ودخولها معترك الحياة في مثل قوله تعالى :
" عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون ".
أطوار بني إسرائيل :
فإن بني إسرائيل ما استخلفوا في الأرض حتى قووا واشتدوا وتكونت فيهم أخلاق الشجاعة، و النجدة و الأنفة بعد خروجهم من التيه.
وذلك هو الطور الأول طور الشباب للأمة الإسرائيلية.
وذكر الطور الثاني وهو طور الكهولة واستكمال القوة، و حسن الحال، ورغد العيش في مثل قوله تعالى :" و ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان٢ ". وذكر الطور الثالث طور الضعف والانحلال في مثل قوله تعالى :
" وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا٣ ".
سبب الهلاك :
و إهلاكهم يكون بعد إسباغ النعمة و إقامة الحجة عليهم، وتمكن الفساد فيهم وتكاثر الظلم منهم. فإهلاكهم هو نهاية الطور الثالث من أطوار الأمم الثلاث.
و إلى خاتمة الطور الثالث وعاقبته، جاء البيان في قوله تعالى :" وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا ".
الألفاظ :
( القرية ) المساكن المجتمعة، ومادة ( ق ر ى ) تدل على الجمع، فتصدق على القرية الصغيرة والمدينة الكبرى. وتطلق القرية مجازا على السكان إطلاقا لاسم المحل على الحال ومنه هذا.
( والإهلاك ) الإبادة والإفناء بالاستئصال كما فعل بعاد وثمود.
( وقبل يوم القيامة ) أي في الدنيا.
و ( العذاب الشديد ) كأمراض الأبدان وفساد القلوب، وانحطاط الأخلاق، وافتراق الكلمة، وتسليط الظلام : كما أرسل على بني إسرائيل عبادا أولى بأس شديد، فساءوا وجوههم، وجاسوا خلال ديارهم. وكتسليط أهل الحق على أهل الباطل، وكالجدب والقحط و جوائح الأرض، وجوائح السماء.
و ( في الكتاب ) أي اللوح المحفوظ٤. و " مسطورا " أي مكتوبا أسطارا مبينة.
التراكيب :
( إن ) نافية. و " من " زيدت لاستغراق الجنس وتأكيد العموم.
و ( إلا ) أفادت مع إن النافية حصر كل قرية في أحد الأمرين من الهلاك والعذاب الشديد، ليعلم أن لا نجاة لكل قرية من أحدهما قطعا.
و ( أو ) تفيد أحد الشيئين المذكورين على الابهام وعدم التعيين.
و ( ذلك ) إشارة المذكور من الهلاك والتعذيب.
المعنى :
يقول تعالى : ما من قرية على وجه الأرض إلا و لا بد أن يحل بها منا هلاك و فناء يبيدها ويفنيها، أو عذاب شديد لا يفنيها، ولكنه يذيقها أنواع الآلام و شديد النكال.
كان هذا قضاء سابقا في علمنا، ماضيا في إرادتنا، مكتوبا أسطارا في اللوح المحفوظ.
الأحكام :
الأحكام الشرعية والقدرية
أحكام الله تعالى قسمان :
أحكام شرعية، وهي التي فيها بيان ما شرعه لخلقه مما فيه انتظام أمرهم وحصول سعادتهم إذا ساور عليه.
و أحكام قدرية و هي التي فيها بيان تصرفه في خلقه عز وجل وفق ما سبق في علمه و ما سبق في إرادته.
و الأحكام الشرعية تقع من العباد مخالفتها، فيتخلف مقتضاها من الفعل أو الترك.
و الأحكام القدرية لا تختلف أصلا، و لا يخرج المخلوقات عن مقتضاها قطعا.
و في هذه الآية حكم من أحكام القدرية، وهو إن كل قرية لابد أن يصيبها أحد الأمرين المذكورين بما سبق من علمه، وما مضى من إرادته، فلا يتخلف هذا الحكم، ولا تخرج عنه قرية.
إيضاح وتعليل : الله حكم عدل حكيم خبير ؛ فما من حكم من أحكامه الشرعية إلا وله حكمته، و ما من حكم من أحكامه القدرية٥ إلا وله سببه وعلته.
لا لوجوب أو إيجاب عليه، بل بمحض مشيئته، ومقتضى عدله وحكمته٦
سبب الهلاك :
و قد قضى على كل قرية بهذه العاقبة من الهلاك والعذاب الشديد في هذه الآية، و بين في غيرها سبب استحقاقها لهما فقال تعالى :
" وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا " ٧.
و ما كان ربك ليهلك القرى بظلم و أهلها مصلحون " ٨.
" وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ".
" وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة ".
" و كأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا ".
" وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون "..
فأفادت هذه الآيات أن سبب الهلاك والعذاب هو الظلم، والفساد والعتو، والتمرد، عن أمر الله ورسله، والكفر بأنعم الله.
" وما ربك بظلام للعبيد "
توجيه :
سر العناية بالطور الأخير
الطور الأخير هو الذي ذكر في الآيات كثيرا دون الطور الأول والثاني.
ووجه ذلك :
أنه هو الطور الذي ينتشر فيه الفساد، و يعظم فيه الظلم، و ينتهي فيه الإعذار للأمة، ويحل فيها أجلها، فينزل بها ما تستحقه من هلاك أو عذاب فكرر ذكر هذا الطور لزيادة التحذير منه، والتخويف من سوء عاقبته، و الحث على تدارك الأمر فيه بالإقلاع عن الظلم والفساد، والرجوع إلى طاعة الله و إعمال يد الإصلاح في جميع الشؤون فيرتفع العذاب بزوال ما كان بنزوله من أسباب.
استنتاج وتطبيق :
العلاج ممكن :
القرى التي قضى عليها بالهلاك والاستئصال هذه، قد انتهى أمرها بالموت، وفاتت عن العلاج مثل عاد وثمود من الأمم البائدة.
و أما القرى التي قضى عليها بالعذاب الشديد، فهذه لا تزال بقيد الحياة فتداركها ممكن، وعلاجها متيسر :
مثل الأمم الإسلامية الحاضرة : فمما لا شك إن فينا لظلما، و عتوا وفسادا و كفرا بأنعم الله، و إننا من جراء ذلك لفي عذاب شديد.
و لا نعني بهذا أن الأمم الإسلامية مخصوصة بهذا، بل مثلها و أقوى منها في أسباب العذاب و الهلاك غيرها من أمم الأرض. و إن لهم لقسطهم من العذاب الشديد. و إذا لم يأت المقدار الماثل من الهلاك أو العذاب لما عندهم من أسبابها ؛ فلأنه لكل أمة أجل، ولما يأت ذلك الأجل بعد ؛ فإذا جاء لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
إرشاد واستنهاض :
علاجنا اليوم :
قد ربط الله تعالى بين الأسباب و مسببها خلقا وقدرا بمشيئته و حكمته، لنهتدي بالأسباب إلى مسبباتها، و نجتنبها باجتناب أسبابها.
و قد عرفنا في الآيات المتقدمة بأسباب الهلاك والعذاب لنتقي تلك الأسباب فنسلم، أو نقلع عنها فننجو ؛ فإن بطلان السبب يقتضي بطلان المسبب.
وقد ذكر لنا في كتابه أمة أقلعت عن سبب العذاب فارتفع عنها بعدما كان ينزل بها، ليؤكد لنا أن الإقلاع عن السبب ينجي من المسبب، فقال تعالى :
إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا و متعناهم إلى حين٩ ".
فمبادرتهم للإيمان، وإقلاعهم عن الكفر. كشف عنهم العذاب.
و أرشدنا في ضمن هذا العلاج الناجع في كشف العذاب، وإبطال أسبابه، وهو الإيمان.
كما أرشدنا إليه أيضا في قوله تعالى قبل هذا :
" فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها١٠ " أي نجاها من العذاب.
و ذكر قوم يونس دليلا على ذلك.
و أرشدنا إليها أيضا في قوله تعالى :
" ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض١١ "، فالإيمان والتقوى هما العلاج الوحيد لنا من حالتنا لأننا إذا التزمناهما نكون قد أقلعنا عن أسباب العذاب.
واجب الأفراد والجماعة :
و لا ننهض بهذا العلاج العظيم إلا إذا قمنا متعاونين أفرادا و جماعات، فجعل كل واحد ذلك نصب عينيه، وبدأ به في نفسه، ثم فيمن يليه ثم فيمن يليه من عشيرته وقومه، ثم جميع أهل ملته.
فمن جعل هذا من همه، وأعطاه ما قدر عليه من سعيه، كان خليقا أن يصل إلى غايته أو يقرب منها١٢.
صفحة جديدة :
و لنبدأ من الإيمان بتطهير عقائدنا من الشرك، و أخلاقنا من الفساد، و أعمالنا من المخالفات.
ولنستشعر أخوة الإيمان التي تجعلنا كجسد واحد و لنشرع في ذلك، غير محتقرين لأنفسنا، ولا قانطين من رحمة ربنا١٣. و لا مستقلين لما نزيله كل يوم من فسادنا، فبدوام السعي واستمراره، يأتي ذلك القليل من الإصلاح على صرح الفساد العظيم من أصله.
دليل بدئنا :
و ليكن دليلنا في ذلك و إمامنا كتاب ربنا، وسنة نبينا، و سيرة صالح سلفنا، ففي ذلك كله ما يعرفنا بالحق، و يبصرنا في العلم، و يفقهنا في الدين، و يهدينا إلى الأخذ بأسباب القوة والعز والسيادة العادلة في الدنيا، ونيل السعادة الكبرى في الأخرى. وليس هذا عن العالمين ببعيد، وما هو على الله بعزيز.
رجاء وتفاؤل :
إن المطلع على أحوال الأمم الإسلامية يعلم أنها قد شعرت بالداء، وأحست بالعذاب، وأخذت في العلاج، وإن ذلك، وإن كان يبدوا – اليوم – قليلا، لكنه – بما يحوطه من عناية الله، وما يبذل فيه من جهود المصلحين – سيكون بإذن الله كثيرا.
و عسى أن يكون في ذلك خير لأمم الأرض أجمعين١٤.
حقق الله تعالى الآمال وسدد الأعمال، بلطف منه وتيسير، إنه نعم المولى ونعم النصير.
.
٢ سورة النحل، الآية ١١٢،.
٣ سورة الكهف، الآية ٥٩.
.
٤ اللوح المحفوظ والعرس والكرسي والقلم... كل ذلك من العالم الغيبي اخبرنا به القرآن الكريم والسنة النبوية، أما ماهيته وتحديده... فيفوض إلى علم الله تعالى، ونصدق به فقط..
٥ أي بقضائه وقدره..
٦ " فعال لما يريد " " وربك يخلق ما يشاء ويختار "..
٧ سورة الكهف : ٥٩.
٨ سورة هود : ١١٧.
٩ سورة يونس، الآية ٩٨ فأمة محمد و أمة يونس عليهما الصلاة والسلام أخر عذاب العاصين منهم إلى يوم القيامة. وفي شأن المسلمين أيضا يقول الله تعالى: " وما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم، وما كان الله ليعذبهم وهم مستغفرون" وقد مات النبي صلى الله عليه و آله و سلم و لم يبق بيننا بجسده، فلم يبق لنا إلا الاستغفار..
١٠ صدر الآية السابقة..
١١ سورة الأعراف ٩٦..
١٢ قال الشاعر : أحرى بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا.
١٣ إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون..
١٤ دعوات وأمنيات إنسانية للإنسانية جمعاء، من الإمام، وذلك من أدب الإسلام، ورحمته الشاملة، و كم كان قلب الشيخ يفرح، وأساريره تتهلل حين يرى بادرة لإصلاح و بريقا لخير، و مقاومة لشر وفساد..
" ولقد كرمنا بني آدم، و حملناهم في البر والبحر و رزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ".
( سورة الإسراء الآية : ٧١ )
اللغة والتراكيب من معاني الكرم
( كرمنا ) : الكرم ضد اللؤم و يوصف به الشيء لشرفه في ذاته بكمال صفاته، أو لحسن أفعاله، وما يصدر عنه من النفع لغيره.
فيقال : فرس كريم، وشجرة كريمة، و أرض كريمة، إذا أحسنت هذه الأشياء في ذواتها، وكملت فيها صفات أنواعها.
ويقال : نفس كريمة إذا كملت بمحاسن الأخلاق التي بها كمال النفوس.
وقالت بلقيس في كتاب سليمان عليه السلام :" إني ألقي إلي كتاب كريم " ١ لأنه كان على أكمل ما تكون عليه الكتب من بيان اسم مرسله، وذكر اسم الله تعالى في أوله، وختمه على ما فيه.
هذا كله من كرم الذات بما كمل فيها من صفات.
ووصف جبريل عيه السلام بأنه رسول كريم٢لشرف ذاته الملكية، وحسن أفعاله بما كان على يده من نفع للخلق ؛ بتبليغ الوحي والهدي.
وهذا من كرم الذات و الأفعال وهو الكرم الكامل الذي يكون بشرف الذات ونفع الأفعال ويقال كرم الشيء بضم الراء لازما، و يتعدى بالهمز والتضعيف، فيقال أكرمته : أكرمته، وكرمته بمعنى واحد : أي فعلت له فعلا فيه رفعة له ومنفعة.
كرمنا بني آدم أي فعلنا لهم ما فيه رفعتهم و منفعتهم، من إنعاماتنا عليهم.
و ( حملناهم ) من الحمل بمعنى الرفع أي أركبناهم و رفعناهم على المركوبات مثل قوله تعالى :
" ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم، قلت لا أجد ما أحملكم عليه " ٣
" وحملناه على ذات ألواح ودسر " ٤. ذرية من حملنا مع نوح "
٥.
( والطيبات ) ما يطيب للأكل والشرب مما يلذ في الطعم، و تحمد عاقبته فلا يكون الطيب إلا حلالا ؛ لأن غير الحلال – و إن لذ طعمه في بعض أقسامه – فإنه لا تحمد عاقبته ؛ بما فيه من إثم و تبعة، وما يكون فيه من ضرر.
و ( فضلناهم ) من الفضل بمعنى الزيادة، أي صيرناهم ذوي فضل و زيادة في الكرامة، كما تقول : فضلت زيدا على عمر في العطاء، أي صيرته ذا فضل و زيادة عليه فيه.
و متعلق حملناهم محذوف، لقصد التعميم المناسب لمقام الامتنان بالتكريم مع الاختصار. تقديره : على كل ما يصلح لحملهم عليه.
المعنى :
يقول تعالى : و لقد أنعمنا على بني آدم نعما عظيمة كثيرة :
في خلقتهم من تركيب أبدانهم، وأرواحهم و عقولهم.
و في حياتهم بما مكناهم منه من أسباب السلطان على غيرهم من الخلق من عالم الجماد والنبات والحيوان.
و تسخير هذه العوالم لهم يحصلون منها منافعهم، فأوصلنا إليهم هذه النعم، و كرمناهم بها، فنفعناهم ورفعنا أقدارهم.
و من هذا التكريم و الإنعام الذي فيه المنفعة، وفيه الرفعة : أننا سخرنا لهم ما يركبونه في البر والبحر، ومكناهم من أسباب تسييره و الانتفاع به.
و أننا بثثنا لهم على وجه الأرض أنواعا من المآكل و المشارب اللذيذة المباحة، من النبات والحيوان والجماد، فخلقناها صالحة لغذائهم، ومكناهم من أسباب تحصيلها و إصلاحها، والتفنن فيها.
فكان لهم بذلك كله زيادة بينة من نعمتنا، وفضل محقق على كثير من مخلوقاتنا.
مسائل :
المسألة الأولى :
تقسيم التكريم
تكريم الله تعالى لخلقه قسمان : أحدهما عام، و الآخر خاص :
فأما العام، فهو إخراجه لهم من العدم إلى الوجود، وإعطاؤه لكل شيء منهم، خلقته اللائقة به من تركب أجزاء ذاته، وتعدل مادة تكوينية، ومن أعضائه – إذا كان من ذوي الأعضاء – التي يحتاج إليها في حياته، لجلب ما ينفعه و دفع ما يضره، و هدايته و إلهامه ما خلق، صالح لذلك إلى استعمال تلك الأعضاء، و طرق الجلب والدفع بها.
و أما الخاص، فهو تكريمه، وإنعامه على عباده المؤمنين بنعمة الإسلام في الدنيا، و بدار السلام في الأخرى.
و التكريم المذكور في هذه الآية من القسم الأول العام كما سيتبين في المسألة الرابعة.
المسألة الثانية :
تفاوت التكريم
جميع المخلوقات التي أخرجها الله تعالى من الوجود إلى العدم و إن كانت متساوية في أصل التكريم العام، فإنها متفاوتة فيه بحسب تفاوتها في شرف الذات، و كمال الخلقة :
فعالم النبات أكثر حظا في التكريم من عالم الجماد، وعالم الحيوان، أكثر حظا منها، ونوع الإنسان أكثر حظا في التكريم العام من جميع الحيوانات.
المسألة الثالثة :
تمييز الإنسان في التكريم
عظم حظ الإنسان من هذا التكريم.
من جهة ذاته : حسن صورته و اعتدال مزاجه.
ومن جهة روحه ؛ أنها من العالم النوراني العلوي، وبأنها مع اتصالها بالبدن قابلة للتجلي بأكمل الصفات، و أطهر الأخلاق.
و من جهة عقله الذي به أدرك الحقائق، و حصل المعارف، وعرف الأسباب و مسبباتها، ووجوه ارتباطاتها و اتصالاتها، ونسبة بعضها إلى بعض ؛ فملك، و ساد، و استفاد، و أفاد.
المسألة الرابعة
عموم التكريم :
هذا التكريم المذكور في المسألة السابقة هو عام للنوع الإنساني من حيث هو إنسان لا فرق فيه بين من آمن و من كفر ؛ لأنه راجع للخلقة الإنسانية التي يتساوى فيها الجميع، و التمكين من أسباب المنافع الذي هو ثابت لجميع النوع بما عنده من عقل وتفكير.
وهذا هو مقتضى العموم٦ المستفاد م لفظ :" بني آدم ". ومثل هذا التكريم في العموم : الحمل في البر، والبحر، وارزق، لأنهما من جملة التكريم كما تقدم في فصل بيان المعنى.
المسألة الخامسة :
التفضيل :
تفضيل الله تعالى لمن يشاء من خلقه قسمان :
تفضيل في الخلقة، و تفضيل في الجزاء والمثوبة.
فمن الأول : تفضيل بني آدم المذكور في هذه الآية بما كرموا به، وأعطوه في خلقتهم من الوجوه المتقدمة زائد على كثير من مخلوقات الله، مما كانت لهم به الرفعة والمنفعة لجميع نوعهم على العموم.
و من الثاني : تفضيل المجاهدين على القاعدين في قوله تعالى :" وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ". ٧
المسألة السادسة :
اقتضى قوله تعالى :" وفضلناكم على كثير " : أي بما كرمناهم به في خلقهم أنهم لم يفضلوا على جميع مخلوقات الله، وأن بعض المخلوقات أفضل منهم في الخلقة، وأكثر منهم كرما في الجنس. فمن هذا المخلوق المفضل عليهم ؟. وهذا ما نبينه في المسألة التالية.
المسألة السابعة :
تفضيل ترتيب المخلوقات :
إذا نظرنا في عوالم المخلوقات فإننا نجدها منقسمة إلى قسمين :
قسم مشاهد و قسم غير مشاهد، علمناه بالوحي الصادق من الكتاب والسنة.
فالقسم الأول : هو عالم الجماد، وعالم النبات، وعالم الحيوان. وهذا القسم كله قد فضل عليه الإنسان بميزة عقله التي ساد بها الجميع و بغيرها مما تقدم.
و القسم الثاني : هو الملائكة والجن : فأما الجن : فالإنسان أشرف منهم خلقة، و أكرم عنصرا، فهم ظلمانيون خلقوا من النار. وهو ترابي وروحه من عالم النور الذي هو عالم الملائكة ؛ فلذا كان أهلا لاصطفاء الرسل منه كما اصطيفت من الملائكة و لم يصطف من الجن رسول ولا نبي.
و أما الملائكة فخلقتهم أشرف من خلقة الإنسان و أكرم، لأنهم خلقوا من نور محض، منزهة أجسامهم النورانية عن كثافة الأجساد الإنسانية الترابية، و أخلاطها و ظلمتها، فلم يفضل عليهم النوع الإنساني في الخلقة، بل فضلوا عليه، فهم غير الكثير الذي فضل عليه الإنسان.
المسالة الثامنة :
الملائكة وبنوا آدم :
المفاضلة تقع بين الملائكة وبني آدم على وجهين "
إما من جهة الخلقة و إما من جهة المثوبة :
فأما من جهة الخلقة فقد عرفنا في المسألة المتقدمة، أن الملائكة أفضل، والآية ظاهرة في ذلك ظهورا بينا. و أما من جهة الأجر والمثوبة فهو خارج عن معنى الآية و موضوعها.
نبينا أفضل من الملائكة :
و أفضل الخلق – صلى الله عليه و آله وسلم – أفضل منهم قطعا.
خلاف نخوض فيه ولا نخوض :
و في المفاضلة بين الأنبياء و الملائكة في الأجر والثواب، خلاف كبير و تفويض أمر ذلك إلى الله تعالى – في مقام التذكير – أسلم.
سلوك المكرمين :
حكمة التكريم :
امتن الله تعالى على بني آدم بهذا التكريم لهم في شرف الخلقة و رفعتها، وكثرة المنفعة وتيسير أسبابها – تذكيرا لهم بنعمته ليشكروها، فيزيدهم منها٨ وتعريفا لهم بشرف أنفسهم ليقدروها، فينتفعوا بها.
فهذان الأمران هما الحكمة المقصودة بهذا الامتنان. فلنتكلم عليها في الفصلين التاليين.
شكر العبد لنعمة ربه :
قد ابتدأنا بهذه الكرامة في الخلقة بدون سعي منا و لا عمل، و هو المبتدئ بالنعم قبل استحقاقها ؛ فمن كبر هذه الكرامة و شكرها، كان من المكرمين.
و من لم يعرف قيمتها وكفرها كان من المهانين. " ومن يهن الله فما له من مكرم " ٩
فلنقابل هذا التكريم في الخلقة بالشكر الجزيل : بأن نعقد قلوبنا على تعظيم النعمة به و نطلق ألسنتنا بالاعتراف و الثناء على مسديه، ونستعمل هذه الخلقة الكريمة في مراضي ربنا وطاعته، متوسلين بشكر ما ابتدأنا به خالقنا من تكريم الخلقة، إلى ما وعد به الشاكرين من تكريم الجزاء و المثوبة بأنواع ألطافه و أنعامه. و جزيل فضله و إكرامه فسبحانه و تعالى. ذو الجلال والإكرام.
معرفة العبد لقدر نفسه :
فلنكرم أنفسنا :
قد استودعنا خالقنا خلقة كريمة، فعلينا أن نعرف قيمتها، وأن نقدرها.
و حق على من كرمه ربه أن يكرم نفسه :
أ- فعلينا أن نكرم أنفسنا بتكريم أرواحنا، بتنزيهها عن مساويء الأخلاق، وتحليتها بمكارمها.
ب – و تكريم عقولنا، بتنزيهها عن الأوهام، والشكوك، والخرافات، و الضلالات، وربطها على العموم والمعارف و صحيح الاعتقادات.
ج – و تكريم جوارحنا بتنزيهها عن المعاصي، وتجميلها بالطاعات ؛ فتحرى بأقوالنا و أفعالنا أكرم الأقوال، و أكرم الأعمال. و نترفع عن جميع الرذائل و الدنايا و نتباعد عن كل مواطن السوء والسفالة.
د – و نحفظ كرامتنا و شرفنا أمام الله والناس. ونجتهد أن لا يمسها سوء لا منا، و لا من غيرنا.
فإذا قدرنا – هكذا – أنفسنا، وشكرنا – كما تقدم – ربنا، بلغنا – بإذن اله تعالى – أبعد الغايات من التكريم والتفضيل.
يسرنا الله، و المسلمين أجمعين لما يسر له عباده المكرمين المفضلين برحمتك يا أرحم الراحمين.
٢ في قوله تعالى :" إنه لقول رسول كريم " ١٩ التكوير.
.
٣ سورة التوبة، الآية ٩٢.
٤ سورة القمر الآية ١٣.
٥ الإسراء الآية ٣..
٦ العموم لغة الشمول، و اصطلاحا لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر دفعة واحدة.
٧ سورة النساء، الآية ٩٥..
٨ " لن شكرتم لأزيدنكم "..
٩ سورة الحج، الآية ١٨،.
" أقم الصلاة لدلوك الشمس على غسق الليل، و قرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ".
( سورة الإسراء الآية ٧٩ )
المفردات
( أقم ) أمر من أقام أي اجعلها قائمة، وذلك بحفظها و المحافظة عليها :
و حفظها صونها من الخلل في شروطها و أركانها، من أقوالها و أعمالها في الظاهر وبالباطن.
و المحافظة عليها بالمداومة عليها في أوقاتها.
( الصلاة ) المراد الصلوات الخمس المكتوبة.
( لدلوك ) اللام لام الأجل و السببية ( الدلوك )، هو الميل وبدايته عند الزوال، ونهايته بالغروب. ( وإلى ) لانتهاء الغاية ؛ فغسق الليل هو نهاية غاية الإقامة.
( الغسق ) هو ظلمة الليل، و بداية الظلمة بالغروب، وتمامها بعد مغيب الشفق عند اشتداد الظلمة.
( قرآن الفجر )، ما يقرأ به في صلاة الفجر – وهي الصبح – من القرآن، فسميت قرآنا من تسمية الكل باسم جزئه١، تنبيها على أهمية ذلك الجزء و مكانته.
( مشهودا ) محضورا٢.
التراكيب
أفادت اللام السببية، أن ميل الشمس سبب في وجوب الصلاة. ( وإلى ) عند التجرد عن القرائن لا يدخل ما بعدها في حكم ما قبلها. لكن هنا قامت القرينة الشرعية – وهي مشروعية الصلاة في الليل – على أن ما بعد ( إلى ) داخل في حكم ما قبلها، فهو٣ محل أيضا لإقامة الصلاة فيه.
( وقرآن الفجر ) منصوب عطفا على الصلاة، وخصصت بالذكر ؛ لأنها لم تكن عند ميل الشمس، و لا عند الغسق، بل تكون عند الوقت الذي أضيفت إليه وهو الفجر.
و جملة ( إن قرآن الفجر كان مشهودا ) تذييل لتأكيد إقامة صلاة الفجر.
المعنى :
أقم يا محمد – صلى الله عليه وآله وسلم، و أمره أمر لأمته ؛ لأنهم مأمورون بالاقتداء به – الصلاة ؛ لأجل ميل الشمس : فأد الظهر والعصر، و في غسق الليل فأد المغرب والعشاء، و أقم صلاة الفجر، إنها صلاة مشهودة.
بيان وتوجيه :
هذه الآية قد انتظمت أوقات الصلاة الخمس، ووجه ذلك بوجوه :
أوقات الصلاة من الآية
الأول :
أن الظهر تكون أول الميل، والعصر تكون وسطه.
و أن المغرب تكون عند أول الغسق، و العشاء تكون عند شدته بمغيب الشفق.
و الصبح عند الفجر.
الثاني :
أن الظهر عند أول الميل، والعصر عند وسطه، والمغرب عند نهايته.
والعشاء عند الغسق، أي اشتداد الظلمة بمغيب الشفق.
والفرق بين الأول والثاني :
أن الأول اعتبر المغرب عند بداية الظلمة، والثاني اعتبرها عند تمام الميل، و هما في الواقع متلازمان ؛ فإنه إذا تم الليل ابتدأت الظلمة.
رأي الشيخ
الثالث :
و لم أره لأحد، و اللفظ يحتمله٤ :
أن ميل الشمس يبتدئ بالزوال، وينتهي فيما يرى لنا بالبصر – بمغيب الشفق، غير أن ميلها في الزوال والغروب مشاهدة بمشاهدة ذاتها، وميلها بعد الغروب مستدل عليه بما يشاهد من أخذ الشفق في المغيب، إلى أن يغيب بتمامه ؛ و لا شك أن ذلك نتيجة ميلها من وراء الأفق ؛ فالصلوات الأربع على هذا واجبة لدلوك الشمس.
و أما غسق الليل، فهو اشتداد ظلمته، وذلك يكون على أتمه بعد مضي الثلث الأول من الليل ؛ فيكون غسق الليل بهذا المعنى خارجا عن حكم ما قبل ؛ لأن وقت العشاء ينتهي بانقضاء الثلث الأول، فالأوقات تنتهي عند غسق الليل٥.
تفسير نبوي :
فضل صلاة الفجر
أخرج البخاري – رحمه الله تعالى – في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال :
" سمعت رسول الله – صلى الله عليه و آله وسلم – يقول : تفضل صلاة الجميع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزء، وتجتمع ملائكة الليل و ملائكة النهار في صلاة الفجر " ثم يقول أبو هريرة فاقرءوا إن شئتم :" إن قرآن الفجر كان مشهودا ".
فاستشهد أبو هريرة بالآية على الحديث، ليبين أنه تفسير لها، وأن صلاة الفجر مشهودة تشهدها ملائكة الليل و ملائكة النهار.
و جاء هذا عند أحمد بن مسعود مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و آله وسلم.
و جاء اجتماع الملائكة بأبسط من هذا عند مالك رحمه الله، فأخرج في موطئه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله – صلى الله عليه و آله وسلم – قال :
" يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر، وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم – و هو أعلم بهم – كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون :" تركناهم وهم يصلون و أتيناهم وهم يصلون " ٦
استنباط :
من تخصيص صلاة الفجر بجملة التذييل المؤكدة، وما اشتملت عليه من هذه المزية، أخذ جماعة من أهل العلم أفضليتها عن غيرها.
مزية الفجر
فإن قلت : إن صلاة العصر أيضا لها من هذه المزية، كما تقدم في حديث مالك.
قلت : عن ثبوت هذه المزية للفجر قطعي بنص القرآن، و متفق عليه في روايات الحديث بخلاف العصر، فقد جاء في بعض الروايات دون بعض.
وتبقى الفجر ممتازة بتخصيصها بالتأكيد في نص الكتاب وكفى هذا مرجحا لها.
ترغيب وترهيب :
عهد بدخول الجنة
قد جاء عن النبي – صلى الله عليه و آله وسلم – في الترغيب في امتثال هذا الأمر :( أقم الصلاة ). وفي الترهيب من مخالفته من الأحاديث ما فيه مقنع و مزدجر.
فمما جاء فيهما حديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – قال :
" سمعت رسول الله – صلى الله عليه و آله وسلم – يقول : خمس صلوات كتبهن الله عز وجل على العباد، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا – استحقاقا بحقهن٧ - كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة. و من لم يأت بهن، فليس له عند الله عهد : إن شاء عذبه، و إن شاء أدخله الجنة ". رواه مالك وغيره.
ومما جاء في الترغيب حديث أبي هريرة – رضي الله عنه- قال :
" سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يقول :" أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل بقي من درنه٨ شيء ؟ قالوا : لا يبقى من درنه شيء. قال : فكذلك مثل الصلوات الخمس يمحوا الله بهن الخطايا ". رواه الشيخان في صحيحهما.
تارك الصلاة كافر :
و مما جاء في الترهيب حديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنه -، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم :
" بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة "، رواه مسلم وغيره بنحوه.
وحديث بريدة رضي عنه مرفوعا :
" والعهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر " رواه أحمد و أصحاب السنن، و صححه الترمذي، و ابن حبان والحاكم.
الأحكام :
الخلاف في كفر تارك الصلاة
قد قال بكفر تارك الصلاة جماعات كثيرة من الفقهاء والمحدثين سلفا وخلفا، مستدلين بحديث جابر، و حديث بريدة الصريحين في كفره.
و ذهبت جماعات أخرى – كذلك – إلى عدم كفره على عظم جرمه، مستدلين بحديث عبادة بن الصامت المتقدم، في جعله في المشيئة. والكافر مقطوع له بدخول النار.
و يجيبون عن حديث جابر وبريدة بأن المراد من كفر تارك الصلاة، هو الكفر العملي.
أقسام الكفر
والكفر قسمان :
اعتقادي و هو الذي يضاد الإيمان.
و كفر عملي وهو لا يضاد الإيمان، و منه كفر تارك الصلاة، غير المستحل للترك، و كفر من لم يحكم بما أنزل الله كذلك. و بهذا يجمع بين الأحاديث.
عظة
و كفى زاجرا للمرء عن ترك الصلاة أن يختلف في إيمانه هذا الاختلاف. ٩
تعليم :
قيمة الوقت في الإسلام
في ربط الصلاة بالأوقات، تعليم لنا، لنربط أمورنا بالأوقات. ونجعل لكل عمل وقته : فللنوم وقته، وللأكل وقته، وللراحة وقتها، ولكل شيء وقته.
وبذلك يضبط للإنسان أمر حياته، وتطرد له أعماله، ويسهل عليه القيام بالكثير من الأعمال.
أما إذا ترك أعماله غير مرتبطة بوقت، فإنه لابد أن يضطرب عليه أمره، و يتشوش باله، ولا يأتي إلا بالعمل القليل، ويحرم لذة العمل وإذا حرم لذة العمل ؛ أصابه الكسل و الضجر فقل سعيه، وكان ما يأتي به من عمل على قلته و تشويشه – بعيدا عن أي إتقان. ١٠
التقسيم النبوي للأوقات :
و قد كان النبي صلى الله عليه و آله وسلم – مقسما لزمانه على أعماله، وفيه القدوة الحسنة فقد روى عياض في " الشفا " ١١عن علي – رضي الله عنه١٢قال :
فكان – صلى الله عليه و آله وسلم – إذا آوى إلى منزله جزأ دخوله ثلاثة أجزاء. فجزء لله، و جزء لأهله، و جزء لنفسه.
ثم جزءاه بينه وبين الناس ؛ فيرد ذلك على العامة بالخاصة١٣، ولا يدخر عنه شيئا ؛ فكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه، و قسمته على قدر فضلهم في الدين : منهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج ؛ فيتشاغل بهم، ويشغلهم فيما يصلحهم و الأمة مسئلته عنهم، و إخبارهم بالذي ينبغي لهم.
و يقول : ليبلغ الشاهد منكم الغائب، و أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته. فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة.
لا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره. يدخلون١٤ روادا و لا يتفرقون إلا عن ذواق و يخرجون أدلة١٥ ا ه
فهكذا ينبغي للمسلم أن يقسم أوقاته على أعماله، ويعمرها كلها بالخير.
وكما ربط الله له صلاته بالأوقات، وهي من أمور دينه – كذلك يربط هو بالأوقات جميع أمور دنياه.
والله نسأل لنا ولجميع المسلمين أن يقصرنا على طاعته، ويفقهنا في أسرار دينه، و يوفقنا إلى اتباع سنة رسوله، عليه و على آله أفضل الصلاة والسلام.
٢ أي تحضره الملائكة و تشهده، كما سيأتي..
٣ أي غسق الليل، .
٤ وهذا من اجتهاد الإمام رحمه الله.
.
٥ و خلاصة الآراء إذن هي :- على الرأي الأول – إن وقت الظهر والعصر في أول الميل ووسطه، و أن المغرب والعشاء عند أول الغسق و شدته.
و على الرأي الثاني : أن وقت الظهر والعصر والمغرب كلها في الميل، والعشاء عند شدة الظلمة أي الغسق.
وعلى رأي بن باديس: أن الظهر والعصر والمغرب والعشاء، كلها في دلوك الشمس، لأن ميلها يبتدئ بالزوال وينتهي بمغيب الشفق، وأما صلاة الصبح فأفردت وحدها في الأراء الثلاثة..
٦ وسر هذه الشهادة – كما ذكره بعض شراح الحديث – هو شهادة الملائكة لعباد الله بالصلاة و الصلاح) بعد قولتهم السابقة :" أتجعل فيها من يفسد فيها، ويسفك الدماء؟ ونحن نسبح بحمدك " ؟!. وأيضا تدعو الملائكة للمحافظين على الصلاة كما في بعض الروايات زيادة :" فاغفر لهم يوم الدين ".
.
٧ أي وفاهن حقهن من المحافظة والخضوع والخشوع وصونها من الخلل ولم يسه عنها..
٨ الدرن : الأقذار والأوساخ على الجسد..
٩ فليسمع الضالون، و الفاسقون، تاركو الصلاة، والمستهزئون بمن يصلون.. جعلنا الله من المحافظين عليها، و هدانا جميعا إلى الصراط المستقيم..
١٠ و حديث الرسول صلى الله عليه و آله وسلم " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه "..
١١ كتاب " الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه و آله وسلم " للقاضي عياض من علماء القرن السادس الهجري، الباب الثاني، الفصل الثالث والعشرون ٩٣.
١٢ في الشفا : قال الحسين، سألت أبي عن دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال : كان دخوله لنفسه مأذونا له في ذلك، فكان...
١٣ فيرد ذلك على العامة بالخاصة : أي جعل من نفسه ما يوصل الخاصة إليه فتوصل عنه للعامة، و قيل : يجعل منه للخاصة ثم يبدلها في جزء آخر بالعامة..
١٤ من حديث سفيان بن وكيع " يدخلون روادا... إلى أدلة "..
١٥ يدخلون رودا، يعني محتاجين إليه و طالبين لما عنده، ولا يتفرقون إلا عن ذواق يعني عن علم يتعلمونه، و يخرجون أدلة : يعني فقهاء معلمين لقومهم وغيرهم..
" ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ".
( سورة الإسراء الآية. ٨٠ )
الألفاظ والتراكيب :
" من " : للتبعيض. " الهجود " : النوم. والهاجد : النائم، وجمعه هجود. ومنه قول الشاعر :
" إلا طرقتنا والرفاق هجود "
( والتهجد ) ترك الهجود : كالتحرج و التأثم، في ترك الإثم والحرج.
و بناء ( تفعل ) يكثر في التحصيل كتعلم وتقدم. وجاء قليلا في معنى الترك، والمراد منه هنا ترك النوم للقيام بالعبادة.
النافلة اسم ومصدر :
( النافلة ) قال الجوهري : هي عطية التطوع من حيث لا تجب، ومنه نافلة الصلاة أ ه، أي أن الصلاة مؤداة على وجه التطوع دون الوجوب، فلذا قيل فيها : نافلة.
وهي على كلام الجوهري بمعنى الشيء الزائد : فهي اسم غير مصدر.
و قال أبوا البقاء و غيره : النافلة الزيادة، فهي مصدر كالعاقبة.
( عسى )، للرجاء و هي من الله تعالى على الوجوب١ ؛ لأن إطماعه تعالى لعباده في الجزاء على أعمالهم هو من وعده، ومحال عليه تعالى أن يخلفه.
( مقاما ) محل القيام. ( محمودا ) مثنيا عليه.
( من الليل ) متعلق بفعل محذوف دل عليه تهجد، تقديره : أسهر. والضمير في ( به ) عائد على القرآن، لتقدم ذكره و لا تراعى الإضافة.
والباء باء الأداة ؛ لأن التهجد بمعنى التعبد يحصل بالقرآن، أي بالصلاة.
ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على الليل ؛ فالباء بمعنى في أي فيه ( نافلة ) مصدر منصوب بتهجد لاتفاقهما في المعنى.
والتقدير : تنقل نافلة، وهذا يجري على الوجهين في معاد الضمير٢. و يحتمل أن يكون حالا، و هذا يجري على عود الضمير على القرآن بمعنى الصلاة.
المقام ظرفا ومصدرا :
( مقاما )، إما مصدر من غير لفظ عامله الذي هو يبعثك، بمعنى يقيمك من مرقدك. و إما ظرف أي يبعثك في مقام.
( ومحمودا )، صفة لمقام. ولكن الذي يحمد حقيقة هو القائم في المقام ؛ فجعل الحمد للمقام توسعا، تنبيها على عظم الحمد وكثرته ؛ فإنه فاض على صاحب المقام حتى غمر مقامه.
المعنى :
اسهر بعضا من الليل فتعبد بالقرآن في الصلاة، زيادة على تعبدك به في صلاة فرضك ؛ فتكون على رجاء أن يبعثك ربك من مرقدك يوم يقوم الناس لرب العالمين ؛ فيقيمك مقاما يحمدك فيه جميع الناس، لما يرون لك من فضل، و ما يصل إليهم بسببك من خير.
مسائل :
كيفية التهجد :
المسألة الأولى : كيف يكون التهجد ؟
فأما اللفظ فإنه يفيد ترك النوم للعبادة، فيشمل تركه كله أو بعضه : بأن لم ينم أصلا. أو لم ينم أولا ثم رقد. أو نام أولا ثم قام.
لكن ثبت أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – كان ينام، ثم يقوم فبينت السنة العملية، أن التهجد المطلوب هو القيام بعد النوم.
المسألة الثانية :
أكان التهجد على الرسول وحده ؟
هل كان قيام الليل فرضا عليه – صلى الله عليه و آله وسلم – دون أمته، بمقتضى قوله تعالى " نافلة لك " ؟
رأي والرد عليه :
أولا – قد ذهب إلى هذا٣ جماعة كثيرة من أهل العلم سلفا وخلفا.
و يرد عليه :
١- أن توجيه الخطاب إليه لا يقتضي تخصيص الحكم به، كما في آية :
" أقم الصلاة لدلوك الشمس " و آيات كثيرة.
٢- و لأن قيام الليل يقع من غيره ؛ فيسمى نافلة اتفاقا.
٣- و لحديث عائشة رضي الله عنها :" إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة – تعني سورة المزمل – قم الليل. فقام النبي صلى الله عليه و آله وسلم و أصحابه حولا، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا، حتى أنزل الله – في آخر هذه السورة – التخفيف، فصار قيامه تطوعا بعد فرضه ".
رواه مسلم.
فهذا يدل على أنهم فهموا أن الأمر من قوله تعالى :" قم ". لهم معه، مع أنه موجه إليه بخطاب الأفراد. وأنه كان فرضا عليه وعلى الناس، فصار تطوعا عليه وعلى الناس.
٤- و لحديث المغيرة بن شعبة في الصحيحين و غيرهما :" قام رسول الله – صلى الله عليه و آله وسلم – حتى تورمت قدماه "، وهذا لمداومته على القيام كل ليلة ببضع عشرة ركعة. فقيل له : قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. قال : أفلا كون عبدا شكورا ".
فلو كانوا يعلمون أن قيام الليل واجب عليه، ويفهمونه من القرآن لما أنكروا – مشفقين عليه – أن يقوم بما هو واجب عليه، ولأن قوله :" أفلا أكون عبدا شكورا "، يفيد أنه متطوع بهذا القيام باختيار، ليؤدي شكر نعمة ربه عليه.
سؤال وجوابه
فإن قيل : إن السؤال والجواب راجعان إلى تورم قدميه، وذلك ناشيء على المداومة ؟
قيل : إذا أنكرت الشيء عن المداومة فقد أنكرت المداومة، و المداومة على الفرض لا تنكر، فبقي الدليل سالما.
التوفيق بين الرأيين :
ثانيا : ولهذا كله، قال هؤلاء الموردون :
إن قيام الليل تطوع ونفل في حقه وفي حق أمته.
و بقي للأولين٤ أن يقولوا :
أ- إن قوله تعالى :" عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ". خاص به صلى الله عليه وآله وسلم اتفاقا، وقد جعل جزاء لتهجده بالليل، و لما كان الجزاء خاصا به فالعمل المجزي عنه خاص به. فلهذا حملنا قوله على معنى دون غيرك.
ب- و لما رأيناه واظب على التهجد ولم يتركه، حملناه على أنه كان مفروضا عليه. وحملنا نافلة على معنى أنها فريضة زائدة فوق الصلوات الخمس.
فيقول المخالفون في هذا :
إنكم حملتم النافلة على الفريضة٥، وهذا خلاف أصل معناها الذي هو التطوع.
وأما ما ذكرتم من خصوص الجزاء به٦. فإنا نقول إن الخطاب موجه له في الأول و في الآخر ؛ ففي الأول لما لم يعارضنا معارض ألحقنا به أمته ؛ و في الثاني لما منعنا مانع، وهو اختصاصه بالمقام المحمود لم نلحقهم به. و بقي الجزاء مساويا للعمل في صورة اللفظ حيث كان كل منهما موجها إليه.
و إذا تأملت في هذا البحث الذي سقناه أدركت أن القول بعدم الخصوصية هو الراجح، فالآية حث وترغيب على قيام الليل للعموم، ووعد له – صلى الله عليه و آله وسلم – بالمقام المحمود. ٧
المقام المحمود والشفاعة :
المسألة الثالثة :
المقام المحمود والشفاعة
ما هو المقام المحمود ؟
هو مقامه صلى الله عليه و آله وسلم، للشفاعة العظمى، يشفع للخلائق و قد جهدوا من كرب الموقف. ٨فجاءوا إلى كبراء الرسل – عليهم الصلاة والسلام – يسئلونهم أن يشفعوا لهم إلى ربهم، ليفصل القضاء، ويريحهم من كرب الموقف، فيتدافع٩ الشفاعة أولئك الرسل – عليهم الصلاة والسلام – ويتنصلون منها بأعذار رهيبة للرب جل جلاله، حتى ينتهوا إليه – صلى الله عليه و آله وسلم – فيتقدم فيشفع، و يسأل فيعطى، جاء هذا كله مفصلا في الأحاديث الصحيحة المستفيضة. فيحمده الخلق كلهم لما يرون من فضله عند ربه، ولما وصل إليهم من الخير المطلوب بسببه.
شفاعات أخرى :
ثم له – صلى الله عليه و آله وسلم – بعد هذه الشفاعة العظمى شفاعات أخرى بينتها صحاح الأحاديث.
ولعموم فضل هذه الشفاعة العظمى لأهل الموقف كلهم قال – صلى الله عليه و آله وسلم – كما في صحيح مسلم :
" أنا سيد الناس يوم القيامة ". و السيد من يتولى أمر السواد، فظهر عموم سيادته بعموم نفعه.
و قد فسر المقام المحمود بمقام الشفاعة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رواه عنه البخاري في صحيحه، وفسره بها غيره.
المسألة الرابعة : هل المقام المحمود خاص به ؟
ما يقال عند الأذان :
قد علمت من المسألة السابقة أنه مقام الشفاعة العظمى، و هي خاصة به فهو خاص به. و يدل عليه حديث جابر الصحيح :
" من قال حين يسمع النداء – الأذان - : اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت سيدنا محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته – حلت له شفاعتي يوم القيامة ؛ فهو صلى الله عليه وآله وسلم الموعود بالمقام المحمود ".
تنبيه و إلحاق :
قد جعل الله تعالى جزاء نبيه – صلى الله عليه و آله وسلم – على تهجده، وخلوته بربه في مناجاته، هذا المقام الذي يحمده فيه الخلق، ويتقبل فيه شفاعته، ويستجيب دعوته، ويفتح عليه فيه بمحامد من ذكره، لم يفتح عليه بها قبل.
ففي هذا تنبيه للمؤمنين على حسن عاقبة القائمين لربهم في جنح الليل، و ما يكون لهم من مقامات عند ربهم على حسب منازلهم. فكما كان المؤمنون ملحقين بنبيهم – صلى الله عليه و آله وسلم- في مشروعية هذه العبادة، كذلك هم ملحقون به في حسن الجزاء عليه.
و إن كان قد خصص هو عليه السلام بذلك الجزاء الأعظم – فلهم جزاؤهم : من مقامات القرب، والزلفى، والقبول، والرضا، على ما يناسب منازلهم، جزاء بما كانوا يعملون.
جعلنا الله من العابدين له المخلصين في أقوالهم و أفعالهم، وأوردنا حوض النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – و رزقنا شفاعته.
٢ أي عود الضمير على القرآن في الآية السابقة، أو عوده على الليل بمعنى فيه، وفيه إذن استعارة تبعية و الحروف تنوب عن بعضها كثيرا كقوله تعالى " و لأصلبنكم في جذوع النخل "..
٣ أي بادلة الرد على أن قيام الليل كان فرضا عليه، صلى الله عليه وسلم..
٤ القائلين بالفرضية..
٥ فيمن قال أنه فرض عليه، عليه الصلاة والسلام..
٦ في تخصيصه بالمقام المحمود..
٧ فالإمام يرجح العموم على الخصوص..
٨ حيث ورد في الحديث انه صلى الله عليه وآله وسلم، يقول للخلائق – حين تنتهي إليه : أنا لها، ، ثم يتقدم فيسجد لله و يسأله الشفاعة، فيقول الله له: اشفع تشفع، واسأل تعط. في ذلك اليوم الذي تشيب فيه الولدان، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى و ما هم بسكارى، والذي مقداره ألف سنة مما تعدون..
٩ يتدافعها أي يدفعها الأنبياء المسئولون إلى غيرهم، قائلين : نحن لسنا لها، كما جاء في حديث الشفاعة.
.
" وننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين، و لا يزيد الظالمين إلا خسارا ".
سورة الإسراء الآية ٨٣
تمهيد :
وجه الارتباط
لما جاء في الآية السابقة الإخبار بمجيء الحق، و في مجيئه صحة الأرواح و الأبدان والأحوال. و بزهوق الباطل، وفي ذهابه ذهاب العلل والأمراض، و الرحمة ؛ تنبيها على أنه هو الشافي من أمراض الباطل وعلله، وأنه هو مصدر الحق و حجة ناصره، ومحصل الرحمة لأتباعه و المتمسكين به.
المفردات و التراكيب
( من لابتداء الغاية، أو للتبعيض، لأنه نزل مبعضا، فكل بعض نزل منه شفاء ورحمة.
( الشفاء ) البرء من المرض : مرض الأبدان، أو مرض النفوس.
( الرحمة ) النعمة.
( الظلم ) وضع الشيء في غير محله : كوضع الكفر موضع الإيمان.
( الخسار ) النقص والضياع، يكون في الأموال يقال : خسر ماله إذا ضيعه. و يكون في النفوس، فيقال خسر نفسه إذا ضيعها ولم يستعملها فيما خلقت له من الطاعة والكمال. ويكون في اليد فيقال : خسر دينه إذا ضيعه و لم يعمل به ؛ فخاسر القرآن من ضيعه و لم يؤمن به.
البلاغة :
قرنت جملة ننزل بالواو مع أن ما قبلها إنشائية، و ذلك على وجهين :
الأول : أن تكون معطوفة على جاء الحق، أي وقل : ننزل. فعطفت الخبرية على الخبرية التي لها محل، و هو المفعولية بالقول.
الثاني : أن تكون ( الواو ) للاستئناف : وهي في الحقيقة صلة في الكلام لتقويته، وقرنت جملة لا يزيد بالواو ؛ لأنها معطوفة على جملة الصلة.
و عبر بالمضارع في ( ننزل ويزيد ) : قصد المعنى التجدد ؛ لأن الآيات كانت تنزل شيئا فشيئا.
و تنكير شفاء و رحمة للتعظيم. ١
سر تقديم الشفاء على الرحمة :
و قدم ( الشفاء )، لأنه برء من النقص، على ( الرحمة )، لأنها حصول الكمال، تقديم التحلية، و آيات القرآن سبب في حصول الشفاء، فجعلت هي شفاء على طرق المبالغة تنبيها على تحقق حصوله بها.
المعنى :
و ننزل عليك يا محمد – بحسب الوقائع والمناسبات- آيات من القرآن العظيم، هي شفاء يستشفى بها المؤمنون، ونعمة عظيمة أنعمنا بها عليهم.
يؤمنون بها ويحلون حلالها، و يحرمون حرامها، و يعلمون بما فيه فينالون سعادة الدنيا و الآخرة.
أما الكافرون الظالمون الذين قابلوا بالكفر ما يجب أن يقابل بالإيمان، و قابلوا بالرد ما يجب أن يقابل بالقبول، فإن نزول تلك الآيات يكون سببا في زيادة خسارهم، وضياع الخير عليهم، إذ كل آية من تلك الآيات كانت كافية في شفائهم لو استشفوا بها، ونزول الرحمة عليهم لو اهتدوا بها إلى الإسلام.
لكنهم يقابلون كل آية بالكفر والجحود، فيخسرون في كل مرة كنزا عظيما. وهكذا يزداد خسارهم بقدر كفرهم المتجدد بنزول الآيات.
تنظير :
شفاء القرآن :
وصف الله تعالى القرآن بأنه شفاء في مواضع من كتابه منها هذه، و منها قوله تعالى :
" يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم، وشفاء لما في الصدور، وهدى و رحمة للمؤمنين. ٢ومنها في قوله : هو للذين آمنوا شفاء، والذين لا يؤمنون في آذنهم وقر، وهو عليهم عمى٣. "
و أفادت الآيات كلها أنه شفاء لأهل الإيمان، الذين يؤمنون دون غيرهم، فإنهم بإعراضهم عنه كانوا من الخاسرين.
شفاء المخلصين :
و جاءت آية يونس بتقييد الشفاء بها في الصدور الذي هو مستقر العقائد، لأن ذلك هو المقصود الأول، من هداية القرآن، و أصل لغيره، فإنه إذا شفيت الصدور من عقائد السوء، ونزاعات الشكوك، واعتقدت الحق، وارتبطت على اليقين.. زكت النفوس واستقام سلوك الإنسان فرده و جماعاته، ورقى درجات الكمال.
فلا ينافي ذلك أن القرآن، شفاء أيضا للنفوس من سيء الأخلاق كما هو مقتضى الإطلاق في آية الإسراء هذه، و آية السجدة، لأن الأخلاق ناشئة عن العقائد، ولازمة لها، ولأنهما كليهما٤ لا تكمل النفس الإنسانية إلا بالشفاء فيهما. ولا ينافي أيضا حصول الشفاء للأبدان بالقرآن في بعض الأحوال كما هو مقتضى الإطلاق أيضا، ومقتضى ما سيأتي من الآثار. و إن كان هذا ليس هو المقصود بالقصد الأول من شفاء القرآن.
تقسيم :
الأمراض الإنسانية قسمان :
أمراض أرواح و أمراض أبدان، وكلاهما أنواع.
و أمراض الأرواح المقصودة بالذات هنا ترجع إلى نوعين :
شفاء العقول والنفوس :
الأول مرض العقول : بجمود النظر، وفساد الإدراك، و تقليد الآباء، واعتقاد الباطل، والشك في الحق.
و الثاني مرض النفوس : بفساد الأخلاق، وانحطاط الصفات. أما الأعمال فهي تابعة لهما فتصلح بصلاحهما و تفسد بفسادهما.
و القرآن قد جاء داعيا إلى النظر، والتفكر، والاعتبار، والتدبير، مبينا بما ساق من حجج الله وحجج رسله الطريق الأقوم في الادراك الصحيح، والسبيل الاسد في الفهم والتفهيم، ناعيا على المقلدين تقليدهم، كاشفا لأهل الباطل عن باطلهم، ذاكرا من قواطع البراهين البينة الواضحة، ما لا يبقى معه خفاء في الحق و لا ريب.
وجاء أيضا مبينا للأخلاق الفاسدة، و ذاكرا سوء أثرها و قبح مغبتها، مبينا كذلك الأخلاق الصحيحة وعظيم نفعها، وحسن عاقبتها. فهذا شفاؤه للنفوس والعقول. وهو راجع إلى تصحيح العقائد و تقويم الأخلاق وبهما سلامة الأرواح و كمالها، وعليهما قوام الهيئة الاجتماعية وانتظامها.
على أن القرآن هو شفاء للاجتماع البشري، كما هو شقاء لأفراده : فقد شرع من أصول العدل، و قواعد العمران، ونظم التعامل، وسياسة الناس، ما فيه العلاج الكافي، والدواء الشافي لأمراض المجتمع الإنساني من جميع أمراضه وعلله.
شفاء العقائد والأخلاق :
شفاء القرآن والسنة :
شفاء العقائد و الأخلاق أساس الأعمال و المجتمع. هذه الأمراض لا تكاد تخلوا آيات القرآن من معالجتها، وبيان ما هو شفاء لها. ولا شفاء لها إلا بالقرآن، والبيان النبوي راجع إلى القرآن. و من طلب شفاءها في غير القرآن فإنه لا يزيدها إلا مرضا.
أمثلة :
فهذه الأمم الغربية بسجونها، ومشانقها، ومحاكمها، و قوتها، قد امتلأت بالجنايات و الفظائع المنكرة التي تقشعر منها الأبدان.
وهذه الممالك الإسلامية التي تقيم الحدود القرآنية كالمملكة الحجازية، والمملكة اليمانية، قد ضرب الأمن رواقه عليهما، واستقرت السكينة فيهما دون سجون و لا مشانق، مثل أولئك ؛ و ما ذلك إلا لأنهم داووا الملك بدواء القرآن فكان الشفاء التام.
شفاء الأبدان :
الداء والدواء :
و أما الأمراض البدنية، فقد قال – صلى الله عليه و آله وسلم - :" ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء " رواه البخاري من طريق أبي هريرة.
وقال :" لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله تعالى ".
رواه مسلم من طريق جابر.
و ثبت عنه٥ أنه داوى و تداوى و روى الأئمة من ذلك الكثير الطيب، في كتاب الطب من صحيح البخاري وغيره.
وثبت عنه – صلى الله عليه وآله وسلم – أنه استشفى و استرقى ببعض آيات القرآن العظيم، وأقر على ذلك من فعله من أصحابه.
روى البخاري من طريق يونس عن ابن شهاب عن ابن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت :
" كان رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – إذا آوى إلى فراشه نفث في كفيه، بقل هو الله احد/ وبالمعوذتين جمعا، ثم يمسح بهما وجهه، و ما بلغت يداه من جسده. ( قالت عائشة ) : فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به. قال يونس : كنت أرى ابن شهاب يصنع ذلك إذا أتى إلى فراشه ".
الرقية :
و روى الشيخان، واللفظ للبخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال :
" انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله وسلم في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد الحي، فسعوا له بكل شيء، لا ينفعه شيء.
فقال بعضهم : لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا، لعله أن يكون عند بعضهم شيء فأتوهم، فقالوا يا أيها الرهط : إن سيدنا لدغ، و سعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء ؟ فقال بعضهم : نعم والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فأنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا٦. فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يتفل عليه، ويقرأ الحمد لله رب العالمين ؛ فكأنما نشط من عقال٧. فانطلق يمشي وما به قلبه٨قال : فأوفهم جعلهم الذي صالحوهم عليه.
فقال بعضهم : اقسموا. فقال الذي رقى : لا تفعلوا حتى نأتي النبي – صلى الله عليه و آله وسلم – فنذكر له الذي كان، فننتظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، فذكروا له. فقال : وما يدريك٩ أنها رقية ؟ !. ثم قال : قد أصبتم ؛ أقسموا و اضربوا لي معكم سهما، فضحك رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم.
فثبت بهذين الحديثين : أن في القرآن شفاء للأبدان. ١٠
وحصل عندنا من جميع ما تقدم أنه شفاء للأرواح و الأبدان للأفراد و المجتمع.
شفاء عام :
مداواة الأبدان، بالطب والقرآن :
ثبت عنه صلى الله عليه و آله وسلم الأمر بالتداوي قولا وعملا.
وثبت عنه الاستشفاء بالقرآن و لا منافاة بينهما، فإن الإنسان مركب من روح من عالم النور، و جسم من عالم المادة المركبة.
فمن الحكمة الإلهية أن شرع الله لنا عند الأمراض على لسان رسول الله -صلى الله عليه و آله وسلم – الجمع بين الأدوية المادية، التي هي المناسبة للبدن، و الآيات القرآنية التي هي المناسبة للروح، مع ما في الأدوية القرآنية من اطمئنان القلب بالله، وقوته به، وانتعاشه بذكره، وفي ذلك من تقوية للروح ونعيمها ما يهون عليها ألم المرض، و يشفيها بإذن الله تعالى عليه.
و مثل الآيات القرآنية في ذلك، كل ما ثبت في السنة من الرقي النبوية المأثورة.
تحذير :
تفريط و إفراط :
فرط قوم : فأهملوا الاستشفاء بالذكر المأثور، واقتصروا على الدواء المادي، فحرموا أنفسهم من خير كثير، إذا لم يكونوا له كالمنكرين.
و أفرط آخرون : فأهملوا الدواء المادي، وزهدوا الناس قيه وتزيدوا في جانب المأثور، حتى خرجوا عنه واتخذوا لهم من ذلك حرفة وموردا للمعاش١١. ونسوا أنواع أشفية القرآن الروحية ولاجتماعية، التي هي المقصود بالمقام الأول من تنزيله١٢ مقصرين على الوجه الذي وجد منه سبيلا إلى الاسترزاق على ما أحدثوا فيه وما ابتدعوا، فعكسوا الأمر، وخالفوا السنة، ووقعوا في المحظور من عدة وجوه.
وهذان الطرفان مذمومان.
والعدل، هو الوسط الذي لا يهمل هذا ولا ذاك و يقف في الوارد عندما ورد ويتناوله على ما ورد.
تطبيق :
نزول الآيات في الكافرين، لايمنع من تطبيقها على من شاركهم في مثل الحال الذي أنكرته عليهم من المؤمنين، لأن الوصف المذموم مذموم، سواء أكان المتصف به مؤمنا أم كان كافرا.
فالذين تتلى عليهم الآيات القرآنية، و الأحاديث النبوية، وتوضح لهم الدلائل الشرعية، وهم لها معرضون، وعن تدبرها غافلون، وبها يتهاونون يزدادون بكل مرة إنما بإعراضهم وغفلتهم وتهاونهم، فيخسرون بقدر ما يفوتهم من الهداية على حسب حالتهم، وإذا لم يكن كخسار الكافرين، فهو كخسار المعرضين، الغافلين المتهاونين، وكفى به خسارا يتنزه عنه المؤمنون ويأباه الكافرون.
سلوك :
نتناول القرآن العظيم دواء من عند ربنا :
شفاء لأمراض عقولنا و أمراض نفوسنا، و أمراض مجتمعنا، فنتطلب ذلك منه ؛ بتدبير آياته و تفهم إشاراته، ووجوه دل
٢ سورة يونس عليه السلام الآية ٥٧.
.
٣ سورة فصلت الآية ٤٤..
٤ العقائد والأخلاق..
٥ عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم..
٦ أجرا..
٧ حبل يشد به ذراع البهيمة. أي كأنما حل منه وانطلق..
٨ بحركات أي علة..
٩ تعجب من وقوفه على أنها رقية و إصابته في ذلك..
١٠ و للأثر النفسي فعل السحر في النفوس، فكم من مريض ساعده على الشفاء دعوات صالحات و تبشير بعاجل الشفاء، و تطمين بحسن العاقبة، وبشاشة الطبيب و سماع آيات بينات.
١١ و كثير منهم يعد عنده الاحجبة والتمائم، ويصنفها على حسب الأمراض والعلل، وفي هذا وهم كبير وإثم أكبر..
١٢ في أنه نظام دين ودنيا، وهاد للتي هي أقوم..
الأغراض عن النعمة و اليئوس من الرحمة
" وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه، وإذا مسه الشر كان يئوسا.
قل كل يعمل على شاكلته، فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا ".
( سورة الإسراء الآيتان ٨٤، ٨٥ )
تمهيد :
في النوع الإنساني غرائز، غالبة عليه، لا يسلم منها إلا من عصم الله، أو وفق إلى الإيمان والعمل الصالح، وفي آيات القرآن العظيم بيان لكثير من تلك الغرائز، للتحذير من شرها، والتنبيه على سوء مغبتها، منها الآية الكريمة.
المناسبة :
لما ذكر تعالى أن القرآن يكون شفاء و رحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلا خسارا، بين تعالى سبب خسار أولئك الظالمين، وهو إعراضهم عن الله، و بعدهم عنه، ويأسهم من رحمته.
و علم منه أن المؤمنين الذين كان القرآن لهم شفاء ورحمة هم على الضد منهم : فهم أهل إقبال على الله تعالى، وقرب منه، ورجاء فيه.
المفردات :
( أنعمنا ) أوصلنا أنواع الإحسان.
( الإنسان ) المراد به النوع، باعتبار مجموعه، فلا ينافي خروج أفراد كثيرين بالعصمة والتوفيق.
( أعرض ) صد بوجهه إلى ناحية أخرى، فأرى عرض وجهه، أي ناحية وجهه ( نأى ) بعد.
( بجانبه ) بناحيته بشقه الأيمن أو الأيسر، والباء للتعدية أي أبعد جانبه.
( مسه ) أصابه. ( الشر ) البلايا و الرزايا بأنواعها
( يئوسا ) شديد اليؤس والقنوط، وعدم انتظار الفرح
التراكيب :
جيء بفعل الشرط و جوابه ماضيين١، لتحقق وقوعهما ؛ ولذلك كان التعليق بإذا وجواب الشرط والفعل والمعطوف عليه، فيهما الصورة التامة للمعرض غاية الإعراض ؛ فإنه يصرف عنك وجهه، وهذا مفاد الفعل الأول٢ ويلوى عنك اعطفه ويبعد جانبه، ويوليك ظهره، وهذا مفاد الفعل الثاني٣
ثم هما كناية عن الاستكبار وعد الاكتراث، وعدم الالتفات إلى مولى النعم/ سواء حصلت هذه الصورة بالفعل أو لم تحصل.
المعنى :
أ – و إذا أنعمنا على الإنسان أعرض تمام الإعراض.
إما بعدم قبول تلك النعمة استكبارا، أو تهاونا كما يكون من الذين يكفرون بالقرآن أو يخالفونه. و هو من أعظم نعم الله عليهم.
و إما بعدم القيام بحق الله في تلك النعمة/ وعدم شكره عليها، كنعمة العقل، والبدن، والحال٤ وغيرها... ، إذا لم تستعمل في طاعة الله، ولم يقم بحقه فيها.
ب – و إذا مس الإنسان الشر، و نزلت به المصائب، وحلت به النوائب، فاستولى عليه اليأس والقنوط، وانسدت في وجهه أبواب الرجاء.
توجيه :
يرتبط اليأس من رحمة الله بالإعراض عن نعمته من جهتين :
اليأس وجزاؤه :
الأولى : أن من أعرض عن نعمة الله تعالى فقطع صلته بخالقه، وذهب ممعنا في بعده. فإذا نزلت به المصيبة كان كالمنقطع به في البيداء : يجد نفسه وحده فيأخذه اليأس والقنوط من كل جانب.
الثانية : أن الإعراض عن النعمة ترك لها ولموليها، والآيس متروك لوحده، مغضوب عليه، قد ترك فترك، وكان جزاؤه من جنس عمله.
انتقال واعتبار :
صبر المؤمن :
تلك حالة أهل الإعراض.
أما أهل الإقبال على الله تعالى والقبول لإنعامه، فإن قلوبهم عامرة بالله، و صلتهم متينة به ؛ فإذا نزلت بهم المصائب، رجعوا إليه وانتظروا رحمته، فكان ذكره غناهم في الفقر، وأنسهم في الوحشة، ونعيمهم في الألم وكان لهم من الرجاء أنواع رحمته، ما يهون عليهم جميع المصائب.
تبصير وتحذير :
واقع وواجب :
بصرنا القرآن في هذين الوصفين الذميمين، الإعراض عن النعمة، واليأس من الرحمة. ونحن نراهما فاشيين في أكثر الناس على تفاوت بينهم، على حسب ما عندهم من إيمان وعمل صالح.
بصرنا القرآن بهما ليحذرنا منهما، ومن سوء عواقبهما فإن الإعراض عن النعمة كفر بها ومقتض لسلبها، وإن اليأس من رحمة الله جهل به، وكفر بما هو متقلب فيه من نعمه وموجب لانطماس القلب، وشلل البدن، وانقطاع الأعمال.
فليحذر المؤمن من هذين الوصفين الذميمين، وليعمل على اجتنابهما واجتثاثهما من أصلهما.
سلوك :
الرضا والشكر :
على المرء أن يقبل نعم الله تعالى، ويقبل عليها إقبال المستعظم لها، العارف بحقها، وعظيم الفضل بها ؛ ليقوم بشكرها، وذكر الله عندها، وليتفحصها، وليتأملها نعمة نعمة، ليشكر الله عليها واحدة واحدة بالقلب واللسان، والأركان، حسب المستطاع.
حتى ما يكون من باب المصائب والآلام، فإنه يتناوله على أنه نعمة من الله تعالى، بما فيه من أجر وتمحيص، وما يحصل به من رجوع، وإنابة، وما يكون منه من تربية و تدريب على السلوك اللازم في الحياة الفردية والاجتماعية، ٥ :" وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت، أيديكم و يعفو عن كثير٦ ".
وليكن دائما متمسكا بحبل الرجاء في الله، تيسير الأسباب، وكشف الكروب، ودفع المكروه ؛ فالرجاء حسن ظن في الرب، وقوة في القلب، وباعث على العمل، ومخفف أو مذهب للألم.
فيا لها من عظيم أجرها، جليل نفعها في الدنيا والدين.
فهنيئا للشاكرين الراجين.
و يا ويح الكافرين – كفر عقيدة أو كفر نعمة – القانطين٧.
مباينة سلوك أهل الحق لسلوك أهل الباطل :
٢ أعرض.
٣ ونأى..
٤ لعلها الجاه..
٥ ولذا قالوا أن الصوفي يفرح فرحة بالخير، و يفرح مرتين بالبلاء..
٦ الشورى الآية ٣٠..
٧ ويح : هلاك، والقانطين، اليائسين.
.
وجه الارتباط :
قد استفيد بما فقدم تقسيم الخلق إلى قسمين : أهل إيمان ورجاء، وأهل كفر وقنوط ؛ فجاء البيان في هذه الآية بأن كل فريق له مذهبه و طريقه الذي يكون عليه.
المفردات والتراكيب :
( شاكلته ) طريقته ومذهبه، المشاكلة الئقة به، التي صارت له طبيعة وخلقا.
( أهدى سبيلا )، أسد مذهبا، وأقوم طريقا.
التعبير بالمضارع مع لفظة على، يفيد تجدد العمل وانبناؤه على الخلق والطبيعة.
المعنى :
قل يا محمد – صلى الله عليه و آله وسلم- كل فريق منا ومنكم يعمل في حياته على طريقته ومذهبه، فأعمالنا مباينة لأعمالكم، لأن طريقتنا مباينة لطريقتكم، فربكم أعلم بمن هو أقوم طريقا، وأسد مذهبا، فيثيب المهتدين، ويعاقب الضالين.
فوائد استدراج الضال لقبول الهداية :
أ – وذلك بمناصفته بأنك على ناحيتك، وهو على ناحيته، وإظهار التساوي معه أمام علم الله وقدرته، وهذا من أنجع الأسباب في إنجاح الدعوة. و عليه في القرآن آيات كثيرة منها سورة " قل يا أيها الكافرون " فينبغي لدعاة الحق أن يلتزموه و لا يهملوه١
ب – و البراءة من أهل الباطل، وذلك بإعلان المباينة لهم، والمخالفة لهم في عملهم، وما انبنى عليه عملهم بأسلوب المناصفة الذي جاءت به الآية فتحصل البراءة مع الفائدة المتقدمة.
انبناء الأعمال على العقائد والأخلاق :
فإن الآية – وإن كانت بالخطاب الأول للمشركين، ثم لأمثالهم من الكافرين – تفيد أن كل أحد تبنى أعماله على مذهبه وطريقته، التي هي خلقه وطبيعته.
و نأخذ من هذا :
أن الذي نوجه إليه الاهتمام الأعظم في تربية أنفسنا، وتربية غيرنا هو تصحيح العقائد، وتقويم الأخلاق، فالباطن أساس الظاهر، وفي الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، و إذا فسدت فسد الجسد كله.
فعل المؤمن ما يناسب إيمانه :
فإن كان يعمل على طريقته و طبيعته اللائقة به، و لا يليق بالمؤمن و لا يشاكله إلا الصدق في القول، والإحسان، والوفاء، والأمانة ؛ فلا يظلم من ظلمه، ولا يخون من خانه، ولا يكذب على من كذب عليه، فلا تجري أفعاله في مقابلة الناقص على ما يشاكل ذلك الناقص، بل تجري أفعاله على ما يشاكله هو في إيمانه وكماله٢.
مراقبة الله في السلوك :
فإن علمنا بأنه أعلم بمن هو أهدى سبيلا، يدعونا إلى المبالغة في تقويم سلوكنا، حتى نكون على الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، فإنه هو أهدى الطرق، وأقربها.
وما ذلك الصراط المستقيم إلا القرآن العظيم، والهدى النبوي الكريم وسلوك السلف الصالح، وذلك هو دين الإسلام.
نسأل الله لنا و لجميع المسلمين الاستقامة، و النجاة يوم القيامة، بمنه وكرمه آمين.
٢ و في هذا سمو وارتقاء وترفع عن السفاهة والصغار..