تفسير سورة الإسراء

تفسير الشعراوي
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب تفسير الشعراوي .
لمؤلفه الشعراوي . المتوفي سنة 1419 هـ
لو تأملنا خواتيم سورة النحل لوجدناها مقدمة طبيعية لأحداث سورة الإسراء، ولوجدنا توافقاً وتناسباً في ترتيب هاتين السورتين، فقد ختمت النحل ببيان حكم رد العقوبة بمثلها، ثم أمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر وبينت جزاء الصابرين، ونهت رسول الله عن الضيق من مكر الكفار.
نستشف من هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيستقبل أحداثاً تحتاج إلى صبر وشدائد، تحتاج إلى سعة صدر، وكأن هذه التوجيهات جاءت بمثابة مناعات إيمانية، تحصن رسول الله، وتعده لما هو مقبل عليه من أحداث في سورة الإسراء، وكأنها إشارات لما سيحدث من شدائد حتى لا يفاجأ رسول الله بها، ولا تأتيه على غرة.
هذه المناعات التي جاءت في نهاية سورة النحل أشبه بما نلجأ إليه في حفظ سلامة البنية وسلامة القالب، حينما نخاف من الأمراض، إنه ما نسميه بالتطعيم ضد المرض، فيأخذ الجسم من هذا الطعم حصانة تحميه إذا هاجمه المرض. كذلك الحق سبحانه وتعالى يعطي رسوله هذه التحصينات، حتى يواجه الأحداث والشدائد القادمة بصبر وجلد، ويعلم أن الله تعالى لن يخذله، ولن يتخلى عنه، فما أرسل الله رسولاً وخذله أبداً، فإن خذله الناس، وضاقت عليه الدنيا بما رحبت، وجد الملجأ في معيته سبحانه وتعالى.
وفعلاً، نزلت الشدائد برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت قمة هذه الأحداث عند فقد عمه أبي طالب، وزوجه خديجة في عام واحد، ولقسوة هذا عليه سماه " عام الحزن ".
ففقد صلى الله عليه وسلم بموت عمه الحماية الخارجية التي كانت تدفع عنه أذى المشركين، وتصد عنه صناديد قريش، وفقد بموت زوجته الحماية الداخلية، والملجأ الذي كان يأوي إليه، حيث كانت تواسيه، وتهدئ من روعه في أول نزول الوحي عليه، وتبين له بفقه أن ما يجده في الغار من علامات النبوة، وأن الله لن يتخلى عنه، وتقول له : " والله إنك لتصل الرحم، وتغيث الملهوف، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر ". نعم، لقد كان عام حزن فعلاً، فقد فيه السكن الخارجي والداخلي معاً، فأين يذهب صلى الله عليه وسلم. فما عاد يشعر بأمن في مكة، ففكر في أهل الطائف، عساه يجد الأمن والأمان بينهم، ولكنه كان كالمستجير من الرمضاء بالنار، فقد آذوه أشد الإيذاء، وقذفوه بالحجارة حتى أدموا قدمه الشريفة، وأغروا به صبيانهم وسفهاءهم، وعاد منها حزيناً منكسراً إلى مكة مرة أخرى، فلم يجد من يجيره إلا مُطعِم بنَ عَدي.
ومن هنا نعلم أن نهايات سورة النحل جاءت في موقعها المناسب، وكأن الحق سبحانه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : لقد ضاقت عليك الأرض بما رحبت، وضاقت عليك نفسك، ولكن ملجؤك إلى الله، سيريك أن قسوة الأرض، وتجهم الحياة لك، سأبدلك به تحية مباركة، في أن أريك حفاوة السماء بك، فبعد ما حدث لك في مكة والطائف :﴿ ولا تك في ضيق مما يمكرون " ١٢٧ " إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.. " ١٢٨ " ﴾( سورة النحل ). وجاء حادث الإسراء والمعراج ليرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حفاوة الملأ الأعلى، بعد ما أصابه من أذى البشر، وقبل أن يرى رسول الله حفاوة السماء غير الله له نظام الكون.

استهل الحق سبحانه هذه السورة بقوله ( سبحان ) ؛ لأنها تتحدث عن حدث عظيم خارق للعادة، ومعنى سبحانه : أي تنزيهاً لله تعالى تنزيهاً مطلقاً، أن يكون له شبه أو مثيل فيما خلق، لا في الذات، فلا ذات كذاته، ولا في الصفات فلا صفات كصفاته، ولا في الأفعال، فليس في أفعال خلقه ما يشبه أفعاله تعالى. فإن قيل لك : الله موجود وأنت موجود، فنزه الله أن يكون وجوده كوجودك ؛ لأن وجودك من عدم، وليس ذاتياً فيك، ووجوده سبحانه ليس من عدم، وهو ذاتي فيه سبحانه.
فذاته سبحانه لا مثيل لها، ولا شبيه في ذوات خلقه. وكذلك إن قيل : سمع والله سمع. فنزه الله أن يشابه سمعه سمعك، وإن قيل : لك فعل، ولله فعل فنزه الله أن يكون فعله كفعلك. ومن معاني ( سبحانه )أي : أتعجب من قدرة الله. إذن : كلمة ( سبحان )جاءت هنا لتشير إلى أن ما بعدها أمر خارج عن نطاق قدرات البشر، فإذا ما سمعته إياك أن تعترض أو تقول : كيف يحدث هذا ؟ بل نزه الله أن يشابه فعله فعل البشر، فإن قال لك : إنه أسرى بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس في ليلة، مع أنهم يضربون إليها أكباد الإبل شهراً، فإياك أن تنكر.
فربك لم يقل : سرى محمد، بل أسرى به. فالفعل ليس لمحمد ولكنه لله، ومادام الفعل لله فلا تخضعه لمقاييس الزمن لديك، ففعل الله ليس علاجاً ومزاولة كفعل البشر. ولو تأملنا كلمة ( سبحانه )نجدها في الأشياء التي ضاقت فيها العقول، وتحيرت في إدراكها وفي الأشياء العجيبة، مثل قوله تعالى : سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون " ٣٦ " }
( سورة يس ) : فالأزواج أي : الزوجين الذكر والأنثى، ومنهما يتم التكاثر في النبات، وفي الإنسان وقد فسر لنا العلم الحديث قوله :( ومما لا يعلمون )بما توصل إليه من اكتشاف الذرة والكهرباء، وأن فيهما السالب والموجب الذي يساوي الذكر والأنثى ؛ لذلك قال تعالى } : ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون " ٤٩ " }( سورة الذاريات ). ومنها قوله تعالى } : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون.. " ١٧ " } ( سورة الروم ). فمن يطالع صفحة الكون عند شروق الشمس وعند غروبها ويرى كيف يحل الظلام محل الضياء، أو الضياء محل الظلام، لا يملك أمام هذه الآية إلا أن يقول : سبحان الله. ومنها قوله تعالى } : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين " ١٣ " } ( سورة الزخرف ) : هذه كلها أمور عجيبة، لا يقدر عليها إلا الله، وردت فيها كلمة ( سبحان )في خلال السور وفي طيات الآيات. و( سبحان )اسم يدل على الثبوت والدوام، فكأن تنزيه الله موجود وثابت له سبحانه قبل أن يوجد المنزه، كما نقول في الخلق، فالله خالق ومتصف بهذه الصفة قبل أن يخلق شيئاً.
وكما تقول : فلان شاعر، فهو شاعر قبل أن يقول القصيدة، فلو لم يكن شاعراً ما قالها. إذن : تنزيه الله ثابت له قبل أن يوجد من ينزهه سبحانه، فإذا وجد المنزه تحول الأسلوب من الاسم إلى الفعل، فقال سبحانه } : سبح لله ما في السماوات وما في الأرض " ١ " } ( سورة الحشر ) : وهل سبح وسكت وانتهى التسبيح ؟ لا، بل } : يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض.. " ١ " } ( سورة الجمعة ) : على سبيل الدوام والاستمرار، ومادام الأمر كذلك والتسبيح ثابت له، وتسبح له الكائنات في الماضي والحاضر، فلا تتقاعس أنت أيها المكلف عن تسبيح ربك، يقول تعالى } : سبح اسم ربك الأعلى " ١ " }
( سورة الأعلى )، وقوله :( أسرى )من السري، وهو السير ليلاً، وفي الحكم :( عند الصباح يحمد القوم السري ). فالحق سبحانه أسرى بعبد، فالفعل لله تعالى، وليس لمحمد صلى الله عليه وسلم فلا تقس الفعل بمقياس البشر، ونزه فعل الله عن فعلك، وقد استقبل أهل مكة هذا الحدث استقبال المكذب. فقالوا : كيف هذا ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً، وهم كاذبون في قولهم ؛ لأن رسول الله لم يدع أنه سرى بل قال : أسرى بي. ومعلوم أن قطع المسافات يأخذ من الزمن على قدر عكس القوة المتمثلة في السرعة. أي : أن الزمن يتناسب عكسياً مع القوة، فلو أردنا مثلاً الذهاب إلى الإسكندرية سيختلف الزمن لو سرنا على الأقدام عنه إذا ركبنا سيارة أو طائرة، فكلما زادت القوة قل الزمن، فما بالك لو نسب الفعل والسرعة إلى الله تعالى، إذا كان الفعل من الله فلا زمن.
فإن قال قائل : مادام الفعل مع الله لا يحتاج إلى زمن، لماذا لم يأت الإسراء لمحة فحسب، ولماذا
استغرق ليلة ؟ نقول : لأن هناك فرقاً بين قطع المسافات بقانون الله سبحانه وبين مراء عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق، فرأى مواقف، وتكلم مع أشخاص، ورأى آيات وعجائب، هذه هي التي استغرقت الزمن. وقلنا : إنك حين تنسب الفعل إلى فاعله يجب أن تعطيه من الزمن على قدر قوة الفاعل. هب أن قائلاً قال لك : أنا صعدت بابني الرضيع قمة جبل " إفرست "، هل تقول له : كيف صعد ابنك الرضيع قمة " إفرست " ؟ هذا سؤال إذن في غير محله، وكذلك في مسألة الإسراء والمعراج يقول تعالى : أنا أسريت بعبدي، فمن أراد أن يحيل المسألة وينكرها، فليعترض على الله صاحب الفعل لا على محمد. لكن كيف فاتت هذه القضية على كفار مكة ؟
ومن تكذيب كفار مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج نأخذ رداً جميلاً على هؤلاء الذين يخوضون في هذا الحادث بعقول ضيقة وبإيمانية سطحية في عصرنا الحاضر، فيطالعونا بأفكار سقيمة ما أنزل الله بها من سلطان.
ونسمع منهم من يقول : إن الإسراء كان مناماً، أو كان بالروح دون الجسد. ونقول لهؤلاء : لو قال محمد لقومه : أنا رأيت في الرؤيا بيت المقدس، هل كانوا يكذبون ؟ ولو قال لهم : لقد سبحت روحي الليلة حتى أتت بيت المقدس، أكانوا يكذبونه ؟ أتكذب الرؤى أو حركة الأرواح ؟ !
إذن : في إنكار الكفار على رسول الله وتكذيبهم له دليل على أن الإسراء كان حقيقة تمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه وجسده، وكأن الحق سبحانه ادخر الموقف التكذيبي لمكذبي الأمس، ليرد به على مكذبي اليوم. وقوله سبحانه :﴿ بعبده.. " ١ " ﴾ ( سورة الإسراء ).
العبد كلمة تطلق على الروح والجسد معاً، هذا مدلولها، لا يمكن أن تطلق على الروح فقط. لكن، لماذا اختار الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم هذه الصفة بالذات ؟
نقول : لأن الله تعالى جعل في الكون قانوناً عاماً للناس، وقد يخرق هذا القانون أو الناموس العام ليكون معجزة للخاصة الذين ميزهم الله عن سائر الخلق، فكأن كلمة ( عبده )هي حيثية الإسراء.
أي : أسرى به ؛ لأنه صادق العبودية لله، ومادام هو عبده فقد أخلص في عبوديته لربه، فاستحق أن يكون له ميزة وخصوصية عن غيره، فالإسراء والمعراج عطاء من الله استحقه رسوله بما حقق من عبودية لله. وفرق بين العبودية لله والعبودية للبشر، فالعبودية لله عز وشرف يأخذ بها العبد خير
سيده، وقال الشاعر :
ومما زادني شرفاً وعزاً**** وكدت بأخصمي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي**** وأن صيرت أحمد لي نبياً
أما عبودية البشر للبشر فنقص ومذلة وهوان، حيث يأخذ السيد خير عبده، ويحرمه ثمره كده. لذلك، فالمتتبع لآيات القرآن يجد أن العبودية لا تأتي إلا في المواقف العظيمة مثل :
﴿ سبحان الذي أسرىبعبده.. " ١ " ﴾ ( سورة الإسراء )، وقوله :﴿ وإنه لما قام عبد الله يدعوه.. " ١٩ " ﴾
( سورة الجن ). ويكفيك عزاً وكرامة أنك إذا أردت مقابلة سيدك أن يكون الأمر في يدك، فما عليك إلا أن تتوضأ وتنوي المقابلة قائلاً : الله اكبر، فتكون في معية الله عز وجل في لقاء تحدد أنت مكانه وموعده ومدته، وتختار أنت موضوع المقابلة، وتظل في حضرة ربك إلى أن تنهي المقابلة متى أردت. وما احسن ما قال الشاعر :
حسب نفسي عزاً بأني عبد ****يحتفي بي بلا مواعيد رب
هو في قدسه الأعز ولكني**** أنا ألقي متى وأين احب
فما بالك لو حاولت لقاء عظيم من عظماء الدنيا ؟ وكم أنت ملاق من المشقة والعنت ؟ وكم دونه من الحجاب والحراس ؟ ثم بعد ذلك ليس لك أن تختار لا الزمان ولا المكان، ولا الموضوع ولا غيره.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المتخلق بأخلاق الله إذا سلم على أحد لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده. وقوله :﴿ ليلاً.. " ١ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : سبق أن قلنا : إن السري هو السير ليلاً، فكانت هذه كافية للدلالة على وقوع الحدث ليلاً، ولكن الحق سبحانه أراد أن يؤكد ذلك، فقد يقول قائل : لماذا لم يحدث الإسراء نهاراً ؟
نقول : حدث الإسراء ليلاً، لتظل المعجزة غيباً يؤمن به من يصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو ذهب في النهار لرآه الناس في الطريق ذهاباً وعودة، فتكون المسألة إذن حسية مشاهدة لا مجال فيها للإيمان بالغيب. لذلك لما سمع أبو جهل خبر الإسراء طار به إلى المسجد وقال : إن صاحبكم يزعم أنه أسرى به الليلة من مكة إلى بيت المقدس، فمنهم من قلب كفيه تعجباً، ومنهم من أنكر، ومنهم من ارتد. أما الصديق أبو بكر فقد استقبل الخبر استقبال المؤمن المصدق، ومن هذا الموقف سمي الصديق، وقال قولته المشهورة : " إن كان قال فقد صدق ". إذن : عمدته أن يقول رسول الله، وطالما قال فهو صادق، هذه قضية مسلم بها عند الصديق رضي الله عنه.
ثم قال : " إنا لنصدقه في أبعد من هذا، نصدقه في خبر السماء ( الوحي )، فكيف لا نصدقه في هذا " ؟
إذن : الحق سبحانه جعل هذا الحادث محكاً للإيمان، وممحصاً ليقين الناس، حين يغربل من حول رسول الله، ولا يبقى معه إلا أصحاب الإيمان واليقين الثابت الذي لا يهتز ولا يتزعزع. لذلك قال تعالى في آية أخرى :﴿ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس.. " ٦٠ " ﴾ ( سورة الإسراء( : وهذا دليل آخر على أن الإسراء لم يكن مناماً، فالإسراء لا يكون فتنة واختباراً إلا إذا كان حقيقة لا مناماً، فالمنام لا يكذبه أحد ولا يختلف فيه الناس. لكن لماذا قال عن الإسراء ( رؤيا )يعني المنامية، ولم يقل " رؤية " يعني البصرية ؟
قالوا : لأنها لما كانت عجيبة من العجائب صارت كأنها رؤيا منامية، فالرؤيا محل الأحداث العجيبة.
وورد في الإسراء أحاديث كثيرة تكلم فيها العلماء : أكان بالروح والجسد ؟ أكان يقظة أم مناماً ؟ أكان من المسجد الحرام أم من بيت أم هانئ ؟ ونحن لا نختلف مع هذه الآراء، ونوضح ما فيها من تقارب.
فمن حيث : أكان الإسراء بالروح فقط أم بالروح والجسد ؟ فقد أوضحنا وجه الصواب فيه، وأنه كان بالروح والجسد جميعاً، فهذا مجال الإعجاز، ولو كان بالروح فقط ما كان عجيباً، وما كذبه كفار مكة.
أما من ذهب إلى أن الإسراء كان رؤيا منام، فيجب أن نلاحظ أن أول الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان الرؤيا الصادقة، فكان صلى الله عليه وسلم لا يرى رؤيا إلا وجاءت كفلق الصبح، فرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ليست كرؤيانا، بل هي صدق لابد أن يتحقق. ومثال ذلك ما حدث، من إرادة الله له رؤيا الفتح.
قال تعالى :﴿ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون.. " ٢٧ " ﴾ ( سورة الفتح ) : وقد أخبر صلى الله عليه وسلم صحابته هذا الخبر، فلما ردهم الكفار عند الحديبية، فقال الصحابة لرسو
قوله :( وآتينا )أي : أوحينا إليه معانيه، كما قال تعالى :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء.. " ٥١ " ﴾ ( سورة الشورى ) : فليس في هذا الأمر مباشرة. و( الكتاب )هو التوراة، فلو اقترن بعيسى فهو الإنجيل، وإن أطلق دون أن يقترن بأحد ينصرف إلى القرآن الكريم.
والوحي قد يكون بمعاني الأشياء، ثم يعبر عنها الرسول بألفاظه، أو يعبر عنها رجاله وحواريوه بألفاظهم.
ومثال ذلك : الحديث النبوي الشريف، فالمعنى فيه من الحق سبحانه، واللفظ من عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان الأمر في التوراة والإنجيل.
فإن قال قائل : ولماذا نزل القرآن بلفظه ومعناه، في حين نزلت التوراة والإنجيل بالمعنى فقط ؟ نقول : لأن القرآن نزل كتاب منهج مثل التوراة والإنجيل، ولكنه نزل أيضاً كتاب معجزة لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، فلا دخل لأحد فيه، ولابد أن يظل لفظه كما نزل من عند الله سبحانه وتعالى.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أوحى إليه لفظ ومعنى القرآن الكريم، وأوحى إليه معنى الحديث النبوي الشريف. والحق سبحانه يقول :﴿ وجعلناه هدىً لبني إسرائيل.. " ٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : وقال تعالى في آية أخرى :﴿ ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل " ٢٣ " ﴾
( سورة السجدة ) : والهدى : هو الطريق الموصل للغاية من أقصر وجه، وبأقل تكلفة، وهو الطريق المستقيم، ومعلوم عند أهل الهندسة أن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين. ثم أوضح الحق سبحانه وتعالى خلاصة هذا الكتاب، وخلاصة هذا الهدى لبني إسرائيل في قوله تعالى :﴿ ألا تتخذوا من دوني وكيلا " ٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : ففي هذه العبارة خلاصة الهدى، وتركيز المنهج وجماعه.
والوكيل : هو الذي يتولى أمرك، وأنت لا تولي أحداً أمرك إلا إذا كنت عاجزاً عن القيام به، وكان من توكله أحكم منك وأقوى، فإذا كنت ترى الأغيار تنتاب الناس من حولك وتستولي عليهم، فالغني يصير فقيراً، والقوي يصير ضعيفاً، والصحيح يصير سقيماً.
وكذلك ترى الموت يتناول الناس واحداً تلو الآخر، فاعلم أن هؤلاء لا يصلحون لتولي أمرك والقيام بشأنك، فربما وكلت واحداً منهم ففاجأك خبر موته.
إذن : إذا كنت لبيباً فوكل من لا تنتابه الأغيار، ولا يدركه الموت ؛ ولذلك فالحق سبحانه حينما يعلمنا أن نكون على وعي وإدراك لحقائق الأمور، يقول :﴿ وتوكل على الحي الذي لا يموت " ٥٨ " ﴾ ( سورة الفرقان ) : ومادام الأمر كذلك، فإياك أن تتخذ من دون الله وكيلاً، حتى لو كان هذا الوكيل هو الواسطة بينك وبين ربك كالأنبياء ؛ لأنهم لا يأتون بشيء من عند أنفسهم، بل يناولونك ويبلغونك عن الله سبحانه. ولذلك الحق سبحانه يقول :﴿ ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك.. " ٨٦ " ﴾( سورة الإسراء )
ولو شئنا ما أوحينا إليك أبداً، فمن أين تأتي بالمنهج إذن ؟ وقد تحدث العلماء طويلاً في ( أن )في قوله :
﴿ ألا تتخذوا من دوني وكيلا " ٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : فمنهم من قال : إنها ناهية. ومنهم من قال : نافية، واحسن ما يقال فيها : إنها مفسرة لما قبلها من قوله تعالى :﴿ وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى.. " ٢ " ( سورة الإسراء )، { فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى " ١٢٠ " ﴾ ( سورة طه ) : فقوله :( قال يا آدم )تفسر لنا مضمنون وسوسة الشيطان. ومثله قوله تعالى :﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه.. " ٧ " ﴾ ( سورة القصص ) :( فإن )هنا مفسرة لما قبلها. وكأن المعنى : وأوحينا إليه ألا تتخذوا من دوني وكيلاً.
أو نقول : إن فيها معنى المصدرية، وأن المصدرية قد تجر بحرف جر كما نقول : عجبت أن تنجح، أي : من أن تنجح، ويكون معنى الآية هنا : وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لنبي إسرائيل لأن لا تتخذوا من دوني وكيلاً.
( ذرية )منصوبة هنا على الاختصاص لقصد المدح، فالمعنى : أخصكم أنتم يا ذرية نوح، ولكن لماذا ذرية نوح بالذات ؟
ذلك لأننا نجينا الذين آمنوا معه من الطوفان والغرق، وحافظنا على حياتهم، وأنتم ذريتهم، فلابد لكم أن تذكروا هذه النعمة لله تعالى، أن أبقاكم الآن من بقاء آبائكم.
فكأن الحق سبحانه يمتن عليهم بأن نجى إبراهيم مع نوح، فليستمعوا إلى منهج الله الذي جربه آباؤهم، ووجدوا أن من يؤمن بالله تكون له النجاة والأمن من عذاب الله. ويقول تعالى :﴿ إنه كان عبدا شكورا " ٣ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : أن الحق سبحانه أكرم ذريته ؛ لأنه كان عبداً شكوراً، والعمل الصالح ينفع ذرية صاحبه ؛ ولذلك سنلاحظ ذرية نوح بعنايتنا، ولن نتركهم يتخبطون في متاهات الحياة، وسنرسل لهم الهدى الذي يرسم لهم الطريق القويم، ويجنبهم الزلل والانحراف.
ودائماً ما ينشغل الآباء بالأبناء، فإذا ما توفر للإنسان قوت يومه تطلع إلى قوت العام كله، فإذا توفر له قوت عامه قال : أعمل لأولادي، فترى خير أولاده أكثر من خيره، وتراه ينشغل بهم، ويؤثرهم على نفسه، ويترقى في طلب الخير لهم، ويود لو حمل عنهم كل تعب الحياة ومشاقها.
ومع ذلك، فالإنسان عرضة للأغيار، وقد يأتيه أجله فيترك وراءه كل شيء ؛ ولذلك فالحق سبحانه يدلنا على وجه الصواب الذي ينفع الأولاد، فيقول تعالى :﴿ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا " ٩ " ﴾( سورة النساء ) : والحق تبارك وتعالى حينما يعلمنا أن تقوى الله تتعدى بركتها إلى أولادك من بعدك، يعطينا مثلاً واقعياً في قصة موسى والخضر عليهما السلام التي حكاها لنا القرآن الكريم.
والشاهد فيها أنهما حينما مرا على قرية، واستطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما، وسؤال الطعام يدل على صدق الحاجة، فلو طلب منك السائل مالاً فقد تتهمه بكنزه، أما إذا طلب منك رغيفاً يأكله فلاشك أنه صادق في سؤاله، فهذا دليل على أنها قرية لئام لا يقومون بواجب الضيافة، ولا يقدرون حاجة السائل. ومن هنا تعجب موسى عليه السلام من مبادرة الخضر إلى بناء الجدار الذي أوشك على السقوط دون أن يأخذ أجره من هؤلاء اللئام :﴿ فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا " ٧٧ " ﴾( سورة الكهف ) : وهنا يكشف الخضر لموسى حقيقة الأمر، ويظهر له ما أطلعه الله عليه من بواطن الأمور التي لا يدركها موسى عليه السلام، فيقول :﴿ وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك.. " ٨٢ " ﴾ ( سورة الكهف ) : فالجدار ملك لغلامين صغيرين لا يقدران على حماية مالهما من هؤلاء اللئام، ولأن أباهما كان صالحاً سخر الله لهما من يخدمهما، ويحافظ على مالهما.
إذن : فعلة هذا العمل أن أباهما كان صالحاً، فأكرمهم الله من أجله، وجعلهما في حيازته وحفظه. وهنا قد يسأل سائل : ومن أين للغلامين أن يعلما بأمر هذا الكنز عند بلوغهما ؟
والظاهر أن الخضر بما أعطاه الله من الحكمة بنى هذا الجدار بناءً موقوتاً، بحيث ينهدم بعد بلوغ الغلامين، فيكونان قادرين على حمايته والدفاع عنه. والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا هذه القضية في آية أخرى فيقول سبحانه :﴿ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء " ٢١ " ﴾( سورة الطور ) : فكرامة للآباء نلحظ بهم الأبناء، حتى وإن قصروا في العمل عن آبائهم، فنزيد في أجر الأبناء، ولا ننقص من أجر الآباء. وقوله :
﴿ إنه كان عبدا شكورا " ٣ " ﴾ ( سورة الإسراء ).
قوله تعالى :﴿ وقضينا.. " ٤ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : حكمنا حكماً لا رجعة فيه، وأعلنا به المحكوم عليه، والقاضي الذي حكم هنا هو الحق سبحانه وتعالى.
والقضاء يعني الفصل في نزاع بين متخاصمين، وهذا الفصل لابد له من قاضٍ مؤهل، وعلى علم بالقانون الذي يحكم به، ويستطيع الترجيح بين الأدلة.
إذن : لابد أن يكون القاضي مؤهلاً، ولو عرف المتنازعين، ويمكن أن يكونوا جميعاً أميين لا يعرفون عن القانون شيئاً، ولكنهم واثقون من شخص ما، ويعرفون عنه قول الحق والعدل في حكومته، فيرتضونه قاضياً ويحكمونه فيما بينهم.
ثم إن القاضي لا يحكم بعلمه فحسب، بل لابد له من بينة على المدعي أن يقدمها أو اليمين على من أنكر، والبينة تحتاج إلى سماع الشهود، ثم هو بعد أن يحكم في القضية لا يملك تنفيذ حكمه، بل هناك جهة أخرى تقوم بتنفيذ حكمه، ثم هو في أثناء ذلك عرضة للخداع والتدليس وشهادة الزور وتلاعب الخصوم بالأقوال والأدلة.
وقد يستطيع الظالم أن يعمي عليه الأمر، وقد يكون لبقاً متكلماً يستميل القاضي، فيحول الحكم لصالحه، كل هذا يحدث في قضاء الدنيا. فما بالك إذا كان القاضي هو رب العزة سبحانه وتعالى ؟
إنه سبحانه وتعالى القاضي العدل الذي لا يحتاج إلى بينة ولا شهود، ولا يقدر أحد أن يعمي عليه أو يخدعه، وهو سبحانه صاحب كل السلطات، فلا يحتاج إلى قوة أخرى تنفذ ما حكم به، فكل حيثيات الأمور موكولة إليه سبحانه.
وقد حدث هذا فعلاً في قضاء قضاه النبي صلى الله عليه وسلم، وهل القضاة أفضل من رسول الله ؟ !
ففي الحديث الشريف : " إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته فأقضي له، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً، فلا يأخذه ؛ فإنما أقطع له قطعة من النار ".
فرد صلى الله عليه وسلم الحكم إلى ذات المحكوم له، ونصحه أن يراجع نفسه وينظر فيما يستحق، فالرسول صلى الله عليه وسلم بشر يقضي كما يقضي البشر، ولكن إن عميت على قضاء الأرض فلن تعمى على قضاء السماء.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم فيمن يستفتي شخصاً فيفتيه فتوى تخالف الحق وتجانب الصواب :
" استفت قلبك، وإن أفتوك، وإن أفتوك، وإن أفتوك ".
قالها ثلاثاً ليلفتنا إلى ضرورة أن يكون الإنسان واعياً مميزاً بقلبه بين الحلال والحرام، وعليه أن يراجع نفسه ويتدبر أمره. وقوله :﴿ في الكتاب.. " ٤ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : في التوراة، كتابهم الذي نزل على نبيهم، وهم محتفظون به وليس في كتاب آخر، فالحق سبحانه قضى عليهم. أي : حكم عليهم حكماً وأعلمهم به، حيث أوحاه إلى موسى، فبلغهم به في التوراة، وأخبرهم بما سيكون منهم من ملابسات استقبال منهج الله على ألسنة الرسل، أينفذونه وينصاعون له، أم يخرجون عنه ويفسدون في الأرض ؟
إذا كان رسولهم عليه السلام قد أخبرهم بما سيحدث منهم، وقد حدث منهم فعلاً ما أخبرهم به الرسول وهم مختارون، فكان عليهم أن يخجلوا من ربهم عز وجل، ولا يتمادوا في تصادمهم بمنهج الله وخروجهم عن تعاليمه، وكان عليهم أن يصدقوا رسولهم فيما أخبرهم به، وأن يطيعوا أمره.
وقوله تعالى :﴿ لتفسدن في الأرض مرتين.. " ٤ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : جاءت هذه العبارة هكذا مؤكدة باللام، وهذا يعني أن في الآية قسماً دل عليه جوابه، فكأن الحق سبحانه يقول : ونفسي لتفسدن في الأرض، لأن القسم لا يكون إلا بالله. أو نقول : إن المعنى : مادمنا قد قضينا وحكمنا حكماً مؤكداً لا يستطيع أحد الفكاك منه، ففي هذا معنى القسم، وتكون هذه العبارة جواباً ل " قضينا " ؛ لأن القسم يجيء للتأكيد، والتأكيد حاصل في قوله تعالى :﴿ وقضينا.. " ٤ " ﴾ ( سورة الإسراء ).
فما هو الإفساد ؟ الإفساد : أن تعمد إلى الصالح في ذاته فتخرجه عن صلاحه، فكل شيء في الكون خلقه الله تعالى لغاية، فإذا تركته ليؤدي غايته فقد أبقيته على صلاحه، وإذا أخللت به يفقد صلاحه ومهمته، والغاية التي خلقه الله من أجلها.
والحق سبحانه وتعالى قبل أن يخلقنا على هذه الأرض خلق لنا مقومات حياتنا في السماء والأرض والشمس والهواء.. الخ وليس مقومات حياتنا فحسب، بل وأعد لنا في كونه ما يمكن الإنسان بعقله وطاقته أن يزيد الصالح صلاحاً، فعلى الأقل إن لم تستطع أن تزيد الصالح صلاحاً فأبق الصالح على صلاحه.
فمثلاً، عندك بئر محفورة تخرج لك الماء، فإما أن تحتفظ بها على حالها فلا تطمسها، وإما أن تزيد في صلاحها بأن تبني حولها ما يحميها من زحف الرمال، أو تجعل فيها آلة رفع للماء تضخه في مواسير لتسهل على الناس استعمال، وغير ذلك من أوجه الصلاح. ولذلك الحق سبحانه وتعالى يقول :
﴿ هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها.. " ٦١ " ﴾( سورة هود ) : أي : أنشأكم من الأرض، وجعل لكم فيها مقومات حياتكم، فإن أحببت أن تثري حياتك فأعمل عقلك المخلوق لله ليفكر، والطاقة المخلوقة في أجهزتك لتعمل في المادة المخلوقة لله في الكون، فأنت لا تأتي بشيء من عندك، فقد تعمل عقلك وتستغل الطاقة المخلوقة لله، وتتفاعل مع الأرض المخلوقة لله، فتعطيك كل ما تتطلع إليه وكل ما يثري حياتك، ويوفر لك الرفاهية والترقي.
فالذين اخترعوا لنا صهاريج المياه أعملوا عقولهم، وزادوا الصالح صلاحاً، وكم فيها من ميزات وفرت علينا عناء رفع المياه إلى الأدوار العليا، وقد استنبط هؤلاء فكرة الصهاريج من ظواهر الكون، حينما رأوا السيل ينحدر من أعلى الجبال إلى أسفل الوديان، فأخذوا هذه الفكرة، وأفلحوا في عمل يخدم البشرية.
وكما يكون الإفساد في الماديات كمن أفسدوا علينا الماء والهواء بالملوثات، كذلك يكون في المعنويات، فالمنهج الإلهي الذي أنزله الله تعالى لهداية الخلق وألزمنا بتنفيذه، فكونك لا تنفذ هذا المنهج، أو تكتمه، أو تحرف فيه، فهذا كله إفساد لمنهج الله تعالى.
ويقول تعالى لبني إسرائيل :﴿ لتفسدن في الأرض مرتين.. " ٤ " ﴾( سورة الإسراء ) : وهل أفسد بنو إسرائيل في الأرض مرتين فقط ؟
والله إن كانوا كذلك فقد خلاهم ذم، والأمر إذن هين، لكنهم أفسدوا في الأرض إفساداً كثيراً متعدداً، فلماذا قال تعالى : مرتين ؟
تحدث العلماء كثيراً عن هاتين المرتين، وفي أي فترات التاريخ حدثتا، وذهبوا إلى أنهما قبل الإسلام، والمتأمل لسورة الإسراء يجدها قد ربطتهم بالإسلام، فيبدو أن المراد بالمرتين أحداث حدثت منهم في حضن الإسلام.
فالحق سبحانه وتعالى بعد أن ذكر الإسراء ذكر قصة بني إسرائيل، فدل ذلك على أن الإسلام تعدى إلى مناطق مقدساتهم، فأصبح بيت المقدس قبلة للمسلمين، ثم أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وبذلك دخل في حوزة الإسلام ؛ لأنه جاء مهيمناً على الأديان السابقة، وجاء للناس كافة.
إذن : كان من الأولى أن يفسروا هاتين المرتين على أنهما في حضن الإسلام ؛ لأنهم أفسدوا كثيراً قبل الإسلام، ولا دخل للإسلام في إفسادهم السابق ؛ لأن الحق سبحانه يقول :﴿ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا " ٤ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : فاك كان الفساد مطلقاً. أي : قبل أن يأتي الإسلام فقد تعدد فسادهم، وهل هناك أكثر من قولهم بعد أن جاوز بهم البحر فرأوا جماعة يعكفون على عبادة العجل، فقالوا لموسى عليه السلام :﴿ اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " ١٣٨ " ﴾ ( سورة الأعراف ) : هل هناك فساد أكثر من أن قتلوا الأنبياء الذين جعلهم الله مثلاً تكوينية وأسوة سلوكية، وحرفوا كتاب الله ؟
والناظر في تحريف بني إسرائيل للتوراة يجد أنهم حرفوها من وجوه كثيرة وتحريفات متعددة، فمن التوراة ما نسوه، كما قال تعالى :﴿ ونسوا حظا مما ذكروا به.. " ١٣ " ﴾( سورة المائدة ) : والذي لم ينسوه لم يتركوه على حاله، بل كتموا بعضه، والذي لم يكتموه لم يتركوه على حاله، بل حرفوه، كما قال تعالى :﴿ يحرفون الكلم عن مواضعه.. " ١٣ " ﴾ ( سورة المائدة ) : ولم يقف الأمر بهم عند هذا النسيان والكتمان والتحريف، بل تعدى إلى أن أتوا بكلام من عند أنفسهم، وقالوا هو من عند الله، قال تعالى :﴿ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا.. " ٧٩ " ﴾ ( سورة البقرة : فهل هناك إفساد في منهج الله أعظم من هذا الإفساد ؟ ومن العلماء من يرى أن الفساد الأول ما حدث في قصة طالوت وجالوت في قوله تعالى :﴿ ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا.. " ٣٤٦ " ﴾ ( سورة البقرة ) : فقد طلبوا القتال بأنفسهم وارتضوه وحكموا به، ومع ذلك حينما جاء القتال تنصلوا منه ولم يقاتلوا. ويرون أن الفساد الثاني قد حدث بعد أن قوت دولتهم، واتسعت رقعتها من الشمال إلى الجنوب، فأغار عليهم بختنصر وهزمهم، وفعل بهم ما فعل.
وهذه التفسيرات على أن الفسادين سابقان للإسلام، والأولى أن نقول : إنهما بعد الإسلام، وسوف نجد في هذا ربطاً لقصة بني إسرائيل بسورة الإسراء.
كيف ذلك ؟
قالوا : لأن الإسلام حينما جاء كن يستشهد بأهل الكتاب على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ونفس أهل الكتاب كانوا يستفتحون به على الذين كفروا، فكان أهل الكتاب إذا جادلوا الكفار والمشركين في المدينة كانوا يقولون لهم : لقد أظل زمان نبي يأتي فتتبعه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم.
لذلك يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم : إنهم ينكرون عليك أن الله يشهد ومن عنده علم الكتاب، فمن عنده علم الكتاب منهم يعرف بمجيئك، وأنك صادق، ويعرف علامتك، بدليل أن الصادقين منهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
ويقول أحدهم : لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد، لأنه قد يشك في نسبة ولده إليه، ولكنه لا يشك في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم لما قرأه في كتبهم، وما يعلمه من أوصافه، لأنه صلى الله عليه وسلم موصوف في كتبهم، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
إذن : كانوا يستفتحون برسول الله على الذين كفروا، وكانوا مستشرقين لمجيئه، وعندهم مقدمات لبعثه صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك :﴿ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.. " ٨٩ " ﴾( سورة البقرة ) : فلما كفروا به، ماذا كان موقفه صلى الله عليه وسلم بعد أن هاجر إلى المدينة ؟
في المدينة أبرم رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم معاهدة يتعايشون بموجبها، ووفى بهم رسول الله ما وفوا، فلما غدروا هم، واعتدوا على حرمات المسلمين وأعراضهم، جاس رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال ديارهم، وقتل منهم من قتل، وأجلاهم عن المدينة إلى الشام وإلى خيبر ؛ وكان هذا بأمر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى :﴿ هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار " ٢ " ﴾ ( سورة الحشر ) : وهذا هو الفساد الأول الذي حدث من يهود بني النضير، وبني قينقاع، وبني قريظة، الذين خانوا العهد مع رسول الله، بعد أن كانوا يستف
معلوم أن ( إذا )ظرف لما يستقبل من الزمان، كما تقول : إذا جاء فلان أكرمته، فهذا دليل على أن أولى الإفسادتين لم تحدث بعد، فلا يستقيم القول بأن الفساد الأول جاء في قصة طالوت وجالوت، وأن الإفساد الثاني جاء في قصة بختنصر.
وقوله :( وعد ). والوعد كذلك لا يكون بشيء مضى، وإنما بشيء مستقبل. و( أولاهما )أي : الإفساد الأول. وقوله :﴿ بعثنا عليكم عباداً لنا.. " ٥ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : وفي هذه العبارة دليل آخر على أن الإفسادتين كانتا في حضن الإسلام ؛ لأن كلمة ( عباداً )لا تطلق إلا على المؤمنين، أما جالوت الذي قتله طالوت، وبختنصر فهما كافران. وقد تحدث العلماء في قوله تعالى :﴿ عباداً لنا.. " ٥ " ﴾( سورةالإسراء )
فمنهم من رأى أن العباد والعبيد سواء، وأن قوله ( عباداً )تقال للمؤمن وللكافر، وأتوا بالأدلة التي تؤيد رأيهم حسب زعمهم. ومن أدلتهم قول الحق سبحانه وتعالى في قصة عيسى عليه السلام :﴿ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب " ١١٦ " ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد " ١١٧ " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " ١١٨ " ﴾ ( سورة المائدة ).
والشاهر في قوله تعالى :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك.. " ١١٨ " ﴾ ( سورة المائدة ) : فأطلق كلمة " عبادي " على الكافرين، وعلى هذا القول لا مانع يكون جالوت وبختنصر، وهما كافران قد سلطا على بني إسرائيل. ثم استدلوا بآية أخرى تحكي موقفاً من مواقف يوم القيامة، يقول تعالى للشركاء الذين اتخذوهم من دون الله :﴿ أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء.. " ١٧ " ﴾ ( سورة الفرقان ) : فأطلق كلمة ( عباد )على الكافرين أيضاً.
إذن : قوله تعالى :﴿ بعثنا عليكم عباداً لنا.. " ٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : ليس من الضروري أن يكونوا مؤمنين، فقد يكونون من الكفار، وهنا نستطيع أن نقول : إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن ينتقم منهم، ويسلط عليهم أمثالهم من الكفرة والظالمين، فإذا أراد سبحانه أن ينتقم من الظالم سلط عليه من هو أكثر منه ظلماً، وأشد منه بطشاً، كما قال سبحانه :﴿ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون " ١٢٩ " ﴾ ( سورة الأنعام ) : وإذا كان أصحاب هذا الرأي لديهم من الأدلة ما يثبت أن كلمة عباد تطلق على المؤمنين وعلى الكافرين، فسوف نأتي بما يدل على أنها لا تطلق إلا على المؤمنين. ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما " ٦٣ " والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما " ٦٤ " والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما " ٦٥ " إنها ساءت مستقرا ومقاما " ٦٦ " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " ٦٧ " ﴾( سورة الفرقان )إلى آخر ما ذكرت الآيات من صفا المؤمنين الصادقين، فأطلق عليهم " عباد الرحمن ". دليل آخر في قول الحق سبحانه في نقاشه لإبليس :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان.. " ٤٢ " ﴾ ( سورة الحجر ) : والمراد هنا المؤمنون.. وقد قال إبليس :﴿ فبعزتك لأغوينهم أجمعين " ٨٢ " إلا عبادك منهم المخلصين " ٨٣ " ﴾ ( سورة ص ) : إذن : هنا إشكال، حيث أتى كل بأدلته وما يؤيد قوله، وللخروج من هذا الإشكال نقول : كلمة " عباد " و " عبيد " كلاهما جمع ومفردهما واحد ( عبد ). فما الفرق بينهما ؟
لو نظرت إلى الكون كله مؤمنه وكافره لوجدتهم جميعاً لهم اختيارات في أشياء، ومقهورين في أشياء أخرى، فهم جميعاً عبيد بهذا المعنى يستوي في القهر المؤمن والكافر، إذن : كل الخلق عبيد فيما لا اختيار لهم فيه.
ثم بعد ذلك نستطيع أن نقسمهم إلى قسمين : عبيد يظلون عبيداً لا يدخلون في مظلة العباد، وعبيد تسمو بهم أعمالهم وانصياعهم لأمر الله فيدخلون في مظلة عباد الله. كيف ذلك ؟
لقد جعل الله تعالى لك في أفعالك منطقة اختيار، فجعلك قادراً على الفعل ومقابله، وخلقك صالحاً للإيمان وصالحاً للكفر، لكنه سبحانه وتعالى يأمرك بالإيمان تكليفاً. ففي منطقة الاختيار هذه يتمايز العبيد والعباد، فالمؤمنون بالله يخرجون عن اختيارهم إلى اختيار ربهم، ويتنازلون عن مرادهم إلى مراد ربهم في المباحات، فتراهم ينفذون ما أمرهم الله به، ويجعلون الاختيار كالقهر. ولسان حالهم يقول لربهم : سمعاً وطاعة.
وهؤلاء هم العباد الذين سلموا جميع أمرهم لله في منطقة الاختيار، فليس لهم إرادة أمام إرادة الله عز وجل. إذن : كلمة عباد تطلق على من تنازل عن منطقة الاختيار، وجعل نفسه مقهوراً لله حتى في المباحات.
أما الكفار الذين اختاروا مرادهم وتركوا مراد الله، واستعملوا اختيارهم، ونسوا اختيار ربهم، حيث خيرهم : تؤمن أو تكفر قال : أكفر، تشرب الخمر أو لا تشرب قال : أشرب، تسرق أو لا تسرق، قال : أسرق. وهؤلاء هم العبيد، ولا يقال لهم " عباد " أبداً ؛ لأنهم لا يستحقون شرف هذه الكلمة.
ولكي نستكمل حل ما أشكل في هذه المسألة لابد لنا أن نعلم أن منطقة الاختيار هذه لا تكون إلا في الدنيا في دار التكليف ؛ لأنها محل الاختيار، وفيها نستطيع أن نميز بين العباد الذين انصاعوا لربهم وخرجوا عن مرادهم لمراده سبحانه، وبين العبيد الذين تمردوا واختاروا غير مراد الله عز وجل في الاختياريات، أما في القهريات فلا يستطيعون الخروج عنها.
فإذا جاءت الآخرة فلا محل للاختيار والتكليف، فالجميع مقهور لله تعالى، ولا مجال فيها للتقسيم السابق، بل الجميع عبيد وعباد في الوقت ذاته. إذن : نستطيع أن نقول : إن الكل عباد في الآخرة، وليس الكل عباداً في الدنيا. وعلى هذا نستطيع فهم معنى ( عباد )في الآيتين :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك.. " ١١٨ " ﴾ ( سورة المائدة ). ﴿ أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء.. " ١٧ " ﴾ ( سورة الفرقان ) : فسماهم الحق سبحانه عباداً ؛ لأنه لم يعد لهم اختيار يتمردون فيه، فاستووا مع المؤمنين في عدم الاختيار مع مرادات الله عز وجل. إذن : فقول الحق سبحانه :﴿ فإذا جاء وعد أولادهما بعثنا عليكم عباداً لنا.. " ٥ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : المقصود بها الإفساد الأول الذي حدث من اليهود في ظل الإسلام، حيث نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعباد هم رسول الله والذين آمنوا معه عندما جاسوا خلال ديارهم، وأخرجوهم من المدينة وقتلوا منهم من قتلوه، وسبوا من سبوه.
وقوله :﴿ أولى بأسٍ شديدٍ.. " ٥ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : قوة ومنعة، وهذه كانت حال المؤمنين في المدينة، بعد أن أصبحت لهم دولة وشوكة يواجهون بها أهل الباطل، وليس حال ضعفهم في مكة. وقوله سبحانه :﴿ فجاسوا خلال الديار.. " ٥ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : جاسوا من جاس أي : بحث واستقصى المكان، وطلب من فيه، وهذا المعنى هو الذي يسميه رجال الأمن " تمشيط المكان ".
وهو اصطلاح يعني دقة البحث عن المجرمين في هذا المكان، وفيه تشبيه لتمشيط الشعر، حيث يتخلل المشط جميع الشعر، وفي هذا ما يدل على دقة البحث، فقد يتخلل المشط تخللاً سطحياً، وقد يتخلل بعمق حتى يصل إلى البشرة فيخرج ما لصق بها.
إذن : جاسوا أي : تتبعوهم تتبعاً بحيث لا يخفي عليهم أحد منهم، وهذا ما حدث مع يهود المدينة : بني قينقاع، وبني قريظة، وبني النضير، ويهود خيبر.
ونلاحظ هنا أن القرآن آثر التعبير بقوله :﴿ بعثنا.. " ٥ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : والبعث يدل على الخير والرحمة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن في حال اعتداء، بل في حالة دفاع عن الإسلام أمام من خانوا العهد ونقضوا الميثاق. وكلمة :( عليكم )تفيد العلو والسيطرة.
وقوله :﴿ وكان وعداً مفعولاً " ٥ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : وعد صدق لابد أن يتحقق ؛ لأنه وعد من قادر على الإنفاذ، ولا توجد قوة تحول بينه وبين إنفاذ ما وعد به، وإياك أن تظن أنه كأي وعد يمكن أن يفي به صاحبه أو لا يفي به ؛ لأن الإنسان إذا وعد وعداً : سألقاك غداً مثلاً.
فهذا الوعد يحتاج في تحقيقه أن يكون لك قدرة على بقاء طاقة الإنفاذ، لكن قد يطرأ عليك من العواريض ما يحول بينك وبين إنفاذ ما وعدت به، إنما إذا كان الوعد ممن يقدر على الإنفاذ، ولا تجري عليه مثل هذه العوارض، فوعده متحقق النفاذ. فإذا قال قائل : الوعد لا تقال إلا في الخير، فكيف سمى القرآن هذه الأحداث :﴿ بعثنا عليكم عباداً لنا أولى بأسٍ شديدٍ.. " ٥ " ﴾ ( سورة الإسراء ) :
قالوا : الوعيد يطلق على الشر، والوعد يطلق على الخير وعلى الشر، ذلك لأن الشيء قد يكون شراً في ظاهره، وهو خير في باطنه، وفي هذا الموقف الذي نحن بصدده، إذا أراد الحق سبحانه أن يؤدب هؤلاء الذين انحرفوا عن منهجه، فقد نرى أن هذا شر في ظاهره، لكنه في الحقيقة خير بالنسبة لهم، إن حاولوا هم الاستفادة منه.
ونضرب لذلك مثلاً بالولد الذي يعاقبه والده على إهماله أو تقصيره، فيقسو عليه حرصاً على ما يصلحه، وصدق الشاعر حين قال :
فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً**** فليقس أحياناً على من يرحم
الخطاب في هذه الآية موجه لبني إسرائيل، والآية تمثل نقطة تحول وانقلاب للأوضاع، فبعد أن تحدثنا عنه من غلبة المسلمين، وأن الله سلطهم لتأديب بني إسرائيل، نرى هنا أن هذا الوضع لم يستمر ؛ لأن المسلمين تخلوا عن منهج الله الذي ارتفعوا به، وتنصلوا من كونهم عباداً لله، فدارت عليهم الدائرة، وتسلط عليهم اليهود، وتبادلوا الدور معهم ؛ لأن اليهود أفاقوا لأنفسهم بعد أن أدبهم رسول الله والمسلمون في المدينة، فأخذوا ينظرون في حالهم وما وقعوا فيه من مخالفات.
ولابد أنه قد حدث منهم شبه استقامة على منهج الله، أو على الأقل حدث من المسلمين انصراف عن المنهج وتنكب للطريق المستقيم، فانحلت الأمور الإيمانية في نفوس المسلمين، وانقسموا دولاً، لكل منها جغرافياً، ولكل منها نظام حاكم ينتسب إلى الإسلام، فانحلت عنهم صفة عباد الله.
فبعد قوتهم واستقامتهم على منهج الله، وبعد أن استحقوا أن يكونوا عباداً لله بحق تراجعت كفتهم وتخلوا عن منهج ربهم، وتحاكموا إلى قوانين وضعية، فسلط عليهم عدوهم ليؤدبهم، فأصبحت الغلبة لليهود ؛ لذلك يقول تعالى :﴿ ثم رددنا لكم الكرة عليهم.. " ٦ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : و( ثم )حرف عطف يفيد الترتيب مع التراخي، على خلاف الفاء مثلاً التي تفيد الترتيب مع التعقيب، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ ثم أماته فأقبره " ٢١ " ثم إذا شاء أنشره " ٢٢ " ﴾ ( سورة عبس ) : فلم يقل الحق سبحانه : فرددنا، بل ( ثم رددنا ). ذلك لأن بين الكرة الأولى التي كانت للمسلمين في عهد رسول الله، وبين هذه الكرة التي كانت لليهود وقتاً طويلاً.
فلم يحدث بيننا وبينهم حروب لعدة قرون، منذ عصر الرسول إلى أن حدث وعد بلفور، الذي أعطى لهم الحق في قيام دولتهم في فلسطين، وكانت الكرة لهم علينا في عام ١٩٦٧، فناسب العطف ب " ثم " التي تفيد التراخي. والحق سبحانه يقول :﴿ ثم رددنا لكم الكرة.. " ٦ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : جعلنا لبني إسرائيل الغلبة والقوة والنصر على المسلمين وسلطناهم عليهم ؛ لأنهم تخلوا عن منهج ربهم، وتنازلوا عن الشروط التي جعلتهم عباداً لله.
و( الكرة )أي : الغلبة من الكر والفر الذي يقوم به الجندي في القتال، حيث يقدم مرة، ويتراجع أخرى. وقوله تعالى :﴿ وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً " ٦ " ﴾( سورة الإسراء ) : وفعلاً أمدهم الله بالمال حتى أصبحوا أصحاب رأس المال في العالم كله، وأمدهم بالبنين الذين يعلمونهم ويثقفونهم على أعلى المستويات، وفي كل المجالات.
ولكن هذا كله لا يعطيهم القدرة على أن تكون لهم كرة على المسلمين، فهم في ذاتهم ضعفاء رغم ما في أيديهم من المال والبنين، ولابد لهم لكي تقوم لهم قائمة من مساندة أنصارهم وأتباعهم من الدول الأخرى، وهذا واضح لا يحتاج إلى بيان منذ الخطوات الأولى لقيام دولتهم ووطنهم القومي المزعوم في فلسطين، وهذا معنى قوله تعالى :﴿ وجعلناكم أكثر نفيراً " ٦ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : فالنفير من يستنفره الإنسان لينصره، والمراد هنا الدول الكبرى التي ساندت اليهود وصادمت المسلمين.
ومازال الخطاب موجهاً إلى بني إسرائيل، هاكم سنة من سنين الله الكونية التي يستوي أمامها المؤمن والكافر، وهي أن من احسن فله إحسانه، ومن أساء فعليه إساءته.
فهاهم اليهود لهم الغلبة بما حدث منهم من شبه استقامة على المنهج، أو على الأقل بمقدار ما تراجع المسلمون عن منهج الله ؛ لأن هذه سنة كونية، من استحق الغلبة فهي له ؛ لأن الحق سبحانه وتعالى منزه عن الظلم، حتى مع أعداء دينه ومنهجه. والدليل على ذلك ما أمسى فيه المسلمون بتخليهم عن منهج الله.
وقوله تعالى :﴿ إن أحسنتم.. " ٧ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : فيه إشارة إلى أنهم في شك أن يحسنوا، وكأن أحدهم يقول للآخر : دعك من قضية الإحسان هذه. فإذا كانت الكرة الآن لليهود، فهل ستظل لهم على طول الطريق ؟ لا.. لن تظل لهم الغلبة، ولن تدوم لهم الكرة على المسلمين، بدليل قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ فإذا جاء وعد الآخرة.. " ٧ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : إذا جاء وقت الإفسادة الثانية لهم، وقد سبق أن قال الحق سبحانه عنهم :﴿ لتفسدن في الأرض مرتين.. " ٤ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : وبينا الإفساد الأول حينما نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة. وفي الآية بشارة لنا أننا سنعود إلى سالف عهدنا، وستكون لنا يقظة وصحوة نعود بها إلى منهج الله وإلى طريقه المستقيم، وعندها ستكون لنا الغلبة والقوة، وستعود لنا الكرة على اليهود.
وقوله تعالى :﴿ ليسوءوا وجوهكم.. " ٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : نلحق بهم من الأذى ما يظهر أثره على وجوههم ؛ لأن الوجه هو السمة المعبرة عن نوازع النفس الإنسانية، وعليه تبدو الانفعالات والمشاعر، وهو أشرف ما في المرء، وإساءته أبلغ أنواع الإساءة. وقوله تعالى :﴿ وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرةٍ.. " ٧ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : أن المسلمين سيدخلون المسجد الأقصىوسينقذونه من أيدي اليهود. ﴿ دخلوه أول مرةٍ.. " ٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : المتأمل في هذه العبارة يجد أن دخول المسلمين للمسجد الأقصى أول مرة كان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يكن الأقصى وقتها في أيدي اليهود، بل كان في أيدي الرومان المسيحيين.
فدخوله الأول لم يكن إساءة لليهود، وإنما كان إساءة للمسيحيين، لكن هذه المرة سيكون دخول الأقصى، وهو في حوزة اليهود، وسيكون من ضمن الإساءة لوجوههم أن ندخل عليهم المسجد الأقصى، ونطهره من رجسهم. ونلحظ كذلك في قوله تعالى :﴿ كما دخلوه أول مرةٍ.. " ٧ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أن القرآن لم يقل ذلك إلا إذا كان بين الدخولين خروج. إذن : فخروجنا الآن من المسجد الأقصى تصديق لنبوءة القرآن، وكأن الحق سبحانه يريد أن يلفتنا : إن أردتم أن تدخلوا المسجد الأقصى مرة أخرى، فعودوا إلى منهج ربكم وتصالحوا معه. وقوله تعالى :﴿ فإذا جاء وعد الآخرة.. " ٧ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : كلمة الآخرة تدل على أنها المرة التي لن تتكرر، ولكن يكون لليهود غلبة بعدها. وقوله تعالى :﴿ وليتبروا ما علوا تتبيراً " ٧ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : يتبروا : أي : يهلكوا ويدمروا، ويخربوا ما أقامه اليهود وما بنوه وشيدوه من مظاهر الحضارة التي نشاهدها الآن عندهم.
لكن نلاحظ أن القرآن لم يقل : ما علوتم، إنما قال ( ما علوا )ليدل على أن ما أقاموه وما شيدوه ليس بذاتهم، وإنما بمساعدة من وراءهم من أتباعهم وأنصارهم، فاليهود بذاتهم ضعفاء، لا تقوم لهم قائمة، وهذا واضح في قوله الحق سبحانه عنهم :﴿ ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس.. " ١١٢ " ﴾ ( سورة آل عمران ) : فهم أذلاء أينما وجدوا، ليس لهم ذاتية إلا بعهد يعيشون في ظله، كما كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، أو عهد من الناس الذين يدافعون عنهم ويعاونونهم.
واليهود قوم منعزلون لهم ذاتية وهوية لا تذوب في غيرهم من الأمم، ولا ينخرطون في البلاد التي يعيشون فيها ؛ لذلك نجد لهم في كل بلد يعيشون به حارة تسمى " حارة اليهود "، ولم يكن لهم ميل للبناء والتشييد ؛ لأنهم كما قال تعالى عنهم :﴿ وقطعناهم في الأرض أمماً.. " ١٦٨ " ﴾( سورة الأعراف ) : كل جماعة منهم في أمة تعيش عيشة انعزالية، أما الآن، وبعد أن أصبح لهم وطن قومي في فلسطين على حد زعمهم، فنراهم يميلون للبناء والتعمير والتشييد.
ونحن الآن ننتظر وعد الله سبحانه، ونعيش على أمل أن تنصلح أحوالنا، ونعود إلى ساحة ربنا، وعندها سينجز لنا ما وعدنا من دخول المسجد الأقصى، وتكون لنا الكرة الأخيرة عليهم، سيتحقق لنا هذا عندما ندخل معهم معركة على أسس إسلامية وإيمانية، لا على عروبة وعصبية سياسية، لتعود لنا صفة العباد، ونكون أهلاً لنصرة الله إذن : طالما أن الحق سبحانه قال :. ﴿ فإذا جاء وعد الآخرة.. ٧( سورة الإسراء ) : فهو وعد آلا لاشك فيه، بدليل أن هذه العبارة جاءت بنصها في آخر السورة في قوله تعالى :{ وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا " ١٠٤ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : والمتأمل لهذه الآية يجد بها بشارة بتحقق وعد الله، ويجد أن ما يحدث الآن أننا قلنا لبني إسرائيل من بعد موسى : اسكنوا الأرض وإذا قال لك واحد : اسكن فلابد أن يحدد لك مكاناً من الأرض تسكن فيه فيقول لك : اسكن بورسعيد.. اسكن القاهرة.. اسكن الأردن.
أما أن يقول لك : اسكن الأرض ! ! فمعنى هذا أن الله تعالى أراد لهم أن يظلوا مبعثرين في جميع الأنحاء، مفرقين في كل البلاد، كما قال عنهم :﴿ وقطعناهم في الأرض أمما.. " ١٦٨ " ﴾ ( سورة
الأعراف ) : فتجدهم منعزلين عن الناس منبوذين بينهم، كثيراً ما تثار بسببهم المشاكل، فيشكو الناس منهم ويقتلونهم، وقد قال تعالى :﴿ وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب.. " ١٦٧ " ﴾ ( سورة الأعراف ) : وهكذا سيظل اليهود خميرة عكننة ونكد بين سكان الأرض إلى يوم القيامة، وهذه الخميرة هي في نفس الوقت عنصر إثارة وإهاجة للإيمان والخير ؛ لأن الإسلام لا يلتفت إليه أهله إلا حين يهاج الإسلام، فساعة أن يهاج تتحرك النزعة الإيمانية وتتنبه في الناس.
إذن : فوجود اليهود كعنصر إثارة له حكمة، وهي إثارة الحيوية الإيمانية في النفوس، فلو لم تثر الحيوية الإيمانية لبهت الإسلام.
وهذه هي رسالة الكفر ورسالة الباطل، فلوجودهما حكمة ؛ لأن الكفر الذي يشقي الناس به يلفت الناس إلى الإيمان، فلا يرون راحة لهم إلا في الإيمان بالله، ولو لم يكن الكفر الذي يؤذي الناس ويقلق حياتهم ما التفتوا إلى الإيمان. وكذلك الباطل في الكون بعض الناس ويزعجهم، فيلتفتون إلى الحق ويبحثون عنه.
وبعد أن أسكنهم الله الأرض وبعثرهم فيها، أهاج قلوب أتباعهم من جنود الباطل، فأوحوا إليهم بفكرة الوطن القومي، وزينوا لهم أولى خطوات نهايتهم، فكان أن اختاروا لهم فلسطين ليتخذوا منها وطناً يتجمعون فيه من شتى البلاد.
وقد يرى البعض أن في قيام دولة إسرائيل وتجمع اليهود بها نكاية في الإسلام والمسلمين، ولكن الحقيقة غير هذا، فالحق سبحانه وتعالى حين يريد أن نضربهم الضربة الإيمانية من جنود موصوفين بأنهم :﴿ عباداً لنا.. " ٥ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : يلفتنا إلى أن هذه الضربة لا تكون وهم مفرقون مبعثرون في كل أنحاء العالم، فلن نحارب في العالم كله، ولن نرسل عليهم كتيبة إلى كل بلد لهم فيها حارة أو حي، فكيف لنا أن نتتبعهم وهم مبعثرون، في كل بلد شرذمة منهم ؟
إذن : ففكرة التجمع والوطن القومي التي نادى بها بلفور وأيدتها الدول الكبرى المساندة لليهود والمعادية للإسلام، هذه الفكرة في الحقيقة تمثل خدمة لقضية الإسلام، وتسهل علينا تتبعهم وتمكننا من القضاء عليهم ؛ لذلك يقول تعالى :﴿ فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا " ١٠٤ " ﴾( سورة الإسراء )
أي : أتينا بكم جميعاً، نضم بعضكم إلى بعض، فهذه إذن بشرى لنا معشر المسلمين بأن الكرة ستعود لنا، وأن الغلبة ستكون في النهاية للإسلام والمسلمين، وليس بيننا وبين هذا الوعد إلا أن نعود إلى الله، ونتجه إليه كما قال سبحانه :﴿ فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا.. " ٤٣ " ﴾ ( سورة الأنعام ).
والمراد بقوله هنا :﴿ وعد الآخرة.. " ٧ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : هو الوعد الذي قال الله عنه :﴿ فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرةٍ.. " ٧ " ﴾( سورة الإسراء ).
و( عسى )حرف يدل على الرجاء، وكأن في الآية إشارة إلى أنهم سيظلون في مذلة ومسكنة، ولن ترتفع لهم رأس إلا في ظل حبل من الله وعهد منه، وحبل من الناس الذين يعاهدونهم على النصرة والتأييد والحماية. وقوله :﴿ ربكم.. " ٨ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : انظر فيه إلى العظمة الإلهية، ورحمة الرب سبحانه الذي ما يزال يخاطب الكافرين الملحدين المعاندين لرسوله، وهو آخر رسول يأتي من السماء، ومع ذلك كله يخاطبهم بقوله :﴿ ربكم.. " ٨ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : لأن الرب هو المتولي للتربية والمتكفل بضمان مقومات الحياة لا يضن بها حتى وإن كان العبد كافراً، فالكل أمام عطاء الربوبية سواء : المؤمن والكافر، والطائع والعاصي. الجميع يتمتع بنعم الله : الشمس والهواء والطعام والشراب، فهو سبحانه لا يزال ربهم مع كل ما حدث منهم. وقوله تعالى :﴿ أن يرحمكم.. " ٨ " ﴾
( سورة الإسراء ) : والرحمة تكون للإنسان إذا كان في موقف يستحق فيه الرحمة واليهود لن تكون لهم دولة، ولن يكون لهم كيان، بل يعيشون في حضن الرحمة الإيمانية الإسلامية التي تعطي لهم فرصة التعايش مع الإسلام معايشة، كالتي كانت لهم في مدينة رسول الله، يوم أن أكرمهم وتعاهد معهم.
وقد وصلت هذه المعايشة لدرجة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يقترض لا يقترض من مسلم، بل كان يقترض من اليهود، وفي هذا حكمة يجب أن نعيها، وهي أن المسلم قد يستحي أن يطالب رسول الله إذا نسى مثلاً، أما اليهودي فسوف يلح في طلب حقه وإذا نسى رسول الله سيذكره.
لذلك كان اليهود كثيراً ما يجادلون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغالطونه مراراً، وقد حدث أن وفى رسول الله لأحدهم دينه، لكنه أنكره وأتى يطالب به من جديد، وأخذ يراجع رسول الله ويغالطه وينكر ويقول : ابغني شاهداً.
ولم يكن لرسول الله شاهد وقت السداد، وهكذا تأزم الموقف في حضور أحد الصحابة، واسمه خزيمة، فهب خزيمة قائلاً : أنا يا رسول الله كنت شاهداً، وقد أخذ هذا اليهودي دينه، فسكت اليهودي ولم يرد ولم يجادل، فدل ذلك على كذبه. ويكاد المريب أن يقول : خذوني.
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما اختلى بخزيمة بعد أن انصرف الدائن قال : يا خزيمة ما حملك على هذا القول، ولم يكن أحد معنا، وأنا أقضي لليهودي دينه ؟ فضحك خزيمة وقال : يا رسول الله أأصدقك في خبر السماء، وأكذبك في عدة دراهم ؟
فسر رسول الله من اجتهاد الرجل، وقال : " من شهد له خزيمة فحسبه ". ثم يهدد الحق سبحانه بني إسرائيل، فيقول :﴿ وإن عدتم عدنا.. " ٨ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : إن عدتم للفساد، عدنا، وهذا جزاء الدنيا، وهو لا ينجيكم من جزاء الآخرة، فهذه مسألة وتلك أخرى حتى لا يفهموا أن العقاب على الذنوب في الدنيا يبرئهم من عذاب الآخرة. فالعقوبة على الذنب التي تبرئ المذنب من عذاب الآخرة ما كان في حضن الإسلام، وإلا لاستوى من أقيم عليه الحد مع من لم يقم عليه الحد.
فلو سرق إنسان وقطعت يده، وسرق آخر ولم تقطع يده، فلو استووا في عقوبة الآخرة، فقد زاد أحدهما عن الآخر في العقوبة، وكيف يستوي الذي قطعت يده. وعاش بذلتها طوال عمره مع من أفلت من العقوبة ؟
هذا إن كان المذنب مؤمناً.
أما إذا كان المذنب غير مؤمن فالأصل الذي بنينا عليه هذا الحكم ضائع لا وجود له، وعقوبة الدنيا هنا لا تعفي صاحبها من عقوبة الآخرة ؛ لذلك يقول تعالى بعدها :﴿ وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً " ٨ " ﴾ ( سورة الإسراء ) ( جعلنا )فعل يفيد التحويل، كأن تقول : جعلت العجين خبزاً، وجعلت القطن ثوباً، أي : صيرته وحولته. فماذا كانت جهنم أولاً فيحولها الحق سبحانه حصيراً ؟
قوله تعالى :( جعلنا )في هذه الآية لا تفيد التحويل، إنما هي بمعنى خلقنا، أي : خلقناها هكذا، كما نقول : سبحان الذي جعل اللبن أبيض، فاللبن لم يكن له لون آخر فحوله الله تعالى إلى البياض، بل خلقه هكذا بداية.
ومعنى :﴿ حصيراً.. " ٨ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : الحصير فراش معروف يصنع من القش أو من نبات يسمى السمر، والآن يصنعونه من خيوط البلاستيك، وسمي حصيراً، لأن كلمة حصير مأخوذة من الحصر، وهو التضييق في المكان للمكين، وفي صناعة الحصير يضمون الأعواد بعضها إلى بعض إلى أن تتماسك، ولا توجد مسافة بين العود والآخر.
لكن لماذا نفرض الحصير ؟ نفرش الحصير ؛ لأنه يحبس عنا القذر والأوساخ، فلا تصيب ثيابنا. إذن : الحصر معناه المنع والحبس والتضييق. والمتتبع لمادة ( حصر )في القرآن الكريم يجدها بهذه المعاني، يقول تعالى :﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم " ٥ " ﴾
( سورة التوبة ) : أي : ضيقوا عليهم. وقال تعالى في فريضة الحج :﴿ فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى.. " ١٩٦ " ﴾( سورة البقرة ) : أي : حسبتم ومنعتم من أداء الفريضة. إذن : فقوله تعالى :﴿ وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً " ٨ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : تحبسهم فيها وتحصرهم، وتمنعهم الخروج منها، فهي لهم سجن لا يستطيعون الفرار منه ؛ لأنها تحيط بهم من كل ناحية، كما قال تعالى :﴿ إنا أعتدناللظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها.. " ٢٩ " ﴾ ( سورة الكهف ) : فلا يستطيعون الخروج، فإن حاولوا الخروج ردوا إليها، كما قال تعالى :﴿ كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها.. " ٢٠ " ﴾( سورة السجدة ).
وفي قوله تعالى :﴿ وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً " ٨ " ﴾( سورة الإسراء ) : إشارة إلى أنهم كانوا إذا أجرموا في الدنيا يحتمون في أنصارهم وأتباعهم من الأقوياء، ويدخلون في حضانة أهل الباطل، أما في الآخرة فلن يجدوا ناصراً أو مدافعاً.
يقول تعالى :﴿ ما لكم لا تناصرون " ٢٥ " بل هم اليوم مستسلمون " ٢٦ " ﴾ ( سورة الإسراء ).
وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن الإسراء بالرسول الخاتم الرحمة، وجعله آية يمكن إقامة الدليل عليها، حيث خرق له الناموس في أمور يعلمها قومه، فإذا جاءت آية المعراج وخرق له الناموس فيها لا يعلمه القوم كان أدعى إلى تصديقه.
ثم أوضح الحق سبحانه أن عبودية محمد صلى الله عليه وسلم لربه هي التي أعطته هذه المنزلة، وكذلك كان نوح عليه السلام عبداً شكوراً، فهناك فرق بين عبودية الخلق للخالق، وعبودية الخلق للخلق ؛ لأن العبودية للخلق مذمومة، حيث يأخذ السيد خير عبده، أما العبودية لله فالعبد يأخذ خير سيده.
ثم تحدث الحق سبحانه عن بني إسرائيل، وما وقعوا فيه من إفساد في الأرض، فأعطانا بذلك نماذج للأعمال لمن احسن ولمن أساء، وكل له عمله دون ظلم أو جور.
لذلك ينقلنا السياق القرآني إلى بيان المنهج الإلهي المنزل من السماء ليوضح عبودية الإنسان لربه، وكيف يكون عبداً مخلصاً لله تعالى،
فمن كان يريد الأسوة الطيبة في عبودية الرسول لربه، هذه العبودية التي جعلته يسري به إلى بيت المقدس، ثم يصعد به إلى السماء، ومن كان يريد أن يكون مثل نوح في عبوديته لربه فأكرم ذريته من أجله، فعليه أن يسير على دربهم، وأن يقتدي بهم في عبوديتهم لله تعالى، وليحذر أن يكون مثل اليهود الذين أفسدوا في الأرض مرتين.
والذي يرسم لنا الطريق ويوضح لنا الحق من الباطل هو القرآن الكريم :﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.. " ٩ " ﴾ ( سورة الإسراء ).
قول الحق تبارك وتعالى :﴿ إن هذا القرآن.. " ٩ " ﴾( سورة الإسراء ) : هل عند نزول هذه الآية كان القرآن كله قد نزل، ليقول : إن هذا القرآن ؟ نقول : لم يكن القرآن كله قد نزل، ولكن كل آية في القرآن تسمى قرآناً، كما قال تعالى :﴿ فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " ١٨ " ﴾ ( سورة القيامة ) : فليس المراد القرآن كله، بل الآية من القرآن قرآن. ثم لما اكتمل نزول القرآن، واكتملت كل المسائل التي تضمن لنا استقامة الحياة، قال تعالى :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا.. " ٣ " ﴾ ( سورة المائدة ) : فإن استشرف مستشرف أن يستزيد على كتاب الله، أو يأتي بجديد فليعلم أن منهج الله منزه عن النقص، وفي غنى عن زيادتك، وما عليك إلا أن تبحث في كتاب الله، وسوف تجد فيه ما تصبو إليه من الخير.
قوله :﴿ يهدي.. " ٩ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : الهداية هي الطريق الموصل للغاية من أقرب وجه، وبأقل تكلفة وهو الطريق المستقيم الذي لا التواء فيه، وقلنا : إن الحق سبحانه يهدي الجميع ويرسم لهم الطريق، فمن اهتدى زاده هدى، كما قال سبحانه :﴿ والذي اهتدوا زادهم هدىً وآتاهم تقواهم " ١٧ " ﴾
( سورة محمد ) : ومعنى :﴿ أقوم.. " ٩ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : أكثر استقامة وسلاماً. هذه الصيغة تسمى افعل التفضيل، إذن : فعندنا ( أقوم )وعندنا أقل منه منزلة ( قيم )كأن نقول : عالم وأعلم. فقوله سبحانه :﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.. " ٩ " ﴾( سورة الإسراء ) : يدل على وجود ( القيم )في نظم الناس وقوانينهم الوضعية، فالحق سبحانه لا يحرم البشر من أن يكون لهم قوانين وشرائع حينما تعضهم المظالم ويشقون بها، فيقننون تقنيات تمنع هذا الظلم. ولا مانع من ذلك إذا لم ينزل لهم منهج من السماء، فما وضعوه وإن كان قيماً فما وضعه الله أقوم، وأنت لا تضع القيم إلا بعد أن تعض بشيء معوج غير قيم، وإلا فماذا يلفتك للقيم ؟
أما منهج السماء فإنه يضع الوقاية، ويمنع المرض من أساسه، فهناك فرق بين الوقاية من المرض وبين العلاج للمرض، فأصحاب القوانين الوضعية يعدلون نظمهم لعلاج الأمراض التي يشقون بها.
أما الإسلام فيضع لنا الوقاية، فإن حدثت غفلة من المسلمين، وأصابتهم بعض الداءات نتيجة انصرافهم عن منهج ربهم نقول لهم : عودوا إلى المنهج :﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.. " ٩ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : ولتوضيح أن منهج الحق سبحانه أقوم نرى ما حدث معنا في مدينة " سان فرانسيسكو " فقد سألنا أحد المستشرقين عن قول الحق تبارك وتعالى :﴿ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون " ٣٢ " ﴾( سورة التوبة ).
وفي آية أخرى يقول :﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " ٣٣ " ﴾ ( سورة التوبة ).
فكيف يقول القرآن :﴿ ليظهره على الدين كله.. " ٣٣ " ﴾ ( سورة التوبة ).
في حين أن الإسلام محصور، وتظهر عليه الديانات الأخرى ؟ فقلت له : لو تأملت الآية لوجدت فيها الرد على سؤالك، فالحق سبحانه يقول :﴿ ولو كره الكافرون " ٣٢ " ﴾ ( سورة التوبة ).
ويقول :﴿ ولو كره المشركون " ٣٣ " ﴾ ( سورة التوبة ) : إذن : فالكافرون والمشركون موجودون، فالظهور هنا ليس ظهور اتباع، ولم يقل القرآن : إن الناس جميعاً سيؤمنون.
ومعنى الظهور هنا ظهور حجة وظهور حاجة، ظهور نظم وقوانين، ستضرهم أحداث الحياة ومشاكلها إلى التخلي عن قوانينهم والأخذ بقوانين الإسلام ؛ لأنهم وجدوا فيها ضالتهم.
فنظام الطلاق في الإسلام الذي كثيراً ما هاجموه وانتقدوه، ورأوا فيه ما لا يليق بالعلاقة الزوجية، ولكن بمرور الزمن تكتشف لهم حقائق مؤلمة، وشقي الكثيرون منهم لعدم وجود هذا الحل في قوانينهم، وهكذا ألجاتهم مشاكل الحياة الزوجية لأن يقننوا للطلاق.
ومعلوم أن تقنينهم للطلاق ليس حباً في الإسلام أو اقتناعاً به، بل لأن لديهم مشاكل لا حل لها إلا بالطلاق، وهذا هو الظهور المراد في الآيتين الكريمتين، وهو ظهور بشهادتكم أنتم ؛ لأنكم ستلجأون في حل قضاياكم لقوانين الإسلام، أو قريباً منها.
ومن هذه القضايا أيضاً قضية تحريم الربا في الإسلام، فعارضوه وأنكروا هذا التحريم، إلى أن جاء " كنز " وهو زعيم اقتصادي عندهم، يقول لهم : انتبهوا، لأن المال لا يؤدي وظيفته كاملة في الحياة إلا إذا انخفضت الفائدة إلى صفر.
سبحان الله، ما أعجب لجج هؤلاء في خصومتهم مع الإسلام، وهل تحريم الربا يعني أكثر من أن تنخفض الفائدة إلى صفر ؟ إنهم يعودون لمنهج الله تعالى رغماً عنهم، ومع ذلك لا يعترفون به.
ولا يخفي ما في التعامل الربوي من سلبيات، وهل رأينا دولة اقترضت من أخرى، واستطاعت على مر الزمن أن تسدد حتى أقساط الفائدة ؟ ثم نراهم يغالطوننا يقولون : ألمانيا واليابان أخذت قروضاً بعد الحروب العالمية الثانية، ومع ذلك تقدمت ونهضت.
نقول لهم : كفاكم خداعاً، فألمانيا واليابان لم تأخذ قروضاً، وإنما أخذت معونة لا فائدة عليها، تسمى معونة ( مارشال ). وأيضاً من هذه القضايا التي ألجأتهم إليها مشاكل الحياة قضية ميراث المرأة، فلما عضتهم قننوا لها.
فظهور دين الله هنا يعني ظهور نظم وقوانين ستضطرهم ظروف الحياة إلى الأخذ بها، وليس المقصود به ظهور اتباع.
إذن : فمنهج الله أقوم، وقانون الحق سبحانه أعظم من قوانين البشر وأهدى، وفي القرآن الكريم ما يوضح أن حكم الله وقانونه أقوم حتى من حكم رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا في قصة مولاه " زيد بن حارثة "، وزيد لم يكن عبداً إلى أن خطفه بعض تجار الرقيق وباعوه، وانتهى به المطاف إلى السيدة خديجة رضي الله عنها التي وهبته بدورها لخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكان زيد في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن علم أهله بوجوده في مكة فأتوا ليأخذوه، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن خيره بين البقاء معه وبين الذهاب إلى أهله، فاختار زيد البقاء في خدمة رسول الله وآثره على أهله. فقال صلى الله عليه وسلم : " فما كنت لأختار على من اختارني شيئاً ".
وفي هذه القصة دليل على أن الرق كان مباحاً في هذا العصر، وكان الرق حضانة حنانٍ ورحمة، يعيش فيها العبد كما يعيش سيده، يأكل من طعامه، ويشرب من شرابه، يكسوه إذا اكتسى، ولا يكلفه ما لا يطيق، وإن كلفه أعانه، فكانت يده بيده.
وهكذا كانت العلاقة بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين زيد ؛ لذلك آثره على أهله، وأحب البقاء في خدمته، فرأى رسول الله أن يكافئ زيداً على إخلاصه له وتفضيله له على أهله، فقال : " لا تقولوا زيد بن حارثة، قولوا زيد بن محمد ".
وكان التبني شائعاً في ذلك الوقت. فلما أراد الحق سبحانه أن يحرم التبني، وأن يحرم نسبة الولد إلى غير أبيه بدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال :﴿ ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم.. " ٥ " ﴾ ( سورة الأحزاب ) : والشاهد هنا :﴿ هو أقسط عند الله.. " ٥ " ﴾( سورة الأحزاب ) ؛ فكأن الحكم الذي أنهى التبني، وأعاد زيداً إلى زيد بن حارثة هو الأقسط والأعدل، إذن : حكم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن جوزاً، بل كان قسطاً وعدلاً، لكنه قسط بشري يفضله ما كان من عند الحق سبحانه وتعالى.
وهكذا عاد زيد إلى نسبة الأصلي، وأصبح الناس يقولون " زيد ابن حارثة "، فيحزن لذلك زيد، لأنه حرم من شرف الانتساب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فعوضه الله تعالى عن ذلك وساماً لم ينله صحابي غيره، هذا الوسام هو أن ذكر اسمه في القرآن الكريم، وجعل الناس يتلونه، ويتعبدون به في قوله تعالى :﴿ فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها.. " ٣٧ " ﴾( سورة الأحزاب ) : إذن : عمل الرسول قسط، وعمل الله أقسط. قوله تعالى :﴿ يهدي للتي هي أقوم.. " ٩ " ﴾( سورة الإسراء ) : لأن المتتبع للمنهج القرآني يجده يقدم لنا الأقوم والأعدل والأوسط في كل شيء. في العقائد، وفي الأحكام، وفي القصص.
ففي العقائد مثلاً، جاء الإسلام ليجابه مجتمعاً متناقضاً بين من ينكر وجود إله في الكون، وبين من يقول بتعدد الآلهة، فجاء الإسلام وسطاً بين الطرفين، جاء بالأقوم في هذه المسألة، جاء ليقول بإله واحد لا شريك له.
فإذا ما تحدث عن صفات هذا الإله سبحانه اختار أيضاً ما هو أقوم وأوسط، فللحق سبحانه صفات تشبه صفات البشر، فله يد وسمع وبصر، لكن ليست يده كيدنا، وليس سمعه كسمعنا، وليس بصره كبصرنا :﴿ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " ١١ " ﴾( سورة الشورى ) : وبهذا المنهج الحكيم خرجنا مما وقع فيه المشبهة الذين شبهوا صفات الله بصفات البشر، وخرجنا مما وقع فيه المعطلة الذين أنكروا أن يكون لله تعالى هذه الصفات وأولوها على غير حقيقتها.
وكذلك في الخلق الاجتماعي العام، يلفتنا المنهج القرآني في قوله تعالى :﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون " ١٠٥ " ﴾ ( سورة يوسف ) : يلفتنا إلى ما في الكون من عجائب نغفل عنها، ونعرض عن تدبرها والانتفاع بها، ولو نظرنا إلى هذه الآيات بعين المتأمل لوجدنا فيها منافع شتى منها : أنها تذكرنا بعظمة الخالق سبحانه، ثم هي بعد ذلك ستفتح لنا الباب الذي يثري حياتنا، ويوفر لنا ترف الحياة ومتعتها.
فالحق سبحانه أعطانا مقومات الحياة، وضمن لنا برحمته ضروريات البقاء، فمن أراد الكماليات فعليه أن يعمل عقله فيما أعطاه الله ليصل إلى ما يريد.
والأمثلة كثيرة على مشاهدات متأملة في ظواهر الكون، اهتدى بها أصحاب إلى اكتشافات واختراعات خدمت البشرية، وسهلت عليها كثيراً من المعاناة. فالذي اخترع العجلة في نقل الأثقال بنى فكرتها على ثقل وجده يتحرك بسهولة إذا وضع تحته شيء قابل للدوران، فتوصل إلى استخدام العجلات التي مكنته من نقل أضعاف ما كان يحمله.
والذي أدخل العالم عصر البخار استنبط فكرة البخار، وأنه يمكن أن يكون قوة محركة عندما شاهد القدر وهو يغلي، ولاحظ أن غطاءه يرتفع إلى أعلى، فاهتدى إلى استخدام البخار في تسيير القطارات والعربات.
والعالم الذي اكتشف دواء " البنسلين " اهتدى إليه عندما شاهد طبقة خضراء نسميها " الريم " تتكون في أماكن استخدام الماء، وكان يشتكي عينه، فعندما وصلت هذه المادة إلى عينه ربما مصادفة، لاحظ أن عينه قد برئت، فبحث في هذه المسألة حتى توصل إلى هذا الدواء. إلى غير ذلك من الآيات والعجائب في كون الله، التي يغفل عنها الخلق، ويمرون عليها وهم معرضون.
أما هؤلاء العلماء الذين أثروا حياة البشرية بنظرتهم الثاقبة، فقد استخدموا عقولهم في المادة التي خلقها ال
وهذه الآية امتداد للآية السابقة، ومعطوفة عليها ؛ لأن الله تعالى ذكر فعلاً واحداً :﴿ ويبشر.. " ٩ " ﴾
( سورة الإسراء )، ثم عطف عليه :﴿ وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة.. " ١٠ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : إذن : فالآية داخلة في البشارة السابقة، ولكن كيف ذلك، والبشارة السابقة تبشر المؤمنين بأن لهم أجراً كبيراً، والبشارة إخبار بخير يأتي في المستقبل، فكيف تكون البشارة بالعذاب ؟
قالوا : نعم، هذه بشارة على سبيل التهكم والاستهزاء بهم، كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ فبشرهم بعذاب أليمٍ " ٣٤ " ﴾ ( سورة التوبة ).
وكما قال الحق سبحانه متهكماً :﴿ ذق إنك أنت العزيز الكريم " ٤٩ " ﴾( سورة الدخان ) : وكما تقول للولد الذي أهمل فأخفق في الامتحان : مبروك عليك الفشل، أو تقول : بشر فلاناً بالرسوب. وقد تكون البشارة للمؤمن بالجنة، وللكافر بالعذاب، كلاهما بشارة للمؤمن، فبشارة المؤمن بالجنة تسره وتسعده، وتجعله يستشرف ما ينتظره من نعيم الله في الآخرة.
وبشارة الكافر بالعذاب تسر المؤمن ؛ لأنه لم يقع في مصيدة الكفر، وتزجر من لم يقع فيه وتخيفه، وهذا رحمة به وإحسان إليه. وهذا المعنى واضح في قول الحق سبحانه في سورة الرحمن :
﴿ رب المشرقين ورب المغربين " ١٧ " فبأي آلاء ربكما تكذبان " ١٨ " مرج البحرين يلتقيان " ١٩ " بينهما برزخ لا يبغيان " ٢٠ " فبأي آلاء ربكما تكذبان " ٢١ " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " ٢٢ " فبأي آلاء ربكما تكذبان " ٢٣ " وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام " ٢٤ " فبأي آلاء ربكما تكذبان " ٢٥ " ﴾
( سورة الرحمن ) : فهذه كلها نعم من نعم الله تعالى علينا، فناسب أن تذيل بقوله تعالى :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان " ١٨ " ﴾ ( سورة الرحمن ).
أما قوله تعالى :﴿ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران " ٣٥ " فبأي آلاء ربكما تكذبان " ٣٦ " ﴾( سورة الرحمن ) : فأي نعمة في أن يرسل الله عليهما شواظ من نار ونحاس فلا ينتصران ؟ نعم، المتأمل في هذه الآية يجد فيها نعمة من أعظم نعم الله، ألا وهي زجر العاصي عن المعصية، ومسرة للطائع.
( يدع )الدعاء : طلب ما تعجز عنه قادر عليه. وأهل النحو يقولون. إن الفعل : ماضٍ ومضارع وأمر. فالأمر : طلب من الأعلى إلى الأدنى، فكل طلب من الله لخلقه فهو أمر، أو من الأعلى من البشر للأدنى. أما إن كان الطلب من مساوٍ لك فهو التماس أو رجاء. فإن كان الطلب من الأدنى للأعلى، كطلب العبد من ربه فهو دعاء.
لذلك نجد التدقيق في الإعراب يحفظ لله تعالى مكانته ويعظمه، فنقول للطالب : أعرب : رب اغفر لي، فيقول : اغفر، فعل دال على الدعاء، لأنه لا يجوز في حق المولى تبارك وتعالى أن نقول : فعل أمر، فالله لا يأمره أحد.
فأول ما يفهم من الدعاء أنه دل على صفة العجز والضعف في العبد، وأنه قد اندكت فيه ثورة الغرور، فعلم أنه لا يقدر على هذا إلا الله فتوجه إليه بالدعاء.
( بالشر )بالمكروه، والإنسان لا يدعو على نفسه، أو على ولده، أو على ماله بالشر إلا في حالة الحنق والغضب وضيق الأخلاق، الذي يخرج الإنسان عن طبيعته، ويفقده التمييز، فيتسرع في الدعاء بالشر، ويتمنى أن ينفذ الله له ما دعا به.
ومن رحمة الله تعالى بعباده ألا يستجيب لهم هذا الدعاء الذي إن دل فإنما يدل على حمق وغباء من العبد.
وكثيراً ما نسمع أماً تدعو على ولدها بما لو استجاب الله له لكانت قاصمة الظهر لها، أو نسمع أباً يدعو على ولده أو على ماله، إذن : فمن رحمة الله بنا أن يفوت لنا هذا الحمق، ولا ينفذ لنا ما تعجلناه من دعاءٍ بالشر. قال تعالى :﴿ ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم.. " ١١ " ﴾ ( سورة يونس ) : أي : لو استجاب الله لهم في دعائهم بالشر لكانت نهايتهم. وإن كنت تسر وتسعد بأن ربك سبحانه وتعالى فوت لك دعوة بالشر فلم يستجب لها، وأن لعدم استجابته سبحانه لحكمة بالغة. فاعلم أن لله حكمة أيضاً حينما لا يستجيب لك في دعوة الخير، فلا تقل : دعوت فلم يستجب لي، واعلم أن لله حكمة في أن يمنعك خيراً تريده، ولعله لو أعطاك هذا الخير لكان وبالاً عليك.
إذن : عليك أن تقيس الأمرين بمقياس واحد، وترضى بأمر الله في دعائك بالخير، كما رضيت بأمره حين صرف عنك دعاء الشر، ولم يستجب لك فيه. فكما أن له سبحانه حكمة في الأولى، فله حكمة في الثانية.
وقد دعا الكفار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنفسهم، فقالوا :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.. " ٣٢ " ﴾ ( سورة الأنفال )، وقالوا :﴿ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا " ٩٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : ولو استجاب الله لهم هذا الدعاء لقضى عليهم، وقطع دابرهم، لكن لله تعالى حكمة في تفويت هذا الدعاء لهؤلاء الحمقى، وهاهم الكفار باقون حتى اليوم، وإلى أن تقوم الساعة.
وكان المنتظر منهم أن يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، لكن المسألة عندهم ليست مسألة كفر وإيمان، بل مسألة كراهية لمحمد صلى الله عليه وسلم، ولما جاء به، بدليل أنهم قبلوا الموت في سبيل الكفر وعدم الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم. ومن طبيعة الإنسان العجلة والتسرع، كما قال تعالى :﴿ خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون " ٣٧ " ﴾ ( سورة الأنبياء ) : فكثيراً ما يدعو الإنسان بالخير لنفسه أو بما يراه خيراً، فلا يجد وراءه إلا الشر والتعب والشقاء، وفي المقابل قد ينزل الله بك ما تظنه شراً، ويسوق الله الخير من خلاله.
إذن : أنت لا تعلم وجه الخير على حقيقته، فدع الأمر لربك عز وجل، واجعل حظك من دعائك لا أن تجاب إلى ما دعوت، ولكن أن تظهر ضراعة عبوديتك لعزة ربك سبحانه وتعالى.
ومعنى :﴿ دعاءه بالخير.. " ١١ " ﴾ ( سورة الإسراء ).
الحق سبحانه وتعالى جعل الزمن ليلاً ونهاراً ظرفاً للأحداث، وجعل لكل منهما مهمة لا تتأتى مع الآخر، فهما متقابلان لا متضادان، فليس الليل ضد النهار أو النهار ضد الليل ؛ لأن لكل منهما مهمة، والتقابل يجعلهما متكاملين.
ولذلك أراد الله تعالى أن ينظر بالليل والنهار في جنس الإنسان من الذكورة والأنوثة، فهما أيضاً متكاملان لا متضادان، حتى لا تقوم عداوة بين ذكورة وأنوثة، كما نرى البعض من الجنسين يتعصب لجنسه تعصباً أعمى خالياً من فهم طبيعة العلاقة بين الذكر والأنثى.
فالليل والنهار كجنس واحد لهما مهمة، أما من حيث النوع فلكل منهما مهمة خاصة به، وإياك أن تخلط بين هذه وهذه. وتأمل قول الحق سبحانه :﴿ والليل إذا يغشى " ١ " والنهار إذا تجلى " ٢ " وما خلق الذكر والأنثى " ٣ " إن سعيكم لشتى " ٤ " ﴾( سورة الليل ) : فلا تجعل الليل ضداً للنهار، ولا النهار ضداً لليل، وكذلك لا تجعل الذكورة ضداً للأنوثة، ولا الأنوثة ضداً للذكورة. قوله تعالى :﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين.. " ١٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : جعلنا : بمعنى خلقنا، والليل والنهار هما المعروفان لنا بالمعايشة والمشاهدة، ومعرفتنا هذه أوضح من أن نعرفهما، فنقول مثلاً : الليل هو مغيب الشمس عن نصف الكرة الأرضية، والنهار هو شروق الشمس على نصف الكرة الأرضية.
إذن : قد يكون الشي أوضح من تعريفه. والحق سبحانه خلق لنا الليل والنهار، وجعل لكل منهما حكمة ومهمة، وحينما يتحدث عنهما، يقول تعالى :﴿ والضحى " ١ " والليل إذا سجى " ٢ " ﴾ ( سورة الضحى ).
ويقول :﴿ والليل إذا يغشى " ١ " والنهار إذا تجلى " ٢ " ﴾ ( سورة الليل )، ومرة يتحدث عن اللازم لهما، فيقول :﴿ وجعل الظلمات والنور " ١ " ﴾( سورة الأنعام ) : لأن الحكمة من الليل تكمن في ظلمته، والحكمة من النهار تكمن في نوره، فالظلمة سكن واستقرار وراحة. وفي الليل تهدأ الأعصاب من الأشعة والضوء، ويأخذ البدن راحته ؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم : " أطفئوا المصابيح إذا رقدتم ".
في حين نرى الكثيرين يظنون أن الأضواء المبهرة التي نراها الآن مظهر حضاري، وهم غافلون عن الحكمة من الليل، وهي ظلمته.
والنور للحركة والعمل والسعي، فمن ارتاح في الليل يصبح نشيطاً للعمل، ولا يعمل الإنسان إلا إذا أخذ طاقة جديدة، وارتاحت أعضاؤه، ساعتها تستطيع أن تطلب منه أن يعمل. لذلك قال الحق سبحانه :﴿ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار.. " ٧٣ " ﴾ ( سورة القصص ) : لماذا ؟ ﴿ لتسكنوا فيه.. " ٧٣ " ﴾
( سورة القصص ) : أي : في الليل. ﴿ ولتبتغوا من فضله.. " ٧٣ " ﴾ ( سورة القصص ) : أي : في النهار.
إذن : لليل مهمة، وللنهار مهمة، وإياك أن تخلط هذه بهذه، وإذا ما وجد عمل لا يؤدي إلا بالليل كالحراسة مثلاً، نجد الحق سبحانه يفتح لنا باباً لنخرج من هذه القاعدة العامة. فيقول تعالى :﴿ ومن آياته منامكم بالليل والنهار.. " ٢٣ " ﴾( سورة الروم ) : فجعل النهار أيضاً محلاً للنوم، فأعطانا فسحة ورخصة، ولكن في أضيق نطاق، فمن لا يقومون بأعمالهم إلا في الليل، وهي نسبة ضئيلة لا تخرق القاعدة العامة التي ارتضاها الحق سبحانه لتنظيم حركة حياتنا.
فإذا النهار أيضاً محلاً للنوم، فأعطانا فسحة ورخصة، ولكن في أضيق نطاق، فمن لا يقومون بأعمالهم إلا في الليل، وهي نسبة ضئيلة لا تخرق القاعدة العامة التي ارتضاها الحق سبحانه لتنظيم حركة حياتنا.
فإذا خرج الإنسان عن هذه القاعدة، وتمرد على هذا النظام الإلهي، فإن الحق سبحانه يردعه بما يكبح جماحه، ويحميه من إسرافه على نفسه، وهذا من لطفه تعالى ورحمته بخلقه.
هذا الردع إما ردع ذاتي اختياري، وإما ردع قهري الردع الذاتي يحدث للإنسان حينما يسعى في حركة الحياة ويعمل، فيحتاج إلى طاقة، هذه الطاقة تحتاج إلى دم متدفق يجري في أعضائه، فإن زادت الحركة عن طاقة الإنسان يلهث وتتلاحق أنفاسه، وتبدو عليه أمارات التعب والإرهاق، لأن الدم المتوارد إلى رئته لا يكفي هذه الحركة.
وهذا نلاحظه مثلاً في صعود السلم، حيث حركة الصعود مناقضة لجاذبية الأرض لك، فتحتاج إلى قوة أكثر، وإلى دم أكثر وتنفس فوق التنفس العادي.
فكأن الحق سبحانه وتعالى جعل التعب والميل إلى الراحة رادعاً ذاتياً في الإنسان، إذا ما تجاوز حد الطاقة التي جعلها الله فيه.
أما الردع القهري فهو النوم، يلقيه الله على الإنسان إذا ما كابر وغالط نفسه، وظن أنه قادر على مزيد من العمل دون راحة، فهنا يأتي دور الرادع القسري، فينام رغماً عنه ولا يستطيع المقاومة، وكأن الطبيعة التي خلقها الله فيه تقول له : ارحم نفسك، فإنك لم تعد صالحاً للعمل.
فالحق تبارك وتعالى لا يسلم الإنسان لاختياره، بل يلقي عليه النوم وفقدان الوعي والحركة ليحميه من حماقته وإسرافه على نفسه.
لذلك نرى الواحد منا إذا ما تعرض لمناسبة اضطرته لعدم النوم لمدة يومين مثلاً، لابد له بعد أن ينتهي من مهمته هذه أن ينام مثل هذه المدة التي سهرها ؛ ليأخذ الجسم حقه من الراحة التي حرم منها. وقوله تعالى :﴿ آيتين.. " ١٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : قلنا : إن الآية هي الشيء العجيب الذي يدعو إلى التأمل، ويظهر قدرة الخالق وعظمته سبحانه، والآية تطلق على ثلاثة أشياء :
تطلق على الآيات الكونية التي خلقها الله في كونه وأبدعها، وهذه الآيات الكونية يلتقي بها المؤمن والكافر، ومنها كما قال تعالى :﴿ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر.. " ٣٧ " ﴾ ( سورة فصلت )، ﴿ ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام " ٣٢ " ﴾ ( سورة الشورى ) : وهذه الآيات تلفتنا إلى قدرة الخالق سبحانه وتعالى.
وتطلق الآيات على المعجزات التي تصاحب الرسل، وتكون دليلاً على صدقهم، فكل رسول يبعث ليحمل رسالة الخالق لهداية الخلق، لابد أن يأتي بدليل على صدقه وأمارة على أنه رسول.
وهذه هي المعجزة، وتكون مما نبغ فيه قومه ومهروا ؛ لتكون أوضح في إعجازهم وأدعى إلى تصديقهم. قال تعالى :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون.. " ٥٩ " ﴾ ( سورةالإسراء )
وتطلق الآيات على آيات القرآن الكريم الحاملة للأحكام.
إذن : هذه أنواع ثلاثة في كل منها عجائب تدعوك للتأمل، ففي الأولى : هندسة الكون ونظامه العجيب البديع الدقيق، وفي الثانية : آيات الإعجاز، حيث أتى بشيء نبغ فيه القوم، ومع ذلك لم يستطيعوا الإتيان بمثله، وفي الثالثة : آيات القرآن وحاملة الأحكام ؛ لأنها أقوم نظام لحركة الحياة.
فقول الحق سبحانه :﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين.. " ١٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : كونيتين، ولا مانع أن تفسر الآيات الكونية آيات القرآن. وقوله :﴿ فمحونا آية الليل.. " ١٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : بعد أن كان الضوء غابت الشمس فحل الظلام، أو محوناها : أي جعلناها هكذا، كما قلنا : سبحان من بيض اللبن. أي خلقه هكذا، فيكون المراد : خلق الليل هكذا مظلماً.
﴿ وجعلنا آية النهار مبصرة.. " ١٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : خلقنا النهار مضيئاً، ومعنى مبصرة أو مضيئة أي : نرى بها الأشياء ؛ لأن الأشياء لا ترى في الظلام، فإذا حل الضياء والنور رأيناها، وعلى هذا كان ينبغي أن يقول : وجعلنا آية النهار مبصراً فيها، وليست هي مبصرة.
وهذه كما في قوله تعالى في قصة موسى وفرعون :﴿ فلما جاءتهم آياتنا مبصرة.. " ١٣ " ﴾ ( سورة النمل ) : فنسب البصر إلى الآيات، كما نسب البصر هنا إلى النهار.
وهذه مسألة حيرت الباحثين في فلسفة الكون وظواهره، فكانوا يظنون أنك ترى الأشياء إذا انتقل الشعاع من عينك إلى المرئي فتراه. إلى أن جاء العالم الإسلامي " ابن الهيثم " الذي نور الله بصيرته، وهداه إلى سر رؤية الأشياء، فأوضح لهم ما وقعوا فيه من الخطأ، فلو أن الشعاع ينتقل من العين إلى المرئي لأمكنك أن ترى الأشياء في الظلمة إذا كنت في الضوء.
إذن : الشعاع لا يأتي من العين، بل من الشيء المرئي، ولذلك نرى الأشياء إن كانت في الضوء، ولا نراها إن كانت في الظلام.
وعليه يكون الشيء المرئي هو الذي يبصرك من حيث هو الذي يتضح لك، ويساعدك على رؤيته، ولذلك نقول : هذا شيء يلفت النظر أي : يرسل إليك ما يجعلك تلتفت إليه.
إذن : التعبير القرآني :﴿ وجعلنا آية النهار مبصرة.. " ١٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : على مستوى عال من الدقة والإعجاز، وصدق الله تعالى حين قال :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق.. " ٥٣ " ﴾( سورة فصلت ).
وقوله تعالى :﴿ لتبتغوا فضلاً من ربكم.. " ١٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : وهذه هي العلة الأولى لآية الليل والنهار. أي : أن السعي وطلب الرزق لا يكون إلا في النهار ؛ لذلك أتى طلب فضل الله ورزقه بعد آية النهار، ومعلوم أن الإنسان لا تكون له حركة نشاطية وإقبال على السعي والعمل إلا إذا كان مرتاحاً ولا تتوفر له الراحة إلا بنوم الليل.
وبهذا نجد في الآية الكريمة نفس الترتيب الوارد في قوله تعالى :﴿ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله.. " ٧٣ " ﴾ ( سورة القصص ) : فالترتيب في الآية يقتضي أن نقول :﴿ لتسكنوا فيه.. " ٧٣ " ﴾( سورة القصص ) : أي : في الليل.
﴿ ولتبتغوا من فضله.. " ٧٣ " ﴾ ( سورة القصص ) : أي : في النهار، وعمل النهار لا يتم إلا براحة الليل، فهما إذن متكاملان.
والحق سبحانه وتعالى جعل النهار محلاً للحركة وابتغاء فضل الله ؛ لأن الحركة أمر مادي وتفاعل مادي بين الإنسان ومادة الكون من حوله، كالفلاح وتفاعله مع أرضه، والعامل تفاعله مع آلته.
هذا التفاعل المادي لا يتم إلا في ضوء ؛ لأن الظلمة تغطي الأشياء وتعميها، وهذا يتناسب مع الليل حيث ينام الناس، أما في السعي والحركة فلابد من ضوء أتبين به الفاعل والمنفعل له، ففي الظلمة قد تصطدم بما هو أقوى منك فيحطمك، أو بما هو أضعف منك فتحطمه.
إذن : فأول خطوات ابتغاء فضل الله أن يتبين الإنسان المادة التي يتفاعل معها. لذلك، فالحق سبحانه جعل الظلمة سابقة للضياء. فقال تعالى :﴿ وجعل الظلمات والنور.. " ١ " ﴾ ( سورة الأنعام ) : لأن النور محل للحركة، ولا يمكن للإنسان أن يعمل إلا بعد راحة، والراحة لا تكون إلا في ظلمة الليل. وقوله تعالى :﴿ ولتعلموا عدد السنين والحساب.. " ١٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : وهذه هي العلة الأخرى لليل والنهار، حيث بمرورهما يتم حساب السنين. وكلمة " عدد " تقتضي شيئاً له وحدات، ونريد أن نعرف كمية هذه الوحدات ؛ لأن الشيء إن لم تكن له كميات متكررة فهو واحد. وقوله :﴿ السنين والحساب.. " ١٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : لأنها من لوازم حركتنا في الحياة، فعن طريق حساب الأيام نستطيع تحديد وقت الزراعات المختلفة، أو وقت سقوط المطر، أو هبوب الرياح. وفي العبادات نحدد بها أيام الحج، وشهر الصوم، ووقت الصلاة، ويوم الجمعة، هذه وغيرها من لوازم حياتنا لا نعرفها إلا بمرور الليل والنهار.
ولو تأملت عظمة الخالق سبحانه لوجدت القمر في الليل، والشمس في النهار، ولكل منهما مهمة في حساب الأيام والشهور والسنين، فالشمس لا تعرف بها إلا اليوم الذي أنت فيه، حيث يبدأ اليوم بشروقها وينتهي بغروبها، أما بالقمر فتستطيع حساب الأيام والشهور ؛
كلمة ( طائره )أي : عمله وأصلها أن العرب كانوا في الماضي يزجرون الطير، أي : إذا أراد أحدهم أن يمضي عملاً يأتي بطائر ثم يطلقه، فإن مر من اليسار إلى اليمين يسمونه " السانح " ويتفاءلون به، وإن مر من اليمين إلى اليسار يسمونه " البارح " ويتشاءمون به، ثم يتهمون الطائر وينسبون إليه العمل، ولا ذنب له ولا جريرة.
إذن : كانوا يتفاءلون باليمين، ويتشاءمون باليسار، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن، ولا يحب التشاؤم ؛ لأن الفأل الطيب ينشط أجهزة الجسم انبساطاً للحركة، أما التشاؤم فيدعو للتراجع والإحجام، ويقضي على الحركة والتفاعل في الكون.
والحق سبحانه هنا يوضح : لا تقولوا الطائر ولا تتهموه، بل طائرك أي : عملك في عنقك يلازمك ولا ينفك عنك أبداً، ولا يسأل عنه غيره، كما أنه لا يسأل عن عمل الآخرين، كما قال تعالى :﴿ ولا تزر وازرة أخرى.. " ١٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : فلا تلقي بتبعية أفعالك على الحيوان الذي لا ذنب له. وقوله تعالى :﴿ ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا " ١٣ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : وهو كتاب أعماله الذي سجلته عليه الحفظة الكاتبون، والذي قال الله عنه :﴿ ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا " ٤٩ " ﴾ ( سورة الكهف ) : هذا الكتاب سيلقاه يوم القيامة منشوراً. أي : مفتوحاً معداً للقراءة.
الحق تبارك وتعالى يصور لنا موقفاً من مواقف يوم القيامة، حيث يقف العبد بين يدي ربه عز وجل، فيدعوه إلى أن يقرأ كتابه بنفسه، ليكون هو حجة على نفسه، ويقر بما اقترف، والإقرار سيد الأدلة.
فهذا موقف لا مجال فيه للعناد أو المكابرة، ولا مجال فيه للجدال أو الإنكار، فإن حدث منه إنكار جعل الله عليه شاهداً من جوارحه، فينطقها الحق سبحانه بقدرته :﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " ٢٤ " ﴾ ( سورة النور ).
ويقول سبحانه :﴿ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيءٍ.. " ٢١ " ﴾
( سورة الإسراء ) : وقد جعل الخالق سبحانه للإنسان سيطرة على جوارحه في الدنيا، وجعلها خاضعة لإرادته لا تعصيه في خير أو شر، فبيده يضرب ويعتدي، وبيده ينفق ويقيل عثرة المحتاج، وبرجله يسعى إلى بيت الله أو يسعى إلى مجلس الخمر والفساد.
وجوارحه في كل هذا مسخرة طائعة لا تتأبى عليه، حتى وإن كانت كارهة للفعل ؛ لأنها منقادة لمراداتك، ففعلها لك ليس دليلاً على الرضى عنك ؛ لأنه قد يكون رضى انقياد.
وقد ضربنا مثلاً لذلك بقائد السرية، فأمره نافذ على جنوده، حتى وإن كان خطئاً، فإذا ما فقد هذا القائد السيطرة وأصبح الجنود أمام القائد الأعلى باحوا له بكل شيء.
كذلك في الدنيا جعل الله للإنسان إرادة على جوارحه، فلا تتخلف عنه أبداً، لكنها قد تفعل وهي كارهة وهي لاعنة له، وهي مبغضة له ولفعله، فإذا كان يوم القيامة وانحلت من إرادته، وخرجت من سجن سيطرته، شهدت عليه بما كان منه. ﴿ كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً " ١٤ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : كفانا أن تكون أنت قارئاً وشاهداً على نفسك.
قوله تعالى :﴿ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه.. " ١٥ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : لأن الحق سبحانه لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، وهو سبحانه الغني عن عباده، وبصفات كماله وضع منهج الهداية للإنسان الذي جعله خليفة له في أرضه، وقبل أن يخلقه أعد له مقومات الحياة كلها من أرض وسماء، وشمس وقمر، وهواء وجبال ومياه.
فصفات الكمال ثابتة له سبحانه قبل أن يخلق الخلق، إذن : فطاعتهم لن تزيده سبحانه شيئاً، كما أن معصيتهم لن تضره سبحانه في شيء. وهنا قد يسأل سائل : فلماذا التكليفات إذن ؟
نقول : إن التكليف من الله لعباده من أجلهم وفي صالحهم، لكي تستمر حركة حياتهم، وتتساند ولا تتعاند ؛ لذلك جعل لنا الخالق سبحانه منهجاً نسير عليه، وهو منهج واجب التنفيذ لأنه من الله، من الخالق الذي يعلم من خلق، ويعلم ما يصلحهم وينظم حياتهم، فلو كان منهج بشر لبشر لكان لك أن تتأبى عليه، أما منهج الله فلا ينبغي الخروج عليه.
لذلك نسمع في الأمثال الدارجة عند أهل الريف يقولون : الأصبع الذي يقطعه الشرع لا ينزف، والمعنى أن الشرع هو الذي أمر بذلك، فلا اعتراض عليه، ولو كان هذا بأمر البشر لقامت الدنيا ولم تقعد.
ومن كماله سبحانه وغناه عن الخلق يتحمل عنهم ما يصدر عنهم من أحكام أو تجن أو تقصير ؛ ذلك لأن كل شيء عنده بمقدار، ولا يقضي أمر في الأرض حتى يقضي في السماء، فإذا كلفت واحداً بقضاء مصلحة لك، فقصر في قضائها، أو رفض، أو سعى فيها ولم يوفق نجدك غاضباً عليه حانقاً.
وهنا يتحمل الخالق سبحانه عن عباده، ويعفيهم من هذا الحرج، ويعلمهم أن الحاجات بميعاد وبقضاء عنده سبحانه، فلا تلوموا الناس، فلكل شيء ميلاد، ولا داعي لأن نسبق الأحداث، ولننتظر الفرج وقضاء الحوائج من الله تعالى أولاً.
ومن هنا يعلمنا الإسلام قبل أن نعد بعمل شيء لابد أن نسبقه بقولنا : إن شاء الله لنحمي أنفسنا، ونخرج من دائرة الحرج أو الكذب إذا لم نستطع الوفاء، فأنا إذن في حماية المشيئة الإلهية إن وفقت فبها ونعمت، وإن عجزت فإن الحق سبحانه لم يشأ، وأخرج أنا من أوسع الأبواب.
إذن : تشريعات الله تريد أن تحمي الناس من الناس، تريد أن تجتث أسباب الضغن على الآخر، إذا لم تقض حاجتك على يديه، وكأن الحق سبحانه يقول لك : تمهل فكل شيء وقته، ولا تظلم الناس، فإذا ما قضيت حاجتك فاعلم أن الذي كلفته بها ما قضاها لك في الحقيقة، ولكن صادف سعيه ميلاد قضاء هذه الحاجة، فجاءت على يديه، فالخير في الحقيقة من الله، والناس أسباب لا غير.
وتتضح لنا هذه القضية أكثر من مجال الطب وعلاج المرضى، فالطبيب سبب، والشفاء من الله، وإذا أراد الله لأحد الأطباء التوفيق والقبول عند الناس جعل مجيئه على ميعاد الشفاء فيلتقيان.
ومن هنا نجد بعض الأطباء الواعين لحقيقة الأمر يعترفون بهذه الحقيقة، فيقول أحدهم : ليس لنا إلا في ( الخضرة ). والخضرة معناها : الحالة الناجحة التي حان وقت شفائها. وصدق الشاعر حين قال :
والناس يلحون الطبيب وإنما خطأ الطبيب إصابة الأقدار.
فقول الحق تبارك وتعالى :﴿ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه.. " ١٥ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : لصالح نفسه.
والاهتداء : يعني الالتزام بمنهج الله، والتزامك عائد عليك، وكذلك التزام الناس بمنهج الله عائد عليك أيضاً، وأنت المنتفع في كل الأحوال بهذا المنهج ؛ لذلك حينما ترى شخصاً مستقيماً عليك أن تحمد الله، وأن تفرح باستقامته، وإياك أن تهزأ به أو تسخر منه ؛ لأن استقامته ستعود بالخير عليك في حركة حياتك.
وفي المقابل يقول الحق سبحانه :﴿ ومن ضل فإنما يضل عليها.. " ١٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : تعود عليه عاقبة انصرافه عن منهج الله ؛ لأن شر الإنسان في عدم التزامه بمنهج الله يعود عليك ويعود على الناس من حوله، فيشقى هو بشره، ويشقى به المجتمع.
ومن العجب أن نرى بعض الحمقى إذا رأى منحرفاً أو سيئ السلوك ينظر إليه نظرة بغض وكراهية، ويدعو الله عليه، وهو لا يدري أنه بهذا العمل يزيد الطين بلة، ويوسع الخرق على الراقع كما يقولون.
فهذا المنحرف في حاجة لمن يدعو الله له بالهداية، حتى تستريح أولاً من شره، ثم لتتمتع بخير هدايته ثانياً. أما الدعاء عليه فسوف يزيد من شره، ويزيد من شقاء المجتمع به.
ومن هذا المنطلق علمنا الإسلام أن من كانت لديه قضية علمية تعود بالخير، فعليه أن يعديها إلى الناس ؛ لأنك حينما تعدي الخير إلى الناس ستنتفع بأثره فيهم، فكما انتفعوا هم بآثار خلالك الحميدة، فيمكنك أنت أيضاً الانتفاع بآثار خلالهم الحميدة إن نقلتها إليهم.
لذلك حرم الإسلام كتم العلم لما يسببه من أضرار على الشخص نفسه وعلى المجتمع. يقول صلى الله عليه وسلم : " من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة ".
وكذلك من الكمال الذي يدعونا إليه المنهج الإلهي أن يتقن كل صاحب مهنته، وكل صاحب صنعة صنعته، فالإنسان في حركة حياته يتقن عملاً واحداً، لكن حاجاته في الحياة كثيرة ومتعددة.
فالخياط مثلاً الذي يخيط لنا الثياب لا يتقن غير هذه المهنة، وهو يحتاج في حياته إلى مهن وصناعات كثيرة، يحتاج إلى : الطبيب والمعلم والمهندس والحداد والنجار والفلاح.. الخ.
فلو أتقن عمله وأخلص فيه لسخر الله له من يتقن له حاجته، ولو رغماً عنه، أو عن غير قصد، أو حتى بالمصادفة.
إذن : من كمالك أن يكون الناس في كمال، فإن أتقنت عملك فأنت المستفيد حتى إن كان الناس من حولك أشراراً لا يتقنون شيئاً فسوف ييسر الله لهم سبيل إتقان حاجتك، من حيث لا يريدون ولا يشعرون. وقوله تعالى :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى.. " ١٥ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : لا يحمل أحد ذنب أحدٍ، ولا يؤاخذ أحد بجريرة غيره، وكلمة :﴿ تزر وازرة.. " ١٥ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : من الوزر : وهو الحمل الثقيل، ومنها كلمة الوزير : أي الذي يحمل الأعباء الثقيلة عن الرئيس، أو الملك أو الأمير. فعدل الله يقتضي أن يحاسب الإنسان بعمله، وأن يسأل عن نفسه، فلا يرمي أحد ذنبه على أحد، كما قال تعالى :﴿ لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا.. " ٣٣ " ﴾( سورة لقمان ) : وحول هذه القضية تحدث كثير من المستشرقين الذين يبحثون في القرآن عن مأخذ، فوقفوا عند هذه الآية :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى.. " ١٥ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : وقالوا : كيف نوفق بينها وبين قوله :﴿ وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم.. " ١٣ " ﴾ ( سورة العنكبوت ).
وقوله تعالى :﴿ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون " ٢٥ " ﴾( سورة النحل ).
ونقول : التوفيق بين الآية الأولى والآيتين الأخيرتين هين لو فهموا الفرق بين الوزر في الآية الأولى، والوزر في الآيتين الأخيرتين.
ففي الأولى وزر ذاتي خاص بالإنسان نفسه، حيث ضل هو في نفسه، فيجب أن يتحمل وزر ضلاله. أما في الآية الثانية فقد أضل غيره، فتحمل وزره الخاص به، وتحمل وزر من أضلهم.
ويوضح لنا هذه القضية الحديث النبوي الشريف : " من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ".
وقوله تعالى :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " ١٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : العذاب : عقوبة على مخالفة، لكن قبل أن تعاقبني عليها لابد أن تعلمني أن هذه مخالفة أو جريمة ( وهي العمل الذي يكسر سلامة المجتمع )، فلا جريمة إلا بنص ينص عليها ويقننها، ويحدد العقاب عليها، ثم بعد ذلك يجب الإعلام بها في الجرائد الرسمية لكي يطلع عليها الناس، وبذلك تقام عليهم الحجة إن خالفوا أو تعرضوا لهذه العقوبة.
لذلك حتى في القانون الوضعي نقول : لا عقوبة إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنص، ولا نص إلا بإعلام.
فإذا ما اتضحت هذه الأركان في أذهان الناس كان للعقوبة معنى، وقامت الحجة على المخالفين، أما أن نعاقب شخصاً على جريمة هو لا يعلم بها، فله أن يعترض عليك من منطلق هذه الآية.
أما أن يجرم هذا العمل، ويعلن عنه في الصحف الرسمية، فلا حجة لمن جهله بعد ذلك ؛ لأن الجهل به بعد الإعلام عنه لا يعفي من العقوبة.
فكأن قول الله تعالى :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً " ١٥ " ﴾( سورة الإسراء ).
يجمع هذه الأركان السابقة : الجريمة، والعقوبة، والنص، والإعلام، حيث أرسل الله الرسول يعلم الناس منهج الحق سبحانه، ويحدد لهم ما جرمه الشرع والعقوبة عليه. لذلك يقول تعالى في آية أخرى :﴿ وإن من أمةٍ إلا خلا فيها نذير " ٢٤ " ﴾ ( سورة فاطر ). ويقول :﴿ يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير.. " ١٩ " ﴾( سورة المائدة ).
إذن : قد انقطعت حجتكم برسالة محمد البشير النذير صلى الله عليه وسلم. وقد وقف العلماء أمام هذه القضية فقالوا : إن كانت الحجة قد قامت على من آمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فما بال الكافر الذي لم يؤمن ولم يعلم منهج الله ؟ وكأنهم يلتمسون له العذر بكفره.
نقول : لقد عرف الإنسان ربه عز وجل أولاً بعقله، وبما ركبه فيه خالقه سبحانه من ميزان إيماني هو الفطرة، هذه الفطرة هي المسئولة عن الإيمان بقوة قاهرة وراء الوجود، وإن لم يأت رسول، والأمثلة كثيرة لتوضيح هذه القضية :
هب أنك قد انقطعت بك السبل في صحراء واسعة شاسعة لا تجد فيها أثراً لحياة، وغلبك النوم فنمت، وعندما استيقظت فوجئت بمائدة منصوبة لك عليها أطايب الطعام والشراب. بالله ألا تفكر في أمرها قبل أن تمتد يدك إليها ؟ ألا تلفت انتباهك وتثير تساؤلاتك عمن أتى بها إليك ؟
وهكذا الإنسان بعقله وفطرته لابد أن يهتدي إلى أن للكون خالقاً مبدعاً، ولا يمكن أن يكون هذا النظام العجيب المتقن وليد المصادفة، وهل عرف آدم ربه بغير هذه الأدوات التي خلقها الله فينا ؟
لقد جئنا إلى الحياة فوجدنا عالماً مستوفياً للمقومات والإمكانيات، وجدنا أمام أعيننا آيات كثيرة دالة على الخالق سبحانه، كل منها خيط لو تتبعته لأوصلك. خذ مثلاً الشمس التي تنير الكون على بعدها تطلع في الصباح وتغرب في المساء، ما تخلفت يوماً، ولا تأخرت لحظة عن موعدها، ألا تسترعى هذه الآية الكونية انتباهك ؟
وقد سبق أن ضربنا مثلاً ب " أديسون " الذي اكتشف الكهرباء، وكم أخذ من الاهتمام والدراسة في حين أن الإضاءة بالكهرباء تحتاج إلى أدوات وأجهزة وأموال، وهي عرضة للأعطال ومصدر للأخطار، فما بالنا نغفل عن آية الإضاءة الربانية التي لا تحتاج إلى مجهود أو أموال أو صيانة أو خلافه ؟
والعربي القح الذي ما عرف غير الصحراء حينما رأى بعر البعير وآثار الأقدام استدل بالأثر على صاحبه، فقال في بساطة العرب : البعرة تدل على البعير، والقدم تدل على المسير، سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير ؟
إذن : بالفطرة التكوينية التي جعلها الله في الإنسان يمكن له أن يهتدي إلى أن للكون خالقاً، وإن لم يعرف من هو، مجرد أن يعرف القوة الخفية وراء هذا الكون.
وحينما يأتي رسول م
الحق تبارك وتعالى في هذه الآية يعطينا مثالاً لعاقبة الخروج عن منهج الله تعالى ؛ لأنه سبحانه حينما يرسل رسولاً ليبلغ منهجه إلى خلقه، فلا عذر للخارجين عنه ؛ لأنه منهج من الخالق الرازق المنعم، الذي يستحق منا الطاعة والانقياد. وكيف يتقلب الإنسان في نعمة ربه ثم يعصاه ؟ إنه رد غير لائق للجميل، وإنكار للمعروف الذي يسوقه إليك ليل نهار، بل في كل نفسٍ من أنفاسك.
ولو كان هذا المنهج من عند البشر لكان هناك عذر لمن خرج عنه، ولذلك يقولون : " من يأكل لقمتي يسمع كلمتي ".
كما أن هذا المنعم سبحانه لم يفاجئك بالتكليف، بل كلفك في وقت مناسب، في وقت استوت فيه ملكاتك وقدراتك، وأصبحت بالغاً صالحاً لحمل هذا التكليف، فتركك خمسة عشر عاماً تربع في نعمه وتتمتع بخيره، فكان الأولى بك أن تستمع إلى منهج ربك، وتنفذه أمراً ونهياً ؛ لأنه سبحانه أوجدك من دم وأمدك من عدم.
والمتأمل في قضية التكليف يرى أن الحق سبحانه بعضنا أن يكلف بعضاً، كما قال تعالى :﴿ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها.. " ١٣٢ " ﴾( سورة طه ) : وقد شرح لنا النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضية فقال : " مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر ".
وهذا التكليف وإن كان في ظاهره من الأهل لأولادهم، إلا أنه في حقيقته من الله تعالى فهو الآمر للجميع، ولكن أراد الحق سبحانه أن يكون التكليف الأول في هذه السن من القريب المباشر المحس أمام الطفل، فأبوه هو صاحب النعمة المحسة حيث يوفر لولده الطعام والشراب، وكل متطلبات حياته، فإذا ما كلفه أبوه كان أدعى إلى الانصياع والطاعة ؛ لأن الولد في هذه السن المبكرة لا تتسع مداركه لمعرفة المنعم الحقيقي، وهو الله تعالى.
لذلك أمر الأب أن يعود ولده على تحمل التكليف وأن يعاقبه إن قصر ؛ لأن الآمر بالفعل هو الذي يعاقب على الإهمال فيه. حتى إذا بلغ الولد سن التكليف وتعود عليه، وبذلك يأتي التكليف الإلهي خفيفاً على النفس مألوفاً عندها.
أما إن أخذت نعم الله وانصرفت عن منهجه فطغيت بالنعمة وبغيت فانتظر الانتقام، انتظر أخذه سبحانه وسنته التي لا تتخلف ولا ترد عن القوم الظالمين في الدنيا قبل الآخرة.
واعلم أن هذا الانتقام ضروري لحفظ سلامة الحياة، فالناس إذا رأوا الظالمين والعاصين والمتكبرين يرتعون في نعم الله في أمن وسلامة، فسوف يغريهم هذا بأن يكونوا مثلهم، وأن يتخذوهم قدوة ومثلاً، فيهم الفساد والظلم وينهار المجتمع من أساسه.
أما إن رأوا انتقام الحق سبحانه من هؤلاء، وشاهدوهم أذلاء منكسرين، فسوف يأخذون منهم عبرة وعظة، والعاقل من اعتبر بغيره، واستفاد من تجارب الآخرين.
فالانتقام من الله تعالى لحكمة أرادها سبحانه وتعالى، وكم رأينا من أشخاص وبلاد حاق بهم سوء أعمالهم حتى أصبحوا عبرة ومثلة ومن لم يعتبر كان عبرة حتى لمن لم يؤمن، وبذلك تعتدل حركة الحياة، حيث يشاهد الجميع ما نزل بالمفسدين من خراب ودمار، وإذا استقرأت البلاد في نواحي العالم المختلفة لتيسر لك الوقوف على هذه السنة الإلهية في بلاد بعينها، ولاستطعت أن تعزو ما حدث لها إلى أسباب واضحة من الخروج عن منهج الحق سبحانه.
وصدق الله حين قال :﴿ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " ١١٢ " ﴾( سورة النحل ).
وإياك أن تظن أن الحق سبحانه يمكن أن يهمل الفسقة والخارجين عن منهجه، فلابد أن يأتي اليوم الذي يأخذهم فيه أخذ عزيز مقتدر، وإلا لكانت أسوة سيئة تدعو إلى الإفساد في حركة الحياة. قال تعالى :
﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا " ١٦ " ﴾
( سورة الإسراء ) : الآفة أن الذين يستقبلون نص القرآن يفهمون خطأ أن ( ففسقوا )مترتبة على الأمر الذي قبلها، فيكون المعنى أن الله تعالى هو الذي أمرهم بالفسق، وهذا فهم غريب لمعنى الآية الكريمة، وهذا الأمر صادر من الحق سبحانه إلى المؤمنين، فتعالوا نر أوامر الله في القرآن :﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين.. " ٥ " ﴾ ( سورة البينة ).
﴿ أمرت أن أعبد رب هذه البلدة.. " ٩١ " ﴾ ( سورة النمل )، ﴿ وأمرت أن أكون من المسلمين " ٧٢ " ﴾
( سورة يونس ) : فأمر الله تعالى لا يكون إلا بطاعة وخير، ولا يأمر سبحانه بفسق أو فحشاء، كما ذكر القرآن الكريم، وعلى هذا يكون المراد من الآية : أمرنا مترفيها بطاعتنا وبمنهجنا، ولكنهم خالفوا وعصوا وفسقوا ؛ لذلك حق عليهم العذاب.
والأمر : طلب من الأعلى، وهو الله تعالى إلى الأدنى، وهم الخلق طلب منهم الطاعة والعبادة، فاستغلوا فرصة الاختيار ففسقوا وخالفوا أمر الله. قوله :﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية.. " ١٦ " ﴾( سورة الإسراء ) :
من الخطأ أن نفهم المعنى على أن الله أراد أولاً هلاكهم ففسقوا ؛ لأن الفهم المستقيم للآية أنهم فسقوا فأراد الله إهلاكهم. و( قرية )أي أهل القرية. وقوله :﴿ فيها فحق عليها القول.. " ١٦ " ﴾ ( سورة الإسراء )
أي : وجب لها العذاب، كما قال تعالى :﴿ كذلك حقت كلمت.. " ٣٣ " ﴾ ( سورة يونس ) : وقد أوجب الله لها العذاب لتسلم حركة الحياة، وليحمي المؤمنين من أذى الذين لا يؤمنون بالآخرة. وقوله تعالى :
﴿ فدمرناها تدميرا " ١٦ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : خربناها، وجعلناها أثراً بعد عين، وليست هذه هي الأولى، بل إذا استقرأت التاريخ خاصة تاريخ الكفرة والمعاندين فسوف تجد قرى كثيرة أهلكها الله ولم يبقى منها إلا آثاراً شاخصة شاهدة عليهم.
فأين عاد وثمود وقوم لوط وقوم صالح ؟ إذن : فالآية قضية قولية، لها من الواقع ما يصدقها. وقوله :
﴿ من بعد نوح.. " ١٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : دل على أن هذا الأخذ وهذا العذاب لم يحدث فيما قبل نوح ؛ لأن الناس كانوا قريبي عهد بخلق الله لآدم عليه السلام كما أنه كان يلقنهم معرفة الله وما يضمن لهم سلامة الحياة، أما بعد نوح فقد ظهر الفساد والكفر والجحود، فنزل بهم العذاب. الذي لم يسبق له مثيل. قال تعالى :﴿ والفجر " ١ " وليال عشر " ٢ " والشفع والوتر " ٣ " والليل إذا يسر " ٤ " هل في ذلك قسم لذي حجر " ٥ " ألم تر كيف فعل ربك بعاد " ٦ " إرم ذات العماد " ٧ " التي لم يخلق مثلها في البلاد " ٨ " وثمود الذين جابوا الصخر بالواد " ٩ " وفرعون ذي الأوتاد " ١٠ " الذين طغوا في البلاد " ١١ " فأكثروا فيها الفساد " ١٢ " فصب عليهم ربك سوط عذاب " ١٣ " إن ربك لبالمرصاد " ١٤ " ﴾
( سورة الفجر ) : ولنا وقفة سريعة مع هذه الآيات من سورة الفجر، فقد خاطب الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بعاد " ٦ " ﴾ ( سورة الفجر ) : و( ألم تر )بمعنى : ألم تعلم ؛ لأن النبي لم ير ما فعله الله بعاد، فلماذا عدل السياق القرآني عن : تعلم إلى تر ؟
قالوا : لأن إعلام الله لرسوله أصدق من عينه ورؤيته، ومثلها قوله تعالى :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " ١ " ﴾ ( سورة الفيل ) : حيث ولد رسول الله في عام الفيل، ولم يكن رأى شيئاً. وفي آيات سورة ( الفجر )ما يدلنا على أن حضارة عاد التي لا نكاد نعرف عنها شيئاً كانت أعظم من حضارة الفراعنة التي لفتت أنظار العالم كله ؛ ذلك لأن الحق تبارك وتعالى قال عن عاد :﴿ التي لم يخلق مثلها في البلاد " ٨ " ﴾( سورة الفجر ) : أي : لا مثيل لها في كل حضارات العالم، في حين قال عن حضارة الفراعنة :﴿ وفرعون ذي الأوتاد " ١٠ " ﴾ ( سورة الفجر ) : مجرد هذا الوصف فقط. وقوله تعالى :﴿ وكم أهلكنا من القرون.. " ١٧ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : كم : تدل على كثرة العدد.
والقرون : جمع قرن، وهو في الاصطلاح الزمني مائة عام، ويطلق على القوم المقترنين معاً في الحياة، ولو على مبدأ من المبادئ، وتوارثه الناس فيما بينهم.
وقد يطلق القرن على أكثر من مائة عام كما نقول : قرن نوح، قرن هود، قرن فرعون. أي : الفترة التي عاشرها. وقوله :﴿ وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً " ١٧ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : أنه سبحانه غني عن إخبار أحد بذنوب عباده، فهو أعلم بها، لأنه سبحانه لا تخفي عليه خافية في الأرض ولا في السماء :﴿ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور " ١٩ " ﴾ ( سورة غافر ) : فلا يحتاج لمن يخبره ؛ لأنه خبير وبصير، هكذا بصيغة المبالغة. وهنا قد يقول قائل : طالما أن الله تعالى يعلم كل شيء ولا تخفى عليه خافية، فلماذا يسأل الناس يوم القيامة عن أعمالهم ؟
نقول : لأن السؤال يرد لإحدى فائدتين :
الأولى : كأن يسأل الطالب أستاذه عن شيء لا يعلمه، فالهدف أن يعلم ما جهل.
والأخرى : كأن يسأل الأستاذ تلميذه في الامتحان، لا ليعلم منه، ولكن ليقرره بما علم. وهكذا الحق سبحانه ولله المثل الأعلى يسأل عبده يوم القيامة عن أعماله ليقرره بها، وليجعله شاهداً على نفسه، كما قال :﴿ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً " ١٤ " ﴾( سورة الإسراء ).
وقوله تعالى :﴿ وكفى بربك.. " ١٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : كما تقول : كفى بفلان كذا، أي : أنك ترتضيه وتثق به، فالمعنى : يكفيك ربك فلا تحتاج لغيره، وقد سبق أن أوضحنا أن الله تعالى في يده كل السلطات حينما يقضي : السلطة التشريعية، والسلطة القضائية، والسلطة التنفيذية، وهو سبحانه غني عن الشهود والبينة والدليل.
إذن : كفى به سبحانه حاكماً وقاضياً وشاهداً. ولأن الحق سبحانه خبير بصير بذنوب عباده، فعقابه عدل لا ظلم فيه.
الحق تبارك وتعالى قبل أن يخلق الإنسان الذي جعله خليفة له في أرضه، خلق له الكون كله بما فيه، وخلق له جميع مقومات حياته، ووالى عليه نعمه إيجاداً من عدم، وإمداداً من عدم، وجعل من مقومات الحياة ما ينفعل له وإن لم يطلب منه، كالشمس والقمر والهواء والمطر.. الخ فهذه من مقومات حياتك التي تعطيك دون أن تتفاعل معها.
ومن مقومات الحياة ما لا ينفعل لك، إلا إذا تفاعلت معه، كالأرض مثلاً لا تعطيك إلا إذا حرثتها، وبذرت فيها البذور فتجدها قد انفعلت لك، وأعطتك الإنتاج الوفير.
والمتأمل في حضارات البشر وارتقاءاتهم في الدنيا يجدها نتيجة لتفاعل الناس مع مقومات الحياة بجوارحهم وطاقاتهم، فتتفاعل معهم مقومات الحياة، ويحدث التقدم والارتقاء.
وقد يرتقي الإنسان ارتقاء آخر، بأن يستفيد من النوع الأول من مقومات الحياة، والذي يعطيه دون أن يتفاعل معه، استفادة جديدة، ومن ذلك ما توصل إليه العلماء من استخدام الطاقة الشمسية استخدامات جديدة لم تكن موجودة من قبل.
إذن : فهذه نواميس في الكون، الذي يحسن استعمالها تعطيه النتيجة المرجوة، وبذلك يثري الإنسان حياته ويرتقي بها، وهذا ما أسميناه سابقاً عطاء الربوبية الذي يستوي فيه المؤمن والكافر، والطائع والعاصي. لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ من كان يريد العاجلة.. " ١٨ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : عطاء الدنيا ومتعها ورقيها وتقدمها.
﴿ عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد.. " ١٨ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أجبناه لما يريد من متاع الدنيا.
ولابد لنا أن نتنبه إلى أن عطاء الربوبية الذي جعله الله للمؤمن والكافر، قد يغفل عنه المؤمن ويترك مقومات الحياة وأسبابها يستفيد منها الكافر ويتفاعل معها ويرتقي بها، ويتقدم على المؤمن، ويمتلك قوته ورغيف عيشه، بل وجميع متطلبات حياتهم، ثم بالتالي تكون لهم الكلمة العليا والغلبة والقهر، وقد يفتنونك عن دينك بما في أيديهم من أسباب الحياة.
وهذا حال لا يليق بالمؤمن، ومذلة لا يقبلها الخالق سبحانه لعباده، فلا يكفي أن نأخذ عطاء الألوهية من أمر ونهي وتكليف وعبادة، ونغفل أسباب الحياة ومقوماتها المادية التي لا قوام للحياة إلا بها.
في حين أن المؤمن أولى بمقومات الحياة التي جعلها الخالق في الكون من الكافر الذي لا يؤمن بإله.
إذن : فمن الدين ألا تمكن أعداء الله من السيطرة على مقومات حياتك، وألا تجعلهم يتفوقون عليك. وقوله :﴿ ما نشاء لمن نريد.. " ١٨ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : أن تفاعل الأشياء معك ليس مطلقاً، بل للمشيئة تدخل في هذه المسألة، فقد تفعل، ولكن لا تأخذ لحكمة ومراد أعلى، فليس الجميع أمام حكمة الله سواء، وفي هذا دليل على طلاقة القدرة الإلهية.
ومعنى ( ما نشاء )للمعجل و( لمن نريد )للمعجل له.
ومادام هذا يريد العاجلة، ويتطلع إلى رقي الحياة الدنيا وزينتها، إذن : فالآخرة ليست في باله، وليست في حسبانه ؛ لذلك لم يعمل لها، فإذا ما جاء هذا اليوم وجد رصيده صفراً لا نصيب له فيها ؛ لأن الإنسان يأخذ أجره على ما قدم، وهذا قدم للدنيا وأخذ فيها جزاءه من الشهرة والرقي والتقدم والتكريم.
قال تعالى :﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب " ٣٩ " ﴾ ( سورة النور ) : والسراب ظاهرة طبيعية يراها من يسير في الصحراء وقت الظهيرة، فيرى أمامه شيئاً يشبه الماء، حتى إذا وصل إليه لم يجده شيئاً، كذلك إن عمل الكافر خيراً في الدنيا فإذا أتى الآخرة لم يجد له شيئاً من عمله ؛ لأنه أخذ جزاءه في الدنيا.
ثم تأتي المفاجأة :﴿ ووجد الله عنده.. " ٣٩ " ﴾( سورة النور )، وفي آية أخرى يصفه القرآن بقوله :﴿ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد " ١٨ " ﴾( سورة إبراهيم ) : فمرة يشبه عمل الكافر بالماء الذي يبدو في السراب، ومرة يشبهه بالرماد ؛ لأن الماء إذا اختلط بالرماد صار طيناً، وهو مادة الخصب والنماء، وهو مقوم من مقومات الحياة. ووصفه بقوله تعالى :﴿ كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين " ٢٦٤ " ﴾( سورة البقرة ) : والحق تبارك وتعالى في هذه الآية يجسم لنا خيبة أمل الكافر في الآخرة في صورة محسة ظاهرة، فمثل عمل الكافر كحجر أملس أصابه المطر، فماذا تنتظر منه ؟ وماذا وراءه من الخير ؟ ثم يقول الحق سبحانه :﴿ ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً " ١٨ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : أعددناها له، وخلقناها من أجله يقاسي حرارتها ( مذموماً )أي : يذمه الناس، والإنسان لا يذم إلا إذا ارتكب شيئاً ما كان يصح له أن يرتكبه. و :﴿ مدحوراً " ١٨ " ﴾ ( سورة الإسراء ). وبعد أن أعطانا الحق سبحانه صورة لمن أراد العاجلة وغفل عن الآخرة، وما انتهى إليه من العذاب، يعطينا صورة مقابلة، صورة لمن كان أعقل وأكيس، ففضل الآخرة.
المتأمل في أسلوب القرآن الكريم يجده عادة يعطي الصورة ومقابلها ؛ لأن الشيء يزداد وضوحاً بمقابله، والضد يظهر حسنه الضد، ونرى هذه المقابلات في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى كما في :﴿ إن الأبرار لفي نعيم " ١٣ " وإن الفجار لفي جحيم " ١٤ " ﴾ ( سورة الانفطار ).
وهنا يقول تعالى :﴿ ومن أراد الآخرة.. " ١٩ " ﴾( سورة الإسراء )، في مقابل :﴿ من كان يريد العاجلة.. " ١٨ " ﴾ ( سورة الإسراء ).
قوله تعالى :﴿ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها.. " ١٩ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : أراد ثوابها وعمل لها :﴿ وهو مؤمن.. " ١٩ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : لأن الإيمان شرط في قبول العمل، وكل سعي للإنسان في حركة الحياة لابد فيه من الإيمان ومراعاة الله تعالى لكي يقبل العمل، ويأخذ صاحبه الأجر يوم القيامة، فالعامل يأخذ أجره ممن عمل له.
فالكفار الذين خدموا البشرية باختراعاتهم واكتشافاتهم، حينما قدموا هذا الإنجازات لم يكن في بالهم أبداً العمل لله، بل للبشرية وتقدمها ؛ لذلك أخذوا حقهم من البشرية تكريماً وشهرة، فأقاموا لهم التماثيل، وألفوا فيها الكتب.. الخ.
إذن : انتهت المسألة : عملوا وأخذوا الأجر ممن عملوا لهم.
وكذلك الذي يقوم ببناء مسجد مثلاً، وهذا عمل عظيم يمكن أن يدخل صاحبه الجنة إذا توافر فيه الإيمان والإخلاص لله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من بني لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بني الله له بيتاً في الجنة ".
ولكن سرعان ما نقرأ على باب المسجد لافتة عريضة تقول : أنشأه فلان، وافتتحه فلان.. الخ مع أنه قد يكون من أموال الزكاة ! ! وهكذا يفسد الإنسان على نفسه العمل، ويقدم بنفسه ما يحبطه، إذن : فقد فعل ليقال وقد قيل. وانتهت القضية.
وقوله تعالى :﴿ فأولئك كان سعيهم مشكوراً " ١٩ " ﴾( سورة الإسراء ) : وهذا جزاء أهل الآخرة الذين يعملون لها، ومعلوم أن الشكر يكون لله استدراراً لمزيد نعمه، كما قال تعالى :﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم.. " ٧ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : فما بالك إن كان الشاكر هو الله تعالى، يشكر عبده على طاعته ؟
وهذا يدل على أن العمل الإيماني يصادف شكراً حتى من المخالف له، فاللص مثلاً إن كان لديه شيء نفيس يخاف عليه، فهل يضعه أمانة عند لص مثله، أم عند الأمين الذي يحفظه ؟ فاللص لا يحترم اللص، ولا يثق فيه، في حين يحترم الأمين مع أنه مخالف له، وكذلك الكذاب يحترم الصادق، والخائن يحترم الأمين.
ومن هنا كان كفار مكة رغم عدائهم للنبي صلى الله عليه وسلم وكفرهم بما جاء به إلا أنهم كانوا يأتمنونه على الغالي والنفيس عندهم ؛ لأنهم واثقون من أمانته، ويلقبونه " بالأمين "، رغم ما بينهما من خلاف عقدي جوهري، فهم فعلاً يكذبونه، أما عند حفظ الأمانات فلن يغشوا أنفسهم، لأن الأحفظ لأماناتهم محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد ضربنا لذلك مثلاً بشاهد الزور الذي تستعين بشهادته ليخرجك من ورطة، أو قضية، فرغم أنه قضى لك حاجتك وأخرجك من ورطتك، إلا أنه قد سقط من نظرك، ولم يعد أهلاً لثقتك فيما بعد.
لذلك قالوا : من استعان بك في نقيصة فقد سقطت من نظره، وإن أعنته على أمره كشاهد الزور ترتفع الرأس على الخصم بشهادته وتدوس القدم على كرامته.
( كلاً )أي : كلا الفريقين السابقين : من أراد العاجلة، ومن أراد الآخرة :﴿ نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك.. " ٢٠ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : أن الله تعالى يمد الجميع بمقومات الحياة، فمنهم من يستخدم هذه المقومات في الطاعة، ومنهم من يستخدمها في المعصية، كما لو أعطيت لرجلين مالاً، فالأول تصدق بماله، والآخر شرب بماله خمراً.
إذن : فعطاء الربوبية مدد ينال المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، أما عطاء الألوهية المتمثل في منهج الله : افعل ولا تفعل، فهو عطاء خاص للمؤمنين دون غيرهم.
وقوله تعالى :﴿ وما كان عطاء ربك محظوراً " ٢٠ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : ممنوعاً عن أحد ؛ لأن الجميع خلقه تعالى، المؤمن والكافر، وهو الذي استدعاهم إلى الحياة، وهو سبحانه المتكفل لهم بمقومات حياتهم، كما تستدعي ضيفاً إلى بيتك فعليك أن تقوم له بواجب الضيافة.
ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه اختار التعبير بقوله :﴿ من عطاء ربك.. " ٢٠ " ﴾( سورة الإسراء ) : لأن العطاء المراد هنا عطاء ربوبية، وهو سبحانه رب كل شيء. أي : مربيه ومتكفل به، وشرف كبير أن ينسب العطاء إلى الرب تبارك وتعالى.
الحق تبارك وتعالى أعطانا قضايا إيمانية نظرية، ويريد منا أن ننظر في الطبيعة والكون، وسوف نجد فيه صدق ما قال. يقول تعالى :﴿ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعضٍ.. " ٢١ ﴾( سورةالإسراء ).
والمتأمل يجد أن الله تعالى جعل التفضيل هنا عاماً، فلم يبين من المفضل ومن المفضل عليه، فلم يقل : فضلت الأغنياء على الفقراء، أو : فضلت الأصحاء على المرضى.
إذن : فمادام في القضية عموم في التفضيل، فكل بعض مفضل في جهة، ومفضل عليه في جهة أخرى، لكن الناس ينظرون إلى جهة واحدة في التفضيل، فيفضلون هذا لأنه غني، وهذا لأنه صاحب منصب.. الخ.
وهذه نظرة خاطئة فيجب أن ننظر للإنسان من كل زوايا الحياة وجوانبها ؛ لأن الحق سبحانه لا يريدنا نماذج مكررة، ونسخاً معادة، بل يريدنا أناساً متكاملين في حركة الحياة، ولو أن الواحد منا أصبح مجمعاً للمواهب ما احتاج فينا أحد لأحد، ولتقطعت بيننا العلاقات.
فمن رحمة الله أن جعلك مفضلاً في خصلة، وجعل غيرك مفضلاً في خصال كثيرة، فأنت محتاج لغيرك فيما فضل فيه، وهم محتاجون إليك فيما فضلت فيه، ومن هنا يحدث التكامل في المجتمع، وتسلم للناس حركة الحياة.
ونستطيع أن نخرج من هذه النظرة بقضية فلسفية تقول : إن مجموع مواهب كل إنسان تساوي مجموع مواهب كل إنسان، فإن زدت عني في المال فربما أزيد عنك في الصحة، وهكذا تكون المحصلة النهائية متساوية عند جميع الناس في مواهب الدنيا، ويكون التفاضل الحقيقي بينهم بالتقوى والعمل الصالح، كما قال تعالى :﴿ إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير " ١٣ " ﴾ ( سورة الحجرات ) : لذلك يجب على المسلم أن يلتزم أدب الإسلام في حفظ مكانة الآخرين، فمهما كنت مفضلاً فلا تحتقر غيرك، واعلم أن لهم أيضاً ما يفضلون به، وسوف يأتي اليوم الذي تحتاج إليهم فيه.
وقد ضربنا لذلك مثلاً بالعظيم الوجيه الذي قد تضطره الظروف وتحوجه لسباك أو عامل بسيط ليؤدي له عملاً لا يستطيع هو القيام به، فالعامل البسيط في هذا الموقف مفضل على هذا العظيم الوجيه. ولك أن تتصور الحال مثلاً إذا أضرب الكناسون عدة أيام عن العمل. إذن : مهما كان الإنسان بسيطاً، ومهما كان مغموراً فإن له مهمة يفضل بها عن غيره من الناس.
خذ الخياط مثلاً، وهو صاحب حرفة متواضعة بين الناس، ولا يكاد يجيد عملاً إلا أن يخيط للناس ثيابهم، فإذا ما كانت ليلة العيد وجدته من أهم الشخصيات، الجميع يقبلون عليه، ويتمنون أن يتكرم عليهم ويقضي حاجتهم من خياطة ثيابهم وثياب أولادهم.
وبهذا نستطيع أن نفهم قول الحق تبارك وتعالى :﴿ أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون " ٣٢ " ﴾ ( سورة الزخرف ) : فكل منا مسخر لخدمة الآخرين فيما فضل فيه، وفيما نبغ فيه. وصدق الشاعر حين قال :
الناس للناس من بدوٍ ومن حضرٍ**** بعض لبعضٍ وإن لم يشعروا خدم
إذن : في التفاضل يجب أن ننظر إلى زوايا الإنسان المختلفة ؛ لأن الجميع أمام الله سواء، ليس منا من هو ابن الله، وليس منا من بينه وبين الله نسب أو قرابة، ولا تجمعنا به سبحانه إلا صلة العبودية له عز وجل، فالجميع أمام عطائه سواء، لا يوجد أحد أولى من أحد.
فالعاقل حين ينظر في الحياة لا ينظر إلى تميزه عن غيره كموهبة، بل يأخذ في اعتباره مواهب الآخرين، وأنه محتاج إليها وبذلك يندك غروره، ويعرف مدى حاجته لغيره. وكما أنه نابغ في مجال من المجالات، فغيره نابغ في مجال آخر ؛ لأن النبوغ يأتي إذا صادف العمل الموهبة، فهؤلاء البسطاء الذين تنظر إليهم نظرة احتقار، وترى أنهم دونك يمكن أن يكونوا نابغين لو صادف عملهم الموهبة.
وقوله تعالى :﴿ وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً " ٢١ " ﴾ ( سورة الإسراء ).
فإن كان التفاضل بين الناس في الدنيا قائماً على الأسباب المخلوقة لله تعالى، فإن الأمر يختلف في الآخرة ؛ لأنها لا تقوم بالأسباب، بل بالمسبب سبحانه، فالمفاضلة في الآخرة على حسبها.
ولو تأملت حالك في الدنيا، وقارنته بالآخرة لوجدت الآخرة اكبر درجات واكبر تفضيلاً، فعمرك في الدنيا موقوت، وسينتهي إلى الموت ؛ لأن عمرك في الدنيا مدة بقائك فيها، فإن بقيت من بعدك فهي لغيرك، وكذلك ما فضلت به من نعيم الدنيا عرضة للزوال، حيث تناله الأغيار التي تطرأ على الإنسان. فالغني قد يصير فيقراً، والصحيح سقيماً، كما أن نعيم الدنيا على قدر إمكانياتك وتفاعلك مع الأسباب، فالدنيا وما فيها من نعيم غير متيقنة وغير موثوق بها.
وهب أنك تنعمت في الدنيا بأعلى درجات النعيم، فإن نعيمك هذا ينغصه أمران : إما أن تفوت هذا النعيم بالموت، وإما أن يفوتك هو بما تتعرض له من أغيار الحياة.
أما الآخرة فعمرك فيها ممتد لا ينتهي، والنعمة فيها دائمة لا تزول، وهي نعمة لا حدود لها ؛ لأنها على قدر إمكانيات المنعم عز وجل، في دار خلود لا يعتريها الفناء، وهي متيقنة موثوق بها.
فأيهما أفضل إذن ؟ لذلك الحق سبحانه يدعونا إلى التفكر والتعقل :( انظر )أي الصفقتين الرابحة، فتاجر فيها ولا ترضى بها بديلاً.
إذن : فالآخرة أعظم واكبر، ولا وجه للمقارنة بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. وأذكر أننا سافرنا مرة إلى ( سان فرانسيسكو )فأدخلونا أحد الفنادق، لا للإقامة فيه، ولكن لمشاهدة ما فيه من روعة وجمال ومظاهر الرقي والرفاهية.
وفعلاً كان هذا الفندق آية من آيات الإبداع والجمال، فرأيت رفاقي وكانوا من علية القوم مبهورين به، مأخوذين بروعته، فقلت لهم عبارة واحدة : هذا ما أعد البشر للبشر، فكيف بما أعده رب البشر للبشر ؟
فنعيم الدنيا ومظاهر الجمال فيها يجب أن تثير فينا الشوق لنعيم دائم في الجنة ؛ لا أن يثير فينا الحقد والحسد، يجب أن نأخذ من مظاهر الترف والنعيم عند الآخرين وسيلة للإيمان بالله، وأن نصعد هذا الإيمان بالفكر المستقيم، فإن كان ما نراه من ترف وتقدم ورقي وعمارة في الدنيا من صنع مهندس أو عامل، فكيف الحال إن كان الصانع هو الخالق سبحانه وتعالى ؟
ويجب ألا نغفل الفرق بين نعيم الدنيا الذي أعده البشر ونعيم الآخرة الذي أعده الله تعالى، فقصارى ما توصل إليه الناس في رفاهية الخدمة أن تضغط على زر فيأتي لك منه الشاي مثلاً، وتضغط على زر آخر فيأتي لك منه القهوة.
وهذه آلة تستجيب لك إن تفاعلت معها، لكن مهما ارتقى هؤلاء ومهما تقدمت صناعتهم فلن يصلوا إلى أن يقدموا لك الشيء بمجرد أن يخطر على بالك ؛ لأن هذا من نعيم الجنة الذي أعده الخالق سبحانه لعباده الصالحين.
إذن : فمادام كذلك، وسلمنا بأن الآخرة افضل وأعظم، فما عليك إلا أن تبادر وتأخذ الطريق القويم، وتسلك طريق ربك من أقصر اتجاه، وهو الاستقامة على منهج الله الواحد والالتزام به.
لأنه سبحانه أعطاك في الدنيا، وأمدك بالأسباب، وبمقومات حياتك، أوجدك من عدم، وأمدك من عدم، حتى وإن كنت كافراً، ثم أعد لك في الآخرة الدرجات العالية والنعيم المقيم الذي لا يفنى ولا يزول.
وهذه هي الحيثيات التي ينبغي عليك بعدها أن تعرفه سبحانه، وتتوجه إليه، وتلتحم به وتكون في معيته، ولا تجعل معه سبحانه إلهاً آخر ؛ لأنك إن فعلت فلن تجد من هذا النعيم شيئاً، لن تجد إلا المذمة والخذلان في الدنيا والآخرة.
وسوف تفاجأ في القيامة بربك الذي دعاك للإيمان به فكفرت. ﴿ ووجد الله عنده.. " ٣٩ " ﴾ ( سورة النور ) : ساعتها ستندم حين لا ينفعك الندم، بعد أن ضاعت الفرصة من يديك. ويقول تعالى :﴿ فتقعد مذموماً مخذولاً " ٢٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : والقعود ليس أمراً عادياً هنا، بل هو أنكى ما يصير إليه الإنسان ؛ لأن الإنسان لا يقعد إلا إذا أصبح غير قادر على القيام، ففيها ما يشعر بإنهاك القوة، وكأنه سقط إلى الأرض، بعد أن أصبحت رجلاه غير قادرتين على حمله، ولم تعد به قوة للحركة.
ونلاحظ في تعبير القرآن عن هذا الذي خارت قواه، وانتهت تماماً، أنه يختار له وضع القعود خاصة، ولم يقل مثلاً : تنام، لأن العذاب لا يكون مع النوم، ففي النوم يفقد الإنسان الوعي فلا يشعر بالعذاب، بل قال ( فتقعد )هكذا شاخص يقاسي العذاب ؛ لأن العذاب ليس للجوارح والمادة، بل للنفس الواعية التي تحس وتألم.
ولذلك يلجأ الأطباء إلى تخدير المريض قبل إجراء العمليات الجراحية ؛ لأن التخدير يفقده الوعي فلا يشعر بالألم. ومن ذلك قوله تعالى :﴿ وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيماً " ٩٥ " ﴾ ( سورة النساء ).
وقال :﴿ والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً.. " ٦٠ " ﴾ ( سورة النور ) : فالقعود يدل على عدم القدرة، وفي الوقت نفسه لا يرتاح بالنوم، فهو في عذاب مستمر. وفي مجال الذم قال الشاعر :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي.
وقوله :﴿ مذموماً " ٢٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : لأنه أتى بعمل يذمه الناس عليه.
﴿ مخذولاً " ٢٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : من الخذلان، وهو عدم النصرة، فالأبعد في موقف لا ينصره فيه أحد، ولا يدافع عنه أحد، لذلك يقول تعالى لهؤلاء :﴿ ما لكم لا تناصرون " ٢٥ " بل هم اليوم مستسلمون " ٢٦ " ﴾ ( سورة الصافات ).
بعد أن وجهنا الله تعالى إلى القضية العقدية الكبرى :﴿ لا تجعل مع الله إلهاً آخر.. " ٢٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أراد سبحانه أن يبين لنا أن العقيدة والإيمان لا يكتملان إلا بالعمل، فلا يكفي أن تعرف الله وتتوجه إليه، بل لابد أن تنظر فيما فرضه عليك، وفيما كلفك به ؛ لذلك كثيراً ما نجد في آيات الكتاب الكريم الجمع بين الإيمان والعمل الصالح، كما في قوله تعالى :﴿ والعصر " ١ " إن الإنسان لفي خسر " ٢ " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " ٣ " ﴾ ( سورة العصر ) : لأن فائدة الإيمان وثمرته العمل الصالح، ومادمت ستسلك هذا الطريق فانتظر مواجهة أهل الباطل والفساد والضلال، فإنهم لن يدعوك ولن يسالموك، ولابد أن تسلح نفسك بالحق والقوة والصبر، لتستطيع مواجهة هؤلاء.
ودليل آخر على أن الدين ليس الإيمان القولي فقط، أن كفار مكة لم يشهدوا أن لا إله إلا الله، فلو كانت المسألة مسألة الإيمان بإله واحد وتنتهي القضية لكانوا قالوا وشهدوا بها، إنما هم يعرفون تماماً أن للإيمان مطلوباً، ووراءه مسئولية عملية، وأن من مقتضى الإيمان بالله أن تعمل بمراده وتأخذ بمنهجه.
ومن هنا رفضوا الإيمان بإله واحد، ورفضوا الانقياد لرسوله صلى الله عليه وسلم الذي جاء ليبلغهم مراد الله تعالى، وينقل إليهم منهجه، فمنهج الله لا ينزل إلا على رسول يحمله ويبلغه للناس، كما قال تعالى :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم " ٥١ " ﴾( سورة الشورى )، وهاهي أول الأحكام في منهج الله :﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه.. " ٢٣ " ﴾( سورة الإسراء ) : وقد آثر الحق سبحانه الخطاب ب( ربك )على لفظ ( الله ) ؛ لأن الرب هو الذي خلقك ورباك، ووالى عليك بنعمه، فهذا اللفظ أدعى للسمع والطاعة، حيث يجب أن يخجل الإنسان من عصيان المنعم عليه وصاحب الفضل.
﴿ وقضى ربك.. " ٢٣ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : الخطاب هنا موجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه هو الذي بلغ المرتبة العليا في التربية والأدب، وهي تربية حقة ؛ لأن الله تعالى هو الذي رباه، وأدبه احسن تأديب. وفي الحديث الشريف : " أدبني ربي فأحسن تأديبي ".
قضى : معناها : حكم ؛ لأن القاضي هو الذي يحكم، ومعناها أيضاً : أمر، وهي هنا جامعة للمعنيين، فقد أمر الله ألا تعبدوا إلا إياه أمراً مؤكداً، كأنه قضاء وحكم لازم. وقد تأتي قضى بمعنى : خلق. كما في قوله تعالى :﴿ فقضاهن سبع سنواتٍ.. " ١٢ " ﴾ ( سورة فصلت ) : وتأتي بمعنى : بلغ مراده من الشيء، كما في قوله تعالى :﴿ فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها.. " ٣٧ " ﴾ ( سورة الأحزاب ) : وقد تدل على انتهاء المدة كما في :﴿ فلما قضى موسى الأجل.. " ٢٩ " ﴾ ( سورة القصص ) : وتأتي بمعنى : أراد كما في :﴿ فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون " ٦٨ " ﴾ ( سورة غافر ) : إذن : قضى لها معانٍ متعددة، لكن تجتمع كلها لتدل على الشيء اللازم المؤكد الذي لا نقص فيه. وقوله :﴿ ألا تعبدوا إلا إياه.. " ٢٣ " ﴾
( سورة الإسراء ) : العبادة : هي إطاعة آمر في أمره ونهيه، فتنصاع له تنفيذاً للأمر، واجتناباً للنهي، فإن ترك لك شيئاً لا أمر فيه ولا نهي فاعلم أنه ترك لك الاختيار، وأباح لك : تفعل أو لا تفعل.
لذلك، فالكفار الذين عبدوا الأصنام والذين أتوا بها حجارة من الصحراء، وأعملوا فيها المعاول والأدوات لينحتوها، وتكسرت منهم فعالجوها، ووقعت فأقاموها، وهم يرون كم هي مهينة بين أيديهم لدرجة أن أحدهم رأى الثعلب يبول برأس أحد الأصنام فقال مستنكراً حماقة هؤلاء الذين يعبدونها :
أرب يبول الثعلب برأسه**** لقد ذل من بات عليه الثعالب
فإذا ما تورطوا في السؤال عن آلهتهم هذه قالوا : إنها لا تضر ولا تنفع، وما نعبدها إلا ليقربونا إلى الله زلفى، كيف والعبادة طاعة أمر واجتناب نهي. فبأي شيء أمرتكم الأصنام ؟ وعن أي شيء نهتكم ؟ ! إذن : كلامكم كذاب في كذب. وفي قوله تعالى :﴿ ألا تعبدوا إلا إياه.. " ٢٣ " ﴾( سورة الإسراء )
أسلوب يسمونه أسلوب قصر، يفيد قصر العبادة وإثباتها لله وحده، بحيث لا يشاركه فيها أحد. فلو قالت الآية : وقضى ربك أن تعبدوه.. فلقائل أن يقول : ونعبد غيره لأن باب العطف هنا مفتوح لم يغلق، كما لو قلت : ضربت فلاناً وفلاناً وفلاناً.. هكذا باستخدام العطف. إنما لو قلت، ما ضربن إلا فلاناً فقد أغلقت باب العطف.
إذن : جاء التعبير بأسلوب القصر ليقول : اقصروا العبادة عليه سبحانه، وانفوها عن غيره. ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى التكليف والأمر الثاني بعد عبادته :﴿ وبالوالدين إحساناً.. " ٢٣ " ﴾ ( سورة الإسراء )
وقد قرن الله تعالى بين عبادته وبين الإحسان إلى الوالدين في آيات كثيرة، قال تعالى :﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا.. " ٣٦ " ﴾( سورة النساء ).
وقال :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا.. " ١٥١ " ﴾( سورة الأنعام )، وقال :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسناً.. " ٨ " ﴾( سورة العنكبوت ) : لكن، لماذا قرن الله تعالى بين عبادته وبين الإحسان إلى الوالدين ؟ أتريد أن نقرب الأولى بالثانية، أم نقرب الثانية بالأولى ؟
نقول : لا مانع أن يكون الأمران معاً ؛ لأن الله تعالى غيب، والإيمان به يحتاج إلى إعمال عقل وتفكير، لكن الوالدين بالنسبة للإنسان أمر حسي، فهما سر وجوده المباشر، وهما ربياه ووفرا له كل متطلبات حياته، وهما مصدر العطف والحنان.
إذن : التربية والرعاية في الوالدين محسة، أما التربية والرعاية من الله فمعقولة، فأمر الله لك بالإحسان إلى الوالدين دليل على وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، فهو سبحانه الذي خلقك، وهو سبب وجودك الأول، وهو مربيك وصاحب رعايتك، وصاحب الفضل عليك قبل الوالدين، وهل رباك الوالدان بما أوجداه هما، أما بما أوجده الله سبحانه ؟
إذن : لابد أن يلتحم حق الله بحق الوالدين، وأن نأخذ أحدهما دليلاً على الآخر. ونلاحظ أن الحق تبارك وتعالى حين أمرنا بعبادته جاء بأسلوب النفي :﴿ ألا تعبدوا.. " ٢٣ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : يعني نهانا أن نعبد غيره سبحانه، أما حين تكلم عن الوالدين فلم يقل مثلاً : لا تسيئوا للوالدين، فيأتي بأسلوب نفي كسابقه، لماذا ؟
قالوا : لأن فضل الوالدين واضح لا يحتاج إلى إثبات، ولا يحتاج إلى دليل عقلي، وقولك : لا تسيئوا للوالدين يجعلهما مظنة الإساءة، وهذا غير وارد في حقهما، وغير متصور منهما، وأنت إذا نفيت شيئاً عن من لا يصح أن ينفي عنه فقد ذممته، كأن تنفي عن أحد الصالحين المشهورين بالتقوى والورع، تنفي عنه شرب الخمر مثلاً فهل هذا في حقه مدح أم ذم ؟
لأنك ما قلت : إن فلاناً لا يشرب الخمر إلا إذا كان الناس تظن فيه ذلك. ومن هنا قالوا : نفي العيب عمن لا يستحق العيب عيب. إذن : لم يذكر الإساءة هنا ؛ لأنها لا ترد على البال، ولا تتصور من المولود لوالديه.
وبعد ذلك، ورغم ما للوالدين من فضل وجميل عليك فلا تنس أن فضل الله عليك أعظم ؛ لأن والديك قد يلدانك ويسلمانك إلى الغير، أما ربك فلن يسلمك إلى أحد.
وقوله تعالى :﴿ إحساناً.. " ٢٣ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : كأنه قال : أحسنوا إليهم إحساناً، فحذف الفعل وأتى بمصدره للتأكيد. وقوله تعالى :﴿ إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريماً " ٢٣ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : الحق سبحانه وتعالى حينما يوصينا بالوالدين، مرة تأتي الوصية على إطلاقها، كما قال تعالى :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها.. " ١٥ " ﴾ ( سورة الأحقاف ) : ومرة يعلل لهذه الوصية، فيقول :﴿ حملته أمه وهناً على وهن.. " ١٤ " ﴾ ( سورة لقمان ) : والذي يتأمل الآيتين السابقتين يجد أن الحق سبحانه ذكر العلة في بر الوالدين، والحيثيات التي استوجبت هذا البر، لكنها خاصة بالأم، ولم تتحدث أبداً عن فضل الأب، فقال :﴿ حملته أمه وهناً على وهن.. " ١٤ " ﴾ ( سورة لقمان ) : فأين دور الأب ؟ وأين مجهوداته طوال سنين تربية الأبناء ؟ المتتبع لآيات بر الوالدين يجد حيثية مجملة ذكرت دور الأب والأم معاً في قوله تعالى :﴿ كما ربياني صغيراً.. " ٢٤ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : لكن قبل أن يربي الأب، وقبل أن يبدأ دوره كان للأم الدور الأكبر ؛ لذلك حينما تخاصم الأب والأم لدى القاضي على ولد لهما، قالت الأم : لقد حمله خفا وحملته ثقلاً، ووضعه شهوة ووضعته كرهاً.
لذلك ذكر القرآن الحيثيات الخاصة بالأم ؛ لأنها تحملتها وحدها لم يشاركها فيها الزوج ؛ ولأنها حيثيات سابقة لإدراك الابن فلم يشعر بها، فكأنه سبحانه وتعالى أراد أن يذكرنا بفضل الأم الذي لم ندركه ولم نحس به.
وذلك على خلاف دور الأب فهو محسوس ومعروف للابن، فأبوه الذي يوفر له كل ما يحتاج إليه، وكلما طلب شيئاً قالوا : حينما يأتي أبوك، فدور الأب إذن معلوم لا يحتاج إلى بيان. والآية هنا أوصت بالوالدين في حال الكبر، فلماذا خصت هذه الحال دون غيرها ؟
قالوا : لأن الوالدين حال شبابهما وقوتهما ليسا مظنة الإهانة والإهمال، ولا مجال للتأفف والتضجر منهما، فهما في حال القوة والقدرة على مواجهة الحياة، بل العكس هو الصحيح نرى الأولاد في هذه الحال يتقربون للآباء، ويتمنون رضاهما، لينالوا من خيرهما.
لكن حال الكبر، ومظهر الشيخوخة هو مظهر الإعالة والحاجة والضعف، فبعد أن كان معطياً أصبح آخذاً، وبعد أن كان عائلاً أصبح عالة.
لذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم في حديث الآمينات والمراغم، وكان على المنبر، فسمعه الصحابة يقول : آمين. ثم سكت برهة. وقال : آمين وسكت. ثم قال : آمين. فلما نزل قالوا : يا رسول الله سمعناك تقول : آمين ثلاثاً. فقال : جاءني جبريل فقال : رغم أنف من ذكرت عنده ولم يصل عليك، قل : آمين. فقلت : آمين، ورغم أنفس من أدرك رمضان فلم يغفر له، قل : آمين. فقلت : آمين، ورغم أنف من أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخل بهما الجنة، قل : آمين. فقلت : آمين " >
فخص الحق سبحانه حال الكبر، لأنه حال الحاجة وحال الضعف ؛ لذلك قال أحد الفلاسفة : خير الزواج مبكره، فلما سئل قال : لأنه الطريق الوحيد لإنجاب والد يعولك في طفولة شيخوختك، وشبه الشيخوخة بالطفولة لأن كليهما في حال ضعف وحاجة للرعاية والاهتمام. وصدق الحق سبحانه حين قال :﴿ الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة.. " ٥٤ " ﴾
( سورة الروم ) : فمن تزوج مبكراً فسوف يكون له من أولاده من يعينه ويساعده حال كبره. والمتأمل في قوله تعالى :﴿ إما يبلغن عندك الكبر.. " ٢٣ " ﴾( سورة الإسراء ) : لم تأت صفة الكبر على إطلاقها، بل قيدها بقوله :( عندك )فالمعنى : ليس لهما أحد غيرك يرعاهما، لا أخ ولا أخت ولا قريب يقوم بهذه المهمة، ومادام لم يعد لهما غيرك فلتكن على مستوى المسئولية، ولا تتنصل منها ؛ لأنك أولى الناس بها.
ويمتد البر بالوالدين إلى ما بعد الحياة بالاستغفار لهما، وإنجاز ما أحدثاه من عهد، ولم يتمكنا من الوفاء به، وكذلك أن نصل الرحم التي لا توصل إلا بهما من قرابة الأب
( واخفض ) : الخفض ضد الرفع.
( جناح الذل ) : الطائر معروف أنه يرفع جناحه ويرفرف به، إن أراد أن يطير، ويخفضه إن أراد أن يحنو على صغاره، ويحتضنهم ويغذيهم.
وهذه صورة محسة لنا، يدعونا الحق سبحانه وتعالى أن نقتدي بها، وأن نعامل الوالدين هذه المعاملة، فنحنو عليهم، ونخفض لهم الجناح، كناية عن الطاعة والحنان والتواضع لهما، وإياك أن تكون كالطائر الذي يرفع جناحيه ليطير بهما متعالياً على غيره.
وكثيراً ما يعطينا الشرع الحكيم أمثلة ونماذج للرأفة والرحمة في الطيور، ويجعلها قدوة لنا بني البشر. والذي يرى الطائر يحتضن صغاره تحت جناحه، ويزقهم الغذاء يرى عجباً، فالصغار لا يقدرون على مضغ الطعام وتكسيره، وليس لديهم اللعاب الذي يناولانهم غذاءهم جاهزاً يسهل بلعه، وإن تيسر لك رؤية هذا المنظر فسوف ترى الطائر وفراخه يتراصون فرحة وسعادة.
إذن : قوله تعالى :﴿ جناح الذل.. " ٢٤ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : كناية عن الخضوع والتواضع، والذل قد يأتي بمعنى القهر والغلبة، وقد يأتي بمعنى العطف والرحمة، يقول تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين.. " ٥٤ " ﴾( سورة المائدة ) : فلو كان الذلة هنا بمعنى القهر لقال : أذلة للمؤمنين، ولكن المعنى : عطوفين على المؤمنين. وفي المقابل :﴿ أعزة على الكافرين.. " ٥٤ " ﴾ ( سورة المائدة ) : أي : أقوياء عليهم قاهرين لهم. وفي آية أخرى يقول تعالى :﴿ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم.. " ٢٩ " ﴾ ( سورة الفتح ) : لأن الخالق سبحانه لم يخلق الإنسان رحيماً على الإطلاق ولا شديداً على الإطلاق، بل خلق في المؤمن مرونة تمكنه أن يتكيف تبعاً للمواقف التي يمر بها، فإن كان على الكافر كان عزيزاً، وإن كان على المؤمن كان ذليلاً متواضعاً.
ونرى وضوح هذه القضية في سيرة الصديق أبي بكر والفاروق عمر رضي الله عنهما، وقد عرف عن الصديق اللين ورقة القلب والرحمة، وعرف عن عمر الشدة في الحق والشجاعة والقوة، فكان عمر كثيراً ما يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تصادم بأحد المعاندين : " إئذن لي يا رسول الله أضرب عنقه ".
وعندما حدثت حروب الردة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كان لكل منهما موقف مغاير لطبيعته، فكان من رأي عمر ألا يحاربهم في هذه الفترة الحرجة من عمر الدعوة، في حين رأى الصديق محاربتهم والأخذ على أيديهم بشدة حتى يعودوا إلى ساحة الإسلام، ويذعنوا لأمر الله تعالى فقال : " والله، لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لجالدتهم عليه بالسيف، والله لو لم يبق إلا الزرع ".
وقد جاء هذا الموقف من الصديق والفاروق لحكمة عالية، فلو قال عمر مقالة أبي بكر لكان شيئاً طبيعياً ينسب إلى شدة عمر وجرأته، لكنه أتى من صاحب القلب الرحيم الصديق رضي الله عنه ليعرف الجميع أن الأمر ليسد للشدة لذاتها، ولكن للحفاظ على الدين والدفاع عنه.
وكأن الموقف هو الذي صنع أبا بكر، وتطلب منه هذه الشدة التي تغلبت على طابع اللين السائد في أخلاقه. فيقول تعالى :﴿ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة.. " ٢٤ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : إذن : الذلة هنا ذلة تواضع ورحمة بالوالدين، ولكن رحمتك أنت لا تكفي، فعليك أن تطلب لهما الرحمة الكبرى من الله تعالى :﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً " ٢٤ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : لأن رحمتك بهما لا تفي بما قدموه لك، ولا ترد لهما الجميل، وليس البادئ كالمكافئ، فهم أحسنوا إليك بداية وأنت أحسنت إليهما رداً ؛ لذلك ادع الله أن يرحمهما، وأن يتكفل سبحانه عنك برد الجميل، وأن يرحمهما رحمة تكافئ إحسانهما إليك. وقوله تعالى :﴿ كما ربياني.. " ٢٤ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : كما : قد تفيد التشبيه، فيكون المعنى : ارحمهما رحمة مثل رحمتهما بي حين ربياني صغيراً. أو تفيد التعليل : أي ارحمهما لأنهما ربياني صغيراً، كما قال تعالى :﴿ واذكروه كما هداكم.. " ١٩٨ " ﴾ ( سورة البقرة ).
و( ربياني )هذه الكلمة أدخلت كل مرب للإنسان في هذا الحكم، وإن لم يكن من الوالدين، لأن الولد قد يربيه غير والديه لأي ظرف من الظروف، والحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً، فإن رباك غير والديك فلهما ما للوالدين من البر والإحسان وحسن المعاملة والدعاء. وهذه بشرى لمن ربى غير ولده، ولاسيما إن كان المربي يتيماً، أو في حكم اليتيم. وفي :﴿ ربياني صغيراً " ٢٤ " ﴾ ( سورةالإسراء )
اعتراف من الابن بما للوالدين من فضل عليه وجميل يستحق الرد. وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه في تذييل هذا الحكم بقضية تشترك فيها معاملة الابن لأبويه مع معاملته لربه عز وجل.
وقد سبق أن تكلمنا عن الإيمان والنفاق، وقلنا : إن المؤمن منطقي مع نفسه ؛ لأنه آمن بقلبه ولسانه، وأن الكافر كذلك منطقي لأنه كفر بقلبه ولسانه، أما المنافق فغير منطقي مع نفسه ؛ لأنه آمن بلسانه وجحد بقلبه.
وهذه الآية تدعونا إلى الحديث عن النفاق ؛ لأنه ظاهرة من الظواهر المصاحبة للإيمان بالله، وكما نعلم فإن النفاق لم يظهر في مكة التي صادمت الإسلام وعاندته، وضيقت عليه، بل ظهر في المدينة التي احتضنت الدين، وانساحت به في شتى بقاع الأرض، وقد يتساءل البعض : كيف ذلك ؟
نقول : النفاق ظاهرة صحية إلى جانب الإيمان ؛ لأنه لا ينافق إلا القوي، والإسلام في مكة كان ضعيفاً، فكان الكفار يجابهونه ولا ينافقونه، فلما تحول إلى المدينة اشتد عوده، وقويت شوكته وبدأ ضعاف النفوس ينافقون المؤمنين. لذلك يقول أحدهم : كيف وقد ذم الله أهل المدينة، وقال عنهم :﴿ ومن أهل المدينة مردوا على النفاق.. " ١٠١ " ﴾( سورة التوبة ) : نقول : لقد مدح القرآن أهل المدينة بما لا مزيد عليه، فقال تعالى في حقهم :﴿ والذين تبوؤا الدار والإيمان.. " ٩ " ﴾ ( سورة الحشر ) : وكأنه جعل الإيمان محلاً للنازلين فيه.
﴿ يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.. " ٩ " ﴾( سورة الحشر ). فإن قال بعد ذلك :﴿ ومن أهل المدينة مردوا على النفاق.. " ١٠١ " ﴾
( سورة التوبة ) : فالنفاق في المدينة ظاهرة صحية للإيمان ؛ لأن الإيمان لو لم يكن قوياً في المدينة لما نافقه المنافقون.
ومن هنا جعل الله المنافقين في الدرك الأسفل من النار، لأنه مندس بين المؤمنين كواحد منهم، يعايشهم ويعرف أسرارهم، ولا يستطيعون الاحتياط له، فهو عدو من الداخل يصعب تمييزه. على خلاف الكافر، فعداوته واضحة ظاهرة معلنة، فيمكن الاحتياط له وأخذ الحذر منه. ولكن لماذا الحديث عن النفاق ونحن بصدد الحديث عن عبادة الله وحده وبر الوالدين ؟
الحق سبحانه وتعالى أراد أن يعطينا إشارة دقيقة إلى أن النفاق كما يكون في الإيمان بالله، يكون كذلك في بر الوالدين، فنرى من الأبناء من يبر أبويه نفاقاً وسمعة ورياءً، لا إخلاصاً لهما، أو اعترافاً بفضلهما، أو حرصاً عليهما. ولهؤلاء يقول تعالى :﴿ ربكم أعلم بما في نفوسكم.. " ٢٥ " ﴾
( سورة الإسراء ) : لأن من الأبناء من يبر أبويه، وهو يدعو الله في نفسه أن يريحه منهما، فجاء الخطاب بصيغة الجمع :( ربكم )أي : رب الابن، ورب الأبوين ؛ لأن مصلحتكم عندي سواء، وكما ندافع عن الأب ندافع أيضاً عن الابن، حتى لا يقع فيما لا تحمد عقباه. وقوله :﴿ إن تكونوا صالحين.. " ٢٥ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : إن توفر فيكم شرط الصلاح، فسوف يجازيكم عليه الجزاء الأوفى. وإن كان غير ذلك وكنتم في أنفسكم غير صالحين غير مخلصين، فارجعوا من قريب، ولا تستمروا في عدم الصلاح، بل عودوا إلى الله وتوبوا إليه.
﴿ فإنه كان للأوابين غفوراً " ٢٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : والأوابون هم الذين اعترفوا بذنوبهم ورجعوا تائبين إلى ربهم.
وقد سبق أن أوضحنا أن مشروعية التوبة من الله للمذنبين رحمة من الخالق بالخلق ؛ لأن العبد إذا ارتكب سيئة في غفلة من دينه أو ضميره، ولم تشرع لها توبة لوجدنا هذه السيئة الواحدة تطارده، ويشقى بها طوال حياته، بل وتدعوه إلى سيئة أخرى، وهكذا يشقى به المجتمع. لذلك شرع الخالق سبحانه التوبة ليحفظ سلامة المجتمع وأمنه، وليثري جوانب الحياة فيه.
ثم يوسع القرآن الكريم دائرة القرابة القريبة وهي " الوالدان " إلى دائرة أوسع منها، فبعد أن حننه على والديه لفت نظره إلى ما يتصل بهما من قرابة.
الحق سبحانه بعد أن حنن الإنسان على والديه صعد المسألة فحننه على قرابة أبيه وقرابة أمه، فقال :﴿ وآت ذا القربى حقه.. " ٢٦ " ﴾( سورة الإسراء ) :( حقه )لأن الله تعالى جعله حقاً للأقارب إن كانوا في حاجة، وإلا فلو كانا غير محتاجين، فالعطاء بينهما هدية متبادلة، فكل قريب يهادي أقرباءه ويهادونه. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يشيع في المجتمع روح التكافل الاجتماعي.
لذلك كان بعض فقهاء الأندلس إذا منع الرجل زكاة تقرب من النصاب أمر بقطع يده، كأنه سرقه ؛ لأن الله تعالى أسماه ( حقاً )فمن منع صاحب الحق من حقه، فكأنه سرقه منه. وقد سلك فقهاء الأندلس هذا المسلك، لأنهم في بلاد ترف وغنى، فتشددوا في هذه المسألة ؛ لأنه لا عذر لأحد فيها.
لذلك، لما جاء أحد خلفائهم إلى المنذر بن سعيد، وقال : لقد حلفت يميناً، وأرى أن أكفر عنه فأفتاه بأن يصوم ثلاثة أيام، فقال أحدهم : لقد ضيقت واسعاً فقد شرع الله للكفارة أيضاً إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فرد عليه المنذر قائلاً : أو مثل أمير المؤمنين يزجر بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم ؟ إنه يفعل ذلك في اليوم لألف وأكثر، وإنما يزجره الصوم، وهكذا أخذوا الحكم بالروح لا بالنص ؛ ليتناسب مع مقدرة الخليفة، ويؤثر في ردعه وزجره.
وكلمة ( حق )وردت في القرآن على معنيين :
الأول : في قوله تعالى :﴿ والذين في أموالهم حق معلوم " ٢٤ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : والحق المعلوم هو الزكاة. أما الحق الآخر فحق غير معلوم وغير موصوف، وهو التطوع والإحسان، حيث تتطوع لله بجنس ما فرضه عليك، كما قال تعالى :﴿ إنهم كانوا قبل ذلك محسنين " ١٦ " كانوا قليلا من الليل ما يهجعون " ١٧ " وبالأسحار هم يستغفرون " ١٨ " وفي أموالهم حق للسائل والمحروم " ١٩ " ﴾( سورة الذاريات ) : ولم يقل : " معلوم " : لأنه إحسان وزيادة عما فرضه الله علينا.
ويجب على من يؤتى هذا الحق أن يكون سعيداً به، وأن يعتبره مغنماً لا مغرماً ؛ لأن الدنيا كما نعلم أغيار تتحول وتتقلب بأهلها، فالصحيح قد يصير سقيماً، والغني قد يصير فقيراً وهكذا، فإعطاؤك اليوم ضمان لك في المستقبل، وضمان لأولادك من بعدك، والحق الذي تعطيه اليوم هو نفسه الذي قد تحتاجه غداً، إن دارت عليك الدائرة.
إذن : فالحق الذي تدفعه اليوم لأصحابه تأمين لك في المستقبل يجعلك تجابه الحياة بقوة، وتجابه الحياة بغير خور وبغير ضعف، وتعلم أن حقك محفوظ في المجتمع، وكذلك إن تركت أولادك في عوزٍ وحاجة، فالمجتمع متكفل بهم.
وصدق الله تعالى حين قال :﴿ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديداً " ٩ " ﴾( سورة النساء ) : ولذلك، فالناس أصحاب الارتقاء والإثراء لورعهم لا يعطون الأقارب من أموال الزكاة، بل يخصون بها الفقراء الأباعد عنهم، ويعطون الأقارب من مالهم الخاص مساعدة وإحساناً. و( المسكين )هو الذي يملك وله مال، لكن لا يكفيه، بدليل قوله الحق سبحانه :﴿ أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر.. " ٧٩ " ﴾ ( سورة الكهف ) : أما الفقير فهو الذي لا يملك شيئاً، وقد يعكس البعض في تعريف المسكين والفقير، وهذا فهم خاطئ. و :﴿ وابن السبيل.. " ٢٦ " ﴾
( سورة الإسراء ) : السبيل هو الطريق، والإنسان عادة ينسب إلى بلده، فنقول : ابن القاهرة، ابن بورسعيد، فإن كان منقطعاً في الطريق وطرأت عليه من الظروف ما أحوجه للعون والمساعدة، وإن كان في الحقيقة صاحب يسار وغني، كأن يضيع ماله فله حق في مال المسلمين بقدر ما يوصله إلى بلده.
وابن السبيل إذا طلب المساعدة لا تسأله عن حقيقة حاله، لأن له حقاً واجباً فلا تجعله في وضع مذلة أو حرج. ﴿ ولا تبذر تبذيراً " ٢٦ " ﴾( سورة الإسراء ).
كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين " ١٤١ " ﴾
( سورة الإسراء ) : فالتبذير هو الإسراف، مأخوذ من البذر، وهو عملية يقوم بها الفلاح فيأخذ البذور التي يريد زراعتها، وينثرها بيده في أرضه، فإذا كان متقناً لهذه العملية تجده يبذر البذور بنسب متساوية، بحيث يوزع البذور على المساحة المراد زراعتها، وتكون المسافة بين البذور
متساوية. وبذلك يفلح الزرع ويعطي المحصول المرجو منه، أما إن بذر البذور بطريقة عشوائية وبدون نظام نجد البذور على مسافات غير متناسبة، فهي كثيرة في مكان، وقليلة في مكان آخر، وهذا ما نسميه تبذيراً، لأنه يضع الحبوب في موضع غير مناسب ؛ فهي قليلة في مكان مزدحمة في آخر فيعاق نموها.
لذلك، فالحق سبحانه آثر التعبير عن الإسراف بلفظ ( التبذير ) ؛ لأنه يضيع المال في غير موضعه المناسب، وينفق هكذا كلما اتفق دون نظام، فقد يعطي بسخاء في غير ما يلزم، في حين يمسك في الشيء الضروري.
إذن : التبذير : صرف المال في غير حله، أو في غير حاجة، أو ضرورة.
والنهي عن التبذير هنا قد يراد منه النهي عن التبذير في الإيتاء، يعني حينما تعطي حق الزكاة، فلا تأخذك الأريحية الإيمانية فتعطي أكثر مما يجب عليك، وربما سمعت ثناء الناس وشكرهم فتزيد في عطائك، ثم بعد ذلك وبعد أن تخلو إلى نفسك ربما ندمت على ما فعلت، ولمت نفسك على هذا الإسراف.
وقد يكون المعنى : أعط ذا القربى والمساكين وابن السبيل، ولكن لا تبذر في الأمور الأخرى، فالنهي هنا لا يعود إلى الإيتاء، بل إلى الأمور التافهة التي ينفق فيها المال في غير ضرورة.
كلمة ( أخ )تجمع على إخوة وإخوان. وإخوة : تدل على أخوة النسب، كما في قوله تعالى :
﴿ وجاء إخوة يوسف.. " ٥٨ " ﴾ ( سورة يوسف ) : وتدل أيضاً على أخوة الخير والورع والتقوى، كما في قوله تعالى :﴿ إنما المؤمنون إخوة.. " ١٠ " ﴾ ( سورة مريم )، ومنها قوله تعالى عن السيدة مريم :﴿ يا أخت هارون.. " ٢٨ " ﴾ ( سورة مريم ) : والمقصود : هارون أخو موسى عليهما السلام وبينهما زمن طويل يقارب أحد عشر جيلاً، ومع ذلك سماهما القرآن إخوة أي أخوة الورع والتقوى.
أما : إخوان : فتدل على أن قوماً اجتمعوا على مبدأ واحد، خيراً كان أو شراً، فتدل على الاجتماع في الخير، كما في قوله تعالى :﴿ واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً.. " ١٠٣ " ﴾( سورة آل عمران ) : وقد تدل على الاجتماع في الشر، كما في قوله تعالى :﴿ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين.. " ٢٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : فكأن المبذرين اجتمعوا مع الشياطين في هوية واحدة، وود واحد، وانتظمتهما صفات واحدة من الشر.
إذن : كلمة ( إخوة )تدل على أخوة النسب، وقد تتسامى لتدل على أخوة الإيمان التي تنهار أمام قوتها كل الأواصر. ونذكر هنا ما حدث في غزوة بدر بين أخوين من أسرة واحدة هما " مصعب بن عمير " بعد أن آمن وهاجر إلى المدينة وخرج مع جيش المسلمين إلى بدر وأخوه " أبو عزيز " وكان ما يزال كافراً، وخرج مع جيش الكفار من مكة، والتقى الأخوان : المؤمن والكافر.
ومعلوم أن " مصعب بن عمير " كان من أغنى أغنياء مكة، وكان لا يرتدي إلا أفخر الثياب وألينها، ويتعطر بأثمن العطور حتى كانوا يسمونه مدلل مكة، ثم بعد أن آمن تغير حاله وآثر الإيمان بالله على كل هذا الغنى والنعيم، ثم بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ليعلم الناس أمور دينهم، وفي غزوة أحد رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتدي جلد شاة، فقال : " انظروا ما فعل الإيمان بأخيكم ".
فماذا حدث بين الأخوين المؤمن والكافر ؟ وأي الصلات كانت أقوى : صلة الإيمان بالله، أم صلة النسب ؟
لما دارت المعركة نظر مصعب، فإذا بأخيه وقد أسره أحد المسلمين اسمه " أبو اليسر " فالتفت إليه. وقال : يا أبا اليسر أشدد على أسيرك، فأمه غنية، وسوف تفديه بمال كثير. فنظر إليه " أبو عزيز " وقال : يا مصعب، أهذه وصاتك بأخيك، فقال له مصعب : هذا أخي دونك. فأخوة الدين والإيمان أقوى وأمتن من أخوة النسب، وصدق الله تعالى حين قال :﴿ إنما المؤمنون إخوة.. " ١٠ " ﴾( سورةالحجرات )
قوله :﴿ إخوان الشياطين.. " ٢٧ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : أن الحق تبارك وتعالى جعلهما شريكين في صفة واحدة هي التبذير والإسراف، فإن كان المبذر قد أسرف في الإنفاق ووضع المال في غير حله وفي غير ضرورة. فإن الشيطان أسرف في المعصية، فلم يكتف بأن يكون عاصياً في ذاته، بل عدى المعصية إلى غيره وأغوى بها وزينها ؛ لذلك وصفه الحق سبحانه بقوله :﴿ وكان الشيطان لربه كفوراً " ٢٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : ليس كافراً فحسب، بل ( كفور )وهي صيغة مبالغة من الكفر ؛ لأنه كفر وعمل على تكفير غيره.
ولنا أن نسأل : عمن يكون الإعراض ؟ فقد سبق الحديث عن الوالدين والأقارب والمسكين وابن السبيل، والإعراض عن هؤلاء لا يتناسب مع سياق الآية لأنه إعراض عن طاعة الله، بدليل قوله :
﴿ ابتغاء رحمةٍ من ربك ترجوها.. " ٢٨ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : فالله تعالى في ذهنك، وتبتغي من وراء هذا الإعراض رحمة الله ورزقه وسعته. إذن : الإعراض هنا ليس معصية أو مخالفة. فماذا إذن الغرض من الإعراض هنا ؟
نقول : قد يأتيك قريب أو مسكين أو عابر سبيل ويسألك حاجة وأنت لا تملكها في هذا الوقت فتخجل أن تواجهه بالمنع، وتستحي منه، فما يكون منك إلا أن تتوجه إلى ربك عز وجل وتطلب منه ما يسد حاجتك وحاجة سائلك، وأن يجعل لك من هذا الموقف مخرجاً.
فالمعنى : إما تعرضن عنهم خجلاً وحياءً أن تواجههم، وليس عندك ما يسد حاجتهم، وأنت في هذا الحال تلجأ إلى الله أن يرحمك رحمة تسعك وتسعهم.
وقوله تعالى :﴿ فقل لهم قولاً ميسوراً " ٢٨ " ﴾( سورة الإسراء )، كما قال في موضع آخر في مثل هذا الموقف :﴿ قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى.. " ٢٦٣ " ﴾( سورة البقرة ) : فحتى في حال المنع يجب على المسلم أن يلتزم الأدب، ولا يجرح مشاعر السائل، وأن يرده بلين ورفق، وأن يظهر له الحياء والخجل، وألا يتكبر أو يتعالى عليه، وأن يتذكر نعمة الله عليه بأن جعله مسئولاً لا سائلاً.
إذن : فالعبارات والأعمال الصالحة في مثل هذا الموقف لا يكفي فيها أن تقول : ما عندي، فقد يتهمك السائل بالتعالي عليه، أو بعدم الاهتمام به، والاستغناء عنه، وهنا يأتي دور الارتقاءات الإيمانية والأريحية للنفس البشرية التي تسمو بصاحبها إلى أعلى المراتب. وتأمل هذا الارتقاء الإيماني في قوله تعالى عن أصحاب الأعذار في الجهاد :﴿ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون " ٩٢ " ﴾ ( سورة التوبة ) : هذه حكاية بعض الصحابة الذين أتوا رسول الله ليخرجوا معه إلى الجهاد، ويضعوا أنفسهم تحت أمره وتصرفه، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذر لهم، فليس لديه من الركائب ما يحملهم عليه إلى الجهاد.
فماذا كان من هؤلاء النفر المؤمنين ؟ هل انصرفوا ولسان حالهم يقول : لقد فعلنا ما علينا ويفرحون بما انتهوا إليه ؟ لا، بل :﴿ تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون " ٩٢ " ﴾ ( سورة التوبة ) : وهكذا يرتقي الإيمان بأهله، ويسمو بأصحابه، فإذا لم يقدروا على الأعمال النزوعية، فالأعمال القولية، فإذا لم يقدروا على هذه أيضاً فلا أقل من الانفعال العاطفي المعبر عن حقيقة الإيمان الذي يفيض دمع الحزن لضيق ذات اليد.
تحدث الحق سبحانه وتعالى في آية سابقة عن المبذرين، وحذرنا من هذه الصفة، وفي هذه الآية يقيم الحق سبحانه موازنة اقتصادية تحفظ للإنسان سلامة حركته في الحياة.
فقوله تعالى :﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك.. " ٢٩ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : واليد عادة تستخدم في المنح والعطاء، نقول : لفلان يد عندي، وله علي أياد لا تعد، أي : أن نعمه علي كثيرة ؛ لأنها عادة تؤدى باليد، فقال : لا تجعل يدك التي بها العطاء ( مغلولة )أي : مربوطة إلى عنقك، وحين تقيد اليد إلى العنق لا تستطيع الإنفاق، فهي هنا كناية عن البخل والإمساك. وفي المقابل :﴿ ولا تبسطها كل البسط.. " ٢٩ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : فالنهي هنا عن كل البسط، إذن : فيباح بعض البسط، وهو الإنفاق في حدود الحاجة والضرورة. وبسط اليد كناية عن البذل والعطاء، وهكذا يلتقي هذا المعنى بمعنى كل من بذر ومعنى بذر الذي سبق الحديث عنه.
فبذر : أخذ حفنة من الحب، وبسط بها يده مرة واحدة، فأحدثت كومة من النبات الذي يأكل بعضه بعضاً، وهذا هو التبذير المنهي عنه، أما الآخر صاحب الخبرة في عملية البذر فيأخذ حفنة الحب، ويقبض عليها بعض الشيء بالقدر الذي يسمح بتفلت حبات التقاوي واحدة بعد الأخرى، وعلى مسافات متقاربة ومتساوية أي بذر.
وهذا هو حد الاعتدال المرغوب فيه من الشرع الحكيم، وهو الوسط، وكلا طرفيه مذموم. وقد أتى هذا المعنى أيضاً في قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " ٦٧ " ﴾( سورة الفرقان ) : أي : اعتدال وتوسط.
إذن : لا تبسط يدك كل البسط فتنفق كل ما لديك، ولكن بعض البسط الذي يبقى لك سيئاً تدخره، وتتمكن من خلاله أن ترتقي بحياتك.
وقد سبق أن أوضحنا الحكمة من هذا الاعتدال في الإنفاق، وقلنا : إن الإنفاق المتوازن يثري حركة الحياة، ويسهم في إنمائها ورقيها، على خلاف القبض والإمساك، فإنه يعرقل حركة الحياة، وينتج عنه عطالة وبطالة وركود في الأسواق وكساد يفسد الحياة، ويعرق حركتها.
إذن : لابد من الإنفاق لكي تساهم في سير عجلة الحياة، ولابد أن يكون الإنفاق معتدلاً حتى تبقي على شيء من دخلك، تستطيع أن ترتقي به، وترفع من مستواك المادي في دنيا الناس.
فالمبذر والمسرف تجده في مكانه، لا يتقدم في الحياة خطوة واحدة، كيف وهو لا يبقي على شيء ؟ وبهذا التوجيه الإلهي الحكيم نضمن سلامة الحركة في الحياة، ونوفر الارتقاء الاجتماعي والارتقاء الفردي. ثم تأتي النتيجة الطبيعية للإسراف والتبذير :﴿ فتقعد ملوماً محسوراً " ٢٩ " ﴾ ( سورة الإسراء ).
وسبق أن أوضحنا أن وضع القعود يدل على عدم القدرة على القيام ومواجهة الحياة، وهو وضع يناسب من أسرف حتى لم يعد لديه شيء.
وكلمة ( فتقعد )تفيد انتقاص حركة الحياة ؛ لأن حركة الحياة تنشأ من القيام عليها والحركة فيها ؛ لذلك قال تعالى :﴿ لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله.. " ٩٥ " ﴾
( سورة النساء ) :( ملوماً )أي : أتى بفعل يلام عليه، ويؤنب من أجله، وأول من يلوم المسرف أولاده وأهله، وكذلك الممسك البخيل، فكلاهما ملوم لتصرفه غير المتزن. ( محسوراً )أي : نادماً على ما صرت فيه من العدم والفاقة، أو من قولهم : بعير محسور. أي : لا يستطيع القيام بحمله. وهكذا المسرف لا يستطيع الارتقاء بحياته أو القيام بأعبائها وطموحاتها المستقبل له ولأولاده من بعده.
فإن قبضت كل القبض فأنت ملوم، وإن بسطت كل البسط فتقعد محسوراً عن طموحات الحياة التي لا تقوى عليها.
إذن : فكلا الطرفين مذموم، ويترتب عليه سوء لا تحمد عقباه في حياة الفرد والمجتمع. إذن : فما القصد ؟
القصد أن يسير الإنسان قواماً بين الإسراف والتقتير، كما قال تعالى :﴿ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " ٦٧ " ﴾( سورة الفرقان ) : فالقرآن يضع لنا دستوراً حاسماً وسطاً ينظم الحركة الاقتصادية في حياة المجتمع، فابسط يدك بالإنفاق لكي تساهم في سير عجلة الحياة وتنشيط البيع والشراء، لكن ليس كل البسط، بل تبقي من دخلك على شيء لتحقق طموحاتك في الحياة، وكذلك لا تمسك وتقتر على نفسك وأولادك فيلومونك ويكرهون البقاء معك، وتكون عضواً خاملاً في مجتمعك، لا تتفاعل معه، ولا تسهم في إثراء حركته.
والحق سبحانه وتعالى وهو صاحب الخزائن التي لا تنفذ، وهو القائل :﴿ ما عندكم ينفد وما عند الله باقٍ.. " ٩٦ " ﴾ ( سورة النحل ) : ولو أعطى سبحانه جميع خلقه كل ما يريدون ما نقص ذلك من ملكه سبحانه، كما قال في الحديث القدسي : " يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، وشاهدكم وغائبكم، وإنسكم وجنكم، اجتمعوا في صعيد واحد، فسألني كل مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك مما عندي إلا كمغرز إبرة أحدكم إذا غمسه في البحر، ذلك أني جواد واجد ماجد، عطائي كلام وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون ".
الله الذين لا تنفد خزائنه يعطي خلقه بقدرٍ، فلا يبسط لهم الرزق كل البسط، ولا يقبضه عنهم كل القبض، بل يبسط على قوم، ويقبض على آخرين لتسير حركة الحياة ؛ لأنه سبحانه لو بسط الرزق ووسعه على جميع الناس لاستغنى الناس عن الناس، وحدثت بينهم مقاطعة تفسد عليهم حياتهم.
إنما حركة الحياة تتطلب أن يحتاج صاحب المال إلى عمل، وصاحب العمل إلى مال، فتلتقي حاجات الناس بعضهم لبعض، وبذلك يتكامل الناس، ويشعر كل عضو في المجتمع بأهميته ودوره في الحياة.
وسبق أن ذكرنا أن الحق سبحانه لم يجعل إنساناً مجمعاً للمواهب، بل المواهب موزعة بين الخلق جميعهم، فأنت صاحب موهبة في مجال، وأنا صاحب موهبة في مجال آخر وهكذا، ليظل الناس يحتاج بعضهم لبعض.
فالغني صاحب المال الذي ربما تعالى بماله وتكبر به على الناس يحوجه الله لأقل المهن التي يستنكف أن يصنعها، ولابد له منها لكي يزاول حركة الحياة.
والحق سبحانه لا يريد في حركة الحياة أن يتفضل الناس على الناس، بل لابد أن ترتبط مصالح الناس عند الناس بحاجة بعضهم لبعض.
فإذا كان الحق تبارك وتعالى لا يبسط لعباده كل البسط، ولا يقبض عنهم كل القبض، بل يقبض ويبسط، فوراء ذلك حكمة لله تعالى بالغة ؛ لذلك ارتضى هذا الاعتدال منهجاً لعباده ينظم حياتهم، وعلى العبد أن يرضى بما قسم له في الحالتين، وأن يسير في حركة حياته سيراً يناسب ما قدره الله له من الرزق. يقول تعالى :﴿ ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله.. " ٧ " ﴾( سورة الطلاق ) : أي : من ضيق عليه الرزق فلينفق على قدره، ولا يتطلع إلى ما هو فوق قدرته وإمكاناته، وهذه نظرية اقتصادية تضمن للإنسان الراحة في الدنيا، وتوفر له سلامة العيش.
ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه ؛ لأن الذي يتعب الناس في الحياة ويشقيهم أن ترى الفقير الذي ضيق عليه في الرزق يريد أن يعيش عيشة الموسع عليه رزقه، ويتطلع إلى ما فضل الله به غيره عليه.
فلو تصورنا مثلاً زميلين في عمل واحد يتقاضيان نفس الراتب :
الأول : غني وفي سعةٍ من العيش قد يأخذ من أبيه فوق راتبه.
والآخر : فقير ربما يساعد أباه في نفقات الأسرة.
فإذا دخلا محلاً لشراء شيء ما، فعلى الفقير ألا ينظر إلى وضعه الوظيفي، بل إلى وضعه ومستواه المادي، فيشتري بما يتناسب معه، ولا يطمع أن يكون مثل زميله ؛ لأن لكل منهما قدرة وإمكانية يجب ألا يخرج عنها.
هذه هي النظرية الاقتصادية الدقيقة، والتصرف الإيماني المتزن ؛ لذلك فالذي يحترم قضاء الله ويرضى بما قسمه له ويعيش في نطاقه غير متمرد عليه، يقول له الحق سبحانه : لقد رضيت بقدري فيك فسوف أرفعك إلى قدري عندك، ثم يعطيه ويوسع عليه بعد الضيق.
وهذا مشاهد لنا في الحياة، والأمثلة عليه واضحة، فكم من أناس كانوا في فقر وضيق عيش، فلما رضوا بما قسمه الله ارتقت حياتهم وتبدل حالهم إلى سعة وترف.
فالحق سبحانه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ؛ لأنه سبحانه يريد أن يضع الإنسان نفسه دائماً في مقام الخلافة في الأرض، ولا ينسى هذه الحقيقة، فيظن أنه أصيل فيها.
والخيبة كل الخيبة أن ينسى الإنسان أنه خليفة لله في الأرض، ويسير في حركة الحياة على أنه أصيل في الكون، فأنت فقط خليفة لمن استخلفك، ممدود ممن أمدك، فإياك أن تغتر، وإياك أن تعيش في مستوى فوق المستوى الذي قدره الله لك.
فإن اعتبرت نفسك أصيلاً ضل الكون كله ؛ لأن الله تعالى جعل الدنيا أغياراً وجعلها دولاً، فالذي وسع عليه اليوم قد يضيق عليه غداً، والذي ضيق عليه اليوم قد يوسع عليه غداً وهذه سنة من سنن الله في خلقه ليدك في الإنسان غرور الاستغناء عن الله.
فلو متع الله الإنسان بالغنى دائماً لما استمتع الكون بلذة : يا رب ارزقني، ولو متعة بالصحة دائماً لما استمتع الكون بلذة : يا رب اشفني. لذلك يظل الإنسان موصولاً بالمنعم سبحانه محتاجاً إليه داعياً إياه.
وقد قال تعالى :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى " ٦ " أن رآه استغنى " ٧ " ﴾ ( سورة العلق ). فالحاجة هي التي تربط الإنسان بربه، وتوصله به سبحانه. فالبسط والتضييق من الله تعالى له حكمة، فلا يبسط لهم الرزق كل البسط، فيعطيهم كل ما يريدون، ولا يقبض عنهم كل القبض فيحرمهم ويريهم ما يكرهون، بل يعطي بحساب وبقدر ؛ لتستقيم حركة الحياة، كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء.. " ٢٧ " ﴾ ( سورة الشورى ).
وقوله تعالى :﴿ إنه كان بعباده خبيراً بصيراً " ٣٠ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : لأن الحق سبحانه لو لم يوزع الرزق هذا التوزيع الحكيم لاختل ميزان العالم، فمن بسط له يستغني عن غيره فيما بسط له فيه، ومن ضيق عليه يتمرد على الكون ويحقد على الناس، ويحسدهم ويعاديهم.
إنما إذا علم الجميع أن هذا بقدر الله وحكمته فسوف يظل الكون المخلوق موصولاً بالمكون الخالق سبحانه. وفي قوله :﴿ إن ربك.. " ٣٠ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : ملمح لطيف : أي ربك يا محمد وأنت أكرم الخلق عليه، ومع ذلك بسط لك حتى صرت تعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وقبض عنك حتى تربط الحجر على بطنك من الجوع. فإن كانت هذه حاله صلى الله عليه وسلم فلا يستنكف أحد منا إن ضيق الله عليه الرزق، ومن منا ربط الحجر على بطنه من الجوع ؟ !
وبعد أن حدثنا الحق سبحانه عن فرع من فروع الحياة وهو المال، ورسم لنا المنهج الذي تستقيم الحياة به ويسير الإنسان به سيراً يحقق له العيش الكريم والحياة السعيدة، ويضمن له الارتقاءات والطموحات التي يتطلع إليها. أراد سبحانه أن يحدثنا عن الحياة في أصلها، فأمر باستبقاء النسل، ونهى عن قتله.
وواضح الصلة بين هذه الآية وسابقتها ؛ لأن الكلام هنا ما يزال في الرزق، والخالق سبحانه يحذرنا : إياكم أن تدخلوا مسألة الرزق في حسابكم ؛ لأنكم لم تخلقوا أنفسكم، ولم تخلقوا أولادكم ولا ذريتكم.
بل الخالق سبحانه هو الذي خلقكم وخلقهم، وهو الذي استدعاكم واستدعاهم إلى الوجود، ومادام هو سبحانه الذي خلق، وهو الذي استدعى إلى الوجود فهو المتكفل برزق الجميع، فإياك أن تتعدى اختصاصك، وتدخل أنفك في هذه المسألة، وخاصة إذا كانت تتعلق بالأولاد. وقوله تعالى :﴿ ولا تقتلوا أولادكم.. " ٣١ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : القتل : إزهاق الحياة، وكذلك الموت. ولكن بينهما فرق يجب ملاحظته : فالقتل : إزهاق الحياة بنقض البنية ؛ لأن الإنسان يتكون من بنية بناها الخالق سبحانه وتعالى، وهي أجهزة الجسم، ثم يعطيها الروح فتنشأ فيها الحياة.
فإذا ضرب إنسان إنساناً آخر على رأسه مثلاً، فقد يتلف مخه فتنتهي حياته، لكن تنتهي بنقض البنية التي بها الحياة، لأن الروح لا تبقى إلا في جسم له مواصفات خاصة، فإذا ما تغيرت هذه الصفات فارقته الروح.
أما الموت : فيبدأ بمفارقة الروح للجسد، ثم تنقض بنيته بعد ذلك. وتتلف أعضاؤه، فالموت يتم في سلامة الأعضاء.
وما أشبه هذه المسألة بلمبة الكهرباء التي لا تضيء، إلا إذا توافرت لها مواصفات خاصة : من مولد أو مصدر للكهرباء، وسلك موصلً ولمبة كهرباء، فإذا كسرت هذه اللمبة يذهب النور، لماذا ؟
لأنك نقضت شيئاً أساسياً في عملية الإنارة هذه. وكذلك إذا صوب واحد رصاصة مثلاً في قلب الآخر فإنه يموت وتفارقه الروح ؛ لأنك نقضت عنصراً أساسياً من بنية الإنسان، ولا تستمر الروح في جسده بدونها.
لذلك ليس في الشرع عقوبة على الموت ونقصد به هنا الموت الطبيعي الذي يبدأ بخروج الروح من الجسد لكن توجد عقوبة على القتل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ملعون من هدم بنيان الله ".
لأن حياة كل منا هي بناء أقامه الخالق تبارك وتعالى، وهو ملك لخالقه لا يجوز حتى لصاحبه أن ينقضه، وإلا فلماذا حرم الإسلام الانتحار، وجعله كفراً بالله ؟ !
إذن : المنهي عنه في الآية القتل ؛ لأنه من عمل البشر، وليس الموت. وقد أوضح القرآن الكريم هذه المسألة في قوله تعالى :﴿ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم.. " ١٤٤ " ﴾ ( سورة آل عمران ) : فالقتل غير الموت، القتل اعتداء على بنية إنسان آخر وهدم لها. وقوله تعالى :﴿ أولادكم.. " ٣١ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : الأولاد تطلق على الذكر والأنثى، ولكن المشهور في استقصاء التاريخ أنهم كانوا يئدون البنات خاصة دون الذكور، وفي القرآن الكريم :﴿ وإذا الموءودة سئلت " ٨ " بأي ذنب قتلت " ٩ " ﴾( سورة التكوير ) : لأنهم في هذه العصور كانوا يعتبرون الذكور عوناً وعدةً في معترك الحياة، وما يملؤها من هجمات بعضهم على بعض، كما يرون فيهم العزوة والامتداد. في حين يعتبرون البنات مصدراً للعار، خاصة في ظل الفقر والعوز والحاجة، فلربما يستميل البنت ذو غنى إلى شيء من المكروه في عرضها، وبهذا الفهم يؤول المعنى إلى الرزق أيضاً. وقوله :﴿ خشية إملاقٍ.. " ٣١ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : خوفاً من الفقر، والإملاق : مأخوذة من ملق وتملق، وكلها تعود إلى الافتقار ؛ لأن الإنسان لا يتملق إنساناً إلا إذا كان فقيراً لما عنده محتاجاً إليه، فيتملقه ليأخذ منه حاجته. وقوله :﴿ نحن نرزقهم وإياكم.. " ٣١ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : وفي هذه الآية ملمح لطيف يجب التنبه إليه وفهمه لنتمكن من الرد على أعداء القرآن الذين يتهمونه بالتناقض. الحق سبحانه وتعالى يقول هنا :﴿ خشية إملاقٍ.. " ٣١ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : خوفاً من الفقر، فالفقر إذن لم يأت بعد، بل هو محتمل الحدوث في مستقبل الأيام، فالرزق موجود وميسور، فالذي يقتل أولاده في هذه الحالة غير مشغول برزقه، بل مشغول برزق أولاده في المستقبل ؛ لذلك جاء الترتيب هكذا :﴿ نحن نرزقهم.. " ٣١ " ﴾ ( سورة الإسراء ) :
أولاً : لأن المولود يولد ويولد معه رزقه، فلا تنشغلوا بهذه المسألة ؛ لأنها ليست من اختصاصكم. ثم :
﴿ وإياكم.. " ٣١ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : أن رزق هؤلاء الأبناء مقدم على رزقكم أنتم، ويمكن أن يفهم المعنى على أنه : لا تقتلوا أولادكم خوفاً من الفقر، فنحن نرزقكم من خلالهم، ومن أجلهم.
ونهتم بتوضيح هذه المسألة ؛ لأن أعداء الدين الذين ينقبون في القرآن عن مأخذ يرون تعارضاً أو تكراراً بين هذه الآية التي معنا وبين آية أخرى تقول :﴿ ولا تقتلوا أولادكم من إملاقٍ نحن نرزقكم وإياهم.. " ١٥١ " ﴾ ( سورة الأنعام ) : ونقول لهؤلاء : لقد استقبلتم الأسلوب القرآني بغير الملكة العربية في فهمه، فأسلوب القرآن ليس صناعة جامدة، بل هو أسلوب بليغ يحتاج في فهمه وتدبره إلى ذوق وحس لغوي.
وإذا استقبلتم كلام الله استقبالاً سليماً فلن تجدوا فيه تعارضاً ولا تكراراً، فليست الأولى أبلغ من الثانية، ولا الثانية أبلغ من الأولى، بل كل آية بليغة في موضوعها ؛ لأن الآيتين وإن تشابهتا في النظرة العجلي لكن بينهما فرق في المعنى كبير، فآية الإسراء تقول :﴿ نحن نرزقهم وإياكم.. " ٣١ " ﴾
( سورة الإسراء ) : وقد أوضحنا الحكمة من هذا الترتيب : نرزقهم وإياكم. أما في آية الأنعام :﴿ نحن نرزقكم وإياهم.. " ١٥١ " ﴾ ( سورة الأنعام ) : فلابد أن نلاحظ أن للآية صدراً وعجزاً، ولا يصح أن تفهم أحدهما دون الآخر، بل لابد أن تجمع في فهم الآية بين صدرها وعجزها، وسوف يستقيم لك المعنى ويخرجك من أي إشكال. وما حدث من هؤلاء أنهم نظروا إلى عجزي الآيتين، وأغفلوا صدريهما، ولو كان الصدر واحداً في الآيتين لكان لهم حق فيما ذهبوا إليه، ولكن صدري الآيتين مختلفان :
الأولى :﴿ خشية إملاق.. " ٣١ " ﴾( سورة الإسراء )، والأخرى :﴿ من إملاقٍ.. " ١٥١ " ﴾ ( سورة الأنعام ) :
والفرق واضح بين التعبيرين : فالأول : الفقر غير موجود ؛ لأن الخشية من الشيء دليل أنه لم يحدث، ولكنه متوقع في المستقبل، وصاحبه ليس مشغولاً برزقه هو، بل برزق من يأتي من أولاده.
أما التعبير الثاني :﴿ من إملاقٍ.. " ١٥١ " ﴾ ( سورة الأنعام ) : فالفقر موجود وحاصل فعلاً، والإنسان هنا مشغول برزقه هو لا برزق المستقبل، فناسب هنا أن يقدم الآباء في الرزق عن الأبناء.
ومادام الصدر مختلفاً، فلابد أن يختلف العجز، فأين التعارض إذن ؟ وهناك ملحظ آخر في الآية الكريمة، وهو أن النهي مخاطب به الجمع :﴿ ولا تقتلوا أولادكم.. " ٣١ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : فالفاعل جمع، والمفعول به جمع، وسبق أن قلنا : إن الجمع إذا قوبل بالجمع تقتضي القسمة آحاداً، فالمعنى : لا يقتل كل واحد منكم ولده. كما يقول المعلم للتلاميذ : أخرجوا كتبكم، والمقصود أن يخرج كل تلميذ كتابه.
فإن قال قائل : إن الآية تنهى أن يقتل الأب ولده خوفاً من الفقر، لكنها لا تمنع أن يقتل الأب ولد غيره مجاملة له، وهو الآخر يقتل ولد غيره مجاملة له.
نقول : لا.. لأن معنى الآية ألا يقتل كل الآباء كل الأولاد، فينسحب المعنى على أولادي وأولاد غيري، وهذا هو المراد بمقابلة الجمع بالجمع. أما لو قلنا : إن المعنى : تجاملني وتقتل لي ابني، وأجاملك وأقل لك ابنك، فهذا لا يستقيم ؛ لأن المقابلة هنا ليس مقابلة جمع بجمع. وقوله تعالى :﴿ إن قتلهم كان خطئاً كبيراً " ٣١ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : خطئاً مثل خطأ، وهو الإثم والذنب العظيم. وتأتي بالكسر وبالفتح كما نقول : خذوا حذركم، وخذوا حذرَكم. وكلمة :﴿ خطئاً.. " ٣١ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : الخاء والطاء والهمزة تدل على عدم موافقة الصواب، لكن مرة يكون عدم موافقة الصواب لأنك لم تعرف الصواب، ومرة أخرى لم توافق الصواب لأنك عرفت الصواب، ولكنك تجاوزته.
فالمعلم حينما يصوب للتلاميذ أخطاءهم أثناء العام الدراسي نجده يوضح للتلميذ ما أخطأ فيه، ثم يصوب له هذا الخطأ، وهو لم يفعل ذلك إلا بعد أن أعلم تلميذه بالقاعدة التي يسير عليها، ولكن التلميذ قد يغفل عن هذه القاعدة فيقع في الخطأ.
وهنا لا مانع أن نصوب له خطأه ونرشده ؛ لأنه ما يزال في زمن الدرس والتعلم والترويض والتدريب. لكن الأمر يختلف إن كانت هذه الأسئلة في امتحان آخر العام، فالمعلم يبين الخطأ، ولكنه لا يصححه، بل يقدره بالدرجات التي تحسب على التلميذ، وتنتهي المسألة بالنجاح لمن أصاب، وبالفشل لمن أخطأ ؛ لأن آخر العام أصبح لديه قواعد ملزمة، عليه أن يسير عليها.
وكلمة ( خطئاً أو خطأ )مأخوذة من خطا خطوة، وتعني الانتقال بالحركة، فإذا كان الصواب هو الشيء الثابت الذي استقر عليه وتعارف الناس عليه، ثم تجاوزته وانتقلت عنه إلى غيره، فهذا هو الخطأ أي : الخطوة التي جعلتك تتجاوز الصواب.
ومنه قوله تعالى :﴿ ولا تتبعوا خطوات الشيطان.. " ١٦٨ " ﴾ ( سورة البقرة ) : لأنه ينقلكم عن الشيء الثابت المستقر في شريعة الله. والشيء الثابت هنا هو أن الخالق سبحانه خلق الإنسان وكرمه ليكون خليفة له في الأرض ليعمرها، ويقيم فيها بمنهج الخالق سبحانه، فكيف يستخلفك الخالق سبحانه، وتأتي أنت لتقطع هذا الاستخلاف بما تحدثه من قتل الأولاد، وهم بذور الحياة في المستقبل ؟
حتى لو أخذنا بقول من ذهب إلى أن ( أولادكم )المراد بها البنون دون البنات، وسلمنا معه جدلاً أنك تميت البنات، وتبقى على الذكور، فما الحال إذا كبر هؤلاء الذكور وطلبوا الزواج ؟ ! وكيف يستمر النسل بذكر دون أنثى ؟ !
إذن : هذا فهم لا يستقيم مع الآية الكريمة، لأن النهي هنا عن قتل الأولاد، وهم البنون والبنات معاً. وقد وصف الحق سبحانه الخطأ هنا بأنه كبير، فقال :﴿ خطئاً كبيراً " ٣١ " ﴾( سورة الإسراء ) : ذلك لأنه خطأ من جوانب متعددة :
أولهما : أنك بالقتل هدمت بنيان الله، ولا يهدم بنيان الله إلا الله.
ثانيها : أنك قطعت سلسلة التناسل في الأرض، وقضيت على الخلافة التي استخلفها الله في الأرض.
ثالثها : أنك تعديت على غريزة العطف والحنان ؛ لأن ولدك بعض منك، وقتله يجردك من كل معاني الأبوة والرحمة، بل والإنسانية.
وهكذا وضع الحق سبحانه لنا ما يضمن بقاء النسل واستمرار خلافة الإنسان لله في أرضه، بأن نهى كل والد أن يقتل ولده، ونهى كل الآباء أن يقتلوا كل الأولاد.
بعد أن تحدث الحق سبحانه عما يحفظ النسل ويستبقي خلافة الله في الأرض، أراد سبحانه أن يحمي هذا النسل من الضياع، ويوفر له الحياة الكريمة. والإنسان منا حينما يرزق بالولد أو البنت يطير به فرحاً، ويؤثره على نفسه، ويخرج اللقمة من فيه ليضعها في فم ولده، ويسعى جاهداً ليوفر له رفاهية العيش، ويؤمن له المستقبل المرضي، وصدق الشاعر حين قال :
إنما أولادنا أكبادناَ **** تمشي على الأرض
إن هبت الريح على بعضهم**** امتنعت عيني عن الغمض
لكن هذا النظام التكافلي الذي جعله الحق سبحانه عماداً تقوم عليه الحياة الأسرية سرعان ما ينهار من أساسه إذا ما دب الشك إلى قلب الأب في نسبة هذا الولد إليه، فتتحول حياته إلى جحيم لا يطاق، وصراع داخلي مرير لا يستطيع مواجهته أو النطق به ؛ لأنه طعن في ذاته هو.
لذلك يحذرنا الحق تبارك وتعالى من هذه الجريمة النكراء ؛ ليحفظ على الناس أنسابهم، ويطمئن كل أب إلى نسبة أبنائه إليه، فيحنو عليهم ويرعاهم، ويستعذب ألم الحياة ومتاعبها في سبيل راحتهم. فيقول تعالى :﴿ ولا تقربوا الزنى.. " ٣٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : والمتأمل في آي القرآن الكريم يجد أن الحق سبحانه حينما يكلمنا عن الأوامر يذيل الأمر بقوله تعالى :﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها.. " ٢٢٩ ﴾ ( سورة البقرة ) : والحديث هنا عن أحكام الطلاق، فقد وضع له الحق سبحانه حدوداً، وأمرنا أن نقف عندها لا نتعداها، فكأنه سبحانه أوصلنا إلى هذا الحد، والممنوع أن نتعداه. وأما في النواهي، فيذيلها بقوله :﴿ تلك حدود الله فلا تقربوها.. " ١٨٧ " ﴾( سورة البقرة ) : والنهي هنا عن مباشرة النساء حال الاعتكاف، وكأن الحق سبحانه يريد ألا نصل إلى الحد المنهي عنه، وأن يكون بيننا وبينه مسافة، فقال ( فلا تقربوها )لنظل على بعد من النواهي، وهذا احتياط واجب حتى لا نقترب من المحظور فنقع فيه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ".
فالحق سبحانه خالق الإنسان، وهو أعلم به لا يريد له أن يقترب من المحظور ؛ لأن له بريقاً وجاذبية كثيراً ما يضعف الإنسان أمامها ؛ لذلك نهاه عن مجرد الاقتراب، وفرق بين الفعل وقربان الفعل، فالمحرم المحظور هنا هو الفعل نفسه، فلماذا إذن حرم الله الاقتراب أيضاً، وحذر منه ؟
نقول : لأن الله تعالى يريد أن يرحم عواطفك في هذه المسألة بالذات، مسألة الغريزة الجنسية، وهي أقوى غرائز الإنسان، فإن حمت حولها توشك أن تقع فيها، فالابتعاد عنها وعن أسبابها أسلم لك.
وحينما تكلم العلماء عن مظاهر الشعور والعلم قسموها إلى ثلاث مراحل : الإدراك، ثم الوجدان، ثم النزوع.
فلو فرضنا أنك تسير في بستان فرأيت به وردة جميلة، فلحظة أن نظرت إليها هذا يسمى " الإدراك " ؛ لأنك أدركت وجودها بحاسة البصر، ولم يمنعك أحد من النظر إليها والتمتع بجمالها.
فإذا ما أعجبتك وراقك منظرها واستقر في نفسك حبها فهذا يسمى " الوجدان " أي : الانفعال الداخلي لما رأيت، فإذا مددت يدك لتقطفها فهذا " نزوع " أي : عمل فعلي.
ففي أي مرحلة من هذه الثلاث يتحكم الشرع ؟
الشرع يتحكم في مرحلة النزوع، ولا يمنعك من الإدراك، أو من الوجدان، إلا في هذه المسألة " مسألة الغريزة الجنسية " فلا يمكن فيها فصل النزوع عن الوجدان، ولا الوجدان عن الإدراك، فهي مراحل ملتحمة ومتشابكة، بحيث لا تقوى النفس البشرية على الفصل بينها.
فإذا رأى الرجل امرأة جميلة، فإن هذه الرؤية سرعان ما تولد إعجاباً وميلاً، ثم عشقاً وغريزة عنيفة تدعوه أن تمتد يده، ويتولد النزوع الذي نخافه، وهنا إما أن ينزع ويلبي نداء غريزته، فيقع المحرم، وإما أن يعف ويظل يعاني مرارة الحرمان.
والخالق سبحانه أعلم بطبيعة خلقه، وبما يدور ويختلج داخلهم من أحاسيس ومشاعر ؛ لذلك لم يحرم الزنا فحسب، بل حرم كل ما يؤدي إليه بداية من النظر، فقال تعالى :﴿ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم.. " ٣٠ " ﴾ ( سورة النور ) : لأنك لو أدركت لوجدت، ولو وجدت لنزعت، فإن أخذت حظك من النزوع أفسدت أعراض الناس، وإن عففت عشت مكبوتاً تعاني عشقاً لن تناله، وليس لك صبر عنه.
إذن : الأسلم لك وللمجتمع، والأحفظ للأعراض وللحرمات أن تغض بصرك عن محارم الناس فترحم أعراضهم وترحم نفسك.
لكن هذه الحقيقة كثيراً ما تغيب عن الأذهان، فيغش الإنسان نفسه بالاختلاط المحرم، وإذا ما سئل ادعى البراءة وحسن النية وأخذ من صلة الزمالة إلى القرابة أو الجوار ذريعة للمخالطة والمعاشرة وهو لا يدري أنه واهم في هذا كله، وأن خالقه سبحانه أدرى به وأعلم بحاله، وما أمره بغض بصره إلا لما يترتب عليه من مفاسد ومضار، إما تعود على المجتمع، أو على نفسه.
لذلك قال صلى الله عليه وسلم : " النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه ". ومن هنا نفهم مراده سبحانه من قوله :﴿ ولا تقربوا الزنى.. " ٣٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : ولم يقل : لا تزنوا. لأن لهذه الجريمة مقدمات تؤدي إليها فاحذر أن تجعل نفسك على مقربة منها ؛ لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ودعك ممن ينادون بالاختلاط والإباحية ؛ لأن الباطل مهما علا ومهما كثر أتباعه فلن يكون حقاً في يوم من الأيام.
وأحذر ما يشيع على الألسنة من قولهم هي بنت عمه، وهو ابن خالها، وهما تربيا في بيت واحد، إلى آخر هذه المقولات الباطلة التي لا تغير من وجه الحرام شيئاً، فطالما أن الفتاة تحل لك فلا يجوز لك الخلوة بها. وفي الحديث النبوي : " لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما ".
إذن : ما حرم الإسلام النظر لمجرد النظر، وما حرم الخلوة في ذاتها ولكن حرمهما ؛ لأنهما من دوافع الزنا وأسبابه. فيقول تعالى :﴿ ولا تقربوا الزنى.. " ٣٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أبلغ في التحريم وأحوط وأسلم من : لا تزنوا. ومثال ذلك أيضاً قوله تعالى في تحريم الخمر :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون " ٩٠ " ﴾ ( سورة المائدة ).
ومع ذلك يخرج علينا من يقول : ليس في القرآن آية واحدة تحرم شرب الخمر.. سبحان الله، فأيهما أبلغ وأشد في التحريم أن نقول لك : لا تشرب الخمر، أم اجتنب الخمر ؟
لا تشرب الخمر : نهي عن الشرب فقط. إذن : يباح لك شراؤها وبيعها وصناعتها ونقلها.. الخ. أما الاجتناب فيعني : البعد عنها كلية، وعدم الالتقاء بها في أي مكان، وعلى أية صورة. فالاجتناب إذن أشد من مجرد التحريم.
وكيف نقول بأن الاجتناب أقل من التحريم، وقد قال تعالى في مسألة هامة من مسائل العقيدة :﴿ والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها.. " ١٧ " ﴾( سورة الزمر ) : فهل تقول في هذه : إن الاجتناب أقل من التحريم ؟ وهل عبادة الطاغوت ليست محرمة ؟ !
ثم يقول تعالى :﴿ إنه كان فاحشةً.. " ٣٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : الفاحشة : هي الشيء الذي اشتد قبحه. وقد جعل الحق سبحانه الزنا فاحشة ؛ لأنه سبحانه وتعالى حينما خلق الزوجين : الذكر والأنثى، وقدر أن يكون منهما التناسل والتكاثر قدر لهما أصولاً يلتقيان عليها، ومظلة لا يتم الزواج إلا تحتها، ولم يترك هذه المسألة مشاعاً يأتيها من يأتيها ؛ ليحفظ للناس الأنساب، ويحمي طهارة النساء، فيطمئن كل إنسان إلى سلامة نسبه ونسب أولاده.
والمراد من الأصول التي يلتقي عليها الزوجان عقد القران الذي يجعهما بكلمة الله وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهب أن لك بنتاً بلغت سن الزواج، وعلمت أن شاباً ينظر إليها، أو يحاول الاقتراب منها، أو ما شابه ذلك، ماذا سيكون موقفك ؟ لاشك أن نار الغيرة ستشتعل بداخلك، وربما تعرضت لهذا الشاب، وأقمت الدنيا ولم تقعدها.
لكن إذا ما طرق هذا الشاب بابك، وتقدم لخطبة ابنتك فسوف تقابله بالترحاب وتسعد به، وتدعو الأهل، وتقيم الزينات والأفراح.
إذن : فما الذي حدث ؟ وما الذي تغير ؟ وما الفرق بين الأولى والثانية ؟ الفرق بينهما هو الفرق بين الحلال والحرام ؛ لذلك قيل : " جدع الحلال أنف الغيرة ".
فالذي يغار على بناته من لمسة الهواء تراه عند الزواج يجهز ابنته، ويسلمها بيده إلى زوجها ؛ لأنهما التقيا على كلمة الله، هذه الكلمة المقدسة التي تفعل في النفوس الأعاجيب.
مجرد أن يقول ولي الزوجة : زوجتك، ويقول الزوج : وأنا قبلت. تنزل هذه الكلمة على القلوب برداً وسلاماً، وتحدث فيها انبساطاً وانشراحاً ؛ لأن لهذه الكلمة المقدسة عملاً في التكوين الذاتي للإنسان، ولها أثر في انسجام ذراته، وفي كل قطرة من دمه.
ومن آثار كلمة الله التي يلتقي عليها الزوجان، أنها تحدث سيالاً بينهما، هو سيال الاستقبال الحسن، وعدم الضجر، وعدم الغيرة والشراسة، فيلتقيان على خير ما يكون اللقاء.
ولذلك حينما يشرع لنا الحق تبارك وتعالى العدة، نجد عدة المطلقة غير عدة المتوفى عنها زوجها، وفي هذا الاختلاف حكمة ؛ لأن الحق سبحانه يعلم طبيعة النفس البشرية وما يؤثر فيها.
ولو كانت الحكمة من العدة مجرد استبراء الرحم لكفى شهر واحد وحيضة واحدة، إنما الأمر أبعد من ذلك، فعند المرأة اعتبارات أخرى ومازالت تحت تأثير الزواج السابق ؛ لأن سيال الحال فيه التقاء الإيجاب والسلب من الرجل والمرأة، وقد تعودت المرأة على الإيجاب الحلال والسلب الحلال.
فإذا طلقت المرأة فلا يحل لها الزواج قبل انقضاء العدة التي حددها الشرع بثلاثة أشهر، وهي المدة التي يهدأ فيها سيال الحلال في نفسها ويجمد، وبذلك تكون صالحة للالتقاء بزوج آخر.
أما في حالة المتوفى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشرة، والحكمة من الفارق بين العدتين أن المطلقة غالباً ما يكون بين الزوجين كره، هذا الكره بينهما يساعد على موت السيال ؛ لأنها بطبيعة الحال نافرة عنه غير راغبة فيه. أما المتوفى عنها زوجها فقد فارقها دون كره، فرغبتها فيه أشد ؛ لذلك تحتاج إلى وقت أطول للتخلص من هذا السيال.
والحق سبحانه هنا يراعي طبيعة المرأة ومشاعرها، وعواطف الميل والرغبة في زوجها، ويعلم سبحانه أن هذا الميل وهذه الرغبة تحتاج إلى وقت ليهدأ هذه العواطف لدى المرأة، وتستعد نفسياً للالتقاء بزوج آخر ؛ لأن لقاء الزوج بزوجته مسألة لا يحدث الانسجام فيها بالتكوين العقلي، بل الانسجام فيها بالتكوين العاطفي الغريزي الذي يعتمد بالدرجة الأولى على توافق الذرات بين الذكر والأنثى.
هذا التوافق هو الذي يولد ذرات موجبة، وذرات سالبة، فيحدث التوافق، ويحدث الحب والعشق الذي يجمعهما ويمتزجان من خلاله. وهذا كما قلنا أثر من آثار كلمة الله التي اجتمعا عليها وتحت ظلها.
وهكذا يلتقي الزوجان في راحة وهدوء نفسي، ويسكن كل منهما للآخر ؛ لأن ذراتهما انسجمت وتآلفت ؛ ويفرح الأهل ويسعد الجميع، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال في وصيته بالنساء : " إنما استحللتم فروجهن بكلمة الله " > : وهذه الكلمة من الله تعالى الذي خلق الإنسان ويعلم ما يصلحه ولك أن تتصور الحال إن تم هذا اللقاء فيما حرم الله، وبدون هذه الكلمة وما يحدث فيه من تنافر الذرات وعدم انسجام ونكدٍ ومرارة لا تنتهي، م
قوله تعالى :﴿ ولا تقتلوا النفس.. " ٣٣ " ﴾( سورة الإسراء ) : كان القياس أن يقابل الجمع بالجمع، فيقول : لا تقتلوا النفوس التي حرم الله، لكن الحق سبحانه وتعالى يريد أن قتل النفس الواحد مسئولية الجميع، لا أن يسأل القاتل عن النفس التي قتلها، بل المجتمع كله مسئول عن هذه الجريمة.
﴿ التي حرم الله.. " ٣٣ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : جعلها محرمة لا يجوز التعدي عليها ؛ لأنها بنيان الله وخلقته وصناعته، وبنيان الله لا يهدمه أحد غيره. أو نقول :﴿ النفس التي حرم الله.. " ٣٣ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : حرم الله قتلها. ﴿ إلا بالحق.. " ٣٣ " ﴾( سورة الإسراء ) : هذا الاستثناء من الحكم السابق الذي قال : لا تقتلوا النفس التي حرم الله ( إلا بالحق )أي : ولكن اقتلوها بالحق، والحق هنا المراد به ثلاثة أشياء :
القصاص من القاتل.
الردة عن الإسلام.
زنا المحصن أو المحصنة.
وهذه أسباب ثلاثة توجب قتل الإنسان، والقتل هنا يكون بالحق أي : بسبب يستوجب القتل. وقد أثار أعداء الإسلام ضجة كبيرة حول هذه الحدود وغيرها، واتهموا الإسلام بالقسوة والوحشية، وحجتهم أن هذه الحدود تتنافى وإنسانية الإنسان وآدميته، وتتعارض مع الحرية الدينية التي يقول بها الإسلام في قوله تعالى :﴿ لا إكراه في الدين.. " ٢٥٦ " ﴾( سورة البقرة ) : ففي القصاص قالوا : لقد خسر المجتمع واحداً بالقتل، فكيف نزيد من خسارته بقتل الآخر ؟
نقول : لابد أن نستقبل أحكام الله بفهم واع ونظرة متأملة، فليس الهدف من تشريع الله للقصاص كثرة القتل، إنما الهدف ألا يقع القتل، وألا تحدث هذه الجريمة من البداية.
فحين يخبرك الحق سبحانه أنك إن قتلت فسوف تقتل، فهو يحمي حياتك وحياة الآخرين. وليس لدى الإنسان أغلى من حياته، حتى القاتل لم يقتل إلا لأنه يحب الحياة، وقتل من أجلها من قتل ؛ لأنه ربما خدش عزته أو كرامته، وربما لأنه عدو له أقوى منه.
ولاشك أن حياته أغلى من هذا كله، فحين نقول له : إن قتلت ستقتل، فنحن نمنعه أن يقدم على هذه الجريمة، ونلوح له بأقسى ما يمكن من العقوبة. ولذلك قالوا : القتل أنفى للقتل.
وقال تعالى :﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب.. " ١٧٩ " ﴾( سورة البقرة ) : وهذا نداء لأصحاب الأفهام والعقول الواعية، ليس القصاص كما يظن البعض، بل فيه الحياة وفيه سلامة المجتمع وحقن الدماء.
ويجب أن يكون عندنا يقظة استقبال لأحكام الله ؛ لأن القاتل ما قتل إلا حينما غفل عن الحكم، ويجب أيضاً أن ننظر إلى حكم القصاص نظرة موضوعية، لأنه كما حمى غيري من قتلي له حماني أيضاً من قتل غيري لي، ومادامت المسألة : لك مثل ما عليك، وحظك منها كحظ الناس جميعاً، فلماذا الاعتراض ؟
وكذلك في السرقة، حينما يقول لك : لا تسرق، فأنت ترى أن هذا الأمر قد قيد حريتك أنت، لكن الحقيقة أنه أيضاً قيد حرية الآخرين بالنسبة للسرقة منك. والذي يتأمل هذه الحدود يجدها في صالح الفرد ؛ لأنها تقيد حريته وهو فرد واحد، وتقيد من أجله حرية المجتمع كله.
وفي الزكاة، حينما يوجب عليك الشارع الحكيم أن تخرج قدراً معلوماً من مالك للفقراء، فلا تقل : هذا مالي جمعته بجهدي وعرقي. ونقول لك : نعم هو مالك، ولكن لا تنس أن الأيام دول وأغيار، والغني اليوم قد يفتقر غداً، فحين تعضك الأيام فسوف تجد من يعطيك، ويكيل لك بنفس الكيل الذي كلت به للناس.
إذن : يجب أن نكون على وعي في استقبال الأحكام عن الله تعالى، وأن ننظر إليها نظرة شمولية، فنرى ما لنا فيها وما علينا، ومادامت هذه الأحكام تعطينا بقدر ما تأخذ منا فهي أحكام عادلة.
وحكم القصاص يجعل الإنسان حريصاً على نفسه، ويمنعه أن يقدم على القتل، فإن غفل عن هذا الحكم وارتكب هذه الجريمة فلابد أن يقتص منه ؛ فإن أخذتنا الشهامة وتشدقنا بالإنسانية والكرامة والرحمة الزائفة، وعارضنا إقامة الحدود فليكن معلوماً لدينا أن من يعارض في إعدام قاتل فسوف يتسبب في إعدام الملايين، وسوف يفتح الباب لفوضى الخلافات والمنازعات، فكل من اختلف مع إنسان سارع إلى قتله ؛ لأنه لا يوجد رادع يردعه عن القتل.
إذن : لكي نمنع القتل لابد أن ننفذ حكم الله ونقيم شرعه ولو على أقرب الناس ؛ لأن هذه الأحكام ما نزلت لتكون كلاماً يتلى وفقط ؛ بل لتكون منهجاً عملياً ينظم حياتنا، ويحمي سلامة مجتمعنا.
لذلك جعل الحق سبحانه وتعالى تنفيذ هذه الأحكام علانية أمام الجميع، وعلى مرأى ومسمع المجتمع كله ؛ ليعلموا أن أحكام الله ليست شفوية، بل هاهي تطبق أمامهم، وصدق الله تعالى حين قال :﴿ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " ٢ " ﴾ ( سورة النور ) : والذين اعترضوا على القصاص اعترضوا أيضاً على إقامة حد الردة، ورأوا فيه وحشية وكبتاً للحرية الدينية التي كفلها الإسلام في قوله تعالى :﴿ لا إكراه في الدين.. " ٢٥٦ " ﴾ ( سورة البقرة ) : والحقيقة أن الإسلام حينما شرع حد الردة، وقال بقتل المرتد عن الدين أراد أن يصعب على غير المسلمين الدخول في الإسلام، وأن يضيق عليهم هذا الباب حتى لا يدخل في الإسلام إلا من أخلص له، واطمأن قلبه إليه، وهو يعلم تماماً أنه إن تراجع عن الإسلام بعد أن دخل فيه فجزاؤه القتل.
فهذه تحسب للإسلام لا عليه ؛ لأنه اشترط عليك أولاً، وأوضح لك عاقبة ما أنت مقدم عليه. أما حرية الدين والعقيدة فهي لك قبل أن تدخل الإسلام دخولاً أولياً، لا يجبرك أحد عليه، فلك أن تظل على دينك كما تحب، فإن أردت الإسلام فتفكر جيداً وتدبر الأمر وابحثه بكل طاقات البحث لديك.
فليس في دين الله مجال للتجربة، إن أعجبك تظل في ساحته، وإن لم يرق لك تخرج منه، فإن علمت هذه الشروط فليس لك أن تعترض على حد الردة بعد ذلك. ولتعلم أن دين الله أعز وأكرم من أن يستجدي أحداً للدخول فيه.
﴿ ومن قتل مظلوماً.. " ٣٣ " ﴾( سورة الإسراء ) : وهذا حكم نفي، المفروض ألا يحدث. ومعنى
( مظلوماً )أي : قتل دون سبب من الأسباب الثلاثة السابقة أي : دون حق، فعلى فرض أن هذا القتل وقع بالفعل، فما الحكم ؟
يقول تعالى :﴿ فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل.. " ٣٣ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : وليه : أي ولي المقتول، وهو من يتولى أمره من قرابته : الأب أو الأخ أو الابن أو العم.. الخ فهو الذي يتولى أمر المطالبة بدمه.
﴿ سلطاناً.. " ٣٣ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : شرعنا له، وأعطيناه الحق والقوة في أن يقتل القاتل، والسلطان يكون في خدمة التنفيذ، ويمكنه منه، وكذلك المؤمنون أيضاً يقفون إلى جواره، ويساعدونه في تنفيذ هذا الحكم ؛ لأن الأمر من الله قد يكون رادعه في ذات النفس، لكن إن ضعفت النفس فلابد لرادع من الخارج، وهنا يأتي دور السلطان ودور المجتمع الإيماني الذي يعين على إقامة هذا الحكم.
إذن : جعل الحق سبحانه وتعالى سلطان القصاص لولي الدم، فإن لم يكن له ولي فإن السلطان ينتقل للحاكم العام ليتولى إقامة هذا الحكم، لكن ما يتعب الدنيا حينما ينتقل حق القصاص إلى الحاكم العام طول الإجراءات التي تخرج الحكم عن المراد منه، وتذكي نار الحقد والغل والترة في نفس ولي الدم.
فولي الدم وحده الذي يعاني طول فترة التقاضي مع أناس لا يعنيهم أن تطول هذه الفترة أو تقصر ؛ لأن طول فترة التقاضي تأتي في صالح القاتل، حيث بمرور الأيام بل والسنين تبرد شراسة الجريمة في نفوس الناس، وتأخذ طريقها إلى طيات النسيان.
وبهذا تبهت الجريمة وتنسى بشاعتها، وبدل أن يقف المجتمع ويفكر في القاتل وفي القصاص منه، تتحول الأنظار والعواطف إلى النفس الجديدة التي ستقتل، وبذلك يتعاطف الناس معه بدل أن يتعاطفوا في إقامة القصاص عليه.
لكن يجب أن يقام القصاص قبل أن تبرد شراسة الجريمة في النفوس، وتبهت وتفقد حرارتها. والحق سبحانه وتعالى كما شرع القصاص، وجعله في يد ولي الدم، أراد في الوقت نفسه ألا يحرم المجتمع من طموحات العفو الذي ينهي أصول الخلاف، فيقول تعالى :﴿ فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان.. " ١٧٨ " ﴾( سورة البقرة ) : ففي جو القتل وثورة الدماء التي تغلي بالثأر يتكلم الحق سبحانه عن العفو والأخوة والمعروف والإحسان، فمهما كان الأمر فالمؤمنون إخوة، وباب العفو والإحسان مفتوح. ولولي الدم بعد أن أعطيناه حق القصاص ندعوه إلى العفو، وله أن يأخذ الدية وتنتهي المسألة، وله أن يعفو عن بعضها أو عنها كلها.
إذن : فإعطاء الحق منع عن المقتول له ذلة التسلط من القاتل ؛ لأن الله تعالى أعطاه حق القصاص منه، فإذا ما عفا عنه علم القاتل أن حياته أصبحت هبة من ولي الدم، ومادام الأمر كذلك فسوف تتلاشى بينهما الضغائن والأحقاد، ويحل محلها الوفاق والمحبة والسلام، وننهي تسلسل الثارات الذي لا ينتهي.
وقد اشتهر في صعيد مصر وكان مثالاً للأخذ بالثأر أن القاتل يأخذ كفنه في يده، ويذهب به إلى ولي الدم ويسلم نفسه إليه معترفاً بجريمته، معطياً لولي الدم حرية التصرف فيه. فما يكون من ولي الدم أمام هذا الاستسلام إلا أن يعفو ويصفح، وبذلك تقتلع الضغائن من جذورها.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ فلا يسرف في القتل.. " ٣٣ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : طالما أن الله أعطاك حق القصاص فليكن القصاص بقدره دون زيادة أو تعد أو مجاوزة للحد، والإسراف في القتل يكون بأوجه عدة : فقد يكون القاتل غير ذي شأن في قومه، فلا يرضي ولي الدم بقتله، بل يتطلع إلى قتل إنسان آخر ذي مكانة وذي شأن، فيقتل إنساناً بريئاً لا ذنب له، وهذا من الإسراف في القتل، وهو إسراف في ذات المقتول.
وقد يكون الإسراف في الكم، فإن قتل واحد فلا يكتفي ولي الدم بأن يقتل القاتل، بل يحمله الغل وثورة الدم إلى أن يقتل به أكثر من واحد.
وقد يكون الإسراف بأن يمثل بجثة المقتول، ولا يكفيه قتله، والمفروض ألا يحملك الغضب على تجاوز الحد المشروع لك. وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعلها في قاتل حمزة، فنهاه الله عن ذلك. ثم يقول تعالى :﴿ إنه كان منصوراً " ٣٣ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : لا يجوز له أن يسرف في القتل ؛ لأننا لم نتخل عنه، بل وقفنا بجانبه وأعطيناه حق القصاص ومكناه منه، إذن : فهو منصور ليس متروكاً، فيجب أن يقف عند حد النصرة لا يتجاوزها ؛ لأنه إن تجاوزها بقتل غير القاتل، فسوف يقتل هو الآخر قصاصاً.
وهنا أيضاً يقول الحق سبحانه :﴿ ولا تقربوا.. " ٣٤ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : ولم يقل : ولا تأكلوا مال اليتيم ليحذرنا من مجرد الاقتراب، أو التفكير في التعدي عليه ؛ لأن اليتم مظهر من مظاهر الضعف لا صح أن تجترئ عليه.
و( اليتيم )هو من مات أبوه وهو لم يبلغ مبلغ الرجال وهو سن الرشد، ومادام قد فقد أباه ولم يعد له حاضن يرعاه، فسوف يضجر ويتألم ساعة أن يرى غيره من الأولاد له أب يحنو عليه، وسوف يحقد على القدر الذي حرمه من أبيه.
فيريد الحق سبحانه وتعالى أولاً أن يستل من قلب اليتيم وفكره هذه المشاعر ؛ لذلك يوصي المجتمع به ليشعر أنه وإن فقد أباه فالمؤمنون جميعاً له آباء، وفي حنوهم وعطفهم عوض له عن وفاة والده. وكذلك حينما يرى الإنسان أن اليتيم مكرم في مجتمع إيماني يكفله ويرعاه، ويعتبره كل فرد فيه ابناً من أبنائه، يطمئن قلبه ولا تفزعه أحداث الحياة في نفسه، ولا يقلق إن قدر له أن ييتم أولاده، فسوف يجدون مثل هذه الرعاية، ومثل هذا الحنان من المجتمع الإيماني.
إذن : إن وجد اليتيم في المجتمع عوضاً عن أبيه عطفاً وحناناً ورعاية يرضى بما قدر له، ولا يتأبى على قدر الله، وكذلك تطمئن النفس البشرية إن قدر عليها اليتم في أولادها. ثم يقول تعالى :﴿ إلا بالتي هي أحسن.. " ٣٤ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : لا تنتهز يتم اليتيم، وأنه ما يزال صغيراً ضعيف الجانب فتطمع في ماله، وتأخذه دون وجه حق. وقوله :﴿ إلا بالتي هي أحسن.. " ٣٤ " ﴾ ( سورة الإسراء ).
استثناء من الحكم السابق ( ولا تقربوا )يبيح لنا أن نقرب مال اليتيم، ولكن بالتي هي أحسن.
و( أحسن )أفعل تفضيل تدل على الزيادة في الإحسان فكأن لدينا صفتين ممدوحتين : حسنة وأحسن، وكأن المعنى : لا تقربوا مال اليتيم بالطريقة الحسنة فحسب، بل بالطريقة الأحسن. فما الطريقة الحسنة ؟ وما الطريقة الأحسن ؟
الطريقة الحسنة : أنك حين تقرب مال اليتيم لا تبدده ولا تتعدى عليه. لكن الأحسن : أن تنمي له هذا المال وتثمره وتحفظه له، إلى أن يكون أهلاً للتصرف فيه. لذلك فالحق سبحانه حينما تكلم عن هذه المسألة قال :﴿ وارزقوهم فيها.. " ٥ " ﴾ ( سورة النساء ) : ولم يقل : وارزقوهم منها ؛ لأن الرزق منها ينقصها، لكن معنى :﴿ وارزقوهم فيها.. " ٥ " ﴾( سورة النساء ) : أي : من ريعها وربحها، وليس من رأس المال. وإلا لو تصورنا أن أحد الأوصياء على الأيتام عنده مال ليتيم، وأخذ ينفق عليه من هذا المال، ويخرج منه الزكاة وخلافه، فسوف ينتهي هذا المال ويبلغ اليتيم مبلغ الرشد فلا يجد من ماله شيئاً يعتد به.
وكأن الحق تبارك وتعالى يقول : حققوا الحسن أولاً بالمحافظة على مال اليتيم، ثم قدموا الأحسن بتنميته له وزيادته زيادة تتسع لنفقات حياته، وإلا فسوف يشب الصغير، وليس أمامه من ماله شيء.
والحق سبحانه وتعالى يريد ألا يحرم اليتيم من خبرة أصحاب الخبرة والصلاحية الاقتصادية وإدارة الأموال، فقد يكون من هؤلاء من ليس لديه مال يعمل فيه، فليعمل في مال اليتيم ويديره له وينميه، وليأكل منه بالمعروف، وإن كان غنياً فليستعفف عنه ؛ لأنه لا يحل له، يقول تعالى :﴿ ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف.. " ٦ " ﴾ ( سورة النساء ) : لأن الإنسان إذا كان عنده خبرة في إدارة الأموال ولديه الصلاحية فلا نعطل هذه الخبرة، ولا نحرم منها اليتيم، وهكذا نوفر نفقة صاحب الخبرة الذي لا يجد مالاً، ونفقة اليتيم الذي لا يستطيع إدارة أمواله، وبذلك يتم التكامل في المجتمع الإيماني.
ثم يقول تعالى :﴿ حتى يبلغ أشده.. " ٣٤ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : حتى يكبر ويبلغ مبلغ الرجال، ولكن هل هذه الصفة كافية لكي نعطي لليتيم ماله وقد بلغ سن الرشد والتكليف ؟
في الحقيقة أن هذه الصفة غير كافية لنسلم له ماله يتصرف فيه بمعرفته ؛ لأنه قد يكون مع كبر سنه سفيهاً لا يحسن التصرف، فلا يجوز أن نترك له المال ليبدده، بدليل قوله تعالى :﴿ فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم.. " ٦ " ﴾ ( سورة النساء ).
وقال في آية أخرى :﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم.. " ٥ " ﴾( سورة النساء ) : ولم يقل : أموالهم، لأن السفيه ليس له مال، وليس له ملكية، والمال مال وليه الذي يحافظ عليه وينميه له.
إذن : فالرشد وهو سلامة العقل وحسن التصرف، شرط أساسي في تسليم المال لليتيم ؛ لأنه أصبح بالرشد أهلاً للتصرف في ماله.
وكلمة ( أشده )أي : يبلغ شدة تكوينه، ويبلغ الأشد أي : تستوي ملكاته استواءً لا زيادة عليه، فأعضاء الإنسان تنمو وتتربى مع نموه على مر الزمن، إلى أن يصل سن الرشد ويصبح قادراً على إنجاب مثله، وهذه سن الأشد أي : الاستواء.
لذلك أجل الله تعالى التكليف للإنسان إلى سن البلوغ ؛ لأنه لو كلفه قبل أن يبلغ ثم طرأ عليه البلوغ بعد التكليف لاحتج بما طرأ عليه في نفسه من تغيرات لم تكن موجودة حال التكليف. ثم يقول تعالى :
﴿ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً " ٣٤ " ﴾( سورة الإسراء ) :( العهد )ما تعاقد الإنسان عليه مع غيره عقداً اختيارياً يلتزم هو بنتائجه ومطلوباته، وأول عقد أبرم هو العقد الإيماني الذي أخذه الله تعالى علينا جميعاً، وأنت حر في أن تدخل على الإيمان بذاتك مختاراً أو لا تدخل، لكن حين تدخل إلى الإيمان مختاراً يجب أن تلتزم بعهد الإيمان ؛ لأن الله لا يريد منا قوالب تخضع، ولكن يريد منا قلوباً تخشع، ولو أراد الله منا قوالب تخضع ما استطاع واحد منا أن يشذ عن الإيمان بالله.
لذلك خاطب الحق تبارك وتعالى رسوله بقوله :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين " ٣ " إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين " ٤ " ﴾ ( سورة الشعراء ) : فالله لا يريد أعناقاً، وإنما يريد قلوباً، لكن يخلط كثير من الناس إن أمرته بأمر من أمور الدين فيقول :﴿ لا إكراه في الدين.. " ٢٥٦ " ﴾( سورة البقرة ) : نقول له : أنت لم تحسن الاستدلال، المراد : لا إكراه في أن تدخل الدين، ولكن إذا دخلت فعليك الالتزام بمطلوباته.
ومن باطن هذا العهد الإيماني تنشأ كل العقود، لذلك يجب الوفاء بالعهود ؛ لأن الوفاء بها جزء من الإيمان، فأنت حر أن تقابل فلاناً أولا تقابله، إنما إذا عاهدته على المقابلة فقد أصبحت ملزماً بالوفاء ؛ لأن المقابل لك قد رتب نفسه على أساس هذا اللقاء، فإن أخلفت معه العهد فكأنك أطلقت لنفسه حرية الحركة، وقيدت حركة الآخر.
وهذه صفة لا تليق أبداً بالمؤمنين، وقد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من صفات المنافقين. وقوله :﴿ إن العهد كان مسئولاً " ٣٤ " ﴾( سورة الإسراء ) : قد يكون المعنى : أي مسئولاً عنه، فيسأل كل إنسان عن عهده أوفى به أم أخلفه ؟ وقد يراد ( مسئولاً )أي : مسئول ممن تعاقد عليه أن ينقذه، وكأنه عدى المسئولية إلى العهد نفسه، فأنا حر وأنت حر، والعهد هو المسئول.
والحق سبحانه وتعالى يستعمل اسم المفعول في مواضع تقول للوهلة الأولى أنه في غير موضعه، ولكن إذا دققت النظر تجده في موضعه بليغاً غاية البلاغة، كما في قوله تعالى :﴿ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا " ٤٥ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : هكذا بصيغة اسم المفعول، والحجاب في الحقيقة ساتر وليس مستوراً، ولكن الحق سبحانه يريد أن يجعل الحجاب صفيقاً، كأنه نفسه مستور بحجاب الغير، كما يصنع بعض المترفين ستائر البيوت من طبقتين، فتصبح الستارة نفسها مستورة، وكما في قوله تعالى :﴿ ظلاً ظليلاً " ٥٧ " ﴾( سورة النساء ) : أي : أن الظل نفسه مظلل.
وانظر إلى حال المجتمع إذا لم تراع فيه العهود، ولم تحترم المواثيق، مجتمع يستهين أهله بالوفاء وشرف الكلمة، فسوف تجده مجتمعاً مفككاً فقدت فيه الثقة بين الناس، وإذا ما فقدت الثقة وضاع الوفاء وشرف الكلمة الذي تدار به حركة الحياة فاعلم أنه مجتمع فاشل، وليس أهلاً لرقي أو تقدم.
ولأهمية العهد في الإسلام نجده ينعقد بمجرد الكلمة، وليس من الضروري أن يسجل في سجلات رسمية ؛ لأن المؤمن تثق في كلمته حتى إن توثق وتكتب.
ومن هنا وجد ما يسمونه بالحق القضائي وبالحق الديني، فيقولون : هذا قضاءً وهذا ديانة، والفرق واضح بينهما، ويمكن أن نضرب له هذا المثل : هب أنك أخذت ديناً من صديق لك، وكتب له مستنداً بهذا الدين ليطمئن قلبه، ثم قابلته بعد أن تيسر لك السداد ووفيت له بدينه. لكنه اعتذر لعدم وجود المستند معه الآن، فقلت له : لا عليك أرسله لي متى شئت، فلو تصورنا أنه أراد الغدر بك وأنكر سداد الدين، فالقضاء يقول : له الحق في أخذ دينه، أما ديانة فليس له شيء.
إذن : العهد الذي نعقده مع الناس يدخل تحت المسئولية الدينية وليس القضائية.
تنتقل بنا الآيات إلى قضية من أخطر قضايا المجتمع، هذه القضية هي التي تضمن للإنسان نتيجة عرقه وثمار جهده وتعبه في الحياة، ويطمئن أنها عائدة عليه لا على هذه الطبقة الطفيلية المتسلطة التي تريد أن تعيش على أكتاف الآخرين وتتغذى على دمائهم.
وبذلك ييأس الكسول الخامل، ويعلم أنه ليس له مكان في مجتمع عامل نشيط، وأنه إن تمادى في خموله فلن يجد لقمة العيش فيأخذ من ذلك دافعاً للعمل، وبذلك تزداد طاقة العمل ويرقى المجتمع ويسعد أفراده.
صحيح في المجتمع الإيماني إيثار، لكنه الإيثار الإيجابي النابغ من الفرد ذاته، أما الخطف والسرقة والاختلاس والغصب فلا مجال لها في هذا المجتمع ؛ لأنه يريد لحركة الحياة أن تستوعب الجميع فلا يتطفل أحد على أحد.
وإن كنا نحارب الأمراض الطفيلية التي تتغذى على دماء الإنسان فإن محاربة الطفيليات الآدمية أولى بهذه المحاربة. فما دمت قادراً على العمل فيجب أن تعمل، أما غير القادرين من أصحاب الأعذار فهم على العين والرأس، ولهم حق مكفول في الدولة وفي أعناق المؤمنين جميعاً، وهذا هو التأمين الذي يكفله الإسلام لكل محتاج.
لذلك نقول للغني الذي يسهم في سد حاجة الفقير : لا تتأفف ولا تضجر إن أخذنا منك اليوم ؛ لأن الطاقة التي عملت بها واجتهدت وجمعت هذا المال طاقة وقدرة ليست ذاتية فيك، بل هي هبة من الله يمكن أن تنزع منك في أي وقت، وتتبدل قوتك ضعفاً وغناك حاجة، فإن حدث لك ذلك فسوف نعطيك ونؤمن لك مستقبلك.
لذلك على الإنسان أن يعيش في الحياة إيجابياً، يعمل ويكدح ويسهم في رقي الحياة وإثرائها، ولا يرضى لنفسه التقاعس والخمول ؛ لأن المجتمع الإيماني لا يسوي بين العامل والقاعد، ولا بين النشيط والمتكاسل.
وهب أن شقيقين اقتسما ميراثاً بينهما بالتساوي ؛ الأول عاش في ماله باقتصاد وأمانة وسعى فيه بجد وعمل على تنميته، أما الآخر فكان مسرفاً منحرفاً بدد كل ما يملك وقعد متحسراً على ما مضى، فلا يجوز أن نسوي بين هذا وذاك، أو نأخذ من الأول لنعطي للآخر، إياك أن تفعل هذا لأن الإنسان وكذلك الدول إذا أخذت ما ليس لها حملها الله ما ليس عليها.
ولذلك لا يجوز أن نحقد على الغني طالما أن غناه ثمرة عمله وكده ونتيجة سعيه، وطالما أنه يسير في ماله سيراً معتدلاً ويؤدي ما عليه من حقوق للمجتمع، ولندعه يعمل بكل ما يملك من طاقات ومواهب، وبكل ما ليده من طموحات الحياة ؛ لأن الفقير سوف يستفيد منه ومن طموحاته شاء أم أبى. فدعه يجتهد، وإن كان اجتهاده في الظاهر لنفسه فإنه في الحقيقة يعود عليك أيضاً، والخير في المجتمع تعود آثاره على الجميع.
لنفرض أن أحد هؤلاء الأغنياء أراد أن يبني مصنعاً أو عمارة أو مشروعاً كبيراً، فكم من العمال والصناع، وكم من الموظفين والمهندسين سيستفيدون من هذا المشروع ؟ إن الغني لن يملك مثل هذه الإنجازات إلا بعد أن يصبح ثمنها قوتاً في بطون الفقراء وكسوة على أجساد الفقراء.
إذن : علينا أن ندع الغني يجتهد ويسعى ؛ لأن المجتمع سوف يستفيد من سعيه واجتهاده، وما عليك إلا أن تراقبه، فإن كان سعيه في الحق فبها ونعمت، وإن كان في غير الحق فلتضرب على يده. وإليك ما يضمن لك سعادة الحياة وسلامة الحركة فيها، يقول تعالى :﴿ وأوفوا الكيل إذا كلتم.. " ٣٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : والحديث هنا لا يخص الكيل فقط، بل جميع المقادير المستخدمة في حركة الحياة مثل المقادير الطولية مثلاً، والتي تقدر بالملليمتر أو السنتيمتر أو المتر أو الكيلو متر وتقاس بها الأشياء كل على حسبه، فالكتاب مثلاً يقاس بالسنتيمتر، والحجرة تقاس بالمتر، أما الطريق فيقاس بالكيلومتر وهكذا.
إذن : فالتقدير الطولي يجب أن تتناسب وحدة القياس فيه مع الشيء الذي نقيسه. هذا في الطوليات، أما في المساحات فيأتي الطول والعرض، وفي الأحجام : الطول والعرض والارتفاع. وفي الكتل يأتي الميزان.
إذن : فالحياة محكومة في تقديرات الأشياء بالكيل الذي يبين الأحجام، وبالميزان الذي يبين الكتلة ؛ لأن الكيل لا دخل له في الكتلة، إنما الكتلة تعرف بالميزان، بدليل أن كيلو القطن مثلاً اكبر بكثير من كيلو الحديد.
ومعنى ذلك أن ميزان التقدير يجب أن يكون سليماً ؛ لذلك يقول تعالى :﴿ وأوفوا الكيل إذا كلتم.. " ٣٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : يعني : أعطوا المقادير على قدر المطلوب من الطرفين دون نقص.
وقد قال تعالى في آية أخرى :﴿ ويل للمطففين " ١ " الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون " ٢ " وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون " ٣ " ﴾( سورة المطففين ) : ومعنى المطففين الذين يزيدون، وهؤلاء إذا اكتالوا على الناس، أي : أخذوا منهم. أخذوا حقهم وافياً، وهذا لا لوم عليه، وإنما اللوم على :﴿ وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون " ٣ " ﴾ ( سورة المطففين ) : أي : إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم.
( يخسرون )أي : ينقصون. هذا هو موضع الذم ومجال اللوم في الآية ؛ لأن الإنسان لا يلام على أنه استوفى حقه، بل يلام على أنه لم يسو بينه وبين الآخرين، ولم يعامل الناس بمثل ما يحب أن يعاملوه به.
ونلاحظ أن الكثيرين يفهمون أن التطفيف يكون في الكيل والميزان فحسب، لكنه أيضاً في السعر، فالبائع الذي ينقصك الكيلو عشرين جراماً مثلاً فقد بخسك في الوزن، وطفف عليك في الثمن أيضاً. ثم يقول تعالى :﴿ وزنوا بالقسطاس المستقيم.. " ٣٥ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : والمتأمل يجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما أراد دقة الأحجام في تعاملات الناس أمرهم بإيفاء الكيل حقه، هكذا :﴿ وأوفوا الكيل.. " ٣٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : أما في الوزن فقد ركز على دقته، وجعله بالقسطاس، ليس القسطاس فحسب بل المستقيم، إذن : لماذا هذه الدقة في الميزان بالذات ؟
لو نظرت إلى عملية الكيل لوجدتها واضحة مكشوفة، قلما يستطيع الإنسان الغش فيها، وكثيراً ما ينكشف أمره ويعلم تلاعبه ؛ لأن الكيل أمام الأعين والتلاعب فيه مكشوف.
أما الوزن فغير ذلك، الوزن مجال واسع للتلاعب، ولدى التجار ألف طريقة وطريقة يبخسون بها الوزن دون أن يدري بهم أحد ؛ لأن الميزان كما نعلم رافعة من النوع الأول، عبارة عن محور ارتكاز في الوسط، وكفة القوة في ناحية، وكفة المقاومة في الناحية الأخرى، فأي نقص في الذراعين يفسد الميزان، وأي تلاعب في كفة القوة أو المقاومة يفسد الميزان.
ولو تحدثنا عن ألاعيب البائعين في أسواقنا لطال بنا المقام ؛ لذلك أكد الحق سبحانه وتعالى على الدقة في الميزان خاصة ؛ لأنه مجال واسع للغش والخداع وأكل أموال الناس.
وسبق أن أوضحنا أن ميزان كل شيء بحسبه، ويتناسب مع قيمته ونفاسته، فالذي يزن الجير مثلاً غير الذي يزن اللوز، غير الذي يزن الذهب أو الألماس ؛ لذلك من معاني ( القسطاس المستقيم )أن يتناسب الميزان مع قيمة الموزون، فالذي يبيع الذهب مثلاً يزن أشياء ثمينة مهما كانت قلية في الميزان ؛ فإنها تساوي الكثير من المال.
لذلك فإن أهل الخبرة في هذه المسألة يقولون : احذر أن يدخل البائع رأسه قريباً من الميزان ؛ لأنه قد ينفخ في كفة الميزان، ولاشك أنك ستخسر كثيراً من جراء هذه النفخة ! !
لذلك نقول لهؤلاء الذين أخذت أيديهم على الغش والخداع في البيع والشراء : أنت تبيع للناس شيئاً واحداً وتغشهم فيها، وفي الوقت نفسه تشتري أشياء كثيرة من متطلبات الحياة، فاعلم جيداً أنك إن غششت الناس في سلعة واحدة فسوف تُغش في مئات السلع، وأنت بذلك خاسر لا محالة. مهما دارت بك الأوهام والظنون فحسبت أن المسألة في صالحك.
ولا تنس أن فوقك قيوماً، لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا تخفي عليه من أمرك خافية، وسوف يسلط عليك من يسقيك بنفس كأسك إلى أن تتبين لك حقيقة هذه الصفقة الخاسرة ؛ لأنك إن عميت على قضاء الأرض فلن تعمى على قضاء السماء، وسوف تذهب هذه الأموال التي اختلستها من أقوات الناس من حيث أتت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أصاب مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر ".
وكذلك في المقابل : من صدق الناس، ووفى لهم في بيعه وشرائه وتعاملاته يسر الله له من يوفي له ويصدق معه. ثم يقول تعالى :﴿ ذلك خير وأحسن تأويلاً " ٣٥ " ﴾( سورة الإسراء ) :( ذلك )أي : الوزن بالقسطاس المستقيم خير وأحسن ( تأويلاً )أي : عاقبة، ومعنى ذلك أن المقابل له ليس خيراً ولا أحسن عاقبة. فالذي يغش الناس ويخدعهم يظن أنه بغشه يزيد في ماله ويجلب الخير لنفسه. نقول له : أنت واهم، فليس في الغش والبخس خير سيجرئ الناس عليك فيغشوك، هذه واحدة ثم لا يلبث الناس أن يكتشفوا تلاعبك في الكيل والميزان فينصرفون عنك ويقاطعونك.
إذن : عدم الوزن بالقسطاس المستقيم لا هو خير، ولا هو أحسن عاقبة.
أما التاجر الصادق الذي يوفي الكيل والميزان، فإن الله تعالى ييسر له من يوفي له الكيل والميزان، وكذلك يشتهر بين الناس بصدقه وأمانته، فيقبلون عليه ويحرصون على التعامل معه. وهذا هو المراد بقوله تعالى :﴿ ذلك خير وأحسن تأويلاً " ٣٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : احسن عاقبة.
ينتقل الحق سبحانه وتعالى إلى قضية أخرى تنظم حركة الحياة والإنسان الذي استخلفه الله في الأرض ووهبه الحياة وأمده بالطاقات وبمقومات الحياة وضرورياتها.
وبعد أن تكفل له بالضروريات، دله على الترقي في الحياة بالبحث والفكر، واستخدام العقل المخلوق لله، والمادة المخلوقة لله بالطاقات المخلوقة لله، فيرقي ويثري حياته ومجتمعه.
وحركة الترقي والإثراء هذه لا تتم إلا على قضية ثابتة واضحة، فإذا تحركت في الحياة بناءً على هذه القضية فسوف تصل إلى النتيجة المرجوة.
فمثلاً، الطالب الذي يرغب في دخول كلية الحقوق مثلاً، لديه قضية واضحة مجزوم بها، فعندما يلتحق بالحقوق يجتهد، ويصل من خلالها إلى طموحاته ؛ لأنه سار على ضوء قضية اقتنع بها.
إذن : لابد أن تبني حركة الحياة على قضايا ثابتة، هذه القضايا الثابتة تجعل المتحرك في أي حركة واثقاً من أن حركته ستؤدي إلى النتيجة المطلوبة، فلو أردت مثلاً الذهاب إلى الإسكندرية أو إلى أسوان، فلن تتحرك إلا إذا تأكدت أن هذا الطريق هو الموصل إلى غايتك، وكذلك حركة الحياة لا يمكن أن تتم إلا بناءً على قضايا حقيقية مضبوطة في الكون، وهذا ما نسميه ( العلم ). وقد سبق أن أوضحنا معنى القضية، وأنها المقولة التي يحكم على قائلها بالصدق أو الكذب، كأن نقول : الأرض كروية، أو الشمس مضيئة، أو القمر منير، وهذه القضايا تعطيني قضية علمية مجزوماً بها وواقعة، ويمكن أن ندلل عليها. وهذا هو العلم.
أما الجهل فأن تجزم بقضية ليست واقعية فهي قضية كاذبة، وليس الجهل عدم العلم كما يعتقد البعض ؛ لأن عدم العلم أمية، والأمي ليس عنده قضية لا صادقة ولا كاذبة.
لذلك تجد الأمي أطوع في التعلم من الجاهل ؛ لأن الأمي بمجرد أن تعلمه قضية ما يأخذها ويتعلمها، أما الجاهل فيلزمك أولاً أن تخرج من ذهنه القضية المخالفة، ثم تعلمه القضية الصادقة. وقضايا الحياة يمكن أن تقسم إلى قسمين :
قضايا تختلف فيها الأهواء.
وقضايا تتفق فيها الأهواء.
فالقضايا التي تختلف فيها الأهواء : هي القضية التي يخدم بها كل قائل لها فكرة عنده فقط، وإن كانت ضارة بغيره، فمادام الأمر قائماً على الأهواء فلابد أن تختلف، فكل له هواه الخاص، فلو أن لكل واحد قضية ما التقينا على شيء أبداً. وصدق الحق تبارك وتعالى حين قال :﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض.. " ٧١ " ﴾( سورة المؤمنون ) : إذن : فما المخرج من هذا الاختلاف والتباين ؟ المخرج أن يخرج كل واحد منا من هوى نفسه أولاً، ثم نرد القضية التي اختلفت فيها أهواؤنا إلى من لا هوى له.
وربك سبحانه وتعالى هو وحده الذي لا هوى له، ونحن جميعاً خلقه، وكلنا عنده سواء، ليس منا من بينه وبين الله نسب أو قرابة، فشرع الله واحد للجميع، ولا غضاضة فالكل خاضع لهذا الشرع متبع له ؛ لأنه شرع الخالق سبحانه لا شرع أحد من الناس.
لذلك اشتهر قولهم : " اللي الشرع يقطع صباعه ميخرش دم ". فأنا لم أخضع لك، وأنت لم تخضع لي، بل الجميع خاضع لله تعالى منصاع لأمره. إذن : اتركوا قضايا الأهواء لله تعالى يشرعها لكم لكي ترتاحوا من تسلط بعضكم على بعض.
أما القضايا التي تتفق فيها الأهواء فهي القضايا المادية القائمة على المادة الصماء التي لا تجامل أحداً على حساب أحد، ولا مانع أن تتبعوا الآخرين فيها ؛ لأنكم سوف تلتقون عليها قهراً ورغماً عنكم، فالمعمل الذي تدخله لتجري التجارب التي توصلك لقضية ما مادية أو كيماوية معمل محايد لا يجامل أحداً.
وقد سبق أن قلنا : إن الكهرباء أو الكيمياء ليس فيها روسي وأمريكي ؛ لأن هذه أشياء مادية لا خلاف عليها، أما الذي جعل المعسكر الشرقي يختلف والمعسكر الغربي هي القضايا الأهوائية، فهذا شيوعي، وهذا رأسمالي.
لذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم وضع بنفسه هذا المبدأ في الوجود الإيماني حينما رأى الناس يؤبرون النخل، فأشار عليهم بعدم تأبيره، فأطاعوه ولم يؤبروا النخل في هذا العام، وكانت النتيجة أن شاص النخل ولم يثمر، وأثبتت التجربة الطبيعية أن ما أشار به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس صواباً.
يأتي هذا ممن ؟ من محمد بن عبد الله نبي الله ورسول، الذي يحرص على أن تأتي كل قضاياه صادقة صائبة، وما كان منه إلا أن قال : " أنتم أعلم بشئون دنياكم ". ليضع بذلك أسوة لعلماء الدين ألا يضعوا أنوفهم في قضايا الماديات، وقد قال الحق تبارك وتعالى :﴿ قد علم كل أناس مشربهم " ٦٠ " ﴾( سورة البقرة )، ويقول صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ". فإن أردت أن تتحرك في الحياة حركة سليمة مجدية، وحركة متساندة مع إخوانك غير متناقضة ؛ فالحق سبحانه يقول :﴿ لا تقف ما ليس لك به علم.. " ٣٦ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : لكي تسير في حركة الحياة على هدىً وبصيرة. ( لا تقف )أي : لا تتبع ولا تتدخل فيما لا علم لك به، كمن يدعي مثلاً العلم بإصلاح التليفزيون وهو لا يعلم، فربما أفسد أكثر مما يصلح. ومن هنا قال أهل الفقه : من قال لا أدري فقد أفتى ؛ لأنه بإعلان عدم معرفته صرف السائل إلى من يعلم، أما لو أجاب خطأ، فسوف يترتب على إجابته ما لا تحمد عقباه، والذي يسلك هذا المسلك في حياته تكون حركته في الحياة حركة فاشلة.
والفعل ( يقفو )مأخوذ من القفا وهو المؤخرة، وقد قال تعالى في آية أخرى :﴿ ثم قفينا على آثارهم برسلنا.. " ٢٧ " ﴾( سورة الحديد ) : أي : أتبعناهم. ويقفو أثره أي : يسير خلفه. وحينما نصح أحدهم رجلاً يريد أن يتزوج قال له : لا تتخذها حنانة، ولا منانة، ولا عشبة الدار، ولا كبة القفا.
فالحنانة التي لها ولد من غيرك يذكرها دائماً بأبيه فتحن إليه، والمنانة التي لديها مال تمن به عليك، وعشبة الدار هي المرأة الحسناء في المنبت السوء والمستنقع القذر، وكبة القفا هي التي لا تعيب الإنسان في حضوره، وتعيبه وتذمه في غيبته.
والعلم هنا يراد به العلم المطلق ؛ لأن الكثير من الناس كان يعتقد أن العلم يعني العلم الديني فقط، لكن العلم هو كل ما يثري حركة الحياة، والعلم علمان :
علم ديني، وهو الذي يقضي على الأهواء، ويوحدها إلى هوى واحد هو الهوى الإيماني.
وهذا العلم يتولاه الخالق سبحانه، وليس لنا دخل فيه ؛ لأن الصانع أدرى بصنعته، وهو الذي يضع لها قانون صيانتها ؛ لأنه يعلم ما يصلحها وما يفسدها. وكما أنك لا تذهب إلى الجزار ليضع لك قانون صيانة الإنسان إلا من خالقه عز وجل :﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " ١٤ " ﴾( سورة الملك ).
وهذا النوع من العلم قال الله تعالى عنه :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.. " ٧ " ﴾
( سورة الحشر ).
فليس لنا أن نتدخل فيه، أو نزيد عليه ؛ لأنه منهج الله الذي جاء ب " افعل ولا تفعل "، وهو منهج لا يقبل الزيادة أو التعديل، فما كان فيه أمر ونهي فعليك الالتزام به، وإلا لو خرجت عن هذا الإطار الذي رسمه لك ربك وخالقك فسوف تحدث في الكون فساداً بترك الأمر أو بإتيان النهي. أما الأمور التي تركها الخالق سبحانه ولم يرد في شأنها أمر أو نهي فأنت حر فيها، تفعل أو لا تفعل.
والمتأمل في شرع الخالق سبحانه يجد أمور التكليف بافعل ولا تفعل قليلة إذا ما قيست بالأمور التي ترك لك الحرية فيها، إذن : فدع لربك وخالقك والأعلم بك مجالاً يحكم من خلاله حياتك وينظمها لك، ألا يجد بنا ونحن عباده وصنعته أن نحكمه في أمور ديننا، ونخرج أنوفنا مما اختص به سبحانه ؟
أما النوع الآخر من العلم، فهو العلم المادي التجريبي الذي لا يخضع للأهواء، فقد جعله الخالق سبحانه مجالاً للبحث والتسابق، ومضماراً يجري فيه الجميع ؛ لأنهم في النهاية سيلتقون فيه قهراً ورغماً عنهم. وقد أعطانا الحق سبحانه وتعالى مثالاً لهذا النوع من العلم، فقال تعالى :﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود " ٢٧ " ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك.. " ٢٨ " ﴾ ( سورة فاطر ) : فذكر الحق سبحانه أجناس الوجود كلها : الإنسان، والحيوان، والنبات، والجماد. ثم ختم ذلك بقوله :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء.. " ٢٨ " ﴾( سورة فاطر ). فهذه ظواهر الكون، اربع فيها كما شئت بحثاً ودراسة، وإن أحسنت الإمعان فيها فسوف توصلك إلى ظواهر أخرى تثري حياتك وترقيها، فالذي اكتشف عصر البخار، والذي اكتشف العجلة والكهرباء والجاذبية وغيرها لم يخلق جديداً في كون الله، إنما أحسن النظر والتأمل فتوصل إلى ما يريح المجتمع ويسعده.
لذلك، فالحق سبحانه وتعالى يحذرنا أن نمر على ظواهر الكون في إعراض وغفلة ودون تمعن فيها :
﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون " ١٠٥ " ﴾ ( سورة يوسف ).
والذين عبروا عن هذه الإنجازات العلمية بكلمة ( الاكتشافات )كانوا أمناء في التعبير عن الواقع الفعلي، فهم لم يخلقوا جديداً في الكون، فكل هذه الأشياء موجودة، والفضل لهم في الاهتداء إليها واكتشافها، ومن هنا فكلمة ( اختراع )ليست دقيقة في التعبير عن هذه الاكتشافات.
فإذا كان الحق سبحانه نهانا عن تتبع ما ليس لنا به علم، فماذا نتبع ؟ نتبع ما نعلمه وما نتيقن منه من علوم، فإن كانت في الدين تركناها للخالق سبحانه يقننها لنا، وإن كانت في أمور الدنيا أعملنا فيها عقولنا بما ينفعنا ويثري حياتنا ؛ لذلك تكلم الحق سبحانه بعد ذلك عن وسائل إدراك العلم، فقال :﴿ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا " ٣٦ " ﴾( سورة الإسراء ) : ومادام الحق سبحانه قد نهانا عن تتبع ما لا نعلم، وأمرنا أن نسير على ضوء ما نعلم من العلم اليقيني فلابد أن يسأل المرء عن وسائل العم هذه، لأنه لولا وسائل الإدراك هذه ما علم الإنسان شيئاً، وهذا واضح في قول الحق تبارك وتعالى :﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون " ٧٨ " ﴾( سورة النحل ) : وهل يشكر الإنسان إلا على حصيلة أخذها ؟ هذه الحصيلة هي العلم. وهذه الحواس تؤدي عملها في الإنسان بمجرد أن تنشأ فيه، وبعد أن يخرج إلى الحياة، والبعض يظن أن الطفل الصغير لا يفهم إلا عندما يكبر ويستطيع الكلام والتفاهم مع الآخرين، والحقيقة أن الطفل يدرك ويعي من الأيام الأولى لولادته.
ولذلك، فإن علماء وظائف الأعضاء يقولون : إن الطفل يولد ولديه ملكات إدراكية سماها العلماء احتياطاً " الحواس الخمس الظاهرة "، وقد كان احتياطهم في محله لأنهم اكتشفوا بعد ذلك حواس أخرى، مثل حاسة العضل مثلاً التي نميز بها بين الخفيف والثقيل.
وإن كانت حواس الإنسان كثيرة فإن أهمها : السمع والبصر، وقد وردت في القرآن بهذا الترتيب، السمع أولاً، ثم البصر لأن السمع يسبق البصر، فالإنسان بمجرد أن يولد تعمل عنده حاسة السمع، أما البصر فإنه يتخلف عن السمع لعدة أيام من الولادة، إذن : فهو أسبق في أداء مهمته، هذه واحدة.
الأخرى : أن السمع هو الحاسة الوحيدة التي تؤدي مهمتها حتى حال النوم، وفي هذا حكمة بالغة للخالق سبحانه، فبالسمع يتم الاستدعاء من النوم.
وقد أعطانا الخالق س
مازالت الآيات تسير في خط واحد، وترسم لنا طريق التوازن الاجتماعي في مجتمع المسلمين، فالمجتمع المتوازن يصدر في حركته عن إله واحد، هو صاحب الكلمة العليا وصاحب التشريع.
والمتتبع لهذه الآيات يجد بها منهجاً قويماً لبناء مجتمع متماسك ومتوازن، يبدأ بقوله تعالى :﴿ لا تجعل مع الله إلهاً آخر.. " ٢٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : وهذه قضية القمة التي لا تنتظم الأمور إلا في ظلها، ثم قسم المجتمع إلى طبقات، فأوصى بالطبقة الكبيرة التي أدت مهمتها في الحياة، وحان وقت إكرامها ورد الجميل لها، فأوصى بالوالدين وأمر ببرهما.
ثم توجه إلى الطبقة الصغيرة التي تحتاج إلى رعاية وعناية، فأوصى بالأولاد، ونهى عن قتلهم خوف الفقر والعوز، وخص بالوصية اليتيم ؛ لأنه ضعيف يحتاج إلى مزيد من الرعاية والعناية والحنو والحنان.
ثم تكلم عن المال، وهو قوام الحياة، واختار فيه الاعتدال والتوسط، ونهى عن طرفيه : الإسراف والإمساك. ثم نهى عن الفاحشة، وخص الزنا الذي يلوث الأعراض ويفسد النسل، ونهى عن القتل وسفك الدماء.
ثم تحدث عما يحفظ للإنسان ماله، ويحمي تعبه ومجهوداته، فأمر بتوفية الكيل والميزان، ونهى عن الغش فيهما والتلاعب بهما، ثم حث الإنسان على الأمانة العلمية، حتى لا يقول بما لا يعلم، وحتى لا يبني حياته على نظريات خاطئة.
ألم تر أنه منهج وأسلوب حياة يضمن سلامة المجتمع، وسلامة المجتمع ناشئة من سلامة حركة الإنسان فيه، إذن : الإنسان هو مدار هذه الحركة الخلافية في الأرض ؛ لذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أن يضع له توازناً اجتماعياً.
وأول شيء في هذا التوازن الاجتماعي أننا جميعاً عند الله سواء، وكلنا عبيده، وليس منا من بينه وبين الله قرابة أو نسب، فالجميع عند الله عبيد كأسنان المشط، لا فرق بينهم إلا بالتوقى والعمل الصالح.
وإن تفاوتت أقدارنا في الحياة فهو تفاوت ظاهري شكلي ؛ لأنك حينما تنظر إلى هذا التفاوت لا تنظر إليه من زاوية واحدة فتقول مثلاً : هذا غني، وهذا فقير.
ومعظم الناس يهتمون بهذه الناحية من التفاوت، ويدعون غيرها من النواحي الأخرى، وهذا لا يصح، بل انظر إلى الجوانب الأخرى في حياة الإنسان، وإلى الزوايا المختلفة في النفس الإنسانية، ولو سلكت هذا المسلك فسوف تجد أن مجموع كل إنسان يساوي مجموع كل إنسان، وأن الحصيلة واحدة، وصدق الله العظيم القائل :﴿ إن أكرمكم عند الله أتقاكم.. " ١٣ " ﴾( سورة الحجرات ) : ومادام المجتمع الإيماني على هذه الصورة فلا يصح لأحد أن يرفع رأسه في المجتمع ليعطي لنفسه قداسة أو منزلة فوق منزلة الآخرين، فقال تعالى :﴿ ولا تمش في الأرض مرحاً.. " ٣٧ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : فخراً واختيالاً، أو بطراً أو تعالياً ؛ لأن الذي يفخر بشيء ويختال به، ويظن أنه أفضل من غيره، يجب أن يضمن لنفسه بقاء ما افتخر به، بمعنى أن يكون ذاتياً فيه، لا يذهب عنه ولا يفارقه، لكن من حكمة الله سبحانه أن جعل كل ما يمكن أن يفتخر به الإنسان هبة له، وليست أصيلة فيه.
كل أمور الإنسان بداية من إيجاده من عدم إلى الإمداد من عدم هي هبة يمكن أن تسترد في يوم من الأيام، وكيف الحال إذا تكبرت بمالك، ثم رآك الناس فقيراً، أو تعاليت بقوتك ثم رآك الناس عليلاً ؟
إذن : فالتواضع والأدب أليق بك، والتكبر والتعالي لا يكون إلا للخالق سبحانه وتعالى، فكيف تنازعه سبحانه صفة من صفاته ؟ وقد نهانا الحق سبحانه عن ذلك ؛ لأنه لا يستحق هذه الصفة إلا هو سبحانه وتعالى، وكون الكبرياء لله تعالى يعصمنا من الاتضاع للكبرياء الكاذب من غيرنا.
ومن أحب أن يرى مساواة الخلق أمام الخالق سبحانه، فلينظر إلى العبادات، ففيها استطراق العبودية في الناس، فحينما ينادى للصلاة مثلاً ترى الجميع سواسية : الغني والفقير، والرئيس والمرؤوس، الوزير مثلاً والخفير، الكل راكع أو ساجد، الكل خاضع لله متذلل لله فقير لله، الكل عبيد لله بعد أن خلعوا أقدارهم، عندما خلعوا نعالهم، ففي ساحة الرحمن يتساوى الجميع، وتتجلى لنا هذه المساواة بصورة أوضح في مناسك الحج.
والأهم من هذا أن الرئيس أو الكبير لا يأنف، ولا يرى غضاضة في أن يراه مرؤوسه وهو في هذا الموقف وفي هذا الخضوع والتذلل، لماذا ؟ لأن الخضوع هنا والتذلل لله، وهذا عين العزة والشرف والكرامة. ثم يقول تعالى :﴿ إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً " ٣٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : في هذه العبارة نلحظ إشارة توبيخ وتقريع، كأن الحق سبحانه وتعالى يقول لهؤلاء المتكبرين، ولأصحاب الكبرياء الكاذب : كيف تتكبرون وتسيرون فخراً وخيلاء بشيء موهوب لكم غير ذاتي فيكم ؟
فأنتم بهذا التكبر والتعالي لن تخرقوا الأرض، بل ستظل صلبة تتحداكم، وهي أدنى أجناس الوجود وتداس بالأقدام، وكذلك الجبال وهي أيضاً جماد ستظل أعلى منكم ولن تطاولوها. والحق سبحانه وتعالى يوبخ عبده المؤمن المكرم ليبقى له على التكريم في :﴿ ولا تمش في الأرض مرحاً.. " ٣٧ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : وحينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يوبخ أهل التكبر الكاذب أتى بأدنى أجناس الوجود بالأرض والجبال وهي جماد ؛ لكنه قد يسمو على الإنسان ويفضل عليه.
والناظر لأجناس الكون : الجماد والنبات والحيوان والإنسان، يجد الإنسان ينتفع بكل هذه الأجناس، فالجماد ينفع النبات، والحيوان والنبات ينفع الحيوان والإنسان، والحيوان ينفع الإنسان، وهكذا جميع الأجناس مسخرة في خدمة الإنسان، فما وظيفتك أنت أيها الإنسان ؟ ومن تخدم ؟
لابد أن يكون لك دور في الكون ووظيفة في الحياة، وإلا كانت الأرض والحجر أفضل منك، فابحث لك عن مهمة في الوجود.
وفي فلسفة الحج أمر عجيب، فالجماد الذي هو أدنى الأجناس نجد له مكانة ومنزلة، فالكعبة حجر يطوف الناس من حوله، وفي ركنها الحجر الأسعد الذي سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبيله وهو حجر، وعليه يتزاحم الناس ويتشرفون بتقبيله والتمسح به.
وهذا مظهر من مظاهر استطراق العبودية في الكون، فالإنسان المخدوم الأعلى لجميع الأجناس يرى الشرف والكرامة في تقبيل حجر.
وكذلك النبات يحرم قطعة، وإياك أن تمتد يدك إليه، وكذلك الحيوان يحرم صيده، فهذه الأشياء التي تخدمني أتى الوقت الذي أخدمها وأقدسها، وجعلها الحق سبحانه وتعالى مرة في العمر لنلمح الأصل، ولكي لا يغتر الإنسان بإنسانيته، وليعلم أن العبودية لله تعالى تسري في الكون كله.
فإياك أنها الإنسان أن تخدش هذا الاستطراق العبودي في الكون بمرح أو خيلاء أو تعالٍ.
أي : كل ما تقدم من وصايا وتوجيهات بداية من قوله تعالى :﴿ لا تجعل مع الله إلهاً آخر.. " ٢٢ " ﴾
( سورة الإسراء ) : وهذه الأمور التي تقدمت، والتي تحفظ للمجتمع توازنه وسلامته فيها السيئ وفيها الحسن، والسيئ هو المكروه من الله تعالى، والله تعالى لا يكره إلا ما خالف منهج العبودية له سبحانه، أما الإنسان فيكره ما يخالف هواه، ولا يتفق ومزاجه.
وهذه الأوامر والنواهي التي تقدمت يقولون : إنها الوصايا العشر التي نزلت على موسى عليه السلام والمقصود في قوله تعالى :﴿ وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها.. " ١٤٥ " ﴾( سورة الأعراف ).
( ذلك )أي : ما تقدم من الوصايا.
( الحكمة )هي : وضع الشيء في موضعه المؤدي للغاية منه، لتظل الحكمة سائدة في المجتمع تحفظه من الخلل والحمق والسفه والفساد. وقوله :﴿ ولا تجعل مع الله إلهاً آخر.. " ٣٩ " ﴾ ( سورة الإسراء ) :
لسائل أن يسأل : لماذا كرر هذا النهي، وقد سبق أن ذكر في استهلال المجموعة السابقة من الوصايا ؟
الحق سبحانه وتعالى وضع لنا المنهج السليم الذي ينظم حياة المجتمع، وقد بدأه بأن الإله واحد لا شريك له، ثم عدل نظام المجتمع كله بطبقاته وطوائفه وأرسى قواعد الطهر والعفة ليحفظ سلامة النسل، ودعا إلى تواضع الكل للكل.
فالحصيلة النهائية لهذه الوصايا أن يستقيم المجتمع، ويسعد أفراده بفضل هذا المنهج الإلهي. إذن : فإياك أن تجعل معه إلهاً آخر، وكرر الحق سبحانه هذا النهي :﴿ ولا تجعل مع الله إلهاً آخر.. " ٣٩ " ﴾
( سورة الإسراء ) : لأنه قد يأتي على الناس وقت يحسنون الظن بعقول بعض المفكرين، فيأخذون بأقوالهم ويسيرون على مناهجهم، ويفضلونها على منهج الحق تبارك وتعالى، فيفتنون الناس عن قضايا دينهم الحق إلى قضايا أخرى يوهمون الناس أنها أفضل مما جاء به الدين.
إذن : لا يكفي أن تؤمن أولاً، ولكن احذر أن يزحزك أحد عن دينك فلا تجعل مع الله إلهاً آخر يفتنك عن دينك، فتكون النتيجة :﴿ فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً " ٣٩ " ﴾ ( سورة الإسراء ) :( ملوماً ) : لأنك أتيت بما تلام عليه، ( مدحوراً ) : أي : مطرود مبعداً من رحمة الله، وهذا الجزاء في الآخرة.
أما الذي لا يؤمن بها، فلابد لكي نستطيع العيش معه في الدنيا، أن يذيقه الله بعض العذاب، ويعجله له في الدنيا قبل عذاب الآخرة، كما قال تعالى :﴿ فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى " ١٢٣ " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا.. " ١٢٤ " ﴾( سورة طه ) : أي : في الدنيا. وقد ذكر الحق سبحانه وتعالى في قصة ذي القرنين :﴿ حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا " ٨٦ " قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا " ٨٧ " ﴾( سورة الكهف ) :
فقوله :﴿ فسوف نعذبه.. " ٨٧ " ﴾ ( سورة الكهف ) : لأنه ممكن في الأرض، ومنوط به حفظ ميزان الحياة واستقامتها، حتى عند الذين لا يؤمنون بالآخرة، وإلا فلو أخرنا العذاب عن هؤلاء إلى الآخرة لأفسدوا على الناس حياتهم، وعاثوا في الأرض يعربدون ويفسدون.
ولذلك لا يموت ظلوم في الكون حتى ينتقم الله منه، ويذيقه عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة، ولابد أن يراه المظلوم ليعلم أن عاقبة الظلم وخيمة، في حين أن المظلوم في رعاية الله وتأييده ينصره بما يشاء من نعمه وفضله، حتى أن الظالم لو علم بما أعده الله للمظلوم لضن عليه بالظلم.
لما جعل بعض المشركين لله ولداً، فمنهم من قالوا : المسيح ابن الله، ومنهم من قالوا : عزيز ابن الله، ومنهم من قالوا : الملائكة بنات الله، فوبخهم الله تعالى : كيف تجعلون للخالق سبحانه البنات ولكم البنين، إنها قسمة جائرة، كما قال الحق سبحانه في آية أخرى :﴿ ألكم الذكر وله الأنثى " ٢١ " تلك إذا قسمة ضيزى " ٢٢ " ﴾ ( سورة النجم ) : أي : قسمة جائرة ظالمة. قوله :﴿ أفأصفاكم.. " ٤٠ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : اصطفاكم واختار لكم البنين، وأخذ لنفسه البنات ؟
ويقول في آية أخرى :﴿ وجعلوا له من عباده جزءاً.. " ١٥ " ﴾( سورة الزخرف ).
لذلك قال تعالى بعدها :﴿ إنكم لتقولون قولاً عظيماً " ٤٠ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : فوصف قولهم بأنه عظيم في القبح والافتراء على الله، كما قال في آية أخرى :﴿ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا " ٨٨ " لقد جئتم شيئا إداً " ٨٩ " ﴾( سورة مريم ).
( صرفنا )أي : حولنا الشيء من حال إلى حال، ومنها قوله تعالى :﴿ وتصريف الرياح.. " ١٦٤ " ﴾ ( سورة البقرة ) : يعني تغييرها من حال إلى حال، فمرة : تراها سكسكاً عليلة هادئة، ومرة تجدها رخاءً أي : قوية، ومرة : تجدها إعصاراً مدمراً. والرياح قد تكون لواقح تأتي بالخير والنماء، وقد تكون عقيماً لا خير فيها. هذا هو المراد بالتصريف. فمعنى :﴿ ولقد صرفنا في هذا القرآن.. " ٤١ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : صرف مسألة ادعاء اتخاذ الله الأبناء في القرآن، وعالجها في كثير من المسائل ؛ لأنه أمر مهم عالجه القرآن علاجات متعددة في مقامات مختلفة من سوره، فتكرر ذكر هذه المسألة. والتكرار قد يكون في ذات الشيء، وقد يكون باللف بالشيء، كما في قوله تعالى :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان " ١٣ " ﴾( سورة الرحمن ).
وقوله :﴿ وما يزيدهم إلا نفوراً " ٤١ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : بدل أن يذكروا ويعودوا إلى جادة الصواب ازدادوا إعراضاً ونفوراً. ولنا أن نسأل : لماذا الإعراض والنفور منهم ؟
لأنهم أرادوا الاحتفاظ بالسلطة الزمنية التي كانت لهم قبل الإسلام، ولكي نوضح المقصود بالسلطة الزمنية نقول : لو درسنا تواريخ القوانين في العالم نجد أن القانون الوضعي الذي وضعه البشر لم يأت أول الأمر، بل جاء نتيجة تسلط الكهنة، وكانوا هم أصحاب القانون يضعونه باسم الدين، ويلزمون الناس به، ولكن لوحظ عليهم أنهم يحكمون في قضية ما بحكم، ثم بعد فترة يحكمون في نفس القضية بحكم مخالف للأول، فانصرف الناس عن أحكام الكهنة، ووضعوا لأنفسهم هذه القوانين الوضعية، وبذلك أصبح لهؤلاء ما يسمى بالسلطة الزمنية.
وهذه السلطة الزمنية هي التي منعت يهود المدينة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا على علم ومعرفة بأوصافه وبرسالته ومن زمن بعثته، وكانوا حينما يرون عباد الأصنام في مكة يقولون لهم : سيأتي زمان يبعث فيه نبي في هذا البلد، وسوف نتبعه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، وقد كانوا من قبل يستفتحون به على الذين كفروا. وعن هذا يقول الحق سبحانه في حق يهود المدينة :﴿ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين " ٨٩ " ﴾( سورة البقرة ) : لقد تنكر اليهود لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، مع أنهم على يقين من صدقه ؛ لأن هذه الرسالة ستحرمهم هذه السلطة الزمنية، وستقضي على السيادة العلمية والسيادة الاقتصادية والسيادة الحربية التي كانت لهم قبل الإسلام.
أي : لو كان مع الله آلهة أخرى لطلبت هذه الآلهة طريقاً إلى ذي العرش. وقد عالج الحق تبارك وتعالى هذه القضية في قوله :﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو.. " ١٨ " ﴾( سورة آل عمران ) : وهذه قضية : إما أن تكون صادقة، وإما أن تكون غير ذلك. فإن كانت صادقة فقد انتهت المسألة، وإن كانت غير صادقة، وهناك إله ثانٍ، فأين هو ؟ لماذا لم نسمع به ؟ فإن كان موجوداً، ولا يدري أو كان يدري بهذه القضية ولكنه تقاعس عن المواجهة ولم يعارض، ففي كل الأحوال لا يستحق أن يكون إلهاً.
إذن : مادام أن الله تعالى شهد لنفسه بالوحدانية، ولم يقم له معارض فقد سلمت له هذه الدعوى. وكلمة ( ذي العرش )لا تقال إلا لمن استتب له الأمر بعد عراك وقتال، فيصنع له كرسي أو سرير يجلس عليه.
ابتغاء الطريق إلى ذي العرش، إما ليواجهوه ويوقفوه عند حده ويبطلوا دعوته، فإن غلبوا فقد انتهت المسألة، وإن غلبوا فعلى الأقل يذهب كل إله بما خلق كما قال تعالى :﴿ ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعضٍ.. " ٩١ " ﴾( سورة المؤمنون ) : أو : يبتغون إليه سبيلاً، ليكونوا من خلقه ومن عبيده ؛ لذلك يقول الحق سبحانه في موضع آخر :﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون.. " ١٧٢ " ﴾( سورة النساء ).
ويقول :﴿ أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه.. " ٥٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : فهؤلاء الذين أشركتموهم مع الله فقلتم : المسيح ابن الله، وعزيز ابن الله، والملائكة بنات الله، كل هؤلاء فقراء إلى الله يبتغون إليه الوسيلة، حتى أقربهم إلى الله وهم الملائكة يبتغون إلى الله الوسيلة فغيرهم إذن أولى.
وقوله ( سبحانه )يعني تنزيهاً مطلقاً له تعالى في ذاته، وفي صفاته، وفي أفعاله، فلله تعالى ذات ليست كذاتك، وله صفات ليست كصفاتك، وله أفعال ليست كأفعالك ؛ لأن الأشياء تختلف في الوجود بحسب الموجد لها.
فمثلاً : لو بني كل من العمدة، ومأمور المركز، والمحافظ بيتاً، فسوف يتفاوت هذا البناء من واحد للآخر، بحسب قدرته ومكانته. وكذلك لابد من وجود هذا التفاوت بين إله ومألوه، وبين رب ومربوب، وبين عابد ومعبود.
إذن : كل الأشياء في المتساوي تتفاوت بتفاوت الناس. وقوله :﴿ علواً كبيراً " ٤٣ " ﴾( سورة الإسراء ).
أي : تعالى الله وتنزه عما يقول هؤلاء علواً كبيراً ؛ لأن الناس تتفاوت في العلو. ونلاحظ أن الحق سبحانه اختار ( كبيراً )ولم يقل : اكبر. وهذا من قبيل استعمال اللفظ في موضعه المناسب ؛ لأن كبيراً تعني : أن كل ما سواه صغير، لكن اكبر تعني أن ما دونه كبير أي : مشارك له في الكبر.
لذلك نقول في نداء الصلاة : الله اكبر وهي صفة له سبحانه وليست من أسمائه ؛ ذلك لأن من أعمال الحياة اليومية ما يمكن أن يوصف بأنه كبير، كأعمال الخير والسعي على الأرزاق، فهذه كبيرة، ولكن : الله اكبر.
التسبيح : هو حيثية الإيمان بالله ؛ لأنك لا تؤمن بشيء في شيء إلا أن تثق أن من آمنت به فوقك في ذلك الشيء، فأنت لا توكل أحد بعمل إلا إذا أيقنت أنه أقدر منك وأحكم وأعلم.
فإذا كنت قد آمنت بإله واحد، فحيثية ذلك الإيمان أن هذا الإله الواحد فوق كل المألوهين جميعاً، وليس لأحد شبه به، وإن اشترك معه في مطلق الصفات، فالله غني وأنت غني، لكن غنى الله ذاتي وغناك موهوب، يمكن أن يسلب منك في أي وقت.
وكذلك في صفة الوجود، فالله تعالى موجود وأنت موجود، لكن وجوده تعالى لا عن عدم، بل هو وجود ذاتي ووجودك موهوب سينتهي في أي وقت.
إذن : فتسبيح الله هو حيثية الإيمان به كإله، وإلا لو أشبهناه في شيء أو أشبهنا في شيء ما استحق أن يكون إلهاً.
والتسبيح : هو التنزيه، وهذا ثابت لله تعالى قبل أن يوجد من خلقه من ينزهه، والحق سبحانه منزه بذاته والصفة كائنة له قبل أن يخلق الخلق ؛ لأنه خالق قبل أن يخلق، كما نقول : فلان شاعر، أهو شاعر لأنه قال قصيدة ؟ أم شاعر بذاته قبل أن يقول شعراً ؟
الواقع أن الشعر موهبة، وملكة عنده، ولولاها ما قال شعراً، إذن : هو شاعر قبل أن يقول. كذلك فصفات الكمال في الله تعالى موجودة قبل أن يوجد الخلق.
لذلك فإن المتتبع لهذه المادة في القرآن الكريم مادة ( سبح )يجدها بلفظ ( سبحان )في أول الإسراء :
﴿ سبحان الذي أسرى.. " ١ " ﴾( سورة الإسراء ) : ومعناها أن التنزيه ثابت لله تعالى قبل أن يخلق من ينزهه. ثم بلفظ :﴿ سبح لله ما في السماوات وما في الأرض.. " ١ " ﴾( سورة الحديد ) : بصيغة الماضي، والتسبيح لا يكون من الإنسان فقط، بل من السماوات والأرض، وهي خلق سابق للإنسان. ثم يأتي بلفظ :﴿ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض.. " ١ " ﴾( سورة الجمعة ) : بصيغة المضارع ؛ ليدل على أن تسبيح الله ليس في الماضي، بل ومستمر في المستقبل لا ينقطع. إذن : مادام التسبيح والتنزيه ثابتاً لله تعالى قبل أن يخلق من ينزهه، وثابتاً لله من جميع مخلوقاته في السماوات والأرض، فلا تكن أيها الإنسان نشازاً في منظومة الكون، ولا تخرج عن هذا النشيد الكوني :﴿ سبح اسم ربك الأعلى " ١ " ﴾( سورة الأعلى ).
وقوله تعالى :﴿ وإن من شيءٍ.. " ٤٤ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : ما من شيء، كل ما يقال له شيء. والشيء هو جنس الأجناس، فالمعنى أن كل ما في الوجود يسبح بحمده تعالى.
وقد وقف العلماء أمام هذه الآية، وقالوا : أي تسبيح دلالة على عظمة التكوين، وهندسة البناء، وحكمة الخلق، وهذا يلفتنا إلى أن الله تعالى منزه ومتعالٍ وقادر، ولكنهم فهموا التسبيح على أنه تسبيح دلالة فقط ؛ لأنهم لم يسمعوا هذا التسبيح ولم يفهموه. وقد أخرجنا الحق سبحانه وتعالى من هذه المسألة بقوله :﴿ ولكن لا تفقهون تسبيحهم.. " ٤٤ " ﴾( سورة الإسراء ) : إذن : يوجد تسبيح دلالة فعلاً، لكنه ليس هو المقصود، المقصود هنا التسبيح الحقيقي كل بلغته. فقوله تعالى :﴿ ولكن لاتفقهون تسبيحهم.. " ٤٤ " ﴾( سورة الإسراء ) : يدل على أنه تسبيح فوق تسبيح الدلالة الذين آمن بمقتضاه المؤمنون، إنه تسبيح حقيقي ذاتي ينشأ بلغة كل جنس من الأجناس، وإذا كنا لا نفقه هذا التسبيح، فقد قال تعالى :﴿ كل قد علم صلاته وتسبيحه.. " ٤١ " ﴾ ( سورة النور ) : إذن : كل شيء في الوجود علم كيف يصلي لله، وكيف يسبح لله، وفي القرآن آيات تدل بمقالها ورمزيتها على أن كل عالم في الوجود له لغة يتفاهم بها في ذاته، وقد يتسامى الجنس الأعلى ليفهم عن الجنس الأدنى لغته، فكيف نستبعد وجود هذه اللغة لمجرد أننا لا نفهمها ؟
وهاهم الناس أنفسهم ولهم في الأداء القولي لغة يتفاهمون بها، ومع ذلك تختلف بينهم اللغات، ولا يفهم بعضهم بعضاً، فإذا ما تكلم الإنجليزي مع أنه يتكلم بألفاظ العربي ومع ذلك لا يفهمه ؛ لأنه ما تعلم هذه اللغة.
واللغة ظاهرة اجتماعية، بمعنى أن الإنسان يحتاج للغة ؛ لأنه في مجتمع يريد أن يتفاهم معه ليعطيه ما عنده من أفكار، ويسمع ما عنده من أفكار فلابد من اللغة لنقل هذه الأفكار، ولو أن الإنسان وحده ما كان في حاجة إلى لغة ؛ لأنه سيفعل ما يخطر بباله وتنتهي المسألة.
واللغة لا ترتبط بالدم أو الجنس أو البيئة ؛ لأنك لو أتيت بطفل إنجليزي مثلاً، ووضعته في بيئة عربية سيتكلم العربية ؛ لأن اللغة ظاهرة اجتماعية تعتمد على السمع والمحاكاة ؛ لذلك إذا لم تسمع الأذن لا
تستطيع أن تتكلم، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ صم بكم عمي.. " ١٨ " ﴾( سورة البقرة ) : فهم بكم لا يتكلمون ؛ لأنهم صم لم يسمعوا شيئاً، فإذا لم يسمع الإنسان اللفظ لا يستطيع أن يتحدث به ؛ لأن ما تسمعه الأذن يحكيه اللسان.
إذن : بالسماع انتقلت اللغة، وكل سمع من أبيه، ومن البيئة التي يعيش فيها، فإذا ما سلسلت هذه المسألة ستصل إلى آدم عليه السلام وهنا يأتي السؤال : وممن سمع آدم اللغة التي تكلم بها ؟
وقد حل لنا القرآن الكريم هذه القضية في قوله تعالى :﴿ وعلم آدم الأسماء كلها.. " ٣١ " ﴾ ( سورة البقرة ) : وأكثر من ذلك، فقد يتكلم العربي بنفس لغتك ولا تفهم عنه ما يقول، واللغة هي اللغة، كما حدث مع أبي علقمة النحوي، وكان يتقعر في كلامه ويأتي بألفاظ شاذة غير مشتهرة، وقد أتعب بذلك من حوله، وخاصة غلامه الذي ضاق به ذرعاً لكثرة ما سمع منه من هذا التقعر.
ويروي أنه في ذات ليلة قال أبو علقمة لغلامه :( أصقعت العتاريف ) ؟ فرد عليه الغلام قائلاً :( زقفيلم ). وكانت المرة الأولى التي يستفهم فيها أبو علقمة عن كلمة، فقال : يا بني وما ( زقفيلم ) ؟ قال : وما ( صقعت العتاريف ) ؟ قال : أردت : أصاحت الديكة ؟ فقال الغلام : وأنا أردت لم تصح.
إذن : فكيف نستبعد أننا لا نعلم لغة المخلوقات الأخرى من حيوان ونبات وجماد ؟ ألم يكفنا ما أخبرنا الله به من وجود لغة لجميع المخلوقات، وإن كنا لا نفهمها ؛ لأننا نعتقد أن اللغة هي النطق باللسان فقط، ولكن اللغة أوسع من ذلك. فهناك مثلاً لغة الإشارة، ولغة النظرات، ولغة التلغراف.
إذن : اللغة ليست اللسان فقط، بل هي استعداد لاصطلاح يفهم ويتعارف عليه، فالخادم مثلاً يكفي أن ينظر إليه سيده نظرة يفهم منها ما يريد، فهذه النظرة لون من ألوان الأداء. والآن بدأنا نسمع عن قواميس يسجل بها لغات بعض الحيوانات لمعرفة ما تقول.
وقد أعطانا الحق تبارك وتعالى إشارات تدل على أن لكل عالم لغة يتفاهم بها، كما في قوله تعالى :﴿ وسخرنا مع داود الجبال يسبحن.. " ٧٩ " ﴾( سورة الأنبياء ) : فالجبال تسبح مع داود، وتسبح مع غيره، ولكن المراد هنا أنها تسبح معه ويوافق تسبيحها تسبيحه، وكأنهما في أنشودة جماعية منسجمة. إذن : فلابد أن داود عليه السلام قد فهم عنها وفهمت عنه.
وكذلك النملة التي تكلمت أمام سليمان عليه السلام ففهم كلامها، وتبسم ضاحكاً من قولها. وقد علمه الله منطق الطير. إذن : لكل جنس من الأجناس منطق يسبح الله به، ولكن لا نفقه هذا التسبيح ؛ لأنه تسبيح بلغة مؤدية معبرة يتفاهم بها من عرف التواضع عليها.
وقد جعل الحق سبحانه وتعالى تنزيهه مطلقاً ينقاد له الجميع، حتى الكافر ينقاد لتنزيه الله قهراً عنه، مع أن لديه ملكة الاختيار بين الكفر أو الإيمان، لكن أراد الحق سبحانه أن يكون تنزيهه مطلقاً من الجماد والنبات والحيوان، ومن المؤمن والكافر. كيف ذلك ؟
أطلق الحق سبحانه على ذاته لفظ الجلالة ( الله )فهو علم على واجب الوجود، ثم تحدى الكافرين أن يسموا أحداً بهذا الاسم، فقال :﴿ هل تعلم له سمياً " ٦٥ " ﴾( سورة مريم ) : ومع ما عندهم من إلف
بالمخالفة وعناد بالإلحاد، مع ذلك لم يجرؤ أحد منهم أن يسمي ابناً له بهذا الاسم، ومعلوم أن التسمية أمر اختياري يطرأ على الجميع.
إذن : فهذا تنزيه لله تعالى، حتى من الكافر رغماً عنه، وهو دليل على عظمته سبحانه وجلاله، هذه العظمة وهذا الجلال الذي لم يجرؤ حتى الكافر على التشبه به ؛ ذلك لأنهم في كفرهم غير مقتنعين بالكفر، ويخافون بطش الله وانتقامه إن أقدموا على هذا العمل، لذلك لا يجرؤ أحد منهم أن يجرب في نفسه مثل هذه التسمية.
وفي مجال العبادات، فقد اختار الحق سبحانه لنفسه عبادة لا يشاركه فيها أحد، ولا يقدمها أحد لغيره تعالى ؛ لأن الناس كثيرا ما يتقربون لأمثالهم من البشر بأعمال أشبه ما تكون بعبادة الله تعالى، فمنهم من ينحني خضوعاً لغيره ؛ كأنه راكع أو ساجد، ومنهم من يمدح جباراً بأنه لا مثيل له، وتصل به المبالغة إلى جعله إلهاً في الأرض، ومنهم من يسجد للشمس كما فعل أهل سبأ وأخبر الهدهد عنهم بقوله :﴿ وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله.. " ٢٤ " ﴾ ( سورة النمل ) : ألسنا نرى إنساناً يتقرب لأحد الحكام، بأن ينفق فيما يحبه هذا الحاكم، وكأنه يخرج زكاة ماله ؟ ألسنا نرى أحدهم يذهب كل يوم إلى قصر سيده، ويوقع في سجل التشريفات باسمه ليقدم بذلك فروض الولاء والطاعة ؟
إذن : فالإيمان بالوحدانية في شيء متميز وارد عند الناس، والخضوع الزائد بالسجود أو بالركوع أو بالكلام وارد عند الناس.
لذلك تفرد الحق سبحانه بفريضة الصوم، وجعلها خالصة له سبحانه، لا يتقرب بها أحد لأحد، وهل رأيت إنساناً يتقرب لآخر بصوم ؟ فانظر إلى هذه السبحانية وهذا التنزيه في ذاته سبحانه، فلا يجرؤ أحد أن يتسمى باسمه.
وفي العبادة لا يصام لأحد غيره تعالى، فلو تصورنا أن يقول واحد للآخر : أنا سأتقرب إليك بصوم هذا اليوم أو هذا الشهر، إذن : أنت تريد منه أن يجلس بجوارك يحرسك ويراعي صومك، فكأنك تريد له العنت والمشقة من حيث تريد أنت أن تتقرب إليه.
لذلك يقول الحق سبحانه في الحديث القدسي : " كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ". يعني من الممكن أن يتقرب بأي ركن من أركان الإسلام لغيري، إلا الصوم، فلا يجرؤ أحد أن يتطوع به أو يتقرب به لأحد.
إذن : فالسبحانية هي الدليل السائد الشامل الجامع لكل الخلق ؛ لذلك نقول للكافر : أيها الكافر لقد تأبيت على الإيمان بالله، وللعاصي : لقد تأبيت على أوامر الله، ومادمتم قد تأبيتم على الله، وألفتم هذا التأبي وهذا التمرد، فلماذا لا تتأبون على المرض إن أصابكم، وعلى الموت إن طرق بابكم ؟
لماذا لا تتمرد على ملك الموت وتقول له : لن أموت اليوم ؟ ! إنها قاهرية الحق سبحانه وتعالى حتى على الكافر، فلا يستطيع أحد أن يخرج عليها أو يتمرد.
وكذلك العاصي حينما ينحرف عن الجادة، وتمتد يده إلى مال غيره بالسرقة أو الاختلاس أو التعدي على المال العام، فإن الحق سبحانه يفتح عليه أبواباً للإنفاق تبتلع ما جمع من الحرام، وربما أخذت في طريقها الحلال أيضاً، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : " من جمع مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر " >، فالتسبيح إذن لغة الكون كله، منه ما نفهمه، ومنه ما لا نفهمه، إلا من أطلعه الله عليه، فإذا من الله على أحد وعلمه لغة الطير أو الحيوان أو النبات أو الجماد، فهمها وفقه عنها، كما أنعم بهذه النعم على داود وسليمان عليهما السلام.
ويقول سليمان عليه السلام شاكراً هذه النعمة :﴿ رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي.. " ١٩ " ﴾( سورة النمل ).
فقول الحق سبح
الحق سبحانه وتعالى يعدل الأشياء تنفيذاً لأشياء أخرى، ويصنع أحداثاً أولية لتكون بمثابة المقدمة والتمهيد لأحداث أخرى أهم منها. وكفار مكة ما ادخروا وسعاً، وما تركوا وسيلة من وسائل الإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم والتنكيل به إلا فعلوها.
ومع ذلك لم يفاجأ بها رسول الله، ولم تثبط من عزيمته، لماذا ؟ لأنه كان متوقعاً لكل هذا الإيذاء، ولديه من سوابق الأحداث ما يعطيه الحصانة الكافية لمقابلة كل الشدائد.
فالمسألة لم تفاجئ رسول الله ؛ لأنه عرفها حتى قبل أن يبعث، فحينما جاءه جبريل للمرة الأولى في الغار، وعاد إلى السيدة خديجة فزعاً ذهب به إلى ابن عمها ورقة بن نوف، فطمأنه بأن هذا هو الناموس الإلهي، وأنه صلى الله عليه وسلم سيكون مبعوث السماء إلى الأرض، وأنه نبي هذه الأمة، وقال فيما قال : ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك، فقال صلى الله عليه وسلم : " أمخرجي هم ؟ ".
قال : نعم، لم يأتي رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
إذن : فالحق سبحانه وتعالى حصن رسوله صلى الله عليه وسلم ضد ما سيأتي من أحداث ؛ لكي يكون على توقع لها، ولا تحدث له المفاجأة التي ربما ولدت الانهيار، وأعطاه الطعم المناسب للداء قبل حدوثه ؛ لتكون لديه المناعة الكافية عند وقوع الأحداث، واليقين الثابت في نصر الله له مهما ادلهمت الخطوب، وضاق الخناق عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه.
والحديث عن الذين لا يؤمنون بالآخرة، وماداموا كذلك فليس لهم إلا الدنيا، هي فرصتهم الوحيدة، لذلك يحرصون على استنفاد كل شهواتهم فيها، ولا يؤخرون منها شيئاً، فإن أجل المؤمن بعض متعه وشهواته انتظاراً لما في الآخرة فإلام يؤجل الكفار متعهم ؟
إذن : الذي يجعل هؤلاء يتهافتون على شهواتهم في الدنيا أنهم غير مؤمنين بالآخرة.
فإذا جاء رسول بمنهج ليعدل حركة الناس لتنسجم مع الكون، فلابد أن يثور هؤلاء الكفار الحريصون على شهواتهم ومكانتهم، لابد أن يصادموا هذه الدعوة، ويقاوموها في ذات الرسول وفي منهجه، في ذاته بالإيذاء، وفي دعوته ومنهجه بصرف الناس عنه، ألم يقل الكفار لمن يرون عنده ميلاً للإسلام :
﴿ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون " ٢٦ " ﴾( سورة فصلت ).
وقولهم :﴿ لا تسمعوا لهذا القرآن.. " ٢٦ " ﴾( سورة فصلت ) : شهادة منهم بصدق القرآن الكريم، وأنه ينفذ إلى القلوب ويؤثر فيها، وإلا لما قالوا هذا القول.
وقولهم :﴿ والغوا فيه.. " ٢٦ " ﴾( سورة فصلت ) : أي : هرجوا وشوشوا عليه حتى لا يصل إلى آذان الناس، إذن : هم واثقون من صدق رسول الله وصدق دعوته، وقد دلت تصرفاتهم على ذلك، فحينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب إلى الكعبة، ويجلس بجوارها يدندن بآيات القرآن كان صناديد الكفر في مكة يتعمدون سماع القرآن، والتلذذ بروعته وبلاغته. فقوله تعالى :{ وإذا قرأت
القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستوراً " ٤٥ " }( سورة الإسراء ) : يروى أن أبا جهل، وأبا سفيان، وأبا لهب، وأم جميل كانوا يتابعون رسول الله، ويتنصتون عليه وهو يقرأ القرآن ليروا ما يقول، وليجدوا فرصة لإيذائه صلى الله عليه وسلم، فكان الحق سبحانه يصم آذانهم عن سماع القرآن، فالرسول يقرأ وهم لا يسمعون شيئاً، فينصرفون عنه بغيظهم.
وكأن الحق سبحانه يريد من هذه الواقعة أن تكون تمهيداً لحدث أهم، وهو ما كان من رسول الله ليلة الهجرة، ليلة أن بيتوا له القتل بضربة رجل واحد، فتحرسه عناية الله وتقوم له : اخرج عليهم ولا تخف، فإن الذي جعلك تقرأ وجعل بينك وبينهم حجاباً فلا يستمعون إليك، هو الذي سينزل على أعينهم غشاوة فلا يرونك.
ومع إحكام خيوط هذه المؤامرة لم يخرج الرسول من بينهم صامتاً يحبس أنفاسه خوفاً، بل خرج وهو يقول " شاهت الوجوه " وهو لا يخشى انتباههم إليه، وأكثر من ذلك : يأخذ حفنة من التراب ويذروها على وجوههم، إنها الثقة واليقين في نصره وتأييده. وقوله :﴿ حجابا مستوراً " ٤٥ " ﴾( سورة الإسراء ).
الحجاب : هو المانع من الإدراك، فإن كان للعين فهو مانع للرؤية، وإن كان للأذن فهو مانع للسمع.
وكلمة ( مستوراً )اسم مفعول من الستر، فلم يقل الحق سبحانه وتعالى ( ساتراً )، وهذا من قبيل المبالغة في الستر والإخفاء، فالمعنى أن الحجاب الذي يمنعهم من سماعك أو رؤيتك هو نفسه مستور، فإن كان الحجاب نفسه مستوراً، فما بالك بما خلفه ؟
ولاشك أن الذهن سينشغل هنا بالحجاب المادي، لكن هذا الحجاب الذي يتحدث عنه الحق سبحانه حجاب معنوي ولا يراه أحد، كما في قوله تعالى :﴿ رفع السماوات بغير عمدٍ ترونها.. " ٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : فلو قال : بغير عمد وسكت فقد نفى وجود عمد للسماء وانتهت المسألة، وأدخلناها تحت قوله تعالى :﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا.. " ٤١ " ﴾( سورة فاطر ) : فالأمر قائم على قدرة الله دون وجود عمدٍ تحمل السماء. لكن قوله سبحانه :( ترونها )تجعل المعنى صالحاً لأن نقول بغير عمد، وأنتم ترونها كذلك، فننظر هنا وهناك فلا نجد للسماء عمداً تحملها، أو نقول : إن لها عمداً لكنا لا نراها، فهي عمد معنوية، فلا ينصرف ذهنك إلى ما نقيمه نحن من عمد المسلح أو الرخام أو الحديد.
وفي هذا ما يدك الغرور في الإنسان، ليعلم أنه لا يدرك إلا ما أذن الله له في إدراكه، وأن حواس الإدراك لديه قد تتوقف عن هذا الإدراك، فليس معنى أنها مدركة أن تظل مدركة دائماً، فليس لها طلاقة لتفعل ما تشاء، بل الحق سبحانه وتعالى يعطيها هذه القدرة، أو يسلبها إياها.
فالقدرة الإلهية هي التي تسير هذا الكون، وتأمر كل شيء بأن تؤدي مهمته في الحياة، وإن شاء عطلها عن أداء هذه المهمة ؛ لذلك نرفض قول الفلاسفة أن الحق سبحانه وتعالى زاول سلطانه في ملكه مرة واحدة، بأن جعل فيه النواميس والقوانين، وهي التي تحكم العالم وتسيره.
ففي قصة موسى عليه السلام أنه سار بجيشه، يطارده فرعون وجنوده حتى وصل إلى شاطئ البحر فأصبح البحر من أمامه، وفرعون من خلفه حتى قال أصحاب موسى :﴿ إنا لمدركون " ٦١ " ﴾
( سورة الشعراء ) : فأين المفر، وهاهو البحر من أمامنا، والعدو من خلفنا ؟ وهذا كلام منطقي مع واقع الحديث البشري، لكن الأمر يختلف عند موسى عليه السلام فقال بملء فيه :﴿ قال كلا إن معي ربي سيهدين " ٦٢ " ﴾( سورة الشعراء ) : فهل قالها موسى برصيد بشري ؟ لا، بل بما عنده من ثقة في ربه، وهكذا انتقلت المسألة إلى ساحة الخالق سبحانه، فقال لنبيه موسى :﴿ فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم " ٦٣ " ﴾( سورة الشعراء ) : فخرق الله لموسى قانون سيولة الماء واستطراقه، ويتجمد الماء، ويصير كالجبل ويتحول البحر إلى يابسة، ويعبر موسى وقومه إلى الناحية الأخرى، وتنشرح صدورهم بفرحة النجاة، ويأخذ موسى عليه السلام عصاه ليضرب البحر ليعود إلى طبيعته، وحتى لا يعبره فرعون ويلحق به، لكن الحق سبحانه يأمره، أن يتركه على حاله :﴿ واترك البحر رهواً إنهم جند مغرقون " ٢٤ " ﴾( سورة الدخان ) : فعندما نزل فرعون وجنوده البحر واكتمل عددهم في قاعه أطلق الخالق سبحانه للماء قانون سيولته، فأطبق على فرعون وجنوده، وكانت آية من آيات الله، شاهدة على قدرته سبحانه، وأنه إن شاء أنجى وأهلك بالشيء الواحد، وشاهدة على قيوميته تعالى على خلقه، فليس الأمر كما يقولون أمر قانون أو ناموس يعمل، ويدير حركة الكون، فكل المعجزات التي مرت في تاريخ البشرية جاءت من باب خرق النواميس.
ومعنى ( أكنة )جمع كنان، وهو الغطاء، وقد حكى القرآن اعترافهم بهذه الأكنة وهذه الحجب التي غلفت قلوبهم في قوله تعالى :﴿ وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب.. " ٥ " ﴾( سورة فصلت ) : الكون كله خلق الله، والإنسان سيد هذا الكون، وخليفة الله فيه وهو مربوب للخالق سبحانه لا يخرج عن مربوبيته لربه، حتى وإن كان كافراً لا يزال يتقلب في عطاء الربوبية، فلا يحرم منها الكافر بكفره ولا عاص بمعصيته، بل كما قال تعالى :﴿ كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك.. " ٢٠ " ﴾( سورة الإسراء ) : وسبق أن فرقنا بين عطاء الربوبية المتمثل في كل نعم الحياة وبين عطاء الألوهية، وهو التكليف الذي يقتضي عبداً ومعبوداً، وافعل ولا تفعل.
إذن : عطاء الربوبية عام للجميع ودائم للجميع، فكان على الإنسان أن يقف مع نفسه وقفة تأمل في هذه النعم التي تساق إليه دون سعي منه أو مجهود، هذه الشمس وهذه الأرض وهذا الهواء، هل له قدرة عليها ؟ هل تعمل له بأمره، إنها أوليات النعم التي أجراها الله تعالى من أجله، وسخرها بقدرته من أجله، ألا تدعوه هذه النعم إلى الإيمان بالمنعم سبحانه وتعالى ؟
وسبق أن ضربنا مثلاً للاستدلال على الخالق سبحانه بما أودعه في الكون من ظواهر وآيات بالرجل الذي انقطعت به السبل في صحراء، حتى أوشك على الهلاك، وفجأة رأى مائدة عليها ما يشتهي من الطعام والشراب، ألا تثير في نفسه تساؤلاً عن مصدرها قبل أن تمتد إليها يده ؟
وكذلك الكافر الذي يتقلب في نعم لا تعد ولا تحصى، وقد طرأ على الكون فوجده معداً لاستقباله مهيئاً لمعيشته، فكان عليه أن يجري عملية الاستدلال هذه، ويأخذ من النعمة دليلاً على المنعم.
والحق تبارك وتعالى لا يمنع عطاء ربوبيته عمن كفر، بل إن الكافر حين يتمكن الكفر منه ويغلق عليه قلبه يساعده الله على ما يريد، ويزيده مما يحب، كما قال تعالى :﴿ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً.. " ١٠ " ﴾( سورة البقرة ).
إذن : فقوله تعالى :﴿ وجعلنا على قلوبهم أكنة.. " ٤٦ " ﴾( سورة الإسراء ) : لم تأت من الله ابتداءً، بل لما أحبوا هم الكفر، وقالوا عن أنفسهم : قلوبنا في أكنة، فأجابهم الله إلى ما أرادوا وختم على قلوبهم ليزدادوا كفراً، وطالما أنهم يحبونه فلنزدهم منه. ثم يقول تعالى :﴿ أن يفقهوه.. " ٤٦ " ﴾( سورةالإسراء )
أي : كراهية أن يفقهوه ؛ لأن الله تعالى لا يريد منهم أن يفهموا القرآن رغماً عنهم، بل برضاهم وعن طيب خاطر منهم بالإقناع وبالحجة، فالله لا يريد منا قوالب تخضع، بل يريد قلوباً تخشع، وإلا لو أرادنا قوالب لما استطاع أحد منا أن يشذ عن أمره، أو يمنع نفسه من الله تعالى، فالجميع خاضع لأمره وتحت مشيئته.
وفي سورة الشعراء يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين " ٣ " إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين " ٤ " ﴾( سورة الشعراء ) : فالأعناق هي الخاضعة وليست القلوب ؛ لأنك تستطيع أن تقهر قالب خصمك فتجبره على فعل أو قول، لكنك لا تستطيع أبداً أن تجبر قلبه وتكرهه على حبك، إذن : فالله تعالى يريد القلوب، يريدها طائعة محبة مختارة، أما هؤلاء فقد اختاروا الأكنة على قلوبهم، وأحبوها وانشرحت صدورهم بالكفر، فزادهم الله منه.
ثم يقول تعالى :﴿ وفي آذانهم وقراً.. " ٤٦ " ﴾( سورة الإسراء ) :
( وقراً )أي : صمم، والمراد أنهم لا يستمعون سماعاً مفيداً ؛ لأنه ما فائدة السمع ؟ واللغة وسيلة بين متكلم ومخاطب، ومن خلالها تنتقل الأفكار والخواطر لتحقيق غاية، فإذا كان يستمع بدون فائدة فلا جدوى من سمعه وكأنه به صمماً. وقوله تعالى :﴿ وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً " ٤٦ " ﴾( سورة الإسراء ) : لماذا ولو على أدبارهم نفوراً ؟ لأنك أتيت لهم بما يخوفهم ويزعجهم، وبالله لو أن قضية الإيمان ليست فطرية موجودة في الذات وفي ذرات التكوين، أكان هؤلاء يخافون من ذكر الله ؟ فمما يخافون وهم لا يؤمنون بالله، ولا يعترفون بوجوده تعالى ؟
إذن : ما هذا الخوف منهم إلا لانقهار الطبع، وانقهار الفطرة التي يعتريها غفلة، فإذا بهم يولون مدبرين في خوف ونفور.
الحق سبحانه وتعالى لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهذه حقيقة كان على الكفار أن ينتبهوا إليها ويراعوها، ويأخذوها سبيلاً إلى الإيمان بالله، فقد أخبر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير " ٨ " ﴾( سورة المجادلة ) : فكان عليهم أن يتدبروا هذا القول : فهم قالوا في أنفسهم، ولم يقولوا لأحد، فمن أخبر محمداً بهذا القول الذي لم يخرج إلى عالم الواقع، ومن أطلعه عليه ؟ ألا يدعوهم هذا الإعلام بما يدور في نفوسهم إلى الإيمان بالله ؟
ومادام الحق سبحانه يعلم كل الأحوال، ولا يخفى عليه شيء، فهو أعلم بأحوالهم هذه : الأول : يستمعون إليك. والثاني : وإذ هم نجوى. والثالث : إذ يقول الظالمون. إذن : هم يستمعون ثم يتناجون، ثم يقول بعضهم لبعض.
قالوا : إن سبب نزول هذه الآية ما كان عند العرب من حب للغة وشغف بأساليب البيان ؛ لذلك كانت معجزة النبي صلى الله عليه وسلم من جنس ما نبغ فيه قومه، لتكون أوضح في التحدي، هكذا شأن الحق سبحانه مع كل الرسل.
وكان للعرب أسواق للبيان والبلاغة يجتمع فيها أهل الشعر والبلاغة والفصاحة، وفي مكة تصب كل الألسنة في مواسم الحج، فعرفوا صفوة لغات الجزيرة وأساليبها، ومن هنا انجذبوا لسماع القرآن، وشغفوا ببيانه بما لديهم من أذن مرهفة للأسلوب وملكة عربية أصيلة، إلا أن القرآن له مطلوبات وتكاليف لا يقدرون عليها، ولديه منهج سيقوض مملكة السيادة التي يعيشون فيها.
ومن هنا كابروا وعاندوا، ووقفوا في وجه هذه الدعوة، وإن كانوا معجبين بالقرآن إعجاباً بيانياً بلاغياً بما في طباعهم من ملكات عربية.
فيروى أن كباراً مثل : النضر بن الحارث، وأبي سفيان، وأبي لهب كانوا يتسللون بعد أن ينام الناس ممن كانوا يقولون لهم : " لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه " كانوا يذهبون إلى البيت يتسمعون لقراءة القرآن، ولماذا يحرمون أنفسهم من سماع هذا الضرب البديع من القول، وقد حرموا مواجيدهم وقلوبهم منه، فكانوا عند انصرافهم يرى بعضهم بعضاً متسللاً متخفياً، فكانوا مرة يكذبون على بعضهم بحجج واهية، ومرة يعترفون بما وقعوا فيه من حب لسماع القرآن. فقال تعالى :﴿ نحن أعلم بما يستمعون به.. " ٤٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : بالحال الذي يستمعون عليه، إذ يستمعون إليك بحال إعجاب. ثم :﴿ وإذا هم نجوى.. " ٤٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : من التناجي وهو الكلام سراً، أو : أن نجوى جمع نجى، كقتيل وقتلى، وجريح وجرحى. فالمعنى : نحن أعلم بما يستمعون إليه، وإذ هم متناجون أو نجوى، فكأن كل حالهم تناجٍ. وقوله :﴿ وإذ هم نجوى.. " ٤٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : فيه مبالغة، كما تقول : رجل عادل، ورجل عدل. ومن تناجيهم ما قاله أحدهم بعد سماعه لآيات القرآن : " والله، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسلفه لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه ".
ثم تأتي الحالة الثالثة من أحوالهم :﴿ إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً " ٤٧ " ﴾( سورة
الإسراء ) : وهذا هو القول المعلن عندهم، أن يتهموا رسول الله بالسحر مرة، وبالجنون أخرى، ومرة قالوا : شاعر. وأخرى قالوا : كاهن. وهذا كله إفلاس في الحجة، ودليل على غبائهم العقدي.
وكلمة ( مسحوراً )اسم مفعول من السحر، وهي تخييل الفعل. وليس فعلاً، وتخييل القول وليس قولاً، فهي صرف للنظر عن إدراك الحقائق، أما الحقائق فهي ثابتة لا تتغير.
لذلك نقول : إن معجزة موسى عليه السلام من جنس السحر وليست سحراً ؛ لأن ما جرى فيها كان حقيقة لا سحراً، فقد انقلبت العصا حية تبتلع حبال السحرة وعصيهم على وجه الحقيقة، لكن لما كانت المعجزة في مجال السحر ظنها الناس سحراً ؛ لأن القرآن قال في سحرة فرعون :﴿ سحروا أعين الناس.. " ١١٦ " ﴾( سورة الأعراف ).
وقال في آية أخرى :﴿ يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى " ٦٦ " ﴾( سورة طه ).
إذن : فحقيقة الأشياء ثابتة لا تتغير، فالساحر يرى العصا عصا، أما المسحور فيراها حية، وليست كذلك مسألة موسى عليه السلام وليؤكد لنا الحق سبحانه هذا المعنى، وأن ما حدث من موسى ليس من سحرهم وتغفيلهم أنه حينما قال له :﴿ وما تلك بيمينك يا موسى " ١٧ " ﴾( سورة طه ) : فأطال موسى عليه السلام الكلام ؛ لأنه أحب الأنس بالكلام مع ربه تعالى فأجاب :﴿ قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي.. " ١٨ " ﴾ ( سورة طه ) : فهذا هو مدى علمه عن العصا التي في يده، لكن الله تعالى سيجعلها غير ذلك، فقال له :﴿ قال ألقها يا موسى " ١٩ " فألقاها فإذا هي حية تسعى " ٢٠ " ﴾
( سورة طه ) : فهل خيل لموسى أنها حية وهي عصا ؟ أم أنها انقلبت حية فعلاً ؟ إنها حية فعلاً على وجه الحقيقة، بدليل قوله تعالى :﴿ فأوجس في نفسه خيفة موسى " ٦٧ " ﴾( سورة طه ) : وموسى لم يخف إلا لأنه وجد العصا حية حقيقية، ثم طمأنه ربه :﴿ قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى " ٦٨ " ﴾ ( سورة طه ).
لذلك لما رأى السحرة ما تفعله عصا موسى علموا أنها ليست سحراً، بل هي شيء خارج عن نطاق السحر والسحرة، وفوق قدرة موسى عليه السلام، فآمنوا برب موسى القادر وحده على إجراء مثل هذه المعجزة. وقوله تعالى :﴿ إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً " ٤٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : سحره غيره. وهذا قول الظالمين الذين يلفقون لرسول الله التهمة بعد الأخرى، وقد قالوا أيضاً : ساحر. قال تعالى :
﴿ قال الكافرون إن هذا لساحر مبين " ٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : فمرة قلتم : ساحر. ومرة قلتم : مسحور. وهذا دليل التخبط واللجج، فإن كان ساحراً فعندكم من السحرة كثيرون، فلماذا لا يواجهونه بسحر مثل سحره ؟ ولماذا لم يسحركم أنتم كما سحر غيركم وتنتهي المسألة ؟ وهل يمكن أن يسحر الساحر ؟
وإن كان مسحوراً سحره غيره، فهل جربتم عليه في سحره كلاماً مخالفاً لواقع ؟ هل سمعتموه يهذي كما يهذي المسحور ؟ إذن : فهذا اتهام بطل وقول كاذب لا أصل له، بدليل أنكم تأبيتم عليه، ولم يصبكم منه أذى.
فلما أخفقوا في هذه التهمة ذهبوا إلى ناحية أخرى فقالوا : شاعر، وبالله أمثلكم أيها العرب، يا أرباب اللغة والفصاحة والبيان يخفي عليه أن يفرق بين الشعر والنثر ؟ والقرآن وأسلوب متفرد بذاته، لا هو شعر، ولا هو نثر، ولا هو مسجوع، ولا هو مرسل، إنه نسيج وحده.
لذلك نجد أهل الأدب يقسمون الكلام إلى قسمين : كلام الله وكلام البشر، فكلام البشر قسمان : شعر ونثر ويخرج كلام الله تعالى من دائرة التقسيم ؛ لأنه متفرد بذاته عن كل كلام.
فلو قرأت مثلاً في كتب الأدب تجد الكاتب يقول : هذا العدل محمود عواقبه، وهذه النبوة غمة ثم تنجلي، ولن يريبني من سيدي أن أبطأ سيبه، أو تأخر غير ضنين غناؤه، فأبطأ الدلاء فيضاً أحفلها، وأثقل السحائب مشياً أحفلها، ومع اليوم غد، ولكل أجل كتاب، له الحمد على احتباله، ولا عتب عليه في احتفاله.
فإن يكن الفعل الذي ساء واحداً فأفعاله اللائي سررن ألوف :
فلاشك أنك ستعرف انتقالك من النثر إلى الشعر، وسوف تميز أذنك بين الأسلوبين، لكن أسلوب القرآن غير ذلك، فأنت تقرأ آياته فتجدها تناسب انسياباً لا تلحظ فيه أنك انتقلت من نثر إلى شعر، أو من شعر إلى نثر، واقرأ قول الله تعالى :﴿ نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم " ٤٩ " ﴾( سورة الحجر ) : أجر عليه ما يجريه أهل الشعر من الوزن، فسوف تجد بها وزناً شعرياً : مستفعل فاعلات.. وكذلك :﴿ وأن عذابي هو العذاب الأليم " ٥٠ " ﴾( سورة الحجر ) : تعطيك الشطر الثاني من البيت، لكن هل لاحظت ذلك في سياق الآيات ؟ وهل لاحظت أنك انتقلت من شعر إلى نثر، أو من نثر إلى شعر ؟
إذن : فالقرآن نسيج فريد لا يقال له : شعر ولا نثر، وهذا الأمر لا يخفى على العربي الذي تمرس في اللغة شعرها ونثرها، ويستطيع تمييز الجيد من الرديء.
أي : تعجب مما هم فيه من تخبط ولجج، فمرة يقولون عن القرآن : سحر ومرة يقولون : شعر، ويصفونك بأنك : شاعر، وكاهن، وساحر.
ومعلوم أن الرسالة لها عناصر ثلاثة : مرسل، وهو الحق سبحانه وتعالى، ومرسل وهو النبي صلى الله عليه وسلم ومرسل به وهو القرآن الكريم، وقد تخبط الكفار في هذه الثلاثة ودعاهم الظلم إلى أن يقول فيها قولاً كاذباً افتراءً على الله تعالى وعلى رسوله وعلى كتابه.
وقد سبق أن تحدثنا عن افتراءاتهم في الألوهية وعن موقفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك قولهم :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيمٍ " ٣١ " ﴾( سورة الزخرف ).
وقولهم عن القضية الإيمانية العامة :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليمٍ " ٣٢ " ﴾ ( سورة الأنفال ) : أهذه دعوة يدعو بها عاقل ؟ ! فبدل أن يقولوا : فاهدنا إليه تراهم يفضلون الموت على سماع القرآن، وهذا دليل على كبرهم وعنادهم وحماقتهم أمام كتاب الله.
لذلك، فالحق سبحانه وتعالى من حبه لرسوله صلى الله عليه وسلم ورفعة منزلته حتى عند الكافرين به، يرد على الكافرين افتراءهم، ويطمئن قلب رسوله، ويتحمل عنه الإيذاء في قوله تعالى :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون.. " ٣٣ " ﴾( سورة الأنعام ) : أي : قولهم لك : ساحر، وكاهن، وشاعر، ومجنون
﴿ فإنهم لا يكذبون ولن الظالمين بآيات الله يجحدون " ٣٣ " ﴾ ( سورة الأنعام ) : فليست المسألة عندك يا محمد، فهم مع كفرهم لا يكذبونك ولا يجرؤن على ذلك ولا يتهمونك، إنما المسألة أنهم يجحدون بآياتي، وكل تصرفاتهم في مقام الألوهية، وفي مقام النبوة، وفي مقام الكتاب ناشئة عن الظلم.
وقولهم عن رسول الله : مجنون قول كاذب بعيد عن الواقع ؛ لأن ما هو الجنون ؟ الجنون أن تفسد في الإنسان آلة التفكير والاختيار بين البدائل، والجنون قد يكون بسبب خلقي أي : خلقه الله تعالى هكذا، أو بسبب طارئ كأن يضرب الإنسان على رأسه مثلاً، فيختل عنده مجال التفكير.
ومن رحمة الله تعالى بالعبد أن أخر له التكليف إلى سن البلوغ واكتمال العقل، وحتى يكون قادراً على إنجاب مثله ؛ لأنه لو كلفه قبل البلوغ فسوف تطرأ عليه تغييرات غريزية قد يحتج بها، ومع ذلك طلب من الأب أن يأمر ابنه بالصلاة قبل سن التكليف ليعوده الصلاة من الصغير ليكون على إلفٍ بها حين يبلغ سن التكليف، وليألف صيغة الأمر من الآمر.
والإنسان لا يشك في حب أبيه وحرصه على مصلحته، فهو الذي يربيه ويوفر له كل ما يحتاج، فله ثقة بالأب المحس، فالحق سبحانه يريد أن يربب فينا الطاعة لمن نعلم خيره علينا، فإذا ما جاء وقت التكليف يسهل علينا ولا يشق ؛ لأنها أصبحت عادة.
والذي أعطى للأب حق الأمر أعطاه حق العقاب على تركه ليكون التكليف من الرب الصغير، والعقوبة من الرب الصغير لتعوده بالأبوة المحسة والرحمة الظاهرة على طاعة الحق سبحانه الذي أنعم علي وعليك.
فالعقل إذن شرط أساسي في التكليف، وهو العقل الناضج الحر غير المكره، فإن حدث إكراه فلا تكليف. فقوله :﴿ انظر كيف ضربوا لك الأمثال.. " ٤٨ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : قالوا مجنون، والمجنون ليس عنده اختيار بين البدائل، وقد رد الحق سبحانه عليهم بقوله :﴿ ن والقلم وما يسطرون " ١ " ما أنت بنعمة ربك بمجنونٍ " ٢ " وإن لك لأجر غير ممنونٍ " ٣ " وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ " ٤ " ﴾( سورة القلم ) :lفنفى الحق سبحانه عن رسوله هذه الصفة، وأثبت له صفة الخلق العظيم، والمجنون لا خلق له، ولا يحاسب على تصرفاته، فهو يشتم هذا ويضرب هذا ويبصق في وجه هذا، ولا نملك إلا أن نبتسم في وجهه ونشفق عليه.
ولقائل أن يقول : كيف يسلبه الخالق سبحانه وتعالى نعمة العقل، وهو الإنسان الذي كرمه الله ؟ وكيف يعيش هكذا مجرد نسخة لإنسان ؟
ولنعلم الحكمة من هذه القضية علينا أن نقارن بين حال العقلاء وحال المجنون، لنعرف عدالة السماء وحكمة الخالق سبحانه، فالعاقل نحاسبه على كل كبيرة وصغيرة ومقتضى ما تطلبه من عظمة في الكون، ومن جاه وسلطان ألا يعقب على كلامك أحد، وأن تفعل ما تريد.
ألا ترى أن المجنون كذلك يقول ويفعل ما يريد، ثم يمتاز عنك أن لا يسأل في الدنيا ولا في الآخرة ؟ أليست هذه كافية لتعوضه عن فقد العقل ؟ فلا تنظر إلى ما سلب منه، ولكن إلى ما أعطاه من ميزات في الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى :﴿ فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً " ٤٨ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : لم يستطيعوا أن يأتوا بمثل يكون صاداً وصارفاً لمن يؤمن بك أن يؤمن، فقالوا : مجنون وكذبوا. وقالوا : ساحر وكذبوا وقالوا : شاعر وكذبوا. وقالوا : كاهن وكذبوا. فسدت الطرق في وجوههم، ولم يجدوا منفذاً لصد الناس عن رسول الله.
فلما عجزوا عن إيجاد وصف يصد من يريد الإيمان برسول الله، قالوا :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.. " ٣٢ " ﴾( سورة الأنفال ).
ومنهم من قال :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيمٍ " ٣١ " ﴾ ( سورة الزخرف ) : فلم يستطيعوا إيجاد سبيل يعوقون به دعوتك، بدليل أنه رغم ضعف الدعوة في بدايتها، ورغم اضطهادهم لها تراها تزداد يوماً بعد يوم، وتتسع رقعة الإيمان، أما كيدهم وتدبيرهم فيتجمد أو يقل. كما في قوله تعالى :﴿ أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها.. " ٤١ " ﴾( سورة الرعد ) : فكل يوم تزداد أرض الإيمان، وتقل أرض الكفر. والحق سبحانه وتعالى في قضية استماع القرآن وقولهم : قلوبنا في أكنة، وقلوبنا غلف يريد أن يلفت أنظارنا إلى قضية هامة في الوجود ومنتظمة في كل الكائنات، وهي أن الأفعال تقتضي فاعلاً للحدث وقابلاً لفعل الحدث، ومثال ذلك : الفلاح الذي يقلب التربة بفأسه، فتقبل التربة منه هذا الفعل، وتنفعل هي معه، فتعطيه ما ينتظره من محصول.. أما لو فعل هذا الفعل في صخرة فلن تقبل منه هذا الفعل. إذن : فثمرة الحدث تتوقف على طرفين : فاعل، وقابل للفعل.
لذلك أتعجب من هؤلاء الذين يقولون : إن الغرب يفتن المسلمين عن دينهم، ويأتي إلينا بالمغريات وأسباب الانحراف، ويصدر إلينا المبادئ الهدامة ويشككنا في ديننا.. الخ.
ونقول لهؤلاء : ما يضركم أنتم إن فعل هو ولم تقبلوا أنتم منه هذا الفعل ؟ ! دعوه يفعل ما يريد، المهم ألا نقبل وألا نتفاعل مع مقولاته ومبادئه. فالخيبة ليست في فعل الغرب بنا، ولكن في تقبلنا نحن ولهثنا وراء كل ما يأتينا من ناحيته، وما ذلك إلا لقلة الخميرة الإيمانية في نفوسنا، فالغرب يريد أن يثبت نفوذه، ويثبت مبادئه، وما عليك إلا أن تتأبى على قبول مثل هذه الضلالات.
وعلى نظرية الفاعل والقابل هذه تبنى الحضارات في العالم كله ؛ لأن الخالق سبحانه حينما استدعانا إلى الوجود جعل لنا فيه مقومات الحياة الأساسية من : شمس، وقمر، ونجوم، وأرض، وسماء، وماء، وهواء. ومن هذه المقومات ما يعطيك ويخدمك دون أن تتفاعل معه أن تطلب منه، كالشمس والماء والهواء، ومنها ما لا يعطيك إلا إذا تفاعلت معه مثل الأرض لا تعطيك إلا إذا تعهدتها بالحرث والسقي والبذر.
والمتأمل في الكون يجد أن جميع ارتقاءات البشر من هذا النوع الثاني الذي لا يعطيك إلا إذا تفاعلت معه، وقد ترتقي الطموحات البشرية إلى أن تجعل من النوع الأول الذي يعطيك دون أن تتفاعل معه ومن غير سلطان لك عليه، تجعل منه منفعلاً بعملك فيه، كما يحدث الآن في استعمال الطاقة الشمسية في مجالات جديدة لم تكن من قبل. إذن : فهذه ارتقاءات لا يحرم منها من أخذ بالأسباب وسعى إلى الرقي والتقدم.
إذن : إن جاء يشكك في دينك ندعه، وما يقول فليس بملوم، إنما الملوم أنت إن قبلت منه ؛ ولذلك يجب علينا وعلى كل قائم على تربية النشء أن نحصن أولادنا ضد هجمات الإلحاد والتنصير والتغريب، ونعلمهم من أساسيات الدين ما يمكنهم من الدفاع والرد بالحجة والإقناع حتى لا يقعوا فريسة سهلة في أيدي هؤلاء.
وهذه هي المناعة المطلوبة وما أشبهها بما نستخدمه في الماديات من التطعيم ضد المرض، حتى إذا طرأ على الجسم لا يؤثر فيه. ألا ترى الحق سبحانه في قرآنه الكريم يعرض لشبه الكافرين والملاحدة ويفصلها ويناقشها، ثم يبين زيفها، فيقول :﴿ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً " ٥ " ﴾
( سورة الكهف ) : فلماذا يعرضها القرآن، هل لنأخذ بها ونتعلمها ؟ لا بل لكي لا نفاجأ بها، فإذا أتت يكون لدينا المناعة الكافية ضدها، ولكي تتربى فينا الحصانة المانعة من الانزلاق أو الانحراف.
إذن : فأصول الحياة فاعل وقابل، وسبق أن ضربنا مثلاً فقلنا : في الشتاء ينفخ الإنسان في يده ليدفئها، وكذلك ينفخ في كوب الشاي ليبرده، فالفعل واحد ولكن القابل مختلف. وكذلك حال الناس في سماع القرآن واستقبال كلمات الله، فقد استقبله أحد الكفار في حال هدوء وانسجام، فقال :
" والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وإنه يعلو ولا يعلى عليه " لقد استمعه بملكة العربي الشغوف بكل ما هو جميل من القول، لا بملكة العناد والكبر والغطرسة.
وكذلك سيدنا عمر رضي الله عنه له حالان في سماع القرآن : حال كفر وشدة وغلظة عند سماع القرآن، وحال إيمان ورقة قلب حينما بلغه نبأ إسلام أخته، فأسرع إليها وهي تقرأ القرآن فصفعها بقسوة حتى أدمى وجهها، فأخذته عاطفة الرحم، وتغلبت على عاطفة الكفر عنده، فلما سمع القرآن بهذه العاطفة الحانية تأثر به، فآمن من فوره ؛ لأن القرآن صادف منه قلباً صافياً، فلابد أن يؤثر فيه.
فالمسألة إذن تحتاج أن يكون لدى القابل استعداد لتقبل الشيء والانفعال به. وقد لخص لنا الحق سبحانه هذه القضية في قوله تعالى :﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً.. " ١٦ " ﴾( سورة محمد ).
فيأتي الرد عليهم :﴿ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم " ١٦ " ﴾( سورة محمد ).
وفي آية أخرى يقول سبحانه :﴿ ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أاعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى.. " ٤٤ " ﴾ ( سورة فصلت ) : فالقرآن واحد، ولكن المستقبل مختلف، إذن : فإياك أن تلوم من يريد أن يلوي الناس إلى طريق الضلال، بل دعه في ضلاله، ورب في الآخرين مناعة حتى لا يتأثروا ولا يستجيبوا له.
بعد أن تكلمنا عن موقف الكفار من الألوهية ومن النبوة نتكلم من موقفهم من المنهج الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا المنهج يتضمن قضايا كثيرة وأموراً متعددة، لكن أم هذا المنهج وأساسه أن نؤمن بالآخرة، ومادمنا نؤمن بالآخرة فسوف تنسجم حركتنا في الحياة. فالإيمان بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب هو الحافز لنا على العمل والاستقامة في الدنيا، وما أشبه ذلك بالتلميذ الذي يجتهد ويجد ؛ لأنه يؤمن بالامتحان آخر العام، وما ينتج عنه من توفيق أو إخفاق.
غبي من يظن أن الدنيا هي نهاية المطاف، وأنها الغاية التي ليس بعدها غاية ؛ لأن الجميع عبيد لله تعالى متساوون.. ومع ذلك نرى من يموت في بطن أمه، ومن يموت بعد عدة شهور، وآخر بعد عدة أعوام، فلو أن الدنيا هي الغاي
الاستفهام في الآية استفهام للتعجب والإنكار لموضع البعث يوم القيامة بعد أن صاروا رفاتاً وعظاماً.
والرفات : هو الفتات ومسحوق الشيء، وهو التراب أو الحطام، وكذلك كل ما جاء على وزن ( فعال ).
لقد استبعد هؤلاء البعث عن الموت ؛ لأنهم غفلوا في بداية الوجود وبداية خلق الإنسان، ولو استعملنا علم الإحصاء الذي استحدثه العلماء لوجدناه يخدم هذه القضية الإيمانية، فلو أحصينا تعداد العالم الآن لوجدناه يتزايد في الاستقبال ويقل في الماضي، وهكذا إلى أن نصل بأصل الإنسان إلى الأصل الأصيل، وهو آدم وحواء، فمن أين أتيا إلى الوجود ؟ فهذه قضية غيبية كان لابد أن يفكروا فيها.
ولأنها قضية غيبية فقد تولى الحق سبحانه وتعالى بيانها ؛ لأن الناس سوف يتخبطون فيها، فينبهنا الخالق سبحانه بمناعة إيمانية عقدية في كتابه العزيز، حتى لا ننساق وراء الذين سيتهورون ويهرفون بما لا يعلمون، ويقولون بأن أصل الإنسان كان قرداً، وهذه مقولة باطلة يسهل ردها بأن نقول : ولماذا لم تتحول القرود الباقية إلى إنسان ؟ وعلى فرض أن أصل الإنسان قرد، فمن أين أتى ؟ إنها نفس القضية تعود بنا من حيث بدأت، إنها مجرد شوشرة وتشويه لوجه الحقيقة بدون مبرر.
وكذلك من القضايا التي تخبط فيها علماء الجيولوجيا ما ذهبوا إليه من أن السماء والأرض والشمس كانت جميعاً جزءاً واحداً، ثم انفصلت عن بعضها، وهذه أقوال لا يقوم عليها دليل.
لذلك أراد الحق سبحانه أن يعطينا طرفاً من هذه القضية، حتى لا نصغي إلى أقوال المضللين الذين يخوضون في هذه الأمور على غير هدى، ولتكون لدينا الحصانة من الزلل ؛ لأن مثل هذه القضايا لا تخضع للتجارب المعملية، ولا تؤخذ إلا عن الخالق سبحانه فهو أعلم بما خلق. يقول تعالى :{ ما
أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم.. " ٥١ " } ( سورة الكهف ) : أي : لم يكن معي أحد حين خلقت السماء والأرض، وخلقت الإنسان، ما شهدني أحد ليصف لكم ما حدث :﴿ وما كنت متخذ المضلين عضداً " ٥١ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : ما اتخذت من هؤلاء المضللين مساعداً أو معاوناً، وكأن الحق سبحانه يقول لنا : احكموا على كل ما يخوض في قضية الخلق هذه بأنه مضلل فلا تستمعوا إليه.
ولكي تريحوا أنفسكم من مثل هذه القضايا لا تحملوا العقل أكثر مما يحتمل، ولا تعطوه فوق مقومات وظائفه، وجدوى العقل حينما ينضبط في الماديات المعملية، أما إن جنح بنا فلا نجني من ورائه إلا الحمق والتخاريف التي لا تجدي.
وكلمة " العقل " نفسها من العقال الذي يمنع شرود البعير، وكذلك العقل جعله الله ليضبط تفكيرك، ويمنعك من الجموح أو الانحراف في التفكير.
وأيضاً، فالعقل وسيلة الإدراك، مثله مثل العين التي هي وسيلة الرؤية، والأذن التي هي وسيلة السمع.. ومادام العقل آلة من آلات الإدراك فله حدود، كما أن للعين حدوداً في الرؤية، وللأذن حدوداً في السمع، فللعقل حدود في التفكير أيضاً حتى لا يشطح بك، فعليك أن تضبط العقل في المجال الذي تجود فيه فقط، ولا تطلق له العنان في كل القضايا.
ومن هنا تعب الفلاسفة وأتعبوا الدنيا معهم ؛ لأنهم خاضوا في قضايا فوق نطاق العقل، وأنا أتحدى أي مدرسة من مدارس الفلسفة من أول فلاسفة اليونان أن يكونوا متفقين على قضية إلا قضية واحدة، وهي أن يبحثوا فيما وراء المادة، فمن الذي أخبرك أن وراء المادة شيئاً يجب أن يبحث ؟
لقد اهتديتم بفطرتكم الإيمانية إلى وجود خالق لهذا الكون، فليس الكون وليد صدفة كما يقول البعض، بل له خالق هو الغيبيات التي تبحثون عنها، وترمحون بعقولكم خلفها، في حين كان من الواجب عليكم أن تقولوا : إن ما وراء المادة هو الذي يبين لنا نفسه.
لقد ضربنا مثلاً لذلك ولله المثل الأعلى وقلنا : هب أننا في مكان مغلق، وسمعنا طرق الباب فكلنا نتفق في التعقل أن طارقاً بالباب، ولكن منا من يتصور أنه رجل، ومنا من يتصور أنه امرأة، وآخر يقول : بل هو طفل صغير، وكذلك منا من يرى أنه نذير، وآخر يرى أنه بشير. إذن : لقد اتفقنا جميعاً في التعقل، ولكن اختلفنا في التصور.
فلو أن الفلاسفة وقفوا عند مرحلة التعقل في أن وراء المادة شيئاً، وتركوا لمن وراء المادة أن يظهر لهم عن نفسه لأراحوا واستراحوا، كما أننا لو قلنا للطارق : من ؟ لقال : أنا فلان، وجئت لكذا، وانتهت المسألة.
ولقد رد عليهم القرآن إنكارهم للبعث وقولهم :﴿ أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا " ٤٩ " ﴾( سورة الإسراء )، بقوله تعالى :﴿ قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون " ٣٤ " ﴾( سورة يونس ).
وبقوله تعالى :﴿ يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلقٍ نعيده وعداً عليناً إنا كنا فاعلين " ١٠٤ " ﴾ ( سورة الأنبياء ).
وبقوله تعالى :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه.. " ٢٧ " ﴾( سورة الإسراء ).
وقف الفلاسفة طويلاً أمام قضية البعث، وأخذوا منها سبيلاً لتشكيك الناس في دين الله، ومن مغالطاتهم في هذه المسألة أن قالوا : ما الحل إذا مات إنسان مثلاً ثم تحول جسمه إلى رفات وتراب، ثم زرعت فوقه شجرة وتغذت على عناصره، فإذا أكل إنسان من ثمار هذه الشجرة فسوف تنتقل إليه بالتالي عناصر من عناصر الميت، وتتكون فيه ذرات من ذراته، فهذه الذرات التي تكونت في الثاني نقصت من الأول، فكيف يكون البعث إذن على حد قولهم ؟
والحقيقة أنهم في هذه المسألة لم يفطنوا إلى أن مشخص الإنسان شيء، وعناصر تكوينه شيء آخر.. كيف ؟
هب أن إنساناً زاد وزنه ونصحه الطبيب بإنقاص الوزن فسعى إلى ذلك بالطرق المعروفة لإنقاص الوزن، وهذه العملية سواء زيادة الوزن أو إنقاصه محكومة بأمرين : التغذية والإخراج، فالإنسان ينمو حينما يكون ما يناوله من غذاء أكثر مما يخرجه من فضلات، ويضعف إن كان الأمر بعكس ذلك، فالولد الصغير ينمو لأنه يأكل أكثر مما يخرج، والشيخ الكبير يخرج أكثر مما يأكل ؛ لذلك يضعف.
فلو مرض إنسان مرضاً أهزله وأنقص من وزنه، فذهب إلى الطبيب فعالجه حتى وصل إلى وزنه الطبيعي، فهل الذرات التي خرجت منه حتى صار هزيلاً هي بعينها الذرات التي دخلته حين تم علاجه ؟ إن الذرات التي خرجت منه لا تزال في ( المجاري )، لم يتكون منها شيء أبداً، إنما كمية الذرات ومقاديرها هي التي تقوي وتشخص.
وربنا سبحانه وتعالى رحمة منه، قال :﴿ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ " ٤ " ﴾
( سورة ق ) : فالحق سبحانه سيجمع الأجزاء التي تكون فلاناً المشخص.
أي : قل رداً عليهم : إن كنتم تستبعدون البعث وتستصعبونه مع أنه بعث للعظام والرفات، وقد كانت لها حياة في فترة من الفترات، ولها إلف بالحياة، فمن السهل أن نعيد إليها الحياة، بل وأعظم من ذلك، ففي قدرة الخالق سبحانه أن يعيدكم حتى وإن كنتم من حجارة أو من حديد، وهي المادة التي ليس بها حياة في نظرهم.
وكأن الحق سبحانه يتحداهم بأبعد الأشياء عن الحياة، ويتدرج بهم من الحجارة إلى الحديد ؛ لأن الحديد أشد من الحجارة وهو يقطعها، فلو كنتم حجارة لأعدناكم حجارة، ولو كنتم حديداً لأعدناكم حديداً.
قوله تعالى :﴿ أو خلقا مما يكبر في صدوركم.. " ٥١ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : هاتوا الأعظم فالأعظم، وتوغلوا في التحدي والبعد عن الحياة، فأنا قادر على أن أهب له الحياة مهما كان بعيداً عن الحياة على إطلاقها. وقوله :﴿ مما يكبر في صدوركم.. " ٥١ " ﴾( سورة الإسراء ) : يكبر : أي يعظم من كبر يكبر. ومنه قوله تعالى :﴿ كبرت كلمة تخرج من أفواههم.. " ٥ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : عظمت. والمراد : اختاروا شيئاً يعظم استبعاد أن يكون فيه حياة بعد ذلك، وغاية ما عندهم في بيئتهم الحجارة والحديد، فهما أبعد الأشياء عن الحياة، وقد اتفقوا على ذلك فليس في محيط حياتهم ما هو أقسى من الحجارة والحديد. ولكن الحق سبحانه وتعالى ارتقى بهم في فرضية الأمر إلى أن يختاروا وتجتمع نفوسهم على شيء، يكون أعظم استبعاداً من الحجارة والحديد.
ونلاحظ في قوله تعالى :﴿ مما يكبر في صدوركم.. " ٥١ " ﴾( سورة الإسراء ) : جاء هذا الشيء مبهماً ؛ لأن الشيء العظيم الذي يعظم عن الحجارة والحديد استبعاداً عن أصل الحياة مختلف فيه، فإن اتفقوا في أمر الحجارة والحديد فقد اختلفوا في الأشياء الأخرى، فجاءت الآية مبهمة ليشيع المعنى في نفس كل واحد كل على حسب ما يرى.
بدليل أنهم حينما سألوا الإمام علياً رضي الله عنه، وكرم الله وجهه عن أقوى الأجناس في الكون، وقد علموا عن الإمام علي سرعة البديهة والتمرس في الفتيا، فأرادوا اختباره بهذا السؤال الذي يحتاج في الإجابة عليه إلى استقصاء لأجناس الكون وطبيعة كل منها.
دخل عليهم الإمام علي وهم مختلفون في هذه المسألة، منهم من يقول : الحديد أقوى. ومنهم من يقول : بل الحجارة. وآخر يقول : بل الماء، فأفتاهم الإمام في هذه القضية، وانظر إلى دقة الإفتاء واستيعاب العلم، فلم يقل : أقوى جنود الله كذا وكذا ثم يكمل كما اتفق له ويذكر ما يخطر بباله، لا بل حصرها أولاً، فقال : أشد جنود الله عشرة.
فالمسألة ليست ارتجالية، بل مسألة مدروسة لديه مستحضرة في ذهنه، مرتبة في تفكيره، فبسط الإمام لمستمعيه يده وفرد أصابعه، وأخذ يعد هذه العشرة، وكأنه المعلم الذي استحضر درسه وأعده جيداً.
قال : " أشد جنود الله عشرة، الجبال الرواسي، والحديد يقطع الجبال، والنار تذيب الحديد، والماء يطفئ النار، والسحاب المسخر بين السماء والأرض يحمل الماء، والريح يقطع السحاب، وابن آدم يغلب الريح يستتر بالثوب أو بالشيء ويمضي لحاجته، والسكر يغلب ابن آدم، والنوم يغلب السكر، والهم يغلب النوم، فأشد جنود الله في الكون الهم ".
فهذه الأجناس هي المراد بقوله تعالى :﴿ أو خلقا مما يكبر في صدوركم.. " ٥١ " ﴾( سورة الإسراء ).
فاختاروا أياً من هذه الأجناس، فالله تعالى قادر على إعادتكم وبعثتكم كما كنتم أحياء. ثم يقول تعالى :
﴿ فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرةٍ.. " ٥١ " ﴾( سورة الإسراء )أي : أن الذي خلقكم بداية قادر على إعادتكم، بل الإعادة أهون من الخلق بداية، ولكن الجواب لا يكون مقنعاً إلا إذا كانت النتيجة التي يأتي بها الجواب مسلمة. فهل هم مقتنعون بأن الله تعالى فطرهم أول مرة ؟
نعم، هم مؤمنون بهذه الحقيقة رغم كفرهم، بدليل قولهم :﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون.. " ٨٧ " ﴾( سورة الزخرف ) : فهم مقتنعون بذلك، ولكنهم نقلوا الجدل إلى قضية أخرى فقالوا : من يعيدنا ؟ فإن قلت لهم : الذي فطركم أول مرة.
﴿ فسينغضون إليك.. " ٥١ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : معنى ينغض رأسه : يهزها من أعلى لأسفل، ومن أسفل لأعلى استهزاءً وسخرية مما تقول، والمتأمل في قوله ( فسينغضون )يجده فعلاً سيحدث في المستقبل ويقع من مختار، والمقام مقام جدل بين الكفار وبين رسول الله، وهذه الآية يتلوها رسول الله على أسماعهم ويخبر أنه إذا قال لهم :﴿ الذي فطركم أول مرة.. " ٥١ " ﴾( سورة الإسراء ) : فسينغضون رؤوسهم. فكان في وسع هؤلاء أن يكذبوا هذا القول، فلا ينغضون رؤوسهم لرسول الله ويمكرون به في هذه المسألة، ولهم بعد ذلك أن يعترضوا على هذا القول ويتهموه، ولكن الحق سبحانه غالب على أمره، فهاهي الآية تتلى عليهم وتحت سمعهم وأبصارهم، ومع ذلك لم يقولوا، مما يدل على غباء الكفار وحمق تفكيرهم.
وما أشبه هذا الموقف منهم بموقفهم من حادث تحويل القبلة حينما قال الحق سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها.. " ١٤٤ " ﴾( سورة البقرة ).
ثم أخبره بما سيحدث من الكفار، فقال :﴿ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها.. " ١٤٢ " ﴾( سورة البقرة ) : وهذا قول اختياري في المستقبل، وكان بإمكانهم إذا سمعوا هذه الآية ألا يقولوا هذا القول ويجدوا بذلك مأخذاً على القرآن، ولكنهم مع هذا قالوا ما حكاه القرآن ؛ لأن الحق سبحانه يعلم أنهم سيقولون لا محالة :﴿ ويقولون متى هو.. " ٥١ " ﴾( سورة الإسراء ) : والاستفهام هنا كسابقه للإنكار والتعجب الدال على استبعاد البعث بعد الموت، ولاحظ هنا أن السؤال عن الزمن، فقد نقلوا الجدل من إمكانية الحدث على ميعاد الحدث، وهذا تراجع منهم في النقاش، فقد كانوا يقولون : من يعيدنا ؟ والآن يقولون : متى ؟ فيأتي الجواب :﴿ عسى أن يكون قريباً " ٥١ " ﴾( سورةالإسراء )
عسى : كلمة تفيد الرجاء، والرجاء أمر متوقع يختلف باختلاف الراجي والمرجو منه، فإذا قلت مثلاً : عسى فلاناً أن يعطيك كذا، فالرجاء هنا بعيد شيئاً ما ؛ لأنه رجاء من غيري لك، أما لو قلت : عسى أن أعطيك كذا، فهي أقرب في الرجاء ؛ لأنني أتحدث عن نفسي، وثقة الإنسان في نفسه أكثر من ثقته في الآخرين، ومع ذلك قد يتغير رأيي فلا أعطيك، أو يأتي وقت الإعطاء فلا أجد ما أعطيه لك.
لكن إذا قلت : عسى الله أن يعطيك فلاشك أنها أقرب في الرجاء ؛ لأنك رجوت الله تعالى الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وإن كان القائل هو الحق سبحانه وتعالى، فالرجاء منه سبحانه محقق وواقع لاشك فيه ؛ فالرجاء من الغير للغير رتبة، ومن الإنسان لغيره رتبة، ومن الله تعالى للغير رتبة.
وقد شرح لنا الرسول صلى الله عليه وسلم مسألة القرب فقال : " بعثت أنا والساعة كهاتين " وأشار بالسبابة والوسطى ؛ لأنه ليس بعده رسول، فهو والقيامة متجاوران لا فاصل بينهما، كما أننا نقول : كل آتٍ قريب، فالأمر الآتي مستقبلاً قريب ؛ لأنه قادم لا محالة.
هذا في يوم القيامة، حيث لا يستطيع أحد الخروج عن مرادات الحق سبحانه بعد أن كان يستطيع الخروج عنها في الدنيا ؛ لأن الخالق سبحانه حين خلق الخلق جعل للإرادة الإنسانية سلطاناً على الجوارح في الأمور الاختيارية، فهو مختار يفعل ما يشاء، ويقول ما يشاء، ويترك ما يشاء، فإرادته أمير على جوارحه، أما الأمور القهرية فلا دخل للإرادة بها.
فإذا جاء اليوم الآخر انحلت الإرادة عن الجوارح، ولم يعد لها سلطان عليها، بدليل أن الجوارح سوف تشهد على صاحبها يوم القيامة :﴿ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيءٍ.. " ٢١ " ﴾( سورة فصلت ) : لقد كانت لكم ولاية علينا في دنيا الأسباب، أما الآن فنحن جميعاً مرتبطون بالمسبب سبحانه، فلا ولاية لكم علينا الآن ؛ لذلك يقول الحق تبارك وتعالى عن يوم القيامة :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " ١٦ " ﴾( سورة غافر ) : ففي الدنيا ملك الناس، وجعل مصالح أناس في أيدي آخرين، أما في الآخرة، فالأمر كله والملك كله لله وحده لا شريك له.
فقوله تعالى :﴿ يوم يدعوكم.. " ٥٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : يقول لكم اخرجوا من القبور للبعث بالنفخة الثانية في الصور.
﴿ فتستجيبون بحمده.. " ٥٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : تقومون في طاعة واستكانة، لا قومة مستنكف أو متقاعس أو متغطرس، فكل هذا انتهى وقته في الدنيا، ونحن الآن في الآخرة.
ونلاحظ أن الحق سبحانه قال :﴿ فتستجيبون.. " ٥٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : ولم يقل : فتجيبون ؛ لأن استجاب أبلغ في الطاعة والانصياع، كما نقول : فهم واستفهم أي : طلب الفهم، وكذلك ( فتستجيبون )أي : تطلبون أنتم الجواب، وتلحون عليه لا تتقاعسون فيه، ولا تتأبون عليه، فتسرعون في القيام. ليس هذا وفقط، بل :﴿ فتستجيبون بحمده.. " ٥٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : تسرعون في القيام حامدين الله شاكرين له، ولكن كيف والحمد لا يكون إلا على شيء محبوب ؟
نعم، إنهم يحمدون الله تعالى ؛ لأنهم عاينوا هذا اليوم الذي طالما ذكرهم به، ودعاهم إلى الإيمان به، والعمل من أجله، وطالما ألح عليهم ودعاهم، ومع ذلك كله جحدوا وكذبوا، وهاهم اليوم يرون ما كذبوه وتتكشف لهم الحقيقة التي أنكروها، فيقومون حامدين لله الذي نبههم ولم يقصر في نصيحتهم. كما أنك تنصح ولدك بالمذاكرة والاجتهاد، ثم يخفق في الامتحان فيأتيك معتذراً : لقد نصحتني ولكني لم أستجب.
إذن : فبيان الحق سبحانه لأمور الآخرة من النعم التي لا يعترف بها الكفار في الدنيا، ولكنهم سيعترفون بها في الآخرة، ويعرفون أنها من أعظم نعم الله عليهم، ولكن بعد فوات الأوان. لذلك اعترض المستشرقون على قوله تعالى في سورة ( الرحمن ) :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان " ٣٤ " ﴾( سورة الرحمن )، بعد قوله تعالى :﴿ يرسل عليكما شواظ من نارٍ ونحاس فلا تنتصران " ٣٥ " ﴾( سورة الرحمن ).
فالآية في نظرهم تتحدث عن نقمة وعذاب، فكيف يناسبها :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان " ٣٤ " ﴾( سورة الرحمن ) : والمتأمل في الآية يجدها منسجمة كل الانسجام ؛ لأن من النعمة أن ننبهك بالعظة للأمر الذي ينتظرك والعذاب الذي أعد لك حتى لا تقع في أسبابه، فالذي يعلم حقيقة العذاب على الفعل لا يقترفه. ثم يقول تعالى :﴿ وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً " ٥٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : الظن : خبر راجح ؛ لأنهم مذبذبون في قضية البعث لا يقين عندهم بها.
( إن لبثتم )أي : أقمتم في الدنيا، أو في قبوركم ؛ لأن الدنيا متاع قليل، ومادامت انتهت فلن يبقى منها شيء. وكذلك في القبور ؛ لأن الميت في قبره شبه النائم لا يدرك كم لبث في نومه، ولا يتصور إلا النوم العادي الذي تعوده الناس.
ولذلك كل من سئل في هذه المسألة : كم لبثتم ؟ قالوا : يوماً أو بعض يوم، فهذا هو المعتاد المتعارف عليه بين الناس، ذلك لأن الشعور بالزمن فرع مراقبة الأحداث، والنوم والموت لا أحداث فيها، فكيف إذن سنراقب الأحداث والملكة الواعية مفقودة ؟
وقال تعالى في آية أخرى :﴿ قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يومٍ.. " ٢٥٩ " ﴾( سورة البقرة ).
على مقتضى العادة التي ألفها في نومه، فيوضح له ربه :﴿ بل لبثت مائة عامٍ فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك.. " ٢٥٩ " ﴾( سورة البقرة ) : فالمدة في نظر العزيز كانت يوماً أو بعض يوم، والحق سبحانه أخبر أنها مائة عام، فالبون شاسع بينهما، ومع ذلك فالقولان صادقان. والحق سبحانه أعطانا الدليل على ذلك، فقد بعث العزيز من موته، فوجد حماره عظاماً بالية يصدق عليها القول بمائة عام، ونظر إلى طعامه وشرابه فوجده كما هو لم يتغير، وكأن العهد به يوم أو بعض يوم، ولو مر على الطعام مائة عام لتغير بل لتحلل ولم يبق له أثر.
وكأن الخالق سبحانه قبض الزمن وبسطه في وقت واحد، وهو سبحانه القابض الباسط، إذن : قول الحق سبحانه مائة عام صدق، وقول العزيز ( يوماً أو بعض يوم )صدق أيضاً، ولا يجمع الضدين إلا خالق الأضداد سبحانه وتعالى.
وبعد أن تكلم القرآن عن موقف الكفار من الألوهية، وموقفهم من النبوة وتكذيبهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم عن موقفهم من منهج الله وكفرهم بالبعث والقيامة، أراد سبحانه أن يعطينا الدروس التي تربب منهج الله في الأرض.
وسبق أن أوضحنا الفرق بين عبيد وعباد، وأنهما جمع عبد، لكن عبيد تدل على من خضع لسيده في الأمور القهرية، وتمرد عليه في الأمور الاختيارية، أما عباد فتدل على من خضع لسيده في كل أموره القهرية والاختيارية، وفضل مراد الله على مراده، وعنهم قال تعالى :﴿ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً " ٦٣ " والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً " ٦٤ " ﴾
( سورة الفرقان ) : وهذا الفرق قائم بينهما في الدنيا دون الآخرة، حيث في الآخرة تنحل صفة الاختيار التي بنينا عليها التفرقة، وبذلك يتساوى الجميع في الآخرة، فكلهم عبيد وعباد ؛ لذلك قال تعالى في الآخرة للشيطان :﴿ أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل " ١٧ " ﴾( سورة الفرقان ) : فسماهم عباداً رغم ضلالهم وكفرهم. وقوله تعالى :﴿ يقولوا التي هي أحسن.. " ٥٣ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : العبارة التي هي أحسن، وكذلك الفعل الذي هو أحسن. والمعنى : قل لعبادي : قولوا التي هي أحسن يقولوا التي هي أحسن ؛ لأنهم مؤتمرون بأمك مصدقون لك.
و( التي هي أحسن )تعني : الأحسن الأعلى الذي تتشقق منه كل أحسنيات الحياة، والأحسن هو الإيمان بالله بشهادة أن لا إله إلا الله، هذه أحسن الأشياء وأولها، لذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول : " خير ما قلته أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله ".
لأن من باطنها ينبت كل حسن، فهي الأحسن والكبيرة ؛ لأنك ما دمت تؤمن بالله فلن تتلقى إلا عنه، ولن تخاف إلا منه، ولن ترجو إلا هو، وهكذا يحسن أمرك كل في الدنيا والآخرة.
وأنت حين تقول : لا إله إلا الله، لا تقولها إلا وأنت مؤمن بها ؛ لأنك تريد أن تشيعها فيمن سمعك، ولا تكتفي بنفسك فقط، بل تحب أن يشاركك الآخرون هذا الخير ؛ لذلك إذا أردنا أن ننطق بهذه الكلمة نقول : أشهد أن لا إله إلا الله. فمعنى أشهد يعني عند من لم يشهد، فكأن إيمانك بها دعاك إلى نقلها إلى الناس، وبثها فيما بينهم.
ويمكن أن نقول ( التي هي أحسن )الأحسن هو : كل كلمة خير، أو الأحسن هو : الجدل بالتي هي أحسن، كما قال تعالى :﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن.. " ١٢٥ " ﴾( سورة النحل ).
أو نقول : الأحسن يعني التمييز بين الأقوال المتناقضة وفرزها أمام العقل، ثم نختار الأحسن منها، فنقول به.
فالأحسن إذن تشيع لتشمل كل حسن في أي مجال من مجالات الأقوال أو الأفعال، ولنأخذ مثلاً مجال الجدل، وخاصة إذا كان في سبيل إعلاء كلمة الله، فلاشك أن المعارض كاره لمبدئك العام، فإن قسوت عليه وأغلظت له القول أو اخترت العبارة السيئة فسوف ينتقل الخلاف بينكما من خلاف في مبدأ عام على عداء شخصي.
وإذا تحولت هذه المسألة إلى قضية شخصية فقد أججت أوار غضبه ؛ لأنه في حاجة لأن ترفق به، فلا تجمع عليه مرارة أن تخرجه مما ألف إلى ما يكره، بل حاول أن تخرجه مما ألف إلى ما يحب لتطفئ شراسته لعداوتك العامة، وتقرب من الهوة بينك وبينه فيقبل منك ما تقول. يقول تعالى :﴿ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " ٣٤ " ﴾
( سورةفصلت ) : وقد يطلع علينا من يقول : لقد دفعت بالتي هي أحسن، ومع ذلك لا يزال عدوي قائماً على عداوتي، ولم أكسب محبته. نقول له : أنت ظننت أنك دفعت بالتي هي أحسن، ولكن الواقع غير ذلك، إنك تحاول أن تجرب مع الله، والتجربة مع الله شك، فادفع بالتي هي أحسن من غير تجربة، وسوف يتحول العدو أمامك إلى صديق.
وما أروع قول الشاعر :
يا من تضايقه الفعال من التي ومن الذي ادفع فديتك بالتي حتى ترى فإذا الذي
لكن، لماذا نقول التي هي أحسن ؟
لأن الشيطان ينزغ بينكم :﴿ إن الشيطان ينزغ بينهم.. " ٥٣ " ﴾( سورة الإسراء ) : والنزغ هو نخس الشيطان ووسوسته، وقد قال تعالى في آية أخرى :﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله.. " ٢٠٠ " ﴾( سورة الأعراف ) : فإن كنت منتبهاً له، عارفاً بحيله فذكرت الله عند نخسه ونزعه انصرف عنك، وذهب إلى غيرك ؛ لذلك يقول تعالى عن الشيطان :﴿ من شر الوسواس الخناس " ٤ " ﴾( سورالناس )
أي : الذي يخنس ويختفي إذا ذكر الله، لكن إذا رأى منك ضعفاً وغفلة ومرت عليك حيلة، واستجبت لوساوسه، فقد أصبحت فريسة سهلة بين أنيابه ومخالبه.
وعادة تأتي خواطر الشيطان وكأنها مجس للمؤمن واختبار لانتباهه وحذره من هذا العدو، فينزغه الشيطان مرة بعد أخرى ليجربه ويختبره. فإذا كان النزغ هكذا، فأنت حين تجادل بالتي هي أحسن لا تعطي للشيطان فرصة لأن يؤجج العداوة الشخصية بينكما، فيزين لك شتمه أو لعنه، وهكذا يتحول الخلاف في المبدأ العام إلى عداوة ذاتية شخصية.
لذلك إذا رأيت شخصين يتنازعان لا صلة لك بهما، ولكن ضايقك هذا النزاع، فما عليك إلا أن تقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاثاً، وأتحدى أن يستمر النزاع بعدها، إنها الماء البارد الذي يطفئ نار الغضب، ويطرد الشيطان فتهدأ النفوس، وما أشبهك في هذا الموقف برجل الإطفاء الذي يسارع إلى إخماد الحريق، وخصوصاً إذا قلت هذه العبارة بنية صادقة في الإصلاح، وليس لك مأرب من هذا التدخل.
والحق سبحانه يقول :﴿ إن الشيطان ينزغ بينهم.. " ٥٣ " ﴾( سورة الإسراء ) : تلاحظ أن نزغ الشيطان لا يقتصر على المتخاصمين والمتجادلين حول مبدأ ديني عقدي، بل ينزغ بين الإخوة والأهل والأحبة، ألم يقل يوسف :﴿ من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي.. " ١٠٠ " ﴾( سورة يوسف ) : لقد دخل الشيطان بين أولاد النبوة، وزرع الخلاف حتى بين الأسباط وفيهم رائحة النبوة، ولذلك لم يتصاعد فيهم الشر، وهذا دليل على خيريتهم، وأنت تستطيع أن تميز بين الخير والشرير، فتجد الخير يهدد بلسانه بأعنف الأشياء، ثم يتضاءل إلى أهون الأشياء، على عكس الشرير تراه يهدد بأهون الأشياء، ثم يتصاعد إلى أعنف ما يكون.
انظر إلى قول إخوة يوسف :﴿ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً.. " ٩ " ﴾( سورة يوسف ).
فقال الآخر وكان أميل إلى الرفق به :﴿ وألقوه في غيابة الجب.. " ١٠ " ﴾( سورة يوسف ) : وقد اقترح هذا الاقتراح وفي نيته النجاة لأخيه، بدليل قوله تعالى :﴿ يلتقطه بعض السيارة.. " ١٠ " ﴾( سورة يوسف ) :
وهكذا تضاءل الشر في نفوسهم. ثم يقول تعالى :﴿ إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً " ٥٣ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : أن عداوة الشيطان لكم قديمة منذ أبيكم آدم عليه السلام فهي عداوة مسبقة، قال
عنها الحق سبحانه :﴿ إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى " ١١٧ " ﴾( سورة طه ) :
لذلك يجب على الأب كما يعلم ابنه علوم الحياة ووسائلها أن يعلمه قصة العداوة الأولى بين الشيطان وآدم عليه السلام ويعلمه من خواطره ووساوسه، وبذلك يربي في ابنه مناعة إيمانية، فيحذر كيد الشيطان ونزغه، ويعلم أن كل أمر يخالف أوامر الشرع فهو من الشيطان، وهذه التربية من الآباء تحتاج إلى إلحاح بها على الأبناء حتى ترسخ في أذهانهم.
فقوله تعالى :﴿ إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً " ٥٣ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : كان ولا يزال. وإلى يوم القيامة بدليل قوله :﴿ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً " ٦٢ " ﴾( سورة الإسراء ) :
أي : لأتعهدنهم بالإضلال والغواية إلى يوم القيامة.
في هذه الآية إشارة إلى طلاقة المشيئة الإلهية، فالحق سبحانه إن شاء يرحمنا بفضله، وإن شاء يعذبنا بعدله ؛ لأن الحق سبحانه لو عاملنا بميزان عدله ما نجا منا أحد، ولو جلس أحدنا وأحصى ماله وما عليه لوجد نفسه لا محالة واقعاً تحت طائلة العقاب ؛ لذلك يحسن بنا أن ندعو الله بهذا الدعاء : " اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل، وبالإحسان لا بالميزان، وبالجبر لا بالحساب ".
والحق تبارك وتعالى لا ييئس العصاة من فضله، ولا يملي لهم بعدله، بل يجعلهم بين هذه وهذه ليكونوا دائماً بين الخوف والرجاء.
وحينما كان المسلمون الأولون يتعرضون لشتى ألوان الإهانة والتعذيب ولا يجدون من يمنعهم من هذا التعذيب، فكانوا يذهبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه ما ينزل بهم، فرسول الله ينظر في أنحاء العالم من حوله بحثاً عن المكان المناسب الذي يلجأ إليه هؤلاء المضطهدون، ويأمرهم بالهجرة إلى الحبشة ويقول : " إن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد ".
لقد كانوا في مرحلة لا يستطيعون فيها الدفاع عن أنفسهم، فالضعيف منهم عاجز عن المواجهة، والقوي منهم لا يستطيع حماية الضعيف ؛ لأنه كان يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقترح عليه الرد على الكفار ومواجهتهم بكذا وكذا، فكان صلى الله عليه وسلم يقول لهم : " لم أومر، لم أومر.. ". لأن الله تعالى أراد ألا يبقي للإيمان جندي إلا وقد مسه العذاب، وذاق ألوان الاضطهاد ليربي فيهم الصبر على الأذى وتحمل الشدائد ؛ لأنهم سيحملون رسالة الانسياح بمنهج الله في الأرض، ولاشك أن المؤمنين، لذلك حدث للإسلام في عصر النبوة أحداث وشدائد، ومرت به عقبات مثل تعذيب المؤمنين وإيذائهم وحادث الإسراء والمعراج.
وكانت الحكمة من هذه الأحداث تمحيص المؤمنين وغربلة المنتسبين لدين الله، حتى لا يبقى إلا القوي المأمون على حمل منهج الله، والانسياح به في شتى بقاع الأرض، وحتى لا يبقى في صفوف المؤمنين من يحمل راية الإيمان لمغنم دنيوي، فالغنيمة في الإسلام ليست في الدنيا بل في جنة عرضها السماوات والأرض.
لذلك، ففي بيعة العقبة الثانية قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : سل يا محمد لربك ما شئت، ثم سل لنفسك بعد ذلك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك. قال : أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما منعتم منه أنفسكم، قالوا : فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ فماذا قال لهم رسول الله ؟ أقال لهم تملكون الدنيا ؟ لا، بل قال : " لكم الجنة " قالوا : فلك ذلك.
فهذه هي الجائزة الحقيقية التي ينبغي أن يفوز بها المؤمن ؛ لأنه من الجائز أن يموت أحدهم بعد أن أعطى رسول الله هذا العهد ولم يدرك شيئاً من خير الدنيا في ظل الإسلام، إذن : فالنبي صادق في هذا الوعد. ومادام الجزاء هو الجنة فلابد لها من جنود أقوياء يصبرون على الأحداث، ويواجهون الفتن والمكائد. فالمعنى :﴿ ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم.. " ٥٤ " ﴾( سورة الإسراء ) : بالخروج من مكة مهاجرين إلى ديار الأمن في الحبشة :﴿ أو إن يشأ يعذبكم.. " ٥٤ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : عذاباً مقصوداً لكي يمحص إيمانكم ويميز المؤمنين منكم الجديرين بحمل رسالة الله ومنهجه. ثم يقول تعالى :﴿ وما أرسلناك عليهم وكيلاً " ٥٤ " ﴾( سورة الإسراء ) :
الوكيل : هو المفوض من صاحب الشأن بفعل شيء ما، والمراد : ما أرسلناك إلا للبلاغ، ولست مسئولاً بعد ذلك عن إيمانهم، ولست وكيلاً عليهم ؛ لأن الهداية والتوفيق للإيمان بيد الحق سبحانه وتعالى.
إذن : قول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ وما أرسلناك عليهم وكيلاً " ٥٤ " ﴾( سورة الإسراء ) : ليست قهراً لرسول الله، وليست إنقاصاً من قدره، بل هي رحمة به ورأفة، كأنه يقول له : لا تحمل نفسك يا محمد فوق طاقتها، كما خاطبه في آية أخرى بقوله :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين " ٣ " ﴾( سورة الشعراء ) : فالحق تبارك وتعالى في هذه المسألة لا يعتب على رسوله، بل يعتب لصالحه، والمتتبع لمواقف العتاب للرسول صلى الله عليه وسلم يجده عتاباً لصالحه صلى الله عليه وسلم رحمة به، وشفقة عليه، لا كما يقول البعض : إن الله تعالى يصحح للرسول خطئاً وقع فيه. ومثال لهذا قوله تعالى :﴿ عبس وتولى " ١ " أن جاءه الأعمى " ٢ " وما يدريك لعله يزكى " ٣ " ﴾
( سورة عبس ) : الله تعالى يعتب على رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه ترك الرجل الذي جاءه سائلاً عن الدين، وشق على نفسه بالذهاب إلى جدال هؤلاء الصناديد، وكأن الحق سبحانه يشفق على رسوله أن يشق على نفسه، فالعتاب هنا حرصاً على رسول الله وعلى راحته.
وكذلك في قوله تعالى :﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم " ١ " ﴾( سورة التحريم ) : والتحريم تضييق على النفس، فالحق سبحانه يعتب على رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه ضيق على نفسه، وحرم عليها ما أحله الله لها. كما تعتب على ولدك الذي سهر طويلاً في المذاكرة حتى أرهق نفسه، فالعتاب لصالح الرسول لا ضده.
قوله تعالى :( أعلم )افعل تفضيل تدل على المبالغة في العلم، وإن كان الحق سبحانه أعلم فما دونه يمكن أن يتصف بالعلم، فنقول : عالم. ولكن الله أعلم ؛ لأن الله تعالى لا يمنع عباده أن تشرئب عقولهم وتطمح إلى معرفة شيء من أسرار الكون.
والمعنى أن الحق سبحانه وتعالى لا يقتصر علمه عليك يا محمد وعلى أمتك، وقد سبقت الآية بقوله تعالى :﴿ ربكم أعلم بكم.. " ٥٤ " ﴾( سورة الإسراء ) : ولكن علمه سبحانه يسع السماوات والأرض علماً مطلقاً لا يغيب عنه مثقال ذرة، وبمقتضى هذا العلم يقسم الله الأرزاق ويوزع المواهب بين العباد، كل على حسب حاله، وعلى قدر ما يصلحه.
فإن رأيت شخصاً ضيق الله عليه فاعلم أنه لا يستحق غير هذا، ولا يصلحه إلا ما قسمه الله له ؛ لأن الجميع عبيد لله مربوبون له، ليس بين أحد منهم وبين الله عداوة، وليس بين أحد منهم وبين الله نسب.
فالجميع عنده سواء، يعطي كلاً على قدر استعداده عطاء ربوبية، لا يحرم منه حتى الكافر الذي ضاق صدره بالإيمان، وتمكن النفاق من قلبه حتى عشق الكفر وأحب النفاق، فالله تعالى لا يحرمه مما أحب ويزيده منه.
إذن : لعلمه سبحانه بمن في السماوات والأرض يعطي عباده على قدر ما يستحقون في الأمور القهرية التي لا اختيار لهم فيها، فهم فيها سواء. أما الأمور الاختيارية فقد تركها الخالق سبحانه لاجتهاد العبد وأخذ بالأسباب، فالأسباب موجودة، والمادة موجودة، والجوارح موجودة، والعقل موجود، والطاقة موجودة. إذن : على كل إنسان أن يستخدم هذه المعطيات ليرتقي بحياته على قدر استطاعته.
ثم يقول تعالى :﴿ ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض.. " ٥٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : من الذي فضل ؟ الله سبحانه وتعالى هو الذي يفضل بعض النبيين على بعض، وليس لنا نحن أن نفضل إلا من فضله الله ؛ لأنه سبحانه هو الذي يملك أن يجازي على حسب الفضل، أما نحن فلا نملك أن نجازي على قدر الفضل.
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من يونس بن متى ". لأن الذي يفضل هو الله تعالى، وقد نص على هذا التفضيل في قوله تعالى :﴿ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس.. " ٢٥٣ " ﴾( سورة البقرة ) : فالتفضيل على حسب ما يعلمه الله تعالى من أن أولى العزم من الرسل قد فضلهم عن غيرهم لما تحملوه من مشقة في دعوة أقوامهم، ولما قاموا به من حمل منهج الله والانسياح به، أو من طول مدتهم من قومهم.. الخ فهو وحده يعلم أسباب التفضيل.
ثم يقول تعالى :﴿ وأتينا داود زبوراً " ٥٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : فلماذا ذكر داود بالذات مقترناً بالكتاب الذي أنزل عليه ؟ قالوا : لأن داود عليه السلام أوتي مع الكتاب الملك، فكان نبياً ملكاً، فكأن الحق سبحانه يشير إلى أن تفضيل داود لا من حيث أنه ملك، بل من حيث هو نبي صاحب كتاب.
وفي الحديث الشريف يقول صلى الله عليه وسلم : " لقد خيرت بين أن أكون عبداً نبياً أو نبياً ملكاً، فاخترت أن أكون عبداً نبياً ".
الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : قل للذين يعارضونك في الوحدانية إذا مسكم ضر فلا تلجأوا إلى من تكفرون به، بل الجأوا إلى من زعمتم أنهم شركاء وآمنتم بهم. فإنهم لن يستمعوا إليك ؛ لأن الإنسان بطبعه لا يخدع نفسه، ولو علموا أن الذين يتخذونهم آلهة من دون الله ينفعونهم في شيء لما دعوا ربهم الذين يكفرون به وتركوا الذين يؤمنون بهم، لماذا ؟
لأن الإنسان لا يتمرد ولا يطغى إلا إذا كان مستغنياً بكل ملكاته، بمعنى أن تكون ملكاته كلها على هيئة الاستقامة والانسجام، فإذا اختلت له ملكة من الملكات ضعف طغيانه، وحاول أن يستكمل هذا النقص، وحينئذ لن يخدع نفسه بأن يطلب الاستكمال ممن لا يملكه، بل يطلبه ممن يعتقد أنه يملكه.
لذلك يقول تعالى :
﴿ وإذا مسكم الضر في البحر من تدعون إلا إياه.. " ٦٧ " ﴾( سورة الإسراء ).
وقال :﴿ وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه.. " ٨ " ﴾( سورة الزمر ) : لماذا ؟ لأن ما أصابه من ضر أضعفه، وكسر عنده غريزة الاستعلاء والاستكبار، لقد كفر بالله من قبل حينما حمله التكاليف، ولكن الآن وبعد أن نزل به الضر وأحاط به البلاء فلابد أن يكون صريحاً مع نفسه لا يخدعها.
وضربنا لهذه المسألة مثلاً بحلاق الصحة عند أهل الريف في الماضي وكان مسئولاً عن صحة الناس، ويقوم مقام الطبيب في هذا الوقت، فإذا ما عين بالقرية طبيب هاجمه الحلاق وأفسد ما بينه وبين الناس، وأشاع عنه عدم العلم وقلة الخبرة ليخلو له وجه الناس، ولا يشاركه أحد في رزقه، ومرت الأيام وأصيب الحلاق بضر، حيث مرض ولد له، فإذا به يحمله خفية بليل، ويتسلل به إلى الطبيب، ولكن سرعان ما ينكشف أمره ويفتضح بين الناس.
إذن : الإنسان في ساعة الضر لا يخدع نفسه ولا يكذب عليها، فقل لهم : إذا مسكم الضر فاذهبوا إلى من ادعيتم أنهم آلهة وأدعوهم، فإنهم لن يستجيبوا ولن يدعوهم، ولو دعوهم فلن يكشفوا عنهم ضرهم :﴿ فلا يملكون كشف الضر عنكم.. " ٥٦ " ﴾( سورة الإسراء ).
وقوله تعالى :﴿ ولا تحويلاً " ٥٦ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : ولا يملكون تحويل حالكم من الضر إلى النفع أو النعمة أو الرحمة، أو : لا يملكون تحويل هذا الضر إلى أعدائكم، فهم إذن لا يملكون هذه ولا هذه.
فالحق سبحانه يلقن رسوله صلى الله عليه وسلم الحجة، ليوضح لهم أنهم يغالطون أنفسهم، ويعارضون مواجيدهم وفطرتهم، فإن أصابهم الضر في ذواتهم لا يلجأون إلى آلهتهم ؛ لأنهم يعلمون أنها لا تملك لهم نفعاً ولا ضراً، ولن تسمعهم، وإن سمعتهم فرضاً ما استجابوا لهم، ويوم القيامة يكفرون بشركهم، بل يلجأون إلى الله الذي يملك وحده كشف الضر عنهم.
فهؤلاء الذين تعتبرونهم آلهة وتتخذونهم شركاء لله، هؤلاء أيضاً عبيد لله، يتقربون إليه ويتوسلون إليه، فالمسيح الذي أشركتموه مع الله، وكذلك الملائكة هم عباد لله :﴿ لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون.. " ١٧٢ " ﴾( سورة النساء ) : هؤلاء لا يرفضون ولا يتأبون أن يكونوا عباداً لله، ويريدون التقرب إليه سبحانه، فكيف إذن تتوجهون إليهم بالعبادة وهم عباد ؟ وقوله تعالى :﴿ يبتغون إلى ربهم الوسيلة.. " ٥٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : يطلبون الغاية والقربى إليه تعالى ( أيهم أقرب )أي : كلما تقرب واحد منهم إلى الله ابتغى الله أكثر من غيره وأقبل عليه، فإذا كان الأقرب إلى الله منهم يبتغي القربى، فما بال الأبعد ؟ وقوله تعالى :﴿ إن عذاب ربك كان محذوراً " ٥٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : يجب الحذر منه وتجنب أسبابه ؛ لأن العذاب إذا كان من الله فلا فكاك منه ولا مهرب، وأيضاً فالعذاب يتناسب مع قدرة المعذب ضعفاً وشدة، فإذا نسب العذاب إلى الله فلا شك أنه أليم شديد، لا طاقة لأحد به، كما قال تعالى :﴿ إن أخذه أليم شديد " ١٠٢ " ﴾( سورة هود ).
والحق سبحانه قد أوضح لنا مسألة الوحدانية في آيات كثيرة، ولم يطلب منا الاعتراف بها إلا بعد أن شهد بها لنفسه سبحانه، وبعد أن شهد بها الملائكة وأولو العلم، قال تعالى :﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم.. " ١٨ " ﴾( سورة آل عمران ) : فشهد الله سبحانه شهادة الذات للذات، وشهدت الملائكة شهادة المشهد والمعاينة، وشهد أولو العلم شهادة الاستدلال، فهذه شهادات ثلاث قبل أن يطلب منا الشهادة.
وبهذه الشهادة أقبل الحق سبحانه على مزاولة سلطانه وقدرته في الكون، ومادام " لا إله إلا هو " يقول للشيء : كن فيكون، قالها لأنه يعلم أنه لا إله إلا هو، وبها يحكم على الأشياء ويغير من وضع إلى وضع، فإن صحت هذه الشهادة الثلاثة فقد انتهت المسألة وإن لم تصح وهناك إله آخر فأين هو ؟ ! إن كان لا يدري فهو إله نائم لا يصلح لهذه المكانة، وإن كان يدري فلماذا لم يطالب بحقه.
إذن : فهذه الدعوى قد سلمت للحق سبحانه لأنه لم يدعها أحد لنفسه، فهي للحق تبارك وتعالى حتى يقوم من يدعيها لنفسه. قال تعالى :﴿ قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً " ٤٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : لو كان للكون إله آخر لطلبوا هذا الإله الذي استقرت له الأمور واستتب له الحال، ليجادلوه في هذه المسألة، أو لطلبوه ليتقربوا إليه.
ساعة أن تسمع ( وإن قرية إلا )فاعلم أن الأسلوب قائم على نفي وإثبات، فالمعنى : لا توجد قرية إلا والله مهلكها قبل يوم القيامة، أو معذبها عذاباً شديداً، لكن هل كل القرى ينسحب عليها هذا الحكم ؟
نقول : لا، لأن هذا حكم مطلق والإطلاقات في القرآن تقيدها قرآنيات أخرى، وسوف نجد مع هذه الآية قول الحق سبحانه :﴿ ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلمٍ وأهلها غافلون " ١٣١ " ﴾( سورة الأنعام ).
وقال تعالى :﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلمٍ وأهلها مصلحون " ١١٧ " ﴾( سورة هود ) : فهذه آيات مخصصة توضح الاستثناء من القاعدة السابقة، وتقيد المبدأ السابق والسور العام الذي جاءت به الآية، فيكون المعنى إذن وإن من قرية غير غافلة وغير مصلحة إلا والله مهلكها أو معذبها. وقوله :﴿ وإن من قريةٍ إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها.. " ٥٨ " ﴾( سورة الإسراء ) :
( مهلكوها )أي : بعذاب الاستئصال الذي لا يبقى منهم أحداً.
( معذبوها )أي : عذاباً دون استئصال.
لأن التعذيب مرحلة أولى، فإن أتى بالنتيجة المطلوبة وأعاد الناس إلى الصواب فبها ونعمت وتنتهي المسألة، فإن لم يقتنعوا وأصروا ولم يرتدعوا وعاندوا يأتي الإهلاك، وهذا واضح في قول الحق سبحانه :﴿ وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " ١١٢ " ﴾ ( سورة النحل ) : والواقع أن في حاضرنا شواهد عدة على هذه المسألة، فلابد لأي قرية طغت وبغت أن ينالها شيء من العذاب، والأمثلة أمامنا واضحة، ولا داعي لذكرها حتى لا ننكأ جراحنا.
وطبيعي أن يأتي العذاب قبل الإهلاك ؛ لأن العذاب إيلام حي يشعر بالعذاب ويحس به، والإهلاك إذهاب للحياة، وهذا يمنع الإحساس بالعذاب.
وباستقراء تاريخ الأمم السابقة نلاحظ ما حاق بهم من سنة إهلاك الظالمين، فقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط نزل بهم عذاب الله الذي لا يرد عن القوم الكافرين، ولكنه كان عذاب استئصال ؛ لأن الأنبياء في هذا الوقت لم يكونوا مطالبين بحمل السلاح لنشر دعوتهم، فكان عليهم البلاغ، والحق سبحانه وتعالى هو الذي يتولى تأديب المخالفين. إلا إذا طلب أتباع النبي الجهاد معه لنشر دعوته، كما حدث من أتباع موسى عليه السلام :﴿ إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم.. " ٢٤٦ " ﴾( سورة البقرة ) : وهكذا طلب بنو إسرائيل القتال وحمل السلاح، ولكن حذرهم نبيهم، وخشي أن يفرض عليهم ثم يتقاعسوا عنه، وهذا ما حدث فعلاً ولم يبق معه إلا قليل منهم، وهذا القليل سرعان ما تراجع هو أيضاً واحداً بعد الآخر.
إذن : الهمة الإنسانية في هذا الوقت لم يكن عندها استعداد ونضج لأن تحمل سلاحاً في سبيل الله، فكان على الرسول أن يبلغ، وعلى السماء أن تؤدب بهذا اللون من العذاب الذي يستأصلهم فلا يبقى منهم أحداً.
أما في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد رحمنا ربنا تبارك وتعالى من هذا العذاب، فقال :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم.. " ٣٣ " ﴾( سورة الأنفال ) : وهذه هي كرامات الله تعالى لرسوله، فلم يأخذ قومه بعذاب الاستئصال، لماذا ؟ لأن رسولهم آخر الرسل وخاتم الأنبياء، وسوف يناط بهم حمل رسالته ونشر دعوته، والانسياح بمنهج الله في شتى بقاع الأرض.
ذلك لأن الحق سبحانه وتعالى حينما يرسل منهجه إلى الأرض يقدر غفلة الناس عن المنهج، ويقدر فكرة التأسي بالجيل السابق، فهذان معوقان في طريق منهج الله، يقول تعالى :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " ١٧٢ " أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم.. " ١٧٣ " ﴾( سورة الأعراف ) : فأوضح لنا الحق سبحانه أن الإنسان يتخبط أو ينحرف عن المنهج، إما بسبب تقليد أعمى لأسوة سيئة، فأول من تلقى عن الله آدم، ثم بلغ ذريته منهج الله، وبمرور الأجيال حدثت الغفلة عن بعض المنهج نتيجة ما ركب في الإنسان من حب للشهوات، وهذه الشهوات هي التي تصرفه عن منهج ربه، فإن حدثت غفلة في جيل فإنها سوف تزداد في الجيل التالي، وهكذا ؛ لأن الجيل سيقع تحت مؤثرين : الغفلة الذاتية فيه، والتأسي بالجيل السابق.
إذن : بتوالي الأجيال وازدياد الغفلة عن المنهج لابد أن الحق سبحانه سيبعث في مواكب الرسل من ينبه الناس. ومن هنا كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة أخرت للناس :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس.. " ١١٠ " ﴾( سورة آل عمران ) : لماذا ؟ ﴿ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله.. " ١١٠ " ﴾( سورة آل عمران ) : فخيرية هذه الأمة ناشئة من حمل رسالة الدعوة، وقد كرم الله أمة محمد بأن جعل كل من آمن به يحمل دعوته إلى يوم القيامة، لقد بلغ الرسول من عاصروه من أمته، وعلى أمته أن تبلغ من بعده ؛ لذلك يشهد علينا رسول الله، ونشهد نحن على الناس.
وفي الحديث الشريف " نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها إلى من لم يسمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع ".
وهكذا تظل في الأمة هذه الخيرية وتحمل دعوة رسولها حيث لا رسول من بعده إلى يوم القيامة، ولأهمية هذا الدور الذي يقوم به المسلمون في كل زمان ومكان ينبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسألة هامة في مجال حمل الدعوة ونشرها، فيقول : " إن كل واحد منكم يقف على ثغرة من ثغرات هذا الدين، فإياكم أن يؤتي الدين من ثغرة أحدكم ". أو كما قال :
فليعلم كل مسلم أنه محسوب للدين أو عليه، فالعيون تتطلع إليه وترصد تصرفاته في مجتمعه، فهو صورة للدين وسفير له، وعليه أن يراعي هذه المسئولية ويقوم بها على أكمل وجه ليكون أداة جذب، وليكون وجهاً مشرقاً لتعاليم هذا الدين.
فأنت حارس على باب من الأبواب، وعليك أن تسده بصدق انطباعك عن الإيمان، وبصدق انقيادك لقضايا الإسلام، وبهذا السلوك تكون وسيلة إغراء للآخرين الذين يراودهم الايمان، ويتراءى لهم منهج الله من بعيد.
ويحلو للبعض أن يأخذوا الإسلام بجريرة أهله، ويحكموا عليه بناءً على تصرفات المنتسبين إليه، وهذا خطأ، فمن أراد الصورة الحقيقية للإسلام فليأخذها من منابع الدين في كتاب الله وسنة رسوله، فإن رأيت بين المنتسبين للإسلام سارقاً فلا تقل : هذا هو الإسلام ؛ لأن الإسلام حرم السرقة، وجعل لها عقوبة وحداً يقام على السارق، وليس لأحد أن يكون حجة على دين الله.
لذلك فإن كبار العلماء والمفكرين الذين درسوا في الدين الإسلامي لم ينظروا إلى تصرفات المسلمين وحاضرهم، بل أخذوه من منابعه الأصلية. ومنهم " جينو " الفرنسي الذي قال : الحمد لله الذي هداني للإسلام قبل أن أعرف المسلمين. لأنه في الحقيقة لو اطلع على أحوالنا الآن لكان في المسألة كلام آخر.
إذن : الذين نظروا إلى قضايا الإسلام نظرة عدل وإنصاف لابد أن يهتدوا إلى الإسلام، لكن منهم من نظر إليه نظرة عدل وإنصاف إلا أنهم أبعدوا قضية التدين من قلوبهم، وإن اقتنعت بها عقولهم، وفرق كبير بين القضية العقلية والقضية القلبية.
ومن هؤلاء الكاتب الذي ألف كتاباً عن العظماء في التاريخ وأسماه : " العظماء مائة أعظمهم محمد بن عبد الله " وهو كاتب غير مؤمن، لكنه أخذ يستقرئ صفحة التاريخ، ويسجل أصحاب الأعمال الجلية التي أثرت في تاريخ البشرية، فوجدهم مائة، وبالمقارنة بينهم وجد أن أعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يترب محمد في مدرسة، ولم يتخرج في جامعة، ولم يجلس إلى معلم.
ألم تسأل نفسك أيها المؤلف : من أين أتى محمد بهذه الأولية ؟ ولماذا استحق أن يكون في المقدمة ؟ لقد ذكرت حيثيات النبوغ في جميع شخصياتك، من تربية ودراسة في جامعات وعلى أساتذة وإطلاع وأبحاث، فلماذا لم تذكر حيثيات النبوغ في رسول الله ؟ ألم تعلم أنه أمي في أمة أمية ؟ مما يدل على أن هذا الباحث تناول هذه القضية بعقله لا بقلبه.
نعود إلى مسألة الإهلاك والعذاب ؛ لأنها أثارت خلافاً بين رجال القانون في موضوع إقامة حد الرجم على الزاني المحصن والجلد للزاني غير المحصن، فقد رأى جماعة منهم أن الجلد ثابت بالقرآن، أما الرجم فثابت بالسنة، لذلك قال بعضهم بأن رجم الزاني المحصن سنة.
وهذا قول خاطئ وبعيد عن الصواب، لأن هناك فرقاً بين سنية الدليل وسنية الحكم، فسنية الدليل أن يكون الأمر فرضاً، لكن دليله من السنة كهذه المسألة التي معنا. وكصلاة المغرب مثلاً ثلاث ركعات وهي فرض لكن دليلها من السنة، أما سنية الحكم فيكون الحكم نفسه سنة يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه كالتسبيح ثلاثاً في الركوع مثلاً.
إذن : فرجم الزاني المحصن فرض، لكن دليله من السنة، فالسنة هنا سنية دليل، لا سنية حكم. فمن يقول : إن الرجم لم يرد به نص في كتاب الله، تقول : الدليل عليه جاء في السنة، وهي المصدر الثاني للتشريع، حتى على قول من قال بأن القرآن هو المصدر الوحيد للتشريع، ففي القرآن :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.. " ٧ " ﴾( سورة الحشر ).
إذن : ففعل الرسول صلى الله عليه وسلم كنص القرآن سواء بسواء، وهل رجم في عهد رسول الله أو لم يرجم ؟ رجم فعلاً في عهد رسول الله، فإن قال قائل : فهذا ليس نصاً في الرجم. نقول : بل الفعل أقوى من النص قد تتأول فيه، أما الفعل فهو صريح لا يحتمل تأويلاً.
ودليل آخر على فرضية الرجم، وهو الشاهد في هذه الآية، في قوله تعالى عن إقامة الحد على الأمة :﴿ فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب.. " ٢٥ " ﴾( سورة النساء ) : فيقولون : الرجم لا ينصف. إذن : ليس هناك رجم. نقول : أنتم لم تفرقوا بين الرجم وبين العذاب، فالرجم إماتة، والعذاب إيلام لحي يشعر ويحس بهذا الإيلام، والمقصود به ( الجلد ). إذن :﴿ فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب.. " ٢٥ " ﴾( سورة النساء ) : أي : من الجلد، وهو الذي ينصف، ولو كان الحكم عاماً لقال : فعليهن نصف ما على المحصنات. فقوله :﴿ من العذاب.. " ٢٥ " ﴾( سورة النساء ) : دليل على وجود الرجم الذي لا فرق فيه بين حرة وأمة. وكذلك نلحظ التدرج من العذاب إلى الإهلاك في قول سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حينما تفقد الطير، واكتشف غياب الهدهد :﴿ لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه.. " ٢١ " ﴾( سورة النمل ).
ولسائل أن يسأل : هل لابد للقرى الظالمة أن ينالها الإهلاك أو العذاب قبل يوم القيامة ؟
نعم لابد أن يمسهم شيء من هذا ؛ لأن الله تعالى أو أخر كل العذاب لهؤلاء إلى يوم القيامة لاستشرى الظلم وعم الفساد في الكون، وحين يرى الناس الظالم، أما إذا رأوه وقد حاق به سوء عمله، ونزلت به النوازل لارتدعوا عن الظلم، ولعلموا أن عاقبته وخيمة، ولن يفلت الظالم من عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة. أما لو تأخر عذاب الظالمين إلى الآخرة، فالويل ممن لا يؤمنون بها.
لذلك لما مات رأس من رؤوس الظلم في الشام، ولم ير الناس أثراً لعذاب أو نقمة، قال أحدهم : إن وراء هذا الدار داراً يجازى فيها المحسن بإحس
الآيات : جمع آية، وهي الأمر العجيب الذي يلفت النظر ويسترعى الانتباه، وهذه الآيات إما أن تكون آيات كونية نستدل بها على قدرة المدبر الأعلى سبحانه مثل المذكورة في قوله تعالى :﴿ ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر.. " ٣٧ " ﴾( سورة فصلت ) : وقد تكون الآيات بمعنى المعجزة التي تثبت صدق الرسول في البلاغ عن ربه تعالى، وقد تكون الآيات بمعنى آيات القرآن الكريم، والتي يسمونها حاملة الأحكام.
فالآيات إذن ثلاثة : كونية، ومعجزات، وآيات القرآن. فأيها المقصود في الآية :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات.. " ٥٩ " ﴾( سورة الإسراء ) : الآيات الكونية وهي موجودة لا تحتاج إلى إرسال، الآيات القرآنية وهي موجودة أيضاً، بقى المعجزات وهي موجودة، وقد جاءت معجزة كل نبي على حسب نبوغ قومه، فجاءت معجزة موسى من نوع السحر الذي نبغ فيه بنو إسرائيل، وكذلك جاءت معجزة عيسى مما نبغ فيه قومه من الطب.
وجاءت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم في الفصاحة والبلاغة والبيان ؛ لأن العرب لم يظهروا نبوغاً في غير هذا المجال، فتحداهم بما يعرفونه ويجيدونه ليكون ذلك أبلغ في الحجة عليهم.
إذن : فما المقصود بالآيات التي منعها الله عنهم ؟
المقصود بها ما طلبوه من معجزة أخرى، جاءت في قوله تعالى :﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " ٩٠ " أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا " ٩١ " أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا " ٩٢ " أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه.. " ٩٣ " ﴾( سورةالإسراء ) : والمتأمل في كل هذه الاقتراحات من كفار مكة يجدها بعيدة كل البعد عن مجال المعجزة التي يراد بها في المقام الأول تثبيت الرسول، وبيان صدق رسالته وتبليغه عن الله، وهذه لا تكون إلا في أمر نبغ فيه قومه ولهم به إلمام، وهم أمة كلام وفصاحة وبلاغة، وهل لهم إلمام بتفجير الينابيع من الأرض ؟ وهل إسقاط السماء عليهم كسفاً يقوم دليلاً على صدق الرسول ؟ أم أنه الجدل العقيم والاستكبار عن قبول الحق ؟
إذن : جلس كفار مكة يقترحون الآيات ويطلبون المعجزات، والحق سبحانه وتعالى ينزل من المعجزات ما يشاء، وليس لأحد أن يقترح على الله أن يجبره على شيء، قال تعالى :﴿ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون " ١٦ " ﴾( سورة يونس ) : فالحق تبارك وتعالى قادر أن ينزل عليهم ما اقترحوه من الآيات، فهو سبحانه لا يعجزه شيء، ولا يتعاظمه شيء، ولكن للبشر قبل ذلك سابقة مع المعجزات.
والحق سبحانه يقول :﴿ وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها.. " ٥٩ " ﴾( سورة الإسراء ) : مبصرة : أي آية بينة واضحة.
لقد طلب قوم ثمود معجزة بعينها فأجابهم الله وأنزلها لهم، فما كان منهم إلا أن استكبروا عن الإيمان، وكفروا بالآية التي طلبوها، بل وأكثر من ذلك ظلموا بها أي : جاروا على الناقة نفسها، وتجرأوا عليها فعقروها.
وهذه السابقة مع ثمود هي التي منعتنا عن إجابة أهل مكة فيما اقترحوه من الآيات، وليس عجزاً منا عن الإتيان بها.
وقوله تعالى عن الناقة أنها آية ( مبصرة )لبيان وضوحها كما في قوله تعالى :﴿ وجعلنا آية النهار مبصرة.. " ١٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : فهل آية النهار مبصرة، أم مبصر فيها ؟
كانوا قديماً يعتقدون أن الإنسان يرى الشيء من شعاع ينطلق من عينة إلى الشيء المرئي فتحدث الرؤية، إلى أن جاء ابن الهيثم وأثبت خطأ هذه المقولة، وبين أن الإنسان يرى الشيء إذا خرج من الشيء شعاع إلى العين فتراه، بدليل أنك ترى الشيء إذا كان في الضوء، ولا تراه إذا كان في ظلمة، وبهذا الفهم نستطيع القول بأن آية النهار هي المبصرة ؛ لأن أشعتها هي التي تسبب الإبصار.
ثم يقول تعالى :﴿ وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً " ٥٩ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : نبعث بآيات غير المعجزات لتكون تخويفاً للكفار والمعاندين، فمثلاً الرسول صلى الله عليه وسلم اضطهده أهل مكة ودبروا لقتله جهاراً وعلانية، فخيب الله سعيهم ورأوا أنهم لو قتلوه لطالب أهله بدمه، فحاكوا مؤامرة أخرى للفتك به بليل، واقترحوا أن يؤتي من كل قبيلة بفتى جلدٍ، ويضربوه ضربة رجل واحد.
ولكن الحق سبحانه أطلع رسوله على مكيدتهم، ونجاه من غدرهم، فإذا بهم يعملون له السحر ليوقعوا به، وكان الله لهم بالمرصاد، فأخبر رسوله بما يدبر له، وهكذا لم يفلح الجهر ولم يفلح التبييت، ولم يفلح السحر، وباءت محاولاتهم كلها بالفشل، وعلموا أنه لا سبيل إلى الوقوف في وجه الدعوة بحال من الأحوال، وأن السلام في الإيمان والسير في ركابه من أقصر الطرق.
إذن : للحق سبحانه آيات أخرى تأتي لردع المكذبين عن كذبهم، وتخوفهم بما حدث لسابقيهم من المكذبين بالرسل، حيث أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، ومن آيات التخويف هذه ما جاء في قوله تعالى :
﴿ فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " ٤٠ " ﴾( سورة العنكبوت ) :
فكل هذه آيات بعثها الله على أمم من المكذبين، كل بما يناسبه.
أي : اذكر يا محمد، وليذكر معك أصحابك إذ قلنا لك : إن ربك أحاط بالناس، فلا يمكن أن يتصرفوا تصرفاً، أو يقولوا قولاً يغيب عن علمه تعالى، لأن الإحاطة تعني الإلمام بالشيء من كل ناحية.
ومادام الأمر كذلك فاطمئن يا محمد، كما نقول في المثل ( حط في بطنك بطيخة صيفي )، واعلم أنهم لن ينالوا منك لا جهرة ولا تبيتاً، ولا استعانة بالجنس الخفي ( الجن ) ؛ لأن الله محيط بهم، وسيبطل سعيهم، ويجعل كيدهم في نحورهم.
لذلك لما تحدى الحق سبحانه وتعالى الكفار بالقرآن تحدى الجن أيضاً، فقال :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " ٨٨ " ﴾( سورة الإسراء ) : ففي هذا الوقت كان يشيع بين العرب أن كل نابغة في أمر من الأمور له شيطان يلهمه، وكانوا يدعون أن هذه الشياطين تسكن وادياً يسمى " وادي عبقر " في الجزيرة العربية، فتحداهم القرآن أن يأتوا بالشياطين التي تلهمهم.
وهكذا يطمئن الحق سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه يحيط بالناس جميعاً، ويعلم كل حركاتهم ظاهرة أو خفية من جنس ظاهر أو من جنس خفي، وباطمئنان رسول اله تشيع الطمأنينة في نفوس المؤمنين.
وهذا من قيوميته تعالى في الكون، وبهذه القيومية نرد على الفلاسفة الذين قالوا بأن الخالق سبحانه زاول سلطانه في الكون مرة واحدة، فخلق النواميس، وهي التي تعمل في الكون، وهي التي تسيره.
والرد على هذه المقولة بسيط، فلو كانت النواميس هي التي تسير في الكون ما رأينا في الكون شذوذاً عن الناموس العام ؛ لأن الأمر الميكانيكي لا يحدث خروجاً عن القاعدة، إذن : فحدوث الشذوذ دليل القدرة التي تتحكم وتستطيع أن تخرق الناموس.
ومثال ذلك : النار التي أشعلوها لحرق نبي الله وخليله إبراهيم عليه السلام فهل كان حظ الإيمان أو الإسلام في أن ينجو إبراهيم من النار ؟
لا.. لم يكن الهدف نجاة إبراهيم عليه السلام، وإلا لما مكنهم الله من الإمساك به، أو سخر سحابة تطفئ النار، ولكن أراد سبحانه أن يظهر لهم آية من آياته في خرق الناموس، فمكنهم من إشعال النار ومكنهم من إبراهيم حتى ألقوه في النار، ورأوه في وسطها، ولم يعد لهم حجة، وهنا تدخلت القدرة الإلهية لتسلب النار خاصية الإحراق :﴿ قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم " ٦٩ " ﴾ ( سورة الأنبياء ).
إذن : فالناموس ليس مخلوقاً ليعمل مطلقاً، وما حدث ليس طلاقة ناموس، بل طلاقة قدرة للخالق سبحانه وتعالى.
فكأن الحق سبحانه يريد أن يسلي رسوله ويؤنسه بمدد الله له دائماً، ولا يفزعه أن يقوم قومه بمصادمته واضطهاده، ويريد كذلك أن يطمئن المؤمنين ويبشرهم بأنهم على الحق.
وقوله تعالى :﴿ أحاط بالناس.. " ٦ " ﴾( سورة الإسراء ) : الإحاطة تقتضي العلم بهم والقدرة عليهم، فلن يفلتوا من علم الله ولا من قدرته، ولابد من العلم مع القدرة ؛ لأنك قد تعلم شيئاً ضاراً ولكنك لا تقدر على دفعه، فالعلم وحده لا يكفي، بل لابد له من قدرة على التنفيذ، إذن : فإحاطته سبحانه بالناس تعني أنه سبحانه يعلمهم ويقدر على تنفيذ أمره فيهم.
كلمة ( الناس )تطلق إطلاقات متعددة، فقد يراد بها الخلق جميعاً من آدم إلى قيام الساعة، كما في قوله الحق تبارك وتعالى :﴿ قل أعوذ برب الفلق " ١ " من شر ما خلق " ٢ " ومن شر غاسق إذا وقب " ٣ " ومن شر النفاثات في العقد " ٤ " ومن شر حاسد إذا حسد " ٥ " من الجنة والناس " ٦ " ﴾ ( سورة الناس ) : وقد يراد بها بعض الخلق دون بعض، كما في قوله تعالى :﴿ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.. " ٥٤ " ﴾( سورة النساء ) : فالمراد بالناس هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عنه كفار مكة :﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجلٍ من القريتين عظيمٍ " ٣١ " ﴾( سورة الزخرف ).
وكما في قوله تعالى :﴿ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم.. " ١٧٣ " ﴾( سورة آل عمران ) : فهؤلاء غير هؤلاء. وقد وقف العلماء عند كلمة الناس في الآية :﴿ إن ربك أحاط بالناس.. " ٦٠ " ﴾( سورة الإسراء ).
وقصروها على الكافرين الذين يقفون من رسول الله موقف العداء، لكن لا مانع أن نأخذ هذه الكلمة على عمومها، فيراد بها أحاط بالمؤمنين، وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحاط بالكافرين وعلى رأسهم صناديد الكفر في مكة.
لذلك فالإحاطة هنا ليست واحدة، فلكل منهما إحاطة تناسبه، فإن كنت تريد الإحاطة بالمؤمنين وعلى رأسهم رسول الله فهي إحاطة عناية وحماية حتى لا ينالهم أذى، وإن أردت بها الكافرين فهي إحاطة حصار لا يفلتون منه ولا ينفكون عنه، وهذه الإحاطة لها نظير، وهذه لها نظير. فنظير الإحاطة بالكافرين قوله تعالى :﴿ حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريحٍ طيبةٍ وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكانٍ وظنوا أنهم أحيط بهم.. " ٢٢ " ﴾( سورة يونس ) : أي : حوصروا وضيق عليهم فلا يجدون منفذاً. ونظير الإحاطة بالمؤمنين وعلى رأسهم رسول الله قوله تعالى :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين " ١٧١ " إنهم لهم المنصورون " ١٧٢ " ﴾( سورة الصافات ) : فالحق سبحانه محيط بالمؤمنين وبرسوله صلى الله عليه وسلم إحاطة عناية، وكأنه يقول له : امض إلى شأنك وإلى مهمتك، ولن يضيرك ما يدبرون.
لذلك كان المؤمنون في أوج فترات الاضطهاد والقسوة من الكفار في وقت كل المؤمنون غير قادرين حتى على حماية أنفسهم ينزل قول الحق تبارك وتعالى :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر " ٤٥ " ﴾( سورة القمر ) : حتى أن عمر رضي الله عنه الذي جاء القرآن على وفق رأيه يقول : أي جمع هذا ؟ ! ويتعجب، كيف سنهزم هؤلاء ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا وهذه تسلية لرسول الله وتبشير للمؤمنين، فمهما نالوكم بالاضطهاد والأذى فإن الله ناصركم عليهم. وكما قال في آية أخرى :﴿ وإن جندنا لهم الغالبون " ١٧٣ " ﴾( سورة الصافات ) : فاذكر جيداً يا محمد حين تنزل بك الأحداث، ويظن أعداؤك أنهم أحاطوا بك، وأنهم قادرون عليك، اذكر أن الله أحاط بالناس، فأنت في عناية فلن يصيبك شر من الخارج، وهم في حصار لن يفلتوا منه.
ثم يقول تعالى :﴿ وما جعلنا الرؤيا إلا فتنة للناس.. " ٦٠ " ﴾( سورة الإسراء ) : كلمة ( الرؤيا )مصدر للفعل رأى، وكذلك ( رؤية )مصدر للفعل رأى، فإن أردت الرؤيا المنامية تقول : رأيت رؤيا، وإن أردت رأى البصرية تقول : رأيت رؤية. ومن ذلك قول يوسف عليه السلام في المنام الذي رآه :﴿ وقال يا أبتِ هذا تأويل رأياي من قبل.. " ١٠٠ " ﴾( سورة يوسف ) : ولم يقل رؤيتي. إذن : فالفعل واحد، والمصدر مختلف. وقد اختلف العلماء : ما هي الرؤيا التي جعلها الله فتنة للناس ؟
جمهرة العلماء على أنها الرؤيا التي ثبتت في أول السورة :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.. " ١ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : حادثة الإسراء والمعراج. وبعضهم رأى أنها الرؤيا التي قال الله فيها :﴿ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا " ٢٧ " ﴾
( سورة الفتح ).
فقد وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم سيدخلون المسجد الحرام في هذا العام، ولكن منعوا من الدخول عند الحديبية، فكانت فتنة بين المسلمين وتعجبوا أن يعدهم رسول الله وعداً ولا ينجزه لهم.
ثم بين الحق تبارك وتعالى لهم الحكمة من عدم دخول مكة هذا العام، فأنزل على رسوله وهو في طريق عودته إلى المدينة :﴿ هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما " ٢٥ " ﴾( سورة الفتح ) :
إذن : الحق سبحانه منعهم تحقيق هذه الرؤيا في الحديبية ؛ لأنهم لو دخلوا مكة محاربين حاملين السلاح، وفيها مؤمنون ومؤمنات لا يعلمهم أحد، وسوف يصيبهم من الأذى وينالهم من هذه الحرب ؛ لأنهم لن يميزوا بين مؤمن وكافر، فقد يقتلون مؤمناً فتصيبهم معرة بقتله، ولو أمكن التمييز بين المؤمنين والكفار لدخول مكة رغماً عن أنوف أهلها.
لذلك كان من الطبيعي أن يتشكك الناس فيما حدث بالحديبية، وأن تحدث فتنة تزلزل المسلمين، حتى إن الفاروق ليقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألسنا على الحق ؟ أليسوا هم على الباطل ؟ ألست رسول الله ؟ فيقول أبو بكر : الزم غرزه يا عمر، إنه رسول الله.
وقد ساهمت السيدة أم سلمة أم المؤمنين في حل هذا الإشكال الذي حدث نتيجة هذه الفتنة، فلما اعترض الناس على رسول الله في عودته من الحديبية دخل عليها، فقال : " يا أم سلمة، هلك المسلمون، أمرتهم فلم يمتثلوا ". فقالت : يا رسول الله إنهم مكروبون، جاءوا على شوق للبيت، ثم منعوا وهم على مقربة منه، ولا شك أن هذا يشق عليهم، فامض يا رسول الله لما أمرك الله، فإذا رأوك عازماً امتثلوا، ونجح اقتراح السيدة أم سلمة في حل هذه المسألة.
وقال بعضهم : إن المراد بالرؤيا التي جعلها الله فتنة ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل غزوة بدر، حيث أقسم وقال : " والله لكأني انظر إلى مصارع القوم ". وأخذ يومئ إلى الأرض وهو يقول : " هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان ".
وفعلاً، جاءت الأحداث موافقة لقوله صلى الله عليه وسلم فقل لي : بالله عليك، من الذي يستطيع أن يتحكم في معركة كهذه، الأصل فيها الكر والفر، والحركة والانتقال ليحدد الأماكن التي سيقتل فيها هؤلاء، اللهم إنه رسول الله.
لكن أهل التحقيق من العلماء قالوا : إن هذه الأحداث سواء ما كان في الحديبية، أو ما كان من أمر الرسول يوم بدر، هذه أحداث حدثت في المدينة، والآية المرادة مكية، مما يجعلنا نستبعد هذين القولين ويؤكد أن القول الأول وهو الإسراء والمعراج هو الصواب.
وقد يقول قائل : وهل كان الإسراء والمعراج رؤيا منامية ؟ إنه كان رؤية بصرية، فما سر عدول الآية عن الرؤية البصرية إلى الرؤيا المنامية ؟ وكيف يعطي الحق سبحانه وتعالى للكفار والمشككين فرصة لأن يقول : إن الإسراء والمعراج كان مناماً ؟
نقول : ومن قال إن كلمة رؤيا مقصورة على المنامية ؟ إنها في لغة العرب تطلق على المنامية وعلى البصرية، بدليل قول شاعرهم الذي فرح بصيد ثمين عن له :
فكبر للرؤيا وهاش فؤاده**** وبشر نفساً كان قبل يلومها
أي : قال الله اكبر حينما رأى الصيد الثمين يقترب منه، فعبر بالرؤيا عن الرؤية البصرية.
لكن الحق سبحانه اختار كلمة ( رؤيا )ليدل على أنها شيء عجيب وغريب كما نقول مثلاً : هذا شيء لا يحدث إلا في المنام. وهذا من دقة الأداء القرآني، فالذي يتكلم رب، فاختار الرؤيا ؛ لأنها معجزة الإسراء وذهاب النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس في ليلة.
فوجه الإعجاز هنا ليس في حدث الذهاب إلى بيت المقدس لأن كثيراً من كفار مكة قد ذهب إليها في رحلات التجارة أو غيرها، بل وجه الإعجاز في الزمن الذي اختصر لرسول الله، فذهب وعاد في ليلة واحدة، بدليل أنهم سألوا رسول الله " صف لنا بيت المقدس ".
ولو كانوا يشكون في الحدث ما س
أي : تذكروا أن الحسد قديم قدم وجود الإنسان على هذه الأرض، تذكروا ما كان من أمر آدم عليه السلام وإبليس لعنه الله، فهي مسألة قديمة ومستمرة في البشر إلى يوم القيامة.
والمعنى : واذكر يا محمد، وليذكر معك قومك إذ قلنا للملائكة : اسجدوا لآدم. وسبق أن تكلمنا عن السجود، ونشير هنا إلى أن السجود لا يكون إلا الله تعالى، لكن إذا كان الأمر بالسجود لغير الله من الله تعالى، فليس لأحد أن يعترض على هذا السجود ؛ لأنه بأمر الله الذي يعلم أن سجودهم لآدم ليس عيباً وليس قدحاً في دينهم وعبوديتهم للحق سبحانه وتعالى ؛ لأن العبودية طاعة أوامر.
والمراد بالملائكة المدبرات أمراً، الذين قال الله فيهم :﴿ له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله.. " ١١ " ﴾( سورة الرعد ) : وقد أمرهم الله بالسجود لآدم ؛ لأنه سيكون أبا البشر، وسوف يسخر له الكون كله، حتى هؤلاء الملائكة سيكونون في خدمته ؛ لذلك أمرهم الله بالسجود له سجود طاعة وخضوع لما أريده منكم، إذن : السجود لآدم ليس خضوعاً لآدم، بل خضوعاً لأمر الله لهم.
وقوله تعالى :﴿ إلا إبليس.. " ٦١ " ﴾( سورة الإسراء ) : فهم البعض منها أن إبليس كان من الملائكة، ونحن نعذر أصحاب هذا الفهم لو عزلنا هذه الآية عن بقية الآيات التي تحدثت عن هذه القضية، لكن طالما نتكلم في موضوع عام مثل هذا، فيجب استحضار جميع الآيات الواردة فيه لتتضح لنا الصورة كاملة. فإذا كان دليل أصحاب هذا القول : الالتزام بأن الله قال :﴿ فسجدوا إلا إبليس.. " ٦١ " ﴾( سورة الإسراء ) : وقد كان الأمر للملائكة فهو منهم، سوف نسلم لهم جدلاً بصحة قولهم، لكن ماذا يقولون في قول الحق سبحانه في القرآن الذي أخذوا منه حجتهم :﴿ فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه.. " ٥٠ " ﴾( سورة الكهف ).
فإن كان دليلكم الالتزام، فدليلنا نص صريح في أنه من الجن، فإن قال قائل : كيف يكون من الجن ويؤاخذ على أنه لم يسجد ؟
نقول : إبليس من الجن بالنص الصريح للقرآن الكريم، لكن الحق سبحانه وتعالى آخذه على عدم السجود لآدم واعتبره من الملائكة ؛ لأنه كان مطيعاً عن اختيار، والملائكة مطيعون عن جبلة وعن طبيعة.
فبذلك كانت منزلة إبليس أعلى من منزلة الملائكة، لأنه مختار أن يطيع أو أن يعصي، لكنه أطاع مع قدرته على العصيان فأصبح جليس الملائكة، بل طاووس الملائكة الذي يزهو عليهم ويتباهى بأنه صالح للاختيار في العصيان، ومع ذلك ألزم نفسه منهج الله.
فإذا أصبح في منزلة أعلى من الملائكة وأصبح في حضرتهم، فإن الأمر إذا توجه إلى الأدنى في الطاعة فإن الأعلى أولى بهذا الأمر، وكذلك إن اعتبرناه أقل منهم منزلة، وجاء الأمر للملائكة بالسجود فإن الأمر للأعلى أمر كذلك للأدنى، وهكذا إن كان أعلى فعليه أن يسجد، وإن كان أدنى فعليه أن يسجد.
وقد ضربنا لذلك مثلاً ولله المثل الأعلى إذا دخل رئيس الجمهورية على الوزراء فإنهم يقومون له إجلالاً واحتراماً، وهب أن معهم وكلاء وزارات فإنهم سوف يقومون أيضاً ؛ لأنهم ارتفعوا إلى مكان وجودهم.
ومن الإشكالات التي أثارها المستشرقون حول هذا الموضوع اعتراضهم على قول القرآن عن إبليس مرة ( أبى )ومرة أخرى ( استكبر )ومرة ( أبى واستكبر )، وكذلك قوله مرة :﴿ ما منعك أن تسجد.. " ٧٥ " ﴾
( سورة ص ).
ومرة أخرى يقول :﴿ ما منعك ألا تسجد.. " ١٢ " ﴾( سورة الأعراف ) : وقد سبق أن تحدثنا عن قصور هؤلاء في فهم أساليب العربية ؛ لأنها ليست لديهم ملكة، والمتأمل في هذه الأساليب يجدها منسجمة يكمل بعضها بعضاً.
فالإباء قد يكون مجرد امتناع لا عن استكبار، فالحق سبحانه يريد أن يقول : إنه أبى استكباراً، فتنوع الأسلوب القرآني ليعطينا هذا المعنى.
أما قوله تعالى :﴿ ما منعك أن تسجد.. " ٧٥ " ﴾( سورة ص )، و ﴿ ما منعك ألا تسجد.. " ١٢ " ﴾ ( سورة الأعراف ) : صحيح أن في الأولى إثباتاً وفي الأخرى نفياً، والنظرة العجلى تقول : إن ثمة تعارضاً بين الآيتين، مما حمل العلماء على القول بأن ( لا )في الآية الثانية زائدة، فالأصل :﴿ ما منعك أن تسجد.. " ٧٥ " ﴾( سورة ص ) : كأنه هم أن يسجد، فجاءه من يمنعه عن السجود، لأنه لا يقال : ما منع من كذا إلا إذا كان لديك استعداد للفعل، وإلا من أي شيء سيمنعك ؟ أما :﴿ ما منعك ألا تسجد.. " ١٢ " ﴾( سورة الأعراف : تعني : ما منعك بإقناعك بأن لا تسجد، فالمعنيان مختلفان، ونحن في حاجة إليهما معاً. ثم يقول تعالى :﴿ أأسجد لمن خلقت طيناً " ٦١ " ﴾( سورة الإسراء ) : والهمزة للاستفهام الذي يحمل معنى الاعتراض أو الاستنكار، وقد فسرت هذه الآية بآيات أخرى، مثل قوله تعالى :﴿ أنا خير منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ " ١٢ " ﴾( سورة الأعراف ) : فالمخلوقية لله متفق عليها، إنما الاختلاف في عنصر المخلوقية هذا من نار وهذا من طين، لكن من قال لك يا إبليس : إن النار فوق الطين، أو خير منه ؟ من أين أتيت بهذه المقولة وكلاهما مخلوق لله، وله مهمة في الكون ؟ وهل نستطيع أن نقول : إن العين خير من الأذن مثلاً ؟ أم أن لكل منهما مهمتها التي لا تؤديها الأخرى ؟
وسبق أن قلنا مثلاً : إنك تفضل الحديد إن كان مستقيماً، أما إن أردت خطافاً فالاعوجاج خير من الاستقامة، أو : أن اعوجاجه هو عين الاستقامة فيه، فكل شيء في الوجود مخلوق لغاية ولمهمة ولا يكون جميلاً ولا يكون خيراً إلا إذا أدى مهمته في الحياة، فمن أين جاء إبليس بخيرية النار على الطين ؟
والنار الأصل فيها الخشب الذي توقد به، والخشب من الطين، إذن : فالطين قبل النار وأفضل منه، فقياس إبليس إذن قياس خاطئ. ومعنى :﴿ خلقت طيناً " ٦١ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : يعني : خلقته حال كونه من الطين، أو خلقته من طين، والخلق من الطين مرحلة من مراحل الخلق ؛ لأن الخلق المباشر له مراحل سبقته.
فقوله تعالى :﴿ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي.. " ٢٩ " ﴾( سورة الحجر ) : سبقته مراحل متعددة، قال عنها الخالق سبحانه مرة : من الماء. ومرة : من التراب. ومرة : من الطين. والماء إذا خلط بالتراب صار طيناً، وبمرور الوقت يسود هذا الطين، وتتغير رائحته، فيتحول إلى حمأ مسنون.
وما أشبه الحمأ المسنون بما يفعله أهل الريف في صناعة الطوب، حيث يخلطون الماء بالتراب بالقش، ويتركونه فترة حتى يختمر ويأكل بعضه بعضاً، وتتغير رائحته ويعطن، ثم يصبونه في قوالب. فإذا ما ترك الطين حتى يجف، ويتحول إلى الصلابة يصير صلصالاً كالفخار، يعني يحدث رنة إذا طرقت عليه.
وبعد كل هذه المراحل يقول تعالى :﴿ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " ٢٩ " ﴾
( سورة الحجر ).
إذن : لا وجه للاعتراض على القرآن في قوله عن خلق الإنسان مرة أنه : من : ماء، أو من تراب، أو طين، أو حمأ مسنون، فهذه كلها مراحل للمكون الواحد.
( قال )أي : إبليس ( أرأيتك )الهمزة للاستفهام، والتاء للخطاب، وكذلك الكاف، وجمع بينهما في الخطاب للتأكيد، كما تقول : أنت أنت تفعل ذلك. والمعنى : أخبرني، لأن رأي البصرية تطلق في القرآن على معنى العلم ؛ لأن علم العين علم مؤكد لاشك فيه.
لذلك قالوا :( ليس مع العين أين )فما تراه أمامك عياناً، وإن كان للعلم وسائل كثيرة فأقواها الرؤية ؛ لأنها تعطي علماً مؤكداً على خلاف الأذن مثلاً، فقد تسمع بها كلاماً تعرف بعد ذلك أنه كذب.
وقد ورد هذا المعنى في قوله الحق سبحانه :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصبحاب الفيل " ١ " ﴾( سورة الفيل )
واستخدم الفعل ترى، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في عام الفيل وليداً لم ير شيئاً، فالمعنى : ألم تعلم، ولكن الحق سبحانه عدل عن " تعلم " إلى " تر " كأنه يقول للرسول صلى الله عليه وسلم : إذا أخبرك الله بمعلوم، فاجعل إخبار الله لك فوق رؤيتك بعينك.
فقوله تعالى :﴿ أرأيتك هذا الذي كرمت علي.. " ٦٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : أعلمني، لماذا فضلته علي، وكأن تفضيل آدم على إبليس مسألة تحتاج إلى برهان وتبرير، وكان على إبليس أن ينتظر إجابة هذا السؤال الذي توجه به لربه عز وجل، ولكنه تعجل وحمله الغيظ والحسد على أن يقول :﴿ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً " ٦٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : وهذا لأن حقده وعداوته لآدم مسبقة فلم ينتظر الجواب.
ومعنى :( أخرتن )أخرت أجلي عن موعده، كأنه يعلم أن الله يجعل لكل نفس منفوسة من إنس أو جن أجلاً معلوماً، فطلب أن يؤخره الله عن أجله، وهذه مبالغة منه في اللدد والعناد، فلم يتوعدهم ويهددهم مدة حياته هو، بل إلى يوم القيامة، فإن كانت البداية مع آدم فلن ينجو ولن تنجو ذريته أيضاً.
فالعداوة بين إبليس وآدم، فما ذنب ذريته من بعده ؟ لقد كان عليه أن يقصر هذا الحقد، وهذه العداوة على آدم، ثم يوصي ذريته بحمل هذا العداء من بعده، إنه الغيظ الدفين الذي يملأ قلبه. وقد أمهله الحق سبحانه بقوله :﴿ إنك من المنظرين " ١٥ " ﴾( سورة الأعراف ).
ومعنى :﴿ لأحتنكن ذريته.. " ٦٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : اللام للقسم، كما اقسم في آية أخرى :
﴿ فبعزتك لأغوينهم أجميعن " ٨٢ " ﴾( سورة ص ) : وعجيب أمر إبليس، يقسم بالله وهو يعلم أن العمر والأجل بيده سبحانه، فيسأله أن يؤخره، ومع ذلك لا يطيع أمره.
والاحتناك : يرد بمعنيين : الأول : الاستئصال. ومنه قولهم : احتنك الجراد الزرع. أي : أتى عليه كله واستأصله، والآخر : بمعنى القهر على التصرف، مأخوذ من اللجام الذي يوضع في حنك الفرس، ويسمونه ( الحنكة )وبها تستطيع أن توجه الفرس يميناً أو يساراً أو توقفه، فهي أداة التحكم فيه، والسيطرة عليه قهراً.
فالاحتناك قد يكون استئصالاً للذات، وقد يكون قهراً لحركتها. وقوله سبحانه :﴿ إلا قليلاً " ٦٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : فيها دليل على علم إبليس ومعرفته بقدرة الله تعالى، فعرف كيف يقسم به حين قال :﴿ فبعزتك لأغوينهم أجميعن " ٨٢ " ﴾( سورة ص ) : والمعنى : بعزتك عن خلقك :﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " ٢٩ " ﴾( سورة الكهف ) : سأدخل من هذا الباب، أما عبادك الذين هديتهم واصطفيتهم فلا دخل لي بهم، وليس لي عليهم سلطان، لقد تذكر قدرة الله، وأن الله إذا أراد إخلاص عبده لنفسه لا يستطيع الشيطان أن يأخذه، فقال :﴿ إلا عبادك منهم المخلصين " ٨٣ " ﴾( سورة ص ).
فقوله :﴿ إلا قليلاً " ٦٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : هذا القليل المستثنى هم المؤمنون الذي اختارهم الله وهداهم، ولم يجعل للشيطان عليهم سبيلاً.
قوله تعالى( اذهب )أمر يحمل معنى الطرد والإبعاد.
﴿ فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم.. " ٦٣ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : الذين اتبعوك وساروا في ركابك فجزاؤهم جهنم.
ونلاحظ أن الحق سبحانه قال :( جزاؤكم ). ولم يقل ( جزاؤهم )لأنه معهم وداخل في حكمهم، وهو سبب غوايتهم وضلالهم، وكذلك هو المخاطب في الآية الكريمة، وحتى لا يظن إبليس أن الجزاء مقصور على العاصين من ذرية آدم، أو يحتج بأنه ينفذ أوامر الله الواردة في قوله تعالى :﴿ واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا " ٦٤ " ﴾( سورة الإسراء ) : فليست هذه أوامر يراد تنفيذها ؛ لأن هناك فرقاً بين الأمر الذي يراد منه تنفيذ الفعل، والأمر الذي لا يراد منه التنفيذ. فالأول طلب أعلى من أدنى لكي يفعل : اكتب، اجلس. لكن إذا اتجه الأمر إلى غير مطلوبٍ عادة من العقلاء ينصرف عن الأمر إلى معنى آخر.
وهذا كما تقول لولدك مراراً : ذاكر دروسك واجتهد، وإذا به لا يهتم ولا يستجيب فتقول له : العب كما تشاء، فهل تقصد ظاهر هذا الأمر ؟ ! وهل لو أخفق الولد في الامتحان سيأتي ليقول لك : يا والدي لقد قلت لي العب ؟ !
إن الأمر هنا لا يؤخذ على ظاهره، بل يراد منه التهديد، كما يقولون في المثل ( أعلى ما في خيلك اركبه ).
وقوله :( جزاء موفوراً )أي : وافياً مكتملاً لا نقص فيه، لا من العذاب، ولا من المعذبين.
فقوله تعالى :﴿ واستفزز من استطعت منهم بصوتك.. " ٦٤ " ﴾( سورة الإسراء ) : هذا كما تستنهض ولدك الذي تكاسل، وتقول له : فز يعني انهض، وقم من الأرض التي تلازمها كأنها ممسكة بك، وكما في قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض.. " ٣٨ " ﴾
( سورة التوبة ) : فتقول للمتثاقل عن القيام : فز أي : قم وخف للحركة والقيام بإذعان. فالمعنى : استفزز من استطعت واستخفهم واخدعهم ( بصوتك )بوسوستك أو بصوتك الشرير، سواء أكان هذا الصوت من جنودك من الأبالسة أمثالك، أو من جنودك من شياطين الإنس الذين يعاونوك ويساندونك.
ثم يقول تعالى :﴿ وأجلب عليهم بخيلك ورجلك.. " ٦٤ " ﴾( سورة الإسراء ).
أجلب عليهم : صاح به، وأجلب على الجواد : صاح به راكبه ليسرع والجلبة هي : الصوت المزعج الشديد، وما أشبه الجلبة بما نسمعه من صوت جنود الصاعقة مثلاً أثناء الهجوم، أو من أبطال الكاراتيه.
وهذه الأصوات مقصودة لإرهاب الخصم وإزعاجه، وأيضاً لأن هذه الصيحات تأخذ شيئاً من انتباه الخصم، فيضعف تدبيره لحركة مضادة، فيسل عليك التغلب عليه.
وقوله تعالى :﴿ بخيلك ورجلك.. " ٦٤ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : صوت وصح بهم راكباً الخيل لتفزعهم، والعرب تطلق الخيل وتريد بها الفرسان، كما في الحديث النبوي الشريف : " يا خيل الله اركبي ".
وما أشبه هذا بما كنا نسميهم : سلاح الفرسان ( ورجلك )من قولهم : جاء راجلاً. يعني : ماشياً على رجليه و( رجل )يعني على سبيل الاستمرار، وكأن هذا عمله وديدنه، فهي تدل على الصفة الملازمة، تقول : فلان رجل أي : دائماً يسير مترجلاً. مثل : حاذر وحذر، وهؤلاء يمثلون الآن " سلاح المشاة ".
ثم يقول تعالى :﴿ وشاركهم في الأموال.. " ٦٤ " ﴾( سورة الإسراء ) : فكيف يشاركهم أموالهم ؟ بأن يزين لهم المال الحرام، فيكتسبوا من الحرام وينفقوا في الحرام ( والأولاد )المفروض في الأولاد طهارة الأنساب، فدور الشيطان أن يفسد على الناس أنسابهم، ويزين لهم الزنا، فيأتون بأولاد من الحرام. أو : يزين لهم تهويد الأولاد، أو تنصيرهم، أو يغريهم بقتل الأولاد مخافة الفقر أو غيره، هذا من مشاركة الشيطان في الأولاد.
وقوله تعالى ( وعدهم )أي : منيهم بأمانيك الكاذبة، كما قال سبحانه في آية أخرى :﴿ الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم " ٢٦٨ " ﴾( سورة البقرة ).
وقوله :﴿ وما يعدهم الشيطان إلا غرورا " ٦٤ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : لا يستطيع أن يغر بوعوده إلا صاحب الغرة والغفلة، ومنها الغرور : أي يزين لك الباطل في صورة الحق فيقولون : غره. وأنت لا تستطيع أبداً أن تصور لإنسان الباطل في صورة الحق إلا إذا كان عقله قاصراً غافلاً ؛ لأنه لو عقل وانتبه لتبين له الحق من الباطل، إنما تأخذه على غرة من فكره، وعلى غفلة من عقله.
لذلك كثيراً ما يخاطبنا الحق سبحانه بقوله :﴿ أفلا تعقلون " ٦٠ " ﴾( سورة الأنعام ).
﴿ أفلا يتدبرون " ٨٢ " ﴾( سورة النساء )، وينادينا بقوله :﴿ يا أولي الألباب.. " ١٠ " ﴾( سورة الطلاق ) :
وهذا كله دليل على أهمية العقل، وحث على استعماله في كل أمورنا، فإذا سمعتم شيئاً فمرره على عقولكم أولاً، فما معنى أن يطلب الله منا ذلك ؟ ولماذا يوقظ فينا دائماً ملكة التفكير والتدبر في كل شيء ؟
لاشك أن الذي يوقظ فيك آلة الفكر والنقد التمييز، ويدعوك إلى النظر والتدبر واثق من حسن بضاعته، كالتاجر الصدوق الذي يبيع الجيد من القماش مثلاً، فيعرض عليك بضاعة في ثقة، ويدعوك إلى فحصها، وقد يشعل النار ليريك جودتها وأصالتها.
ولو أراد الحق سبحانه أن يأخذنا هكذا على جهل وعمى ودون تبصر ما دعانا إلى التفكر والتدبر.
وهكذا الشيطان لا يمنيك ولا يزين لك إلا إذا صادف منك غفلة، إنما لو كنت متيقظاً له ومستصحباً للعقل، عارفاً بحيله ما استطاع إليك سبيلاً، ومن حيله أن يزين الدنيا لأهل الغفلة ويقول لهم : إنها فرصة للمتعة فانتهزها وخذ حظك منها فلن تعيش مرتين، وإياك أن تصدق بالبعث أو الحساب أو الجزاء.
وهذه وساوس لا يصدقها إلا من لديه استعداد للعصيان، وينتظر الإشارة مجرد إشارة فيطيع ويقع فريسة لوعود كاذبة، فإن كان يوم القيامة تبرأ إبليس من هؤلاء الحمقى، وقال :﴿ إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي.. " ٢٢ " ﴾( سورة الإسراء ).
إذن : في الآيتين السابقتين خمسة أوامر لإبليس : اذهب، استفزز، وأجلب، وشاركهم، وعدهم. وهذه الأوامر ليست لتنفيذ مضمونها، بل للتهديد ولإظهار عجزه عن الوقوف في وجه الدعوة، أو صد الناس عنها، وكان الحق سبحانه يقول له : افعل ما تريد ودبر ما تشاء، فلن توقف دعوة الله. لذلك قال بعدها :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا٦٥ ﴾.
سبق أن تحدثنا عن الفرق بين العباد والعبيد، وقلنا كلاما نوجزه في أن العبيد هم المقهورون للسيد في الأمور القسرية القهرية، ومتمردون عليه في الأمور الاختيارية، اما العباد فهم مقهورون في الأمور القسرية القهرية، وتنازلوا أيضا عن مرادهم في الأمور الاختيارية لمراد ربهم، فرضوا أن يكونوا مقهورين لله في جميع أحوالهم.
وقد تحدث الحق سبحانه عن عباده وأصفيائه، كما في قوله تعالى :﴿ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما٦٣ والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما٦٤ والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم عن عذابها كان غراما٦٥ ﴾( سورة الفرقان )
فعباد الله الذين هم أصفياؤه وأحباؤه الذين خرجوا من مرادهم لمراده، وفضلوا أن يكونوا مقهورين لربهم حتى في الاختيار، فاستحقوا هذه الحصانة الإلهية في مواجهة كيد الشيطان ووسوسته وغروره :﴿ عن عبادي ليس لك عليهم سلطان.. ٦٥ ﴾( سورة الإسراء )
وسبق ان تحدثنا عن كيد الشيطان الذي قال الله عنه :﴿ عن كيد الشيطان كان ضعيفا٧٦ ﴾( سورة النساء ) ففي محاجته يوم القيامة أمام ضحاياه الذين اغواهم وأضلهم، سيقول :
﴿ وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي.. ٢٢ ﴾ ( سورة إبراهيم ) فليس لي سلطان قهر أحملكم به على المعصية، ولا سلطان حجة وبرهان فأقنعكم بها.
ثم يقول تعالى :﴿ وكفى بربك وكيلا٦٥ ﴾ ( سورة الإسراء )
الوكيل هو المؤيد، وهو الناصر، تقول : وكلت فلانا. أي : وثقت به ليؤدي لي كل ما أريد، فإن كان في البشر من تثق به، وتأتمنه على مصالحك، فما بالك إن كان وكيلك هو الله عز وجل ؟ لا شك إن كان وكيلك الله فهو كافيك ومؤيدك وناصرك، فلا يحوجك لغيره سبحانه.
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ ربكم الذي يزجي١لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما٦٦ ﴾.
الرب هو المتولي تربيتك : خلقاً من عدم، وإمداداً من عدم، وقيوميته تعالى عطاء ينتظم المؤمن والكافر ( يزجي )الإزجاء : الإرسال بهوادة شيئاً فشيئاً. و( الفلك )هي السفن وتطلق على المفرد وعلى الجمع، وعلى المذكر والمؤنث.
ومنها قوله تعالى :﴿ والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس.. " ١٦٤ " ﴾( سورة البقرة ).
ومنها قوله تعالى :{ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريحٍ طيبةٍ.. " ٢٢ " ( سورة يونس ).
ثم يقول تعالى :﴿ لتبتغوا من فضله.. " ٦٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : الابتغاء هو القصد إلى نافع يطلب من البحر كالقوت أو غيره، كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها.. " ١٤ " ﴾( سورة النحل ) : فالبحر مصدر من مصادر الرزق والقوت، ومستودع لثروة عظيمة من فضل الله تعالى ؛ لذلك قال بعدها :﴿ إنه كان بكم رحيماً " ٦٦ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : والرحمة اتساع مدد الفضل من الله، فالذي أعطاكم البر بما فيه من خيرات أعطاكم البحر أيضاً بما فيه من خيرات.
والأرض التي نعيش عليها إما بر يسمى يابسة، أو بحر، وإن كانت نسبة اليابس من الأرض الربع أو الخمس، فالباقي بحر شاسع واسع يزخر من خيرات الله بالكثير.
وطرق السير في اليابسة كثيرة متعددة، تستطيع أن تمشي أو تركب، وكل وسيلة من وسائل الركوب حسب قدرة الراكب، فهذا يركب حماراً، وهذا يركب سيارة، وتستطيع أن تنتقل فيها من مكان إلى آخر. أما البحر فلا يمكن الانتقال فيه إلا أن تحمل على شيء، فمن رحمة الله بنا أن جعل لنا السفن آية من آياته تسير بنا على لجة الماء، ويمسكها بقدرته تعالى فنأمن الغرق.
وأول من صنع السفن بوحي من الله نوح عليه السلام، فلم تكن معروفة قبله، بدليل قوله تعالى :
﴿ ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون " ٣٨ " ﴾ ( سورة هود ) : فلم يكن للناس عهد بالسفن، وكانت سفينة نوح بدائية من ألواح الخشب والحبال، ولولا أن الله تعالى دله على طريقة بنائها، وهداه إلى تنظيمها ما كان له علم بهذه المسألة، فكون الحق سبحانه يهدينا بواسطة نبي من أنبيائه إلى مركب من المراكب التي تيسر لنا الانتفاع بثلاثة أرباع الأرض، لاشك أنها رحمة بالإنسان وتوسيع عليه.
وكذلك من رحمته بنا أن يسر لنا تطوير هذا المركب على مر العصور، فبعد أن كان يتحرك على سطح الماء بقوة الهواء باستخدام ما يسمى بالقلع، والذي يتحكم في المركب من خلاله، ويستطيع الربان الماهر تسفيح القلع، يعني توجيهه إلى الناحية التي يريدها.
فكان الريح هو الأصل في سير السفن، ثم أتى التقدم العلمي الذي اكتشف البخار والآلات ثم الكهرباء، وبذلك سهل على الإنسان تحريك السفن على سطح الماء بسهولة ويسر، كما تطورت صناعة السفن كذلك على مر العصور، حتى أصبحنا نرى الآن البوارج الكبيرة متعددة الأدوار، والتي تشبه فعلاً الجبال، مصداقاً لقوله الحق سبحانه وتعالى :﴿ ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام " ٣٢ " ﴾( سورة الشورى ) : يعني : كالجبال، وكأن الحق سبحانه وتعالى يعطينا الدليل على علمه تعالى بما سيصل إليه العالم من تقدم، وما ستصل إليه صناعة السفن من رقي يصل بها إلى تكون كالجبال، وإلا ففي زمن نزول القرآن لم يكن هناك بوارج عالية كهذه، إنها لم توجد إلا بعد قانون أرشميدس الذي تبنى على أساسه هذه البوارج.
لكن مع كل هذا التقدم في مجال الملاحة البحرية لا نغفل أن القدرة الإلهية هي التي تسير هذه السفن، وتحملها بأمان على صفحة الماء، ويجب ألا يغتر الإنسان بما تصول إليه من العلوم، ويظن أنه أصبح مالكاً لزمام الأمور في الكون ؛ لأن الحق سبحانه يقول :﴿ إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره.. " ٣٣ " ﴾( سورة الشورى ) : والريح هي الأصل في تسيير السفن. فإن قال قائل الآن : إن توقف الريح استخدمنا القوى الأخرى مثل البخار أو الكهرباء. نقول : لقد أخذت الريح على أنه الهواء فقط، إنما لو نظر إلى كلمة الريح، وماذا تعني لوجدت أن معنى الريح القوة المطلقة أياً كان نوعها، بدليل قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم.. " ٤٦ " ﴾( سورة الأنفال ).
إذن : الريح هو القوة المطلقة. فمعنى :﴿ يسكن الريح.. " ٣٣ " ﴾ ( سورة الشورى ) : يسكن القوة المحركة للسفن أياً كانت هذه القوة : قوة الريح أو البخار أو الكهرباء أو غيرها من القوى، فإن شاء سبحانه تعطلت كل هذه القوى.
١ زجا الشيء: تيسر واستقام. وأزجاه: ساقه برفق. قال تعالى:﴿ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر.. ٦٦﴾[الإسراء] أي: يدفعها ويسيرها برفق فوق الماء [القاموس القويم ١/٢٨٤]..
البحر هو المزنق والضائقة التي لا يستطيع الخلاص منها إن أصابه فيه سوء، فالبر منافذ النجاة فيه متعددة، أما البحر فلا نجاة فيه إلا بعناية الله، يقول تعالى :﴿ حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين.. " ٢٢ " ﴾ ( سورة يونس ) : وهكذا الإنسان حتى الكافر، إذا ضاقت به الحيل ولم يجد منفذاً يلجأ إلى الله المنفذ الحقيقي والمفرج للكرب، والإنسان عادة لا يسلم نفسه ويظل متعلقاً بالأمل في النجاة.
فقوله تعالى :﴿ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه.. " ٦٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : أحاط بهم الخطر بالريح العاصف أو الموج العالي، وأحسوا بخطورة الموقف ولا منقذ لهم إلا الله، حتى الكفار في هذا الموقف يصدقون مع أنفسهم، ولا يخدعونها ولا يكذبون عليها، فإن آمنوا بآلهة أخرى وإن عبدوا الأصنام والأوثان، فإنهم في هذا الضيق لا يلجأون إلا إلى الله، ولا يدعون إلا الله ؛ لأنهم يعلمون تماماً أن آلهتهم لا تسمع ولا تجيب، ولا تملك لهم نفعاً ولا نجاة.
قوله تعالى :﴿ ضل من تدعون.. " ٦٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : ذهب عن بالكم من اتخذتموهم آلهة، وغابوا عن خاطركم، فلن يقولوا هنا يا هبل ؛ لأنهم لن يغشوا أنفسهم، ولن ينساقوا وراء كذبهم في هذا الوقت العصيب.
إنهم في هذا الضيق لن يتذكروا آلهتهم، ولن تخطر لهم ببال أبداً ؛ لأن مجرد تذكرهم يضعف ثقتهم في الله الذي يملك وحده النجاة، والذي يطلبون منه العون.
وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بقصة حلاق الصحة في الريف الذي يتولى علاج البسطاء، ويدعي العلم والخبرة، فإذا ما مرض ولده فإنه يسرع به إلى الطبيب، لأنه إن خدع الناس فلن يخدع نفسه، وإن كذبهم عليهم فلن يكذب على نفسه.
وكذلك الإنسان لا يبيع نفسه رخيصاً، فإن أحاطت به الأخطار لا يلجأ إلا إلى الله ؛ لأنه وحده القادر على تفريج الكروب وإغاثة الملهوف، حتى وإن كان كافراً ؛ لأنه سبحانه هو الذي أمره أن يلجأ إليه، وأن يدعوه، فقال :﴿ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا.. " ٤٣ " ﴾( سورة الأنعام ) : فإن دعوه سمع لهم وأجابهم على كفرهم وعنادهم ؛ لأنهم عباده وخلقه وصنعته، فما أرحمه سبحانه حتى بيمن كفر به !
لذلك قال رب العزة في الحديث القدسي : " قالت الأرض : يا رب إئذن لي أن أخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت السماء : يا رب إئذن لي أن أسقط كسفاً على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت الجبال : يا رب إئذن لي أن أخر على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت البحار : يا رب إئذن لي أن أغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك. فقال تعالى : دعوني وما خلقت، لو خلقتموهم لرحمتموهم، فإنهم عبادي، فإن تابوا إلي فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ".
لقد غفر لهم الحق سبحانه أن يعبدوه غيره، وأن يؤذوا النبوة، وأن يقفوا في وجه الدعوة، غفر لهم لأنه رب، ومادام رباً فهو رحيم، فتضرعوا إليه ودعوه، فلما نجاهم إلى البر أعرضوا، وعادوا لما كانوا عليه وتنكروا للجميل والمعروف ؛ لذلك يقول تعالى بعدها :﴿ وكان الإنسان كفوراً " ٦٧ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : وكفور : صيغة مبالغة من الكفر، أي : كثير الكفر للنعمة، وليته كفر بنعمة الخلق فقال : إنه أتى هكذا من فعل الطبيعة، إنما كفر بنعمة ملموسة مشاهدة عاش مأزقها، وقاسى خطرها، ثم إذا نجاه الله أعرض وتمرد، وهذا من طبيعة الإنسان.
فهؤلاء الذين أعرضوا عن الله بعد إذ نجاهم في البحر أأمنوا مكر الله في البر ؟ وهل الخطر في البحر فقط ؟ وأليس الله تعالى بقادر على أن ينزل بهم في البر مثل ما أنزل بهم في البحر ؟ يقول تعالى :﴿ أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر.. " ٦٨ " ﴾( سورة الإسراء ).
كما قال تعالى في شأن قارون :﴿ فخسفنا به وبداره الأرض.. " ٨١ " ﴾ ( سورة القصص ) : ولستم ببعدين عن هذا إن أراده الله لكم، وإن كنا نقول " البر أمان " فهذا فيما بيننا وبين بعضنا، أما إن جاء أمر الله فلن يمنعنا منه مانع.
وقوله تعالى :﴿ أو يرسل عليكم حاصباً.. " ٦٨ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : ريحاً تحمل الحصباء، وترجمكم بها رجماً، والحصباء الحصى الصغار، وهي لون من ألوان العذاب الذي لا يدفع ولا يرد ؛ لذلك قال
بعدها :﴿ ثم لا تجدوا لكم وكيلاً " ٦٨ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : لا تجدوا من ينصركم، أو يدفع عنكم. إذن : لا تظنوا أن البر أمان لا خطر فيه.. لا، بل خطري موجود غير بعيد منكم، سواء أكنتم في البحر أو في البر.
أي : وإن نجاكم من خطر البحر، فلا مجال للأمن في البر ؛ لأنه قادر سبحانه أن يذيقكم بأسه في البر، أو يعيدكم في البحر مرة أخرى، ويوقعكم فيما أوقعكم فيه من كرب في المرة الأولى، فالمعنى : أنجوتم فأمنتم.
وقوله تعالى :﴿ فيرسل عليكم قاصفاً من الريح.. " ٦٩ " ﴾( سورة الإسراء ) : القاصف : هو الذي يقصف بعنف وشدة، ولا يكون إلا في اليابس.
﴿ فيغرقكم بما كفرتم.. " ٦٩ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : بسبب كفركم بنعمة الله، وجحودكم لفضله، فقد نجاكم في البحر فأعرضتم وتمردتم، في حين كان عليكم أن تعترفوا لله بالجميل، وتقروا له بالفضل.
ثم يقول تعالى :﴿ ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً " ٦٩ " ﴾( سورة الإسراء ) : عندنا تابع وتبيع، التابع : هو الذي يتبعك لعمل شيء فيك، أما التبيع : فهو الذي يتوالى تتبعك، ويبحث عنك لأخذ ثأره منك. فالمعنى : إن فعلنا بكم هذه الأفعال فلن تجدوا لكم تبيعاً يأخذ بثأركم أو ينتقم لكم، إذن : لا أمل لكم في ناصر ينصركم، أو مدافع يحميكم.
وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول : أنا لا أخاف رد الفعل منكم، والإنسان يحجم عن الفعل مخافة رد الفعل، ويجلس يفكر طويلاً : إذا ضربت فلاناً فسيأتي أهله ويفعلون بي كذا وكذا، أما الحق سبحانه وتعالى فلا أحد يستطيع رداً على انتقامه أو عذابه.
وهل هناك تكريم لبني آدم أعظم من أن يعد لهم مقومات حياتهم قبل أن يخلقهم ؟ لقد رتب لهم الكون وخلق من أجلهم الأشياء :﴿ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً.. " ٢٩ " ﴾( سورة البقرة ).
إذن : فكل ما في الوجود مسخر لكم من قبل أن توجدوا ؛ لأن خلق الله تعالى إما خادم وإما مخدوم، وأنت أيها الإنسان مخدوم من كل أجناس الكون حتى من الملائكة، ألم يقل الحق سبحانه :﴿ له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله.. " ١١ " ﴾( سورة الرعد ).
وقال تعالى :﴿ فالمدبرات أمراً " ٥ " ﴾ ( سورة النازعات ) : فالكون كله يدور من أجلك وفي خدمتك، يعطيك عطاءً دائماً لا ينقطع دون سعي منك، لذلك نقول : كان من الواجب على العقل المجرد أن يقف وقفه تأمل وتفكر ؛ ليصل إلى حل للغز الكون، وليهتدي إلى أن له خالقاً مبدعاً، يكفي أن انظر إلى آيات الله التي تخدمني، وليس له قدرة عليها، وليست تحت سيطرتي، فالشمس والقمر والنجوم والأرض والهواء والماء والمطر والسحاب كلها تعطيني وتمدني دون قدرة لي عليها، أليس من الواجب عليك عدلاً أن تقول : من الذي أعد لي كل هذه الأشياء التي ما ادعاها أحد لنفسه ؟
فإذا ما صاح صائح منك أيها الإنسان وقال : أنا رسول من الرب الذي خلق لكم كل هذه المخلوقات، كان يجب عليكم أن ترهفوا له السمع لتسمعوا ما جاء به ؛ لأنه سوف يحل لكم هذا اللغز الذي حيركم.
وسبق أن ضربنا مثلاً لذلك بالرجل الذي انقطعت به السبل في الصحراء حتى أشرف على الهلاك، فإذا هو بمائدة معدة بأطايب الطعام والشراب، أليس حرياً به قبل أن تمتد يده إليها أن يفكر كيف أتته ؟
إذن : كان على الإنسان أن يعمل عقله وفكره في معطيات الكون التي تخدمه وتسخر من أجله، وهي لا تأتمر بأمره ولا تخضع لقدرته.
ولقد اختلف العلماء في بيان أوجه التكريم في الإنسان، فمنهم من قال : كرم بالعقل، وآخر قال : كرم بالتمييز، وآخر قال : كرم بالاختيار، ومنهم من قال : كرم الإنسان بأنه يسير مرفوع القامة لا منحنياً إلى الأرض كالبهائم، ومنهم من يرى أنه كرم بشكل الأصابع وتناسقها في شكل بديع يسمح لها بالحركة السلسة في تناول الأشياء، ومنهم من يرى أنه كرم بأن يأكل بيده لا بفمه كالحيوان. وهكذا كان لكل واحد منهم ملحظ في التكريم.
ولنا في مسألة التكريم هذه ملحظ كنت أود أن يلتفت إليه العلماء، ألا وهو : أن الحق سبحانه خلق الكون كله بكلمة ( كن )إلا آدم، فقد خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، قال تعالى :﴿ يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " ٧٥ " ﴾( سورة ص ).
وقال :﴿ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " ٢٩ " ﴾( سورة الحجر ) : فقمة الفضل والتكريم أن خلق الله تعالى أبنا آدم بيده، بدليل أن الله جعلها حيثية له.
أي : يوم القيامة، والداعي هو المنادي، والناس هم المدعوون، والنداء على الناس في هذا اليوم لا يكون بفلان بن فلان، بل ينادي القوم بإمامهم أي : برسولهم، فيقال : يا أمة محمد، يا أمة عيسى، يا أمة موسى، يا أمة إبراهيم.
ثم يفصل هذا الإجمال، فتنادى كل جماعة بمن بلغها وهداهم ودلهم ليغري الناس بنقل الفضل العلمي من أنفسهم إلى غيرهم.
وقال بعضهم ( بإمامهم )أي : بأمهاتهم، وفي دعاء الناس بأمهاتهم في هذا الموقف تكريم لعيسى عليه السلام أولاً، وستر على أولاد الإثم ثانياً، حتى لا يفضحوا على رؤوس الأشهاد في مثل هذا الموقف. ثم يقول تعالى :﴿ فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرأون كتابهم ولا يظلمون فتيلاً " ٧١ " ﴾( سورة
الإسراء ) : فكونه أخذ كتابه بيمينه، فهذه بشارة الخير وبداية السلامة، فإذا به يسارع إلى قراءته، بل ويتباهى به بين الناس قائلاً :﴿ هاؤم اقرءوا كتابيه " ١٩ " ﴾( سورة الحاقة ) : إنه مسرور بعمله الصالح الذي يحب أن يطلع عليه الناس، وقوله تعالى :﴿ ولا يظلمون فتيلاً " ٧١ " ﴾( سورة الإسراء ) :
الظلم أن تأخذ من خير غيرك مما ليس عندك، إذن : فعندك نقص في شيء تريد أن تحصل عليه ظلماً، إذن : فماذا ينقص الحق سبحانه وتعالى حتى يظلم الخلق ؟ ! إن الخلق يتصفون بالظلم ؛ لأن الإنسان عادة لا يرضى بما قسم الله له ؛ لذلك يشعر بالنقص فيظلم غيره، أما الله عز وجل فهو الغني عن الخلق، فكيف يظلمهم ؟ وهم جميعاً بما يملكون هبة منه سبحانه.
ومعنى ( فتيلاً )عادة يضرب الحق سبحانه وتعالى الأمثال في القرآن بالمألوف عند العرب وفي بيئتهم، ومن مألوفات العرب التمر، وهو غذاؤهم المفضل والعلف لماشيتهم، ومن التمر أخذ القرآن النقير والقطمير والفتيل، وهي ثلاثة أشياء تجدها في نواة الثمرة، وقد استخدمها القرآن في تمثيل الشيء الضئيل القليل.
فالنقير : هو تجويف صغير في ظهر النواة مثل النقطة.
والقطمير : هو اللفافة الرقيقة الشفافة بين الثمرة والنواة.
والفتيل : هو غلالة رقيقة تشبه الخيط في بطن النواة.
فمعنى :﴿ ولا يظلمون فتيلاً " ٧١ " ﴾( سورة الإسراء ) : أنه سبحانه وتعالى لا يظلم الناس أبداً، فهو سبحانه منزه عن الظلم مهما تناهى في الصغر. وفي مقابل من أوتي كتابه بيمينه لم تذكر الآية من أوتي كتابه بشماله، كما جاء في قوله تعالى :﴿ وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه " ٢٥ " ﴾( سورة الحاقة ).
وفي آية أخرى قال :﴿ وأما من أوتي كتابه وراء ظهره " ١٠ " ﴾( سورة الانشقاق ).
وهذا هو المقابل لمن أخذ كتابه بيمينه ؛ لأنه عميت بصيرته في الدنيا فعمى في الآخرة، وطالما هو كذلك فلاشك أنه من أهل الشمال، فالآيات ذكرت مرة السبب، وذكرت مرة المسبب، ليلتقي السبب والمسبب، وهو ما يعرف باسم الاحتباك البلاغي.
فكأن الحق سبحانه قال : إن من أوتي كتابه بيمينه وقرأه وتباهى به لم يكن أعمى في دنياه، بل كان بصيراً واعياً، فاهتدى إلى منهج الله وسار عليه، فكانت هذه نهايته وهذا جزاءه.
أما من أوتي كتابه بشماله فقد كان أعمى في الدنيا عمى بصيرة لا عمى بصر ؛ لأن عمى البصر حجب الأداة الباصرة عن إدراك المرائي، والكافرون في الدنيا كانوا مبصرين للمرائي من حولهم. مدركين لماديات الحياة، أما بصيرتهم فقد طمس عليها فلا ترى خيراً، ولا تهتدي إلى صلاح.
وسبق أن قلنا : إن الإنسان لكي يسير في رحلة الحياة على هدى لابد له من بصر يرى به المرائي المادية، حتى لا يصطدم بأقوى منه فيتحطم أو بأضعف منه فيحطمه، والبصر للمؤمن والكافر من عطاء الربوبية للإنسان. لكن إلى جانب البصر هناك عطاء آخر هو ثمرة من ثمار عطاء الألوهية الذي لا يكون إلا للمؤمن، ألا وهو البصيرة، بصيرة القيم التي يكتسبها الإنسان من منهج الله الذي آمن به وسار على هديه.
وقوله :﴿ فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً " ٧٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : إن كان عماه في الدنيا عمى بصيرة، فعماه في الآخرة عمى بصر ؛ لأن البصيرة مطلوبة منه في الدنيا فقط ؛ لأن بها سيعرف الخير من الشر، وعليها يترتب العمل، وليست الآخرة مجال عمل، إذن : العمى في الآخرة عمى البصر، كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى " ١٢٣ " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى " ١٢٤ " ﴾( سورة طه ).
وقال عنهم في آية أخرى :﴿ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصماً.. " ٩٧ " ﴾( سورة الإسراء ).
لكن قد يقول قائل : هناك آيات أخرى تثبت لهم الرؤية في الآخرة، مثل قوله تعالى :﴿ حتى إذا رأوا ما يوعدون.. " ٧٥ " ﴾( سورة مريم ).
وقوله تعالى :﴿ ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها.. " ٥٣ " ﴾( سورة الكهف ).
وللجميع بين هذه الآيات وللتوفيق بينها نقول : للكفار يوم القيامة في مجال الرؤية البصرية حالتان : الأولى عند القيام وهول المحشر يكونون عمياً وبكماً وصماً لتزداد حيرتهم ويشتد بهم الفزع حيث هم في هذا الكرب الشديد، ولكن لا يعرف ما يحدث ولا أين المهرب، ولا يستمعون من أحد كلمة، وهكذا هم في كرب وحيرة لا يدرون شيئاً. وهذه حالة العمي البصري عندهم.
أما الحالة الثانية وهي الرؤية، فتكون عندما يتجلى الحق تبارك وتعالى لأهل الموقف ويكشف الغطاء عن نفسه سبحانه، فهنا يصير الكافر حاد البصر، ليرى مكانه من النار. ولابد لنا هنا أن نلحظ أن ألفاظ اللغة قد يكون اللفظ واحداً ولكن يختلف السياق، ففي قوله تعالى :﴿ ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً " ٧٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : فلفظ ( أعمى )واحد، لكن في الآخرة قال ( وأضل سبيلاً )إذن : لابد أن عمى الدنيا أقل من عمى الآخرة، كما تقول : هذا خير. فمقابل خير : شر. أما لو قلت : هذا خير من هذا فقد فضلت الأول في الخيرية عن الثاني، إذن : كلمة خير إما أن تأتي وصفاً، وإما أن تأتي تفضيلاً.
ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير ". فالمراد أن المؤمن القوي أكثر في الخيرية. إذن : فكلمة :﴿ فهو في الآخرة أعمى.. " ٧٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : ليست وصفاً، وإنما تفضيل لعمى الآخرة على عمى الدنيا، أي أنه في الآخرة أشد عمى. وقوله تعالى :﴿ وأضل سبيلاً " ٧٢ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : ومعلوم أنه كان ضالاً في الدنيا، فكيف يكون أضل في الآخرة ؟
قالوا : لأن ضلاله في الدنيا كان يمكن تداركه بالرجوع إلى المنهج والعودة إلى الطريق السوي، أما في الآخرة فضلاله لا يمكن تداركه، فقد انتهى وقت الاختيار، إذن : فضلاله في الآخرة أشد وأعظم من ضلاله في الدنيا.
وهذه خبيثة جديدة من خبائثهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يحاولون جادين أن يصرفوا رسول الله عما بعثه الله به، فمرة يقولون له : دع آلهتنا نتمتع بها سنة ونأخذ الغنائم من ورائها وتحرم لنا بلدنا أي : ثقيف كما حرمت مكة. ومرة يقولون له : لا تستلم الحجر ويمنعونه من استلامه حتى يستلم آلهتهم أولاً.
ومعنى ( كادوا )أي قاربوا، والمقاربة غير الفعل، فالمقاربة مشروع فعل وتخطيط له، لكنه لم يحدث، إنهم قاربوا أن يفتنوك عن الذي أنزل إليك لكن لم يحدث ؛ لأن محاولاتهم كانت من بعيد، فهي تحوي حول فتنتك عن الدين، كما قالوا مثلاً : نعبد إلهك سنة، و تعبد آلهتنا سنة. ومعنى :( ليفتنونك )ليحولونك ويصرفونك عما أنزل الله إليك، لماذا ؟
﴿ لتفتري علينا غيره.. " ٧٣ " ﴾( سورة الإسراء ).
كما حكى القرآن عنهم في آية أخرى :﴿ ائت بقرآن غير هذا أو بدله.. " ١٥ " ﴾( سورة يونس ) : فيكون الجواب من الحق سبحانه :﴿ قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحي إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيمٍ " ١٥ " ﴾( سورة يونس ).
وقال تعالى :﴿ لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون " ١٦ " ﴾( سورة يونس ) : ونلاحظ في مثل هذا الموقف أن الحق سبحانه يتحمل العنت عن رسوله، وينقل المسألة من ساحة الرسول إلى ساحته تعالى، لكي لا تكون عداوة بين محمد وقومه، فالأمر ليس من عند محمد بل من عند الله، يقول تعالى :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " ٣٣ " ﴾( سورة الأنعام ) : فلا تحزن يا محمد، فأنت مصدق عندهم، لكن المسألة عندي أنا، وهكذا يتحمل الحق سبحانه الموقف عن رسوله حتى لا يحمل القوم ضغينة لرسول الله : ثم يقول تعالى :﴿ وإذاً لأتخذوك خليلاً " ٧٣ " ﴾( سورة الإسراء ) :
الخليل : هو المخال الذي بينك وبينه حب ومودة، بحيث يتخلل كل منكما الآخر ويتغلغل فيه، ومنه قوله تعالى في إبراهيم :﴿ واتخذ الله إبراهيم خليلاً " ١٢٥ " ﴾( سورة النساء ).
ومنه قول الشاعر :
ولما التقينا قرب الشوق جهده**** خليلين ذابا لوعة وعتابا
كأن خليلاً في خلال خليله**** تسرب أثناء العناق وغابا
فإذا ما تقابل الخليلان ذاب كل منهما في صاحبه أو تخلله ودخل فيه.
فالمعنى : لو أنك تنازلت عن المنهج الذي جاءك من الله لصرت خليلاً لهم، كما كنت خليلاً لهم من قبل، وكانوا يحبونك ويقولون عنك " الصادق الأمين ". إذن : الذي جعلهم في حالة عداء لك هو منهج الله جئت به، فلو تنازلت عنه أو تهاونت فيه فسوف يتخذونك خليلاً، فلا تكن خليلاً لهم بل خليلاً لربك الذي أرسلك.
( ولولا )أداة شرط إن دخلت على الجملة الاسمية، وتفيد امتناع وجود الجواب لوجود الشرط، ويسمونها حرف امتناع لوجود، كما لو قلت : لولا زيد عندك لزرتك، فقد امتنعت الزيارة لوجود زيد.
فإن دخلت ( لولا )على الجملة الفعلية أفادت الحث والحض، كما في قوله تعالى :﴿ لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء.. " ١٣ " ﴾( سورة النور ) :
و( لولا )في الآية دخلت على جملة اسمية ؛ لأن ( أن )بعدها مصدرية، فالمعنى : لولا تثبتنا لك لقاربت أن تركن إليهم شيئاً قليلاً.
والمتأمل في هذه الآية يجدها تحتاط لرسول الله عدة احتياطات، فلم تقل : لولا تثبتنا لك لركنت إليهم، لا، بل لقاربت أن تركن فمنعت مجرد المقاربة، أما الركون فهو أمر بعيد وممنوع نهائياً وغير متصور من رسول الله، ومع ذلك أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله :﴿ شيئاً قليلاً " ٧٤ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : ركوناً قليلاً.
مما يدل على أن طبيعته صلى الله عليه وسلم حتى دون الوحي من الله طبيعة سليمة بفطرتها، فلو تصورنا عدم التثبيت له من الله ماذا كان يحدث منه ؟ يحدث مجرد ( كاد )أو ( قرب )أن يركن إليهم شيئاً قليلاً، وقلنا : إن المقارنة تعني مشروع فعل، لكنه لم يحدث، مما يدل على أن لرسول الله ذاتية مستقلة. ومعنى :﴿ ثبتناك.. " ٧٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : التثبيت هو منع المثبت أن يتأرجح، لذلك نقول للمتحرك : اثبت.
ومعنى :( تركن )من ركون الإنسان إلى شيء يعتصم به ويحتمي، والناس يبنون الحوائط ليحموا بها ممتلكاتهم، وإذا احتمى الإنسان بجدار فأسند ظهره إليه مثلاً فقد حمى ظهره فقط، وأمن أن يأتيه أحد من ورائه، فإن أراد أن يحمي جميع جهاته الأربع، فعليه أن يلجأ إلى ركن وأن يسند ظهره إلى الركن فيأمن من أمامه، ويحتمي بجدار عن يمينه وجدار عن شماله. إذن : الركون أن تذهب إلى حرز يمنعك من جميع جهاتك.
ومن الركون قوله تعالى عن لوط عليه السلام مع قومه :﴿ لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركنٍ شديدٍ " ٨٠ " ﴾( سورة هود ) : أي : احتمي به وألجأ إليه.
والحق سبحانه في هذه الآيات يريد أن يستل السخيمة على محمد صلى الله عليه وسلم من قلوب أعدائه ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على هدايتهم وتأليف قلوبهم، وقد كان يشق على نفسه ويحملها ما لا يطيق في سبيل هذه الغاية، ومن ذلك ما حدث من تركه عبد الله بن أم مكتوم الذي جاءه سائلاً، وانصرافه عنه إلى صناديد قريش ؛ لذلك عتب عليه ربه تبارك وتعالى لأنه شق على نفسه.
وكأن الحق تبارك وتعالى في هذه الآية يقول : يا قوم إن لم يوافقكم محمد على ما كنتم تريدون منه الانصراف عما أنزل إليه من ربه، فاعذروه ؛ لأن الأمر عندي والتثبيت مني، ولا ذنب لمحمد فيما خالفكم فيه، كما لو كان عندك خادم مثلاً ارتكب خطأ ما، فأردت أن تتحمل عنه المسئولية، فقلت : أنا الذي كلفته بهذا وأمرته به، فالأمر عندي وليس للخادم ذنب فيما فعل.
( إذاً )أي : لو كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات، وبهذا التهديد يرفع الحق سبحانه سخيمة الكره من صدور القوم لمحمد، وينقلها له سبحانه وتعالى. ومعنى :﴿ ضعف الحياة وضعف الممات.. " ٧٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : الضعف : مضاعفة الشيء مرة أخرى. أي : قدر الشيء مرتين، ولا يذاق في الحياة إلا العذاب، فالمراد : لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات، لكن لماذا يضاعف العذاب في حق محمد صلى الله عليه وسلم ؟
قالوا : لأنه أسوة كبيرة وقدوة يقتدي الناس بها، ويستحيل في حقه هذا الفعل، ولا يتصور منه صلى الله عليه وسلم، لكن على اعتبار أن ذلك حدث منه فسوف يضاعف له العذاب، كما قال تعالى في نساء النبي :﴿ يا نساء النبي من يأت منكم بفاحشةٍ مبينةٍ يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيراً " ٣٠ " ﴾( سورة الأحزاب ) : ذلك لأنهن بيت النبوة وأمهات المؤمنين، وهن أسوة لغيرهن من نساء المسلمين، وكلما ارتفع مقام الإنسان في مركز الدعوة إلى الله وجب عليه أن يتبرأ عن الشبهة ؛ لأنه سيكون أسوة فعل، فإن ضل فلن يضل في ذاته فقط، بل سيضل معه غيره، ومن هنا شدد الله العقوبة وضاعفها للنبي ولزوجاته.
وقد اختار الحق سبحانه لفظ ( لأذقناك ) ؛ لأن الإذاقة من الذوق، وهو أعم الملكات شيوعاً في النفس، فأنت ترى بعينك وتسمع بأذنك وشتم بأنفك، لكن المذاق تشترك فيه كل الملكات. ثم يقول تعالى :﴿ ثم لا تجد لك علينا نصيراً " ٧٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : لا تجد مدافعاً يدافع عنك ؛ أو ناصراً ينصرك ؛ لأن مددك مني وحدي، فكيف يكون لك ناصر من دوني ؟
وهنا أيضاً قوله تعالى ( كادوا )أي : قاربوا، فهم لا يجرؤون على الفعل، ولا يستطيعون، فالأمر مجرد القرب من الفعل، فإنهم سيحاولون إخراجك، لكنك لن تخرج إلا بأمري وتقديري. وقوله تعالى :﴿ ليستفزونك من الأرض.. " ٧٦ " ﴾( سورة الإسراء ).
من استفزه أي : طلب منه النهوض والخفة إلى الفعل، كما تقول لولدك المتثاقل :( فز )أي : قم وانهض، والمراد : يستحثونك على الخروج ( من الأرض )من مكة بإيذائهم لك، وعنتهم معك ليحملوك على الخروج، ويكرهوك في الإقامة بها.
وكفار مكة يعلمون أن في خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة راحة لهم، وحتى لا يكون أسوة لعبيدهم ولضعاف القوم الذين أحبوه، ومالوا لاعتناق دينه والإيمان به. ثم يقول تعالى :﴿ وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلاً " ٧٦ " ﴾( سورة الإسراء ) :
أي : لو أخرجوك من مكة فلن يلبثوا فيها بعدك إلا قليلاً، وقد حدث فعلاً، فبعد خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة بعام جاءت بدر، فقتل سبعون من صناديد قريش، وأسر سبعون، وبعد أن خرج الرسول من مكة لم يتمتعوا فيها بالنعيم ولا بالسيادة التي كانوا يرجونها بعد خروجه.
يوضح الحق تبارك وتعالى أن ما حدث هو سنة من سنن الله في الرسل، كما قال تعالى :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين " ١٧١ " إنهم لهم المنصورون " ١٧٢ " وإن جندنا لهم الغالبون " ١٧٣ " ﴾( سورة الصافات ) : فكأن ليهم أن يأخذوا عبرة من الرسل السابقين، وبما حل بأعدائهم من عذاب الله، لقد أرسل الله الرسل فكذبوا وعودوا واضطهدوا، ومع ذلك نصرهم الله، وجعل لهم الغلبة.
والسنة : هي العادة والطريقة التي لا تتخلف ولا تتبدل ؛ لذلك يقول بعدها :﴿ ولا تجد لسنتنا تحويلاً " ٧٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : لأن السنة لا تتحول ولا تتبدل إلا بالأقوى الذي يأتي ليغير السنة بأخرى من عنده، فإذا كانت السنة من الله القوي بل الأقوى، فهو سبحانه وحده الذي يملك هذا التحويل، ولا يستطيع أحد أبداً تحويل سنة الله، فإذا قال سبحانه، فقوله الحق الذي لا يبدله أحد، ولا يعارضه أحد.
وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن الإلهيات إيماناً بها، وعن النبوات تصديقاً لها، وعن القيامة ووجوب الإيمان بها وبما يحدث فيها من تناول الكتب، أراد سبحانه أن يأتي لنا بثمرة هذا المنهج وحصيلته النهائية، وهي أن يستقيم لنا منهج الحياة وتنضبط حركتنا فيها.
هذا المنهج الإلهي جاء في صورة أحكام، ولهذه الأحكام أركان أساسية جمعها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً ".
إذن : هذه الأركان التي بني عليها الإسلام، لكن ما حظ المسلم من هذه الأركان ؟ لو تأملت لوجدتنا نشترك كلنا في شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وفي الصلاة لأنها لا تسقط عن أحد لأي سبب، وهي المكررة في اليوم خمس مرات.
أما باقي الأركان وهي : الزكاة، والصوم، والحج فقد لا تنطبق شروطها على الجميع، فالفقير لا تفرض عليه زكاة أو حج، والمريض لا يفرض عليه الصوم. إذن : عندنا أركان للإسلام وأركان للمسلم التي هي : الشهادتان والصلاة، وقد يدخل فيها الزكاة أو الصوم أو الحج، فإذا أتى المسلم بجميع الأركان فقد اتفقت أركان الإسلام مع أركان المسلم.
وتلاحظ في هذه الأركان أن الشهادتين يكفي أن تقولهما وتشهد بهما ولو مرة واحدة، والزكاة والصوم والحج قد لا تنطبق عليك شروطها، فلم يبق إلا الصلاة ؛ لذلك جعلها عماد الدين.
فالصلاة هي الفريضة الثابتة المتكررة التي لا تسقط عن المسلم بأي حال، وفيها إعلان ولاء للإيمان بالله كل يوم خمس مرات، وهي أيضاً تنتظم كل أركان الإسلام ؛ لأنك في الصلاة تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فبدل أن كنت تقولها مرة واحدة هاأنت تقولها عدة مرات في كل صلاة، وهذا هو الركن الأول.
كما أنها تشتمل على الصوم ؛ لأنك تصوم في أثناء الصلاة فتمتنع عن شهوتي البطن والفرج، وكذلك عن أي فعل غير أفعال الصلاة، وعن الكلام في غير ألفاظ الصلاة. إذن : في الصلاة صيام بالمعنى الأوسع للصوم.
وفي الصلاة زكاة ؛ لأن المال الذي تكتسبه وتزكيه ناتج عن الحركة، والحركة فرع الوقت، وفي الصلاة تضحي بالوقت نفسه، فكأن الزكاة في الصلاة أبلغ. وكذلك في الصلاة حج ؛ لأنك تتوجه فيها إلى كعبة الله، وتستحضرها في ذهنك وأمام ناظريك.
لذلك استحقت الصلاة أن تكون عماد الدين، ومن أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، ومن هنا جاءت الصلاة في أول هذه الأحكام، فقال تعالى :﴿ أقم الصلاة.. " ٧٨ " ﴾( سورة الإسراء ) :
أي : أدها أداءً كاملاً في أوقاتها.
والصلاة لها ميزة عن كل أركان الإسلام ؛ لأن كل تكليفات الإسلام جاءت بواسطة الوحي لرسول الله إلا الصلاة، فقد فرضت بالمباشرة مما يدل على أهميتها، وقد مثلنا لذلك ولله المثل الأعلى بالرئيس الذي يتصل بمرؤوسه تليفونياً ليأمره بشيء، فإذا كان هذا الشيء من الأهمية بمكان استدعاه إليه وأفهمه ما يريد.
وهكذا كانت الصلاة، فقد فرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أمته بالمباشرة لما لها من أهمية بين فراض الدين، ثم تولى جبريل عليه السلام تعليم رسول الله الصلاة، وعلمها رسول الله للناس، وقال : " صلوا كما رأيتموني أصلي ".
وقوله تعالى :﴿ لدلوك الشمس.. " ٧٨ " ﴾( سورة الإسراء ) : الحق سبحانه يريد أن يبين لنا مواقيت الصلاة. و( الدلوك )معناه : الزوال من حركة إلى حركة، ومنها قولنا : فلان ( المدلكاتي )أي : الذي يتولى عملية التدليك، وتتحرك يده من مكان لمكان.
والمراد بدلوك الشمس : ميلها عن وسط السماء إلى ناحية الغرب، والإنسان يرى الأفق الواسع إذا نظر إلى السماء، فيراها على شكل قوس ممتد وعلى حسب نظره وقوته يرى الأفق، فإن كان نظره قوياً رأى الأفق واسعاً، وإن كان نظره ضعيفاً رأى الأفق ضيقاً ؛ لذلك يقولون لقيل التفكير : ضيق الأفق.
وأنت حين تقف في مكانك وتنظر إلى السماء تراها على شكل نصف دائرة، وأنت مركزها، وساعة أن ترى الشمس عمودية عليكن فهذا وقت الزوال، فإذا ما انحرفت الشمس ناحية المغرب يقال : دلكت الشمس. أي : مالت ناحية المغرب، وهذا هو وقت الظهر.
والمتأمل في فرض الصلاة على رسول الله يجد أن الظهر هو أول وقت صلاه رسول الله ؛ لأن الصلاة فرضت عليه في السماء في رحلة المعراج، وكانت بليل، فلما عاد صلى الله عليه وسلم كان يستقبل الظهر، فكانت هي الصلاة الأولى.
ثم يقول تعالى :﴿ إلى غسق الليل.. " ٧٨ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : أقم الصلاة عند دلوك الشمس إلى متى ؟ إلى غسق الليل أي : ظلمته، وفي الفترة من دلوك الشمس إلى ظلمة الليل تقع صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ولا يبقى إلى صلاة الصبح، فقال عنها سبحانه وتعالى :﴿ وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً " ٧٨ " ﴾( سورة الإسراء ).
ونتساءل هنا : لماذا ذكر قرآن الفجر ولم يقل صلاة ؟
قالوا : لأن القرآن في هذا الوقت حيث سكون الكون وصفاء النفوس، فتتلقى القرآن ندياً طرياً وتستقبله استقبالاً واعياً قبل أن تنشغل بأمور الحياة :﴿ إن قرآن الفجر كان مشهوداً " ٧٨ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : تشهده الملائكة. إذن : المشهودية لها دخل في العبادة، فإذا كانت مشهودية من لا تكليف عليه في الصلاة جعلها الله حيثية، فكيف بمشهودية من كلف بالصلاة ؟
والحق سبحانه وتعالى جعل في صلاة الجماعة استطراقاً للعبودية، ففي صلاة الجماعة يستوي كل الخلق حيث يخلعون وجاهتهم، ويخلعون أقدارهم على أبواب المسجد، كما يخلعون أحذيتهم، فالرئيس بجانب المرؤوس والوزير بجانب الخفير.
لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يوطن الإنسان لنفسه مكاناً في المسجد، يجلس فيه باستمرار ؛ لأن الأصل أن يجلس المصلي حيث ينتهي به المجلس، فيجلس الناس بأولوية الحضور كل حسب مكانه ومبادرته للصلاة، فلا يتخطى الرقاب، ولا يفرق بين اثنين.
ونرى بعض المصلين يسارع إلى الصف الأول مثلاً، ويضع سجادته ليحجز بها مكاناً، ثم ينصرف لحاجته، فإذا ما تأخر عن الصلاة أتى ليتخطى رقاب الناس ليصل إلى مكانه، فإذا بالناس يضيقون من هذا التصرف، وينحون سجادته جانباً ويجلسون مكانها، إنه تصرف لا يليق ببيوت الله التي تسوي بين خلق الله جميعاً، وتحقق استطراق العبودية لله، فأنت اليوم بجوار فلان، وغداً بجوار آخر، الجميع خاضع لله راكع وساجد، فليس لأحد أن يتعالى على أحد.
ونرى كذلك استطراق العبودية واضحاً في مناسك الحج، حيث يأتي أحد العظماء والوجهاء فتراه عند الملتزم خاضعاً ذليلاً باكياً متضرعاً، وهو من هو في دنيا الناس.
إذن : فوقت الفجر وقت مبارك مشهود، تشهده ملائكة الليل، وهم غير مكلفين بالصلاة، فالأفضل من مشهدية الملائكة مشهدية المصلين الذين كلفهم الله بالصلاة، وجعلهم ينتفعون بها.
ومن هنا كانت صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، كما جاء في الحديث النبوي الشريف.
ويجب أن نلتفت إلى أن الحق سبحانه ربط الصلوات الخمس بالوقت، وبآية كونية تدل عليه هي الشمس، فكيف العمل إذا غابت، أو حجبت عنا بغيم أو نحوه ؟
إذن : على الإنسان المؤمن أن يجتهد ويعمل تفكيره في إيجاد شيء يضبط به وقته، وفعلاً تفتقت القرائح عن آلات ضبط الوقت الموجودة الآن، والتي تيسر كثيراً على الناس ؛ لذلك كانت الطموحات الإنسانية لأشياء تخدم الدين وتوضح معالمه أمراً واجباً على علماء المسلمين، على اعتبار أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
الهجود : هو النوم، وتهجد : أي أزاح النوم والهجود عن نفسه، وهذه خصوصية لرسول الله وزيادة على ما فرض على أمته، أن يتهجد لله في الليل، كما قال له ربه تعالى :﴿ يا أيها المزمل " ١ " قم الليل إلا قليلاً " ٢ " نصفه أو انقص منه قليلاً " ٣ " أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً " ٤ " ﴾( سورة المزمل ).
فهذه الخصوصية لرسول الله وإن كانت فرضاً عليه، إلا أنها ليست في قالب من حديد، بل له صلى الله عليه وسلم مساحة من الحرية في هذه العبادة، المهم أن يقول لله تعالى جزءاً من الليل، لكن ما علة هذه الزيادة في حق رسول الله ؟ العلة في قوله تعالى :﴿ إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً " ٥ " ﴾( سورة المزمل ) : وكأن التهجد ليلاً، والوقوف بين يدي الله في هذا الوقت سيعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم القوة والطاقة اللازمة للقيام بهذه المسئولية الملقاة على عاتقه، ألا وهي مسئولية حمل المنهج وتبليغه للناس.
وفي الحديث الشريف " أن رسول الله كان كلما حزبه أمر قام إلى الصلاة "، ومعنى حزبه أمر : أي : ضاقت أسبابه عنه، ولم يعد له فيه منفذ، فإن ضاقت عليه الأسباب فليس أمامه إلا المسبب سبحانه يلجأ إليه ويهرع إلى نجدته.
﴿ إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً " ٦ " ﴾( سورة المزمل ) : لأنك في الوقت الذي ينام فيه الناس ويخلدون إلى الراحة وتتثاقل رؤوسهم عن العبادة، تقوم بين يدي ربك مناجياً متضرعاً، فتتنزل عليك من الرحمات والفيوضات، فمن قام من الناس في هذا الوقت واقتدى بك فله نصيب من هذه الرحمات، وحظ من هذه الفيوضات. ومن تثاقلت رأسه عن القيام فلا حظ له.
إذن : في قيام الليل قوة إيمانية وطاقة روحية، ولما كانت مهمة الرسول فوق مهمة الخلق كان حظه من قيام الليل أزيد من حظهم، فأعباء الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة، والعبء الثقيل يحتاج الاتصال بالحق الأحد القيوم، حتى يستعين بلقاء ربه على قضاء مصالحه.
ومن العجيب أن ينصرف المسلمون عن هذه السنة، ويتغافلون عنها، فإذا حزبهم أمر لا يهرعون إلى الصلاة، بل يتعللون، يقول أحدهم : أنا مشغول. وهل شغل الدنيا مبرر للتهاون في هذه الفريضة ؟ ومن يدريك لعلك بالصلاة تفتح لك الأبواب، وتقضى في ساعة ما لا تقضيه في عدة أيام.
ونقول لهؤلاء الذين يتهاونون في الصلاة وتشغلهم الدنيا عنها، فإن صلوا صلوا قضاءً، فإن سألتهم قالوا : المشاغل كثيرة والوقت لا يكفي، فهل إذا أراد أحدهم الذهاب لقضاء حاجته، هل سيجد وقتاً لهذا ؟ إنه لاشك واجد الوقت لمثل هذا الأمر، حتى وإن تكالبت عليه مشاغل الدنيا، فلماذا الصلاة هي التي لا تجد لها وقتاً ؟ !
وقوله تعالى :﴿ نافلة لك.. " ٧٩ " ﴾( سورة الإسراء ) : النافلة هي الزيادة عما فرض على الجميع ( لك )أي : خاصة بك دون غيرك، وهذا هو مقام الإحسان الذي قال الله عنه :﴿ إن المتقين في جنات وعيون " ١٥ " آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين " ١٦ " ﴾( سورة الذاريات ) : والمحسن هو الذي دخل مقام الإحسان، بأن يزيد على ما فرضه الله عليه، ومن جنس ما فرض ؛ لذلك جاءت حيثية الإحسان :
﴿ كانوا قليلا من الليل ما يهجعون " ١٧ " وبالأسحار هم يستغفرون " ١٨ " ﴾( سورة الذاريات ).
وهذا المقام ليس فرضاً عليك، فلك أن تصلي العشاء وتنام حتى صلاة الفجر، لكن إن أردت أن تتأسى برسول الله وتتشبه به فادخل في مقام الإحسان على قدر استطاعتك.
ثم يقول تعالى :﴿ عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً " ٧٩ " ﴾( سورة الإسراء ) : تحدثت الآية في أولها عن التكليف، وهذا هو الجزاء، و( عسى )تدل على رجاء حدوث الفعل، وفرق بين التمني والرجاء، التمني : أن تعلن أنك تحب شيئاً لكنه غير ممكن الحدوث أو مستحيل، ومن ذلك قول الشاعر :
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها
فالشاعر يتمنى لو أصبحت الكواكب بين يديه فينظمها قصائد مدح فيمن يمدحه، وهذا أمر مستحيل الحدوث.
وقوله :
ألا ليت الشباب يعود يوماً**** فأخبره بما فعل المشيب
أما الرجاء فهو طلب فعل ممكن الحدوث.
ويقع تحت الطلب أشياء متعددة ؛ فإن طلب المتكلم من المخاطب شيئاً غير ممكن الحدوث فهو تمن، وإن طلب شيئاً ممكن الحدوث فهو ترج، وإن طلب صورة الشيء لا حقيقته فهو استفهام كما تقول : أين زيد ؟ وفرق بين طلب الحقيقة وطلب الصورة.
فإن طلبت حقيقة الشيء، فأمامك حالتان : إما أن تطلب الحقيقة على أنها تفعل فهذا أمر، مثل : قم : فإن طلبتها على أنها لا تفعل فهذا نهي : لا تقم. إذن :( عسى )تدل على الرجاء، وهو يختلف باختلاف المرجو منه، فإن رجوت من فلان فقد يعطيك أو يخذلك، فإن قلت : عسى أن أعطيك فقد قربت الرجاء ؛ لأنني أرجو من نفسي، لكن الإنسان بطبعه صاحب أغيار، ويمكن أن تطرأ عليه ظروف فلا يفي بما وعد.
فإن قلت : عسى الله أن يعطيك، فهو أقوى الرجاء ؛ لأنك رجوت من لا يعجزه شيء، ولا يتعاظمه شيء، ولا تتناوله الأغيار إذن : فالرجاء فيه محقق لاشك فيه.
والمقام المحمود، كلمة محمود : أي الذي يقع عليه الحمد، والحمد هنا مشاع فلم يقل : محمود ممن ؟ فهو محمود ممن يمكن أن يتأتى منه الحمد، محمود من الكل من لدن آدم، وحتى قيام الساعة.
والمراد بالمقام المحمود : هو مقام الشفاعة، حينما يقف الخلق في ساحة الحساب وهول الموقف وشدته، حتى ليتمنى الناس الانصراف ولو أن النار، ساعتها تستشفع كل أمة بنبيها، فيردها إلى أن يذهبوا إلى خاتم المرسلين وسيد الأنبياء، فيقول : أنا لها، أنا لها.
لذلك أمرنا صلى الله عليه وسلم أن ندعو بهذا الدعاء : " وابعثه اللهم المقام المحمود الذي وعدته " ولاشك أنه دعاء لصالحنا نحن.
قوله تعالى :﴿ مدخل صدقٍ.. " ٨٠ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : من حيث النظرة العامة ؛ لأنك قبل أن تدخل اطلب الخروج أولاً ؛ لأنك لن تدخل إلا بعد أن تخرج. وإن كان الترتيب الطبيعي أن تقول : أخرجني مخرج صدق، وأدخلني مدخل صدق.
نقول : لا، لأن الدخول هو غاية الخروج، ولأن الخروج متروك والدخول مستقبل لك، إذن : الدخول هو الأهم فبدأ به. لذلك يقولون : إياك أن تخرج من أمر إلا إذا عرفت كيف تدخل.
ومعنى مخرج الصدق، ومدخل الصدق، أنك لا تدخل أو تخرج بدون هدف، فإن خرجت من مكان فليكن مخرجك مخرج صدق، يعني : مطابقاً لواقع مهمتك، وإن دخلت مكاناً فليكن دخولك مدخل صدق. أي : لهدف محدد تريد تحقيقه. فإن دخلت محلاً مثلاً فادخل لهدف، كشراء سلعة مثلاً، فهذا دخول صدق، أما لو دخلت دون هدف أو لتؤدي خلق الله، فليس في هذا دخول صدق.
إذن : يكون دخولك لله وخروجك لله، وهكذا خرج رسول الله من مكة ودخل المدينة، فكان خروجه لله ودخوله لله، فخرج مخرج صدق، ودخل مدخل صدق، لأنه صلى الله عليه وسلم ما خرج من مكة إلا لما آذاه قومه واضطهدوه وحاربوا دعوته حتى لم تعد التربة في مكة صالحة لنمو الدعوة، وما دخل المدينة إلا لما رأى النصرة والمؤازرة من أهلها.
فالصدق أن يطابق الواقع والسلوك ما في نفسك، فلا يكن لك قصور في نفسك، ولك حركة مخالفة لهذا القصد.
ثم يقول تعالى :﴿ واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً " ٨٠ " ﴾( سورة الإسراء ) : طلب النصرة من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أرسله بمنهج الحق، وسوف يصطدم هذا الحق بأهل الباطل والفساد الذين يحرصون على الباطل، وينتفعون بالفساد، وهؤلاء سوف يعادون الدعوة، ويجابهونها ؛ لذلك توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه تعالى الذي أرسله واستعان به على مواجهة أعدائه.
وقوله تعالى :﴿ سلطاناً نصيراً " ٨٠ " ﴾( سورة الإسراء ) : السلطان : سبق أن أوضحنا أنه يراد به إما حجة تقنع، وإما سيف يردع، وهذا واضح في قوله الحق تبارك وتعالى :﴿ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط.. " ٢٥ " ﴾( سورة الحديد ) : أي : بالآيات الواضحات، وهذه أدوات الحجة والإقناع. ثم يقول تعالى :﴿ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس.. " ٢٥ " ﴾( سورة الحديد ) : وهذه أدوات القوة والردع.
فالخير من الناس يرتدع بقول الله وبقول الرسول ويستجيب، أما الشرير فلا تجدي معه الحجة، بل لابد من ردعه بالقوة، فالأول إن تعرض للحلف بالله حلف صادقاً، أما الآخر فإن تعرض للحلف حلف كاذباً، ووجدها فرصة للنجاة، ولسان حاله يقول : أتاك الفرج.
وفي الأثر : " إن الله لينزع بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن ".
هكذا أطلقها الحق سبحانه شعاراً مدوياً ( جاء الحق )ومادام قال للرسول :( قل )فلابد أن الحق قادم لاشك فيه ؛ لذلك أمره بهذه الأمر الصريح ولم يوسوسه له، وبعد ذلك يقولها رسول الله في عام الفتح، وعندما دخل مكة فاتحاً وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً فيكبكبهم جميعاً، وينادي : " جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وزهق الباطل، وما يبدئ الباطل وما يعيد ".
أي : جاء الحق واندحر الباطل، ولم يعد لديه القوة التي يبدئ بها و يعيد، فقد خمدت قواه ولم يبق له صولة ولا كلمة.
وقوله تعالى :﴿ جاء الحق وزهق الباطل.. " ٨١ " ﴾( سورة الإسراء ) : يشعرنا بأن الحق أتي بنفسه ؛ لأنه نسب المجيء إلى الحق كأنه أمر ذاتي فيه، فلم يأت به أحد، وكذلك في :﴿ وزهق الباطل.. " ٨١ " ﴾
( سورة الإسراء ) : فالباطل بطبيعته زاهق مندحر ضعيف لا بقاء له. ومن العجيب أن الحق الذي جاء على يد رسول الله في فتح مكة انتفع به حتى من لم يؤمن، ففي يوم الفتح تتجلى صورة من صور العظمة في دين الإسلام، حين يجمع رسول الله أهل مكة الذين عاندوا وتكبروا وأخرجوا رسول الله من أحب البلاد إليه، وهاهو اليوم يدخلها منتصراً ويوقفهم أمامه ويقول : " ما تظنون أني فاعل بكم ؟ " قالوا : خيراً، أخر كريم وابن أخ كريم، قال : " اذهبوا فأنتم الطلقاء ".
إذن : جاء الحق ليس لاستعباد الناس، ولكن لراحتهم ورفع رؤوسهم. ومن الحق الذي أظل مكة بالفتح ما يروي أن واحداً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة وأراد إيذاءه، وحينما وضع يده على رسول الله صلى الله عليه وسلم تبدل حاله وقال : فوالله لقد أقبلت عليه، وما في الأرض أبغض إلي منه، فحين وضعت يدي عنده فوالله ما في الأرض أحب إلي منه، وهكذا جاء الحق وزهق الباطل. وقوله تعالى :﴿ إن الباطل كان زهوقاً " ٨١ " ﴾( سورة الإسراء ) : زهوق صيغة مبالغة، فالباطل نفسه سريعاً ما يذهب ويندثر، ومن العجب أن ترى الباطل نفسه من جنود الله ؛ لأن الباطل لو لم يؤلم الناس ويزعجهم ما تشوقوا للحق وما مالوا إليه، فإذا ما لدغهم الباطل واكتووا بناره عرفوا الحق.
وقد ضرب لنا الحق سبحانه وتعالى مثلاً للحق وللباطل، فقال :﴿ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال " ١٧ " ﴾ ( سورة الرعد ).
الحق سبحانه يمثل للحق وللباطل بشيء حسي نراه حينما ينهمر المطر على قمم الجبال، فيسيل الماء على الأودية بين الجبال حاملاً معه صغار الحصى والرمال والقش، وهذا هو الزبد الذي يطفو على صفحة الماء ولا ينتفع الناس به، وحين تهب الرياح تنحى هذا الزبد جانباً، ويبقى الماء الرائق الصالح الذي ينتفع الناس به، وهذا الماء مثال للحق الذي ينفع الناس، والزبد مثال للباطل الذي لا خير فيه.
أو : يعطينا المثال في صورة أخرى : صورة الحداد أو الصائغ الذي يوقد النار على الذهب ليخرج منه ما علق به من شوائب.
الآية تعطينا نموذجين لتلقي القرآن : إن تلقاه المؤمن كان له شفاء ورحمة، وإن تلقاه الظالم كان عليه خسار، والقرآن حدد الظالمين ليبين أن ظلمهم هو سبب عدم انتفاعهم بالقرآن ؛ لأن القرآن خير في ذاته وليس خساراً.
وقد سبق أن أوضحنا أن الفعل قد يكون واحداً، لكن يختلف القابل للفعل، ويختلف الأثر من شخص لآخر، كما أن الماء الزلال يشربه الصحيح، فيجد له لذة وحلاوة ويشربه العليل فيجده مراً مائعاً، فالماء واحد لكن المنفعل للماء مختلف. كذلك أكل الدسم، فإن أكله الصحيح نفعه، وزاد في قوته ونشاطه، وإن أكله السقيم زاده سقماً وجر عليه علة فوق علته.
وقد سبق أن أوضحنا في قصة إسلام الفاروق عمر رضي الله عنه أنه لما تلقى القرآن بروح الكفر والعناد كرهه ونفر منه، ولما تلقاه بروح العطف والرقة واللين على أخته التي شج وجهها أعجبه فآمن.
إذن : سلامة الطبع أو فساده لها أثر في تلقي القرآن والانفعال به. وما أشبه هذه المسألة بمسألة التفاؤل والتشاؤم، فلو عندك كوب ماء قد ملئ نصفه، فالمتفائل يلفت نظره النصف المملوء، في حين أن المتشائم يلفت نظره النصف الفارع، فالأول يقول : نصف الكوب ممتلئ. والآخر يقول : نصف الكوب فارع، وكلاهما صادق لكن طبعهما مختلف.
وقد عالج القرآن مسألة التلقي هذه في قوله تعالى :﴿ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون " ١٢٤ " وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون " ١٢٥ " ﴾( سورة التوبة ).
فالآية واحدة، لكن الطبع المستقل مختلف، فالمؤمن يستقبلها بملكات سليمة، فيزداد بها إيماناً، والكافر يستقبلها بملكات فاسدة فيزداد بها كفراً، إذن : المشكلة في تلقي الحقائق واستقبالها أن تكون ملكات التلقي فاسدة.
ومن هنا نقول : إذا نظرت إلى الحق، فإياك أن تنظره وفي جوفك باطل تحرص عليه، لابد أن تخرج ما عندك من الباطل أولاً، ثم قارن وفاضل بين الأمور. وكذلك جاءت هذه المسألة في قول الله تعالى :
﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم " ١٦ " والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم " ١٧ " ﴾( سورة محمد ).
وقولهم :﴿ ماذا قال آنفا.. " ١٦ " ﴾ ( سورة محمد ) : دليل على عدم اهتمامهم بالقرآن، وأنه شيء لا يؤبه له. وكذلك في قوله تعالى :﴿ ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أاعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى.. " ٤٤ " ﴾( سورة فصلت )
ومثال لسلامة التلقي من حياتنا المعاصرة إرسال التلفاز مثلاً، فقد تستقبله أنت في بيتك فتجده واضحاً في حلقة من الحلقات أو برنامج من البرامج، فتتمتع بما شاهدت، ثم تقابل صديقاً فيشكو لك سوء الإرسال وعدم وضوح الصورة فيؤكد لك سلامة الإرسال، إلا أن العيب في جهاز الاستقبال عندك، فعليك أولاً أن تضبط جهاز الاستقبال عندك لتستقبل آيات الله الاستقبال الصحيح.
إذن : قول الحق تبارك وتعالى :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين.. " ٨٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : متوقف على سلامة الطبع، وسلامة الاستقبال، والفهم عن الله تعالى.
والشفاء : أن تعالج داءً موجوداً لتبرأ منه. والرحمة : أن تتخذ من أسباب الوقاية ما يضمن لك عدم معاودة المرض مرة أخرى، فالرحمة وقاية، والشفاء علاج.
لكن، هل شفاء القرآن شفاء معنوي لأمراض القلوب وعلل النفوس، فيخلص المسلم من القلق والحيرة والغيرة، ويجتث ما في نفسه من الغل والحقد، والحسد، إلى غير هذا من أمراض معنوية، أم هو شفاء للماديات، ولأمراض البدن أيضاً ؟
والرأي الراجح بل المؤكد الذي لاشك فيه أن القرآن شفاء بالمعنى العام الشامل لهذه الكلمة، فهو شفاء للماديات كما هو شفاء للمعنويات، بدليل ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأنه خرج على رأس سرية وقد مروا بقوم، وطلبوا منهم الطعام، فأبوا إطعامهم، وحدث أن لدغ كبير القوم، واحتاجوا إلى من يداويه فطلبوا من يرقيه، فقالوا : لا نرقيه إلا بجعلٍ، وذلك لما رأوه من بخلهم وعدم إكرامهم لهم، على حد قوله تعالى :﴿ لو شئت لاتخذت عليه أجراً " ٧٧ " ﴾( سورة الكهف ).
ولما اتفقوا معهم على جعل من الطعام والشياه قام أحدهم برقية اللديغ بسورة الفاتحة فبرئ، فأكلوا من الطعام وتركوا الشياه إلى أن عادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألوه عن حل هذا الجعل فقال صلى الله عليه وسلم : " ومن أدراك أنها رقية " أي : أنها رقية يرقى بها المريض فيبرأ بإذن الله، ثم قال صلى الله عليه وسلم : " كلوا منها، واجعلوا لي سهماً معكم ".
فشفاء أمراض البدن شيء موجود في السنة، وليس عجيبة من العجائب ؛ لأنك حين تقرأ كلام الله فاعلم أن المتكلم بهذا الكلام هو الحق سبحانه، وهو رب كل شيء ومليكه، يتصرف في كونه بما يشاء، وبكلمة ( كن )يفعل ما يريد، وليس ببعيد أن يؤثر كلام الله في المريض فيشفى. ولما تناقش بعض المعترضين على هذه المسألة مع أحد العلماء، قالوا له : كيف يشفى المريض بكلمة ؟ هذا غير معقول، فقال العالم لصاحبه : اسكت أنت حمار ! ! فغضب الرجل، وهم بترك المكان وقد ثارت ثورته، فنظر إليه العالم وقال : انظر ماذا فعلت بك كلمة، فما بالك بكلمة، المتكلم بها الحق سبحانه وتعالى ؟
ثم يقول تعالى :﴿ ولا يزيد الظالمين إلا خساراً " ٨٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : لأنهم بظلمهم واستقبالهم فيوضات السماء بملكات سقيمة، وأجهزة متضاربة متعارضة، فلم ينتفعوا بالقرآن، ولم يستفيدوا برحمات الله.
الله تعالى يريد أن يعطي الإنسان صورة عن نفسه ؛ لتكون عنده المناعة الكافية إذا ما أصابه المرض، كما يعطي الطبيب جرعة الطعم أو التحصين الذي يمنع حدوث مرض ما. فهاهي طبيعة الإنسان وسمته الغالية، وعليه أن يخفف من هذه الطبيعة، والمراد أن الإنسان إذا أنعم الله عليه استغنى وأعرض.
ولكي نوضح هذه المسألة نمثل لها ولله المثل الأعلى الوالد الذي يعطي للابن مصروفه كل شهر مثلاً، فترى الولد لا يلتفت إلى أبيه إلا أول كل شهر، حيث يأتي موعد ما تعود عليه من مصروف، وتراه طوال الشهر منصرفاً عن أبيه لا يكاد يتذكره، أما إذا عوده على أن يعطيه مصروفه كل يوم، فترى الولد في الصباح يتعرض لأبيه ويظهر نفسه أمامه ليذكره بالمعلوم. فالولد حين أعرض عن أبيه وانصرف عنه، ما الذي دعاه إلى هذا التصرف ؟
لأن الوالد أعطاه طاقة الاستغناء عنه طوال الشهر، فإن كان الابن باراً مؤمناً فإنه لا ينسى فضل والده الذي وفر له طاقة الاستغناء هذه، فيذكر والده بالخير، ويحمل له هذا الجميل. فإن كان هذا هو الحال مع الرب الأدنى فهو كذلك مع الرب الأعلى سبحانه، فيقول تعالى :﴿ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض.. " ٨٣ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : أعرض عنا وعن ذكرنا وانصرف عن منهجنا، ومن الناس من يعرض عن ذكر الله، ولكنه يؤدي منهجه، ولو أدى المنهج ذكر صاحب المنهج ما نسى المنعم أبداً. وإذا شغل الإنسان بالنعمة عن المنعم، فكأنه يخطئ المنعم، كما قال تعالى :﴿ كلاً إن الإنسان ليطغى " ٦ " أن رآه استغنى " ٧ " ﴾( سورة العلق ) : فالاستغناء هنا ليس ذاتياً في الإنسان، بل هو استغناء موهوب، قد ينتهي في يوم من الأيام ويعود الإنسان من جديد يطلب النعمة من المنعم سبحانه، يقول تعالى :﴿ إن إلى ربك الرجعى " ٨ " ﴾( سورة العلق ).
ثم يتحدث الحق عن صفة أخرى في الإنسان :﴿ وإذا مسه الشر كان يئوساً " ٨٣ " ﴾( سورة الإسراء ) :
وهذه صفة مذمومة في الإنسان الذي إذا ما تعرض لشر أو مسر ضر يقنط من رحمة الله، وكأن الحق سبحانه يخاطب عبده الذي يقنط : لا يليق بك أن تقنط إذا ضاقت بك الدنيا، وأنت مؤمن لا تعيش مع الأسباب وحدها إنما مع المسبب سبحانه، ومادمت في رحاب مسبب الأسباب فلا تيأس ولا تقنط.
لذلك يقولون : " لا كرب وأنت رب "، فيجوز لك القنوط إن لم يكن لك رب يتولاك، أما والرب موجود فلا يليق بك، كيف ومن له أب لا يلقي لهموم الدنيا بالاً، ويستطيع أن يعتمد عليه في قضاء حاجاته، فما بالك بمن له رب يرعاه ويتولاه، ويستطيع أن يتوجه إليه، ويدعوه في كل وقت ؟
والحق سبحانه حينما ينبهنا إلى هذه المسألة يريد أن يعطينا الأسوة به سبحانه وتعالى، يريد أن يقول للإنسان : لا تحزن إن أديت للناس جميلاً فأنكروه، أو معروفاً فجحدوه، وكيف تحزن وهم يفعلون هذا معي، وأنا رب العالمين، فكثيراً ما أنعم عليهم، ويسيئون إلي، ويكفرون بي وبنعمتي.
وسيدنا موسى عليه السلام حينما طلب من ربه تعالى ألا يقال فيه ما ليس فيه، قال له ربه : كيف، وأنا لم أفعل ذلك لنفسي ؟ ! إنهم يفترون على الله ما ليس فيه، ويكفرون به سبحانه وينكرون إيجاده ونعمه، فمن يغضب لقول الكافرين أو إيذائهم له بعد هذا ؟
لكن، لماذا ييأس الإنسان ويقنط ؟ لأنه في حال النعمة أعرض عن الله ونأى بجانبه : أي ابتعد عن ربه، لم يعد له من يدعوه ويلجأ إليه أن يفرج عنه ضيق الدنيا.
إذن : لما أعرض في الأولى يئس في الثانية. والله تعالى يجيب من دعاه ولجأ إليه حال الضيق حتى إن كان كافراً، كما قال تعالى :﴿ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه.. " ٦٧ " ﴾( سورة الإسراء ).
أي : أن كل إنسان يعمل على طريقته، وعلى طبيعته، وعلى مقدار ما تكونت به من خلايا الإيمان، أو من خلايا إيمان اختلطت بخلايا عصيان، أو بما عنده من خلايا كفر، فالناس مختلفون وليسوا على طبع واحد، فلا تحاول إذن أن تجعل الناس على طبع واحد.
ومادام الأمر كذلك، فليعمل كل واحد على شاكلته، وحسب طبيعته، فإن أساء إليك إنسان سيئ الطبع فلا تقابله بسوء مثله، ولتعمل أنت على شاكلتك، ولتقابله بطبع طيب ؛ لذلك يقولون : لا تكافئ من عصى الله فيك بأكثر من أن تطيع الله فيه. وبذلك يستقيم الميزان في المجتمع، ولا تتفاقم فيه أسباب الخلاف. ثم يقول تعالى :﴿ فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً " ٨٤ " ﴾( سورة الإسراء ).
والرب : المتولي للتربية، والمتولي للتربية لاشك يعلم خبايا المربي، ويعلم أسراره ونواياه، كما قال تعالى :﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " ١٤ " ﴾( سورة الملك ).
والسؤال يرد في القرآن بمعان متعددة، ووردت هذه الصيغة ( يسألونك )في مواضع عدة، فإن كان السؤال عن شيء نافع يضر الجهل به أجابهم القرآن، كما في قوله تعالى :﴿ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض.. " ٢٢٢ " ﴾ ( سورة البقرة ).
وقوله تعالى :﴿ يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم " ٢١٥ " ﴾( سورة البقرة ) : فإن كان السؤال عن شيء لا يضر الجهل به، لفت القرآن أنظارهم إلى ناحية أخرى نافعة، كما في سؤالهم عن الأهلة : كيف يبدو الهلال صغيراً ثم يكبر ويكبر إلى أن يصير بدراً، ثم يأخذ في التناقص ليعود كما بدأ ؟
فالحديث مع العرب الذين عاصروا نزول القرآن في هذه الأمور الكونية التي لم نعرفها إلا حديثاً أمر غير ضروري، وفوق مستوى فهمهم، ولا تتسع له عقولهم، ولا يترتب عليه حكم، ولا ينتج عن الجهل به ضرر، ولو أخبرهم القرآن في إجابة هذا السؤال بحقيقة دوران القمر بين الأرض والشمس وما يترتب على هذه الدورة الكونية من ليل ونهار، وهم أمة أمية غير مثقفة لاتهموا القرآن بالتخريف، ولربما انصرفوا عن أصل الكتاب كله.
لكن يحولهم القرآن، ويلفت أنظارهم إلى ما يمكن الانتفاع به من الأهلة :﴿ قل هي مواقيت للناس والحج.. " ١٨٩ " ﴾ ( سورة البقرة ).
وقد يأتي السؤال، ويراد به اختبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما حدث من اتفاق كفار مكة واليهود حيث قالوا لهم : اسألوه عن الروح، وهم يعلمون تماماً أن هذه مسألة لا يعلمها أحد، لكنهم أرادوا الكيد لرسول الله، فلعله يقول في الروح كلاماً يأخذونه عليه ويستخدمونه في صرف الناس عن دعوته.
ولاشك أنه سؤال خبيث ؛ لأن الإنسان عامة يحب أن يظهر في مظهر العالم، ولا يحب أن يعجز أمام محاوره فاستغلوا هذه العاطفة، فالرسول لن يصغر نفسه أمام سائليه من أهل مكة، وسوف يحاول الإجابة عن سؤالهم.
ولكن خيب الله سعيهم، فكانت الإجابة :﴿ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " ٨٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : فعندما سمع أهل الكتاب هذه الإجابة آمن كثيرون منهم ؛ لأنها طابقت ما قالته كتبهم عن الروح، وأنها من عند الله. و( الروح )لها إطلاقات متعددة، منها : الروح التي تمد الجسم بالحياة إن اتصلت به، كما في قوله تعالى :﴿ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " ٢٩ " ﴾( سورة الحجر ) : فإذا ما فارقت هذه الروح الجسد فقد فارق الحياة، وتحول إلى جثة هامدة، وفيها يقول تعالى :﴿ فلولا إذا بلغت الحلقوم " ٨٣ " ﴾( سورة الواقعة ).
وقد تأتي الروح لتدل على أمين الوحي جبريل عليه السلام، كما في قوله تعالى :﴿ نزل به الروح الأمين " ١٩٣ " ﴾( سورة الشعراء ).
وقد تطلق الروح على الوحي ذاته، كما في قوله تعالى :﴿ وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا " ٥٢ " ﴾
( سورة الشورى ).
وتأتي بمعنى التثبيت والقوة، كما في قوله تعالى :﴿ أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه.. " ٢٢ " ﴾( سورة المجادلة ).
وأطلقت الروح على عيسى ابن مريم عليه السلام في قوله تعالى :﴿ إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.. " ١٧١ " ﴾( سورة النساء ).
إذن : لهذه الكلمة إطلاقات متعددة، فما العلاقة بينها ؟
قالوا : الروح التي بها حركة الحياة إذا وجدت في الإنسان تعطي مادية الحياة، ومادية الحياة شيء، وقيم الحياة شيء آخر، فإذا ما جاءك شيء يعدل لك قيم الحياة فهل تسميه روحاً ؟ لا، بل هو روح الروح ؛ لأن الروح الأولى قصاراها الدنيا، لكن روح المنهج النازل من السماء فخالدة في الآخرة، فأيهما حياته أطول ؟
لذلك فالحق سبحانه ينبهنا : إياك أن تظن أن الحياة هي حياتك أنت وكونك تحس وتتحرك وتعيش طالما فيك روح، لا بل هناك روح أخرى أعظم في دار أخرى أبقى وأدوم :﴿ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " ٦٤ " ﴾ ( سورة العنكبوت ) : لأن الروح التي تعيش بها في الدنيا عرضة لأن تؤخذ منك، وتسلب في أي مرحلة من مراحل حياتك منذ وجودك جنيناً في بطن أمك، إلى أن تصير شيخاً طاعناً في السن.. أما روح الآخرة، وهي روح القيم وروح المنهج، فهي الروح الأقوى والأبقى ؛ لأنها لا يعتريها الموت.
إذن : سمي القرآن، وسمي الملك النازل به روحاً ؛ لأنه سيعطي حياة أطول هي حياة القيم في الآخرة.
وهنا يقول تعالى :﴿ قل الروح من أمر ربي.. " ٨٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : أن هذا من خصوصياته هو سبحانه، وطالما هي من خصوصياته هو سبحانه، فلن يطلع أحداً على سرها. وهل هي جوهر يدخل الجسم فيحيا ويسلب منه فيموت، أم هي مراد ( بكن )من الخالق سبحانه، فإن قال لها كن تحيا، وإن قال مت تموت ؟
إن علم الإنسان سيظل قاصراً عن إدراك هذه الحقيقة، وسيظل بينهما مسافات طويلة ؛ لذلك قال تعالى بعدها :﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " ٨٥ " ﴾ ( سورة الإسراء ).
وهل عرف العقل البشري كل شيء حتى يبحث في أسرار الروح ؟ !
ولما تعرض أحد رجال الصوفية للنقد، واعترض عليه أحد الأشخاص فقال له الصوفي : وهل أحطت علماً بكل شيء في الكون ؟ قال الرجل : لا، قال : فأنا من الذي لا تعلم.
والحق سبحانه وتعالى حينما يعطينا فكرة عن الأشياء لا يعطينا بحقائق ذاتها وتكوينها ؛ لأن أذهاننا قد لا تتسع لفهمها، وإنما يعطينا بالفائدة منها. فحين حدثنا عن الأهلة قال :﴿ قل هي مواقيت للناس والحج.. " ١٨٩ " ﴾( سورة البقرة ).
وهذه هي الفائدة التي تعود علينا والتي تهمنا من الأهلة، أما حركتها ومنازلها والمراحل التي تمر بها الأهلة فأمور لا يضر الجهل بها ؛ ذلك لأن الاستفادة بالشيء ليست فرعاً لفهم حقيقته، فالرجل الأمي في ريفنا يقتني الآن التلفاز وربما الفيديو، ويستطيع استعمالهما وتحويل قنواتهما وضبطهما، ومع ذلك فهو لا يعرف كيف تعمل هذه الأجهزة ؟ وكيف تستقبل ؟
إذن : الاستفادة بالشيء لا تحتاج معرفة كل شيء عنها، فيكفيك إذن أن تستفيد بها دون أن تدخل نفسك في متاهات البحث عن حقيقتها.
والحق سبحانه وتعالى ينبهنا إلى هذه المسألة في قوله تعالى :﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم.. " ٣٦ " ﴾( سورة الإسراء ).
لأن الخالق سبحانه يريد للإنسان أن يوفر طاقاته الفكرية ليستخدمها فيما يجدي، وألا يتعب نفسه ويجهدها في علم لا ينفع، وجهل لا يضر.
فعلى المسلم بدل أن يشغل تفكيره في مثل مسألة الروح هذه، أن ينشغل بعمل ذي فائدة له ولمجتمعه. وأي فائدة تعود عليك إن توصلت إلى سر من أسرار الروح ؟ وأي ضرر سيقع عليك إذا لم تعرف عنها شيئاً ؟
إذن : مناط الأشياء أن تفهم لماذا وجدت لك، وما فائدتها التي تعود عليك. والحق سبحانه حينما قال :
﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " ٨٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : كان يخاطب بها المعاصرين لرسول الله منذ ما يزيد على ألف وأربعمائة عام، ومازال يخاطبنا ويخاطب من بعدنا، وإلى أن تقوم الساعة بهذه الآية مع ما توصلت إليه البشرية من علم وكأنه سبحانه يقول : يا ابن آدم، الزم غرزك، فإن وقفت على سر فقد غابت عنك أسرار. وقد أوضح الحق سبحانه لنا هذه المسألة في قوله :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق.. " ٥٣ " ﴾ ( سورة فصلت ).
وهاهم العلماء والباحثون يقفون كل يوم على جديد في الكون الفسيح وفي الإنسان، ولو تابعت ما توصل إليه علماء الفضاء ورجال الطب لهالك ما توصلوا إليه من آيات وعجائب في خلق الله تعالى، لكن هل معنى ذلك أننا عرفنا كل شيء ؟ إن كلمة ( سنريهم )ستظل تعمل إلى قيام الساعة.
والمتتبع لطموحات العقول وابتكاراتها يجد التطور يسير بخطى واسعة، ففي الماضي كان التقدم يقاس بالقرون، أما الآن ففي كل يوم يطلع علينا حديث وجديد، ونرى الأجهزة تصنع ولا تستعمل ؛ لأنها قبل أن تباع يخرج عليها أحدث منها، لكن كلها زخارف الحياة وكمالياتها، كما قال تعالى :﴿ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت.. " ٢٤ " ﴾ ( سورة يونس ).
فكل ما نراه من تقدم ليس من ضروريات الحياة، فقد كنا نعيش بخير قبل أن نعرف الكهرباء، وكنا نشرب في الفخار والآن في الكريستال، فابتكارات الإنسان في الكماليات، أما الضروريات فقد ضمنها الخالق سبحانه قبل أن يوجد الإنسان على هذه الأرض.
فإذا ما استنفدت العقول البشرية نشاطاتها، وبلغت منتهى ما لديها من ابتكارات، حتى ظن الناس أنهم قادرون على التحكم في زمام الكون، لا يعجزهم فيه شيء، كما قال تعالى :﴿ وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس " ٢٤ " ﴾ ( سورة يونس ).
فبعد ما أخذتم أسرار المنعم في الكون على قدر ما استطعتم، فاذهبوا الآن إلى المنعم ذاته لتروا النعيم على حقيقته، وكلما رأيت في دنيا الناس ابتكارات واختراعات تسعد الإنسان، فهذا ما أعد البشر للبشر، فكيف بما أعد الله الخالق لخلقه ؟
فالمفروض أن زخارف الحياة وزينتها وكمالياتها لا تدعونا إلى الحقد والحسد لمن توفرت لديه، بل تدعونا إلى مزيد من الإيمان والشوق إلى النعيم الحقيقي عند المنعم سبحانه.
ولو تأملت هذه الارتقاءات البشرية لوجدتها قائمة على المادة التي خلقها الله والعقل المخلوق الله والطاقة المخلوقة لله، فدور الإنسان أنه أعمل عقله وفكره في المقومات التي خلقها الله، لكن مهما وصلت هذه الارتقاءات، ومهما تطورت هل ستصل إلى درجة : إذا خطر الشيء ببالك تجده بين يديك ؟
الحق سبحانه في هذه الآية يريد أن يربي الكفار ويؤنبهم، ويريد أن يبرئ ساحة رسوله صلى الله عليه وسلم ويتحمل عنه المسئولية، فهو مجرد مبلغ عن الله، وإياكم أن تقولوا عنه مفتر، أو أتى بشيء من عنده، بدليل أنني لو شئت لسلبت ما أوحيته إليه وقرأه عليكم وسمعتموه أنتم وكتبه الصحابة.
فإن سأل متسائل : وكيف يذهب الله بوحي منزل على رسوله، وحفظه وكتبه الصحابة، وسمعه الكفار ؟
نقول : أولاً : سياق الآية يدلنا على أن هذه العملية لم تحدث ؛ لأن الحق سبحانه يقول :﴿ ولئن شئنا.. " ٨٦ " ﴾( سورة الإسراء ) : بمعنى : لو شئنا فعلنا ذلك، فالفعل لم يحدث، والمراد بيان إمكانية ذلك ليبرئ موقف رسول الله، وأنه ليس له من الأمور شيء. والغريب أن يفهم البعض من قوله تعالى :﴿ ليس لك من الأمر شيء.. " ١٢٨ " ﴾( سورة آل عمران ) : أنها ضد رسول الله، وقدح في شخصه، وليس الأمر كذلك ؛ لأنه ربه تبارك وتعالى يريد أن يتحمل عنه ما يمكن أن يفسد العلاقة بينه وبين قومه، وكأنه يقول لهم : لا تغضبوا من محمد فالأمر عندي أنا، وشبهنا هذا الموقف بالخادم الذي فعل شيئاً، فيأتي سيده ليدافع عنه، فيقول : أنا الذي أمرته.
ثانياً : لماذا نستبعد في قدرة الخالق سبحانه أن يسلب منا ما أوحاه لرسوله وحفظناه وكتبناه، ونحن نرى فاقد الذاكرة مثلاً لا يكاد يذكر شيئاً من حياته، فإذا ما أرادوا إعادة ذاكرته يقومون بإجراء عملية جراحية مثلاً، فما أشبه هذه بتلك.
ونلاحظ في الآية جملة شرطية، أداة الشرط فيها " إن "، وهي تستخدم للأمر المشكوك في حدوثه، على خلاف " إذا " فتأتي للأمر المحقق. ثم يوضح لنا الحق سبحانه أنه إن ذهب بما أوحاه لرسوله، فلن يستطيع أحد إعادته :﴿ ثم لا تجد لك به علينا وكيلاً " ٨٦ " ﴾( سورة الإسراء ).
قوله تعالى :﴿ إلا رحمة من ربك.. " ٨٧ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : أنك لا تجد لك وكيلاً في أي شيء إلا من جانب رحمتنا نحن، لأن فضلنا عليك كبير.
( قل )لا يقولها الحق سبحانه بينه وبين رسوله، بل المراد : أعلنها يا محمد على الملأ، واسمع بها الناس جميعاً ؛ لأن القضية قضية تحد للجميع.
﴿ لئن اجتمعت الإنس والجن.. " ٨٨ " ﴾( سورة الإسراء ) : وهما الثقلان اللذان يكونان أمة التكليف لما منحهما الله من نعمة الاختيار الذي هو مناط التكليف. وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهما جميعاً، وقد استمعت الجن إلى القرآن كما استمعت إليه البشر :﴿ قل أوحى إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجباً " ١ " يهدي إلى الرشد فآمنا به.. " ٢ " ﴾( سورة الجن ) :
والتحدي معناه الإتيان بآية معجزة يعجز عنها المعارض، لكن من جنس ما نبغ فيه المعارض، فلا يتحداهم بشيء لا علم لهم به، ولا خبرة لهم فيه ؛ لأنه لا معنى للتحدي في هذه الحالة ولا جدوى منه، كما لو تحديت إنساناً عادياً برفع الأثقال ولم يسبق له أن ارتاض هذه الرياضة، إنما تتحدى بها بطلاً معروفاً عنه ممارسة هذه العملية.
لذلك جاءت كل معجزات الرسل من جنس ما نبغ فيه القوم ليكون التحدي في محله، ولا يعترضون عليه بأنه خارج عن نطاق علمهم ومقدرتهم، فكانت معجزة موسى عليه السلام العصا واليد، وهي من جنس ما نبغ فيه قومه من السحر، وجاءت معجزة عيسى عليه السلام إحياء الموتى بإذن الله، وإبراء الأكمة والأبرص ؛ لأن قومه نبغوا في الطب، وكانت معجزته صلى الله عليه وسلم في البلاغة والفصاحة التي نبغ فيها العرب.
وقد اقترح كفار مكة على رسول الله آيات معينة لإثبات صدق رسالته، لكن الآيات لا تقترح على الله تعالى ؛ لأنه سبحانه هو الذي يختار الآيات التي تناسب الطباع وتكون معجزة تثبت صدق رسوله، وقد اقترحوا على رسول الله آيات ومعجزات في مجالات لا علم لهم بها، فكيف يتحداهم الله في مجال لا نبوغ لهم فيه، وليس لهم دراية به ؟
والحق سبحانه أنزل القرآن، وجعله المعجزة الوحيدة لصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وهو المعجزة الوحيدة لكل أمة الإسلام من لدن رسول الله إلى قيام الساعة. وهذا لا يمنع أن توجد معجزات كونية حدثت لرسول الله ليراها القوم الذي عاصروه، ومثل هذه المعجزات لا نطالب بها نحن، ولا نطالب بالإيمان بها، إلا إذا وردت من صادق معصوم ؛ لأن الهدف من هذه المعجزات تثبيت الإيمان برسول الله في نفوس من شاهدوها، فنبوع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وكون الشجرة تسعى إليه والحيوان يكلمه، فالمقصود بهذه المعجزات من شاهدها وعاصرها، لا من أتى بعد عصره صلى الله عليه وسلم.
وفي القرآن خاصية تفرد بها عن الكتب السابقة، حيث نزل جامعاً بين أمرين : أنه منهج سماوي ينظم حركة الحياة، وهو في الوقت نفسه معجزة مصاحبة للمنهج لا تنفك عنه إلى قيام الساعة.
أما الكتب السابقة فكانت تأتي بمنهج فقط، أما المعجزة فشيء آخر منفصل عن الكتاب، فمعجزة موسى العصا واليد وكتابه التوراة، ومعجزة عيسى إبراء الأكمة والأبرص، وكتابه الإنجيل، أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد انفرد بأن تكون معجزته هي منهجه.
لذلك لما طلب كفار مكة من رسول الله أن يفسح لهم جبال مكة، ويوسع عليهم الأرض، وأن يحيي لهم موتاهم ليشهدوا بصدقه، خاطبهم الحق سبحانه بقوله :﴿ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعاً.. " ٣١ " ﴾ ( سورة الرعد ) : أي : كان في القرآن غناء لكم عن كل هذه المسائل.
وقد اعترض المستشرقون على هذه القضية، فقالوا : إن كانت الرسالة المحمدية للناس كافة، وجاءت معجزته في البلاغة والفصاحة ليتحدى بها قومه من العرب، فما لون الإعجاز لغير العرب ؟
نقول : أولاً : إذا كان العرب ارتاضوا على الملكة العربية وأساليبها قد عجزوا أمام هذا التحدي، فغيرهم ممن اتخذ العربية صناعة لاشك أعجز.
ثانياً : من قال إن المعجزة في القرآن في فصاحته وبلاغته فقط ؟
لقد جاءت بلاغة القرآن وفصاحته للأمة المتلقية للدعوة الأولى، هؤلاء الذين سيحملون عبء الدعوة، ويسيحون بها في شتى بقاع الأرض، فإذا ما انتشرت الدعوة كانت المعجزة للناس الآخرين من غير العرب شيئاً آخر.
فالغيبيات التي يخبرنا بها، والكونيات التي يحدثنا عنها، والتي لم تكن معلومة لأحد نجدها موافقة تماماً لما جاء به القرآن، وهو منزل على نبي أمي، وفي أمة أمية غير مثقفة، فهذه كلها نواحي إعجاز للعرب ولغيرهم، ومازلنا حتى الآن نقف أمام آيات، وننتظر من العلم أن يكشف لنا عن معناها. وفي الماضي القريب توصل العلم إلى أن الذرة أصغر شيء في الوجود، وقد ذكر القرآن الذرة في مثل قوله :﴿ فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره " ٧ " ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " ٨ " ﴾( سورة الزلزلة ).
وبتقدم وسائل البحث توصلوا إلى تفتيت الذرة أو شطرها، ووجدنا في الكون ما هو أقل من الذرة، فظن البعض أن هذه لا ذكر لها في القرآن، وظنوا أنهم تصيدوا على القرآن مأخذاً، ولو أمعنوا النظر في كتاب الله لوجدوا لهذا التطور العلمي رصيداً في كتاب الله حيث قال تعالى :﴿ وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين " ٦١ " ﴾ ( سورة يونس ).
والقرآن يقول ( أصغر )لا صغير، فلو فتتنا أجزاء الذرة لوجدنا لها رصيداً واحتياطاً في كتاب الله، ألا ترى في ذلك إعجازاً ؟
إذن : تحداهم الحق سبحانه بقوله :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن.. " ٨٨ " ﴾ ( سورة الإسراء ).
وأدخل الجن في مجال التحدي ؛ لأن العرب كانوا يعتقدون أن لكل شاعر نابغ، أو أديب مفوه، أو عبقري عنده نبوغ بياني شيطاناً يلهمه، وهذه الشياطين تسكن وادياً عندهم يسمونه " وادي عبقر "، لذلك لم يكتف القرآن بتحديهم هم، بل تحدى أيضاً من يلهمونهم، أو من ينسبون إليهم القوة في هذا الأمر.
ثم يقول تعالى :﴿ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن.. " ٨٨ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : فالتحدي أن يأتوا ( بمثله )لأنه لا يمكن أن يأتوا به نفسه مرة أخرى ؛ لأن الواقع لا يقع مرتين. إذن : المتصور في مجال التحدي أن يأتوا بمثله، فلو قلت : هذا الشيء مثل هذا الشيء، فلاشك أن المشبه به أقوى وأصدق من المشبه، ولا يرتقي المشبه ليكون هو المشبه به بل مثله، فإذا انتفى المثل فقد انتفى الأصل من باب أولى.
فالحق سبحانه في قوله :﴿ لا يأتون بمثله.. " ٨٨ " ﴾( سورة الإسراء ) : لا ينفي عنهم أن يأتوا بقرآن، بل بمثل القرآن، فإذا كانوا لا يأتون بالصورة، فهل يقدرون على الأصل ؟ ! ثم يقول تعالى زيادة في التحدي :﴿ ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً " ٨٨ " ﴾( سورة الإسراء ) : والظهير : هو المعاون والمساعد والمعين على الأمر، ومنه قوله تعالى :﴿ وإن تظاهراً عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح والمؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير " ٤ " ﴾ ( سورة التحريم ).
لأنه قد يقول قائل : إن هذه المهمة لا يقوم بها فرد واحد، فقال لهم سبحانه : بل هاتوا كل ما لديكم من طاقات إبداعية وعبقريات بيانية، واستعينوا بما تزعمون من إلهام الجن، وتعاونوا جميعاً في سبيل هذا التحدي، حتى إذا كان في أحدكم نقص أكمله الآخر.
لكن، هل ظل التحدي قائماً على أن يأتوا بمثل القرآن ؟
المتتبع لهذا الموضوع في القرآن الكريم يجد الحق تبارك وتعالى يتنزل معهم في القدر المطلوب للتحدي، وهذا التنزل يدل على ارتقاء التحدي، فبعد أن تحداهم بأن يأتوا بمثل القرآن، تحداهم بعشر سور، ثم تحداهم بسورة واحدة، وكلما تنزل معهم درجة ارتقى بالتحدي، فلاشك أن تحديهم بسورة واحدة أبلغ من تحديهم بمثل هذا القرآن.
وهذا التنزيل الذي يفيد الارتقاء كما نجمع مثلاً بين المتناقضات، فنقول : صعد إلى الهاوية، وانحدر إلى القمة. ومع هذا التنزل لم يستطيعوا الإتيان بمثل آية واحدة من كتاب الله.
ويجب أن نلتفت إلى مغزى آخر من وراء هذا التحدي، فليس الهدف منه تعجيز القوم، بل أن نثبت لهم السواسية بين الخلق، فالجميع أمام الإله الواحد سواء، وهذه هي القضية التي تزعجهم وتقض مضاجعهم، والقرآن سيثبت لهم صدق محمد، وسيرفع من مكانته بين القوم، وهم الذين يحاولون إيذاءه ويدبرون لقتله.
ولذلك من غبائهم أن قالوا :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيمٍ " ٣١ " ﴾( سورة الزخرف ).
إذن : فاعتراضهم ليس على القرآن في حد ذاته، بل على محمد الذي نزل القرآن عليه، فهم يحسدونه على هذه المكانة، كما قال تعالى :﴿ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.. " ٥٤ " ﴾( سورة النساء ).
وسبحان الله، إذا كان الخلق يختلفون أمام رحمة الله في مسائل الدنيا التي لهم فيها أسباب وسعي واجتهاد، فكيف بالأمر الذي ليس في أيديهم ؟ كيف يريدون التدخل فيه :﴿ أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعضٍ درجاتٍ.. " ٣٢ " ﴾( سورة الزخرف ).
التصريف : هو التحويل والتنويع بأساليب مختلفة لزيادة البيان، والمراد أن القرآن الكريم لا يعالج القضايا بأسلوب رتيب جامد، بل يحول الكلام بين أساليب متعددة ؛ لأنه يخاطب طباعاً متعددة، ويتعرض أيضاً لموضوعات متعددة ومعاني مختلفة، فلابد أن يصرف الأسلوب ويقلبه على أكثر من وجه، فالذي لا يفهم هذه يفهم هذه، فيعرض المعنى الواحد بأساليب متعددة وأمثال مختلفة.
ونأخذ مثالاً على ذلك قضية القمة، وهي الألوهية ووحدانية الله تعالى، فنرى القرآن يعرضها في معارض مختلفة هكذا :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.. " ٢٢ " ﴾( سورة الأنبياء ) : أي : في السماء والأرض.
وهذا الأسلوب قد لا يفهمه غير العربي ؛ لأنه يفتقد الملكة اللغوية التي يتلقى بها كلام الله، وقد يعترض فيقول :( إلا )أداة استثناء. فالمعنى : لو كان فيهما آلهة خارج منهم الله لفسدتا، فلو كانت هناك آلهة ومعهم الله فهذه لا تجوز ؛ لأنها مشاركة، لكنها تفيد أن الله تعالى موجود، وإن كان معه آخرون، والمنطق في هذه الحالة يقول : لو كان في السماء والأرض آلهة ومعهم الله لا تفسد.
لكن الحقيقة أن ( إلا )هنا ليس للاستثناء، بل هي اسم بمعنى ( غير ). فالمعنى إذن : لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا.
﴿ ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعضٍ.. " ٩١ " ﴾ ( سورة المؤمنون ) : فالحق تبارك وتعالى منزه عن الولد والشريك، إذ لو كان معه إله آخر لذهب كل إله بما خلق، واختص نفسه بمنطقة معينة، ولعلا بعضهم على بعض، فإن أرادوا إبراز شيء للوجود، فأيهما يبرزه ؟ إن قدر على إبراز واحد فالآخر عاجز، وإن لم يقدر عليه واحد بمفرده، فهما عاجزان لا يصلحان للألوهية.
ثم يعرض نفس القضية بأسلوب آخر، فيقول :﴿ قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا " ٤٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : إن كان مع الله آلهة كما يدعي المشركون لذهب هؤلاء الآلهة إلى ذي العرش يعاتبونه أو يؤدبونه، أو يعاقبونه ؛ لأنه انفرد بالملك من دونهم. وبأسلوب آخر يقول تعالى :﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو.. " ١٨ " ﴾ ( سورة آل عمران ) :
ولم يأت من ينازعه هذه المكانة، أو يدعيها لنفسه، إذن : فقد ثبتت له هذه القضية إلى أن يوجد معارض، فالمختلف فيه يتفق عليه إن لم يظهر له معارض.
وسبق أن ضربنا لذلك مثلاً، ولله المثل الأعلى : هب أن جماعة انصرفوا من مجلس، ثم وجد صاحب البيت حافظة نقود في مكان مجلسهم فعرضها عليهم، فلم يدعها أحد لنفسه إلا رجل واحد قال : هي لي، أيشك صاحب البيت أنها له ؟
نرى هذا التصرف أيضاً في أسلوب القرآن في مسألة ادعاء أن لله تعالى ولداً، تعالى الله عما يقول المبطلون علواً كبيراً، فيعرضها القرآن هكذا :﴿ وقالت اليهود عزيز ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله.. " ٣٠ " ﴾( سورة التوبة ).
فيرد القرآن هذا الزعم بقوله تعالى :﴿ بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة.. " ١٠١ " ﴾( سورة الأنعام ).
وفي موضع آخر يعرض المسألة هكذا :﴿ ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون " ٥٧ " ﴾( سورة النحل ) : أي : فإن كنتم تريدون مقاسمة الخالق سبحانه، فهل يليق أن تأخذوا أنتم البنين ؛ لأنهم المفضلون حسب زعمكم، وتتركوا له تعالى البنات :﴿ ألكم الذكر وله الأنثى " ٢١ " تلك إذاً قسمة ضيزي " ٢٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : قسمة جائرة.
وهكذا يصرف القرآن أسلوبه، ويحوله ليقنع به جميع العقول ؛ ليناسب كل الطبائع. وتمتاز لغة العرب بالمثل والحكمة ؛ لذلك كان من التصريف في أسلوب القرآن استخدام المثل، وهو تعبير موجز، يحمل المعاني الكثيرة وتتعشق لفظه، وتقوله كما هو دون تغيير إذا جاءت مناسبته.
فإذا أرسلت أحداً في مهمة أو جماعة، فيمكنك حين عودتهم تقول لهم مستفهماً :( ماذا وراءك يا عصام ؟ )هكذا بصيغة المؤنثة المفردة، لأن المثل قيل هكذا، حيث أرسل أحدهم امرأة تسمى عصام لتخطب له إحدى النساء وحينما أقبلت عليه خاطبها بهذه العبارة، فصارت مثلاً.
وكما تقول لصاحبك الذي يتعالى عليك :( إن كنت ريحاً فقد لاقيت إعصاراً )إذن : المثل يمتاز بأنه يثبت على لفظه الأول ولا يتغير عنه. أما الحكمة فهي : قول شارد يقوله كل واحد، وهو كلام يقل لفظه، ويجل معناه.
كما تقول : " رب أخ لك لم تلده أمك ".
" لا تعلم العوان الخمرة ".
" إن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى " أي : أن الذي يجهد دابته في السير لن يصل إلى ما يريد ؛ لأنها ستنقطع به ولا توصله.
ومن الحكمة هذه الأبيات الشعرية التي صارت حكمة متداولة :
ومن يك ذا فمٍ مر مريض**** يجد مراً به الماء الزلالا
وقوله :
وأتعس الناس حظاً من تكون له**** نفس الملوك وحالات المساكين
وهب أن ولدك أهمل دروسه طوال العام وعند الامتحان أخذ يجد ويجتهد ويرهق نفسه، هنا يمكنك أن تقول له :( قبل الرماء تملأ الكنائن )والكنانة هي المخلاة التي توضع بها السهام، وهذه لابد أن يعدها الصياد قبل صيده لا وقت الصيد.
إذن : لأهمية المثل في لغة العرب جعله القرآن لوناً أسلوبياً، وأداةٍ للإقناع، كما في قوله تعالى :﴿ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها.. " ٢٦ " ﴾( سورة البقرة ) : لأن الله تعالى يخاطب بالقرآن عقولاً مختلفة وطبائع متعددة ؛ لذلك لا يستحي أن يضرب المثل بأحقر مخلوقاته ليقنع الجميع كلاً بما يناسبه.
وقوله :( فما فوقها )قد يقول قائل : ولماذا قال ( فما فوقها )، فالعجيب هنا مسألة الصغر ؟
نقول : المراد بما فوقها. أي : في المعنى المراد، وهو الصغر أي : ما فوقها في الصغر لا اكبر منها. ثم يأتي بالمعنى في صورة أخرى.
﴿ يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب " ٧٣ " ﴾( سورة الحج ).
وفي آية أخرى يقول سبحانه :﴿ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون " ٤١ " ﴾( سورة العنكبوت ).
إذن : يصرف الله الأمثال ويحولها ليأخذ كل طبع ما يناسبه وما يقتنع به، وليس القرآن على وتيرة واحدة أو مزيج واحد يعطي للجميع. بل يشخص الداءات ويحللها ويعالجها بما يناسبها ؛ لذلك يأتي الأسلوب مختلفاً.
وهذه المسألة واضحة في الحديث النبوي الشريف، حيث كان الصحابة يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم السؤال الواحد، وتأتي الإجابة مختلفة من شخص لآخر، فقد سئل صلى الله عليه وسلم كثيراً : ما أفضل الأعمال يا رسول الله ؟ فقال للسائل : " الصلاة لوقتها ". وقال لآخر : " بر الوالدين " وقال لآخر : " أن تلقي أخاك بوجه طلق ".
وهكذا جاءت الإجابة مختلفة من شخص لآخر ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي حال سائله، ويحاول أن يعالج نقطة الضعف فيه، فالأمر ليس ( أكلشيه )ثابتاً يعطيه للجميع، بل هي مراعاة الأحوال والطباع.
ثم يقول تعالى :﴿ فأبى أكثر الناس إلا كفوراً " ٨٩ " ﴾ ( سورة الإسراء ) :
نعرف أن ( إلا )أداة استثناء، تخرج ما بعدها من حكم ما قبلها، كما تقول : جاء القوم إلا زيداً، ولو طبقنا هذه القاعدة على الآية لا يستقيم معناها، كما لو قلت : ضربت إلا زيدا، والآية أسلوب عربي فصيح.
نقول : لأن معنى أبى : لم يقبل ولم يرض، فالمراد : لم يرض إلا الكفور، فلابد للاستثناء المفرغ أن يسبق بنفي.
( لن )تفيد تأبيد نفي الفعل في المستقبل، تقول : أنا لم أصنع هذا، ولن أصنعه. أي : في المستقبل.
ومعلوم أن الإنسان ابن أغيار، ولا يحكمه حال واحد بل هو متقلب بين أحوال شتى طوال حياته، والله تعالى وحده هو الذي لا يتغير، ومادام الإنسان ابن أغيار ويطرأ عليه حال بعد حال، فليس له أن يحكم على شيء حكماً قاطعاً في مستقبل هو لا يملكه، فالذي يملك الحكم القاطع هو الحق سبحانه الذي لا تتناوله الأغيار.
لذلك فالإنسان مثلاً إذا صعد حتى القمة نخاف عليه الهبوط ؛ لأنه من أهل الأغيار، ولا يدوم له حال، إذن : فماذا بعد القمة ؟
وقد عبر الشاعر عن هذا المعنى بقوله :
إذا تم شيء بدا نقصه**** ترقب زوالاً إذا قيل تم
والعجيب أن الناس يتطلعون في نعمة الله إلى التمام، فيقول أحدهم : يا حبذا، لو حدث كذا لتمت هذه النعمة، وهم لا يدرون أن هذا النقص في النعمة سبب بقائها، فلو تمت لك النعمة وأنت من أهل الأغيار، فماذا تنتظر إلا زوالها ؟
فليرض كل صاحب نعمة بما فيها من نقص، فلعل هذا النقص يرد عنه عين حاسد، أو حقد حاقد.
فبعض الناس يرزقه الله بالأولاد ويعينه على تربيتهم، ولحكمة يفشل أحدهم فيحزن لذلكن ويألم أشد الألم، ويقول : لو أن هذا الولد.. وهو لا يدرك حكمة الله من وراء هذا النقص، وأنه حارس للنعمة في الآخرين، وأنه التميمة التي تحميه وترد عنه ما يكره.
لذلك لما أراد المتنبي أن يمدح سيف الدولة قال له :
شخص الأنام إلى كمالك فاستعذ**** من شر أعينهم بعيبٍ واحد
أي : نظروا إليك معجبين بما فيك من كمال، فاعمل عملاً سيئاً واحداً يصد عنك شر أعينهم. إذن :( لن )تفيد تأبيد النفي في المستقبل، وهذا أمر لا يملكه إلا مالك الأحداث سبحانه وتعالى، أما صاحب الأغيار فليس له ذلك، والذين آمنوا فيما بعد برسول الله ممن قالوا هذه المقولة :﴿ لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " ٩٠ " ﴾ ( سورة الإسراء ).
نستطيع أن نقول لهم : لقد أوقعتكم ( لن )في الكذب ؛ لأنكم أبدتم نفي الإيمان، وهاأنتم مؤمنون، ولم يفجر لكم النبي ينبوعاً من الأرض.
وعند فتح مكة وقف عكرمة بن أبي جهل وقال في الخندمة ما قال، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً معتذراً وخرج محارباً مع خالد بن الوليد في اليرموك، وحين طعن الطعنة المميتة، وحمله خالد، فإذا به يقول له : أهذه ميتة ترضي عني رسول الله ؟
إذن : من يقول كلمة عليه أن يكون قادراً على تنفيذها، مالكاً لزمامها، ضامناً لنفسه ألا يتغير، وألا تتناوله الأغيار، ولا يملك ذلك إلا الله سبحانه وتعالى.
والمتدبر لأسلوب القرآن في سورة ( الكافرون )يجد هذه المسألة واضحة، حيث يقول تعالى :﴿ قل يا أيها الكافرون " ١ " لا أعبد ما تعبدون " ٢ " ولا أنتم عابدون ما أعبد " ٣ " ولا أنا عابد ما عبدتم " ٤ " ﴾
( سورة الكافرون ) : هكذا نفت الآية عبادة كل منهما لإله الآخر في الزمن الحاضر، ثم يقول تعالى :
﴿ ولا أنا عابد ما عبدتم " ٤ " ولا أنتم عابدون ما أعبد " ٥ " ﴾ ( سورة الكافرون ) :
لينفي أيضاً احتمال العبادة في المستقبل، إذن : فليس في الآية تكرار، كما يرى بعض قصار النظر.
ولك الآن أن تسأل : كيف نفى القرآن الحديث في المستقبل ؟ نقول : لأن المتكلم هنا هو الحق سبحانه وتعالى الذي يملك الأحداث ولا تغيره الأغيار، ولا تتسلط عليه، فحكم على المستقبل هذا الحكم القاطع وأبد النفي فيه.
ثم يقول تعالى :﴿ حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " ٩٠ " ﴾ ( سورة الإسراء ).
وفي آية أخرى قال :﴿ وفجرنا الأرض عيوناً.. " ١٢ " ﴾ ( سورة القمر ) : فالتفجير : أن تعمل في الأرض عملية تخرج المستتر في باطنها على ظهرها، وعين الماء تخرج لك الماء من الأرض، وتأخذ من حاجتك فلا ينقص ؛ لأنها تعوض ما أخذ منها بقانون الاستطراق، وقد يحدث أن يغيض الماء فيها قليلاً.
أما الينبوع فتراه يفيض باستمرار دون أن ينقص فيه منسوب الماء، كما في زمزم مثلاً، ولاشك أن هذا المطلب منهم جاء نتيجة حرمانهم من الماء، وحاجتهم الشديدة إليه.
سبق أن طلبوا الماء لأنفسهم، وهنا يطلبون للرسول ( جنة )أي : بستان أو حديثة من النخيل والعنب ؛ لأنهما الصنفان المشهوران عن العرب.
﴿ فتجر الأنهار خلالها تفجيراً " ٩١ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : خلال هذه الحديقة حتى تستمر ولا تذبل.
الزعم : هو القبول المخالف للواقع، ويقولون : الزعم مطية الكذب، قال تعالى :﴿ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا.. " ٧ " ﴾ ( سورة التغابن ) : وإن كانوا اتهموا رسول الله بالزعم، فما هو إلا مبلغ عن الله، وناقل إليهم منهج ربه، فإن أرادوا أن يتهموا فليتهموا الحق سبحانه وتعالى ؛ لأن رسوله لا ذنب له، وقد جاءوا بمسألة إسقاط السماء عليهم ؛ لأن الحق سبحانه سبق أن قال عنهم :﴿ أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء.. " ٩ " ﴾ ( سورة سبأ ) : ولذلك طلبوا من رسول الله أن يوقع بهم هذا التهديد. و :﴿ كسفا.. " ٩ " ﴾( سورة سبأ ) : أي : قطعاً، ومفردها كسفة كقطعة. ويقول تعالى :﴿ أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً " ٩٢ " ﴾( سورة الإسراء ) : نراهم أمامنا هكذا مقابلة عياناً، وقد جاء هذا المعنى أيضاً في قوله تعالى :﴿ وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا.. " ٢١ " ﴾ ( سورة الفرقان ).
والمتأمل فيما طلبه الكفار من رسول الله صلى الله عليه وسلم يجده تعجيزاً بعيداً كل البعد عن الواقع، مما يدلنا على أنهم ما أرادوا الإيمان والهداية، بل قصدوا الجدل والعناد ؛ لذلك يقول الحق سبحانه رداً على لجج هؤلاء وتعنتهم :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا.. " ١١١ " ﴾( سورة الأنعام ).
البيت : هو المكان المعد للبيتوتة، والزخرف : أي المزين، وكان الذهب وما يزال أجمل أنواع الزينة ؛ لأن كل زخرف من زخارف الزينة يطرأ عليه ما يغيره فيبهت لونه، وينطفئ بريقه، وتضيع ملامحه إلا الذهب، ونقصد هنا الذهب الخالص غير المخلوط بمعدن آخر، فالذهب الخالص هو الذي لا يتأكسد ولا يتفاعل مع غيره ؛ لذلك يظل على بريقه ورونقه، فإن كان البيت نفسه من زخرف، فماذا سيكون شكله ؟
ونرى الذين يحبون أن ينافقوا نفاق الحضارات، ويتبارون في زخرفة الصناعات يلصقون على المصنوعات الخشبية مثلاً طبقة أو قشرة من الذهب ؛ لتظل محتفظة بجمالها، كما في الأطقم الفرنساوي أو الإنجليزي مثلاً.
ثم يقول تعالى :﴿ أو ترقي في السماء.. " ٩٣ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : يكون لك سلم تصعد به في السماء، ويظهر أنهم تسرعوا في هذا القول، ورأوا إمكانية ذلك، فسارعوا إلى إعلان ما تنطوي عليه نفوسهم من عناد :﴿ ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه.. " ٩٣ " ﴾( سورة الإسراء ).
وكأنهم يبيتون العناد لرسول الله، فهم كاذبون في الأولى وكاذبون في الثانية، ولو نزل الله عليهم الكتاب الذي أرادوا ما آمنوا، وقد رد عليهم الحق سبحانه بقوله :﴿ ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين " ٧ " ﴾ ( سورة الأنعام ).
وانظر إلى رد القرآن على كل هذا التعنت السابق :﴿ قل سبحان ربي.. " ٩٣ " ﴾( سورة الإسراء ).
وكلمة ( سبحان )كلمة التنزيه العليا للحق سبحانه وتعالى، وقد تحدى بها الكون كله ؛ لأنها كلمة لا تقال إلا لله تعالى، ولم يحدث أبداً بين الناس أن قالها أحد لأحد، مع ما في الكون من جبابرة وعتاة، يحرص الناس على منافقتهم وتملقهم، وهذه كلمة اختيارية يمكن أن يقولها كل إنسان، لكن لم يجرؤ أحد على قولها لأحد.
والحق سبحانه وتعالى يتحدى الكون كله بأمور اختيارية يقدرون عليها، وتحدى المختار في المثل معناها أنه سبحانه عالم بأن قدرته لن تستطيع أن تفعل ذلك، ومثال ذلك قول الحق تبارك وتعالى :
﴿ تبت يدا أبي لهب وتب " ١ " ما أغنى عنه ماله وما كسب " ٢ " سيصلى نارا ذات لهب " ٣ " ﴾( سورة المسد ) : نزلت هذه الآيات في أبي لهب، وهو كافر، ويحتمل منه الإيمان كما آمن غيره من الكفرة، فقد آمن عمر والعباس وغيرهم، فما كان يدري رسول الله أن أبا لهب لن يؤمن، لكنه يبلغ قول ربه قرآناً يتلى ويحفظ ويسجل، وفيه تقرير وشهادة بأن أبا لهب سيموت كافراً، وأن مصيره النار.
وهنا نقول : أما كان في إمكان أبي لهب أن يكذب هذا القول، فيقوم في قومه منادياً بلا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ولو نفاقاً وله بعد ذلك أن يتهم محمداً وقرآن محمد بالكذب ؟ لكن هذا لم يحدث ؛ لأن المتكلم هو الله رب العالمين.
ومن هذا التحدي أن الحق سبحانه له صفات وله أسماء، الأسماء مأخوذة من الصفات، إلا اسم واحد مأخوذ للذات، هو لفظ الجلالة ( الله )، فهو علم على الذات الإلهية لم يؤخذ من صفة من صفاته تعالى، فالقادر والغفور والحي القيوم وغيرها من الأسماء مأخوذة من صفات، إنما ( الله )علم على الذات الجامعة لكل هذه الصفات.
لذلك تحدى الخالق سبحانه جميع الخلق، وقد أعطاهم الحرية في اختيار الأسماء أن يسموا أنفسهم أو أبناءهم بهذا الاسم ( الله )، ويعلن هذا التحدي في كتابه الكريم وعلى رؤوس الأشهاد يقول :﴿ هل تعلم له سمياً " ٦٥ " ﴾( سورة مريم ).
ومع ذلك لم يجرؤ كافر واحد على أن يسمي هذا الاسم ليظل هذا التحدي قائماً إلى قيام الساعة ؛ لأن الله تعالى حق، والإيمان به وبوجوده تعالى متغلغل حتى في نفوس الكفار، فلو كانوا يعلمون أن هذه الكلمة كذب، أو لا وجود لها لأقدموا على التسمية بها دون أن يبالوا شيئاً، أما وهم يعلمون أن الله حق فلن يجرؤ أحد، ويجرب هذه التسمية في نفسه ؛ لأنه يخشى عاقبة وخيمة لا يدري ما هي.
لذلك رد الحق سبحانه على تعنت الكفار فيما طلبوه من رسوله صلى الله عليه وسلم قائلاً :﴿ سبحان ربي.. " ٩٣ " ﴾ ( سورة الإسراء ).
لأن الأمور التي طلبوها أمور بلغت من العجب حداً، ولا يمكن أن يتعجب منها إلا بسبحان الله ؛ لأنها كلمة التعجب الوحيدة والتي لا تطلق لغير الله، وكأنه أرجع الأمور كلها لله، ولقد كان لهم غنى عن ذلك في كتاب الله الذي نزل إليهم :﴿ أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون " ٥١ " ﴾( سورة العنكبوت ) : والهمزة هنا للاستفهام المراد به التعجب أيضاً : أيطلبون هذه الآيات، ولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب، وقد كان فيه غناء لهم.
ثم يقول تعالى :﴿ هل كنت إلا بشراً رسولاً " ٩٣ " ﴾ ( سورة الإسراء ) :
هل ادعيت لكم أني إله ؟ ! ما أنا إلا بشر أبلغكم رسالة ربي، وأفعل ما يأمرني به، كما في قوله تعالى :
﴿ بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيمٍ " ١٥ " ﴾ ( سورة يونس ).
أي : ما منعهم من الإيمان إلا هذه المسألة : أن يكون الرسول بشراً، هذه هي القضية التي وقفت في حلوقهم :﴿ ابعث الله بشراً رسولاً " ٩٤ " ﴾ ( سورة الإسراء ).
والمتأمل في مسألة التبليغ عن الله يجد أنها لا يمكن أن تتم إلا ببشر، فكيف يبلغ البشر جنس آخر، ولابد للتلقي عن الله من وسائط بين الحق سبحانه وتعالى وبين الناس ؛ لأن البشر لا يستطيع أن يتلقى عن القوة العليا مباشرة، فإذن : هناك مراحل :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم " ٥١ " ﴾( سورة الشورى ).
لكن الرسول البشري كيف يكلم الله ؟ لابد أن نأتي برسول من الجنس الأعلى :﴿ الله يصطفي من الملائكة رسلاً.. " ٧٥ " ﴾( سورة الحج ).
وهذا مرحلة، ثم يصطفي رسولاً من البشر يتلقى عن الملك كي يستطيع أن يبلغكم ؛ لأنكم لا تقدرون على اللقاء المباشر يتلقى عن الملك كي يستطيع أن يبلغكم ؛ لأنكم لا تقدرون على اللقاء المباشر مع الحق سبحانه.
ونضرب لذلك مثلاً ولله المثل الأعلى : أنت إذا أردت إضاءة لمبة صغيرة وعندك تيار كهربائي عالٍ، هل يمكن أن توصله بهذه اللمبة ؟ لا لأنها ستحرق فوراً، إذن : ما الحل ؟ الحل أن تأتي بجهاز وسيط يقلل لك هذا التيار القوي، ويعطي اللمبة على قدر حاجتها فتضيء.
كذلك الحق سبحانه يصطفي من الملائكة رسلاً يمكنهم التلقي عن الله ويصطفي من البشر رسلاً يمكنهم التلقي عن الملائكة، ثم يبلغ الرسول المصطفى من البشر بني جنسه. إذن : فماذا يزعجكم في أن يكون الرسول بشراً ؟ ولماذا تعترضون على هذه المسألة وهي أمر طبيعي ؟ يقول تعالى :﴿ أكان الناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس.. " ٢ " ﴾( سورة يونس ).
وفي موضع آخر يقول سبحانه :﴿ واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون " ١٣ " إذأرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالثٍ فقالوا إنا إليكم مرسلون " ١٤ " قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا.. " ١٥ " ﴾( سورة يس ).
إذن : فاعتراضهم على بشرية الرسول أمر قديم توارثه أهل الكفر والعناد من أيام نوح عليه السلام ألم يقل له قومه :﴿ فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشراً مثلنا.. " ٢٧ " ﴾( سورة هود ).
وقالوا :﴿ ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون " ٣٤ " ﴾ ( سورة المؤمنون ).
وقالوا :﴿ أبشراً منا واحداً نتبعه إنا لفي ضلالٍ وسعرٍ " ٢٤ " ﴾ ( سورة القمر ).
لذلك يدعونا الحق سبحانه وتعالى إلى النظر في السنة المتبعة في الرسل :﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم.. " ٤٣ " ﴾ ( سورة النحل ) : أي : ليسوا ملائكة، لابد أن يكونوا رجالاً ليتم اللقاء بينكم، وإلا فلو جاء الرسول ملكاً كما تقولون، هل سترون هذا الملك ؟ قالوا : لا هو مستتر عنا، لكنه يرانا، لكن تبليغ الرسالة لا يقوم على مجرد الرؤية، فتبليغ الرسالة يحتاج إلى مخالطة ومخاطبة، وهنا لابد أن يتصور لكم الملك في صورة رجل ليؤدي مهمة البلاغ عن الله، وهكذا نعود من حيث بدأنا ؛ لأنها الطبيعة التي لا يمكن لأحد الخروج عنها.
لذلك يقول سبحانه :﴿ ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم ما يلبسون " ٩ " ﴾( سورة الأنعام ).
إذن : لا داعي للتمحك والعناد، ومصادمة الفطرة التي خلقها الله، والطبيعة التي ارتضاها لخلقه.
( قل )أي : رداً عليهم : لو أن الملائكة يمشون في الأرض مطمئنين لنزلنا عليهم ملكاً رسولاً لكي يكون من طبيعتهم، فلابد أن يكون المبلغ من جنس المبلغ، وهذا واضح في حديث جبريل الطويل حينما جاء إلى رسول الله يسأله عن بعض أمور الدين ليعلم الصحابة : ما الإحسان ؟ ما الإيمان ؟ ما الإسلام. فيأتي جبريل مجلس رسول الله في صورة رجل من أهل البادية، وبعد أن أدى مهمته انصرف دون أن يشعر به أحد، فلما سألوا عنه قال لهم رسول الله : " إنه جبريل، أتاكم ليعلمكم أمور دينكم ".
شيء آخر يقتضي بشرية الرسول، وهو أن الرسول أسوة سلوك لقومه، كما قال تعالى :﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.. " ٢١ " ﴾ ( سورة الأحزاب ) : وبالله، كيف تتم هذه الأسوة ؟ وكيف يقتدي الناس بها إن كان الرسول ملكاً ؟
فالرسول عندما يبلغ منهج الله عليه أن يطبق هذا المنهج في نفسه أولاً، فلا يأمرهم أمراً، وهو عنه بنجوة، بل هو إمامهم في القول والعمل.
لذلك فالحاكم الحق الناصح يطبق القانون عليه أولاً، فكان سيدنا عمر رضي الله عنه إذا أراد أن يقنن قانوناً ويرى أنه سيتعب بعض الظالمين والمنحرفين فيجمع أهله ويخبرهم بما أراد، ثم يحذرهم من المخالفة : " فو الذي نفسي بيده، من خالفني منكم إلى شيء لأجعلنه نكالاً للمسلمين، وأنا أول من أطبقه على نفسي ".
لذلك حكم عمر الفاروق الدنيا كلها في عصره، ولما رآه الرجل نائماً مطمئناً تحت شجرة قال قولته المشهورة : " حكمت، فعدلت، فأمنت، فنمت يا عمر " وعمر ما حكم الدنيا والبشر، بل حكم نفسه أولاً فحكمت له الدنيا ؛ لأن الحاكم هو مركز الدائرة، وحواليه دوائر أخرى صغيرة تراه وتقتدي به، فإن رأوه مستقيماً استقاموا، ولم يجرؤ أحد منهم على المخالفة، وإن رأوه منحرفاً فاقوه في المخالفة، وأفسدوا أضعاف ما يفسد.
لذلك، لا يمكن أبداً لحاكم أن يحكم إلا إذا حكم نفسه أولاً، بعدها تنقاد له رعيته ويكونون طوعاً لأمره دون جهد منه أو تعب.
ولقد رأينا في واقعنا بعض الحكام الذين فهموا الأسوة على حقيقتها، فترى الواحد من رعيته يركب أفخم السيارات، ويسكن أعظم القصور، حتى إن معظم أدواتها تكون من الذهب، في حين ترى هذا الحاكم يعيش عيشة متواضعة وربما يعيش في قصر ورثه عن أبيه أو جده، وكأنه يغلظ على نفسه ويبغي الرفاهية لرعايته.
وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتى بمنهج، وهو في الوقت نفسه أسوة سلوك وقدوة، فنراه صلى الله عليه وسلم يحث الغني على الصدقة للفقير، ثم يحرم أهل بيته من هذه الصدقة فلا يقبلها لهم، وإن توارث الناس فيما يتركونه من أموال فإن ما تركه الرسول لا يورث لأهله من بعده، بل هو صدقة لفقراء المسلمين، وهكذا يحرم رسول الله أهل بيته مما أعطاه للآخرين لتكون القدوة صحيحة، ولا يجد ضعاف النفوس مأخذاً عليه صلى الله عليه وسلم.
إذن : فليس المراد من الحكم أن يتميز الحاكم عن المحكوم، أو يفضل بعض الرعية على بعض، فإذا ما أحس الناس بالمساواة خضعوا للحاكم، وأذعنوا له، وأطاعوا أمره ؛ لأنه لا يعمل لمصلحته الشخصية بل لمصلحة رعيته، بدليل أنه أقل منهم في كل مستويات الحياة.
فالرسول إن جاء ملكاً فإن الأسوة لا تتم به، فإن أمرنا بشيء ودعانا إلى أن نفعل مثله فسوف نحتج عليه : كيف وأنت ملك لا شهوة لك، لا تأكل ولا تشرب ولا تتناكح ولا تتناسل، إن هذه الأوامر تناسبك أنت، أما نحن فلا نقدر عليها.
ومن هنا لابد أن يكون الرسول بشراً فإن حمل نفسه على منهج فلا عذر لأحد في التخلف عنه ؛ لأنه يطبق ما جاء به ويدعوكم إلى الاقتداء بسلوكه.
وسبق أن ضربنا لذلك مثلاً وقلنا : هب أنك رأيت في الغابة أسداً يصول ويجول ويفتك بفريسته، بالله هل يراودك أن تكون أسداً ؟ إنما لو رأيت فارساً على صهوة جواده يصول ويجول ويحصد رقاب الأعداء، ألا تتطلع إلى أن تكون مثله ؟
إذن : لا تتم القدوة ولا تصح إلا إن كان الرسول بشراً، ولا داعي للتمرد على الطبيعة التي خلقها الله.
( قل )أي : رداً على ما اقترحوه من الآيات وعلى اعتراضهم على بشرية الرسول :﴿ كفى بالله شهيداً بيني وبينكم.. " ٩٦ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : والشهيد إنما يطلب للشهادة في قضية ما، فما القضية هنا ؟ القضية هي قضية تعنت الكفار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم طلبوا منه ما ليس في وسعه. والرسول لا يعنيه المتعنتون في شيء ؛ لأن أمره مع ربه عز وجل ؛ لذلك قال :{ كفى بالله
شهيداً.. " ٩٦ " }( سورة الإسراء ) : فإن كانت شهادة الشاهد في حوادث الدنيا تقوم على الإخبار بما حدث، وعليها يترتب الحكم فإن شهادة الحق سبحانه تعني أنه تعالى الشهيد الذي رأى، والحاكم الذي يحكم، والسلطة التنفيذية التي تنفذ.
لذلك قال :﴿ كفى بالله شهيداً.. " ٩٦ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : فهو كافيك هذا الأمر ؛ لأنه كان بعباده ( خبيراً )يعلم خفاياهم ويطلع على نواياهم من وراء هذا التعنت ( بصيراً )لا يخفي عليه شيء من أمرهم.
سبق أن قلنا : إن الهداية نوعان : هداية الدلالة المطلقة والتي تكون لجميع الخلق المؤمن والكافر، فقد دل الله المؤمن والكافر على الطريق المستقيم وبينه لهم وأرشدهم إليه.
والأخرى : هداية التوفيق والمعونة للقيام بمطلوبات المنهج الذي آمنوا به، وهذه خاصة بالمؤمن، فبعد أن دل الله آمن وصدق واعترف لله تعالى بالفضل والجميل، بأن أنزل له منهجاً ينظم حياته. فأتحفه الله تعالى بهداية التوفيق والمعونة.
وعن الهداية يقول الحق سبحانه :﴿ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى.. " ١٧ " ﴾ ( سورة فصلت ) : أي : دللناهم على الطريق المستقيم، لكنهم استحبوا العمى والضلال على الهدى، فمنع الله عنهم معونته وتوفيقه.
والحق سبحانه يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بأسلوبين قرآنيين يوضحان هذين النوعين من الهداية، يقول تعالى :﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء.. " ٥٦ " ﴾( سورة القصص ) :
فنفى عن رسول الله هداية التوفيق والمعونة ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يملكها، وفي آية أخرى قال تعالى :﴿ وإنك لتهدي على صراطٍ مستقيمٍ " ٥٢ " ﴾( سورة الشورى ) : فأثبت له هداية البيان والدلالة ؛ لأن هذه هي مهمته كمبلغ عن الله، وهكذا أثبت له الحدث ونفاه عنه ؛ لأن الجهة منفكة أي : أن جهة الإثبات غير جهة النفي، كما في قوله تعالى :﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون " ٦ " يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا.. " ٧ " ﴾( سورة الروم ) : فمرة : نفى عنهم العلم، ومرة أخرى : أثبت لهم العلم. والمراد أنهم لا يعلمون حقائق الأمور، ولكنهم يعلمون العلوم السطحية الظاهرة منها. ونحن نكرر مثل هذه القضايا لكي تستقر في النفس الإنسانية، وفي مواجيد المتدينين فينتفعوا بها.
ومن ذلك أيضاً قول الحق سبحانه :﴿ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.. " ١٧ " ﴾( سورة الأنفال ) :
فأثبت للرسول رمياً، ونفى عنه رمياً، لكن إذا جاء هذا الكلام من بليغ حكيم فاعلم أن الجهة منفكة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر أخذ حفنة من التراب ورمى بها نحو أعدائه، وهذا هو الرمي الذي أثبتته الآية، وقد تولت القدرة الإلهية إيصال ذرات هذه الحفنة إلى عيون الأعداء، فأصابتهم جميعاً وشغلتهم عن القتال، وهذا هو الرمي الذي نفاه الحق عن رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولتقريب هذه المسألة : ابنك الذي تحمله على المذاكرة وترغمه عليها يأتي بالكتب ويضعها أمامه ويقلب فيها ليوهمك أنه يذاكر، فإذا ما راجعت معه ما ذاكر لا تجده حصل شيئاً فتقول له : ذاكرت وما ذاكرت، فتثبت له الحدث مرة، وتنفيه عنه أخرى ؛ لأنه ذاكر شكلاً، ولم يذاكر موضوعاً.
إذن : فالحق سبحانه وتعالى يهدي الجميع هداية إرشاد وبيان ودلالة، ويختص من آمن بهداية المعونة والتوفيق للقيام بمقتضيات المنهج، كما قال تعالى :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدىً وآتاهم تقواهم " ١٧ " ﴾ ( سورة محمد ).
وقال عن الآخرين :﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين " ٧ " ﴾( سورة الصف ).
وقال :﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين " ٥ " ﴾ ( سورة الصف ) : لكن يهدي الطائعين. وقال :﴿ والله لا يهدي القوم الكافرين " ٢٦٤ " ﴾( سورة البقرة ) : لكن يهدي المؤمنين.
إذن : بين الحق سبحانه في أساليب القرآن من شاء هدايته، أما من آثر الكفر وصمم ألا يؤمن فهو وشأنه، بل ويزيده الله من الكفر ويختم على قلبه، كما قال تعالى :﴿ ونذرهم في طغيانهم يعمهون " ١١٠ " ﴾ ( سورة الأنعام ).
نعود إلى ( من )في قوله تعالى :﴿ من يهد الله فهو المهتد.. " ٩٧ " ﴾( سورة الإسراء ).
قلنا : إن ( من )اسم موصول بمعنى الذي، واستخدام ( من )كاسم موصول لا يقتصر على ( الذي )فقط، بل تستخدم لجميع الأسماء الموصولة : الذي، التي، اللذان، اللتان، الذين، اللاتي. فتقول : من جاءك فأكرمه، ومن جاءتك فأكرمها، ومن جاءاك فأكرمها، ومن جاءتاك فأكرمهما، ومن جاءوك فأكرمهم، ومن جئنك فأكرمهن.
فهذه ستة أساليب تؤديها ( من )فهي إذن صالحة للمذكر وللمؤنث وللمفرد وللمثنى وللجمع، وعليك أن تلاحظ ( من )في الآية :﴿ من يه الله فهو المهتد.. " ٩٧ " ﴾( سورة الإسراء ).
جاءت ( من )دالة على المفرد المذكر، وهي في نفس الوقت دالة على المثنى والجمع المذكر والمؤنث، فنقول : من يهدها الله فهي المهتدية، ومن يهدهم الله فهم المهتدون. وهكذا.
ونسأل : لماذا جاءت ( من )دالة على المفرد المذكر بالذات دون غيره في مجال الهدى، أما في الضلال فجاءت ( من )دالة على الجمع المذكر ؟
نقول : لأنه لاحظ لفظ ( من )فأفرد الأولى، ولاحظ ما تطلق عليه ( من )فجمع الثانية :﴿ ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه.. " ٩٧ " ﴾( سورة الإسراء ).
وهنا ملحظ دقيق يجب تدبره : في الاهتداء جاء الأسلوب بصيغة المفرد :﴿ من يهد الله فهو المهتد.. " ٩٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : لأن للاهتداء سبيلاً واحداً لا غير، هو منهج الله تعالى وصراطه المستقيم، فللهداية طريق واحد أوضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ".
أما في الضلال، فجاء الأسلوب بصيغة الجمع :﴿ فلن تجد لهم أولياء.. " ٩٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : لأن طرق الضلال متعددة ومناهجه مختلفة، فللضلال ألف طريق، وهذا واضح في قول الحق سبحانه :
﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.. " ١٥٣ " ﴾( سورة الأنعام ) : والنبي صلى الله عليه وسلم حينما قرأ هذه الآية خط للصحابة خطاً مستقيماً، وخط حوله خطوطاً متعرجة، ثم أشار إلى الخط المستقيم وقال : " هذا ما أنا عليه وأصحابي ".
إذن : الهداية طريق واحد، وللضلال ألف مذهب، وألف منهج ؛ لذلك لو نظرت إلى أهل الضلال لوجدت لهم في ضلالهم مذاهب، ولكل واحد منهم هواه الخاص في الضلال. فعليك أن تقرأ هذه الآية بوعي وتأمل وفهم لمراد المتكلم سبحانه، فلو قرأها غافل لقال : فمن تجد له أولياء من دونه، ولأتبع الثانية الأولى.
ومن هنا تتضح توقيفية القرآن، حيث دقة الأداء الإلهي التي وضعت كل حرف في موضعه. وقوله :( أولياء )أي : نصراء ومعاونين ومعينين ( من دونه )أي : من بعده.
﴿ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم.. " ٩٧ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : الحشر : القيام من القبر والجمع للحساب ( على وجوههم )هنا تعجب بعض الصحابة، فسألوا رسول الله : وكيف يسير الإنسان على وجهه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم ". وما العجب في ذلك ونحن نرى مخلوقات الله :﴿ فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع.. " ٤٥ " ﴾ ( سورة النور ) : ألم تر الثعبان، كيف هو سريع في مشيته، خفيف في حركته، فالذي خلق قادر أن يمشي من ضل في القيامة على بطنه، لأن المسألة إرادة مريد ليوقع غاية الذلة والهوان، ويا ليتهم تنتهي بهم المهانة والمذلة عند هذا الحد، بل :
﴿ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً.. " ٩٧ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : هذا استطراق لوسائل الإهانة، فضلاً عن مشيهم على الوجوه فهم عمي لا يرون شيئاً، ولا يهتدون، وهم صم لا يسمعون نداءً، وهم بكم لا يقدرون على الكلام، ولك أن تتصور إنساناً جمعت عليه كل هذه الوسائل ليس في يوم عاد، بل في يوم البعث والنشور، فإذا به يفاجأ بهول البعث، وقد سدت عليه جميع منافذ الإدراك، فهو في قلب هذا الهول والضجيج، ولكنه حائر لا يدري شيئاً، ولا يدرك ما يحدث من حوله.
ولنا هنا لفتة على هذه الآية، فقد ورد في القرآن كثيراً : صم بكم بهذا الترتيب إلا في هذه الآية جاءت هكذا :( بكماً وصماً )ومعلوم أن الصمم يسبق البكم ؛ لأن الإنسان يحكي ما سمعه، فإذا لم يسمع شيئاً لا يستطيع الكلام، واللغة بنت السماع، وهي ظاهرة اجتماعية ليست جنساً وليست دماً.
وسبق أن قلنا : إن الولد الإنجليزي إذا تربى في بيئة عربية يتكلم بالعربية والعكس ؛ لأن اللغة ليست جنساً، بل ظاهرة اجتماعية تقوم على السماع، فما تسمعه الأذن يحكيه اللسان. حتى العربي نفسه الذي يعيش في بيئة عربية، إلا أنه لم يسمع هذه الألفاظ الغريبة المتقعرة لا يستطيع محاكاتها ولا يعرف معناها.
لكن في هذه الآية جاء البكم أولاً، لماذا ؟ لأنه ساعة يفاجأ بهول البعث والحشر كان المفروض أن يسأل أولاً عما يحدث، ثم يسمع بعد ذلك إجابة على ما هو فيه، لكنه فوجئ بالبعث وأهواله، ولم يستطع حتى الاستفسار عما حوله، وهكذا سبق البكم الصمم في هذا الموقف.
وهنا أيضاً اعتراض لبعض المستشرقين ومن يجارونهم ممن أسلموا بألسنتهم، ولم تطمئن قلوبهم لنور الله، يقولون : القرآن يقول :﴿ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً.. " ٩٧ " ﴾( سورةالإسراء )
فينفي عنهم الرؤية، وفي آيات أخرى يقول :﴿ حتى إذا رأوا ما يوعدون.. " ٧٥ " ﴾( سورة مريم )،
﴿ ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها.. " ٥٣ " ﴾ ( سورة الكهف ) : فأثبت لهم الرؤية، فكيف نجمع بين هذه الآيات ؟ والمتأمل في حال هؤلاء المعذبين في موقف البعث يجد أن العمى كان ساعة البعث، حيث قاموا من قبورهم عمياً ليتحقق لهم الإذلال والحيرة والارتباك، ثم بعد ذلك يعودون إلى توازنهم ويعود إليهم بصرهم ليشاهدوا به ألوان العذاب الخاصة بهم، وهكذا جمع الله عليهم الذل في الحالتين : حال العمى وحال البصر.
لذلك يقول تعالى :﴿ لقد كنت في غفلةٍ من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ٢٢ " ﴾
( سورة ق ).
ثم يقول تعالى :﴿ مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيراً " ٩٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : مأواهم : أي : مصيرهم ونهايتهم. خبت : خبت النار. أي : ضعفت أو انطفأت، لكن مادام المراد من النار التعذيب، فلماذا تخبو النار أو تنطفئ ؟ أليس في ذلك راحة لهم من العذاب ؟
المتأمل في الآية يجد أن خفوت النار وانطفاءها هو في حد ذاته لون من العذاب ؛ لأن استدامة الشيء يوطن صاحبه عليه، واستدامة العذاب واستمراره يجعلهم في إلف له، فإن خبت النار أو هدأت فترة فإنهم سيظنون أن المسألة انتهت، ثم يفاجئهم العذاب من جديد، فهذا أنكى لهم وآلم في تعذيبهم.
وهذا يسمونه في البلاغة " اليأس بعد الإطماع "، كما جاء في قول الشاعر :
فأصبحت من ليلى الغداة كقابض**** على الماء خانته فروج الأصابع
في السجون والمعتقلات يحدث مثل هذا، فترى السجين يشتد به العطش إلى حد لا يطيقه، فيصيح بالحارس ويتحنن إليه ويرجوه كوباً من الماء، فيأتي له بكوب الماء حتى يكون على شفتيه، ويطمع في أن يبل ريقه ويطفئ غلته، فإذا بالحارس يسكبه على الأرض، وهذا أنكى وأشد في التعذيب.
وقد عبر الشاعر عن هذا المعنى بقوله :
كما أبرقت قوماً عطاشاً غمامة**** فلما رجوها أقشعت وتجلت
أي : ساعة أن رأوها، واستشرفوا فيها الماء إذا بها تنقشع وتتلاشى، وتخيب رجاءهم فيها. وكذلك من ألوان العذاب التي قد يظنها البعض لوناً من الراحة في جهنم والعياذ بالله، أن الله تعالى جلودهم بجلود أخرى جديدة، لا رحمة بهم بل نكاية فيهم، كما قال تعالى :﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.. " ٥٦ " ﴾ ( سورة النساء ) : لأن الجلود إذا نضجت وتفحمت امتنع الحس، وبالتالي امتنعت إذاقة العذاب، إذن : العلة من تبدي
( ذلك )أي : ما حدث لهم من العذاب الذي تستبشعه أنت ( جزاؤهم )أي : حاق بهم العذاب عدلاً لا ظلماً، فإياك حين تسمع آيات العذاب هذه أن تأخذك بهم رأفة أو رحمة ؛ لأنهم أخذوا جزاء عملهم وعنادهم وكفرهم، والذي يعطف قلوب الناس على أهل الإجرام هو تأخير العقاب.
فهناك فرق بين العقوبة في وقت وقوع الجريمة، وهي ما تزال بشعة في نفوس الناس، وما تزال نارها تشتعل في القلوب، فإن عاقبت في هذا الجو كان للعقوبة معنى، وأحدثت الأثر المرجو منها وتعاطف الناس مع المظلوم بدل أن يتعاطفوا مع الظالم.
فحين نؤخر عقوبة المجرم في ساحات المحاكم لعدة سنين فلا شك أن الجريمة ستنسى وتبرد نارها، وتتلاشى بشاعتها، ويطويها النسيان، فإذا ما عاقبت المجرم فلن يبدو للناس إلا ما يحدث من عقوبته، فترى الناس يرأفون به ويتعاطفون معه.
إذن : قبل أن تنظر إلى :﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب.. " ٥٦ " ﴾( سورة النساء ).
وإلى :﴿ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيراً " ٩٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : انظر إلى ما فعلوه، واعلم أن هذا العذاب بعدل الله، فأحذر أن تأخذك بهم رحمة، ففي سورة النور يقول تعالى :﴿ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " ٢ " ﴾( سورة النور ).
ثم يوضح سبحانه وتعالى حيثية هذا العذاب :﴿ بأنهم كفروا بآياتنا.. " ٩٨ " ﴾( سورة الإسراء ) : والآيات تطلق على الآيات الكونية، أو على آيات المعجزات المؤيدة لصدق الرسول، أو آيات القرآن الحاملة للأحكام.. وقد وقع منهم الكفر بكل الآيات، فكفروا بالآيات الكونية، ولم يستدلوا بها على الخالق سبحانه، ولم يتدبروا الحكمة من خلق هذا الكون البديع، وكذلك كفروا بآيات القرآن ولم يؤمنوا بما جاءت به.
وهذا كله يدل على نقص في العقيدة، وخلل في الإيمان الفطري الذي خلقه الله فيهم، وكذلك كذبوا بمعجزات الرسول، فدل ذلك على خلل في التصديق.
ومن باطن هذا الكفر ومن نتائجه أن قالوا :﴿ أئذا كنا عظاماً ورفاتاً أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً " ٩٨ " ﴾
( سورة الإسراء ) : وهذا القول منهم تكذيب لآيات القرآن التي جاءت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخبرهم أنهم مبعوثون يوم القيامة ومحاسبون، وهم بهذا القول قد نقلوا الجدل إلى مجال جديد هو : البعث بعد الموت. وقوله :﴿ عظاماً ورفاتاً.. " ٩٨ " ﴾( سورة الإسراء ) : الرفات : هو الفتات وزناً ومعنى، وهو : الشيء الجاف الذي تكسر ؛ لذلك جاءت لترتيب هكذا : عظاماً ورفاتاً ؛ لأن جسم الإنسان يتحلل وتمتص الأرض عناصر تكوينه، ولا يبقى منه إلا العظام، وبمرور الزمن تتكسر هذه العظام، وتتفتت وتصير رفاتاً، وهم يستبعدون البعث بعد ما صاروا عظاماً ورفاتاً.
وقوله تعالى :﴿ أئنا لمبعوثون.. " ٩٨ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : والهمزة هنا استفهام يفيد الإنكار، فلماذا ينكر هؤلاء مسألة البعث بعد الموت ؟
نقول : لأن الكافر عنده لدد في ذات إيمانه، ومن مصلحة آماله وتكذيب نفسه أن ينكر البعث، وعلى فرض أنه سيحدث فإنهم سيكونون في الآخرة سادة، كما كانوا سادة في الدنيا. وهؤلاء القوم يفهمون الحياة على ظاهرها، فالحياة عندهم هي الحركة الحسية التي يمارسونها، وبها يعيشون حياتهم هذه، ولا يدركون أن لكل شيء حياة تناسبه.
فمثلاً : علماء الجيولوجيا والحفريات يقولون : إن الأشياء المطمورة في باطن الأرض تتغير بمرور الزمن، وتتحول إلى مواد أخرى، إذن : ففيها حركة وتفاعل أو قل فيها حياة خاصة بها تناسبها، فليست الحياة قاصرة على حركتنا في الحياة الدنيا، بل للحياة معنى آخر أوسع بكثير من الحياة التي يفهمها هؤلاء.
فالإنسان الحي مثلاً له في مظهرية أموره حالتان : حالة النوم وحالة اليقظة، فحياته في النوم محكومة بقانون، وحياته في اليقظة محكومة بقانون، هذا وهو ما يزال حياً يرزق، إذن : عندما نخبرك أن لك قانوناً في الموت وقانوناً في البعث فعليك أن تصدق.
ألم تر النائم وهو مغمض العينين يرى الرؤيا، ويحكيها بالتفصيل وفيها حركة وأحداث وألوان، وهو يدرك هذا كله وكأنه في اليقظة ؟ حتى مكفوف البصر الذي فقد هذه الحاسة، هو أيضاً يرى الرؤيا كما يراها المبصر تماماً ويحكيها لك، يقول : رأيت كذا وكذا، كيف وهو في اليقظة لا يرى ؟
نقول : لأن للنوم قانوناً آخر، وهو أنك تدرك بغير وسائل الإدراك المعروفة، ولك في النوم حياة مستقلة غير حياة اليقظة. ألا ترى الرجلين ينامان في فراش واحد، وهذا يرى رؤيا سعيدة مفرحة يصحو منها ضاحكاً مسروراً، والآخر إلى جواره يرى رؤيا مؤلمة محزنة يصحو فيها مكدراً محزوناً، ولا يدري الواحد منهم بأخيه ولا يشعر به، لماذا ؟
لأن لكل منهما قانونه الخاص، وحياته المستقلة التي لا يشاركه فيها أحد.
وقد ترى الرؤيا تحكيها لصاحبك في نصف ساعة، في حين أن العلماء توصلوا إلى أن أقصى ما يمكن للذهن متابعته في النوم لا يتجاوز سبع ثوان، مما يدل على أن الزمن في النوم ملغي، كما أن أدوات الإدراك ملغاة، إذن : فحياتك في النوم غير حياتك في اليقظة، وكذلك في الموت لك حياة، وفي البعث لك حياة، ولكل منهما قانون يحكمها بما يتناسب معها.
وقد يقول قائل عن الرؤى : إنها مجرد تخيلات لا حقيقة لها، لكن يرد هذا القول ما نراه في الواقع من صاحب الرؤيا الذي يحكي لك أنه أكل طعاماً، أو شرب شراباً ما يزال طعمه في فمه، وآخر ضرب، ويريك أثر الضرب على ظهره مثلاً، وآخر يصحو من النوم يتصبب عرقاً، وكأنه كان في عراك حقيقي لا مجرد منام.
فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يوضح لنا أننا في النوم لنا حياة خاصة وقانون خاص، لنأخذ من هذا دليلاً على حياة أخرى بعد الموت.
والعلماء قالوا في هذه المسألة بظاهرة المتواليات، والمراد بها : إذا كانت اليقظة لها قانون، والنوم له قانون ألطف وأخف من قانون اليقظة، فبالتالي للموت قانون أخف من قانون النوم، وللبعث قانون أخف من قانون الموت.
وقد حسم القرآن الكريم هذه القضية في قوله تعالى :﴿ كل شيء هالك إلا وجهه.. " ٨٨ " ﴾ ( سورة القصص ) : أي : كل ما يقال له شيء في الوجود هالك إلا الله تعالى فهو الباقي، والهلاك ضده الحياة، بدليل قوله تعالى :﴿ ليهلك من هلك على بينةٍ ويحيي من حي عن بينةٍ.. " ٤٢ " ﴾( سورة الأنفال ).
إذن : لكل شيء مهم صغر في كون الله حياة خاصة تناسبه قبل أن يعتريه الهلاك.
ولذلك نعجب حينما يطالعنا العلماء بأن في علبة الكبريت هذه التي نضعها في جيوبنا قوة تجاذب بين ذراتها، تصلح هذه القوة لتسيير قطار حول العالم لمدة ست سنوات، سبحان الله.. أين هذه القوة ؟ إنها موجودة لكننا لا نشعر بها ولا ندركها، إنما الباحثون في معاملهم يمكنهم ملاحظة مثل هذه الحركة وتسجيلها.
وأقرب من ذلك ظاهرة الجاذبية التي تعلمناها منذ الصغر والتي تعتمد على ترتيب الذرات ترتيباً معيناً، ينتج عنه الموجب والسالب، فيتم التجاذب فكانوا يضعون لها برادة الحديد في أنبوبة، ويمررون عليها قضيباً ممغنطاً، فنرى برادة الحديد تتحرك في نفس اتجاه القضيب.
إذن : في الحديد حركة وحياة بين ذراته، حياة تناسبه بلغت من الدقة مبلغاً فوق مستوى إدراكك.
إذن : نستطيع القول بأن للعظام وللرفات حياة، ولك أيها المنكر وجود حتى بعد أن صرت رفاتاً، فشيء منك موجود يمكن أن نواة لخلقك من جديد، وبمنطق هؤلاء المنكرين أيهما أهون في الخلق : الخلق من شيء موجود، أم الخلق ابتداءً ؟
وقد رد عليهم الحق سبحانه بقوله :﴿ قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ " ٤ " ﴾
( سورة ق ) : أي : في علمه سبحانه عدد ذرات كل منا، وكم في تكوينه من مواد، لا ينقص من ذلك شيء، وهو سبحانه قادر على جمع هذه الذرات مرة أخرى، وليس أمره تعالى متوقفاً على العلم فقط، بل عنده كتاب دقيق يحفظ كل التفاصيل، ولا يغيب عنه شيء.
وقال تعالى كذلك في الرد عليهم :﴿ أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبسٍ من خلقٍ جديدٍ " ١٥ " ﴾
( سورة ق ) : أي : في خلط وشك وتردد.
وقد ناقشنا من منكري البعث الشيوعيين الذي قتلوا في أعدائهم، وأخذوا أموالهم معاقبة لهم على ما اقترفوه من ظلم الناس، فكنت أقول لهم : فما بال الذين ماتوا من هؤلاء، ولم يأخذوا حظهم من العقاب ؟ وكيف يذهبون هكذا ويفلتون بجرائمهم ؟ لقد كان الأولى بكم أن تؤمنوا بالآخرة التي يعاقب فيها هؤلاء الذين أفلتوا من عقاب الدنيا، حتى تتحقق عدالة الانتقام.
وقوله تعالى :﴿ أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً " ٩٨ " ﴾( سورة الإسراء ) : إنهم يستبعدون البعث من جديد ؛ لذلك فالحق سبحانه وتعالى يجاري هؤلاء ويتسامح معهم، فيقول :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه.. " ٢٧ " ﴾( سورة الروم ) : فإعادة شيء كان موجوداً أسهل وأهون من إيجاده من لا شيء، والحديث هنا عن بعث الإنسان، هذا المخلوق الذي أبدعه الخالق سبحانه، وجعله سيد هذا الكون، وجعل عمره محدوداً، فما بالكم تنشغلون بإنكار بعث الإنسان عن باقي المخلوقات وهي اعظم الخلق في الإنسان، وأطول منه عمراً، وأثبت منه وأضخم.
فلا تنسى أيها الإنسان أن خلقك أهون وأسهل من مخلوقات أخرى كثيرة هي أعظم منك، ومع ذلك تراها خاضعة لله طائعة، لم تعترض يوماً ولم تنكر كما أنكرت، يقول تعالى :﴿ لخلق السماوات والأرض اكبر من خلق الناس.. " ٥٧ " ﴾ ( سورة غافر ).
فمن ينكر بعث الإنسان بعد أن يصير رفاتاً عليه أن يتأمل مثلاً الشمس كآية من آيات الله في الكون، وقد خلقها الله قبل خلق الإنسان، وستظل إلى ما شاء الله، وهي تعطي الضوء والدفء دون أن تتوقف أو تتعطل، ودون أن تحتاج إلى صيانة أو قطعة غيار، وهي تسير بقدرة الخالق سبحانه مسخرة لخدمتك، ما تخلفت يوما ولا اعترضت. فماذا يكون خلقك أنت أيها المنكر أمام قدرة الخالق سبحانه ؟
قوله تعالى :﴿ أو لم يروا.. " ٩٩ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : إذا جاءت همزة الاستفهام بعدها واو العطف وبعدها نفي، فاعلم أن الهمزة دخلت على شيء محذوف، إذن : فتقدير الكلام هنا : أيقولون ذلك ويستبعدون البعث ولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم.
وقوله تعالى :( مثلهم )أي : يخلقهم هم ويعيدهم من جديد ؛ لأن الخلق إنشاء جديد، فهم خلق جديد معاد، فالمثلية هنا في أنهم معادون، أو يكون المراد ( مثلهم )أي : ليسوا هم، بل خلق مختلف عنهم على اعتبار أنهم كانوا في الدنيا مختارين، ولهم إرادات، أما الخلق الجديد في الآخرة وإن كان مثلهم في التكوين إلا أنه عاد مقهوراً على كل شيء لا إرادة له ؛ لأنه الآن في الآخرة التي سينادي فيها الخالق سبحانه :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " ١٦ " ﴾( سورة غافر ).
وقوله تعالى :﴿ وجعل لهم أجلاً لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفوراً " ٩٩ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : أن القيامة التي كذبوا بها وأنكروها واقعة لاشك فيها، لكن هؤلاء معاندون مصرون على الكفر مهما أتيت لهم بالأدلة، ومهما ضربت لهم الأمثلة، فإنهم مصممون على الإنكار ؛ لأن الإيمان سيسلبهم ما هم فيه من السيادة وما يدعونه من العظمة، الإيمان سيسوي بينهم وبين العبيد، وسيقيد حريتهم فيما كانوا فيه من ضلال وفساد.
لكن هؤلاء السادة والعظماء الذين تأبوا على الإيمان، وأنكروا البعث خوفاً على مكانتهم وسيادتهم وما عندهم من سلطة زمنية، ألم تتعرضوا لظلم من أحد في الدنيا ؟ ألم يعتد عليكم أحد ؟ ألم يسرق منكم أحد ولم تتمكنوا من الإمساك به ومعاقبته ؟ لقد كان أولى بكم الإيمان بالآخرة حيث تتحقق عدالة العقاب وتنالون حقوقكم ممن ظلمكم، أو اعتدى عليكم.
قوله تعالى :( قل )أمر من الحق سبحانه وتعالى أن يقول لأمته هذا الكلام، وكان يكفي في البلاغ أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم لأمته : لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي.. لكن النبي هنا يحافظ على أمانة الأداء القرآني، ولا يحذف منه شيئاً ؛ لأن المتكلم هو الله، وهذا دليل على مدى صدق الرسول في البلاغ عن ربه.
ومعنى ( خزائن )هي ما يحفظ بها الشيء النفيس لوقته، فالخزائن مثلاً لا نضع بها التراب، بل الأشياء الثمينة ذات القيمة.
ومعنى :﴿ خزائن رحمة ربي.. " ١٠٠ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : خيرات الدنيا من لدن آدم عليه السلام وحتى قيام الساعة، وإن من شيء يحدث إلى قيام الساعة إلا عند الله خزائنه، فهو موجود بالفعل، ظهر في عالم الواقع أو لم يظهر :﴿ وما ننزله إلا بقدرٍ معلومٍ " ٢١ " ﴾( سورة الحجر ) : أي : أنه موجود في علم الله، إلى حين الحاجة إليه.
لذلك لما تحدث الحق سبحانه عن خلق الآيات الكونية في السماء والأرض قال :﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين " ٩ " وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين " ١٠ " ﴾( سورة فصلت ).
نلاحظ أن قوله تعالى ( وبارك فيها )جاءت بعد ذكر الجبال الرواسي، ثم قال :﴿ وقدر فيها أقواتها.. " ١٠ " ﴾ ( سورة فصلت ).
كأن الجبال هي مخازن القوت، وخزائن رحمة الله لأهل الأرض. والقوت : وهو الذي يتم به استبقاء الحياة، وهذا ناشئ من مزروعات الأرض، وهذه من تصديقات القرآن لطموحات العلم وأسبقية إخبار بما سيحدث، فهاهو القرآن يخبر بما اهتدى إليه العلم الحديث من أن العناصر التي تكون الإنسان هي نفس عناصر التربة الزراعية التي نأكل منها.
لكن، كيف تكون الجبال مخازن القوت الذي جعله الله في الأرض قبل أن يخلق الإنسان ؟
نقول : إن الجبال هي أساس التربة التي نزرعها، فالجبل هذه الكتلة الصخرية التي تراها أمامك جامدة هي في الحقيقة ليست كذلك ؛ لأن عوامل التعرية وتقلبات الجو من شمس وحرارة وبرودة، كل هذه عوامل تفتت الصخر وتحدث به شروخاً وتشققات، ثم يأتي المطر فيحمل هذا الفتات إلى الوادي، ولو تأملت شكل الجبل وشكل الوادي لوجدتهما عبارة عن مثلثين كل منهما عكس الآخر، فالجبل مثلث رأسه إلى أعلى، وقاعدته إلى أسفل، والوادي مثلث رأسه إلى أسفل وقاعدته إلى أعلى.
وهكذا، فكل ما ينقص من الجبل يزيد في الوادي، ويكون التربة الصالحة للزراعة، وهو ما يسمى بالغرين أو الطمي ؛ لذلك حدثونا أن مدينة دمياط قديماً كانت على شاطئ البحر الأبيض، ولكن بمرور الزمن تكونت مساحات واسعة من هذا الغرين أو الطمي الذي حمله النيل من إفريقيا ففصل دمياط عن البحر، والآن وبعد بناء السد وعدم تكون الطمي بدأت المياة تنحت في الشاطئ، وتنقص فيه من جديد.
إذن : فقوله تعالى عن بداية خلق الأرض :﴿ وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها " ١٠ " ﴾( سورة فصلت ) : كأنه يعطينا تسلسلاً لخلق القوت في الأرض، وأن خزائن الله لا حدود لها ولا نفاد لخيراتها. ثم يقول تعالى :﴿ إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتوراً " ١٠٠ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : لو أن الله تعالى ملك خزائن خيراته ورحمته للناس، فأصبح في أيديهم خزائن لا تنفد، ولا يخشى صاحبها الفقر، لو حدث ذلك لأمسك الإنسان وبخل وقتر خوف الفقر ؛ لأنه جبل على الإمساك والتقتير حتى على نفسه، وخوف الإنسان من الفقر ولو أنه يملك خزائن رحمة الله التي لا نفاد لها ناتج عن عدم مقدرته على تعويض ما أنفق ؛ ولأنه لا يستطيع أن يحدث شيئاً.
والبخل يكون على الغير، فإن كان على النفس فهو التقتير، وهو سبة واضحة ومخزية، فقد يقبل أن يضيق الإنسان على الغير، أما أن يضيق على نفسه فهذا منتهى ما يمكن تصوره ؛ لذلك يقول الشاعر في التندر على هؤلاء :
يقتر عيسى على نفسه**** وليس بباقٍ ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره**** تنفس من منخرٍ واحد
ويقول أيضاً :
لو أن بيتك يا ابن يوسف كله ****إبر يضيق بها فضاء المنزل
وآتاك يوسف يستعيرك إبرة**** ليخيط قد قميصه لم تفعل
فالإنسان يبخل على الناس ويقتر على نفسه ؛ لأنه جبل على البخل مخافة الفقر، وإن أوتي خزائن السماوات والأرض.
وقد سبق أن اقترح كفار مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة آيات ذكرت في قوله تعالى :
﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " ٩٠ " أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا " ٩١ " أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا " ٩٢ " أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه.. " ٩٣ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : فأراد الحق سبحانه أن يلفت نظره أن سابقيهم من اليهود أتتهم تسع آيات ونزلت عليهم دون أن يطلبوها، ومع ذلك كفروا، فالمسألة كلها تعنت وعناد من أهل الكفر في كل زمان ومكان. ومعنى :﴿ بيناتٍ.. " ١٠١ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : واضحات مشهورات بلقاء كالصبح، لأنها حدثت جميعها على مرأى ومشهد من الناس. والمراد بالآيات التسع هنا هي الآيات الخاصة بفرعون ؛ لأن كثيرين يخلطون بين معجزات موسى إلى فرعون، ومعجزاته إلى بني إسرائيل.
إذن : فقوله تعالى :﴿ ولقد آتينا موسى تسع آيات بيناتٍ.. " ١٠١ " ﴾( سورة الإسراء ) : هي الآيات التي أرسل بها إلى فرعون وقومه وهي : العصا التي انقلبت حية، واليد التي أخرجها من جيبه بيضاء منورة، وأخذ آل فرعون بالسنين ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، ثم لما كذبوا أنزل الله عليهم الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، هذه تسع آيات خاصة بما دار بين موسى وفرعون.
أما المعجزات الأخرى مثل العصا التي ضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظلة، وإنزال المن والسلوى عليهم، فهذه آيات خاصة ببني إسرائيل.
وقوله تعالى :﴿ فاسأل بني إسرائيل.. " ١٠١ " ﴾( سورة الإسراء ) : والأمر هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن كيف يسأل بني إسرائيل الذين جاءهم موسى عليه السلام وقد ماتوا، والموجود الآن ذريتهم ؟
نقول : لأن السؤال لذريتهم هو عين سؤالهم، لأنهم تناقلوا الأحداث جيلاً بعد جيل ؛ لذلك قال تعالى مخاطباً بني إسرائيل المعاصرين لرسول الله :﴿ وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم " ٦ " ﴾ ( سورة إبراهيم ).
والنجاة لم تكن لهؤلاء، بل لأجدادهم المعاصرين لفرعون، لكن خاطبهم الحق بقوله ( أنجاكم )لأنه سبحانه لو أهلك أجدادهم لما وجدوا هم، فكأن نجاة السابقين نجاة للاحقين.
ويسأل رسول الله بني إسرائيل لأنهم هم الأمة التي لها ممارسة مع منهج الله ووحيه، ولها اتصال بالرسل وبالكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل، أما مشركو قريش فليس لهم صلة سابقة بوحي السماء ؛ لذلك لما كذبوا رسول الله خاطبه بقوله :﴿ قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب " ٤٣ " ﴾( سورة الرعد ) : لأن الذي عنده علم من الكتاب : اليهود أو النصارى عندهم علم في كتابهم وبشارة ببعثة محمد، وهم يعرفونه ويعرفون أوصافه وزمن بعثته، بل ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم، بل وأكثر من معرفتهم لأبنائهم، كما قال واحد منهم.
وسؤال رسول الله لبني إسرائيل سؤال حجةٍ واستشهاد ؛ لأن قومه سألوه وطلبوا أن يظهر لهم عدة آيات سبق ذكرها لكي يؤمنوا به، فأراد أن ينبههم إلى تاريخ إخوانهم وسابقيهم على مر العصور، وقد أنزل الله لهم الآيات الواضحات والمعجزات الباهرات ومع ذلك كفروا ولجوا ولم يؤمنوا، فقوم فرعون رأوا من موسى تسع آيات وكفروا، وقوم صالح :﴿ وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها.. " ٥٩ " ﴾( سورة الإسراء ).
وليتهم كذبوا وكفروا بهذه الآية فحسب، بل واعتدوا عليها وعقروها. لذلك قال تعالى :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات.. " ٥٩ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : التي اقترحوها.
﴿ إلا أن كذب بها الأولون.. " ٥٩ " ﴾ ( سورة الإسراء ). ومادام كذب بها الأولون فسوف يكذب بها هؤلاء ؛ لأن الكفر ملة واحدة في كل زمان ومكان. إذن : مسألة طلب الآيات واقتراح المعجزات ليست في الحقيقة رغبة في الإيمان، بل مجرد عناد ولجج ومحاولة للتعنت والجدل العقيم لإضاعة الوقت.
ثم يقول تعالى :﴿ فقال له فرعون " ١٠١ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : بعد أن رأى الآيات كلها :﴿ إني لأظنك يا موسى مسحوراً " ١٠١ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : فاتهمه بالسحر بعد أن أراه كل هذه الدلائل والمعجزات. وكلمة :﴿ مسحوراً " ١٠١ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : اسم مفعول بمعنى سحره غيره، وقد يأتي اسم المفعول دالاً على اسم الفاعل لحكمة، كما في قوله تعالى :﴿ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً " ٤٥ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : والحجاب يكون ساتراً لا مستوراً، لكن الحق سبحانه جعل الحجاب نفسه مستوراً مبالغة في الستر، كما نبالغ نحن الآن في استعمال الستائر، فنجعلها من طبقتين مثلاً.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى :﴿ ظلا ظليلاً " ٥٧ " ﴾( سورة النساء ) : فالظل نفسه مظلل، ونستطيع أن نلاحظ هذه الظاهرة إذا جلسنا في الحر تحت شجرة، فسوف نجد الهواء تحتها رطباً بارداً، لماذا ؟ لأن أوراق الشجر متراكمة يظلل بعضها بعضاً، فتجد أعلاك طبقات متعددة من الظل، فتشعر في النهاية بجو لطيف مكيف تكييفاً ربانياً.
إذن : قوله ( مسحوراً )تفيد أنه سحر غيره، أو سحره غيره ؛ لأن المسحور هو الذي ألم به السحر، إما فاعلاً له، أو مفعولاً عليه. وهذه الكلمة قالها كفار مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا :
﴿ إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً " ٤٧ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : والمسحور بمعنى المخبول الذي أثر في السحر، فصار مخبولاً مجنوناً، وهذا كذب وافتراء على رسول الله من السهل رده وضحده.
فإذا كان ساحراً، فكيف يسحره غيره ؟ ! ولماذا لم يسحركم كما سحر الذين آمنوا به ؟ لماذا تأبيتم أنتم على سحره فلم تؤمنوا ؟ وإن كان مسحوراً مخبولاً، والمخبول تتأتى منه حركات وأقوال دون أن تمر على العقل الواعي الذي يختار بين البديلات، فلا يكون له سيطرة على إراداته ولا على خلقه، فهل عهدكم بمحمد أن كان مخبولاً ؟ هل رأيتم عليه مثل هذه الصفات ؟
لذلك رد الحق سبحانه عليهم هذا الافتراء بقوله تعالى :﴿ نَ والقلم وما يسطرون " ١ " ما أنت بنعمة ربك بمجنونٍ " ٢ " وإن لك لأجراً غير ممنونٍ " ٣ " وإنك لعل خلقٍ عظيمٍ " ٤ " ﴾( سورة القلم ) : والمجنون لا يكون على خلق أبداً.
وسوف يناقض فرعون نفسه، فبعد أن اتهم موسى بالسحر، ثم كانت الغلبة لموسى، وخر السحرة ساجدين، قال :﴿ إنه لكبيركم الذي علمكم السحر.. " ٧١ " ﴾( سورة طه ) : وهذا دليل على التخبط والإفلاس.
أي : قال موسى لفرعون، والتاء في ( علمت )مفتوحة أي : تاء الخطاب، فهو يكلمه مباشرة ويخاطبه : لقد علمت يا فرعون علم اليقين أنني لست مسحوراً ولا مخبولاً، وأن ما معي من الآيات مما شاهدته وعاينته من الله رب السماوات والأرض، وأنت تعلم ذلك جيداً إلا أنك تنكره، كما قال تعالى :﴿ وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً.. " ١٤ " ﴾( سورة النمل ) : إذن : فعندهم يقين بصدق هذه المعجزات، ولكنهم يجحدونها ؛ لأنها ستزلزل سلطانهم، وتقوض عروشهم. وقوله تعالى :﴿ بصائر.. " ١٠٢ " ﴾
( سورة الإسراء ) : أي : أنزل هذه الآيات بصائر تبصر الناس، وتفتح قلوبهم، فيقبلوا على ذلك الرسول الذي جاء بآية معجزة من جنس ما نبغ فيه قومه.
ثم لم يفت موسى عليه السلام وقد ثبتت قدمه، وأرسى قواعد دعوته أمام الجميع أن يكلم فرعون من منطلق القوة، وأن يجابهه واحدة بواحدة، فيقول :﴿ وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً " ١٠٢ " ﴾( سورة الإسراء ).
فقد سبق أن قال فرعون :﴿ إني لأظنك يا موسى مسحوراً " ١٠١ " ﴾( سورة الإسراء ) : فواحدة بواحدة، والبادي أظلم.
والمثبور : الهالك، أو الممنوع من كل خير، وكأن الله تعالى اطلع موسى على مصير فرعون، وأنه هالك عن قريب. وعلى هذا يكون المجنون على أية حال احسن من المثبور، فالمجنون وإن فقد نعمة العقل إلا أنه يعيش كغيره من العقلاء، بل ربما افضل منهم، لأنك لو تأملت حال المجنون لوجدته يفعل ما يشاء ويقول ما يشاء دون أن يتعرض له أحد أو يحاسبه أحد، وهذا منتهى ما يتمناه السلاطين والحكام وأهل الجبروت في الأرض، فماذا ينتظر القادة والأمر إلا أن تكون كلمتهم نافذة، وأمرهم مطاعاً ؟ وهذا كله ينعم به المجنون.
وهنا يقول قائل : ما الحكمة من بقاء المجنون على قيد الحياة، وقد سلبه الله أعظم ما يملك، وهو العقل الذي يتميز به ؟
نقول : أنت لا تدري أن الخالق سبحانه حينما سلبه العقل ماذا أعطاه ؟ لقد أعطاه ما لو عرفته أنت أيها العاقل لتمنيت أن تجن ! ! ألا تراه يسير بين الناس ويفعل ما يحلو له دون أن يعترضه أحد، أو يؤذيه أحد، الجميع يعطف عليه ويبتسم في وجهه، ثم بعد ذلك لا يحاسب في الآخرة، فأي عز أعظم من هذا ؟
إذن : سلب أي نعمة مساوية لنعم الآخرين فيها عطاء لا يراه ولا يستنبطه إلا اللبيب، فحين ترى الأعمى مثلاً فإياك أن تظن أنك افضل منه عند الله، لا ليس منا من هو ابن الله، وليس منا من بينه وبين الله نسب، نحن أمام الخالق سبحانه سواء، فهذا الذي حرم نعمة البصر عوض عنها في حواس أخرى، يفوقك فيها أنت أيها المبصر بحيث تكون الكفة في النهاية مستوية.
واسمع إلى أحد العميان يقول :
عميت جنيناً والذكاء من العمى**** فجئت عجيب الظن للعلم موئلاً
وغاب ضياء العين للقلب رافداً**** لعلم إذا ما ضيع الناس حصلا
فحدث عن ذكاء هؤلاء وفطنتهم وقوة تحصيلهم للعلم ولا حرج، وهذا أمر واضح يشاهده كل من عاشر أعمى. وهكذا تجد كل أصحاب العاهات الذين ابتلاهم الخالق سبحانه بنقص في تكوينهم يعوضهم عنه في شيء آخر عزاءً لهم عما فاتهم، لكن هذا التعويض غالباً ما يكون دقيقاً يحتاج إلى من يدركه ويستنبطه.
وكذلك نرى كثيرين من هؤلاء الذين ابتلاهم الله بنقص ما يحاولون تعويضه ويتفوقون في نواحٍ أخرى، ليثبتوا للمجتمع جدارتهم ويحدثوا توازناً في حياتهم ليعيشوا الحياة الكريمة الإيجابية في مجتمعهم.
ومن ذلك مثلاً العالم الألماني ( شاخت )وقد أصيب بقصر في إحدى ساقيه أعفاه من الخدمة العسكرية مع رفاقه من الشباب، فأثر ذلك في نفسه فصمم أن يكون شيئاً، وأن يخدم بلده في ناحية أخرى، فاختار مجال الاقتصاد، وأبدع فيه، ورسم لبلاده الخطة التي تعينها في السلم وتعويضها ما فاتها في الحرب، فكان ( شاخت )رجل الاقتصاد الأول في ألمانيا كلها.
ويجب أن نعلم أن التكوين الإنساني وخلق البشر ليس عملية ميكانيكية تعطي نماذج متماثلة تماماً، إبداع الخالق سبحانه ليس ماكينة كالتي تصنع الأكواب مثلاً، وتعطينا قطعاً متساوية، بل لابد من الشذوذ في الخلق لحكمة ؛ لأن وراء الخلق إرادة عليا للخالق سبحانه، ألا ترى الأولاد من أب واحد وأم واحدة وتراهم مختلفين في اللون أو الطول أو الذكاء.. الخ ؟ !
يقول تعالى :﴿ ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم.. " ٢٢ " ﴾( سورة الروم ).
إنها قدرة في الخلق لا نهاية لها، وإبداع لا مثيل له فيما يفعل البشر. وهناك ملمح آخر يجب أن نتنبه إليه، هو أن الخالق سبحانه وتعالى جعل أصحاب النقص في التكوين وأصحاب العاهات كوسائل إيضاح، وتذكر للإنسان إذا ما نسى فضل الله عليه، لأنه كما قال تعالى :﴿ كلا إن الإنسان ليطغى " ٦ " أن رآه استغنى " ٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : فالإنسان كثيراً ما تطغيه النعمة، ويغفل عن المنعم سبحانه، فإذا ما رأى أصحاب الابتلاءات انتبه وتذكر نعمة الله، وربما تجد المبصر لا يشعر بنعمة البصر ولا يذكرها إلا إذا رأى أعمى يتخبط في الطريق، ساعتها فقط يذكر نعمة البصر فيقول : الحمد لله.
إذن : هذه العاهات ليست لأن أصحابها أقل منا، أو أنهم أهون على الله.. لا، بل هي ابتلاء لأصحابها، ووسيلة إيضاح للآخرين لتلفتهم إلى نعمة الله.
لكن الآفة في هذه المسألة أن ترى بعض أصحاب العاهات والابتلاءات لا يستر بلواه على ربه، بل يظهرها للناس، وكأنه يقول لهم : انظروا ماذا فعل الله بي، ويتخذ من عجزه وعاهته وسيلة للتكسب والترزق، بل وابتزاز أموال الناس وأخذها دون وجه حق.
وفي الحديث الشريف : " إذا بليتم فاستتروا ".
والذي يعرض بلواه على الناس هكذا كأنه يشكو الخالق للخلق، ووالله لو ستر صاحب العاهة عاهته على ربه وقبلها منه لساق له رزقه على باب بيته. والأدهى من ذلك أن يتصنع الناس العاهات ويدعوها ويوهموا الناس بها ليوقعوهم، وليبتزوا أموالهم بسيف الضعف والحاجة.
نعود إلى قصة موسى وفرعون لنستنبط منها بعض الآيات والعجائب، وأول ما يدعونا للعجب أن فرعون هو الذي ربى موسى منذ أن كان وليداً، وفي وقت كان يقتل فيه الذكور من أبناء قومه، لنعلم أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأن إرادته سبحانه نافذة. فقد وضع محبة موسى في قلب فرعون وزوجته فقالت :﴿ قرت عينٍ لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً.. " ٩ " ﴾( سورة
القصص ) : فأين ذهب عداوته وبغضه للأطفال ؟ ولماذا أحب هذا الطفل بالذات ؟ ألم يكن من البديهي أن يطرأ على ذهن فرعون أن هذا الطفل ألقاه أهله في اليم لينجو من القتل ؟ ولماذا لم تطرأ هذه الفكرة البديهية على ذهنه ؟ اللهم إلا قوله تعالى :﴿ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه.. " ٢٤ " ﴾( سورة الأنفال ).
لقد طمس الله على قلب فرعون حتى لا يفعل شيئاً من هذا، وحال بينه وبين قلبه ليبين للناس جهل هذا الطاغية ومدى حمقه، وأن وراء العناية والتربية للأهل والأسرة عناية المربي الأعلى سبحانه.
لذلك قال الشاعر.
إذا لم تصادف من بنيك عناية**** فقد كذب الراجي وخاب المؤمل
فموسى الذي رباه جبريل كافر ****وموسى الذي رباه فرعون مرسل
( فأراد )أي :( فرعون. ( أن ( يستفزهم )كلمة " استفز " سبق الكلام عنها في قوله تعالى :﴿ واستفزز من استطعت منهم بصوتك.. " ٦٤ " ﴾( سورة الإسراء ) : فالاستفزاز هو الإزعاج بالصوت العالي، يقوم المنادي ويخف من مكانه، وهذا الصوت أو هذه الصيحة يخرجها الفارس أو اللاعب كما نرى في لعبة الكراتيه مثلاً ليزعج الخصم ويخيفه، وأيضاً فإن هذه الصيحة تشغل الخصم، وتأخذ جزءاً من تفكيره، فيقل تركيزه، فيمكن التغلب عليه. ومن الاستفزاز قول أحدنا لابنه المتكاسل : فز. أي : انهض وخف للقيام.
إذن : المعنى : فأراد فرعون أن يستفزهم ويخدعهم خديعة تخرجهم من الأرض، فتخلو له من بعدهم، وهذا دليل على غباء فرعون وتغفيله وحماقته، فما جاء موسى إلا ليأخذ بني إسرائيل، كما جاء في قوله تعالى :﴿ فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين " ١٦ " أن أرسل معنا بني إسرائيل " ١٧ " ﴾
( سورة الشعراء ) : فكأن غباء فرعون أعان القدر الذي جاء به موسى عليه السلام ولكن كان لله تعالى إرادة فوق إرادة فرعون، فقد أراد أن يخرج بني إسرائيل وتخلو له الأرض، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يستفزه هو من الأرض كلها ومن الدنيا، فأغرقه الله تعالى وأخذه أخذ عزيز مقتدر، وعاجله قبل أن ينفذ ما أراد.
كما يقولون في الأمثال عند أهل الريف للذي هدد جاره بأن يحرق غلته وهي في الجرن، فإذا بالقدر يعالجه ( والغلة لست فريك )أي : يعاجله الموت قبل نضج الغلة التي هدد بحرقها، فأغرقه الله ومن معه جميعاً.
قوله تعالى :( من بعده )أي : من بعد موسى ( اسكنوا الأرض )أغلب العلماء قالوا : أي الأرض المقدسة التي هي بيت المقدس، التي قال تعالى عنها :﴿ يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم.. " ٢١ " ﴾ ( سورة المائدة ) : فكان ردهم على أمر موسى بدخول بيت المقدس :﴿ إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها.. " ٢٢ " ﴾( سورة المائدة ).
وقالوا :﴿ إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون " ٢٤ " ﴾( سورة المائدة ).
لكن كلمة ( الأرض )هنا جاءت مجردة عن الوصف ( اسكنوا الأرض )دون أن يقيدها بوصف، كما نقول : أرض الحرم، أرض المدينة، وإذا أردت أن تسكن إنساناً وتوطنه تقول : اسكن أي : استقر وتوطن في القاهرة أو الإسكندرية مثلاً، لكن اسكن الأرض، كيف وأنا موجود في الأرض بالفعل ؟ ! لابد أن تخصص لي مكاناً اسكن فيه.
نقول : جاء قوله تعالى ( اسكنوا الأرض )هكذا دون تقييد بمكان معين، لينسجم مع آيات القرآن التي حكمت عليهم بالتفرق في جميع أنحاء الأرض، فلا يكون لهم وطن يتجمعون فيه، كما قال تعالى :
﴿ وقطعناهم في الأرض أمماً.. " ١٦٨ " ﴾ ( سورة الأعراف ) : والواقع يؤيد هذا، حيث نراهم متفرقين في شتى البلاد، إلا أنهم ينحازون إلى أماكن محددة لهم يتجمعون فيها، ولا يذوبون في الشعوب الأخرى، فتجد كل قطعة منهم كأنها أمة مستقلة بذاتها لا تختلط بغيرها. وقوله تعالى :﴿ فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً " ١٠٤ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : والمراد بوعد الآخرة : هو الإفساد الثاني لبني إسرائيل، حيث قال تعالى عن إفسادهم الأول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا " ٤ " فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا " ٥ " ﴾( سورة الإسراء ).
فقد جاس رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال ديارهم في المدينة، وفي بني قريظة وبني قينقاع، وبني النضير، وأجلاهم إلى أذرعات بالشام، ثم انقطعت الصلة بين المسلمين واليهود فترة من الزمن. ثم يقول تعالى عن الإفسادة الثانية لبني إسرائيل :﴿ فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً " ٧ " ﴾( سورة الإسراء ).
وهذه الإفسادة هي ما نحن بصدده الآن، حيث سيتجمع اليهود في وطن واحد ليتحقق وعد الله بالقضاء عليهم، وهل يستطيع المسلمون أن ينقضوا على اليهود وهم في شتيت الأرض ؟ لابد أن الحق سبحانه أوحى إليهم بفكرة التجمع في وطن قومي لهم كما يقولون، حتى إذا أراد أخذهم لم يفلتوا، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وهذا هو المراد من قوله تعالى :﴿ جئنا بكم لفيفاً " ١٠٤ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : مجتمعين بعضكم إلى بعض من شتى البلاد، وهو ما يحدث الآن على أرض فلسطين.
قوله تعالى :﴿ وبالحق أنزلناه.. " ١٠٥ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : الحق من حق الشيء. أي : ثبت، فالحق هو الشيء الثابت الذي لا يطرأ عليه التغيير أبداً، أما الباطل فهو متغير متلون لأنه زهوق، والباطل له ألوان متعددة، والحق ليس له إلا لون واحد. لذلك لما ضرب الله لنا مثلاً للحق والباطل، قال سبحانه :﴿ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال " ١٧ " ﴾( سورة الرعد ).
فإن رأيت في عصر من العصور خوراً يصيب أهل الحق، وعلواً يحالف أهل الباطل فلا تغتر به، فهو علو الزبد يعلو صفحة الماء، ولا ينتفع الناس به، وسرعان ما تلقى به الريح هنا وهناك لتجلو صفحة الماء الناصعة المفيدة، أما الزبد فيذهب جفاءً دون فائدة، ويمكث في الأرض الماء الصافي الذي ينتفع الناس به في الزراعة ونحوها.
وهكذا الباطل متغير متقلب لا ينتفع به، والحق ثابت لا يتغير لأنه مظهرية من مظهريات الحق الأعلى سبحانه، وهو سبحانه الحق الأعلى الذي لا تتناوله الأغيار. وقوله :﴿ أنزلناه.. " ١٠٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : ونلاحظ هنا أن ضمير الغائب في ( أنزلناه )لم يتقدم عليه شيء يوضح الضمير ويعود إليه، صحيح أن الضمير أعرف المعارف، لكن لابد له من مرجع يرجع إليه. وهنا لم يسبق الضمير بشيء، كما سبق بمرجع في قوله تعالى :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله.. " ٨٨ " ﴾( سورة الإسراء ) : فهنا يعود الضمير في ( بمثله )إلى القرآن الذي سبق ذكره.
نقول : إذا لم يسبق ضمير الغائب بشيء يرجع إليه، فلابد أن يكون مرجعه متعيناً لا يختلف فيه اثنان، كما في قوله تعالى :﴿ قل هو الله أحد " ١ " ﴾( سورة الإخلاص ) : فهو ضمير للغائب لم يسبق بمرجع له ؛ لأنه لا يرجع إلا إلى الله تعالى، وهذا أمر لا يختلف عليه. كذلك في قوله تعالى :﴿ وبالحق أنزلناه.. " ١٠٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : القرآن ؛ لأنه شيء ثابت متعين لا يختلف عليه. وجاء الفعل أنزل للتعدية، فكأن الحق سبحانه كان كلامه وهو القرآن محفوظاً في اللوح المحفوظ، إلى أن يأتي زمان مباشرة القرآن لمهمته، فأنزله الله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، كما قال تعالى :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر " ١ " ﴾( سورة القدر ) : وهذا هو المراد من قوله ( أنزلناه )ثم ننزله منجماً حسب الأحداث في ثلاث وعشرين سنة مدة الدعوة كلها، فكلما حدث شيء نزل القسط أو النجم الذي يعالج هذه الحالة. و :﴿ أنزلناه.. " ١٠٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : أي : نحن، فالمراد الحق سبحانه وتعالى هو الذي حفظه في اللوح المحفوظ، وهو الذي أنزله، وأنزله على الأمين من الملائكة الذي اصطفاه لهذه المهمة.
﴿ نزل به الروح الأمين " ١٩٣ " ﴾( سورة الشعراء ) : أي : جبريل عليه السلام الذي كرمه الله وجعله روحاً، كما جعل القرآن روحاً في قوله :﴿ وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا.. " ٥٢ " ﴾( سورةالشورى )
وقال عنه أيضاً :﴿ إنه لقول رسولٍ كريمٍ " ١٩ " ﴾ ( سورة التكوير ) : والكريم لا يكتم شيئاً مما أوحى إليه :
﴿ ذي قوةٍ عند ذي العرش مكينٍ " ٢٠ " مطاعٍ ثم أمينٍ " ٢١ " ﴾ ( سورة التكوير ).
هذه صفات جبريل الذي نزل بالوحي من الحق سبحانه، ثم أوصله لمن ؟ أوصله للمصطفى الأمين من البشر :﴿ وما صاحبكم بمجنون " ٢٢ " ولقد رآه بالأفق المبين " ٢٣ " وما هو على الغيب بضنين " ٢٤ " وما هو بقول شيطان رجيم " ٢٥ " ﴾( سورة التكوير ).
إذن : فالقرآن الذي بين أيدينا هو هو الذي نزل من اللوح المحفوظ، وهو الحق الثابت الذي لاشك فيه، والذي لم يتغير منه حرف واحد، ولن يجد فيه أحد ثغرة للاتهام إلى أن تقوم الساعة.
ثم يقول تعالى :﴿ وبالحق نزل.. " ١٠٥ " ﴾( سورة الإسراء )، الأولى كانت :﴿ وبالحق أنزلناه.. " ١٠٥ " ﴾
( سورة الإسراء ) : أي : الوسائل التي نزل بها كلمة ثابتة، وكلها حق لا ريب فيه ولاشك.
﴿ وبالحق نزل.. " ١٠٥ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : مضمونه، وما جاء به منهج، معجزة حق لأنه تحدى الفصحاء والبلغاء وأهل اللغة فأعجزهم في كل مراحل التحدي، والقرآن يحتوي على منهج حق.
وأول شيء في منهج القرآن أنه تكلم عن العقائد التي هي الأصل الأصيل لكل دين، فقبل أن أقول لك : قال الله، وأمر الله لابد أن تعرف أولاً من هو الله، ومن الرسول الذي بلغ عن الله، فالعقائد هي ينبوع السلوكيات.
إذن : تعرض القرآن للإلهيات، وأوضح أن الله تعالى إله واحد له صفات الكمال المطلق، وتعرض للملائكة وللنبوات والمعجزات والمعاد واليوم الآخر، كل هذا في العقائد ؛ لأن الإسلام حرص أولاً على تربية العقيدة، فكانت الدعوة في مكة تركز على هذا الجانب دون غيره من جوانب الدين ليربي في المسلمين هذا الأصل الأصيل، وهو الاستسلام لله، وإلقاء الزمام إليه سبحانه وتعالى.
والإنسان لا يلقي زمام حركته إلا لمن يثق به، فلابد إذن من معرفة الله تعالى، ثم الإيمان به تعالى، ثم التصديق للمبلغ عن الله.
وفي القرآن أيضاً أحكام وشرائع ثابتة لا تتغير، ولن تنسخ بشريعة أخرى ؛ لأنها الشريعة الخاتمة، كما قال تعالى :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.. " ٣ " ﴾( سورة المائدة ) : إذن : نزل القرآن بما هو حق من : إلهيات وملائكة ونبوات ومعجزات وأحكام وشرائع، كلها حق ثابت لاشك فيه، فنزل الحق الثابت من الله بواسطة من اصطفاه من الملائكة وهو جبريل على من اصطفاه من الناس وهو محمد، وفي طي ما نزل الحق الثابت الذي لا يتغير. وصدق الحق سبحانه حين قال :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " ٩ " ﴾( سورة الحجر ).
ونسوق هنا دليلاً عصرياً على أن كتاب الله جاء بالحق الثابت الذي لا يتغير على مر العصور، ففي ألمانيا استحدث أحد رجال القانون قانوناً للتعسف في استعمال الحق، وظنوا أنهم جاءوا بجديد، واكتشفوا سلاحاً جديداً للقانون ليعاقب من له حق ويتعسف في استعمال حقه.
ثم سافر إلى هناك محام من بني سويف للدراسة، فقرأ عن القانون الجديد الذي ادعوا السبق إليه، فأخبرهم أن هذا القانون الذي تدعونه لأنفسكم قانون إسلامي ثابت وموجود في سنة رسول الله، فعمدوا إلى كتب السيرة، فوجدوا قصة الرجل الذي شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً له نخلة يمتلكها داخل بيته، أو أنها تميل في بيته، فأخذها ذريعة وجعل منها مسمار جحا، وأخذ يقتحم على صاحب البيت بيته بحجة أنه يباشر نخلته، فماذا كان حكم الرسول في هذه المسألة ؟
هذا الرجل له حق في النخلة، فهي ملك له لكنه تعسف في استعمال حقه، وأتى بما لا يليق من المعاملة، فالمفروض ألا يذهب إلى نخلته إلا لحاجة، مثل : تقليمها، أو تلقيحها، أو جمع ثمارها.
لقد أحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل وقال له : " إما أن تهب له هذه النخلة، وإما أن تبيعها له، وإما قطعناها ".
أليس ذلك من الحق الذي سبق به الإسلام ؟ وأليس دليلاً على استيعاب شرع الله لكل كبيرة وصغيرة في حياة الناس ؟
أضف إلى ذلك ما قاله بعض العلماء من أهل الإشراقات في معنى :( وبالحق نزل )أي : وعلى الحق الذي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل القرآن كما تقول : ذهبت إلى القاهرة ونزلت بفلان. أي : نزلت عنده أو عليه.
ثم يقول تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً " ١٠٥ " ﴾( سورة الإسراء ) : والبشارة تكون بالخير، والنذارة تكون بالشر، ويشترط في التبشير والإنذار أن تعطي للمبشر أو للمنذر فرصة يراجع فيها نفسه، ويعدل من سلوكه، وإلا فلا فائدة، ولا جدوى منهما، فتبشر بالجنة وتنذر بالنار في متسع من الوقت ليتمكن هذا من العمل للجنة، ويتمكن هذا من الإقلاع عن سبيل النار.
ومثال ذلك : أنك تبشر ولدك بالنجاح والمستقبل الباهر إن اجتهد، وتحذره من الفشل إن أهمل، وهذا بالطبع لا يكون ليلة الامتحان، بل في متسع أمامه من الوقت لينفذ ما تريد.
والحق سبحانه وتعالى هنا يخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بحقيقة مهمته كرسول عليه البلاغ بالبشارة والنذارة، فلا يحمل نفسه فوق طاقتها ؛ لأنه ليس ملزماً بإيمان القوم، كما قال تعالى :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً " ٦ " ﴾( سورة الكهف ) : أي : مهلكها حزناً على عدم إيمانهم، وفي آية أخرى قال :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين " ٣ " ﴾( سورة الشعراء ).
فكأنه سبحانه يخفف العبء عن رسوله، ويدعوه ألا يتعب نفسه في دعوتهم، فما عليه إلا البلاغ، وعلى الله تبارك وتعالى الهداية للإيمان.
لكن حرص رسول الله على هداية قومه نابع من قضية تحكمه وتستولي عليه لخصها في قوله : " والله لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ".
فالنبي صلى الله عليه وسلم كامل الإيمان، ويحب لقومه أن يكونوا كذلك، حتى أعداؤه الذين وقفوا في وجه دعوته كان إلى آخر لحظة في الصراع يرجو لهم الإيمان والنجاة ؛ لذلك لما مكن منهم لم يعالجهم بالعقوبة، بل قال : " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً ".
وفعلاً صدق الله ورسوله، وجاء من ذريات هؤلاء من حملوا راية الدين، وكانوا سيوفاً على أعدائه، أمثال عكرمة بن أبي جهل، وعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وكثير من المسلمين كانوا حريصين على قتل هؤلاء حال كفرهم في معارك الإسلام الأولى، وهم لا يعلمون أن الله لم يمكنهم من هؤلاء لحكمة، إنهم سوف يكونون معك من سيوف الإسلام وقادته.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وبالحق أنزلناه.. " ١٠٥ " ﴾ ( سورة الإسراء ).
معنى ( فرقناه )أي : فصلناه، أو أنزلناه مفرقاً منجماً حسب الأحداث ( على مكثٍ )على تمهل وتؤدة وتأن.
وقد جاءت هذه الآية للرد على الكفار الذين اقترحوا أن ينزل القرآن جملة واحدة، كما قال تعالى حكاية عنهم :﴿ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة.. " ٣٢ " ﴾ ( سورة الفرقان ).
وأول ما نلحظه عليهم أن أسلوبهم فضحهم، وأبان ما هم فيه من تناقض، ألم يسبق لهم أن اتهموا الرسول بافتراء القرآن. وهاهم الآن يقرون بأنه نزل عليه، أي : من جهة أعلى، ولا دخل له فيه، وقد سبق أن أوضحنا أنهم لا يتهمون القرآن، بل يتهمون رسول الله الذي نزل عليه القرآن.
ثم يتولى الحق سبحانه الرد عليهم في هذا الاقتراح، ويبين أنه اقتراح باطل لا يتناسب وطبيعة القرآن، فلا يصح أن ينزل جملة واحدة كما اقترحوا للأسباب الآتية :{ كذلك لنثبت به فؤادك.. " ٣٢ "
( سورة الفرقان ) :
( كذلك )أي : أنزلناه كذلك على الأمر الذي تنتقدونه من أنه نزل مفرقاً منجماً حسب الأحداث :﴿ لنثبت به فؤادك.. " ٣٢ " ﴾( سورة الفرقان ) : لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتعرض لكثير من تعنتات الكفار، وسيقف مواقف محرجة من تعذيب وتنكيل وسخرية واستهزاء، وهو في كل حالة من هذه يحتاج لتثبيت وتسلية.
وفي نزول الوحي عليه يوماً بعد يوم، وحسب الأحداث ما يخفف عنه، وما يزيل عن كاهله ما يعاني من مصاعب ومشاق الدعوة وفي استدامة الوحي ما يصله دائماً بمن بعثه وأرسله، أما لو نزل القرآن جملة واحدة لكان التثبيت أيضاً مرة واحدة، ولفقد رسول الله جانب الصلة المباشرة بالوحي، وهذا هو الجانب الذي يتعلق في الآية برسول الله.
٢. ﴿ ورتلناه ترتيلاً " ٣٢ " ﴾( سورة الفرقان ) : أي : نزلناه مرتلاً مفرقاً آية بعد آية، والرتل : هو المجموعة من الشيء. كما نقول : رتل من السيارات، وهكذا نزل القرآن مجموعة من الآيات بعد الأخرى، وهذه الطريقة في التنزيل تيسر للصحابة حفظ القرآن والعمل به، فكانت هذه الميزة خاصة بالصحابة الذي حفظوا القرآن، وما زلنا حتى الآن نجزئ القرآن للحفظة، ونجعله ألواحاً، يحفظ الله تلو الآخر.
٣. ﴿ ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً " ٣٣ " ﴾( سورة الفرقان ) : وهذه للمخالفين لرسول الله، وللمعاندين لمنهج الله الذين سيعترضون عليه، ويحاولون أن يستدركوا عليه أموراً، وإن يتهموا رسول الله، فلابد من الرد عليهم وإبطال حججهم في وقتها المناسب، ولا يتأتى ذلك إذا نزل القرآن جملة واحدة.
( ولا يأتونك بمثل )أي : بشيء عجيب يستدركون به عليك ( إلا جئناك بالحق )أي : رداً عليهم بالحق الثابت الذي لا جدال فيه. وإليك أمثلة لرد القرآن عليهم رداً حياً مباشراً.
فلما اتهموا رسول الله وقالوا :﴿ إن تتبعون إلا رجلا مسحورا " ٤٧ " ﴾( سورة الإسراء ).
رد القرآن عليهم بقوله تعالى :﴿ ن والقلم وما يسطرون " ١ " ما أنت بنعمة ربك بمجنون " ٢ " وإن لك لأجرا غير ممنون " ٣ " وإنك لعلى خلق عظيم " ٤ " ﴾ ( سورة القلم ).
ولما قالوا :﴿ ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.. " ٧ " ﴾( سورة الفرقان ).
يرد القرآن عليهم بقوله تعالى :﴿ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.. " ٢٠ " ﴾ ( سورة الفرقان ).
فليس محمد صلى الله عليه وسلم بدعاً في هذه المسألة، فهو كغيره من الرسل الذين عرفت عنهم هذه الصفات، وفي هذا ما يؤكد سلامة الأسوة في محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه بشر مثل الذين أرسلنا إليهم من قبله، إنما لو كانت في محمد خاصية ليست في غيره ربما اعترضوا عليها واحتجوا بها.
لذلك كان من أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه ومع صحابته أنه قال : " إنما أنا بشر يرد علي أي بالوحي فأقول : أنا لست كأحدكم، ويؤخذ مني فأقول : ما أنا إلا بشر مثلكم ".
فانظر إلى أي حد كان تواضعه صلى الله عليه وسلم ؟
ولما اتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا :﴿ أفتري على الله كذباً أم به جنة.. " ٨ " ﴾( سورة سبأ ).
فرد عليهم الحق سبحانه بقوله :﴿ أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سورٍ مثله مفترياتٍ وادعوا ما استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " ١٣ " ﴾ ( سورة هود ).
ثم يتنزل معهم في هذا التحدي، ويترأف بهم :﴿ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله.. " ٢٣ " ﴾ ( سورة البقرة ) : ثم يناقشهم في هذه المسألة بهذا الأدب الرفيع والنموذج العالي للحوار :﴿ قل إن افتريته فعلى إجرامي وأنا برئ مما تجرمون " ٣٥ " ﴾( سورة هود ).
وفي آية أخرى يقول :﴿ قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون " ٢٥ " ﴾( سورة سبأ ).
فانظر إلى هذا الأدب : رسول الله حين يتحدث عن نفسه يقول ( أجرمنا )وحين يتحدث عن أعدائه لا ينسب إليهم الإجرام، بل يقول :( ولا نسأل عما تعملون ).
هذا كله من الحق الذي جاء به القرآن ليرد عن رسول الله اتهامات القوم، وبالله لو نزل القرآن جملة واحدة، أكان من الممكن الرد على هذه الاتهامات ومجادلة القوم فيما يثيرونه من قضايا ؟
إن كانت هذه الأمثلة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرئة ساحته في مجال الدعوة إلى الله، فهناك أيضاً ما يتعلق بالأحكام والتشريع، فالقرآن نزل بالعقائد والأحكام والتشريعات، ونزل ليكون دائماً ثابتاً لا يتغير إلى يوم القيامة، ولن ينسخ منه حرف واحد كما حدث في الكتب السابقة عليه.
فإن نظرت إلى العقائد وجدت الكلام فيها قاطعة لا هوادة فيه، يأتي هكذا قولاً واحداً، فالله واحد أحد لا شريك له، له صفات الكمال المطلق، وكذلك الحديث عن الملائكة والبعث والحساب.
لكن تجد الأمر يختلف في الحديث عن العادات التي ألفها الناس في حركة الحياة، فهذه أمور تحتاج إلى تلطف وتدرج، ولا يناسبها القصر والقطع. ألم تر إلى المشرع سبحانه حينما أراد أن يحرم الخمر، كيف تدرج في تحريمها على عدة مراحل حتى يجتث هذه العادة التي تحكمت في نفوس الناس وتملكتهم، أكان يمكن معالجة هذه المسألة بهذه الطريقة إذا نزل القرآن جملة واحدة ؟
انظر كيف لفت أنظار القوم بلطف إلى أن في الخمر شيئاً، فقال تعالى :﴿ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً.. " ٦٧ " ﴾( سورة النحل ).
ولما سمع بعض الصحابة هذه الآية قال : والله لكأن الله يبيت للخمر شيئاً، لقد فهم بملكته العربية أن الله تعالى طالما وصف الرزق بأنه حسن، وسكت عن السكر فلم يصفه بالحسن، فإن وراء هذا الكلام أمراً في الخمر ؛ لأنه يتلف نعمة الله ويفسدها على أصحابها.
ثم يحول هذه المسألة إلى عظة وإرشاد، فيقول :﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما.. " ٢١٩ " ﴾ ( سورة البقرة ) : وهكذا قرر لهم الحقيقة بعد أن سألوا هم عنها، وترك لهم حرية الاختيار، فالأمر مازال عظة ونصيحة لا تشريعاً ملزماً، إلا أنه مهد الطريق للقطع بتحريمها بعد ذلك.
ثم حدث من أحدهم أن صلى وهو مخمور لا يدري ما يقول، فلما سمعوه يقول : قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون، فغمزه من بجواره وعرف أنه مخمور، ووصل خبره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون.. " ٤٣ " ﴾( سورة النساء ) : وبذلك أطال مدة الامتناع عن شرب الخمر، فالصلاة خمس مرات في اليوم والليلة، فإذاً لابد من الامتناع عن الخمر قبل الصلاة بوقت كاف، وهكذا عودهم الامتناع ودربهم على الصبر عن هذه الآفة التي تمكنت منهم. ثم يتحين الحق سبحانه فرصة منهم، حيث اجتمع القوم في مجلس من مجالس الشراب، ولما لعبت الخمر بالعقول تشاجروا حتى سالت دماؤهم، وعندما ذهبوا بأنفسهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه : يا رسول الله بين لنا في الخمر رأيا شافياً، وهنا ينزل الوحي على رسول الله بالحكم القاطع :﴿ إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه.. " ٩٠ " ﴾ ( سورة المائدة ) : فكيف كانت معالجة هذه الآفة التي تمكنت من الناس لو نزل القرآن جملة واحدة ؟
إن الحق تبارك وتعالى بنزول القرآن مفرقاً منجماً حسب الأحداث، كأنه يجري مشاركة بين آيات التنزيل والمنفعلين بها الذين يصرون على تنفيذ مطلوباتها، حتى إنهم ليبادرون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسؤال، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد نهاهم أن يبدأوه بالسؤال، كما قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم.. " ١٠١ " ﴾( سورة المائدة ).
ولكنهم مع هذا تغمزهم المسألة فيبادرون بها رسول الله، كما حكى القرآن :﴿ يسألونك عن الخمر والميسر.. " ٢١٩ " ﴾( سورة البقرة )، ﴿ ويسألونك ماذا ينفقون.. " ٢١٩ " ﴾( سورة البقرة ).
﴿ يسألونك عن الأهلة.. " ١٨٩ " ﴾( سورة البقرة )، ﴿ ويسألونك عن الجبال.. " ١٠٥ " ﴾( سورة طه ) :
إذن : وراء نزول القرآن مفرقاً منجماً حكم بالغة يجب تدبرها، هذه الحكم ما كانت لتحدث لو نزل القرآن جملة واحدة.
قوله تعالى :﴿ قل آمنوا به أو لا تؤمنوا.. " ١٠٧ " ﴾( سورة الإسراء ) :
آمنوا : أمر، ولا تؤمنوا : نهي. والأمر والنهي نوعان من الطلب، والطلب أن تطلب من الأدنى أن يفعل، والنهي أن تطلب من الأدنى ألا يفعل، فإن كان الطلب من مساو لك فهو التماس، وإن كان من أعلى منك فهو دعاء.
لذلك حينما نقول للطالب أعرب :( رب اغفر وارحم )يقول : اغفر فعل أمر، نقول له : أنت سطحي العبارة ؛ لأن الأمر هنا من الأدنى للأعلى، من العبد لربه تبارك وتعالى، فلا يقال : أمر، إنما يقال : دعاء.
والطاعة أن تمتثل الأمر والنهي، فهل نقول في قوله تعالى :﴿ قل آمنوا به أو لا تؤمنوا.. " ١٠٧ " ﴾
( سورة الإسراء ) : أنها للتخير، فإن آمنوا فقد أطاعوا، وكذلك إن لم يؤمنوا فقد أطاعوا أيضاً ؟
نقول : الأمر والنهي هنا لا يراد منه الطلب، بل يراد به التهديد أو التسوية كما تقول لابنك حين تلاحظ عليه الإهمال : ذاكر أو لا تذاكر، أنت حر ؛ لاشك أنك لا تقصد النهي عن المذاكرة، بل تقصد تهديده وحثه على المذاكرة. فقوله :﴿ قل آمنوا به أو لا تؤمنوا.. " ١٠٧ " ﴾( سورة الإسراء ) : للتسوية كما قال :﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. " ٢٩ " ﴾( سورة الكهف ) : فهذا ليس أمراً بحيث أن الذي يفعل الأمر أو النهي يكون طائعاً، بل المراد هنا التهديد أو التسوية، فسواء آمنوا أو كفروا ؛ لأن الحق سبحانه جعل في ذلك عزاءً لرسوله صلى الله عليه وسلم في إيمان أهل الكتاب.
﴿ إن الذين أتوا العلم من قبله.. " ١٠٧ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : اليهود والنصارى الذين ارتاضوا بالكتب السماوية، واستمعوا للتوارة والإنجيل، ونقلوها إلى غيرهم من المعاصرين للقرآن فهؤلاء شاهدون بأن الرسول حق بما عندهم من بشارة به في التوراة والإنجيل ؛ لذلك يتركون دينهم ويسارعون إلى الإسلام ؛ لأنهم يعلمون علم اليقين أنه الدين الحق.
ومن هؤلاء عبد الله بن سلام، وكان من علماء اليهود، وكان يعلم أوصاف رسول الله وزمن بعثته ؛ لذلك قال : لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد.
ولما اختمر الإسلام في نفسه ذهب إلى رسول الله وصارحه بما نوى من اعتناق الإسلام، وقال : يا رسول الله إن اليهود قوم بهت فإن أعلنت إسلامي الآن قالوا في ما ليس في، فاسألهم عني وأنا ما زلت على دينهم، وانظر ما يقولون، فسألهم رسول الله : ما تقولون في ابن سلام ؟ فقالوا : حبرنا وابن حبرنا، ووصفوه بخير الصفات، وأطيب الخصال، فقال عبد الله : يا رسول الله، أما وقد قالوا في ما قالوا فأشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله، فإذا بهم يذمونه ويتهمونه بأخس الخصال، فقال : يا رسول الله ألم أقل لك إنهم قوم بهت.
إذن : ففي إيمان عبد الله بن سلام وغيره من اليهود والنصارى الذين عرفوا رسول الله بأوصافه في كتبهم وعرفوا موعد بعثته وأنه حق، في إيمان هؤلاء عزاء لرسول الله حين كفر به قومه وكذبوه لذلك قال تعالى :﴿ قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب " ٤٣ " ﴾( سورة الرعد ) :
ونحن مكتفون بشهادة هؤلاء ؛ لأنهم قوم صادقون مع أنفسهم، صادقون مع أنبيائهم ومع كتبهم التي تلقوها، فحينما بشرت بمحمد ووصفته لم ينكروا هذه الصفات ولم يحرفوها، بل كانوا يسارعون إلى المدينة انتظاراً لمبعث النبي الجديد الذي سيظهر فيها، لقد كانوا يقولون لكفار مكة : لقد أظل زمان نبي جديد نتبعه قبلكم، ونقتلكم به قتل عاد وإرم.
﴿ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين " ٨٩ " ﴾ ( سورة البقرة ) : إلا أن الله أبقى للحق خلية، وجعل له خميرة استجابت لرسول الله، وتفاعلت مع الدين الجديد. وقوله تعالى :﴿ إذا يتلى عليهم.. " ١٠٧ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : أي : القرآن.
﴿ يخرون للأذقان سجداً " ١٠٧ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : كلمة ( يخرون )توحي بأنهم يسارعون إلى السجود، وكأنها عملية انفعالية غير إرادية ليس لهم فيها تصرف، فبمجرد سماع القرآن يرتمون على الأرض ساجدين ؛ لأنهم تفاعلوا معه، واختمر الإيمان في نفوسهم. ليس ذلك وفقط، بل ويخرون ( للأذقان )جمع ذقن، وهي أسفل الفك السفلي، ومعلوم أن السجود يكون على الجبهة، أما هؤلاء فيسجدون بالوجه كله، وهذا دليل على الخضوع والاستسلام لله تعالى.
أي : يقولون حال سجودهم : سبحان ربنا الذي وفى بوعده في التوراة والإنجيل، وبعث الرسول الخاتم ومعه القرآن، سبحانه حقق لنا وعده وأدركناه وآمنا به، وكأن هذه نعمة يحمدون الله عليها.
لقد خروا ساجدين لله تعالى قبل ذلك لأنهم أدركوا القرآن الذي نزل على محمد، وتحقق لهم وعد الله فعاصروه وآمنوا به. أما هذه المرة فيخرون ساجدين لما سمعوا القرآن تفصيلاً وانفعلوا به، فيكون له انفعال آخر، لذلك يزيد هنا الخشوع والخضوع، فيقول :﴿ ويخرون للأذقان يبكون.. " ١٠٩ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : فكلما قرأوا آية ازدادوا بها خشوعاً وخضوعاً.
( ادعوا )اذكروا، أو نادوا، أو اطلبوا ( الله )علم على واجب الوجود سبحانه، ومعنى : علم على واجب الوجود أنها إذا أطلقت انصرفت للذات الواجبة الوجود وهو الحق سبحانه، كما نسمي شخصاً، فإذا أطلق الاسم ينصرف إلى المسمى.
والأسماء عندنا أنواع كثيرة : إما اسم، أو كنية، أو لقب.
الاسم : وهو أغلب الأعلام، ويطلق على المولود بعد ولادته ويعرف المولود به.
والكنية : وتطلق على الإنسان، وتسبق بأب أو أم أو ابن أو بنت، كما نقول : أبو بكر، وأم المؤمنين.
واللقب : وصف يشعر بالمدح أو الذم، كما نقول : الصديق، الشاعر، الفاروق.
فإذا كان الاسم معه شريك غيره لابد لتمييزه من وصفه وصفاً يعرف به، كما يحدث أن يألف شخص أن يسمي أولاده جميعاً : محمد فالتسمية في هذه الحالة لا تشخص ولا تعين المسمي ؛ لذلك لابد أن نصف كل واحد منهم بصفة فنقول : محمد الكبير، محمد الصغير. محمد المهندس. فإذا أطلق الاسم بصفته ينصرف إلى شخص معين.
وإذا كنا نحن نسمي أولادنا : فإن الحق سبحانه سمى نفسه بأسمائه التي قال عنها : الأسماء الحسنى، وكلمة ( حسنى )أفعل تفضيل للمؤنث، مثل : كبرى. والمذكر منها احسن. لكن لماذا وصف أسماءه تعالى بالحسنى ؟
الاسم يبين المسمي، لكن الأسماء عند البشر قد لا تنطبق على المسمي الذي أطلقت عليه، فقد نسمي شخصاً " سعيد " وهو شقي، أو نسمي شخصاً " ذكي " وهو غبي. وهذا ليس بحسن في الأسماء، الحسن في الاسم أن يطابق الاسم المسمى، ويتوفر في الشخص الصفة التي أطلقت عليه، فيكون الشخص الذي سميناه " سعيد " سعيداً فعلاً.
وهكذا يكون الاسم حسناً، لكنه لا يأخذ الحسن الأعلى ؛ لأن الحسن الأعلى لأسماء الله التي سمى بها نفسه، فله الكمال المطلق. فهذه إذن لا تتأتى في تسمية البشر، فكثيراً ما تجد " عادل " وهو ظالم، و " شريف " وليس بشريف ؛ لذلك قلنا :
وأقبح الظلم بعد الشرك منزلة ****أن يظلم اسم مسمى ضده جعلا
فشارع كمعاد الدين تسمية ****لكنه لعناد الدين قد جعلا
فالاسم قد يظلم المسمى كما حدث أن سموا الشارع ( عماد الدين )، وهذا الشارع كان في الماضي بؤرة للفسق والفجور، وما أبعد سابقاً عن هذه التسمية.
فلفظ الجلالة ( الله )علم على واجب الوجود، وبعد ذلك جاءت صفات غلبت عليه، بحيث إذا أطلقت لا تنصرف إلا إليه. فإذا قلنا : العزيز على إطلاقه فإنها لا تنصرف إلا لله تعالى، لكن يمكن أن نقول فلان العزيز في قومه، فلان الرحيم بمن معه، فلان النافع لمن يتصل به، إنما لو قلت : النافع على إطلاقه فهو الله سبحانه وتعالى.
لذلك ؛ حلت الصفات محل اسم الذات ( الله ) ؛ لأنها إذا أطلقت لا تنصرف إلا لله تعالى، فأسماء الله الحسنى هي في الأصل صفات له سبحانه.
ولو تأملنا هذه الأسماء لوجدناها على قسمين : أسماء ذات، وأسماء صفات فعلية، اسم الذات لا يتصف الله بمقابله، فالعزيز مثلاً اسم ذات فلا نقول في مقابله الذليل، والحي اسم ذات فلا نقول : الميت. أما اسم الصفة الفعلية فيكون له مقابل، فالمعز صفة فعل يعني يعز غيره، ومقابلها المذل، والضار مقابلها النافع، والمحيي مقابلها المميت وهكذا.. إن وجدت للاسم مقابلاً فاعلم أنه اسم لصفة الفعل من الله تعالى، وإذا لم يكن له مقابل فهو اسم ذات.
لكن تقف مثلاً عند الستار وهي صفة فعل لأنه يستر غيره، لكن ليس لها مقابل فلا نقول الفضاح، لماذا ؟ لأنه تبارك وتعالى يريد أن يتخلق خلقه بهذه الصفة، وأن يربب صفة الستر عند الناس للناس، فلو علم الناس، عن أحد أمراً فاضحاً لزهدوا في كل ما يأتي من عنده ولو كان حسنة، وبذلك يحرم المجتمع من طاقات كثيرة من الخير.
لكن حين تستر على صاحب العيب عيبه، فإنك تعطي للمجتمع فرصة لينتفع بما لديه من صفات الخير ؛ لذلك الله تعالى يعصي ويحب أن يتسر على عبده العاصي ؛ لكي يستمر دولاب الحياة ؛ لأنه لا يوجد أحد له كمال إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق القائل :
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
إذن : فمن الحكمة أن يأمر الله تعالى بستر غيب خلقه عن خلقه حتى تستمر حركة الحياة ؛ لأن الإنسان ابن أغيار، وقلبه سريعاً ما يتقلب، ولربما لو عرفت عنك شيئاً مستوراً لتغيرت لك وأنت كذلك، ولربما تقطعت بيننا حبال المودة، إنما بالستر ينتفع كل منا بالآخر.
ومن هنا قالوا : لو تكاشفتم ما تدافنتم، أي : لو تكشفت الأسرار، وعرف كل منكم عيب أخيه ما دفنتم من يموت منكم، وهذا منتهى ما يمكن تصوره من التقاطع بين الناس.
فقوله تعالى :﴿ قل ادعوا الله.. " ١١٠ " ﴾( سورة الإسراء ) : فاختار هذا الاسم بالذات ( الله )العلم على واجب الوجود، وهو اسم ذات لا يدل على صفة معينة، لكنه يحمل في طياته كل صفات الكمال فيه، فإن كانت للأسماء الأخرى مجالات، فالقادر في القدرة، والحكيم في الحكمة، والقابض في القبض، والعزيز في العزة. فإن لكل اسم مجالاً وسيالاً، فإن ( الله )هو الاسم الجامع لكل الصفات.
لذلك في الحديث النبوي الشريف : " كل شيء لا يبدأ باسم الله فهو أبتر ".
لماذا ؟ لأنك حين تقدم على أي فعل تحتاج أولاً إلى حكمة لتعرف من خلالها لماذا تفعل، وتحتاج إلى قدرة تعينك على إنجازه، وتحتاج إلى علم بمصير هذا الفعل وعاقبته، إذن : تحتاج إلى صفات كثيرة، فحين تقبل على العمل لا تقل : يا حكيم يا قادر يا عليم، إنما الحق سبحانه يريحك، ويكفي أن تقول في الإقدام على الفعل : باسم الله. لأنك ذكرت الاسم الجامع لكل صفات الكمال.
﴿ أو ادعوا الرحمن.. " ١١٠ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : واختار الرحمن دون الجبار أو القهار ؛ لأن الرحمة صفة التحنين للخلق، فالحق سبحانه وتعالى يظهر هذه الصفة لعباده حتى في أسماء الجبار والقهار ؛ لأنها من خدم الرحمة ومن أسبابها ؛ لأن العبد إذا عرف لله : صفة الجبروت، وصفة القهر، وصفة الانتقام انتهى عن أسباب الوقوع تحت طائلة هذه الصفات، فكأنه يرحم عباده حتى بصفات القهر والانتقام.
ومن هذا قول الحق تبارك وتعالى :﴿ ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب.. " ١٧٩ " ﴾( سورة البقرة ) : لأنه إذا علم القاتل أنه سيقتل انتهى عن القتل. وفي الأثر : " القتل أنفى للقتل ".
إذن : فتشريع القصاص وإقامة الحدود والعقوبات لا لتعذيب الخلق، وإنما رحمة بهم حتى يقفوا بعيداً عن ارتكاب ما يوجب القصاص أو الحد أو العقوبة، حتى الذي يقهره الله مرحوم أيضاً ؛ لأنه مادام قال : أنا قهار. فاحذرني، فهو بذلك يرحمه لأنه يحذره من أسباب الوقوع فيما يستوجب غضبه وانتقامه.
وكذلك اختار اسم ( الرحمن )لأن مجال التكليف كله الرحمة، وما نزل المنهج من الله إلا لينظم حياة الناس ويحقق لهم السعادة في حركة الحياة، فيتكامل الخلق فيما بينهم، ويتعاونون، ويتساندون ولا يتعاندون، ويكونون جميعاً على قلب رجل واحد، هذه غاية المنهج الإلهي في دنيا الناس أن يعيش المجتمع المسلم آمناً سالماً.
فالرحمانية الإلهية هي الغالبة في كل التشريع، وهي السمة العامة، ألا ترى قوله تعالى :﴿ الرحمن " ١ " علم القرآن " ٢ " ﴾( سورة الرحمن ).
فالقرآن الذي نزل لينظم حياة الناس ويحكمها، ويصلح حركة الحياة، ويضع السلام بينك وبين الله، وبينك وبين نفسك، وبينك وبين الناس، هذا القرآن مظهر من مظاهر هذه الرحمانية الإلهية.
وقد اعترض بعض المستشرقين على قوله تعالى في سورة الرحمن :﴿ فبأي آلاء ربكما تكذبان " ١٣ " ﴾ ( سورة الرحمن ) : والآلاء هي النعم، وأنها جاءت تذييلاً لقوله تعالى :﴿ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران " ٣٥ " ﴾( سورة الرحمن ) : فالآية تتحدث عن النار والشواظ، فكيف تختم هذه الخاتمة التي تدل على النعمة ؟
ولو تدبر القوم ما اعترضوا ؛ لأن في الناس والتحذير منها والتخويف بها نعمة، كأن القرآن يقول لك : إياك أن تفعل ما يوجب النار والشواظ فتقلع وترتدع من قريب، أليست هذه من نعم الله على عباده ؟ أليست رحمة بهم ؟ وماذا كنتم ستقولون إن لم يقدم لكم الحق سبحانه تحذيراً وإنذاراً، ثم فاجأكم بالعذاب ؟
ونقف على لطيفة أخرى لاستخدام اسم الله ( الرحمن )في قوله تعالى :﴿ ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيراً " ٥٩ " ﴾( سورة الفرقان ) : أي : بعد أن خلق الخلق كل بسمائه وأرضه وما فيهما استوى على العرش ؛ لأن الاستواء على العرش يعني أن كل شيء تم له سبحانه خلقاً وإيجاداً، وانتهى إلى الجلوس على العرش، وهذا تمثيل بالملوك الذين لا يجلسون على العرش إلا بعد أن يستتب لهم الأمر، فجلوس الملك على العرش يعني أنه الأوحد الذي لا يعارضه أحد.
فالحق سبحانه ينبهنا بقوله :﴿ ثم استوى على العرش الرحمن.. " ٥٩ " ﴾( سورة الفرقان ) : واختار صفة الرحمة ليوحي لنا أن قعوده على العرش لا يعني القهر والجبروت، إنما قعد على عرشه رحمة بكم، قعد على العرش لينظم حياتكم، ويرحم بعضكم ببعض، فتسعدوا بالحياة، فالاستواء هنا لا استواء قهر وغلبة، بل استواء رحمة لمصلحتكم أنتم.
وفي آية أخرى قال :﴿ الرحمن على العرش استوى " ٥ " ﴾( سورة طه ) : وقد ورد استواؤه سبحانه على العرش في سبعة مواضع في كتاب الله، نظمها الناظم في قوله :
وذكر استواء الله في كلماته ****على العرش في سبع مواضع فاعدد
ففي سورة الأعراف ثمة يونس**** وفي الرعد مع طه فللعد أكد
وفي سورة الفرقان ثمة سجدة ****كذا في الحديد افهموا فهم مؤيد
وكل صفة من صفات جلاله سبحانه إنما هي في خدمة رحمانيته، لأنه يخوف عباده بصفات الجلال حتى لا يقعوا في المخالفة، فيأخذوا نعمة الله في الدنيا، ويسعدوا بها، ويأخذوا نعيم الآخرة فيسعدوا بها، فهي إذن الرحمانية المستولية والسمة العامة لمنهج الله في الدنيا والآخرة.
وفي الحديث " في آخر ليلة من رمضان يتجلى الجبار بالمغفرة.. " ولم يقل : تتجلى الغفار بالمغفرة، فلماذا آثر صفة الجبار في مجال المغفرة ؟
قالوا : لأن المغفرة توحي بوجود ذنب، والذنب يقتضي العقوبة، وهذه من اختصاص صفة الجبار، فهل تغلبت صفة الغفار على صفة الجبار، وأخذت اختصاصها ؟ لا بل تشفع صفة الغفار عند صفة الجبار : الموقف لك أيتها الصفة، لكن نستسمحك في أن نشفع في هؤلاء، فكأن صفات الجمال تشفع عند صفات الجلال.
لذلك، فالذين يفسرون الحديث يقولون : شفع المؤمنون، وشفع الأنبياء، وشفعت الملائكة، وبقيت شفاعة أرحم الراحمين فعند من سيشفع ارحم الراحمين ؟ قالوا : تشفع ذاته عند ذاته، وهكذا تشفع صفة الجمال ( الغفار )عند صفة الجلال ( الجبار )تبارك وتعالى.
ثم يقول تعالى :﴿ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى.. " ١١٠ " ﴾
( سورة الإسراء ).
فأي اسم تدعو به لأن أسماءه كلها حسنى، لكن ليكن عندك ذكاء في الدعاء، فتدعو بما يناسب حاجتك، فإن أردت علماً فقل : يا عالم علمني، وإن كنت ضعيفاً فقل : يا قوي قوني، وإن أردت العزة فقل : يا عزيز أعزني وهكذا.. فإن أردت الاختصار فقل : يا الله. تكفيك كل شيء.
ثم يقول تعالى :﴿ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً " ١١٠ " ﴾( سورة الإسراء ) :
الصلاة يراد بها كل أعمال الصلاة ( ولا تجهر )فالجهر منهي عنه، وكذلك ( ولا تخافت )أي : لا تسرها بحيث لا يسمعك من
فما المحمود عليه في الآية ؟
الحق سبحانه يقول :﴿ الذي لم يتخذ ولداً.. " ١١١ " ﴾ ( سورة الإسراء ) : فكونه سبحانه لم يتخذ ولداً نعمة كبيرة على العباد يجب أن يحمدوه عليها، فإن كان له ولد فسوف يخصه برعايته دون باقي الخلق، فقد تنزه سبحانه عن الولد، وجعل الخلق جميعهم عياله، وكلهم عنده سواء، فليس من بينهم من هو ابن لله أو من بينه وبين الله قرابة، وأحبهم إليه تعالى أتقاهم له، وهكذا ينفرد الخلق بكل حنان ربهم وبكل رحمته.
ثم، ما الحكمة من اتخاذ الولد ؟ الناس يتخذون الولد ويحرصون على الذكر، خاصة لأمرين : أن يكون الولد ذكرى وامتداداً لأبيه بعد موته، كما قال الشاعر :
أبني يا أنا بعدما أقضي
والحق سبحانه وتعالى باقٍ دائم، فلا يحتاج لمن يخلد ذكراه، أو يكون امتداداً له، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فالحمد لله أنه لم يتخذ ولداً.
أو يكون الولد للعزوة والمكاثرة والتقوى به من ضعف، والحق سبحانه وتعالى هو الغالب القهار، فلا يحتاج إلى عزوة أو كثرة، لذلك يأمرنا سبحانه أن نمجده لأنه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، والمتأمل في حال الملوك والسلاطين يجد أكثر فسادهم إما من الولد وإما من الصاحبة.
ثم يقول سبحانه :﴿ ولم يكن له شريك في الملك.. " ١١١ " ﴾ ( سورة الإسراء ).
وهذا أيضاً من النعم التي تستوجب الحمد، ولك أن تتصور لو أن لله تعالى شريكاً في الملك، كم تكون حيرة العباد، فأيهما تطيع وأيهما ترضي ؟
لقد أوضح لنا الحق سبحانه هذه المسألة في هذا المثل الذي ضربه لنا :﴿ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا.. " ٢٩ " ﴾( سورة الزمر ).
لذلك، ففي أعراف الناس وأمثالهم يقولون :( المركب التي بها ريسين تغرق )وكونه سبحانه واحداً لا شريك له يجعلك تطمئن إلى أمره ونهيه فتطيعه وأنت مطمئن، فأوامره سبحانه نافذة لا معقب لها، ولا معترض عليها، فليس هناك إله آخر يأمرك بأمر مخالف، أليست هذه نعمة تستوجب الحمد ؟
وأيضاً فإن الحق سبحانه يقول :﴿ ولم يكن له ولي من الذل.. " ١١١ " ﴾( سورة الإسراء ) :
الولي : هو الذي يليك، وأنت لا تجعل أمرك إلا لمن تثق به أنه يجلب لك نفعاً، أو يدفع عنك ضراً، أو ينصرك أمام عدو، أو يقوي ضعفك، فإذا لم يكن لك ذاتية تحقق بها ما تريد تلجأ لمن له ذاتية، وتحتمي برحابه، وتجعل ولاءك له.
والحق سبحانه ليس له ولي يلجأ إليه ليعزه ؛ لأنه سبحانه العزيز المعز القائم بذاته سبحانه، ولا حاجة له إلى أحد. ثم يقول تعالى :﴿ وكبره تكبيراً.. " ١١١ " ﴾( سورة الإسراء ) : لأن عظمة الحق سبحانه في نفس المؤمن اكبر من كل شيء، وأكبر من كل كبير ؛ لذلك جعلت ( الله اكبر )شعار أذانك وصلاتك، فلابد أن تكبر الله، وتجعله اكبر مما دونه من الأغيار، فإن ناداك وأنت في أي عمل فقل : الله اكبر من عملي، وإن ناداك وأنت في حضرة عظيم، فقل : الله اكبر من أي عظيم، كبره تكبيراً بأن تقدم أوامره ونواهيه على كل أمر، وعلى كل نهي.
ولا تنس أنك إن كبرت الحق سبحانه وتعالى أعززت نفسك بعزة الله التي لا يعطيها إلا لمن يخلص العبودية له سبحانه، فضلاً عن أن العبودية لله شرف للعبد، وبها يأخذ العبد خير سيده، أما العبودية للبشر فهي مذمومة مكروهة، وهي مذلة وهوان، حيث يأخذ السيد خير عبده.
وصدق الشاعر حين قال :
حسب نفسي عزاً بأني عبد**** يحتفي بي بلا مواعيد رب
هو في قدسه الأعز ولكن**** أنا ألقي متى وأين أحب
فكم تتحمل من المشقة والعنت في مقابلة عظيم من عظماء الدنيا، أما في مقابلة رب العزة سبحانه، فبمجرد أن آمنت به أصبح الزمام في يدك تلقاه متى شئت، وفي أي مكان أردت، وتحدثه في أي أمر أحببت، فأي عزة بعد هذا ؟
ولذلك كانت حيثية الرفعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج أنه عبد لله، حيث قال تعالى :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.. " ١ " ﴾( سورة الإسراء ).
فالعزة في العبودية لله، والعزة في السجود له تعالى، فعبوديتك لله تعصمك من العبودية لغيره، وسجودك له تعالى يعصمك من السجود لغيره، ألا ترى قول الشاعر :
والسجود الذي تجتويه من**** ألوف السجود فيه نجاة
إذن : فكبر الله تكبيراً وعظمة، والتجئ إليه، فمن التجأ إلى الله تعالى كان في معيته، وأفاض عليه الحق من صفاته، وعصمه من كيد الآخرين وقهرهم. وسبق أن ضربنا مثلاً بالولد الصغير الذي يعتدي عليه أقرانه إن سار وحده، فإن كان في يد أبيه فلا يجرؤ أحد على الاعتداء عليه.
فعليك إذن أن تكون دائماً في معية ربك تأمن كيد الكائدين ومكر الماكرين، ولا ينالك أحد بسوء، فإن ابتلاه الله بشيء فكأنما يقول له : أبتليك بنعمتي لتأخذ من ذاتي، لأن الصحيح المعافى إن كان في معية نعمة الله، فالمبتلى في معية الله ذاته.
ألم يقل الحق سبحانه في الحديث القدسي : " يا بن آدم مرضت فلم تعدني، قال : يا رب وكيف أعودك وأنت رب العالمين ؟ فيقول : أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ".
فالمريض الذي يأنس بزائريه ويسعد بهم ويرى في زيارتهم تخفيفاً من آلامه ومواساة له في شدته، ما باله إن أنس بالله وكان في جواره وكلاءته، والله الذي لا إله إلا هو لا يشعر بوخز المرض أبداً، ويستحي أن يتأوه من ألم، ولا ييأس مهما اشتد عليه البلاء ؛ لأنه كيف يتأوه من معية الله ؟ وكيف ييأس والله تعالى معه ؟
إذن : كبره تكبيراً. أي : اجعل أمره ونهيه فوق كل شيء، وقل : الله اكبر من كل كبير حتى الجنة قل : الله اكبر من الجنة. أل ترى قول رابعة العدوية : كلهم يعبدونك من خوف نارٍ أو بأن يسكنوا الجنان فيحظوا ليس لي بالجنان والنار حظ ويرون النجاة حظا جزيلا بقصور ويشربون سلسبيلا أنا لا أبتغي بحبي بديلاً.
وفي الحديث القدسي : " أولو لم أخلق جنة وناراً، أما كنت أهلاً لأن أعبد ؟ ".
فالله تعالى بذاته سبحانه اكبر من أي شيء، حتى إن كانت الجنة، ففي آخر سورة الكهف يقول تعالى :﴿ فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحداً " ١١٠ " ﴾( سورة الكهف ) :
فلم يقل : من كان يرجو جزاء ربه، أو جنة ربه، أو نعيم ربه، إن المؤمن الحق لا ينظر إلى النعيم، بل يطمع في لقاء المنعم سبحانه، وهذا غاية أمانيه.
وفي حديث آخر يقول الحق سبحانه للملائكة : " أما رأيتم عبادي، أنعمت عليهم بكذا وكذا، وأسلب عنهم نعمتي ويحبونني ".
وبهذه الآية ختمت سورة الإسراء، فجعلنا الحق سبحانه نختمها بما أنعم علينا من هذه النعم الثلاث، وليس هذه هي كل نعم الله علينا، بل لله تعالى علينا نعم لا تعد ولا تحصى، لكن هذه الثلاث هي قمة النعم التي تستوجب أن نحمده عليها.
فالحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ؛ لأنه لم يلد ولم يولد وهو واحد أحد، والحمد لله الذي لم يتخذ شريكاً لأنه واحد، والحمد لله الذي لم يكن له ولي من الذل لأنه القاهر العزيز المعز، ولهذا يجب أن نكبر هذه الإله تكبيراً في كل نعمة نستقبلها منه سبحانه.
Icon