تفسير سورة النّور

نظم الدرر
تفسير سورة سورة النور من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ

﴿سورة﴾ أي عظيمة؛ ثم رغب في امتثال ما فيها مبيناً أن تنويهاً للتعظيم بقوله: ﴿أنزلناها﴾ أي بما لنا من العظمة وتمام العلم والقدرة ﴿وفرضناها﴾ أي قررناها وقدرناها وأكثرنا فيها من الفروض وأكدناها ﴿وأنزلنا فيها﴾ بشمول علمنا ﴿آيات﴾ من الحدود والأحكام والمواعظ والأمثال وغيرها، مبرهناً عليها ﴿بينات﴾ لا إشكال فيها رحمة منا لكم، فمن قبلها دخل في دعوة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي لقناه إياها في آخر تلك فرحمه خير الراحمين، ومن أباها ضل فدخل في التبكيت بقولنا ﴿ألم تكن آياتي تتلى عليكم﴾ [المؤمنون: ١٠٥] ونحوه، وذلك معنى قوله: ﴿لعلكم تذكرون*﴾ أي لتكونوا - إذا تأملتموها مع ما قبلها من الآيات المرققة والقصص
201
المحذرة - على رجاء - عند من لا يعلم العواقب - من أن تتذكروا ولو نوعاً من التذكر - كما أشار إليه الإدغام - بما ترون فيها من الحكم أن الذي نصبها لكم وفصلها إلى ما ترون لا يترككم سدى، فتقبلوا على جميع أوامره، وتنتهوا عن زواجره، ليغفر لكم ما قصرتم فيه من طاعته، ويرحمكم بتنويل ما لا وصول لكم إليه إلا برحمته، وتتذكروا أيضاً بما يبين لكم من الأمور، ويكشف عنه الغطاء من الأحكام التي اغمت عنها حجب النفوس، وسترتها ظلمات الأهوية - ما جبل عليه الآدميون، فتعلموا أن الذي تحبون أن يفعل معكم بحب غيركم أن تفعلوه معه، والذي تكرهونه من ذلك يكرهه غيركم، فيكون ذلك حاملاً لكم على النصفة فيثمر الصفاء، والألفة والوفاء، فتكونوا من المؤمنين المفلحين الوارثين الداخلين في دعوة البشير النذير بالرحمة.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه: لما قال تعالى ﴿والذين هم لفروجهم حافظون﴾ [المؤمنون: ٥] ثم قال تعالى ﴿فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون﴾ [المؤمنون: ٧] استدعى الكلام بيان حكم العادي في ذلك، ولم يبين فيها فأوضحه في سورة النور فقال تعالى ﴿الزانية والزاني﴾ - الآية، ثم أتبع ذلك بحكم اللعان والقذف وانجرّ مع ذلك الإخبار
202
بقصة الإفك تحذيراً للمؤمنين من زلل الألسنة رجماً بالغيب ﴿وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم﴾ وأتبع ذلك بعد بوعيد محبّي شياع الفاحشة، في المؤمنين بقوله تعالى ﴿إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات﴾ [النور: ٢٣] الآيات، ثم بالتحذيرمن دخول البيوت إلا بعد الاستئذان المشروع، ثم بالأمر بغض الأبصار للرجال والنساء ونهى النساء عن إبداء الزينة إلا لمن سمى الله سبحانه في الآية، وتكررت هذه المقاصد في هذه السورة إلى ذكر حكم العورات الثلاث، ودخول بيوت الأقارب وذوي الأرحام، وكل هذا مما تبرأ ذمة المؤمن بالتزام ما أمر الله فيه من ذلك والوقوف عندما حده تعالى من أن يكون من العادين المذمومين في قوله تعالى
﴿فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون﴾ [المؤمنون: ٧]. وما تخلل الآي المذكورات ونسق عليها مما ليس من الحكم المذكور فلاستجرار الآي إياه واستدعائه، ومظنة استيفاء ذلك وبيان ارتباطه التفسير، وليس من شرطنا هنا - والله سبحانه وتعالى يوفقنا لفهم كتابه - انتهى.
ولما كان مبنى هذه الدار على الأنساب في التوارث والإمامة والنكاح وغير ذلك، ومبنى تلك الدار على الأعمال لقوله تعالى
203
﴿فلا أنساب بينهم يومئذ﴾ [المؤمنون: ١٠١] وكان قد حث في آخر تلك على الستر والرحمة، حذر رحمة منه في أول هذه من لبس الأنساب، وكسب الأعراض وقطع الأسباب، معلماً أن الستر والرقة ليسا على عمومهما، بل على ما يحده سبحانه، فقال مخاطباً للأئمة ومن يقيمونه: ﴿الزانية﴾ وهي من فعلت الزنى، وهو إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً، وقدمها لأن أثر الزنى يبدو عليها من الحبل وزوال البكارة، ولأنها أصل الفتنة بهتك ما أمرت به من حجاب التستر والتصون والتحذر ﴿والزاني﴾.
ولما كان «ال» بمعنى الاسم الموصول، أدخل الفاء في الخبر فقال: ﴿فاجلدوا﴾ أي فاضربوا وإن كان أصله ضرب الجلد بالسوط الذي هو جلد ﴿كل واحد منهما﴾ إذا لم يكن محصناً، بل كان مكلفاً بكراً - بما بينته السنة الشريفة ﴿مائة جلدة﴾ فبدأ بحد الزنى المشار إليه أول تلك بقوله تعالى ﴿فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون﴾ [المؤمنون: ٧] وفي التعبير بلفظ الجلد الذي هو ضرب الجلد إشارة إلى أنه يكون مبرحاً بحيث يتجاوز الألم إلى اللحم.
ولما كان هذا ظاهراً في ترك الشفقة عليهما، صرح به
204
لأن من شأن كل من يجوز على نفسه الوقوع في مثل ذلك أن يرحمهما فقال: ﴿ولا تأخذكم﴾ أي على حال من الأحوال ﴿بهما رأفة﴾ أي لين، ولعله عبر بها إعلاماً بأنه لم ينه عن مطلق الرحمة، لأن الرأفة أشد الرحمة أو أرقها وتكون عن أسباب من المرؤوف به، وكذا قوله: ﴿في دين الله﴾ أي الذي شرعه لكم الملك المحيط بصفات الكمال - إشارة إلى أن الممنوع منه رحمة تؤدي إلى ترك الحد أو شيء منه أو التهاون به أو الرضى عن منتهكه لا رقة القلب المطبوع عليها البشر كما يحكى عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه بكى يوم فتحت قبرص وضربت رقاب ناس من أسراها فقيل له: هذا يوم سرور، فقال: هو كذلك، ولكني أبكي رحمة لهؤلاء العباد الذين عصوا الله فخذلهم وأمكن منهم.
ولما علم سبحانه ما طبع عليه عباده من رحمة بعضهم لبعض فحث على هذا الحكم بالأمر والنهي، زاد في التهييج إليه والحض عليه بقوله: ﴿إن كنتم﴾ أي بما هو كالجبلة التي لا تنفك ﴿تؤمنون بالله﴾ أي الملك الأعظم الذي هو أرحم الراحمين، فما شرع ذلك إلا رحمة للناس عموماً وللزانيين خصوصاً، فمن نقص سوطاً فقد ادعى أنه أرحم منه، ومن زاد سوطاً فقد ظن أنه أحكم وأعظم منه.
205
ولما ذكر بالإيمان الذي من شرطه التزام الأحكام، وكان الرجاء غالباً على الإنسان، أتبعه ما يرهبه فقال: ﴿واليوم الآخر﴾ الذي يحاسب فيه على النقير والقطمير والخفي والجلي. ولما كان الخزي والفضيحة أعظم عند بعض الناس من ضرب السيف فضلاً عن ضرب السوط قال: ﴿وليشهد﴾ أي يحضر حضوراً تاماً ﴿عذابهما طائفة﴾ أي جماعة يمكن إطافتها أي تحلقها وحفوفها بكل منهما ﴿من المؤمنين*﴾ العريقين إشهاراً لأمرهما نكالاً لهما، وعن نصر بن علقمة أن ذلك ليدعى لهما بالتوبة والرحمة. وفي كل هذا إشارة ظاهرة إلى أن إقامة الحدود والغلظة فيها من رحمته سبحانه المشار إليها بقوله ﴿وأنت خير الراحمين﴾ [المؤمنون: ١١٨].
206
ولما كان في ذلك من الغلظة على الزاني لما ارتكب من الحرام المتصف بالعار ما يفهم مجانبته، صرح به، مانعاً من نكاح المتصف بالزنى من ذكر وأنثى، إعلاماً بأن وطء من اتصف به من رجل أو امرأة لا يكون إلا زنى وإن كان بعقد، فقال واصلاً له بما قبله:
206
﴿الزاني لا ينكح﴾ أي لا يتزوج ﴿إلا زانية أو مشركة﴾ أي المعلوم اتصافه بالزنى مقصور نكاحه على زانية أو مشركة، وذلك محرم، فهذا تنفير للمسلمة عن نكاح المتصف بالزنى حيث سويت بالمشركة إن عاشرته، وذلك يرجع إلى أن من نكحت زانياً فهي زانية أو مشركة، أي فهي مثله أو شر منه، ولو اقتصر على ذلك لم يكن منع من أن ينكح العفيف الزانية، فقال تعالى مانعاً من ذلك: ﴿والزانية لا ينكحها﴾ أي لا يتزوجها ﴿إلا زان أو مشرك﴾ أي والمعلوم اتصافها بالزنى مقصور نكاحها على زان أو مشرك، وذلك محرم فهو تنفير للمسلم أن يتزوج من اتصفت بالزنى حيث سوى في ذلك بالمشرك، وهو يرجع إلى أن من نكح زانية فهو زان أو مشرك، أي فهو مثلها أو شر منها، وأسند النكاح في الموضعين إلى الرجل تنبيهاً إلى أن النساء لا حق لهن في مباشرة العقد؛ ثم صرح بما أفهمه صدر الاية بقوله مبنياً للمفعول لأن ذلك يكفي المؤمن الذي الخطاب معه: ﴿وحرم ذلك﴾ أي نكاح الزاني والزانية تحريماً لا مثنوية فيه ﴿على المؤمنين*﴾ وعلم من هذا أن ذكر المشرك والمشركة لزيادة التنفير، ثم إن هذا الحكم فسخ كما قال إمامنا الشافعي رحمه الله موافقة لابن المسيب بقوله تعالى ﴿وأنكحوا الأيامى منكم﴾ [النور: ٣٢] وهو جمع أيم وهو من لا زوج له من الذكور والإناث، فأحل للزاني
207
أن ينكح من شاء، وللزانية أن تنكح من شاءت، وقراءة من قرأ ﴿لا ينكح﴾ بالنهي راجعة إلى هذا، لأن الطلب قد يجيء للخبر كما يجيء الخبر للطلب - والله أعلم؛ قال الشافعي رحمه الله تعالى ورضي الله عنه في الأم في جزء مترجم بأحكام القرآن وفي جزء بعد كتاب الحج الكبير والصغير والضحايا: ما جاء في نكاح المحدثين، فذكر الآية وقال: اختلف أهل التفسير في هذه الاية اختلافاً متبايناً، أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن جريج عن مجاهد أن هذه الآية نزلت في بغايا من بغايا الجاهلية كانت على منازلهن رايات، قال في الجزء الآخر: وكن غير محصنات، فأراد بعض المسلمين نكاحهن فنزلت الآية بتحريم أن ينكحن إلا من أعلن بمثل ما أعلن به أو مشركاً، وقيل كن زواني مشركات فنزلت لا ينكحهن إلا زان مثلهم مشرك، أو مشرك وإن لم يكن زانياً، وحرم ذلك على المؤمنين، وقيل: هي عامة ولكنها نسخت، أخبرنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال: هي منسوخة نسختها
﴿وأنكحوا الأيامى منكم﴾ [النور: ٣٢] فهي من أيامي المسلمين، فهذا كما قال ابن المسيب إن شاء الله تعالى، وعليه
208
دلائل من الكتاب والسنة، ثم استدل على فساد غير هذا القول بأن الزانية إن كانت مشركة فهي محرمة على زناة المسلمين وغير زناتهم بقوله تعالى ﴿ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن﴾ [البقرة: ٢٢١] ولا خلاف في ذلك، وإن كانت مسلمة فهي بالإسلام محرمة على جميع المشركين بكل نكاح بقوله تعالى ﴿فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن﴾ [الممتحنة: ١٠] ولا خلاف في ذلك أيضاً، وبأنه لا اختلاف بين أحد من أهل العلم أيضاً في تحريم الوثنيات عفائف كن أو زواني على من آمن زانياً كان أو عفيفاً، وبأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلد بكراً في الزنى وجلد امرأة ولم نعلمه قال للزاني: هل لك زوجة فتحرم عليك إذا زنيت، ولا يتزوج هذا الزاني ولا الزانية إلا زانية أو زانياً، بل قد يروى أن رجلاً شكا من امرأته فجوراً فقال: طلقها، قال: إني أحبها، قال: استمتع بها - يشير إلى ما رواه ابو داود والنسائي وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «إن امرأتي لا تمنع يد لامس، قال: طلقها، قال: إني لا أصبر عنها، قال: فأمسكها» ورواه البيهقي والطبراني من حديث جابر رضي الله عنه، وقال شيخنا ابن حجر: إنه حديث حسن صحيح - انتهى. قال الشافعي: وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
209
قال لرجل اراد أن ينكح امرأة أحدثت: أنكحها نكاح العفيفة المسلمة - انتهى بالمعنى. وقال في الجزء الذي بعد الحج: فوحدنا الدلالة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زانية وزان من المسلمين لم نعلمه حرم على واحد منهما أن ينكح غير زانية ولا زان، ولا حرم واحداً منهما على زوجه؛ ثم قال: فالاختيار للرجل أن لا ينكح زانية وللمرأة أن لا تنكح زانياً، فإن فعلا فليس ذلك بحرام على واحد منهما، ليست معصية واحد منهما في نفسه تحرم عليه الحلال إذا أتاه، ثم قال: وسواء حد الزاني منهما أو لم يحد، أو قامت عليه بينة أو اعترف، لا يحرم زنى واحد منهما ولا زناهما ولا معصية من المعاصي الحلال إلا أن يختلف ديناهما بشرك وإيمان - انتهى. وقد علم أنه لم يرد أن هذا الحكم نسخ بآية الأيامى فقط، بل بما انضم إليها من الإجماع وغيره من الآيات والأحاديث بحيث صير ذلك دلالتها على ما تناولته متيقناً كدلالة الخاص على ما تناوله، فلا يقال: إن الشافعي رحمه الله خالف أصله في أن الخاص لا ينسخ بالعام، لأن ما تناوله الخاص متيقن، وما تناوله العام ظاهر مظنون، وكان هذا الحكم - وهو الحرمة في أول الإسلام بعد الهجرة - لئلا يغلب حال المفسد على المصلح فيختل بعض الأمر كما أشير إليه في البقرة
﴿ولا تنكحوا المشركات﴾ [البقرة: ٢٢١] وفي
210
المائدة عند ﴿ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله﴾ [المائدة: ٥] وهو من وادي قوله:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل خليل بالمخالل يقتدي
والجنسية علة الضم، والمشاكلة سبب المواصلة، والمخالفة توجب المباعدة وتحرم المؤالفة، وقد روى أبو داود في الأدب والترمذي في الزهد - وقال: حسن غريب - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» وروى الإمام أبو يعلى الموصلي في مسنده قال: حدثنا يحيى بن معين حدثنا سعيد بن الحكم حدثنا يحيى بن أيوب حدثني يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: كانت امرأة بمكة مزاحة، يعني فهاجرت إلى المدينة الشريفة، فنزلت على امرأة شبه لها، فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت صدق حبي! سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» قال: ولا أعلم إلا قال في الحديث: ولا نعرف تلك المرأة، وسيأتي ﴿والطيبات للطيبين﴾ تخريج «الأرواح جنود مجندة» وقال الإمام أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري في كتاب المجالسة: حدثنا
211
أحمد بن علي الخزاز حدثنا مصعب بن عبد الله عن أبي غزية الأنصاري قال: قال الشعبي: يقال: إن لله ملكاً موكلاً بجمع الأشكال بعضها إلى بعض - انتهى. وعزاه شيخنا الحافظ أبو الفضل بن حجر في تخريج أحاديث مسند الفردوس إلى أنس رضي الله عنه وقال: بتأليف الأشكال. ويروى أن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه خطب أهل الكوفة بعد ثلاثة أيام من مقدمه عليهم فقال: يا أهل الكوفة، قد علمنا شراركم من خياركم، فقالوا: كيف وما لك إلا ثلاثة أيام؟ فقال: كان معنا شرار وخيار، فانضم خيارنا إلى خياركم، وشرارنا إلى شراركم، فلما تقررت الأحكام، وأذعن الخاص والعام، وضرب الدين بجرانه، ولم يخش وهي شيء من بنيانه، نسخت الحرمة، وبقيت الكراهة أو خلاف الأولى - والله الموفق. وهذا كله توطئة لبراءة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كما يأتي إيضاحه عنه ﴿والطيبات للطيبين﴾ لأنها قرينة خير العالمين وأتقاهم وأعفهم، ولأن كلاًّ منها ومن صفوان رضي الله عنهما بعيد عما رمى به شهير بضده، وإليه الإشارة
«بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً»
212
وفي رواية «ما علمت عليه من سوء قط، ولا دخل بيتي قط إلا وأنا حاضر» وبقول عائشة رضي الله عنها عن صفوان رضي الله عنه: إنه قتل شهيداً في سبيل الله. وهذا سوى الآيات المصرحة والأعلام المفصحة، فهو ﴿والطيبون﴾ تلويح قبل بيان، وتصريح وإشارة بعد عبارة وتوضيح، ليجتمع في براءة الصديقة رضي الله عنها دليلان عقليان شهوديان اكتنفا الدليل النقلي فكانا سوراً عليه، وحفظاً من تصويب طعن إليه، وفي ذلك من فخامة أمرها وعظيم قدرها ما لا يقدره حق قدره إلا الذي خصها به.
213
ولما نفر سبحانه من نكاح من اتصف بالزنى من رجل أو امرأة، وبدأ - لأن نكاح المرأة للزاني مظنة لزناها - بتنفير الإناث بما يوهم جواز إطلاق الزنى عليهن بمجرد نكاح من علم زناه، وذلك بعد أن ابتدأ في حد الزنى بالأنثى أيضاً لأن زناها أكبر شراً، وأعظم فضيحة وضراً، عطف على ذلك تحريم القذف بما يوجب تعظيم الرغبة في الستر وصيانة الأعراض وإخفاء الفواحش، فقال ذاكراً الجمع لأن الحكم بإقامة الحد عليه
213
يفهم إقامة الحد على الواحد من باب الأولى ولا إيهام فيه لأن الجمع إذا قوبل بالجمع أفهم التوزيع: ﴿والذين يرمون﴾ أي بالزنى ﴿المحصنات﴾ جمع محصنة، وهي هنا المسلمة الحرة المكلفة العفيفة، والمراد القذف بالزنى بما أرشد إليه السياق سابقاً ولاحقاً، ذكوراً كان الرامون أو إناثاً بما أفهمه الموصول، وخص الإناث وإن كان الحكم عاماً للرجال تنبيهاً على عظيم حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولأن الكلام في حقهن أشنع.
ولما كان إقدام المجترىء على القذف مع ما شرطه فيه لدرء الحد إرادة الستر - بعيداً، أشار إليه بأداة التراخي فقال: ﴿ثم لم يأتوا﴾ أي إلى الحاكم ﴿بأربعة شهداء﴾ ذكور ﴿فاجلدوهم﴾ أيها المؤمنون من الأئمة ونوابهم ﴿ثمانين جلدة﴾ لكل واحد منهم، لكل محصنة، إن لم يكن القاذف أصلاً، إن كانوا أحراراً، وحد العبد نصف ذلك لآية النساء ﴿فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب﴾ [النساء: ٢٥] فهذه الآية مخصوصة بتلك إذ لا فرق بين الذكر والأنثى ولا بين حد الزنى وحد القذف ﴿ولا تقبلوا لهم﴾ أي بعد قذفهم على هذا الوجه ﴿شهادة﴾
214
أي شهادة كانت ﴿أبداً﴾ للحكم بافترائهم، ومن ثبت افتراؤه سقط الوثوق بكلامه.
ولما كان التقدير: فإنهم قد افتروا، عطف عليه تحذيراً من الإقدام عن غير تثبيت: ﴿وأولئك﴾ أي الذين تقدم ذمهم بالقذف فسفلت رتبتهم جداً ﴿هم الفاسقون*﴾ أي المحكوم بفسقهم الثابت لهم هذا الوصف وإن كان القاذف منهم محقاً في نفس الأمر.
ولما كان من أصل الشافعي رحمه الله أن الاستثناء المتعقب للجمل المتواصلة المتعاطفة بالواو عائد إلى الجميع سواء كانت من جنس أو أكثر إلا إذا منعت قرينة، أعاد الاستثناء هنا إلى الفسق ورد الشهادة دون الحكم بالجلد، لأن من تمام التوبة الاستسلام للحد والاستحلال منه، ولقرينة كونه حق آدمي وهو لا يسقط بالتوبة، في قوله تعالى: ﴿إلا الذين تابوا﴾ أي رجعوا عما وقعوا فيه من القذف وغيره وندموا عليه وعزموا على أن لا يعودوا كما بين في البقرة في قوله تعالى ﴿إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا﴾ [البقرة: ١٦٠] وأشار إلى أن الجلد لا يسقط بالتوبة بقوله مشيراً بإدخال الجار إلى أن قبولها لا يتوقف على استغراقها الزمان الآتي: ﴿من بعد ذلك﴾ أي الأمر الذي أوجب إبعادهم وهو الرمي
215
والجلد، فإن التوبة لا تغير حكم الرامي في الجلد، وإنما تغيره في رد الشهادة وما تسببت عنه وهو الفسق، وأشار إلى شروط التوبة بقوله: ﴿وأصلحوا﴾ أي بعد التوبة بمضي مدة يظن بها حسن الحال، وهي سنة يعتبر بها حال التائب بالفصول الأربعة التي تكشف الطباع.
ولما كان استثناؤهم من رد الشهادة والفسق، فكان التقدير: فاقبلوا شهادتهم ولا تصفوهم بالفسق، علله بقوله: ﴿فإن الله﴾ أي الذي له صفات الكمال ﴿غفور﴾ أي ستور لهم ما أقدموا عليه لرجوعهم عنه ﴿رحيم*﴾ أي يفعل بهم من الإكرام فعل الراحم بالمرحوم في قبول الشهادة.
ولما كان لفظ المحصنات عاماً للزوجات، وكان لهن حكم غير ما تقدم، أخرجهن بقوله: ﴿والذين يرمون﴾ أي بالزنى ﴿أزواجهم﴾ أي من المؤمنات الأحرار والإماء والكافرات ﴿ولم يكن لهم﴾ بذلك ﴿شهداء إلا أنفسهم﴾ وهذا يفهم أن الزوج إذا كان أحد الأربعة كفى، لكن يرد هذا المفهوم كونه حكاية واقعة لا شهود فيها، وقوله في الآية قبلها: ﴿ثم لم يأتوا بأربعة شهداء﴾ فإنه يقتضي كون الشهداء غير الرامي، ولعله استثناه من الشهداء لأن لعانه يكون بلفظ الشهادة، ومذهب الشافعي رضي الله عنه أنه لا يقبل في ذلك على زوجته - قال ابن الرفعة في الكفاية: لأمرين: أحدهما أن الزنى تعرض لمحل حق
216
الزوج، فإن الزاني مستمتع بالمنافع المستحقة له، فشهادته في صفتها تتضمن إثبات جناية الغير على ما هو مستحق له فلم تسمع، كما إذا شهد أنه جنى على عبده، والثاني أن من شهد بزنى زوجته فنفس شهادته تدل على إظهار العداوة، لأن زناها يوغر صدره بتلطيخ فراشه وإدخال العار عليه وعلى ولده، وهو أبلغ في العداوة من مؤلم الضرب وفاحش السب، قال القاضي الحسين: وإلى هذه العلة أشار الشافعي رحمه الله وهي التي حكاها القاضي أبو الطيب في باب حد قاطع الطريق عن الشيخ أبي حامد. ﴿فشهادة أحدهم﴾ أي على من رماها ﴿أربع شهادات﴾ من خمس في مقابلة أربعة شهداء ﴿بالله﴾ أي مقرونة بهذا الاسم الكريم الأعظم الموجب لاستحضار جميع صفات الجلال والجمال ﴿إنه لمن الصادقين*﴾ أي فيما قذفها به ﴿والخامسة أن لعنت الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿عليه﴾ أي هذا القاذف نفسه ﴿إن كان من الكاذبين*﴾ فيما رماها به، ولأجل قطعه بهذه الأيمان الغليظة بصدقه وحكم الله بخلاصه انتفى عنه الولد، فلزم من نفيه الفرقة المؤبدة من غير لفظ لعدم صلاحيتها أن تكون فراشاً له، لأن الولد للفراش، ولا يصح
217
اللعان إلا عند حاكم، ولا يخفى ما في هذا من الإبعاد عن القذف بوجوب مزيد الاحتياط، لما في ذلك من التكرير والاقتران بالاسم الأعظم، والجمع بين الإثبات وما يتضمن النفي، والدعاء باللعن المباعد لصفة المؤمن، فإذا فعل الزوج ذلك سقط عنه العذاب بحد القذف وأوجبه على المقذوفة، فلذلك قال تعالى: ﴿ويدرؤا﴾ أي يدفع ﴿عنها﴾ أي المقذوفة ﴿العذاب﴾ أي المعهود، وهو الحد الذي أوجبه عليها ما تقدم من شهادة الزوج ﴿أن تشهد أربع شهادات﴾ من خمس ﴿بالله﴾ الذي له جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى كما تقدم في الزوج ﴿إنه لمن الكاذبين*﴾ فيما قاله عنها ﴿والخامسة﴾ من الشهادات ﴿أن غضب الله﴾ الذي له الأمر كله فلا كفوء له ﴿عليها﴾ وهو أبلغ من اللعن الذي هو الطرد، لأنه قد يكون بسبب غير الغضب، وسبب التغليظ عليها الحث على اعترافها بالحق لما يعضد الزوج من القرينة من أنه لا يتجشم فضيحة أهله المستلزم لفضيحته إلا وهو صادق، ولأنها مادة الفساد، وهاتكة الحجاب، وخالطة الأنساب ﴿إن كان﴾ أي كوناً راسخاً ﴿من الصادقين*﴾ أي فيما رماها به؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن ابن عباس وغيره رضي الله عنهم
«أن
218
هلال بن أمية رضي الله عنه قذف امرأته عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشريك بن سحماء رضي الله عنه فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» البينة وإلا حداً في ظهرك «، قال يا رسول الله! إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: البينة وإلا حداً في ظهرك، فقال هلال: والذي بعثك بالحق! إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد، فنزل جبريل عليه السلام وأنزل عليه ﴿والذين يرمون أزواجهم﴾ فقرأ حتى بلغ ﴿إن كان من الصادقين﴾ فانصرف النبي صلى الله صلى عليه وسلم فأرسل إليهما، فجاء هلال فشهد والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:» إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ «ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا: إنها موجبة، فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم. فمضت، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء «، فجاءت به كذلك، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن» وقد روى البخاري أيضاً عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن سبب نزولها قصة مثل هذه لعويمر، وقد تقدم أنه لا يمتنع أن يكون للآية الواحدة عدة أسباب
219
معاً أو متفرقة.
ولما حرم الله سبحانه بهذه الجمل الأعراض والأنساب، فصان بذلك الدماء والأموال، علم أن التقدير: فلولا أنه سبحانه خير الغافرين وخير الراحمين، لما فعل بكم ذلك، ولفضح المذنبين، وأظهر سرائر المستخفين، ففسد النظام، وأطبقتم على التهاون بالأحكام، فعطف على هذا الذي علم تقديره قوله: ﴿ولولا فضل الله﴾ أي بما له من الكرم والجمال، والاتصاف بصفات الكمال ﴿عليكم ورحمته﴾ أي بكم ﴿وأن الله﴾ أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة ﴿تواب﴾ أي رجاع بالعصاة إليه ﴿حكيم*﴾ يحكم الأمور فيمنعها من الفساد بما يعلم من عواقب الأمور، لفضح كل عاص، ولم يوجب أربعة شهداء ستراً لكم، ولأمر بعقوبته بما توجبه معصيته، ففسد نظامكم، واختل نقضكم وإبرامكم، ونحو ذلك مما لا يبلغ وصفه، فتذهب النفس فيه كل مذهب، فهو كما قالوا: رب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به، ثم علل ما اقتضته ﴿لولا﴾ من نحو: ولكنه لم يفعل ذلك إفضالا عليكم ورحمة لكم، بقوله على وجه التأكيد لما عرف من حال كثير ممن غضب لله ولرسوله من إرادة العقوبة للآفكين بضرب الأعناق، منبهاً لهم على أن ذلك يجر إلى مفسدة كبيرة: ﴿إن الذين جاءو بالإفك﴾
220
أي أسوأ الكذب لأنه القول المصروف عن مدلوله إلى ضده، المقلوب عن وجهه إلى قفاه، وعرّف زيادة تبشيع له في هذا المقام، حتى كأنه لا إفك إلا هو لأنه في حق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي من أحق الناس بالمدحة لما كانت عليه من الحصانة والشرف والعفة والكرم، فمن رماها بسوء فقد قلب الأمر عن أحسن وجوهه إلى أقبح أقفائه، وترك تسميتها تنزيهاً لها عن هذا المقام، إبعاداً لمصون جانبها العلي عن هذا المرام ﴿عصبة﴾ أي جماعة أقلهم عشرة وأكثرهم أربعون، فهم لكونهم عصبة يحمى بعضهم لبعض فيشتد أمرهم، لأن مدار مادة «عصب» على الشدة، وهم مع ذلك ﴿منكم﴾ أي ممن يعد عندكم في عداد المسلمين، فلو فضحهم الله في جميع ما أسروه وأعلنوه، وأمركم بأن تعاقبوهم بما يستحقون على ذلك، لفسدت ذات البين، بحمايتهم لأنفسهم وهم كثير، وتعصّب أودّائهم لهم، إلا بأمر خارق يعصم به من ذلك كما كشفت عنه التجربة حين خطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال:
«من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهلي» حين كادوا يقتتلون لولا أن سكنهم
221
النبي صلى الله عليه سلم، فالله سبحانه برحمته بكم يمنع من كيدهم ببيان كذبهم، وبحكمته يستر عليهم ويخيفهم، لتنحسم مادة مكرهم، وتنقطع أسباب ضرهم.
ولما كان هذا مقتضياً للاهتمام بشأنهم، أتبعه قوله، تحقيراً لأمرهم مخاطباً للخلص وخصوصاً النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعائشة وأمها وصفوان بن المعطل رضي الله عنهم: ﴿لا تحسبوه﴾ أي الإفك ﴿شراً لكم﴾ أيها المؤمنون بأن يصدقه أحد أو تنشأ عنه فتنة ﴿بل هو خير لكم﴾ بثبوت البراءة الموجبة للفخر الذي لا يلحق، بتلاوتها على مر الدهور بألسنة من لا يحصى من العباد، في أكثر البلاد، وتسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصديقين بذلك، مع الثواب الجزيل، بالصبر على مرارة هذا القيل، وثبوت إعجاز القرآن بعد أعجازه بالبلاغة بصدقه في صيانة من أثنى عليها في ذلك الدهر الطويل، الذي عاشته مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعده إلى أن ماتت رضي الله تعالى عنها أتقى الناس ديانة، وأظهرهم صيانة، وأنقاهم عرضاً، وأطهرهم نفساً، فهو لسان صدق في الدنيا، ورفعة منازل في الآخرة إلى غير
222
ذلك من الحكم، التي رتبها بارىء النسم، من الفوائد الدينية والأحكام والآداب.
ولما كان لا شفاء لغيظ الإنسان أعظم من انتصار الملك الديان له، علل ذلك بقوله: ﴿لكل امرئ منهم﴾ أي الآفكين ﴿ما﴾ أي جزاء ما ﴿اكتسب﴾ بخوضه فيه ﴿من الإثم﴾ الموجب لشقائه، وصيغة الافتعال من «كسب» تستعمل في الذنب إشارة إلى أن الإثم يرتب على ما حصل فيه تصميم وعزم قوي صدقه العمل بما فيه من الجد والنشاط، وتجرد في الخير إشارة إبى أن الثواب يكتب بمجرد فعل الخير بل ونيته ﴿والذي تولى كبره﴾ أي معظمه بإشاعته والمجاهرة به ﴿منهم له﴾ بما يخصه لإمعانه في الأذى ﴿عذاب عظيم*﴾ أي أعظم من عذاب الباقين، لأنهم لم يقولوا شيئاً إلا كان عليه مثل وزره من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاَ، وقصه الإفك معروفة في الصحيح والسنن وغيرها شهيرة جداً، وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزا بني المصطلق بعد ما أنزلت آية الحجاب، وكانت معه الصديقة بنت الصديق زوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تحمل هودج لها، فافتقدت عقداً لها ليلة فرجعت إلى الموضع الذي تخلت
223
فيه فالتمسته، فرحل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحمل جمالوها هودجها وهم يظنونها فيه، فلما رجعت فلم تجد أحداً اضطجعت مكان هودجها رجاء أن يعلموا بها فيرجعوا، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني رضي الله عنه قد عرس من وراء الجيش، فأصبح في مكانهم، فلما رآها وكان يراها قبل الحجاب استرجع وأناخ راحلته فوطىء على يدها، ولم يتكلم بكلمة غير استرجاعه، فركبت أم المؤمنين رضي الله عنها، ثم أقبل بها حتى لحق بالجيش وهم نزول في نصف النهار، فتكلم أهل الإفك فيهما رضي الله عنهما، وكان من سمي منهم عبد الله بن أبي المنافق، وزيد بن رفاعة، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش وحسان بن ثابت، قال عروة بن الزبير: في ناس آخرين لا علم لي بهم غير أنهم عصبة كما قال تعالى. وهكذا ذكروا حسان منهم وأنا والله لا أظن به أصلاً وإن جاءت تسميته في الصحيح فقد يخطىء الثقة لأسباب لا تحصى، كما يعرف ذلك من مارس نقد الأخبار، وكيف يظن به ذلك ولا شغل له إلا مدح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمدافعة عنه والذم لأعدائه وقد شهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن جبريل عليه السلام معه، فأقسم بالله أن الذي أيده بجبريل ما كان
224
ليكله إلى نفسه في مثل هذه الواقعة، وقد سبقني إلى الذب عنه الحافظ عماد الدين بن كثير الدمشقي رحمه الله وكيف لا ينافح عنه وهو القائل:
فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء
وهو القائل يمدح عائشة رضي الله عنها ويكذب من نقل عنه ذلك:
حصان رزان ما تزنُّ بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس ديناً ومنصباً نبي الهدى والمكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدها غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل شين وباطل
فإن كان ما بلغت عني قلته فلا رفعت سوطي إليّ أناملي
وكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس فضلها تقاصر عنها سورة المتطاول
وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب: وأنكر قوم أن يكون حسان خاض في الإفك وجلد فيه ورووا عن عائشة رضي الله عنها
225
أنها برأته من ذلك - انتهى. واستمر أهل الإفك في هذا أكثر من شهر، والله تعالى عالم بما يقولون، وأن قولهم يكاد يقطع أكباد أحب خلقه إليه، وهو قادر على تكذيبهم عند أول ما خاضوا فيه، ولكنه سبحانه أراد لناس رفعة الدرجات، ولآخرين الهلاك، فيا لله ما لقي النبي صلى عليه وسلم والصديق وآله رضي الله عنهم وكل من أحبهم وهم خير الناس، والله سبحانه وتعالى يملي للآفكين ويمهلهم، وكأن الحال لعمري كما قال أبو تمام الطائي في قصيدة:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
وحين سمعت عائشة رضي الله عنها بقول أهل الإفك سقطت مغشياً عليها وأصابتها حمى بنافض، واستأذنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إتيان بيت أبيها فأذن لها فسألت أمها عن الخبر، فأخبرتها فاستعبرت وبكت، وكان أبو بكر رضي الله عنه في علية يقرأ فسمع حسها فنزل فسأل أمها فقالت: بلغها الذي ذكر من شأنها، ففاضت عيناه، واستمرت هي رضي الله عنها تبكي حتى ظنت أن البكاء فالق كبدها، وساعدتها على البكاء امرأة من أولي الوفاء والمؤاساة والكرم والإيثار ومعالي الشيم: الأنصار رضي الله عنهم، فكانت تبكي معها، وسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عائشة رضي الله عنها جاريتها
226
بريرة رضي الله عنها فاستعظمت أن يظن في عائشة رضي الله عنها مثل ذلك فقالت: سبحان الله! والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر، وخطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس على المنبر واستعذر ممن تكلم في أهله وما علم عليهم إلا خيراً، وشهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق بصلاح صفوان بن المعطل رضي الله عنه وأنه ما علم عليه إلا خيراً، فكاد الناس يقتتلون فسكنهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم دخل بعد أن صلى العصر على عائشة رضي الله عنها وهي تبكي والأنصارية معها فوعظها، فأجابت وأجادت، فأنزل الله على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك المجلس فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، قالت عائشة رضي الله عنها: فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت فو الله ما فزعت وما باليت، قد عرفت أني بريئة، وأن الله غير ظالمي، وأما أبواي فوالذي نفس عائشة بيده! ما سري عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقاً من أن يأتي الله بتحقيق ما قاله الناس، قالت: فرفع عنه وإني لأتيبن السرور في وجهه وهو يمسح عن جبينه العرق ويقول:
«أبشري يا عائشة، فقد أنزل الله براءتك»، فكنت اشد ما كنت غضباً، فقال لي أبواي: قومي إليه! فقلت: والله لا أقوم إليه
227
ولا أحمده ولا أحمدكما ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه، وأنزل الله تعالى: ﴿إن الذين جاؤوا بالإفك﴾ العشر الآيات كلها، قالت عائشة رضي الله عنها: والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول: سبحان الله! والذي نفسي بيده! ما كشفت كنف أنثى قط. قالت: ثم قتل بعد ذلك شهيداً في سبيل الله.
228
ولما أخبر سبحانه وتعالى بعقابهم، وكان من المؤمنين من سمعه فسكت، وفيهم من سمعه فتحدث به متعجباً من قائله، أو مستثبتاً في أمره، ومنهم من كذبه، أتبعه سبحانه بعتابهم، في أسلوب خطابهم، مثنياً على من كذبه، فقال مستأنفاً محرضاً: ﴿لولا﴾ أي هلا ولم لا ﴿إذ سمعتموه﴾ أيها المدعون للإيمان. ولما كان هذا الإفك قد تمالأ عليه رجال ونساء قال: ﴿ظن المؤمنون﴾ أي منكم ﴿والمؤمنات﴾ وكان الأصل: ظننتم، ولكنه التفت إلى الغيبة تنبيهاً على التوبيخ، وصرح بالنساء، ونبه على الوصف المقتضي لحسن الظن تخويفاً للذي ظن السوء من سوء الخاتمة: ﴿بأنفسهم﴾ حقيقة ﴿خيراً﴾ وهم دون من كذب عليها، فقطعوا ببراءتها لأن الإنسان لا يظن بالناس إلا ما هو متصف به أو بإخوانهم، لأن المؤمنين كالجسد الواحد، أو ظنوا
228
ما يظن بالرجل لو خلا بأمه، وبالمرأة إذا خلت بابنها، فإن نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمهات المؤمنين ﴿وقالوا هذا إفك﴾ أي كذب عظيم خلف منكب على وجهه ﴿مبين*﴾ أي واضح في نفسه، موضح لغيره، وبيانه وظهوره أن المرتاب يكاد يقول: خذوني فهو يسعى في التستر جهده، فإتيان صفوان بعائشة رضي الله عنها راكبة على جملة داخلاً به الجيش في نحر الظهيرة والناس كلهم يشاهدون ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرهم ينزل عليه الوحي، إدلالاً بحسن عمله، غافلاً عما يظن به أهل الريب، أدل دليل على البراءة وكذب القاذفين، ولو كان هناك أدنى ريبة لجاء كل منهما وحده على وجه من التستر والذعر، تعرف به خيانته، فالأمور تذاق، ولا يظن الإنسان بالناس إلا ما في نفسه، ولقد عمل أبو أيوب الأنصاري وصاحبته رضي الله عنهما بما أشارت إليه هذه الآية؛ قال ابن اسحاق: حدثني أبي إسحاق بن يسار عن بعض رجال بني النجار أن أبا أيوب خالد بن زيد رضي الله عنه قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟ قال: بلى وذلك كذب، أكنت يا أم أيوب فاعلة؟ قالت لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خير منك. وروى البغوي أنه قال: سبحانك هذا بهتان عظيم، فنزلت الآية على وفق قوله رضي الله عنه. ثم علل سبحانه
229
بيان كذب الآفكين بأن قال موبخاً لمن اختلقه وأذاعه ملقناً لمن ندبه إلى ظن الخير: ﴿لولا﴾ أي هلا ولم لا ﴿جاءو﴾ أي المفترون له أولاً ﴿عليه﴾ إن كانوا صادقين ﴿بأربعة شهداء﴾ كما تقدم أن القذف لا يباح إلا بها.
ولما تسبب عن كونهم لم يأتوا بالشهداء كذبهم قال: ﴿فإذ﴾ أي فحين ﴿لم يأتوا بالشهداء﴾ أي الموصوفين ﴿فأولئك﴾ أي البعداء من الصواب ﴿عند الله﴾ أي في حكم الملك الأعلى، بل وفي هذه الواقعة بخصوصها في علمه ﴿هم الكاذبون*﴾ أي الكذب العظيم ظاهراً وباطناً.
ولما بين لهم بإقامة الدليل على كذب الخائضين في هذا الكلام أنهم استحقوا الملام، وكان ذلك مرغباً لأهل التقوى، بين أنهم استحقوا بالتقصير في الإنكار عموم الانتقام في سياق مبشر بالعفو، فقال عاطفاً على ﴿ولولا﴾ الماضية: ﴿ولولا فضل الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال ﴿عليكم ورحمته﴾ أي معاملته لكم بمزيد الإنعام، الناظر إلى الفضل والإكرام، اللازم للرحمة ﴿في الدنيا﴾ بقبول التوبة والمعاملة بالحلم ﴿والآخرة﴾ بالعفو عمن يريد أن يعفو عنه منكم ﴿لمسكم﴾ أي عاجلاً عموماً ﴿في ما أفضتم﴾ أي اندفعتم على أي وجه كان ﴿فيه﴾ بعضكم حقيقة، وبعضكم مجازاً بعدم الإنكار ﴿عذاب عظيم*﴾ أي
230
يحتقر معه اللوم والجلد، بأن يهلك فيتصل به عذاب الآخرة؛ ثم بين وقت حلوله وزمان تعجيله بقوله: ﴿إذ﴾ أي مسكم حين ﴿تلقونه﴾ أي تجتهدون في تلقي أي قبول هذا الكلام الفاحش وإلقائه ﴿بألسنتكم﴾ بإشاعة البعض وسؤال آخرين وسكوت آخرين ﴿وتقولون﴾ وقوله: ﴿بأفواهكم﴾ تصوير لمزيد قبحه، وإشارة إلى أنه قول لا حقيقة له، فلا يمكن ارتسامه في القلب بنوع دليل؛ وأكد هذا المعنى بقوله: ﴿ما ليس لكم به علم﴾ أي بوجه من الوجوه، وتنكيره للتحقير ﴿وتحسبونه﴾ بدليل سكوتكم عن إنكاره ﴿هيناً وهو﴾ أي والحال أنه ﴿عند الله﴾ أي الذي لا يبلغ أحد مقدار عظمته ﴿عظيم*﴾ أي في حد ذاته ولو كان في غير أم المؤمنين رضي الله عنها، فكيف وهو في جنابها المصون، وهي زوجة خاتم الأنبياء وإمام المرسلين عليه أفضل الصلاة وأفضل التسليم.
ولما بين فحشه وشناعته، وقبحه وفظاعته، عطف على التأديب الأول في قوله ﴿لولا إذ سمعتموه﴾ تأديباً فقال: ﴿ولولا إذ﴾ أي وهلا حين ﴿سمعتموه قلتم﴾ أي حين السماع من غير توقف ولا تلعثم، وفصل بين آلة التحضيض والقول المحضض عليه بالظرف لأن الظروف تنزل من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيها، وأنها لا انفكاك لها
231
عنه، ولأن ذكره منبه على الاهتمام به لوجوب المبادرة إلى المحضض عليه: ﴿ما يكون﴾ أي ما ينبغي وما يصح ﴿لنا أن نتكلم﴾ حقيقة بالنطق ولا مجازاً بالسكوت عن الإنكار ﴿بهذا﴾ أي بمثله في حق أدنى الناس فكيف بمن اختارها العليم الحكيم لصحبة أكمل الخلق، ثم دللتم على شدة نفرتكم منه بأن وصلتم بهذا النفي قولكم: ﴿سبحانك﴾ تعجباً من أن يخطر بالبال، في حال من الأحوال.
ولما كان تنزيه الله تعالى في مثل ذلك وإن كان للتعجب إشارة إلى تنزيه المقام الذي وقع فيه التعجب تنزيها عظيماً، حسن أن يوصل بذلك قوله تعليلاً للتعجب والنفي: ﴿هذا بهتان﴾ أي كذب يبهت من يواجه به، ويحيره لشدة ما يفعل في القوى الباطنة، لأنه في غاية الغفلة عنه لكونه أبعد الناس منه؛ ثم هوله بقوله: ﴿عظيم*﴾ والمراد أن الذي ينبغي للإنسان أولاً أن لا يظن بإخوانه المؤمنين ولا يسمع فيهم إلا خيراً، فإن غلبه الشيطان وارتسم شيء من ذلك في ذهنه فلا يتكلم به، ويبادر إلى تكذيبه.
232
ولما كان هذا كله وعظاً لهم واستصلاحاً، ترجمه بقوله: ﴿يعظكم الله﴾ أي يرقق قلوبكم الذي له الكمال كله فيمهل بحمله، ولا يمهل بحكمته وعلمه، بالتحذير على وجه الاستعطاف: ﴿أن﴾ أي كراهة لأن
232
﴿تعودوا لمثله أبداً﴾ أي ما دمتم أهلاً لسماع هذا القول؛ ثم عظم هذا الوعظ، وألهب سامعه بقوله: ﴿إن كنتم مؤمنين*﴾ أي متصفين بالإيمان راسخين فيه فإنكم لا تعودون، فإن عدتم فأنتم غير صادقين في دعواكم الاتصاف به ﴿ويبين الله﴾ أي بما له من الاتصاف بصفات الجلال والإكرام ﴿لكم الآيات﴾ أي العلامات الموضحة للحق والباطل، من كل أمر ديني أو دنيوي ﴿والله﴾ أي المحيط بجميع الكمال ﴿عليم﴾ فثقوا ببيانه ﴿حكيم*﴾ لا يضع شيئاً إلا في أحكم مواضعه وإن دق عليكم فهم ذلك، فلا تتوقفوا في أمر من أوامره، واعلموا أنه لم يختر لنبيه عليه الصلاة والسلام إلا الخلص من عباده، على حسب منازلهم عنده، وقربهم من قلبه.
ولما كان من أعظم الوعظ بيان ما يستحق على الذنب من العقاب، أدبهم تأديباً ثالثاً أشد من الأولين، فقال واعظاً ومقبحاً لحال الخائضين في الإفك ومحذراً ومهدداً: ﴿إن الذين يحبون﴾ عبر بالحب إشارة إلى أنه لا يرتكب هذا مع شناعته إلا محب له، ولا يحبه إلا بعيد عن الاستقامة ﴿أن تشيع﴾ أي تنتشر بالقول أو بالفعل ﴿الفاحشة﴾ أي الفعلة الكبيرة القبح، ويصير لها شيعة يحامون عليها
233
﴿في الذين آمنوا﴾ ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان فكيف بمن تسنم ذروته، وتبوأ غايته ﴿لهم عذاب أليم﴾ ردعاً لهم عن إرادة إشاعة مثل ذلك لما فيه من عظيم الأذى ﴿في الدنيا﴾ بالحد وغيره مما ينتقم الله منهم به ﴿والآخرة﴾ فإن الله يعلم هل كفر الحد عنهم جميع مرتكبهم أم لا ﴿والله﴾ أي المستجمع لصفات الجلال والجمال ﴿يعلم﴾ أي له العلم التام، فهو يعلم مقادير الأشياء ما ظهر منها وما بطن وما الحكمة في ستره أو إظهاره أو غير ذلك من جميع الأمور ﴿وأنتم لا تعلمون*﴾ أي ليس لكم علم من أنفسكم فاعلموا بما علمكم الله، ولا تتجاوزوه تضلوا.
234
ولما ختم بالحكم عليهم بالجهل، وكان التقدير كما أرشد إليه ما يأتي من العطف على غير معطوف: فلولا فضل الله عليكم ورحمته بكم لعجل هلاك المحبين لشيوع ذلك بعذاب الدنيا ليكون موصولاً بعذاب الآخرة، عطف عليه قوله مكرراً التذكير بالمنة بترك المعاجلة حاذفاً الجواب، منبهاً بالتكرير والحذف على قوة المبالغة وشدة التهويل: ﴿ولولا فضل الله﴾ أي الحائز لجميع الجلال والإكرام ﴿عليكم ورحمته﴾ بكم ﴿وأن﴾ أي ولولا أن ﴿الله﴾ أي الذي له القدرة التامة فسبقت رحمته غضبه ﴿رؤوف﴾ بكم في نصب ما يزيل جهلكم بما يحفظ
234
من سرائركم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الحدود، الزاجرة عن الجهل، الحاملة على التقوى، التي هي ثمرة العلم، فإن الرأفة كما تقدم في الحج وغيرها تقيم المرؤوف به لأنها ألطف الرحمة وأبلغها على أقوم سنن حتى تحفظ بمسراها في سره ظهور ما يستدعي العفو، وتارة يكون هذا الحفظ بالقوة بنصب الأدلة، وتارة يضم إلى ذلك الفعل بخلق الهداية في القلب بما للمرؤوف به من الوصلة بسهولة الانقياد وقوة الاستعداد ﴿رحيم*﴾ بما يثبت لكم من الدرجات على ما منحكم به من ثمرات ذلك الحفظ من الأعمال المرضية، والجواب محذوف تقديره: لترككم في ظلمات الجهل تعمهون، فثارت بينكم الفتن حتى تفانيتم ووصلتم إلى العذاب الدائم بعد الهم اللازم.
ولما أخبرهم بأنه ما أنزل لهم هذا الشرع على لسان هذا الرسول الرؤوف الرحيم إلا رحمة لهم، بعد أن حذرهم موارد الجهل، نهاهم عن التمادي فيه في سياق معلم أن الداعي إليه الشيطان العدو، فقال ساراً لهم بالإقبال عليهم بالنداء: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان ﴿لا تتبعوا﴾ أي بجهدكم ﴿خطوات﴾ أي طريق ﴿الشيطان﴾ أي لا تقتدوا به ولا تسلكوا مسالكه التي يحمل على سلوكها بتزيينها
235
في شيء من الأشياء، وكأنه أشار بصيغة الافتعال إلى العفو عن الهفوات.
ولما كان التقدير: فإنه من يتنكب عن طريقه يأت بالحسنى والمعروف، عطف عليه قوله: ﴿ومن يتبع﴾ أي بعزم ثابت من غير أن يكون مخطئاً أو ناسياً؛ وأظهر ولم يضمر لزيادة التنفير فقال: ﴿خطوات الشيطان﴾ أي ويقتد به يقع في مهاوي الجهل الناشىء عنها كل شر ﴿فإنه﴾ أي الشيطان ﴿يأمر بالفحشاء﴾ وهي ما أغرق في القبح ﴿والمنكر﴾ وهو ما لم يجوزه الشرع، فهو أولاً يقصد أعلى الضلال، فإن لم يصل تنزل إلى أدناه، وربما درج بغير ذلك، ومن المعلوم أن من اتبع من هذا سبيله عمل بعمله، فصار في غاية السفول، وهذا أشد في التنفير من إعادة الضمير في ﴿فإنه على من﴾ والله الموفق.
ولما كان التقدير: فلولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان مع أمره بالقبائح، عطف عليه قوله: ﴿ولولا فضل الله﴾ أي ذي الجلال والإكرام ﴿عليكم﴾ أي بتطهير نفوسكم ورفعها عما تعشقه
236
من الدنايا إلى المعالي ﴿ورحمته﴾ لكم بإكرامكم ورفعتكم بشرع التوبة المكفرة لما جرّ إليه الجهل من ناقص الأقوال وسفاف الأفعال ﴿ما زكى﴾ أي طهر ونما ﴿منكم﴾ وأكد الاستغراق بقوله: ﴿من أحد﴾ وعم الزمان بقوله: ﴿أبداً ولكن الله﴾ أي بجلاله وكماله ﴿يزكي﴾ أي يطهر وينمي ﴿من يشاء﴾ من عباده، من جميع أدناس نفسه وأمراض قلبه، وإن كان العباد وأخلاقهم في الانتشار والكثرة بحيث لا يحصيهم غيره، فلذلك زكى منكم من شاء فصانه عن هذا الإفك، وخذل من شاء.
ثم ختم الآية بما لا تصح التزكية بدونه فقال: ﴿والله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال ﴿سميع﴾ أي لجميع أقولهم ﴿عليم*﴾ بكل ما يخطر في بالهم، وينشأ عن أحوالهم وأفعالهم، فهو خبير بمن هو أهل للتزكية ومن ليس بأهل لها، فاشكروا الله على تزكيته لكم من الخوض في مثل ما خاض فيه غيركم ممن خذله نوعاً من الخذلان، واصبروا على ذلك منهم، ولا تقطعوا إحسانكم عنهم، فإن ذلك يكون زيادة في زكاتكم، وسبباً لإقبال من علم فيه الخير منهم، فقبلت توبته، وغسلت حوبته، وهذا المراد
237
من قوله: ﴿ولا يأتل﴾ أي يحلف مبالغاً في اليمين ﴿أولوا الفضل منكم﴾ الذين جعلتهم بما آتيتهم من العلم والأخلاق الصالحة أهلاً لبر غيرهم ﴿والسعة﴾ أي بما أوسعت عليهم في دنياهم.
ولما كان السياق والسباق واللحاق موضحاً للمراد، لم يحتج إلى ذكر أداة النفي فقال: ﴿أن يؤتوا﴾ ثم ذكر الصفات المقتضية للإحسان فقال: ﴿أولي القربى﴾ وعددها بأداة العطف تكثيراً لها وتعظيماً لأمرها، وإشارة إلى أن صفة منها كافية في الإحسان، فكيف إذا اجتمعت! فقال سبحانه: ﴿والمساكين﴾ أي الذين لا يجدون ما يغنيهم وإن لم تكن لهم قرابة ﴿والمهاجرين﴾ لأهلهم وديارهم وأموالهم ﴿في سبيل الله﴾ أي الذي عم الخلائق بجوده لما له من الإحاطة بالجلال والإكرام وإن انتفى عنهم الوصفان الأولان، فإن هذه الصفات مؤذنة بأنهم ممن زكى الله، وتعدادها بجعلها علة للعفو - دليل على أن الزاكي من غير المعصومين قد يزل، فتدركه الزكاة بالتوبة فيرجع كما كان، وقد تكون الثلاثة لموصوف واحد لأن سبب نزولها مسطح رضي الله عنه، فالعطف إذن للتمكن في كل وصف منها.
238
ولما كان النهي عن ذلك غير صريح في العفو، وكان التقدير: فلؤتوهم، عطف عليه مصرحاً بالمقصود قوله: ﴿وليعفوا﴾ أي عن زللهم بأن يمحوه ويغطوه بما يسلبونه عليه من أستار الحلم حتى لا يبقى له أثر. ولما كان المحو لا ينفي التذكر قال: ﴿وليصفحوا﴾ أي يعرضوا عنه أصلاً ورأساً، فلا يخطروه لهم على بال ليثمر ذلك الإحسان، ومنه الصفوح وهو الكريم.
ولما كانت لذة الخطاب تنسي كل عتاب، أقبل سبحانه بفضله ومنّه وطوله على أولي الفضل، مرغباً في أن يفعلوا بغيرهم ما يحبون أن يفعل بهم، مرهباً من أن يشدد عليهم إن شددوا فقال: ﴿ألا تحبون﴾ أي يا أولي الفضل ﴿أن يغفر الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿لكم﴾ أي ما قصرتم في حقه، وسبب نزولها كما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أن أباها رضي الله تعالى عنه كان حلف ما بعد برأ الله عائشة رضي الله عنها أن لا ينفق على مسطح ابن خالته لكونه خاض من أهل الإفك؛ وفي تفسير الأصبهاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: أقسم ناس من الصحابة فيهم أبو بكر رضي الله عنهم أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من
239
الإفك ولا ينفعوهم فأنزل الله هذه الآية.
وناهيك بشهادة الله جل جلاله للصديق بأنه من أولي الفضل فيا له من شرف ما أجلاه! ومن سؤدد وفخار ما أعلاه! ولا سيما وقد صدقه رضي الله عنه بالعفو عمن شنع على ثمرة فؤاده ومهجة كبده، وهي الصديقة زوجة خاتم المرسلين، وخير الخلائق أجمعين، والحلف على أنه لا يقطع النفقة عنه أبداً، فيا لله من أخلاق ما أبهاها! وشمائل ما أطهرها وأزكاها! وأشرفها وأسندها.
ولما كان الجواب قطعاً كما أجاب الصديق رضي الله عنه: بلى والله! إنا لنحب أن يغفر الله لنا، وكان كأنه قيل: فاغفروا لمن أساء إليكم، فالله حكم عدل، يجازيهم على إساءتهم إليكم إن شاء، والله عليم شكور، يشكر لكم ما صنعتم إليهم، عطف عليه قوله: ﴿والله﴾ أي مع قدرته الكاملة وعلمه الشامل ﴿غفور رحيم*﴾ من صفته ذلك، إن شاء يغفر لكم ذنوبكم بأن يمحوها فلا يدع لها أثراً ويرحمكم بعد محوها بالفضل عليكم كما فعلتم معهم، فإن الجزاء من جنس العمل.
240
ولما كان الختم بهذين الوصفين بعد الأمر بالعفو ربما جرّأ على مثل هذه الإساءة، وصل به مرهباً من الوقوع في مثل ذلك قوله معمماً للحكم: ﴿إن الذين يرمون﴾ أي بالفاحشة ﴿المحصنات﴾ أي اللائي جعلن
240
أنفسهن من العفة في مثل الحصن. ولما كان الهام بالسيىء والمقدم عليه عالماً بما يرمي به منه، جاعلاً له نصب عينه، أكد معنى الإحصان بقوله: ﴿الغافلات﴾ أي عن السوء حتى عن مجرد ذكره. ولما كان وصف الإيمان حاملاً على كل خير ومانعاً ن كل سوء، نبه على أن الحامل على الوصفين المتقدمين إنما هو التقوى، وصرف ما لهن من الفطنة إلى ما لله عليهن من الحقوق فقال: ﴿المؤمنات﴾.
ولما ثبت بهذه الأوصاف البعد عن السوء، ذكر جزاء القاذف كفّاً عنه وتحذيراً منه بصيغة المجهول، لأن المحذور اللعن لا كونه المعين، وتنبيهاً على وقوع اللعن من كل من يتأتي منه فقال: ﴿لعنوا﴾ أي أبعدوا عن رحمة الله، وفعل معهم فعل المبعد من الحد وغيره ﴿في الدنيا والآخرة﴾ ثم زاد في تعظيم القذف لمن هذه أوصافها فقال: ﴿ولهم﴾ أي في الآخرة ﴿عذاب عظيم*﴾ وقيد بوصف الإيمان لأن قذف الكافرة وإن كان محرماً ليس فيه هذا المجموع، وهذا الحكم وإن كان عاماً فهو لأجل الصديقة بالذات وبالقصد الأول وفيما فيه من التشديد الذي قل أن يوجد مثله في القرآن من الإعلام
241
بعلي قدرها، وجلي أمرها، في عظيم فخرها، ما يجل عن الوصف؛ ثم أتبع ذلك ذكر اليوم الذي يكون فيه أثر ذلك على وجه زاد الأمر عظماً فقال: ﴿يوم تشهد عليهم﴾ أي يوم القيامة في ذلك المجمع العظيم ﴿ألسنتهم﴾ إن ترفعوا عن الكذب ﴿وأيديهم وأرجلهم﴾ إن أنكرت ألسنتهم كذباً وفجوراً ظناً أن الكذب ينفعها ﴿بما كانوا يعملون*﴾ من هذا القذف وغيره؛ ثم زاد في التهويل بقوله: ﴿يومئذ﴾ أي إذ تشهد عليهم هذه الجوارح ﴿يوفيهم الله﴾ أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة وله الكمال كله ﴿دينهم﴾ أي جزاءهم ﴿الحق﴾ أي الذي يظهر لكل أحد من أهل ذلك المجمع العظيم أنهم يستحقونه، فلا يقدر أحد على نوع طعن فيه ﴿ويعلمون﴾ أي إذ ذاك، لانقطاع الأسباب، ورفع كل حجاب ﴿أن الله﴾ أي الذي له العظمة المطلقة، فلا كفوء له ﴿هو﴾ أي وحده ﴿الحق﴾ أي الثابت أمره فلا أمر لأحد سواه، ﴿المبين*﴾ الذي لا أوضح من شأنه في ألوهيته وعلمه وقدرته وتفرده بجميع صفات الكمال، وتنزهه عن جميع سمات النقص، فيندمون
242
على ما فعلوا في الدنيا مما يقدح في المراقبة وتجري عليه الغفلة؛ قال ابن كثير: وأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة لا سيما التي كانت سبب النزول، وهي عائشة بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما، وقد أجمع العلماء قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن، وفي بقية أمهات المؤمنين رضي الله عنهن قولان أصحهما أنهن كهي، والله أعلم - انتهى.
وقد علم من هذه الآيات وما سبقها من أول السورة وما لحقها إلى آخرها أن الله تعالى ما غلظ في شيء من المعاصي ما غلظ في قصة الإفك، ولا توعد في شيء ما توعد فيها، وأكد وبشع، ووبخ وقرع، كل ذلك إظهاراً لشرف رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغضباً له وإعظاماً لحرمته وصوناً لحجابه.
243
ولما تضمن ما ذكر من وصفه تعالى علمه بالخفيات، أتبعه ما هو كالعلة لآية ﴿الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة﴾ دليلاً شهودياً على براءة عائشة رضي الله تعالى عنها فقال: ﴿الخبيثات﴾ أي من النساء وقدم هذا الوصف لأن كلامهم فيه، فإذا انتفى ثبت الطيب
243
﴿للخبيثين﴾ أي من الرجال. ولما كان ذلك لا يفهم أن الخبيث مقصور على الخبيثة قال: ﴿والخبيثون﴾ أي من الرجال أيضاً ﴿للخبيثات﴾ أي من النساء.
ولما أنتج هذا براءتها رضي الله عنها لأنها قرينة أطيب الخلق، أكده بقوله: ﴿والطيبات﴾ أي منهن ﴿للطيبين﴾ أي منهم ﴿والطيبون للطيبات﴾ بذلك قضى العليم الخبير أن كل شكل ينضم إلى شكله، ويفعل أفعال مثله، وهو سبحانه قد اختار لهذا النبي الكريم لكونه أشرف خلقه خلص عباده من الأزواج والأولاد والأصحاب ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾ [آل عمران: ١١٠] «خيركم قرني» وكلما ازداد الإنسان منهم من قلبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرباً ازداد طهارة، وكفى بهذا البرهان دليلاً على براءة الصديقة رضي الله عنها، فكيف وقد أنزل الله العظيم في براءتها صريح كلامه القديم، وحاطه من أوله وآخره بهاتين الآيتين المشيرتين إلى الدليل العادي، وقد تقدم عند آية ﴿الزاني﴾ ذكر لحديث «الأرواح جنود مجندة» وما لاءمه، لكنه لم يستوعب تخريجه،
244
وقد خرجه مسلم في الأدب من صحيحه وأبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» وفي رواية عنه رفعها: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» وهذا الحديث روي أيضاً عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعلي ابن أبي طالب وسلمان الفارسي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وعمرو بن عبسة رضي الله عنهم، وقد علق البخاري في صحيحه حديث عائشة رضي الله عنها بصيغة الجزم، ووصله في كتاب الأدب المفرد وكذا الإسماعيلي في المستخرج، وأبو الشيخ في كتاب الأمثال، وتقدم عزوه إلى أبي يعلى، ولفظ حديث ابن عمر رضي الله عنهما «فما كان في الله ائتلف، وما كان في غير الله اختلف» أخرجه أبو الشيخ في الأمثال، ولفظ حديث ابن مسعود رضي الله عنه «فإذا التقت تشامّ كما تشامّ الخيل، فما تعارف منها ائتلف» -
245
الحديث. وأما حديث علي رضي الله عنه فرواه الطبراني في الأوسط في ترجمة محمد بن الفضل السقطي وأبو عبد الله بن منده في كتاب الروح عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أبا الحسن! ربما شهدت وغبنا وربما شهدنا وغبت، ثلاث أسألك عنهن هل عندك منهن علم؟ قال علي: وما هن؟ قال: الرجل يحب الرجل ولم ير منه خيراً، والرجل يبغض الرجل ولم ير منه شراً، فقال علي رضي الله عنه: نعم! سمعت رسول الله صلى الله عليه السلام يقول:
«إن الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» قال عمر: واحدة، قال: والرجل يحدث الحديث إذ نسيه فبينا هو وما نسيه إذ ذكره؟ فقال علي رضي الله عنه: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينما القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم إذ تجلت فأضاء، وبينا القلب يتحدث إذ تجللته سحابة فنسي إذ تجلت عنه فذكر»، فقال عمر رضي الله عنه:
246
اثنتان، وقال: والرجل يرى الرؤيا، فمنها ما يصدق ومنها ما يكذب؟ قال: نعم! سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ما من عبد أو أمة ينام فيستثقل نوماً إلا عرج بروحه إلى العرش، فالتي لا تستيقظ إلا عند العرش فتلك الرؤيا التي تصدق، والتي تستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تكذب»، فقال عمر رضي الله عنه: ثلاث كنت في طلبهن فالحمد لله الذي أصبتهن قبل الموت وكذا أخرج الطبراني حديث سلمان كحديث أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، وأنشدوا لأبي نواس في المعنى:
إن القلوب لأجناد مجندة لله في الأرض بالأهواء تعترف
فما تعارف منها فهو مؤتلف وما تناكر منها فهو مختلف
ولما ثبت هذا كانت نتيجته قطعاً: ﴿أولئك﴾ أي العالو الأوصاف بالطهارة والطيب ﴿مبرؤون﴾ ببراءة الله وبراءة كل من له تأمل في مثل هذا الدليل ﴿مما يقولون﴾ أي القذفة الأخابث لأنها لا تكون
247
زوجة أطيب الطيبين إلا وهي كذلك.
ولما أثبت لهم البراءة، استأنف الإخبار بجزائهم فقال: ﴿لهم مغفرة﴾ أي لما قصروا فيه إن قصروا، ولما كان في معرض الحث على الإنفاق على بعض الآفكين قال: ﴿ورزق كريم*﴾ أي يحيون به حياة طيبة، ويحسنون له إلى من أساء إليهم، ولا ينقصه ذلك لكرمه في نفسه بسعته وطيبه وغير ذلك من خلال الكرم.
ولما أنهى سبحانه الأمر في براءة عائشة رضي الله عنها على هذا الوجه الذي كساها به من الشرف ما كساها، وحلاها برونقه من مزايا الفضل ما حلاها، وكأن أهل الإفك قد فتحوا بإفكهم هذا الباب الظنون السيئة عدواة من إبليس لأهل هذا الدين بعد أن كانوا في ذلك وفي كثير من سجاياهم - إذ قانعاً منهم بداء الشرك - على الفطرة الأولى، أمر تعالى رداً لما أثار بوسواسه من الداء بالتنزه عن مواقع التهم والتلبس بما يحسم الفساد فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي ألزموا أنفسهم هذا الدين ﴿لا تدخلوا﴾ أي واحد منكم، ولعله
248
خاطب الجمع لأنهم في مظنة أن يطردوا الشيطان بتزين بعضهم بحضرة بعض بلباس التقوى، فمن خان منهم منعه إخوانه، فلم يتكمن منه شيطانه، فنهي الواحد من باب الأولى ﴿بيوتاً غير بيوتكم﴾ أي التي هي سكنكم ﴿حتى تستأنسوا﴾ أي تطلبوا بالاستئذان أن يأنس بكم من فيها وتأنسوا به، فلو قيل له: من؟ فقال: أنا لم يحصل الاستئناس لعدم معرفته، بل الذي عليه أن يقول: أنا فلان - يسمى نفسه بما يعرف به ليؤنس به فيؤذن له أو ينفر منه فيرد ﴿وتسلموا على أهلها﴾ أي الذين هم سكانها ولو بالعارية منكم فتقولوا: السلام عليكم! أأدخل؟ أو تطرقوا الباب إن كان قد لا يسمع الاستئذان ليؤذن لكم ﴿ذلكم﴾ الأمر العالي الذي أمرتكم به ﴿خير لكم﴾ مما كنتم تفعلونه من الدخول بغير إذن ومن تحية الجاهلية، لأنكم إذا دخلتم بغير إذن ربما رأيتم ما يسوءكم، وإذا استأذنتم لم تدخلوا على ما تكرهون، هذا في الدنيا، وأما في الأخرى فأعظم، وقد روى أبو موسى
249
الأشعري رضي الله عنه: إذا سلم ثلاثاً فلم يجبه أحد فليرجع.
وكان هذا إذا ظن أن صاحب البيت سمع.
ولما كان كل إنسان لا ينفك عن أحوال يكره أن يطلع عليها أو تقطع عليه، قال: ﴿لعلكم تذكرون*﴾ أي لتكون حالكم حال من يرجى أن يتذكر برجوعه إلى نفسه عند سماع هذا النهي، فيعرف أن ما يسوءه من غيره يسوء غيره منه، فيفعل ما يحب أن يفعل معه خوفاً من المقابلة، لأن الجزاء من جنس العمل، وكل ما يجب عليه في غير بيته يستحب له في بيته بنحو النحنحة ورفع الصوت بالذكر ونحوه على ما أشار إليه حديث النهي عن الطروق لكيلا يرى من أهله ما يكره.
ولما كان السكان قد يكونون غائبين، والإنسان لكونه عورة لا يحب أن يطلع غيره على جميع أموره، قال: ﴿فإن لم تجدوا فيها﴾ أي البيوت التي ليس بها سكناكم ﴿أحداً﴾ قد يمنعكم، فالله يمنعكم منها، تقديماً لدرء المفاسد ﴿فلا تدخلوها﴾ أي أبداً
250
﴿حتى يؤذن لكم﴾ من آذن ما بإذن شرعي من الساكن أو غيره، لأن الدخول تصرف في ملك الغير أو حقه فلا يحل بدونه إذنه. ولما كان كأنه قيل: فإن أذن لكم في شيء ما استأذنتم فيه فادخلوا، عطف عليه قوله: ﴿وإن قيل لكم﴾ من قائل ما إذا استأذنتم في بيت فكان خالياً أو فيه أحد: ﴿ارجعوا فارجعوا﴾ أي ولا تستنكفوا من أن تواجهوا بما تكرهون من صريح المنع، فإن الحق أحق أن يتبع، وللناس عورات وأمور لا يحبون اطلاع غيرهم عليها.
ولما كان في المنع نقص يوجب غضاضة ووحراً في الصدر، وعد سبحانه عليه بما يجبر ذلك، فقال على طريق الاستئناف: ﴿هو﴾ أي الرجوع المعين ﴿أزكى﴾ أي أطهر وأنمى ﴿لكم﴾ فإن فيه طهارة من غضاضة الوقوف على باب الغير، ونماء بما يلحق صاحب البيت من الاستحياء عند امتثال أمره في الرجوع مع ما في ذلك عند الله.
ولما كان التقدير: فالله يجازيكم على امتثال أمره، وكان الإنسان قد يفعل في البيوت الخالية وغيرها من الأمور الخفية ما يخالف ما أدب به سبحانه مما صورته مصلحة وهو مفسدة، عطف على ذلك المقدر قوله: ﴿والله﴾ أي الملك الأعلى. ولما كان المراد المبالغة في العلم، قدم الجار ليصير كما إذا سألت شخصاً عن علم شيء فقال لك: ما
251
أعلم غيره، فقال: ﴿بما تعملون﴾ أي وإن التبس أمره على أحذق الخلق ﴿عليم*﴾ لا يخفى عليه شيء منه وإن دق، فإياكم ومشتبهات الأمور، فإذا وقفتم للاستئذان فلا تقفوا تجاه الباب، ولكن على يمينه أو يساره، لأن الاستئذان إنما جعل من أجل البصر، وتحاموا النظر إلى الكوى التي قد ينظر منها أحد من أهل البيت ليعرف من على الباب: هل هو ممن يؤنس به فيؤذن له، أو لا فيرد، ونحو هذا من أشكاله مما لا يخفى على متشرع فطن، يطير طائر فكره في فسيح ما أشار إليه مثل قوله صلى الله عليه السلام: «إذا حدث الرجل فالتفت فهي أمانة» وراه أحمد وأبو داود والترمذي عن جابر رضي الله عنه.
252
ولما كان من الأماكن التي قد لا يوجد بها أحد ما يباح الدخول إليه لخلوه أو عدم اختصاص النازل به كالخانات والربط، أتبع ما تقدم التعريف بأنه لم يدخل في النهي فقال مستأنفاً: ﴿ليس عليكم جناح﴾ أي ميل بلوم أصلاً ﴿أن تدخلوا بيوتاً﴾ كالخانات والربط ﴿غير مسكونة﴾ ثم وصفها بقوله: ﴿فيها متاع﴾
252
أي استمتاع بنوع انتفاع كالاستظلال ونحوه ﴿لكم﴾ ويدخل فيه المعد للضيف إذا أذن فيه صاحبه في أول الأمر ووضع الضيف متاعه فيه، لأن الاستئذان لئلا يهجم على ما يراد الاطلاع عليه ويراد طيه عن علم الغير، فإذا لم يخف ذلك فلا معنى للاستئذان.
ولما كان التقدير: فالله لا يمنعكم مما ينفعكم، ولا يضر غيركم، عطف عليه قوله: ﴿والله﴾ أي الملك الأعظم ﴿يعلم﴾ في كل وقت ﴿ما تبدون﴾ وأكد بإعادة الموصول فقال: ﴿وما تكتمون*﴾ تحذيراً من أن تزاحموا أحداً في مباح بما يؤذيه ويضيق عليه، معتلين بأصل الإباحة، أو يؤذن لكم في منزل فتبطنوا فيه الخيانة فإنه وإن وقع الاحتراز من الخونة بالحجاب فلا بد من الخلطة لما بني عليه الإنسان من الحاجة إلى العشرة، ولذلك اتصل به على طريق الاستئناف قوله تعالى؛ مقبلاً على أعلى خلقه فهماً وأشدهم لنفسه ضبطاً دون بقيتهم، إشارة إلى صعوبة الأمر وخطر المقام، مخوفاً لهم بالإعراض عنهم، بالتردي برداء الكبر، والاحتجاب في مقام القهر: ﴿قل للمؤمنين﴾ فعبر بالوصف إشارة إلى عدم القدرة على الاحتراز من المخالط بعد الخلطة، وأنه لا يعف فيها إلا من رسخ الإيمان في قلبه
253
لخفاء الخيانة حينئذ بخلاف ما سبق في المنع من الدخول حيث كان التعبير ب «الذين آمنوا» ﴿يغضوا﴾ أي يخفضوا ولا يرفعوا، بل يكفوا عما نهوا عنه.
ولما كان الأمر في غاية العسر، قال: ﴿من أبصارهم﴾ بإثبات من التبعيضية إشارة إلى العفو عن النظرة الأولى، وأن المأخوذ به إنما هو التمادي، ولما كان البصر يريد الزنى قدمه.
ولما كان حفظ الفرج لخطر المواقعة أسهل من حفظ البصر، ولأنه لا يفعل به من غير اختبار، حذف «من» لقصد العموم فقال: ﴿ويحفظوا فروجهم﴾ أي عن كل حرام من كشف وغيره ولم يستثن الزوجة وملك اليمين استغناء عنه بما سبق في المؤمنون، ولأن المقام للتهويل في أمر للحفظ والتشديد، ورغب في ذلك بتعليله بقوله: ﴿ذلك﴾ أي الأمر العالي العظيم من كل من الغض والحفظ الذي أمرتهم به ﴿أزكى لهم﴾ أي أقرب إلى أن ينموا ويكثروا ويطهروا حساً ومعنى، ويبارك لهم، أما الحسي فهو أن الزنى مجلبة للموت بالطاعون، ويورث الفقر وغيرهما من البلايا «ما من قوم ظهر فيهم الزنى إلا أخذوا بالسنة»
رواه أحمد عن عمرو بن العاص رضي الله عنه،
254
ورواه عنه أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الحكم في كتاب الفتوح ولفظه «ما من قوم يظهر فيهم الزنى إلا أخذوا بالفنا وما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب الزنى يورث الفقر» رواه البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما وإذا ظهر الزنى ظهر الفقر والمسكنة وراه ابن ماجة والبزار وهذا لفظه عن ابن عمر رضي الله عنهما - والبيهقي ولفظه: «الزنى يورث الفقر» وفي رواية له «ما ظهرت الفاحشة في قوم قط يعمل بها فيهم علانية إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم» ورواه عنه ابن إسحاق في السيرة في سرية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى دومة الجندل ولفظه: «إنه لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا ولم ينقضوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجورالسلطان، ولم يمنعوا الزكاة من أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، فلولا البهائم ما مطروا، وما نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدو من غيرهم، فأخذ بعض ما كان في أيديهم، وما
255
لم يحكم أئمتهم بكتاب الله وتجبروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» وفي الترغيب للمنذري عن ابن ماجة والبزار والبيهقي عنه رضي الله عنه نحو هذا اللفظ، وفي آخر السيرة عن أبي بكر رضي الله عنه في خطبته عندما ولي الخلافة: لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء. وفي الموطأ عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال «ما ظهر الغلول فب قوم قط إلا ألقى في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنى في قوم قط إلا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم قط المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير الحق إلا فشا فيهم الدم، ولا ختر قوم بالعهد إلا سلط عليهم العدو» وروى الطبراني في الأوسط عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا كثرت الفاحشة كثر الفساد، وجار السلطان» وفيه: «أمثلهم في ذلك الزمان المداهن. إذا ظهر الربا والزنى في قرية آذن الله في هلاكها» رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما،
256
وأما المعنوي فروى الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: «ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها»
قال ابن كثير: وروي هذا مرفوعاً عن ابن عمر وحذيفة وعائشة رضي الله عنهم ولكن في أسانيدها ضعف. وساق له شاهداً من الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ: «إن النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، من تركها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه» فعلم من ذلك أن من تخلق بما أمره الله هنا كان قلبه موضعاً للحكمة، وفعله أهلاً للنجح، وذكره مقروناً بالقبول.
ولما كان الزكاء يتضمن التكثير والتطهير، وكان الكلام هنا في غض البصر، وكان ظاهراً جداً في الطهارة، لم يدع داع إلى التأكيد بالتصريح بالطهارة، وأما آية البقرة فلما كانت في العضل، وكان لا يكون إلا عن ضغائن وإحن فكان الولي رما ظن أن منعها عمن عضلها عنه أطهر له ولها. أكد العبارة بفعل الزكاء بالتصريح بما
257
أفهمه من الطهارة.
ولما كان المقام صعباً لميل النفوس إلى الدنايا واتباعها للشهوات، علل هذا الأمر مرغباً ومرهباً بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي لا يخفى عليه شيء لما له من الإحاطة الكاملة ﴿خبير﴾ ولما كان وازع الحياء مع ذلك مانعاً عظيماً فلا يخالف إلا بمعالجة وتدرب، عبر بالصنعة فقال: ﴿بما يصنعون*﴾ أي وإن تناهوا في إخفائه، ودققوا في تدبير المكر فيه.
ولما بدأ بالقومة من الرجال، ثنى بالنساء فقال: ﴿وقل للمؤمنات﴾ فرغب أيضاً بذكر هذا الوصف الشريف ﴿يغضضن﴾ ولما كان المراد الغض عن بعض المبصرات وهم المحارم قال: ﴿من أبصارهن﴾ فلا يتبعنها النظر إلى منهي عنه رجل أو غيره، وأجابوا عن حديث عائشة رضي الله عنها في النظر إلى لعب الحبشة في المسجد باحتمال أنها كانت دون البلوغ لأنها قالت: فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو. ﴿ويحفظن فروجهن﴾ عما لا يحل لهن من كشف وغيره.
ولما كان النساء حبائل الشيطان، أمرن بزيادة الستر بقوله:
258
ناهياً عن الزينة ليكون النهي عن مواقعها من الجسد أشد وأولى ﴿ولا يبدين زينتهن﴾ أي كالحلي والفاخر من الثياب فكيف بما وراءها ﴿إلا ما ظهر منها﴾ أي كان بحيث يظهر فيشق التحرز في إخفائه فبدا من غير قصد كالسوار والخاتم والكحل فإنها لا بد لها من مزاولة حاجتها بيدها ومن كشف وجهها في الشهادة ونحوها.
ولما كان أكثر الزينة في ألأعناق والأيدي والأرجل، وكان دوام ستر الأعناق أيسر وأمكن، خصها فقال: ﴿وليضربن﴾ من الضرب، وهو وضع الشيء بسرعة وتحامل، يقال: ضرب في عمله: أخذ فيه، وضرب بيده إلى كذا: أهوى، وعلى يده: أمسك، وضرب الليل بأوراقه: أقبل، والضارب: الليل الذي ذهبت ظلمته يميناً وشمالاً وملأت الدنيا، والضارب: الطويل من كل شيء والمتحرك.
ولما كان المقصود من هذا الضرب بعض الخمار، وهو ما لا صق الجيب منه، عداه بالباء فقال: ﴿بخمرهن﴾ جمع خمار، وهو منديل يوضع على الرأس، وقال أبو حيان: وهو المقنعة التي تلقي المرأة على رأسها.
﴿على جيوبهن﴾ جمع جيب، وهو خرق الثوب الذي
259
يحيط بالعنق، فالمعنى حينئذ يهوين بها إلى ما تحت العنق ويسبلنها من جميع الجوانب ويطولنها ستراً للشعر والصدر وغيرهما مما هنالك، وكأنه اختير لفظ الضرب إشارة إلى قوة القصد للستر وإشارة إلى العفو عما قد يبدو عند تحرك الخمار عند مزاولة شيء من العقل؛ قال أبو حيان: وكان النساء يغطين رؤوسهن بالأخمرة ويسدلنها من وراء الظهور فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر عليهن. وروى البخاري في التفسير عن عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما نزلت ﴿وليضربن بخمرهن﴾ شققن مروطهن - وفي رواية: أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي - فاختمرن بها، يعني تسترن ما قدام، والإزار هنا الملاء.
ولما كان ذكر الجيب ربما أوهم خصوصاً في الزينة، عم بقوله: ﴿ولا يبدين﴾ أو كرره لبيان من يحل الإبداء له ومن لا يحل، وللتأكيد ﴿زينتهن﴾ أي الخفية في أي موضع كانت من عنق أو غيره،
260
وهي ما عدا الوجه والكفين، وظهور القدمين، بوضع الجلباب، وهو الثوب الذي يغطي الثياب والخمار قاله ابن عباس رضي الله عنهما. ﴿إلا لبعولتهن﴾ أي أزواجهن، فإن الزينة لهم جعلت. قال أبو حيان: ثم ثنى بالمحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة، ولكن تختلف مراتبهم في الحرمة بحسب ما في نفوس البشر فالأب والأخ ليس كابن الزوج - انتهى. فقال تعالى: ﴿أو آبائهن﴾ أي فإن لهم عليهن من الشفقة ما يمنع النظر بالشهوة ومثلهم في هذا المعنى سواء الأعمام والأخوال وكل منهما والد مجازاً بدليل ﴿وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل﴾ ﴿أو آباء بعولتهن﴾ فإن رحمتهم لأولادهم مانعة ﴿أو أبنائهن﴾ فإن لهن عليهن من الهيبة ما يبعد عن ذلك ﴿أو أبناء بعولتهن﴾ فإن هيبة آبائهم حائلة ﴿أو إخوانهن﴾ فإن لهم من الرغبة في صيانتهن عن العار ما يحفظ من الريبة ﴿أو بني﴾ عدل به عن جمع التكسير لئلا يتوالى أربع مضمرات من غير فاصل حصين فتنقص عذوبته ﴿إخوانهن أو بني أخواتهن﴾ فإنهم كأبنائهن ﴿أو نسائهن﴾ أي المسلمات، وأما غير المسلمات فحكمهن حكم الرجال؛
261
روى سعيد بن منصور في سننه عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى عبيدة رضي الله عنه ينهى عن دخول الذميات الحمام مع المسلمات، وقال: فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها، وفي مسند عبد بن حميد نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما. ﴿وأما ما ملكت أيمانهن﴾ أي من الذكور والإناث وإن كن غير مسلمات لما لهن عليهن من الهيبة، وحمل ابن المسيب الآية على الإماء فقط؛ قال أبو حيان: قال الزمخشري: وهذا هو الصحيح، لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها خصيّاً كان أو فحلاً، وعن ميسون بنة بحدل الكلابية أن معاوية رضي الله عنه دخل عليها ومعه خصي فتقنعت منه فقال: هو خصي، فقالت: يا معاوية! أترى المثلة به تحلل ما حرم الله - انتهى.
وقصة مابور ترد هذا، وقوله: الكلابية، قال شيخنا في تخريج الكشاف: صوابه: الكلبية بإسكان اللام. ﴿أو التابعين﴾ أي للخدمة أو غيرها ﴿غير أولي الإربة﴾ أي الحاجة إلى الاستمتاع بالنساء ﴿من الرجال﴾ كالشيوخ الفانين ومن بهم علة منعت شهوتهم، وكذا من كان ممسوحاً لقصة مابور ﴿أو﴾ من
262
﴿الطفل﴾ أي جنسه، والطفل الصغير ما لم يبلغ الحلم أو خمس عشرة سنة، وهو في الأصل: الرخص الناعم من كل شيء، وكأنه سمي بذلك لأنه يخرج ملتبساً بالتراب الذي تأكله الحامل، قال في القاموس: وطفل النبت كفرح وطفل بالضم تطفيلاً: أصابه التراب، والطفال، كغراب وسحاب: الطين اليابس. قال القزاز: ويسميه أهل نجد الكلام والعامة تقول لجنس منه: طفل، ﴿الذين لم يظهروا﴾ أي لم يعلوا بالنظر المقصود للاطلاع ﴿على عورات النساء﴾ لعم بلوغ سن الشهوة لذلك.
ولما نهى عن الإظهار، نبه على أمر خفي منه فقال: ﴿ولا يضربن بأرجلهن﴾ أي والخلاخيل وغيرها من الزينة فيها. ولما كان ذلك لمطلق الإعلام، بناه للمفعول فقال: ﴿ليعلم ما يخفين﴾ أي بالساتر الذي أمرن به ﴿من زينتهن﴾ بالصوت الناشىء من الحركة عند الضرب المذكور، وفي معنى ذلك التطيب، والنهي عن ذلك يفهم النهي عن موضعه من الجسد من باب الأولى.
ولما أنهى سبحانه ما أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتقدم فيه إلى الرجال والنساء، وكان من المعلوم أن العبد الحقير المجبول على الضعف
263
الموجب للتقصير لن يقدر على أن يقدر المولى العلي الكبير حق قدره وإن أبلغ في الاجتهاد وزاد في التشمير، أتبعه التلطف بالإقبال عليهم في الأمر بإقبالهم إليه إشارة إلى أن الأمر في غاية الصعوبة، وأن الإنسان لكونه محل الزلل والتقصير - وإن اجتهد - لا يسعه إلا إحسان الرحيم الرحمن، فقال: ﴿وتوبوا إلى الله﴾ أي ارجعوا إلى طاعة الملك الأعلى مهما حصل منكم زيغ كما كنتم تفعلونه في الجاهلية ﴿جميعاً﴾ رجالكم ونسائكم ﴿أيُّه المؤمنون﴾ والتعبير بالوصف إشارة إلى علو مقام التوبة بأنه لا يقدر على ملازمتها إلا راسخ القدم في الإيمان، عارف بأنه وإن بالغ في الاجتهاد واقع في النقصان، وهذا الأمر للوجوب، وإذا كان للراسخين في الإيمان فمن دونه من باب الأولى ﴿لعلكم تفلحون*﴾ أي لتكونوا على رجاء من الفوز بالمطلوب الذي مضى أول سورة المؤمنون تعليقه بتلك الأوصاف التي منها رعاية الأمانة ولا سيما في الفروج؛ قال الغزالي في كتاب التوبة من الإحياء: إن الإنسان من حيث جبل على النقص لا يخلو عما يوجب عليه التوبة، فإن خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح فلا يخلو عن الهم بالذنوب بالقلب، فإن خلا عنه فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله، فإن خلا عنه فلا يخلو عن غفلة
264
وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله، وكل ذلك نقص، وله أسباب، وترك أسبابه بالتشاغل بأضدادها رجوع عن طريق إلى ضده، والمراد بالتوبة الرجوع، ولا يتصور الخلو في حق الآدمي عن هذا النقص، وإنما يتفاوتون في المقادير.
265
ولما تقدم سبحانه إلى عباده في الأمور العامة للأحوال والأشخاص في الزنى وأسبابه، فحكم وقرر، ووعظ وحذر، أتبعه أسباب العصمة التي هي نعم العون على التوبة فقال مرشداً: ﴿وأنكحوا الأيامى﴾ مقلوب أيايم جمع أيم، وزن فعيل من آم، عينه ياء، وهو العزب ذكراً كان أو أنثى أو بكراً ﴿منكم﴾ أي من أحراركم، وأغنى لفظ الأيم عن ذكر الصلاح لأنه لا يقال لمن قصر عن درجة النكاح ﴿والصالحين﴾ أي للنكاح ﴿من عبادكم وإمائكم﴾ أي أرقائكم الذكور والإناث، احتياطاً لمصالحهم وصوناً لهم عن الفساد امتثالاً لما ندب إليه حديث «تناكحوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة».
ولما كان للزواج كلف يهاب لأجلها، لما طبع الآدمي عليه من الهلع في قلة الوثوق بالرزق، أجاب من كأنه قال: قد يكون الإنسان
265
غير قادر لكونه معدماً، بقوله: ﴿إن يكونوا﴾ أي كل من ذكر من حر أو عبد، والتعبير بالمضارع يشعر بأنه قد يكون في النكاح ضيق وسعة ﴿فقراء﴾ أي من المال ﴿يغنهم الله﴾ أي الذي له الكمال كله، إذا تزوجوا ﴿من فضله﴾ لأنه قد كتب لكل نفس رزقها فلا يمنعكم فقرهم من إنكاحهم، وعن ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى. وقال البغوي: قال عمر رضي الله عنه: عجبت لمن يبتغي الغنى في بغير النكاح - وقرأ هذه الآية. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: التمسوا الغنى في النكاح، وتلا هذه الآية ابن جرير. ولأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: «ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي
266
في سبيل الله» ويؤيده ما في الصحيح من حديث الواهبة نفسها حيث زوجها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن لم يجد ولا خاتماً من حديد.
ولما كان التقدير: فالله ذو فضل عظيم، عطف عليه قوله: ﴿والله﴾ أي ذو الجلال والإكرام ﴿واسع عليم*﴾ أي فهو بسعة قدرته يسوق ما كتبه للمرأة على يد الزوج، وبشمول علمه يسبب أسبابه. ولما أمر سبحانه بما يعصم من الفتنة من غض البصر ثم بما يحصن من النكاح، وجراً عليه بالوعد بالإغناء، وكان هذا الوعد فيما بعد النكاح، وقدم الكلام فيه ترغيباً للإنسان في التوكل والإحصان، وكان قلبه ما قد يتعذر لأجله إما بعدم وجدان المهر وما يطلب منه تقديمه، أو بعدم رضى العبد وغيره يكون ولده رقيقاً أو غير ذلك، أتبعه قوله حاثاً على قمع النفس الأمارة عند العجز: ﴿وليستعفف﴾ أي يبالغ في طلب العفة وإيجادها عن الحرام ﴿الذين لا يجدون نكاحاً﴾ أي قدرة عليه وباعثاً إليه ﴿حتى يغنيهم الله﴾ أي الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال ﴿من فضله﴾ في ذلك الذي
267
تعذر عليهم النكاح بسببه.
ولما كان من جملة الموانع كما تقدم خوف الرق على الولد لمن له من الرقيق همة علية، ونفس أبية، أتبعه قوله: ﴿والذين يبتغون﴾ أي يطلبون طلباً عازماً ﴿الكتاب﴾ أي المكاتبة ﴿مما ملكت أيمانكم﴾ ذكراً كان أو أنثى؛ وعبر ب «ما» إشارة إلى ما في الرقيق من النقص ﴿فكاتبوهم﴾ أي ندباً لأنه معاوضة تتضمن الإرفاق على ما يؤدونه إليكم منجماً، فإذا أدوه عتقوا ﴿إن علمتم فيهم خيراً﴾ أي تصرفاً صالحاً في دينهم ودنياهم لئلا يفسد حالهم بعد الاستقلال بأنفسهم؛ قال ابن كثير: وروى أبو داود في كتاب المراسيل عن يحيى ابن أبي كثير قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن علمتم فيهم حرفة ولا ترسلوهم كلاًّ على الناس» انتهى. ولعله عبر بالعلم في موضع الظن لذلك ﴿وءاتوهم﴾ وجوباً إذا أدوا إليكم ﴿من مال الله﴾ أي الذي عم كل شيء بنعمته، لأنه الملك العظم ﴿الذي آتاكم﴾ ولو بحط شيء من مال الكتابة.
ولما أمر سبحانه بالجود في أمر الرقيق تارة بالنفس، وتارة
268
بالمال، نهاهم عما ينافيه فقال: ﴿ولا تكرهوا فتياتكم﴾ أي إماءكم، ولعله عبر بلفظ الفتوة هزاً لهم إلى معالي الأخلاق، وتخجيلاً من طلب الفتوة من أمة ﴿على البغاء﴾ أي الزنى لتأخذوا منهن مما يأخذنه من ذلك.
ولما كان الإكراه على الزنى لا يصح إلا عند العفة، وكان ذلك نادراً من أمة، قال: ﴿إن﴾ بأداة الشك ﴿أردن تحصناً﴾ وفي ذلك زيادة تقبيح للإكراه على هذا الفعل حيث كانت النساء مطلقاً يتعففن عنه مع أنهن مجبولات على حبه، فكيف إذا لم يمنعهن مانع خوف أو حياء كالإماء، فكيف إذا أذن لهن فيه. فكيف إذا ألجئن إليه، وأشار بصيغة التفعل وذكر الإرادة إلى أن ذلك لا يكون إلا عن عفة بالغة، وزاد في تصوير التقبيح بذكر علة التزام هذا العار في قوله: ﴿لتبتغوا﴾ أي تطلبوا طلباً حثيثاً فيه رغبة قوية بإكراههن على الفعل الفاحش ﴿عرض الحياة الدنيا﴾ فإن العرض متحقق فيه الزوال، والدنيا مشتقة من الدناءة.
ولما نهى سبحانه عن الإكراه، رغب الموالي في التوبة عند المخالفة
269
فيه فقال: ﴿ومن يكرههن﴾ دون أن يقول: وإن أكرهن، وعبر بالمضارع إعلاماً بأن يقبل التوبة ممن خالف بعد نزول الآية، وعبر بالاسم العلم في قوله: ﴿فإن الله﴾ إعلاماً بأن الجلال غير مؤيس من الرحمة، ولعله عبر بلفظ «بعد» إشارة إلى العفو عن الميل إلى ذلك الفعل عند مواقعته إن رجعت إلى الكراهة بعده، فإن النفس لا تملك بغضه حينئذ، فقال: ﴿من بعد إكراههن غفور﴾ أي لهن وللموالي، يستر ذلك الذنب إن تابوا ﴿رحيم*﴾ بالتوفيق للصنفين إلى ما يرضيه.
270
ولما أتم سبحانه هذه الآيات في براءة عائشة رضي الله عنها ومقدماتها وخواتيمها، قال عاطفاً على قوله أولها ﴿وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون﴾ :﴿ولقد أنزلنا﴾ أي بما لنا من العظمة ترغيباً لكم وترهيباً ﴿إليكم﴾ أي لتتعظوا ﴿آيات مبينات﴾ مفصل فيها الحق من الباطل، موضح بالنقل والعقل بحيث صارت لشدة بيانها تبين هي لمن تدبرها طرق الصواب كما أوضحنا ذلك لمن يتدبره
270
في براءة عائشة رضي الله تعالى عنها وما تقدمها وتتبعها مما هو صلاحكم في الدين والدنيا ﴿ومثلاً﴾ أي وشبهاً بأحوالكم ﴿من الذين خلوا من قبلكم﴾ أي من أحوالهم بما أنزل الله إليهم في التوراة في أحوال المخالطة والزنى وقذف الأبرياء كيوسف ومريم عليهما السلام وتبرئتهم كما قدمت كثيراً منه في سورة المائدة وغيرها مما صار في حسن سبكه في هذا الكتاب، وبديع حبكه عند أولي الألباب، كالأمثال السائرة، والأفلاك الدائرة ﴿وموعظة للمتقين*﴾ بما فيه من الأحكام والفواصل المنبئة عن العلل المذكرة بما يقرب من الله زلفى، وينور القلب، ويوجب الحب والألفة، ويذهب وحر الصدر؛ ثم علل إنزاله لذلك على هذا السنن الأقوم، والنظم المحكم، بقوله: ﴿الله﴾ أي الذي أحاطت قدرته وعلمه ﴿نور﴾ أي ذو نور ﴿السماوات والأرض﴾ لأنه مظهرهما بإيجادهما وإيجاد أهلهما وهاديهم بالتنوير بالعلم الجاعل صاحبه بهدايته إلى الصراط المستقيم كالماشي في نور الشمس، لا يضع شيئاً في غير موضعه كما
271
أن الماشي في النور لا يضع رجلاً في غير موضعها اللائق بها، ولا شك أن النور هو ما به تظهر به الأشياء وتنكشف، فهو سبحانه مظهرهما، وهما وما فيهما دال على ظهوره، وأنه تام القدرة شامل العلم حاوٍ لصفات الكمال، منزه عن شوائب النقص، وفي آخر الشورى ما ينفع جداً هنا.
ولما كان من المحال أن يضل عن نور هو ملء الخافقين أحد من سكانهما، بين وجه خفائه مع ظهور ضيائه واتساعه وقوة شعاعه، حتى ضل عنه أكثر الناس، فقال مبيناً بإضافة النور إلى ضميره أن الإخبار عنه بالنور مجاز لا حقيقة، منبهاً على أن آياته الهادية تلوح خلال الشبهات الناشئة عن الأوهام الغالبة على الخلق التي هي كالظلمات ﴿مثل نوره﴾ أي الذي هدى به إلى سبيل الرشاد في خفائه عن بعض الناس مع شدة ظهوره، وهو آياته الدالة عليه من أقواله وأفعاله ﴿كمشكاة﴾ أي مثل كة أي خرق لكن غير نافذ في جدار؛ قال البغوي: فإن كان لها منفذ فهي كوة.
ولما دخل المشكاة في هذا المثل خفياً فقدمها تشويقاً إلى شرحه، أتبعه قوله شارحاً له: ﴿فيها مصباح﴾ أي سراج ضخم ثاقب.
272
وهو الذبالة - أي الفتيلة - الضخمة المتقدة، من الصباح الذي هو نور الفجر، والمصباح الذي هو الكوكب الكبير؛ قال البغوي: وأصله الضوء - انتهى.
فإذا كان في المشكاة اجتمعت أشعته فكان أشد إنارة، ولو كان في فضاء لافترقت أشعته؛ وأتى ببقية الكلام استئنافاً على تقدير سؤال تعظيماً له فقال: ﴿المصباح في زجاجة﴾ أي قنديل.
ولما كان من الزجاج ما هو في غاية الصفاء، بين أن هذه منه فقال: ﴿الزجاجة كأنها﴾ أي في شدة الصفاء ﴿كوكب﴾ شبهه بها دون الشمس والقمر لأنهما يعتريهما الخسوف ﴿دريّ﴾ أي متلألىء بالأنوار فإنه إذا كان في زجاجة صافية انعكست الأشعة المنفصلة عنه من بعض جوانب الزجاجة إلى بعض لما فيها من الصفاء والشفيف فيزداد النور ويبلغ النهاية كما أن شعاع الشمس إذا وقع على ماء أو زجاجة صافية تضاعف النور حتى أنه يظهر فيما يقابله مثل ذلك النور؛ والدريّ - قال الزجاج: مأخوذ من درأ إذا اندفع منقضاً فتضاعف نوره.
273
ولما كان من المصابيح أيضاً ما يكون نوره ضعيفاً بين أن هذا ليس كذلك فقال: ﴿يوقد﴾ أي المصباح، بأن اشتد وقده. ولما كان هذا الضوء يختلف باختلاف ما يتقد فيه، فإذا كان دهناً صافياً خالصاً كان شديد، وكانت الأدهان التي توقد ليس فيها ما يظهر فيه الصفاء كالزيت لأنه ربما بلغ في الصفاء والرقة مبلغ الماء مع زيادة بياض وشعاع يتردد في أجزائه، قال: ﴿من شجرة﴾ أي زيتها ﴿مباركة﴾ أي عظيمة الثبات والخيرات يطيب منبتها ﴿زيتونة﴾.
ولما كان الزيت يختلف باختلاف شجرته في احتجابها عن الشمس وبروزها لها، لأن الشجر ربما ضعف وخبث ثمره بحائل بينه وبين الشمس، بين أن هذه الشجرة ليست كذلك فقال: ﴿لا شرقية﴾ أي ليست منسوبة إلى الشرق وحده، لكونها بحيث لا يتمكن منها
274
الشمس إلا عند الشروق لكنها في لحف جيل يظلها إذا تضيفت الشمس للغروب ﴿ولا غربية﴾ لأنها في سفح جبل يسترها من الشمس عند الشروق، بل هي بارزة للشمس من حين الشروق إلى وقت الغروب، ليكون ثمرها أنضج فيكون زيته أصفى، قال البغوي: هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عكرمة والكلبي والأكثرين. فهي لزكاء عنصرها، وطهارة منبتها، وبروزها للشمس والرياح، بحيث ﴿يكاد زيتها﴾ لشدة صفائه ﴿يضيء ولو لم تمسسه نار﴾.
ولما علم من هذا أن لهذا الممثل به أنواراً متظاهرة بمعاونة المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت، فلم يبق مما يقوي نوره ويزيده إشارقاً، ويمده بإضاءة نقية، قال في الممثل له: ﴿نور على نور﴾ أي أن العلم الرباني عظيم الاتساع كلما سرحت فيه النظر، وأطلقت عنان الفكر، أتى بالغرائب ولا يمكن أن يوقف له على حد.
ولما كان الإخبار عن مضاعفة هذا النور موجباً لاعتقاد أنه لا يخفى عن أحد، أشار إلى أنه - بشمول علمه وتمام قدرته - يعمى عنه من يريد مع شدة ضيائه، وعظيم لألائه، فقال: ﴿يهدي الله﴾ أي
275
بعظمته المحيطة بكل شيء ﴿لنوره من يشاء﴾ كما هدى الله من هدى من المؤمنين لتبرئة عائشة رضي الله عنها قبل إنزال براءتها.
بكون الله اختارها لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يختار له إلا طيباً طاهراً وما شاكل ذلك، وعلم أن قسيم ذلك «ويضل الله عن نوره من يشاء» وعلم أن وجه كونه ضل عنه أكثر الناس إنما هو ستر القادر له بنقص في حس من يريد سبحانه إضلاله، لا لنقص في النور كما قال الشاعر:
والنجم تستصغر الأبصار صورته فالذنب للطرف لا للنجم في الصغر
كما سيأتي إيضاح ذلك عند قوله تعالى ﴿ألم تر إلى ربك كيف مد الظل﴾ [الفرقان: ٢٥]، ومر آنفاً في حديث علي رضي الله عنه في الأرواح ما ينفع ههنا.
ولما كان كأنه قيل: ضرب الله هذا المثل لكم لتدبروه فتنفعوا به، عطف عليه قوله: ﴿ويضرب الله﴾ أي بما له من الإحاطة بكمال القدرة وشمول العلم ﴿الأمثال للناس﴾ لعلمه
276
بها، تقريباً للأفهام، لعلهم يهتدون ﴿والله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال ﴿بكل شيء﴾ أي منها ومن غيرها ﴿عليم*﴾ يبين كل شيء بما يسهل سبيله فثقوا بما يقول، وإن لم تفهموه أنفسكم وأمعنوا النظر فيه يفتح لكم سبحانه ما انغلق منه.
277
ولما كان كأنه قيل: فأي شيء يكون هذه المشكاة؟ قال شافياً على هذا السؤال: ﴿في بيوت﴾ أي في جدران بيوت، فجمع دلالة على أن المراد بالمشكاة الجنس لا الواحد، وفي وحدتها ووحدة آلات النور إشارة إلى عزته جداً ﴿أذن الله﴾ أي مكن بجلاله فأباح وندب وأوجب ﴿أن ترفع﴾ حساً في البناء، ومعنى بإخلاصها للعمل الصالح، من كل رافع أذن له سبحانه في ذلك، فعلى المرء إذا دخلها أن يتحصن من العدو بما رواه أبو دواد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا دخل المسجد قال: «أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم» قال عقبة بن مسلم: فإذا قال ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر يوم.
277
﴿ويذكر﴾ من كل ذاكر أذن له سبحانه ﴿فيها اسمه﴾ أي ذكراً صافياً عن شوب، وخالصاً عن غش ﴿يسبح﴾ أي يصلي وينزه ﴿له﴾ أي خاصة ﴿فيها بالغدو﴾ أي الإبكار، بصلاة الصبح ﴿والآصال*﴾ أي العشيات، ببقية الصلوات، فيفتحون أعمالهم ويختمونها بذكره ليحفظوا فيما بين ذلك ويبارك لهم فيما يتقلبون فيه، وجمع الأصيل لتحقق أن المراد الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ قال البغوي: لأن اسم الأصيل يجمعها. ﴿رجال﴾ أيّ رجال ﴿لا تلهيهم تجارة﴾ أي ببيع أو شرى أو غيرهما، يظهر لهم فيها ربح.
ولما كان الإنسان قد يضطر إلى الخروج بالبيع عن بعض ما يملك للاقتيات بثمنه أو التبلغ به إلى بعض المهمات التي لا وصول له إليها إلا به، أو بتحصيل ما لا يملك كذلك مع أن البيع في التجارة أيضاً هو الطلبة الكلية لأنه موضع تحقق الربح الذي لا صبر عنه، قال: ﴿ولا بيع﴾ أي وإن لم يكن على وجه التجارة، والبيع يطلق بالاشتراك على التحصيل الذي هو الشرى وعلى الإزالة ﴿عن ذكر الله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام مطلقاً بصلاة وغيرها، فهم
278
كل وقت في شهود ومراقبة لمن تعرف إليهم بصفات الكمال ﴿و﴾ لا يلهيهم ذلك عن ﴿إقام الصلاة﴾ التي هي طهرة الأرواح، أعادها بعد ذكرها بالتسبيح تصريحاً بها تأكيداً لها وحثاً على حفظ وقتها لأنه من جملة مقوماتها وكذا جميع حدودها ولو بأوجز ما يكون من أدنى الكمال - بما أشار إليه حرف التاء إشعاراً بأن هذا المدح لا يتوقف على أنهى الكمال ﴿و﴾ لا عن ﴿إيتاء الزكاة﴾ التي هي زكاء الأشباح ونماؤها، وخص الرجال مع أن حضور النساء المساجد سنة شهيرة، إشارة إلى أن صلاتهن في بيوتهن أفضل لما روى أبو داود في سننه وابن خزيمة في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها» والمخدع: الخزانة. وللإمام أحمد والطبراني وابن خزيمة والحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن» ولأحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن أم حميدة امرأة أبي حميد الساعدي
279
رضي الله عنهما أنها قالت: يا رسول الله! إني أحب الصلاة معك، قال: «قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي»، قال: فأمرت فبني لها مسجد في أقصى بيت من بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل.
ولما وصف الرجال المذكورين ما وصفهم به، ذكر علة فعلهم لذلك زيادة في مدحهم فقال: ﴿يخافون يوماً﴾ وهو يوم القيامة، هو بحيث ﴿تتقلب فيه﴾ أي لشدة هوله، تقلباً ظاهراً - بما اشار إليه إثبات التاءين ﴿القلوب والأبصار*﴾ أي بين طمع في النجاة، وحذر من الهلاك، ويمكن أن يقال: المشاكي - والله أعلم - هي المساجد، والزجاج هي الرجال، والمصابيح هي القلوب، وتلألؤها ما تشتمل عليه من المعاني الحاملة على الذكر، والشجرة الموصوفة
280
هي مثال الأبدان، التي صفاها الله من الأدران، وطبعها على الاستقامة، والزيت مثال لما وضع سبحانه فيها من جميل الأسرار، وقد ورد في بعض الأخبار أن المساجد لأهل السماوات كالنجوم لأهل الأرض، وفي معجم الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله عنهما: «كمشكاة» قال: جوف محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي في قلبه، والشجرة إبراهيم عليه السلام، ﴿لا شرقية ولا غربية﴾ : لا يهودي ولا نصراني.
ولما بين تعالى أفعال هؤلاء الرجال التي أقبلوا بها عليه، وأعرضوا عما عداه، بين غايتهم فيها فقال: ﴿ليجزيهم﴾ أي يفعلون ذلك ليجزيهم ﴿الله﴾ أي في دار كرامته بعد البعث بعظمته وجلاله، وكرمه. وجماله ﴿أحسن ما عملوا﴾ أي جزاءه. ويغفر لهم سيئه ﴿ويزيدهم من فضله﴾ على العدل من الجزاء ما لم يستحقوه - كما هي عادة أهل الكرم.
ولما كان التقدير: فإن الله لجلاله، وعظمته وكماله، لا يرضى أن يقتصر في جزاء المحسن على ما يستحقه فقط، عطف عليه بياناً لأن قدرته وعظمته لا حد لها قولَه: ﴿والله﴾ أي
281
الذي لا كفوء له فلا اعتراض عليه ﴿يرزق من يشاء﴾. ولما كان المعنى: رزقاً يفوق الحد، ويفوت العد، عبر عنه بقوله: ﴿بغير حساب*﴾ فهو كناية عن السعة، ويجوز أن يكون مع السعة التوفيق، فيكون بشارة بنفي الحساب في الآخرة أيضاً أصلاً ورأساً، لأن ذلك المرزوق لم يعمل ما فيه درك عليه فلا يحاسب، أو يحاسب ولا يعاقب؛ فيكون المراد بنفي الحساب نفي عسره وعقابه، ويجوز أن يزاد الرزق كفافاً، وقد ورد أنه لا حساب فيه؛ روى ابن كثير من عند ابن أبي حاتم بسنده عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء منادٍ فنادى بصوت يسمع الخلائق: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم، ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون وهم قليل، ثم يحاسب سائر الخلائق».
ولما أخبر تعالى أن الذين اتبعوا نور الحق سبحانه، وصلوا - من جزائه بسبب ما هداهم إليه النور من الأعمال الصالحة - إلى حقائق هي في نفس الأمر الحقائق، أخبر عن أضدادهم الذين اتبعوا الباطل فحالت
282
جباله الوعرة الشامخة بين أبصار بصائرهم وبين تلك الأنوار بضد حالهم فقال: ﴿والذين كفروا﴾ أي ستروا بما لزموه من الضلال ما انتشر من نور الله ﴿أعمالهم﴾ كائنة في يوم الجزاء ﴿كسراب﴾ وهو ما تراه نصف النهار في البراري لاصقاً بالأرض يلمع كأنه ماء، وكلما قربت منه بعد حتى تصل إلى جبل ونحوه فيخفى؛ قال الرازي في اللوامع: والسراب شعاع ينكشف فينسرب ويجري كالماء تخيلاً؛ وقال ابن كثير: يرى عن بعد كأنه بحر طام، وإنما يكون ذلك بعد نصفف النهار، وأما الآل فإنما يكون أول النهار، يرى كأنه ماء بين السماء والأرض - انتهى. وقال البغوي: والآل ما ارتفع عن الأرض، وهو شعاع يرى بين السماء والأرض بالغدوات شبه الملاءة، يرفع فيه الشخوص، يرى فيه الصغير كبيراً، والقصير طويلاً، والرقراق يكون بالعشايا، وهو ما ترقرق من السراب، أي جاء وذهب. ﴿بقيعة﴾ جمع قاع، وهو أرض سهلة مطمئنة فد انفرجت
283
عنها الجبال والآكام - قاله في القاموس. وقال أبو عبد الله القزاز في ديوانه: القيعة والقاع واحد، وهما الأرض المستوية الملساء يحفن فيها التراب، الفراء: القيعة جمع قاع كجار وجيرة. وقال الصغاني في مجمع البحرين: والقاع: المستوي من الأرض، والجمع أقواع وأقوع وقيعان، صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها، والقيعة مثل قاع، وهو أيضاً من الواو، وبعضهم يقول: هو جمع؛ وقال ابن جرير: والقاع ما انبسط من الأرض واتسع، وفيه يكون السراب. وقال عبد الغافر الفارسي في مجمع الغرائب: قال الفراء: القاع: مستنقع الماء، والقاع: المكان المستوي الواسع في وطأة من الأرض يعلوه المطر فيمسكه ويستوي نباته، وجمعه قيعة وقيعان.
﴿يحسبه الظمآن﴾ أي العطشان الشديد العطش من ضعف العقل ﴿ماء﴾ فيقصده ولا يزال سائراً ﴿حتى إذا جاءه﴾ أي جاء الموضع الذي توهمه به ﴿لم يجده شيئاً﴾ من الأشياء، فلم يفده قصده غير زيادة العطش بزيادة التعب، وبعده عن مواطن الرجاء، فيشتد بأسه، وتنقطع حليه فيهلك،
284
وهكذا الكافر يظن أعماله تجديه شيئاً فإذا هي قد أهلكته.
ولما كان الله محيطاً بعلمه وقدرته بكل مكان قال: ﴿ووجد الله﴾ أي قدرة المحيط بكل شيء ﴿عنده﴾ أي عند ذلك الموضع الذي قصده لما تخيل فيه الخير فخاب ظنه ﴿فوفاه حسابه﴾ أي جزاء عمله على ما تقتضيه أعماله على حكم العدل، فلم يكفِ هذا الجاهل خيبة وكمداً أنه لم يجد ما قصده شيئاً كغيره من السراب حتى وجد عنده الزبانية تعتله إلى نار، لا يفك أسيرها، ولا يخمد سعيرها.
ولما كان سبحانه لا يحتاج إلى كاتب، ولا يدخل عليه لبس، ولا يصعب عليه ضبط شيء وإن كثر، ولا يقد أحد أن يتأخر عما يريده به بنوع حيلة، عبر عن ذلك بقوله: ﴿والله﴾ أي الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل ﴿سريع الحساب*﴾ أي لأنه لا يحتاج إلى حفظ بقلب، ولا عقد بأصابع، ولا شيء غير ذلك، ولكنه عالم بذلك كله قبل أن يعمله العبد وبعد عمله له، لا يعزب عنه منه ولا من غيره شيء.
285
ولما بين سبحانه بهذا المثال أنهم لم يصلوا إلى شيء غير التعب، المثمر للعطب، وكان هذا لا يفعله بنفسه عاقل، ضرب مثالاً
285
آخر بين الحامل لهم على الوقوع في ممثول الأول، وهو السير بغير دليل، الموقع في خبط العشواء كالماشي في الظلام، فقال عاطفاً على ﴿كسراب﴾ قوله: ﴿أو﴾ للتخيير، أي أعمالهم لكونها لا منفعة لها كسراب، ولكونها خالية عن نور الحق ﴿كظلمات﴾ أو للتنويع، فإنها إن كانت حسنة الظاهر فكالسراب، أو قبيحة فكالظلمات، أو للتقسيم باعتبار وقتين كالظلمات في الدنيا والسراب في الآخرة ﴿في بحر﴾ هو مثال قلب الكافر ﴿لجي﴾ أي ذي لج هو اللج، إشارة إلى أنه عميق لا يدرك له قرار، لأن اللج معظم الماء، ويكون جمع لجة أيضاً، والأوفق هنا أن يكون منسوباً إلى الجمع، لأنه أهول، والمقام للتهويل، قال القزاز في ديوانه: ولجة البحر معروفة وهو المرضع الذي لا ترى منه أرضاً ولا جبلاً، وبحر لجي: واسع اللجة، وجمع اللجة لجج ولج. ﴿يغشاه﴾ أي يغطي هذا البحر ويعلوه، أو يلحق الكائن فيه ﴿موج﴾ وهو مثل ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، كائن ﴿من فوقه﴾ أي هذا الموج ﴿موج﴾ آخر ﴿من فوقه﴾ أي هذا الموج الثاني المركوم على الأول ﴿سحاب﴾ قد غطى النجوم، وهو مثال الرين والختم والطبع
286
على القلب، فلا سماء تبصر ولا أرض.
ولما كان هذا أمراً مهولاً، أشار إلى هوله وتصويره بقوله: ﴿ظلمات﴾ أي من البحر والموجين والسحاب ﴿بعضها﴾. ولما كان المراد استغراق الجهة، لم يثبت الجار فقال: ﴿فوق بعض﴾ متراكمة، فلذلك يبعد كل البعد أن ينفذ فيها بصر، ولذلك قال: ﴿إذا أخرج﴾ أي الكائن في هذا البحر بدلالة المعنى وإن لم يجر له ذكر ﴿يده﴾ وهي أقرب شيء إليه ﴿لم يكد﴾ أي الكائن فيه ﴿يراها﴾ أي يقرب من ذلك فضلاً عن أن يكون، لأن الله قد ستر عنه كل نور بهذه الظلمات المتكاثفة، وهو مثال لعمله وأنه عدم لما تقدم من أن العدم كله ظلمة، فلا عمل له يكون شيئاً ولا يقرب من ذلك لأنه لا أهلية له بوجه ﴿ومن لم يجعل الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿له نوراً﴾ من الأنوار، وهو قوة الإيجاد والإظهار ﴿فما له من نور*﴾ أصلاً، لأنه سبحانه يستر نوره وإن كان ملء السماوات والأرض عمن يشاء بحجب الأهوية، لأنه قادر على ما يريد.
ولما كان قيام الأمور، وظهورها كل ظهور، إنما هو بالنور، حساً
287
بالإيجاد، ومعنى بجعل الموجودات آيات مرئيات تدل على موجدها، قال تعالى دالاً على ما أخبر به من أنه وحده نور السماوات والأرض، أي موجدهما بعلمه وقدرته ومن أن من كساه من نوره فإن في يوم البعث الذي يجازي فيه الخلق على ما يقتضيه العلم الذي هو النور في الحقيقة من مقادير أعمالهم، ومن أعراه من النور هلك: ﴿ألم تر﴾ أي تعلم يا رأس الفائزين برتبة الإحسان علماً هو في ثباته كما بالمشهادة ﴿أن الله﴾ الحائز لصفات الكمال ﴿يسبح له﴾ أي ينزه عن كل شائبة نقص لأجله خاصة بما له فيه من القدرة الكاملة ﴿من في السماوات﴾.
ولما كان مبنى السورة على شمول العلم والقدرة لم يؤكد فقال: ﴿والأرض﴾ أي هما وكل ما فيهما بلسان حاله، أو آلة مقاله، وعرف أن المراد العموم بعطفه بعض ما لا يعقل، وعبر ب «من» لأن المخبر به من وظائف العقلاء.
ولما كان أمر الطير أدل لأنه أعجب، قال مخصصاً: ﴿والطير صافات﴾ أي باسطات أجنحتها في جو السماء، لا شبهة في أنه لا يمسكهن إلا الله، وإمساكه لها في الجو مع أنها أجرام ثقيلة، وتقديره لها فيه على القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرته.
288
ولما كان العلم يوصف به ما هو سبب كالكتاب المصنف ونحوه، ويشتق للشيء اسم فاعل مما لابسه كما يقال: ليله قائم، ونهاره صائم، ﴿ولا تزال تطلع على خائنة منهم﴾ [المائدة: ١٣] وكانت أسطر القدرة مجودة على كل كائن، شديدة الوضوح في صفحات كل شيء، فكانت الكائنات بذلك دالة على خالقها وما له من كل صفة كمال، صح إطلاق العلم عليها وإسناده إليها فقال: ﴿كل﴾ أي من المخلوقات ﴿قد علم﴾ أي بما كان سبباً له من العلم بما فيه من الآيات الدالة المعلمة بما لموجده من صفات الكمال ﴿صلاته﴾ أي الوجه الذي به وصلته بمولاه ونسبته إليه ﴿وتسبيحه﴾ أي الحال الذي به براءة صانعه من الشين وتعاليه عن النقص، وقد صرحت بذلك ألسن أحوالها، نيابة عن بيان مقالها، هذا بقيامه صامتاً جامداً، وهذا بنموه مهتزاً رابياً، إلجاء وقهراً، وهذا بحركته بالإرادة، وقصد وجوه منافعه، وبعده عن أحوال مضاره بمجرد فطرته وما أودع في طبيعته، وهذا بنطقه وعقله، ونباهته وفضله، مع أن نسبة كل منهم إلى الأرض والسماء واحدة، ويدل على ذلك دلالة واضحة ما روى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن «النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن
289
نوحاً عليه السلام أوصى ابنه عند موته بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو كن حلقة مبهمة قصمتهن، وسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق الخلق وقال الغزالي في الإحياء: وروي» أن رجلاً جاء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: تولت عني الدنيا وقلت ذات يدي، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فأين أنت من صلاة الملائكة وتسبيح الخلائق وبها يرزقون»، قال فقلت: وما هي يا رسول الله؟ قال: «سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم أستغفر الله مائة مرة ما بين طلوع الفجر إلى أن تصلي الصبح، تأتيك الدنيا راغمة صاغرة، ويخلق الله من كل كلمة ملكاً يسبح الله إلى يوم القيامة لك ثوابه»
قال الحافظ زين الدين العراقي: رواه المستغفري في الدعوات عن ابن عمر رضي الله عنهما وقال: غريب من حديث مالك، ولا أعرف له أصلاً من حديث مالك «.
ولما كان التقدير: فالله قدير على جميع تلك الشؤون، عطف عليه قوله: ﴿والله﴾ أي المحيط علماً وقدرة ﴿عليم بما يفعلون*﴾ بما ثبت مما أخبركم به في هذه السورة دقائق أقوالكم وأحوالكم، وضمائركم وأفعالكم، وقد تقدم في الأعراف عند ﴿أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض﴾ [الأعراف: ١٨٥] ما ينفع هنا.
290
ولما أخبر عما في الكونين بما يستلزم الملك على أنهى وجوه التمام المستلزم للقدرة على البعث، أخبر عنهما بالتصريح به فقال: ﴿ولله﴾ أي الذي لا ملك سواه ﴿ملك السماوات والأرض﴾ مع كونه مالكاً مسخراً مصرفاً لجميع ذلك، فهو جامع للملك والملك.
ولما كان التقدير: ومن الله المبدأ للكل بالإيجاد من العدم، عطف عليه قوله: ﴿وإلى الله﴾ أي الذي له الإحاطة بكل شيء ﴿المصير*﴾ أي لهم كلهم بعد الفناء، وإنما طوي هذا المقدر لأنه لا خلف فيه.
ولما أخبر بذلك فتقرر ملكه وقدرته على البعث على حسب ما وعد به بعد أن تحرر ملكه، دل عليه بتصرفه في العالم العلوي والسفلي بما يدل على القدرة على الإعادة فقال: ﴿ألم تر أن الله﴾ أي ذا الجلال والجمال ﴿يزجي﴾ أي يسوق بالرياح، وسيأتي الكلام عليها في النمل؛ وقال أبو حيان: إن الإزجاء يستعمل في سوق الثقل برفق. ﴿سحاباً﴾ أي بعد أن أنشأه من العدم تارة من السفل، وتارة من العلو، ضعيفاً رقيقاً متفرقاً، قال أبو حيان: وهو اسم جنس واحده
291
سحابة، والمعنى: يسوق سحابة إلى سحابة. وهو معنى ﴿ثم يؤلف بينه﴾ أي بين أجزائه بعد أن كانت قطعاً في جهات مختلفة ﴿ثم يجعله ركاماً﴾ في غاية العظمة متراكباً بعضه على بعض بعد أن كان في غاية الرقة ﴿فترى﴾ أي في تلك الحالة المستمرة ﴿الودق﴾ أي المطر، قال القزاز: وقيل: هو احتفال المطر. ﴿يخرج من خلاله﴾ أي فتوقه التي حدثت بالتراكم وانعصار بعضه من بعض ﴿وينزل من السماء﴾ أي من جهتها مبتدئاً من ﴿من جبال فيها﴾ أي في السماء، وهي السحاب الذي صار بعد تراكمه كالجبال؛ وبعض فقال: ﴿من برد﴾ هو ماء منعقد؛ وبين أن ذلك بإرداته واختياره بقوله: ﴿فيصيب به﴾ أي البرد والمطر على وجه النقمة أو الرحمة ﴿من يشاء﴾ من الناس وغيرهم ﴿ويصرفه عمن يشاء﴾ صرفه عنه؛ ثم نبه على ما هو غاية في العجب في ذلك مما في الماء من النار التي ربما نزلت منها صاعقة فأحرقت ما لا تحرق النار فقال: ﴿يكاد سنا﴾ أي ضوء ﴿برقه﴾ وهو اضطراب النور في خلاله ﴿يذهب﴾ أي هو، ملتبساً ﴿بالأبصار*﴾ لشدة لمعه وتلألئه، فتكون قوة البرق دليلاً على تكاثف السحاب وبشيراً
292
بقوة المطر، ونذيراً بنزول الصواعق؛ ثم ذكر ما هو أدل على الاختيار، فقال مترجماً لما مضى بزيادة: ﴿يقلب الله﴾ أي الذي له الأمر كلهه بتحويل الظلام ضياء والضياء ظلاماً، والنقص تارة والزيادة أخرى، مع المطر تارة والصحو أخرى ﴿الليل والنهار﴾ فينشأ عن ذلك التقليب من الحر والبرد والنمو والينوع واليبس ما يبهر العقول؛ ولهذا قال منبهاً على النتيجة: ﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم الذي ذكر من جميع ما تقدم ﴿لعبرة لأولي الأبصار*﴾ أي النافذة، والقلوب الناقدة، يعبرون منها إلى معرفة ما لمدبر ذلك من القدرة التامة والعلم الشامل الدال قطعاً على الوحدانية.
293
ولما ذكر أولاً أحوال الخافقين دليلاً على وحدانيته، وفصل منها الآثار العلوية، فذكر ما يسقي الأرض، وطوى ذكر ما ينشأ عنه من النبات للعلم به، ذكر أحوال ما يتكون به من الحيوانات دليلاً ظاهراً على الإعادة، وبرهاناً قاهراً على المنكرين لها فقال: ﴿والله﴾ أي الذي له العلم الكامل والقدرة الشاملة ﴿خلق كل دآبة﴾ أي مما تقدم أنه يسبح له.
ولما ذكر أنواعاً من الحيوان، نكر بخلاف ما في الأنبياء فقال: ﴿من ماء﴾ أي دافق هو أعظم أجزاء مادته كما خلق النبات من ماء «هامر» كذلك، وفاوت بينه مع كون الكل من الماء الهامر
293
الذي لا تفاوت فيه ﴿فمنهم﴾ أي الدواب.
ولما كان في سياق التعظيم، وكان قد آتى كل نفس من الإدراك ما تعرف به منافعها ومضارها، عبر عن الكل بأداة من يعقل وإن كانوا متفاوتين في التمييز فقال: ﴿من يمشي على بطنه﴾ أي من غير رجل؛ وقدم هذا لكونه أدل على القدرة، وسماه مشياً استعارة ومشاكلة ﴿ومنهم من يمشي على رجلين﴾ أي ليس غير ﴿ومنهم من يمشي على أربع﴾ أي من الأيدي والأرجل، وفي هذا تنبيه على من يمشي على أكثر من ذلك، وإليه الإشارة بقوله: ﴿يخلق الله﴾ وعبر باسم الجلالة إعلاماً بتناهي العظمة؛ وقال: ﴿ما يشاء﴾ دلالة على أنه فعله بقدرته واختياره، لا مدخل لشيء غير ذلك فيه إلا بتقدير العزيز العليم.
ولما كانت هذه الأدلة ناظرة إلى البعث أتم نظر، وكانوا منكرين له، أكد قوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي الكمال المطلق ﴿على كل شيء﴾ من ذلك وغيره ﴿قدير*﴾.
ولما اتضح بهذا ما لله تعالى من صفات الكمال والتنزه عن كل شائبة نقص، وقامت أدلة الوحدانية على ساق، واتسقت براهين الألوهية أي اتساق، قال مترجماً لتلك الأدلة: ﴿لقد أنزلنا﴾ أي في
294
هذه السورة وما تقدمها، بما لنا من العظمة ﴿آيات﴾ أي من الحكم والأحكام والأدلة والأمثال ﴿مبينات﴾ لا خفاء في شيء منها عند أحد من الخلق، لأن الله قد أراد هدايتكم، بعضكم بالبيان، وبعضكم بخلق الإذعان ﴿والله﴾ أي الملك الأعظم ﴿يهدي من يشاء﴾ من العابد كلهم ﴿إلى صراط مستقيم*﴾ بالقوة بإنزال الآيات، والفعل بخلق الإيمان والإخبات، فيؤمنون إيماناً ثابتاً.
ولما كان إخفاء هذه الآيات عن البعض بعد بيانها أعجب من ابتداء نصبها، فكان السياق ظاهراً في أن التقدير: والله يضل من يشاء فيكفرون بالآيات والذكر الحكيم، وكان الخروج من نورها بعد التلبس بها إلى الظلام أشد غرابة، عطف على ما قدرته مما دل عليه السياق أتم دلالة قوله دليلاً شهودياً على ذلك مطوي، معجباً ممن عمي عن دلائل التوحيد التي أقامها تعالى وعددها وأوضحها بحيث صارت كما ذكر تعالى أعظم من نور الشمس: ﴿ويقولون﴾ أي الذين ظهر لهم نور الله، بألسنتهم فقط: ﴿آمنا بالله﴾ الذي أوضح لنا جلاله، وعظمته وكماله ﴿وبالرسول﴾ الذي علمنا كمال رسالته وعمومها بما أقام عليها من الأدلة ﴿وأطعنا﴾ أي أوجدنا الطاعة لله وللرسول، وعظم المخالفة بين الفعل والقول بأداة البعد فقال: ﴿ثم يتولى﴾ أي يرتد بإنكار القلب ويعرض عن طاعة الله ورسوله، ضلالاً منهم عن الحق ﴿فريق منهم﴾
295
أي ناس يقصدون الفرقة من هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة.
ولما كان ينبغي أن يكون وقوع الارتداد منهم - كما أشير إليه - في غاية البعد وإن كان في أقل زمن، أشار إليه بأداة التراخي، وأكد ذلك بقوله مثبتاً الجارّ: ﴿من بعد ذلك﴾ أي القول السديد الشديد المؤكد، مع الله الذي هو أكبر من كل شيء، ومع رسوله الذي هو أشرف الخلائق ﴿وما أولئك﴾ أي البعداء البضاء الذين صاروا بتوليهم في محل البعد ﴿بالمؤمنين*﴾ أي بالكاملين في الإيمان قولاً وعقداً، وإنما هم من أهل الوصف اللساني، المجرد عن المعنى الإيقاني.
ولما فضحهم بما أخفوه من توليهم، قبح عليهم ما أظهروه، فقال معبراً بأداة التحقيق: ﴿وإذا دعوا﴾ أي الذين ادعوا الإيمان من أي داع كان ﴿إلى الله﴾ أي ما نصب الملك الأعظم من أحكامه ﴿ورسوله ليحكم﴾ أي الرسول ﴿بينهم﴾ بما أراه الله ﴿إذا فريق منهم﴾ أي ناس مجبولون على الأذى المفرق ﴿معرضون*﴾ أي فاجؤوا الإعراض، إذا كان الحق عليهم، لاتباعهم أهواءهم، مفاجأة تؤذن بثباتهم فيه ﴿وإن يكن﴾ أي كوناً ثابتاً جداً ﴿لهم﴾ أي
296
على سبيل الفرض ﴿الحق﴾ أي بلا شبهة ﴿يأتوا إليه﴾ أي بالرسول ﴿مذعنين*﴾ أي منقادين أتم انقياد لما وافق من أهوائهم لعلمهم أنه دائر مع الحق لهم وعليهم، لا لطاعة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما كان سبب فعلهم هذا بعد إظهارهم الطاعة مشكلاً، ناسب أن يسأل عنه، فقال تعالى مبيناً له بعد التنبيه على ما يحتمله من الحالات: ﴿أفي قلوبهم مرض﴾ أي نوع فساد من أصل الفطرة يحملهم على الضلال ﴿أم ارتابوا﴾ بأن حدثت لهم شبهة أعمتهم عن الطريق ﴿أم﴾ ليس فيهم خلل لا أصلي ولا طارىء، بل الخلل في الحاكم فهم ﴿يخافون أن يحيف﴾ أي يجور ﴿الله﴾ الغني عن كل شيء، لأن له كل شيء ﴿عليهم﴾ بنصب حكم جائر وهو منزه عن الأغراض ﴿ورسوله﴾ الذي لا ينطق عن الهوى، بضرب أمر زائغ وقد ثبتت عصمته عن الأدناس.
ولما لم يكن شيء من ذلك كائناً أضرب عنه فقال: ﴿بل أولئك﴾ أي البعداء البغضاء ﴿هم﴾ أي خاصة ﴿الظالمون﴾ أي الكاملون في الظلم، لأن قلوبهم مطبوعة على المرض والريب، لا أن فيها نوعاً واحداً منه، وليسوا يخافون الجور، بل هو مرادهم إذا كان الحق عليهم.
ولما نفى عنهم الإيمان الكامل بما وصفهم به، كان كأنه
297
سئل عن حال المؤمنين فقال: ﴿إنما كان﴾ أي دائماً ﴿قول المؤمنين﴾ أي العريقين في ذلك الوصف، وأطبق العشرة على نصب القول ليكون اسم كان أوغل الاسمين في التعريف، وهو «أن» وصلتها لأنه لا سبيل عليه للتنكير، ولشبهه كما قال ابن جني في المحتسب بالمضمر من حيث إنه لا يجوز وصفه كما لا يجوز وصف المضمر، وقرأ على رضي الله عنه بخلاف وابن أبي إسحاق ﴿قول﴾ بارفع ﴿إذا دعوا﴾ أي من أي داع كان ﴿إلى الله﴾ أي ما أنزل الملك الذي لا كفوء له من أحكامه ﴿ورسوله ليحكم﴾ أي الله بما نصب من أحكامه أو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يخاطبهم به من كلامه ﴿بينهم﴾ أي في حكومة من الحكومات لهم أو عليهم ﴿أن يقولوا سمعنا﴾ أي الدعاء ﴿وأطعنا﴾ أي بالإجابة لله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولما كان التقدير: فأولئك هم المؤمنون، عطف عليه قوله: ﴿وأولئك﴾ أي العالو الرتبة ﴿هم﴾ خاصة ﴿المفلحون*﴾ الذين تقدم في أول المؤمنون وصفهم بأنهم يدركون جميع مأمولهم.
298
ولما رتب سبحانه الفلاح على هذا النوع الخاص من الطاعة،
298
أتبعه عموم الطاعة فقال: ﴿ومن يطع الله﴾ أي الذي له الأمر كله ﴿ورسوله﴾ أي في الإذعان للقضاء وغيره فيما ساءه وسره من جميع الأعمال الظاهرة ﴿ويخش الله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام، بقلبه لما مضى من ذنوبه ليحمله ذلك على كل خير، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا وقع أحد منهم في تقصير يأتي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول: طهرني، ويلقن أحدهم الرجوع فلا يرجع، وفي تطهيره الإتيان على نفسه، وقع ذلك لرجالهم ونسائهم - رضي الله عنهم أجمعين وأحياناً على منهاجهم وحشرنا في زمرتهم ﴿ويتقه﴾ أي الله فيما يستقبل بأن يجعل بينه وبين ما يسخطه وقاية من المباحات فيتركها ورعاً.
ولما أفرد الضمائر إشارة إلى قلة المطيع، جمع لئلا يظن أنه واحد فقال: ﴿فأولئك﴾ العالو الرتبة ﴿هم الفائزون*﴾ بالملك الأبدي ولا فوز لغيرهم.
ولما ذكر سبحانه ما رتب على الطاعة الظاهرة التي هي دليل الانقياد الباطن، ذكر حال المنافقين فيه، فقال عاطفاً على ﴿ويقولون﴾ لأنه ليس المراد منه إلا مجرد القول من غير إرادة تقييد بزمان معين: ﴿وأقسموا﴾ وكأنه عبر بالماضي إشارة إلى أنهم لم يسمحوا به أكثر من مرة، لما يدل عليه من زيادة الخضوع والذل ﴿بالله﴾ أي الملك الذي له الكمال المطلق؛ واستعار من جهد النفس قوله في موضع الحال:
299
﴿جهد أيمانهم﴾ أي غاية الإقسام ﴿لئن أمرتهم﴾ أي بأمر من الأمور ﴿ليخرجن﴾ مما هم ملتبسون به من خلافه، كائناً ما كان، إلى ما أمرتهم به، وذلك أنهم كانوا يقولون لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أينما كنت نكن معك، إن خرجت خرجنا، وإن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا - قاله البغوي. فكأنه قيل: ماذا تفعل في اختبارهم؟ فقيل: الأمر أوضح من ذلك، فإن لكل حق حقيقة، ولكل فعل أدلة ﴿قل﴾ أي لهم: ﴿لا تقسموا﴾ أي لا تحلفوا فإن العلم بما أنتم عليه لا يحتاج إلى الإقسام، ولكن المحرك لكم إلى الخروج محبة الامتثال لا إلزام الإقسام، وفيه إشارة إلى أنهم أهل للاتهام، وكذا قال المتنبي:
وفي يمينك فيما أنت واعده ما دل أنك في الميعاد متهم
ثم علل ذلك بقوله: ﴿طاعة﴾ أي هذه الحقيقة ﴿معروفة﴾ أي منكم ومن غيركم، وإرادة الحقيقة هو الذي سوغ الابتداء بها مع تنكير لفظها لأن العموم الذي تصلح له كما قالوا من أعرف المعارف،
300
ولم تعرف ب «ال» لئلا يظن أنها لعهد ذكري أو نحوه، والمعنى أن الطاعة وإن اجتهد العبد في إخفائها لا بد أن تظهر مخايلها على شمائله، وكذا المعصية لأنه «ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها» رواه الطبراني عن جندب رضي الله عنه، وروى مسدد عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: لو أن رجلاً دخل بيتاً في جوف بيت فأدمن هناك عملاً أوشك الناس أن يتحدثوا به، وما من عامل عمل عملاً إلا كساه الله رداء عمله، إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر.
ولأبي يعلى والحاكم - وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائناً ما كان» ثم علل إظهاره للخبء بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي له الإحاطة بكل شيء ﴿خبير بما تعملون*﴾ وإن إجتهدتم في إخفائه، فهو ينصب عليه دلائل يعرفه بها عباده، فالحلف غير مغنٍ عن الحالف، والتسليم غير ضار للمسلم.
301
ولما نبه على خداعهم، أشار إلى عدم الاغترار بإيمانهم، وإلى
301
قبول شهادة التوسم فيهم، أمر بترغيبهم وترهيبهم، مشيراً إلى الإعراض عن عقوبتهم فقال: ﴿قل أطيعوا﴾ أيها الذين أقروا بالإيمان ﴿الله﴾ أي الذي لم الكمال المطلق ﴿وأطيعوا الرسول﴾ أي لاذي له الرسالة المطلقة، ظاهراً وباطناً لا كالمنافقين ﴿فإن تولوا﴾ أي توجد منكم التولية عن ذلك عصياناً له ولو على أدنى وجوه التولية - بما أشار إليه حذف التاء، تضلوا فلا تضروا إلا أنفسكم، وهو معنى قوله: ﴿فإنما عليه﴾ أي الرسول ﴿ما حمل﴾ أي من التبليغ ممن إذا حمل أحداً شيئاً فلا بد من حمله له أو حمل ما هو أثقل منه ﴿وعليكم ما حملتم﴾ من القبول، وليس عليه أن يقسركم على الهداية؛ وأفهم بقوله: ﴿وإن تطيعوه﴾ أي بالإقبال على كل ما يأمركم به ﴿تهتدوا﴾ أي إلى كل خير أنه لا هداية لهم بدون متابعته؛ روى عبد الله ابن الإمام أحمد في زيادات المسند عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال على المنبر: «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب» قال: فقال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: عليكم بالسواد الأعظم! قال فقال رجل: ما السواد الأعظم؟
302
فنادى أبو أمامة هذه الآية في سورة النور ﴿فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم﴾.
ولما كان ما حمله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبهماً، عينه بقوله: ﴿وما على الرسول﴾ أي من جهة غيره ﴿إلا البلاغ المبين*﴾ أي التبليغ الذي يحصل به البلاغ من غير شك، إما بالإيضاح وحده أو مضموماً إلى السيف فما دونه من أنواع الزواجر.
ولما لاح بهذا الإذن في الكف عن قتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمنافقين لئلا يقول الناس: إن محمداً استنصر بقوم، فلما نصره الله بهم أقبل يقتلهم. فيمتنع من يسمع ذلك من الدخول في الإسلام، فتكون مفسدة قتلهم أعظم من مفسدة إبقائهم، لأن الدين لم يكن حينئذ تمكن تمكناً لا يؤثر فيه مثل ذلك، تشوفت النفوس إلى أن هذا الحال هل يستمر؟ فجلى الله عنهما هذا الكرب بقوله: بياناً لأن تمكن الدين غير مفتقر إليهم سواء أقبلوا أو أدبروا: ﴿وعد الله﴾ أي الذي له الإحاطة بكل شيء ﴿الذين آمنوا﴾ وهو مع ذلك كالتعليل لما قبله ترغيباً لمن نظر في الدنيا نوع نظر؛ وقيد بقوله: ﴿منكم﴾ تصريحاً بأهل القرن الأول، ليكون ظاهراً فس إخراج المنافقين المتولين
303
بالإعراض، إشارة إلى أنهم لا يزالون في ذل وضعة؛ وقدم هذا القيد اهتماماً به لما ذكر بخلاف ما يأتي في سورة الفتح ﴿وعملوا﴾ تصديقاً لإيمانهم ﴿الصالحات﴾ من الإذعان للأحكام وغيرها، وأكد غاية التأكيد بلام القسم، لما عند أكثر الناس من الريب في ذلك فقال: ﴿ليستخلفنهم في الأرض﴾ أي أرض العرب والعجم، بأن يمد زمانهم، وينفذ أحكامهم ﴿كما استخلف﴾ أي طلب وأوجد خلافة بإيجادهم ﴿الذين من قبلهم﴾ أي من الأمم من بني إسرائيل وغيرهم من كل من حصلت له مكنة، وظفر على الأعداء بعد الضعف الشديد كما كتب في الزبور ﴿أن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ وكما قال موسى عليه السلام: ﴿إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين﴾ ﴿وليمكنن لهم﴾ أي في الباطن والظاهر ﴿دينهم﴾ أضافة إليهم إشارة إلى رسوخ أقدامهم فيه وأنه أبديّ لا ينسخ ﴿الذي ارتضى لهم﴾ حتى يقيموا الحدود فيه من قتل وغيره على الشريف والوضيع سواء كان الواقعون في ذلك عصبة أم لا، لا يراعون أحداً، ولا يخافون لومة لأئم، لأنه لا يضره إذ ذاك إدباراً مدبر كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحرورية كافة
«إنه إن أدركهم ليقتلنهم قتل عاد، بعد أن كف
304
عن قتل رأسهم ونهى عن قتله - وهو واحد في غزوة حنين».
ولما بشرهم بالتمكين، أشار لهم إلى مقداره بقوله: ﴿وليبدلنهم﴾ وأشار إلى عدم استغراق هذا الأمن العام لجميع الزمان بإثبات الجارّ فقال: ﴿من بعد خوفهم﴾ هذا الذي هم فيه الآن ﴿أمناً﴾ أي عظيماً بمقدار هذا الخوف، في زمن النبوة وخلافتها؛ ثم أتبع ذلك نتيجته بقوله تعليلاً للتمكين وما معه: ﴿يعبدونني﴾ أي وحدي؛ وصرح بالمراد بياناً لحال العابدة النافعة بقوله: ﴿لا يشركون بي شيئاً﴾ ظاهراً ولا باطناً، لأن زمانهم يكون زمن عدل، فلا يتحابون فيه بالرغبة والرهبة، روى الطبراني في الوسط عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رضي الله عنهم المدينة، وآوتهم الأنصار - رضي الله عنهم أجمعين، رمتهم العرب من قوس واحدة فنزلت ﴿ليستخلفنهم في الأرض﴾ الآية. ولقد صدق الله سبحانه ومن أصدق من الله حديثاً - ففتح سبحانه لهم البلاد، ونصرهم على جبابرة العباد، فأذلوا رقاب الأكاسرة، واستعبدوا أبناء القياصرة، ومكنوا شرقاً وغرباً مكنة لم تحصل قبلهم لأمة من الأمم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها
305
وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» يعرف ذلك من طالع فتوح البلاد، وأجمعها وأحسنها النصف الثاني من سيرة الحافظ أبي الربيع بن سالم الكلاعي، وكتاب شيخه ابن حبيش أيضاً جامع، ولا أعلم شيئاً أنفع في رسوخ الإيمان، بعد حفظ القرآن، من مطالعة السير والفتوح، وسيرة الكلاعي جامعة للأمرين، ونظمي للسيرة في القصيدة التي أولها:
ما بال جفنك هامي الدمع هامره وبحر فكرك وافي الهم وافره
أجمع السير - يسر الله إكمال شرحها، آمين.
ولما قتلوا عثمان رضي الله عنه، وخرجوا على عليّ ثم ابنه الحسن رضي الله عنهما، نزع الله ذلك الأمن كما أشير إليه ب «من» وتنكير «أمناً» وجاء الخوف واستمر يتطاول ويزداد قليلاً قليلاً إلى أن صار في زماننا هذا إلى أمر عظيم - والله المستعان.
ولما كان التقدير: فمن ثبت على دين الإسلام، وانقاد لأحكامه واستقام، نال هذه البشرى، عطف عليه قوله: ﴿ومن كفر﴾ أي بالإعراض عن الأحكام أو غيرها؛ أو هو عطف على ﴿يعبدونني﴾
306
لأن معناه: ومن لم يعبدني.
ولما كان الفاسق الكامل إنما هو من مات على كفره فحبط عمله، فكان بذلك كفره مستغرقاً لزمانه دون من مات مسلماً وإن كان كافراً في جميع ما مضى له قبل ذلك، أسقط الجار فقال: ﴿بعد ذلك﴾ أي الاستخلاف العظيم على الوجه المشروح ﴿فأولئك﴾ البعداء من الخير ﴿هم﴾ خاصة ﴿الفاسقون*﴾ أي الخارجون من الدين خروجاً كاملاً، لا تقبل معه معذرة، ولا تقال لصاحبه عثرة، بل تقام عليهم الأحكام بالقتل وغيره، ولا يراعى فيهم ملام، ولا تأخذ بهم رأفة عند الانتقام، كما تقدم في أول السورة فيمن لزمه الجلد، ولعل الآية مشيرة إلى أهل الردة.
ولما تمت هذه البشرى، وكان التقدير: فاعملوا واعبدوا، عطف عليه قوله: ﴿وأقيموا الصلاة﴾ أي فإنها قوام ما بينكم وبين ربكم، مع أنه يصح عطفه على قوله «أطيعوا الله» فيكون من مقول ﴿قل﴾ ﴿وآتوا الزكاة﴾ فهي نظام ما بينكم وبين إخوانكم ﴿وأطيعوا الرسول﴾ أي المحيط بالرسالة في كل ما يأمركم به، فإنما هو عن أمر ربكم ﴿لعلكم ترحمون*﴾ أي لتكونوا عند من يجهل العواقب على
307
رجاء من حصول الرحمة ممن لا راحم في الحقيقة غيره.
308
ولما كان الكفار من الكثرة والقوة بمكان، كان الحال جديراً بتأكيد معنى التمكين، جواباً لسؤال من كأنه قال: وهل ذلك ممكن فقال: ﴿لا تحسبن﴾ أي أيها المخاطب ﴿الذين كفروا﴾ أي وإن زادت كثرتهم على العد، وتجاوزت عظمتهم الحد، فإن ذلك الحسبان ضعف عقل، لأن الملك لا يعجزه من تحت قهره، ويجوز أن يكون خطاباً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزيادة تحقيقه، لأنه على قدر عظمة المخاطب يكون إنجاز الوعد ﴿معجزين﴾ لأهل ودنا ﴿في الأرض﴾ فإنهم مأخوذون لا محالة ﴿ومأواهم﴾ أي مسكنهم ومنزلهم بعد الأخذ ﴿النار﴾. ولما كانت سكنى الشيء لا تكون إلا بعد الصيرورة إليه قال: ﴿ولبئس المصير*﴾ مصيرها! فكيف إذا كان على وجه السكنى.
ولما كان الملل من شيم النفوس، فكان تدريج الكلام في المقاصد لا سيما الأحكام شيئاً فشيئاً خلال مقاصد أخرى أوقع في القلب، وأشهى إلى الطبع، لا سيما إذا كان على وجوه من المناسبات عجيبة، وضروب من الاتصالات هي مع دقتها غريبة، زين الله تأصيلها بتفصيلها فابتدأ السورة بطائفة منها، وفصلها بدر الوعظ، وجواهر الحكم،
308
والحث على معالي الأخلاق، ومكارم الأعمال، ثم وصلها بالإلهيات التي هي أصولها، وعن علي مقاماتها تفرعت فصولها، فلما ختمها بالتمكين لأهل هذا الدين، وتوهين أمر المعتدين، شرع في إكمالها، بإثبات بقية أحوالها، تأكيداً لما حكم به من التمكين، وما ختمه من ذلك من التوهين، وتحذيراً مما ختمه من العذاب المهين، وتحقيقاً لما ألزم به من الطاعة، ولزوم السنة والجماعة، فقال واصلاً بما ختم به الأحكام الأولى، من الأمر بإنكاح الأيامى، والكف عن إكراه البغايا، إثر الذين لم يظهروا على عورات النساء: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي من الرجال والنساء، إما للتغليب، وإما لأن النساء أولى بحفظ العورة ﴿ليستأذنكم﴾ تصديقاً لدعوى الإيمان ﴿الذين ملكت أيمانكم﴾ من العبيد والإماء البالغين، ومن قاربهم، للدخول عليكم كراهة الاطلاع على عوراتكم والتطرق بذلك إلى مساءتكم ﴿والذين﴾ ظهروا على عورات النساء، ولكنهم ﴿لم يبلغوا الحلم﴾ وقيده بقوله: ﴿منكم﴾ ليخرج الأرقاء والكفار ﴿ثلاث مرّات﴾ في كل دور، ويمكن أن يراد: ثلاث استئذانات في كل مرة، فإن لم يحصل الإذن رجع المستأذن كما تقدم: المرة الأولى من الأوقات
309
الثلاث ﴿من قبل صلاة الفجر﴾ لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم ﴿و﴾ الثانية ﴿حين تضعون ثيابكم﴾ أي التي للخروج بين الناس ﴿من الظهيرة﴾ للقائلة ﴿و﴾ الثالثة ﴿من بعد صلاة العشاء﴾ لأنه وقت الانفصال من ثياب اليقظة، والاتصال بثياب النوم، وخص هذه الأوقات لأنها ساعات الخلوة، ووضع الثياب، وأثبت من في الموضعين دلالة على قرب الزمن من الوقت المذكور لضبطه، وأسقطها في الأوسط دلالة على استغراقه لأنه غير منضبط، ثم علل ذلك بقوله: ﴿ثلاث عورات﴾ أي اختلالات في التستر والتحفظ، وأصل العورة - كما قال البيضاوي: الخلل.
لأنه لما كانت العورة تبدو فيها سميت بها ﴿لكم﴾ لأنها ساعات وضع الثياب والخلوة بالأهل، وبين حكم ما عدا ذلك بقوله مستأنفاً: ﴿ليس عليكم﴾ أي في ترك الأمر ﴿ولا عليهم﴾ يعني العبيد والخدم والصبيان، في ترك الاستئذان ﴿جناح﴾ أي إثم، وأصله الميل ﴿بعدهن﴾ أي في جميع ما سوى هذه الأوقات إذا هجموا عليكم؛ ثم علل الإباحة في غيرها،
310
مخرجاً لغيرهم، مبيناً أن حكمة الاستئذان في كل وقت كما مضى بقوله: ﴿طوافون عليكم﴾ أي لعمل ما تحتاجونه في الخدمة كما أنتم طوافون عليهم لعمل ما يصلحهم ويصلحكم في الاستخدام ﴿بعضكم﴾ طواف ﴿على بعض﴾ لعمل ما يعجز عنه الآخر أو يشق عليه فلو عم الأمر بالاستئذان لأدى إلى الحرج.
ولما أعلى سبحانه البيان في هذه الآيات إلى حد يعجز الإنسان لا سيما وهي في الأحكام، والكلام فيها يعيي أهل البيان، وكان السامع لما جبل عليه من النسيان، يذهل عن أن هذا هو الشأن، في جميع القرآن، قال مشيراً إلى عظم شأنها، في تفريقها وبيانها: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا البيان ﴿يبين الله﴾ بما له من إحاطة العلم والقدرة ﴿لكم﴾ أيتها الأمة الخاصة ﴿الآيات﴾ في الأحكام وغيرها وبعلمه وحكمته ﴿والله﴾ الذي له الإحاطة العامة بكل شيء ﴿عليم﴾ بكل شيء ﴿حكيم*﴾ يتقن ما يريده، فلا يقدر أحد على نقضه، وختم الآية بهذا الوصف يدل على أنها محكمة لم تنسخ كما قال الشعبي وغيره - أفاده ابن كثير، وحُكي مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير.
311
ولما بين حكم الصبيان والأرقاء الذين هم أطوع للأمر، وأقبل لكل خير، أتبعه حكم البالغين من الأحرار فقال: ﴿وإذا بلغ الأطفال منكم﴾ أي من أحراركم ﴿الحلم﴾ أي السن الذي يكون فيه إنزال المني برؤية الجماع في النوم، هذا أصله، والمراد سن مطلق الإنزال ﴿فليستأذنوا﴾ على غيرهم في جميع الأوقات ﴿كما استأذن الذين من قبلهم﴾ على ما بين في أول الآيات القائلة ﴿لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا﴾ ونقل ابن كثير عن يحيى بن أبي كثير وسعيد بن جبير أن الغلام إذا كان رباعياً فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه، فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال.
ولما كانت آيات الاستئذان أتقن حاسم لمواد الشر، وتركها أعظم فاتح لأبواب الفتن، وكان إخراج الكلام، في أحكام الحلال والحرام، مع التهذيب والبيان، في النهاية من الصعوبة، وكان فطم النفوس عما ألفت في غاية من العسر شديدة، أشار سبحانه إلى ذلك بتكرير آية البيان، إشارة إلى أنها - لما لها من العلو - جديرة بالتأكيد، وإلى أن البلغاء يستبعدون القدرة على البيان كلما أريد على هذا السنن
312
فقال: ﴿كذلك﴾ أي مثل ذلك البيان الذي بينه في آيات الأحكام ﴿يبين الله﴾ بما له من صفات الكمال ﴿لكم﴾ مع ما لكم من خلال النقص ﴿آياته﴾ أي العلامات الدالة عليه من هذه الفرعيات وما رقت إليه الأصليات، فأضافها إليه سبحانه تعظيماً لها، إشارة إلى أنها مقدمة للآيات الإلهيات، لأن من لم يتفرغ من مكدرات الأفكار، لم يطر ذلك المطار، وحثاً على تدبر ما تقدم منها لاستحضار ما دعت إليه من الحكم، وفصلت به من المواعظ، وتنبيهاً على ما فيها من العلوم النافعة ديناً ودنيا، وزاد في الترغيب في العلم والحكمة إشارة إلى أن ذلك سبب كل سعادة فقال: ﴿والله﴾ أي المحيط بكل شيء ﴿عليم حكيم*﴾ روى الطبراني وغيره
«عن
أنس
رضي
الله
عنه
قال: لما كانت صبيحة احتلمت دخلت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته أني قد احتلمت، فقال:»
لا تدخل على النساء «، فما أتى عليّ يومٌ كان أشد منه».
ولما ذكر سبحانه اقتبال الشباب، في تغيير حكم الحجاب، أتبعه الحكم عند إدبار الشباب، في إلقاء الظاهر من الثياب، فقال: ﴿والقواعد﴾ وحقق ألمر بقوله: ﴿من النساء﴾ جمع قاعد، وهي
313
التي قعدت عن الولد وعن الحيض كبراً وعن الزوج. ولما كان هذا الأخير قطبها قال: ﴿اللاتي لا يرجون نكاحاً﴾ أي لعدم رغبتهن فيه أو لوصولهن إلى حد لا يرغب فيهن معه ﴿فليس عليهن جناح﴾ أي شيء من الحرج في ﴿أن يضعن ثيابهن﴾ أي الظاهرة فوق الثياب الساترة بحضرة الرجال بدليل قراءة ابن مسعود رضي الله عنه ﴿من ثيابهن﴾ قال أبو صالح: تضع الجلباب، وهو ما يغطي ثيابها من فوق كالملحفة، وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار ﴿غير متبرجات بزينة﴾ أي متعمدات - بوضع ما أبيح لهن وضعه إظهار وجوههن مع الزينة، أو غير متظاهرات بالزينة، قال في الجمع بين العباب والمحكم: تبرجت المرأة: أظهرت وجهها. وفي القاموس: تبرجت: أظهرت زينتها للرجال - انتهى. ومادة برج تدور على الظهور كما مضى في الحجر؛ وقال البيضاوي: وأصل البرج التكلف في إظهار ما يخفى - انتهى. وكأنه أشير بصيغة التفعل إلى أن ما ظهر منها من وجهها أو زينتها عفواً غير مقصود به الفساد لا حرج فيه.
ولما ذكر الجائز، وكان إبداء الوجه داعياً إلى الريبة، أشار إليه
314
بقوله ذاكراً المستحب، بعثاً على اختيار أفضل الأعمال وأحسنها: ﴿وأن يستعففن﴾ أي يطلبن العفة بدوام الستر وعدم التخفف بإلقاء الجلباب والخمار ﴿خير لهن﴾ من الإلقاء المذكور.
ولما كان ما ذكر من حالهن من الخلطة على ذلك الوصف معلوماً أنه لا يخلو عن كلام، كان التقدير: فالله في وضع الحرج عنهن رؤوف بهن رحيم، عطف عليه قوله: ﴿والله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال ﴿سميع﴾ أي لكلامهن إذا خاطبن الرجال هل يخضعن فيه ويتصنعن في ترخيم الصوت به أو يلقينه على الحالة المعروفة غير المنكرة ﴿عليم*﴾ بما يقصدن به وبكل شيء.
315
ولما أتم سبحانه ما ذكر من حرمات البيوت المستلزمة لصيانة الأبضاع على وجه يلزم منه إحراز الأموال، أتبعه ما يباح من ذلك للأكل الذي هو من أجلّ مقاصد الأموال اجتماعاً وانفراداً، فقال في جواب من كأنه سأل: هل هذا التحجير في البيوت سارٍ في الأقارب وغيرهم في جميع الأحوال؟ :﴿ليس على الأعمى حرج﴾ أي في مؤاكلة غيره وما يأتي من الأحكام، وإن كره غيره أكله لمد يده كيفما اتفق فإنه مرحوم، والاستئذان من أجل
315
البصر ﴿ولا على الأعرج﴾ الذي لايرجى ﴿حرج﴾ وإن تقذر منه بعض المترفين فإنه يجامعه في أنه يرحم لنقصه ﴿ولا على المريض﴾ أي مرضاً يرجى بعرج أو غيره ﴿حرج﴾ كذلك لمرضه، وأخره لرجاء برئه ﴿ولا على أنفسكم﴾ أي ولا على غير من ذكر، وعبر بذلك تذكيراً بأن الكل من نفس واحدة ﴿أن تأكلوا من بيوتكم﴾ أي التي فيها عيالكم، وذكرها سبحانه لئلا يحصل من تركها لو تركها ريبة، وليدخل فيها بيوت الأولاد لأنهم من كسب الأب «أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه» «أنت ومالك لأبيك» ﴿أو بيوت آبائكم﴾ وإن بعدت أنسابكم - ولعله جمع لذلك - فإنها مرباكم وحرمتها حرمتكم ﴿أو بيوت أمهاتكم﴾ كذلك، وقدم الأب لأنه أجل وهو حاكم بيته دائماً والمال له ﴿أو بيوت إخوانكم﴾ من الأبوين أو الأب أو الأم بالنسب أو الرضاع، فإنهم من أولى من رضي بذلك بعد الوالدين، لأنهم أشقاؤكم، وهم أولياء بيوتهم ﴿أو بيوت أخواتكم﴾ فإنهن بعدهم، من أجل أن ولي البيت - إذا كن مزوجات - الزوج ﴿أو بيوت أعمامكم﴾ فإنهم شقائق آبائكم سواء كانوا أشقاء أو لأب أو أم، ولو أفرد العم لتوهم أنه الشقيق فقط فإنه أحق بالاسم ﴿أو بيوت عماتكم﴾ فهن بعد الأعمام لضعفهن، ولأنه ربما
316
كان أولياء بيوتهن الأزواج ﴿أو بيوت أخوالكم﴾ لأنهم شقائق أمهاتكم ﴿أو بيوت خالاتكم﴾ أخرهن لما ذكر ﴿أو ما ملكتم مفاتحه﴾ أي التصرف فيه بوجه من الوجوه كالوكالة ﴿أو صديقكم﴾ الذي تعرفون رضاه بذلك ولو بقرينة كما هو الغالب، ولذلك أطلقه، وإن لم يكن أمكنكم من مفتاحه بل كان عياله فيه، كل ذلك من غير إفساد ولا حمل ولا ادخار، وقد عدل الصديق هنا بالقريب، تنبيهاً على شريف رتبة الصداقة ولطيف سرها، وخفيف أمرها، وأفرده لعزته؛ وعن جعفر بن محمد: من عظم حرمة الصديق أن جعله كالنفس والأب ومن معه. قال الأصبهاني: وقالوا: إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح، وبما سمج الاستئذان وثقل كمن قدم إليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل.
ولما ذكر معدن الأكل، ذكر حاله فقال: ﴿ليس عليكم جناح﴾ أي شيء من الإثم الذي من شأنه أن يميل بصاحبه عن السواء في ﴿أن تأكلوا جميعاً﴾ أي مجتمعين وإن كان بينكم ناقص الخلقة، لأن من كان معرضاً للآفات جدير بأن يرحم المبتلى، فلا يستقذره حذراً من انعكاس الحال.
317
ولما رغب في أول الإسلام - لما كان فيه أكثر الناس من الضيق - في المؤاساة، والاجتماع مع الضيوف، ترغيباً ظن به الوجوب، مع ما كانوا عليه من الكرم الباعث على الجود والاجتماع للأنس بالمحتاج، خفف عنهم بقوله: ﴿أو أشتاتاً﴾ أي متفرقين لغير قصد الاستقذار، والترفع والإضرار، وإن كان الأكل في جماعة أفضل وأبرك - كما يفهمه تقديمه، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده «أن رجلاً قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنا نأكل ولا نشبع، قال:» فلعلكم تأكلون متفرقين؟ اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه «» ولابن ماجه عن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «كلوا جميعاً ولا تفرقوا فإن البركة مع الجماعة».
ولما ذكر موطن الأكل وكيفيته، ذكرالحال التي يكون عليها الداخل إلى تلك المواطن أو غيرها، فقال مسبباً عما مضى من الإذن، معبراً بأداة التحقيق، بشارة بأنهم يطيعون بعد أن كانوا تحرجوا من ذلك حين أنزل تعالى ﴿لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل﴾ [النساء: ٢٩] :﴿فإذا دخلتم﴾ أي بسبب ذلك أو غيره ﴿بيوتاً﴾ أي مأذوناً فيها، أيّ بيوت كانت مملوكة أو لا، مساجد أو غيرها ﴿فسلموا﴾ عقب الدخول ﴿على أنفسكم﴾
318
أي أهلها الذين هم منكم ديناً وقرباً، وعبر بذلك ترغيباً في السلام، والإحسان في الإكرام، ولتصلح العبارة لما إذا لم يكن فيها أحد فيقال حينئذ «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» فيكون من الاستعمال في الحقيقة والمجاز ﴿تحية﴾ مصدر من المعنى دون اللفظ، أو أوقعوا الدعاء للمحيي بسلامة وحياة وملك بقاء ﴿من عند الله﴾ أي هي جديرة لتمام حسنها أن تضاف إلى من له الكمال كله سبحانه ﴿مباركة﴾ أي ثابتة أعظم ثبات بكونها موافقة لما شرع الله من خالص قلوبكم ﴿طيبة﴾ تلذذ السمع؛ ثم وصف البيان، تنبيهاً على ما في هذه الآيات من الحسن والإحسان، فقال مستأنفاً كما مر غير مرة: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا البيان، العظيم الشأن ﴿يبين الله﴾ أي المحيط بكل شيء ﴿لكم الآيات﴾ التي لا أكمل منها.
ولما كان الله تعالى، بعلمه وحكمته، وعزه وقدرته، ولطفه وخبرته، قد خلق عقلاً نيراً يهدي إلى الحق، وإلى طريق مستقيم، وقسمه بين عباده، وخلق فيهم أنواعاً من العوائق لذلك العقل عن النفوذ على سمت الاستقامة، من الهوى والكسل، الفتور والملل، جعلها حجباً تحجبه عن النفوذ، وتستر عنه المدارك، وتمنعه من البلوغ، إلا برياضات
319
ومجاهدات تكل عنها القوى، وتضعف عندها العزائم، فلا يكاد الماهر منهم يرتب قياساً صحيحاً، لغلطه في المقدمات، فتكون النتيجة حينئذ فاسدة القاعدة، واهية الأساس، فكانوا لا يزالون لذلك مختلفين، حتى يوصلهم الاختلاف إلى الإحن، والمشاجرة والفتن، فيجرهم إلى السيف وذهاب النفوس تلف الأرواح، فأنزل سبحانه لهم في كل وقت شرعاً يليق بذلك الزمان على لسان رسول من رسله عليهم الصلاة والسلام، جعل ذلك الشرع يطابق العقل السوي، والنور الضوي، والمنهل الروي، والسبب القوي، من تمسك به هدي ولم يزغ، حد فيه سبحانه حدوداً، وأقام فيه زواجر، لتظهر حكمته، ويتضح علمه وقدرته، فصارت شرائع متفقة الأصول، مختلفة الفروع، بحسب الأزمنة، إشارة إلى أن الفاعل في تغيير الأحكام بحسب الأزمان واحد مختار، وامتحاناً للعباد، تمييزاً لأهل الصلاح منهم من أهل الفساد، وكانت الإغارة على شيء من الأعراض والأموال على غير ما أذن
320
فيه تُذهب العقول، وتعمي البصائر، ختم الآية بقوله: ﴿لعلكم تعقلون*﴾ أي لتكونوا على رجاء عند من يصح منه الرجاء من ثبات هذا الوصف لكم، وهو ضبط النفوس وردها عن الأهوية، باتباع آيات الشرع التي أنزلها الذي كرر وصفه هنا بأنه عليم حكيم، فلا تتولوا بعد قولكم
﴿سمعنا وأطعنا﴾ [المائدة: ٧] عن الإذعان للأحكام وأنتم معرضون.
321
ولما كان سبحانه قد نفى عنهم الإيمان بالتولي عن الأحكام، وتلاه بما رأيت أن تظمه أحسن نظام، حتى ختم بما أومأ إلى أن من عمي عن أحكامه بعد هذا البيان مسلوب العقل، وكرر في هذه السورة ذكر البيان، تكريراً أشار إلى لمعان المعاني بأمتن بنان حتى صارت مشخصات للعيان، وبين من حاز وصف الإيمان، بحسن الاستئذان، وكان أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجلّ موطن تجب الإقامة فيه ويهجر ما عداه من الأوطان، فتصير الأرض برحبها ضيقة لأجله، محظوراً سلوكها مِن جرّاه، بمنزلة بيت الغير الذي لا يحل دخوله بغير إذن، قال معرفاً بذلك على طريق الحصر مقابلاً لسلب ﴿وما أولئك بالمؤمنين﴾ [المائدة: ٤٣] مبيناً عظيم الجناية في الذهاب عن مجلس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المقتضي للجمع من غير إذن: ﴿إنما المؤمنون﴾ أي الكاملون الذين لهم الفلاح
321
﴿الذين آمنوا بالله﴾ أي الملك الأعلى ﴿ورسوله﴾ ظاهراً وباطناً.
ولما كان الكلام في الراسخين، كان الموضع لأداة التحقيق فقال: ﴿وإذا﴾ أي وصدقوا إيمانهم بأنهم إذا ﴿كانوا معه﴾ أي الرسول صلى الله عليه السلام ﴿على أمر جامع﴾ أي لهم على الله، كالجهاد لأعداء الله، والتشاور في مهم، وصلاة الجمعة، ونحو ذلك ﴿لم يذهبوا﴾ عن ذلك الأمر خطوة إلى موضع من الأرض ولو أنه بيوتهم، لشيء من الأشياء ولو أنه أهم مهماتهم، لأنه أخذ عليهم الميثاق بالطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ﴿حتى يستأذنوه﴾ فيأذن لهم، لأن المأمور به قد صار منزلهم ومأواهم ومتبوأهم، وصار كل ما سواه من الأماكن والأمور له عليه الصلاة والسلام دونهم، لا حظ لهم فيه، فلا يحل لهم أن يدخلوه حساً أو معنى إلا بإذنه، وهذا من عظيم النتبيه على عليّ أمره، وشريف قدره، وذلك أنه سبحانه كما أمرهم بالاستئذان عند الدخول عليه وعلى غيره، أفرده بأمرهم باستئذانه عند الانصراف عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعل رتبة ذلك تالية لرتبة الإيمان بالله والرسول، وجعلهما كالتسبيب له مع تصدير الجملة بأداة الحصر، وإيقاع المؤمنين في مبتدأ مخبراً عنه بموصول أحاطت وصلته بالرتب الثلاث شرحاً له.
322
ولما نفى عن المؤمنين الذهاب إلى غاية الاستئذان، فأفهم أن المستأذن مؤمن، صرح بهذا المفهوم ليكون آكد، فقال تشديداً في الإخلال بالأدب بين يديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتأكيداً لحفظ حرمته والأدب معه لئلا يتشوش فكره في أسلوب آخر، وبياناً لأن الاستئذان مصداق الإيمان: ﴿إن الذين يستأذنونك﴾ أي يطلبون إذنك لهم إذا أرادوا الانصراف، في شيء من أمورهم التي يحتمل أن تمنع منها ﴿أولئك﴾ العالو الرتبة خاصة ﴿الذين يؤمنون﴾ أي يوجدون الإيمان في كل وقت ﴿بالله﴾ الذي له الأمر كله فلا كفوء له ﴿ورسوله﴾ وذلك ناظم لأشتات خصال الإيمان.
ولما قصرهم على الاستئذان، تسبب عن ذلك إعلامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يفعل إذ ذاك فقال: ﴿فإذا استأذنوك﴾ أي هؤلاء الذين صحت دعواهم؛ وشدد عليهم تأكيداً لتعظيم الأدب معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: ﴿لبعض شأنهم﴾ وهو ما تشتد الحاجة إليه ﴿فأذن لمن شئت منهم﴾ قيل: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صعد المنبر يوم الجمعة فمن اراد أن يخرج لعذر قام بحياله فيعرف أنه يستأذن فيأذن لمن شاء، قال مجاهد: وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده، وقيل: كذلك ينبغي أن يكون الناي مع أئمتهم ومقدميهم
323
في الدين والعلم لا يخذلونهم في نازلة من النوازل.
ولما أثبت له بهذا التفويض من الشرف ما لا يبلغ وصفه، أفهمهم أن حال المستأذن قاصرة عن حال المفوض الملازم كيفما كانت، فقال: ﴿واستغفر لهم الله﴾ أي الذي له الغنى المطلق، فلا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، أو يكون الكلام شاملاً لمن صحت دعواه وغيره؛ ثم علل ذلك ترغيباً في الاستغفار، وتطييباً لقلوب أهل الأوزار، بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي له صفات الكمال ﴿غفور﴾ أي له هذا الوصف فهو جدير بأن يغفر لهم ما قصروا فيه ﴿رحيم*﴾ أي فكل ما أمرهم به فهو خير لهم وإن تراءى لهم خلافه.
ولما أظهرت هذه السورة بعمومها، وهذه الآيات بخصوصها، من شرف الرسول ما بهر العقول، لأجل ما وقع للمنافق من التجرؤ على ذلك الجناب الأشم، والمنصب الأتم، وعلم منه أن له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل أمره وجميع شأنه خصوصية ليست لغيره، صرح بذلك تفخيماً للشأن، وتعظيماً للمقام، ليتأدب من ناضل عن المنافق، أو توانى في أمره فقصر عن مدى أهل السوابق، فقال منبهاً على أن المصائب سبب لإظهار المناقب أو إشهار المعايب ﴿لا تجعلوا﴾ أي ايها الذين آمنوا ﴿دعاء الرسول﴾ أي لكم الذي يوقعه ﴿بينكم﴾
324
ولو على سبيل العموم، في وجوب الامتثال ﴿كدعاء بعضكم بعضاً﴾ فإن أمره عظيم، ومخالفته استحلالاً كفر، ولا تجعلوا أيضاً دعاءكم إياه كدعاء بعضكم لبعض بمجرد الاسم، بل تأدبوا معه بالتفخيم والتبجيل والتعظيم كما سن الله بنحو: يا ايها النبي، ويا أيها الرسول، مع إظهار الأدب في هيئة القول الفعل بخفض الصوت والتواضع.
ولما كان بعضهم يظهر المؤالفة، ويبطن المخالفة، حذر من ذلك بشمول علمه وتمام قدرته، فقال معللاً مؤكداً محققاً معلماً بتجديد تعليق العلم الشهودي كلما جدد أحد خيانة لدوام اتصافه بإحاطة العلم من غير نظر إلى زمان: ﴿قد يعلم الله﴾ أي الحائز لجميع صفات المجد إن ظننتم أن ما تفعلونه من التستر يخفي أمركم على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو سبحانه يعلم ﴿الذين يتسللون﴾ وعين أهل التوبيخ بقوله: ﴿منكم﴾ أي يتكلفون سلَّ أنفسهم ليجعلوا ذهابهم في غاية الخفاء ﴿لواذاً﴾ أي تسللاً مستخفين به بتستر بعضهم فيه ببعض؛ يقال: لاذ بالشيء لوذاً ولواذاً وملاوذة: استتر وتحصن، فهو مصدر لتسلل من غير لفظه، ولعله أدخل «قد» على المضارع ليزيد أهل التحقيق تحقيقاً، ويفتح لأهل الريب إلى الاحتمال طريقاً، فإنه يكفي في الخوف من النكال طروق الاحتمال؛ وسبب عن علمه قوله:
325
﴿فليحذر﴾ أي يوقع الحذر ﴿الذين يخالفون﴾ أي يوقعون مخالفته بالذهاب مجاوزين معرضين ﴿عن أمره﴾ أي أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلى خلافه ﴿أن تصيبهم فتنة﴾ أي شيء يخالطهم في الدنيا فيحل أمورهم إلى غير الحالة المحبوبة التي كاونوا عليها ﴿أو يصيبهم عذاب أليم*﴾ في الآخرة، وهذا يدل على أن الأمر للوجوب حتى يصرف عنه صارف، لترتيب العقاب على الإخلال به، لأن التحذير من العقاب إنما يكون بعد قيام المقتضي لنزول العذاب.
ولما أقام سبحانه الأدلة على أنه نور السماوات والأرض بأنه لا قيام لشيء إلا به سبحانه، وختم بالتحذير لكل مخالف، أنتج ذلك أن له كل شيء فقال: ﴿ألا إن لله﴾ اي الذي له جميع المجد جميع ﴿ما في السماوات﴾ ولثبوت أنه سبحانه محيط العلم والقدرة، لم يقتض المقام التأكيد بإعادة الموصول فقال: ﴿والأرض﴾ أي من جوهر وعرض، وهما له أيضاً لأن الأرض في السماء، وكل سماء في التي فوقها حتى ينتهي ذلك إلى العرش الذي صرح في غير آية أنه صاحبه، وهو سماء أيضاً لعلوه عما دونه، فكل ما فيه له، وذلك أبلغ - لدلالته بطريق المجاز - مما لو صرح به، فدل ذلك - بعد الدلالة
326
على وجوده - على وحدانيته، وكمال علمه وقدرته.
ولما كانت أحوالهم من جملة ما له، كان من المعلوم أنها لم تقم في أصلها ولا بقاء لها إلا بعلمه ولأنها بخلقه، فلذلك قال محققاً مؤكداً مرهباً: ﴿قد يعلم ما أنتم﴾ أيها الناس كلكم ﴿عليه﴾ أي الآن، والمراد بالمضارع هنا وجود الوصف من غير نظر إلى زمان، ولو عبر بالماضي لتوهم الاختصاص به، والكلام في إدخال «قد» عليه كما مضى آنفاً باعتبار أولي النفوذ في البصر، وأهل الكلال والكدر ﴿ويوم﴾ أي ويعلم ما هم عليه يوم ﴿يرجعون﴾ أي بقهر قاهر لهم على ذلك، لا يقدرون له على دفاع، ولا نوع امتناع ﴿إليه﴾ وكان الأصل: ما أنتم عليه، ولكنه أعرض عنهم تهويلاً للأمر، أو يكون ذلك خاصاً بالمتولين المعرضين إشارة إلى أنهم يناقشون الحساب، ويكون سر الالتفاف التنبيه على الإعراض عن المكذب بالقيامة، والإقبال على المصدق، صوناً لنفيس الكلام، عن الجفاة الأغبياء اللئام ﴿فينبئهم﴾ أي فيتسبب عن ذلك أنه يخبرهم تخبيراً عظيماً ﴿بما عملوا﴾ فليعدوا لكل شيء منه جواباً ﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة ﴿بكل شيء﴾ من ذلك وغيره ﴿عليم*﴾ فلذلك أنزل الآيات
327
البينات، وكان نور الأرض والسماوات، فقد رد الختام على المبدأ، والتحم الآخر بالأول والاثنا - والله الهادي.
328
مقصودها إنذار عامة المكلفين بما له سبحانه من القدرة الشاملة، المستلزم للعلم التام، المدلول عليه بهذا القرآن المبين، المستلزم لأنه لا موجد على الحقيقة سواه، فهو الحق، وما سواه باطل؛ وتسميتها بالقرقان واضح الدلالة على ذلك، فإن الكتاب ما نزل إلا للتفرقة بين الملتبسات، وتمييز الحق من الباطل)) ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة () [الأنفال: ٤٢] فلا يكون لأحد على الله حجة) بسم الله (الذي له الحجة البالغة، لإحاطة عظمته، وشمول علمه وقدرته) الرحمن (الذي عم بنعمه الفرقان، أهلَ الإيمان والكفران) الرحيم (الذي خص من شاء من عباده بملابس الرضوان.
لما ختم سبحانه تلك بسعة الملك، وشمول العلم، وتعظيم الرسول،
329
والتهديد لمن تجاوز الحد، افتتح هذه بمثل ذلك على وجه - مع كونه أضخم منه - هو برهان عليه فقال
330
Icon