تفسير سورة ص

الجامع لأحكام القرآن
تفسير سورة سورة ص من كتاب الجامع لأحكام القرآن .
لمؤلفه القرطبي . المتوفي سنة 671 هـ

سُورَة " ص " مَكِّيَّة وَآيَاتهَا ٨٨ نَزَلَتْ بَعْد الْقَمَر وَهِيَ مَكِّيَّة فِي قَوْل الْجَمِيع، وَهِيَ سِتّ وَثَمَانُونَ آيَة.
وَقِيلَ ثَمَان وَثَمَانُونَ آيَة.
قِرَاءَة الْعَامَّة " ص " بِجَزْمِ الدَّال عَلَى الْوَقْف ; لِأَنَّهُ حَرْف مِنْ حُرُوف الْهِجَاء مِثْل :" الم " وَ " المر ".
وَقَرَأَ أُبَيّ بْن كَعْب وَالْحَسَن وَابْن أَبِي إِسْحَاق وَنَصْر بْن عَاصِم " صَادِ " بِكَسْرِ الدَّال بِغَيْرِ تَنْوِين.
وَلِقِرَاءَتِهِ مَذْهَبَانِ : أَحَدهمَا أَنَّهُ مِنْ صَادَى يُصَادِي إِذَا عَارَضَ، وَمِنْهُ " فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى " [ عَبَسَ : ٦ ] أَيْ تَعَرَّضُ.
وَالْمُصَادَاة الْمُعَارَضَة، وَمِنْهُ الصَّدَى وَهُوَ مَا يُعَارِض الصَّوْت فِي الْأَمَاكِن الْخَالِيَة.
فَالْمَعْنَى صَادِ الْقُرْآن بِعَمَلِك ; أَيْ عَارِضْهُ بِعَمَلِك وَقَابِلْهُ بِهِ، فَاعْمَلْ بِأَوَامِرِهِ، وَانْتَهِ عَنْ نَوَاهِيه.
النَّحَّاس : وَهَذَا الْمَذْهَب يُرْوَى عَنْ الْحَسَن أَنَّهُ فَسَّرَ بِهِ قِرَاءَته رِوَايَة صَحِيحَة.
وَعَنْهُ أَنَّ الْمَعْنَى اُتْلُهُ وَتَعَرَّضْ لِقِرَاءَتِهِ.
وَالْمَذْهَب الْآخَر أَنْ تَكُون الدَّال مَكْسُورَة لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
وَقَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر " صَادَ " بِفَتْحِ الدَّال مِثْله :" قَافَ " وَ " نُونَ " بِفَتْحِ آخِرهَا.
وَلَهُ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَة مَذَاهِب : أَحَدُهُنَّ أَنْ يَكُون بِمَعْنَى اُتْلُ.
وَالثَّانِي أَنْ يَكُون فَتَحَ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَاخْتَارَ الْفَتْح لِلْإِتْبَاعِ ; وَلِأَنَّهُ أَخَفّ الْحَرَكَات.
وَالثَّالِث أَنْ يَكُون مَنْصُوبًا عَلَى الْقَسَم بِغَيْرِ حَرْف ; كَقَوْلِك : اللَّه لَأَفْعَلَنَّ، وَقِيلَ : نَصْب عَلَى الْإِغْرَاء.
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ صَادَ مُحَمَّد قُلُوب الْخَلْق وَاسْتَمَالَهَا حَتَّى آمَنُوا بِهِ.
وَقَرَأَ اِبْن أَبِي إِسْحَاق أَيْضًا " صَادٍ " بِكَسْرِ الدَّال وَالتَّنْوِين عَلَى أَنْ يَكُون مَخْفُوضًا عَلَى حَذْف حَرْف الْقَسَم، وَهَذَا بَعِيد وَإِنْ كَانَ سِيبَوَيْهِ قَدْ أَجَازَ مِثْله.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون مُشَبَّهًا بِمَا لَا يَتَمَكَّن مِنْ الْأَصْوَات وَغَيْرهَا.
وَقَرَأَ هَارُون الْأَعْوَر وَمُحَمَّد بْن السَّمَيْقَع :" صَادُ " وَ " قَافُ " وَ " نُونُ " بِضَمِّ آخِرِهِنَّ : لِأَنَّهُ الْمَعْرُوف بِالْبِنَاءِ فِي غَالِب الْحَال، نَحْو مُنْذُ وَقَطُّ وَقَبْل وَبَعْد.
وَ " ص " إِذَا جَعَلْته اِسْمًا لِلسُّورَةِ لَمْ يَنْصَرِف ; كَمَا أَنَّك إِذَا سَمَّيْت مُؤَنَّثًا بِمُذَكِّرٍ لَا يَنْصَرِف وَإِنْ قَلَّتْ حُرُوفُهُ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَجَابِر بْن عَبْد اللَّه وَقَدْ سُئِلَا عَنْ " ص " فَقَالَا : لَا نَدْرِي مَا هِيَ.
وَقَالَ عِكْرِمَة : سَأَلَ نَافِع بْن الْأَزْرَق اِبْن عَبَّاس عَنْ " ص " فَقَالَ :" ص " كَانَ بَحْرًا بِمَكَّة وَكَانَ عَلَيْهِ عَرْش الرَّحْمَن إِذْ لَا لَيْل وَلَا نَهَار.
وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر :" ص " بَحْر يُحْيِي اللَّه بِهِ الْمَوْتَى بَيْن النَّفْخَتَيْنِ.
وَقَالَ الضَّحَّاك : مَعْنَاهُ صَدَقَ اللَّه.
وَعَنْهُ أَنَّ " ص " قَسَم أَقْسَمَ اللَّه بِهِ وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى.
وَقَالَ السُّدِّيّ، وَرُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب : هُوَ مِفْتَاح أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى صَمَد وَصَانِع الْمَصْنُوعَات وَصَادِق الْوَعْد.
وَقَالَ قَتَادَة : هُوَ اِسْم مِنْ أَسْمَاء الرَّحْمَن.
وَعَنْهُ أَنَّهُ اِسْم مِنْ أَسْمَاء الْقُرْآن.
وَقَالَ مُجَاهِد : هُوَ فَاتِحَة السُّورَة.
وَقِيلَ : هُوَ مِمَّا اِسْتَأْثَرَ اللَّه تَعَالَى بِعِلْمِهِ وَهُوَ مَعْنَى الْقَوْل الْأَوَّل.
وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيع هَذَا فِي [ الْبَقَرَة ].
وَالْقُرْآنِ
خَفْض بِوَاوِ الْقَسَم وَالْوَاو بَدَل مِنْ الْبَاء ; أَقْسَمَ بِالْقُرْآنِ تَنْبِيهًا عَلَى جَلَالَة قَدْره ; فَإِنَّ فِيهِ بَيَانَ كُلّ شَيْء، وَشِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُور، وَمُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ذِي الذِّكْرِ
خَفْض عَلَى النَّعْت وَعَلَامَة خَفْضه الْيَاء، وَهُوَ اِسْم مُعْتَلّ وَالْأَصْل فِيهِ ذَوَيْ عَلَى فَعَل.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَمُقَاتِل مَعْنَى " ذِي الذَّكَر " ذِي الْبَيَان.
الضَّحَّاك : ذِي الشَّرَف أَيْ مَنْ آمَنَ بِهِ كَانَ شَرَفًا لَهُ فِي الدَّارَيْنِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى :" لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْركُمْ " [ الْأَنْبِيَاء : ١٠ ] أَيْ شَرَفكُمْ.
وَأَيْضًا الْقُرْآن شَرِيف فِي نَفْسه لِإِعْجَازِهِ وَاشْتِمَاله عَلَى مَا لَا يَشْتَمِل عَلَيْهِ غَيْره.
وَقِيلَ :" ذِي الذِّكْر " أَيْ فِيهِ ذِكْر مَا يُحْتَاج إِلَيْهِ مِنْ أَمْر الدِّين.
وَقِيلَ :" ذِي الذِّكْر " أَيْ فِيهِ ذِكْر أَسْمَاء اللَّه وَتَمْجِيده.
وَقِيلَ : أَيْ ذِي الْمَوْعِظَة وَالذِّكْر.
وَجَوَاب الْقَسَم مَحْذُوف.
وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَوْجُه : فَقِيلَ جَوَاب الْقَسَم " ص " ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ حَقّ فَهِيَ جَوَاب لِقَوْلِهِ :" وَالْقُرْآن " كَمَا تَقُول : حَقًّا وَاَللَّه، نَزَلَ وَاَللَّه، وَجَبَ وَاَللَّه ; فَيَكُون الْوَقْف مِنْ هَذَا الْوَجْه عَلَى قَوْله :" وَالْقُرْآن ذِي الذِّكْر " حَسَنًا، وَعَلَى " فِي عِزَّة وَشِقَاق " تَمَامًا.
قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ.
وَحَكَى مَعْنَاهُ الثَّعْلَبِيّ عَنْ الْفَرَّاء.
وَقِيلَ : الْجَوَاب " بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّة وَشِقَاق " لِأَنَّ " بَلْ " نَفْي لِأَمْرٍ سَبَقَ وَإِثْبَات لِغَيْرِهِ ; قَالَهُ الْقُتَبِيّ ; فَكَأَنَّهُ قَالَ :" وَالْقُرْآن ذِي الذِّكْر بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّة وَشِقَاق " عَنْ قَبُول الْحَقّ وَعَدَاوَة لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَوْ " وَالْقُرْآن ذِي الذِّكْر " مَا الْأَمْر كَمَا يَقُولُونَ مِنْ أَنَّك سَاحِر كَذَّاب ; لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَك بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَة بَلْ هُمْ فِي تَكَبُّر عَنْ قَبُول الْحَقّ.
وَهُوَ كَقَوْلِهِ :" ق وَالْقُرْآن الْمَجِيد.
بَلْ عَجِبُوا " [ قِ : ٢ ].
وَقِيلَ : الْجَوَاب " وَكَمْ أَهْلَكْنَا " [ قِ : ٣٦ ] كَأَنَّهُ قَالَ : وَالْقُرْآن لَكَمْ أَهْلَكْنَا ; فَلَمَّا تَأَخَّرَتْ " كَمْ " حُذِفَتْ اللَّام مِنْهَا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَالشَّمْس وَضُحَاهَا " [ الشَّمْس : ١ ] ثُمَّ قَالَ :" قَدْ أَفْلَحَ " [ الشَّمْس : ٩ ] أَيْ لَقَدْ أَفْلَحَ.
قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَهَذَا مَذْهَب الْفَرَّاء.
اِبْن الْأَنْبَارِيّ : فَمِنْ هَذَا الْوَجْه لَا يَتِمّ الْوَقْف عَلَى قَوْله :" فِي عِزَّة وَشِقَاق ".
وَقَالَ الْأَخْفَش : جَوَاب الْقَسَم " إِنْ كُلّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُل فَحَقَّ عِقَاب " وَنَحْو مِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَال مُبِين " [ الشُّعَرَاء : ٩٧ ] وَقَوْله :" وَالسَّمَاء وَالطَّارِق " إِلَى قَوْله " إِنْ كُلّ نَفْس " [ الطَّارِق :
١ - ٤ ].
اِبْن الْأَنْبَارِيّ : وَهَذَا قَبِيح ; لِأَنَّ الْكَلَام قَدْ طَالَ فِيمَا بَيْنهمَا وَكَثُرَتْ الْآيَات وَالْقَصَص.
وَقَالَ الْكِسَائِيّ : جَوَاب الْقَسَم قَوْله :" إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُم أَهْل النَّار " [ ص : ٦٤ ].
اِبْن الْأَنْبَارِيّ : وَهَذَا أَقْبَح مِنْ الْأَوَّل ; لِأَنَّ الْكَلَام أَشَدّ طُولًا فِيمَا بَيْن الْقَسَم وَجَوَابه.
وَقِيلَ الْجَوَاب قَوْله :" إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَاد " [ ص : ٥٤ ].
وَقَالَ قَتَادَة : الْجَوَاب مَحْذُوف تَقْدِيره " وَالْقُرْآن ذِي الذِّكْر " لَتُبْعَثُنَّ وَنَحْوه.
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ
أَيْ تَكَبُّر وَامْتِنَاع مِنْ قَبُول الْحَقّ ; كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ :" وَإِذَا قِيلَ لَهُ اِتَّقِ اللَّه أَخَذَتْهُ الْعِزَّة بِالْإِثْمِ " [ الْبَقَرَة : ٢٠٦ ] وَالْعِزَّة عِنْد الْعَرَب : الْغَلَبَة وَالْقَهْر.
يُقَال : مَنْ عَزَّ بَزَّ ; يَعْنِي مَنْ غَلَبَ سَلَبَ.
وَمِنْهُ :" وَعَزَّنِي فِي الْخِطَاب " [ ص : ٢٣ ] أَرَادَ غَلَبَنِي.
وَقَالَ جَرِير :
يَعُزُّ عَلَى الطَّرِيقِ بِمَنْكِبَيْهِ كَمَا اِبْتَرَكَ الْخَلِيعُ عَلَى الْقِدَاحِ
أَرَادَ يَغْلِب.
وَشِقَاقٍ
أَيْ فِي إِظْهَار خِلَاف وَمُبَايَنَة.
وَهُوَ مِنْ الشِّقّ كَأَنَّ هَذَا فِي شِقّ وَذَلِكَ فِي شِقّ.
وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] مُسْتَوْفًى.
كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ
مِنْ قَبْلهمْ مِنْ قَرْن " أَيْ قَوْم كَانُوا أَمْنَعَ مِنْ هَؤُلَاءِ.
وَ " كَمْ " لَفْظَة التَّكْثِير
فَنَادَوْا
أَيْ بِالِاسْتِغَاثَةِ وَالتَّوْبَة.
وَالنِّدَاء رَفْع الصَّوْت ; وَمِنْهُ الْخَبَر :( أَلْقِهِ عَلَى بِلَال فَإِنَّهُ أَنْدَى مِنْك صَوْتًا ) أَيْ أَرْفَع.
وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ
قَالَ الْحَسَن : نَادَوْا بِالتَّوْبَةِ وَلَيْسَ حِين التَّوْبَة وَلَا حِين يَنْفَع الْعَمَل.
النَّحَّاس : وَهَذَا تَفْسِير مِنْهُ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ :" وَلَاتَ حِين مَنَاص " فَأَمَّا إِسْرَائِيل فَرَوَى عَنْ أَبِي إِسْحَاق عَنْ التَّمِيمِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس :" وَلَاتَ حِين مَنَاص " قَالَ : لَيْسَ بِحِينِ نَزْوٍ وَلَا فِرَار ; قَالَ : ضَبْط الْقَوْم جَمِيعًا قَالَ الْكَلْبِيّ : كَانُوا إِذَا قَاتَلُوا فَاضْطُرُّوا قَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ مَنَاص ; أَيْ عَلَيْكُمْ بِالْفِرَارِ وَالْهَزِيمَة، فَلَمَّا أَتَاهُمْ الْعَذَاب قَالُوا مَنَاص ; فَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" وَلَاتَ حِين مَنَاص " قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَعَلَى هَذَا فَالتَّقْدِير : فَنَادَوْا مَنَاص فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ بَقِيَّة الْكَلَام عَلَيْهِ ; أَيْ لَيْسَ الْوَقْت وَقْت مَا تُنَادُونَ بِهِ.
وَفِي هَذَا نَوْع تَحَكُّم ; إِذْ يَبْعُد أَنْ يُقَال : كُلّ مَنْ هَلَكَ مِنْ الْقُرُون كَانُوا يَقُولُونَ مَنَاص عِنْد الِاضْطِرَار.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى " وَلَاتَ حِين مَنَاص " أَيْ لَا خَلَاص وَهُوَ نَصْب بِوُقُوعِ لَا عَلَيْهِ.
قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَفِيهِ نَظَر لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى عَلَى هَذَا لِلْوَاوِ فِي " وَلَاتَ حِين مَنَاص " وَقَالَ الْجُرْجَانِيّ : أَيْ فَنَادَوْا حِين لَا مَنَاص ; أَيْ سَاعَة لَا مَنْجَى وَلَا فَوْت.
فَلَمَّا قَدَّمَ " لَا " وَأَخَّرَ " حِين " اِقْتَضَى ذَلِكَ الْوَاو، كَمَا يَقْتَضِي الْحَال إِذَا جُعِلَ اِبْتِدَاء وَخَبَرًا ; مِثْل قَوْلِك : جَاءَ زَيْد رَاكِبًا ; فَإِذَا جَعَلْته مُبْتَدَأ وَخَبَرًا اِقْتَضَى الْوَاو مُثُل جَاءَنِي زَيْد وَهُوَ رَاكِب، فَحِين ظَرْف لِقَوْلِهِ : فَنَادَوْا ".
وَالْمَنَاص بِمَعْنَى التَّأَخُّر وَالْفِرَار وَالْخَلَاص ; أَيْ نَادَوْا لِطَلَبِ الْخَلَاص فِي وَقْت لَا يَكُون لَهُمْ فِيهِ خَلَاص.
قَالَ الْفَرَّاء :
أَمِنْ ذِكْر لَيْلَى إِذْ نَأَتْك تَنُوصُ
يُقَال : نَاصَ عَنْ قَرْنه يَنُوص نَوْصًا وَمَنَاصًا أَيْ فَرَّ وَزَاغَ.
النَّحَّاس : وَيُقَال : نَاصَ يَنُوص إِذَا تَقَدَّمَ.
قُلْت : فَعَلَى هَذَا يَكُون مِنْ الْأَضْدَاد، وَالنَّوْص الْحِمَار الْوَحْشِيّ.
وَاسْتَنَاصَ أَيْ تَأَخَّرَ ; قَالَهُ الْجَوْهَرِيّ.
وَتَكَلَّمَ النَّحْوِيُّونَ فِي " وَلَاتَ حِين " وَفِي الْوَقْف عَلَيْهِ، وَكَثَّرَ فِيهِ أَبُو عُبَيْدَة الْقَاسِم بْن سَلَّام فِي كِتَاب الْقِرَاءَات وَكُلّ مَا جَاءَ بِهِ إِلَّا يَسِيرًا مَرْدُود.
فَقَالَ سِيبَوَيْهِ :" لَاتَ " مُشَبَّهَة بِلَيْسَ وَالِاسْم فِيهَا مُضْمَر ; أَيْ لَيْسَتْ أَحْيَانُنَا حِين مَنَاص.
وَحَكَى أَنَّ مِنْ الْعَرَب مَنْ يَرْفَع بِهَا فَيَقُول : وَلَاتَ حِينُ مَنَاص.
وَحَكَى أَنَّ الرَّفْع قَلِيل وَيَكُون الْخَبَر مَحْذُوفًا كَمَا كَانَ الِاسْم مَحْذُوفًا فِي النَّصْب ; أَيْ وَلَاتَ حِين مَنَاص لَنَا.
وَالْوَقْف عَلَيْهَا عِنْد سِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاء " وَلَاتَ " بِالتَّاءِ ثُمَّ تَبْتَدِئ " حِين مَنَاص " هُوَ قَوْل اِبْن كَيْسَان وَالزَّجَّاج.
قَالَ أَبُو الْحَسَن بْن كَيْسَان : وَالْقَوْل كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ ; لِأَنَّ شَبَههَا بِلَيْسَ فَكَمَا يُقَال لَيْسَتْ يُقَال لَاتَ.
وَالْوُقُوف عَلَيْهَا عِنْد الْكِسَائِيّ بِالْهَاءِ وَلَاه.
وَهُوَ قَوْل الْمُبَرِّد مُحَمَّد بْن يَزِيد.
وَحَكَى عَنْهُ عَلِيّ بْن سُلَيْمَان أَنَّ الْحُجَّة فِي ذَلِكَ أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْهَاء لِتَأْنِيثِ الْكَلِمَة، كَمَا يُقَال ثُمَّهْ وَرُبَّهْ.
وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَقَدْ يُقَال ثُمَّتْ بِمَعْنَى ثُمَّ، وَرُبَّتْ بِمَعْنَى رُبَّ ; فَكَأَنَّهُمْ زَادُوا فِي لَا هَاء فَقَالُوا لَاهْ، كَمَا قَالُوا فِي ثُمَّهْ عِنْد الْوَصْل صَارَتْ تَاء.
وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَقَالَ أَهْل اللُّغَة : وَ " لَاتَ حِينَ " مَفْتُوحَتَانِ كَأَنَّهُمَا كَلِمَة وَاحِدَة، وَإِنَّمَا هِيَ " لَا " زِيدَتْ فِيهَا التَّاء نَحْو رُبّ وَرُبَّتْ، وَثُمَّ وَثُمَّتْ.
قَالَ أَبُو زُبَيْد الطَّائِيّ :
طَلَبُوا صُلْحَنَا وَلَاتَ أَوَانِ فَأَجَبْنَا أَنْ لَيْسَ حِينَ بَقَاءِ
وَقَالَ آخَر :
تَذَكَّرَ حُبَّ لَيْلَى لَاتَ حِينًا وَأَمْسَى الشَّيْبُ قَدْ قَطَعَ الْقَرِينَا
وَمِنْ الْعَرَب مَنْ يَخْفِض بِهَا ; وَأَنْشَدَ الْفَرَّاء :
فَلَتَعْرِفَنَّ خَلَائِقًا مَشْمُولَةً وَلَتَنْدَمَنَّ وَلَاتَ سَاعَةَ مَنْدَمِ
وَكَانَ الْكِسَائِيّ وَالْفَرَّاء وَالْخَلِيل وَسِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَش يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ " وَلَاتَ حِين " التَّاء مُنْقَطِعَة مِنْ حِين، وَيَقُولُونَ مَعْنَاهَا وَلَيْسَتْ.
وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْمَصَاحِف الْجُدُد وَالْعُتُق بِقَطْعِ التَّاء مِنْ حِين.
وَإِلَى هَذَا كَانَ يَذْهَب أَبُو عُبَيْدَة مَعْمَر بْن الْمُثَنَّى.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْد الْقَاسِم بْن سَلَّام : الْوَقْف عِنْدِي عَلَى هَذَا الْحَرْف " وَلَا " وَالِابْتِدَاء " تَحِين مَنَاص " فَتَكُون التَّاء مَعَ حِين.
وَقَالَ بَعْضهمْ :" لَاتَ " ثُمَّ يَبْتَدِئ فَيَقُول :" حِين مَنَاص ".
قَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْد أَنَّ التَّاء فِي الْمُصْحَف مُتَّصِلَة بِحِينَ وَهُوَ غَلَط عِنْد النَّحْوِيِّينَ، وَهُوَ خِلَاف قَوْل الْمُفَسِّرِينَ.
وَمِنْ حُجَّة أَبِي عُبَيْد أَنْ قَالَ : إِنَّا لَمْ نَجِدْ الْعَرَب تَزِيد هَذِهِ التَّاء إِلَّا فِي حِين وَأَوَان وَالْآن ; وَأَنْشَدَ لِأَبِي وَجْزَة السَّعْدِيّ :
الْعَاطِفُونَ تَحِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ وَالْمُطْعِمُونَ زَمَانَ أَيْنَ الْمَطْعَمُ
وَأَنْشَدَ لِأَبِي زُبَيْد الطَّائِيّ :
طَلَبُوا صُلْحَنَا وَلَا تَأَوَانِ فَأَجَبْنَا أَنْ لَيْسَ حِينَ بَقَاءِ
فَأَدْخَلَ التَّاء فِي أَوَان.
قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَمِنْ إِدْخَالِهِمْ التَّاء فِي الْآن، حَدِيث اِبْن عُمَر وَسَأَلَهُ رَجُل عَنْ عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَذَكَرَ مَنَاقِبَهُ ثُمَّ قَالَ : اِذْهَبْ بِهَا تَلَانَ مَعَك.
وَكَذَلِكَ قَوْل الشَّاعِر :
نُوَلِّي قَبْلَ نَأْيِ دَارِي جُمَانَا وَصَلَّيْنَا كَمَا زَعَمَتْ تَلَانَا
قَالَ أَبُو عُبَيْد : ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلّه إِنِّي تَعَمَّدْت النَّظَر فِي الَّذِي يُقَال لَهُ الْإِمَام - مُصْحَف عُثْمَان - فَوَجَدْت التَّاء مُتَّصِلَة مَعَ حِين قَدْ كُتِبَتْ تَحِين.
قَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : أَمَّا الْبَيْت الْأَوَّل الَّذِي أَنْشَدَهُ لِأَبِي وَجْزَة فَرَوَاهُ الْعُلَمَاء بِاللُّغَةِ عَلَى أَرْبَعَة أَوْجُه، كُلّهَا عَلَى خِلَاف مَا أَنْشَدَهُ ; وَفِي أَحَدهَا تَقْدِيرَانِ ; رَوَاهُ أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يَزِيد :
الْعَاطِفُونَ وَلَاتَ مَا مِنْ عَاطِفٍ
وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة :
الْعَاطِفُونَ وَلَاتَ حِين تَعَاطُفِ
وَالرِّوَايَة الثَّالِثَة رَوَاهَا اِبْن كَيْسَان :
الْعَاطِفُونَة حِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ
جَعَلَهَا هَاء فِي الْوَقْف وَتَاء فِي الْإِدْرَاج، وَزَعَمَ أَنَّهَا لِبَيَانِ الْحَرَكَة شُبِّهَتْ بِهَاءِ التَّأْنِيث.
الرِّوَايَة الرَّابِعَة :
الْعَاطِفُونَهُ حِين مَا مِنْ عَاطِفٍ
وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَة تَقْدِيرَانِ ; أَحَدهمَا وَهُوَ مَذْهَب إِسْمَاعِيل بْن إِسْحَاق أَنَّ الْهَاء فِي مَوْضِع نَصْب ; كَمَا تَقُول : الضَّارِبُونَ زَيْدًا فَإِذَا كَنَّيْت قُلْت الضَّارِبُوهُ.
وَأَجَازَ سِيبَوَيْهِ فِي الشِّعْر الضَّارِبُونَهُ، فَجَاءَ إِسْمَاعِيل بِالتَّأْنِيثِ عَلَى مَذْهَب سِيبَوَيْهِ فِي إِجَازَته مِثْله.
وَالتَّقْدِير الْآخَر الْعَاطِفُونَهُ عَلَى أَنَّ الْهَاء لِبَيَانِ الْحَرَكَة، كَمَا تَقُول : مَرَّ بِنَا الْمُسْلِمُونَهْ فِي الْوَقْف، ثُمَّ أُجْرِيَتْ فِي الْوَصْل مَجْرَاهَا فِي الْوَقْف ; كَمَا قَرَأَ أَهْل الْمَدِينَة :" مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ " [ الْحَاقَّة :
٢٨ - ٢٩ ] وَأَمَّا الْبَيْت الثَّانِي فَلَا حُجَّة لَهُ فِيهِ ; لِأَنَّهُ يُوقَف عَلَيْهِ : وَلَاتَ أَوَان، غَيْر أَنَّ فِيهِ شَيْئًا مُشْكِلًا ; لِأَنَّهُ يُرْوَى : وَلَاتَ أَوَانِ بِالْخَفْضِ، وَإِنَّمَا يَقَع مَا بَعْد لَاتَ مَرْفُوعًا أَوْ مَنْصُوبًا.
وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْ عِيسَى بْن عُمَر أَنَّهُ قَرَأَ " وَلَاتِ حِينِ مَنَاص " بِكَسْرِ التَّاء مِنْ لَات وَالنُّون مِنْ حِين فَإِنَّ الثَّبَت عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ " وَلَات حِينَ مَنَاص " فَبَنَى " لَاتِ " عَلَى الْكَسْر وَنَصَبَ " حِين ".
فَأَمَّا : وَلَاتَ أَوَان فَفِيهِ تَقْدِيرَانِ ; قَالَ الْأَخْفَش : فِيهِ مُضْمَر أَيْ وَلَاتَ حِين أَوَان.
قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا الْقَوْل بَيِّن الْخَطَأ.
وَالتَّقْدِير الْآخَر عَنْ أَبِي إِسْحَاق قَالَ : تَقْدِيره وَلَاتَ أَوَاننَا فَحَذَفَ، الْمُضَاف إِلَيْهِ فَوَجَبَ أَلَّا يُعْرَب، وَكَسَرَهُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ.
وَأَنْشَدَهُ مُحَمَّد بْن يَزِيد وَلَاتَ أَوَانٌ بِالرَّفْعِ.
وَأَمَّا الْبَيْت الثَّالِث فَبَيْت مُوَلَّد لَا يُعْرَف قَائِلُهُ وَلَا تَصِحّ بِهِ حُجَّة.
عَلَى أَنَّ مُحَمَّد بْن يَزِيد رَوَاهُ : كَمَا زَعَمْت الْآن.
وَقَالَ غَيْره : الْمَعْنَى كَمَا زَعَمْت أَنْتَ الْآن.
فَأَسْقَطَ الْهَمْزَة مِنْ أَنْتَ وَالنُّون.
وَأَمَّا اِحْتِجَاجه بِحَدِيثِ اِبْن عُمَر، لَمَّا ذَكَرَ لِلرَّجُلِ مَنَاقِب عُثْمَان فَقَالَ لَهُ : اِذْهَبْ بِهَا تَلَانَ إِلَى أَصْحَابك فَلَا حُجَّة، فِيهِ ; لِأَنَّ الْمُحَدِّث إِنَّمَا يَرْوِي هَذَا عَلَى الْمَعْنَى.
وَالدَّلِيل عَلَى هَذَا أَنَّ مُجَاهِدًا يَرْوِي عَنْ اِبْن عُمَر هَذَا الْحَدِيث وَقَالَ فِيهِ : اِذْهَبْ فَاجْهَدْ جَهْدَك.
وَرَوَاهُ آخَر : اِذْهَبْ بِهَا الْآن مَعَك.
وَأَمَّا اِحْتِجَاجُهُ بِأَنَّهُ وَجَدَهَا فِي الْإِمَام " تَحِين ".
فَلَا حُجَّة فِيهِ ; لِأَنَّ مَعْنَى الْإِمَام أَنَّهُ إِمَام الْمَصَاحِف فَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهَا فَلَيْسَ بِإِمَامٍ لَهَا، وَفِي الْمَصَاحِف كُلّهَا " وَلَاتَ " فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا إِلَّا هَذَا الِاحْتِجَاج لَكَانَ مُقْنِعًا.
وَجَمْع مَنَاص مَنَاوِص.
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ
" أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب وَالْمَعْنَى مِنْ أَنْ جَاءَهُمْ.
قِيلَ : هُوَ مُتَّصِل بِقَوْلِهِ :" فِي عِزَّة وَشِقَاق " أَيْ فِي عِزَّة وَشِقَاق وَعَجِبُوا، وَقَوْله :" كَمْ أَهْلَكْنَا " مُعْتَرِض.
وَقِيلَ : لَا بَلْ هَذَا اِبْتِدَاء كَلَام ; أَيْ وَمِنْ جَهْلهمْ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا التَّعَجُّب مِنْ أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِر مِنْهُمْ.
وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ
أَيْ يَجِيء بِالْكَلَامِ الْمُمَوَّه الَّذِي يُخْدَع بِهِ النَّاس ; وَقِيلَ : يُفَرِّق بِسِحْرِهِ بَيْن الْوَالِد وَوَلَده وَالرَّجُل وَزَوْجَته
كَذَّابٌ
أَيْ فِي دَعْوَى النُّبُوَّة.
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا
مَفْعُولَانِ أَيْ صَيَّرَ الْآلِهَة إِلَهًا وَاحِدًا.
إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ
أَيْ عَجِيب.
وَقَرَأَ السُّلَمِيّ :" عُجَّاب " بِالتَّشْدِيدِ.
وَالْعُجَّاب وَالْعُجَاب وَالْعَجَب سَوَاء.
وَقَدْ فَرَّقَ الْخَلِيل بَيْن عَجِيب وَعُجَاب فَقَالَ : الْعَجِيب الْعَجَب، وَالْعُجَاب الَّذِي قَدْ تَجَاوَزَ حَدّ الْعَجَب، وَالطَّوِيل الَّذِي فِيهِ طُول، وَالطِّوَال، الَّذِي قَدْ تَجَاوَزَ حَدّ الطُّول.
وَقَالَ الْجَوْهَرِيّ : الْعَجِيب الْأَمْر الَّذِي يُتَعَجَّب مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْعُجَاب بِالضَّمِّ، وَالْعُجَّاب بِالتَّشْدِيدِ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْأُعْجُوبَة.
وَقَالَ مُقَاتِل :" عُجَّاب " لُغَة أَزْد شَنُوءَة.
وَرَوَى سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : مَرِضَ أَبُو طَالِب فَجَاءَتْ قُرَيْش إِلَيْهِ، وَجَاءَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْد رَأْس أَبِي طَالِب مَجْلِس رَجُل، فَقَامَ أَبُو جَهْل كَيْ يَمْنَعَهُ، قَالَ : وَشَكَوْهُ إِلَى أَبِي طَالِب، فَقَالَ : يَا بْن أَخِي مَا تُرِيد مِنْ قَوْمك ؟ فَقَالَ :( يَا عَمِّ إِنَّمَا أُرِيد مِنْهُمْ كَلِمَة تَذِلُّ لَهُمْ بِهَا الْعَرَب وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمْ بِهَا الْجِزْيَةَ الْعَجَمُ ) فَقَالَ : وَمَا هِيَ ؟ قَالَ :( لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ) قَالَ : فَقَالُوا " أَجَعَلَ الْآلِهَة إِلَهًا وَاحِدًا " قَالَ : فَنَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآن :" ص وَالْقُرْآن ذِي الذِّكْر.
بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّة وَشِقَاق " حَتَّى بَلَغَ " إِنْ هَذَا إِلَّا اِخْتِلَاق " خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضًا بِمَعْنَاهُ.
وَقَالَ : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح.
وَقِيلَ : لَمَّا أَسْلَمَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ شَقَّ عَلَى قُرَيْش إِسْلَامه فَاجْتَمَعُوا إِلَى أَبِي طَالِب وَقَالُوا : اِقْضِ بَيْننَا وَبَيْن اِبْن أَخِيك.
فَأَرْسَلَ أَبُو طَالِب إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا بْن أَخِي هَؤُلَاءِ قَوْمُك يَسْأَلُونَك السَّوَاء، فَلَا تَمِلْ كُلّ الْمَيْل عَلَى قَوْمِك.
قَالَ :( وَمَاذَا يَسْأَلُونَنِي ) قَالُوا : اُرْفُضْنَا وَارْفُضْ ذِكْرَ آلِهَتِنَا وَنَدَعَك وَإِلَهَك.
فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَتُعْطُونَنِي كَلِمَة وَاحِدَة وَتَمْلِكُونَ بِهَا الْعَرَب وَتَدِين لَكُمْ بِهَا الْعَجَم ) فَقَالَ أَبُو جَهْل : لِلَّهِ أَبُوك لَنُعْطِيَنَّكَهَا وَعَشْر أَمْثَالهَا.
فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( قُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ) فَنَفَرُوا مِنْ ذَلِكَ وَقَامُوا ; فَقَالُوا :" أَجَعَلَ الْآلِهَة إِلَهًا وَاحِدًا " فَكَيْف يَسَع الْخَلْق كُلّهمْ إِلَه وَاحِد.
فَأَنْزَلَ اللَّه فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَات إِلَى قَوْل :" كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْم نُوح " [ ص : ١٢ ]
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا
" الْمَلَأ " الْأَشْرَاف، وَالِانْطِلَاق الذَّهَاب بِسُرْعَةٍ ; أَيْ اِنْطَلَقَ هَؤُلَاءِ الْكَافِرُونَ مِنْ عِنْد الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام يَقُول بَعْضهمْ لِبَعْضٍ :" أَنْ اِمْشُوا " أَيْ اِمْضُوا عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ وَلَا تَدْخُلُوا فِي دِينه.
وَقِيلَ : هُوَ إِشَارَة إِلَى مَشْيهمْ إِلَى أَبِي طَالِب فِي مَرَضه كَمَا سَبَقَ.
وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بْن إِسْحَاق أَنَّهُمْ أَبُو جَهْل بْن هِشَام، وَشَيْبَة وَعُتْبَة أَبْنَاء رَبِيعَة بْن عَبْد شَمْس، وَأُمَيَّة بْن خَلَف، وَالْعَاص بْن وَائِل، وَأَبُو مُعَيْط ; وَجَاءُوا إِلَى أَبِي طَالِب فَقَالُوا : أَنْتَ سَيِّدُنَا وَأَنْصَفُنَا فِي أَنْفُسنَا، فَاكْفِنَا أَمْر اِبْن أَخِيك وَسُفَهَاءَ مَعَهُ، فَقَدْ تَرَكُوا آلِهَتَنَا وَطَعَنُوا فِي دِيننَا ; فَأَرْسَلَ أَبُو طَالِب إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ : إِنَّ قَوْمك يَدْعُونَك إِلَى السَّوَاء وَالنَّصَفَةِ.
فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّمَا أَدْعُوهُمْ إِلَى كَلِمَة وَاحِدَة ) فَقَالَ أَبُو جَهْل وَعَشْرًا.
قَالَ :( تَقُولُونَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه ) فَقَامُوا وَقَالُوا :" أَجَعَلَ الْآلِهَة إِلَهًا وَاحِدًا " الْآيَات.
" أَنْ اِمْشُوا " " أَنْ " فِي مَوْضِع نَصْب وَالْمَعْنَى بِأَنْ اِمْشُوا.
وَقِيلَ :" أَنْ " بِمَعْنَى أَيْ ; أَيْ " وَانْطَلَقَ الْمَلَأ مِنْهُمْ " أَيْ اِمْشُوا ; وَهَذَا تَفْسِير اِنْطِلَاقهمْ لَا أَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِهَذَا اللَّفْظ.
وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ
قِيلَ : الْمَعْنَى اِنْطَلَقَ الْأَشْرَاف مِنْهُمْ فَقَالُوا لِلْعَوَامِّ :" اِمْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتكُمْ " أَيْ عَلَى عِبَادَة آلِهَتكُمْ.
إِنَّ هَذَا
أَيْ هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام
لَشَيْءٌ يُرَادُ
أَيْ يُرَاد بِأَهْلِ الْأَرْض مِنْ زَوَال نِعَم قَوْم وَغِيَر تَنْزِل بِهِمْ.
وَقِيلَ :" إِنَّ هَذَا لَشَيْء يُرَاد " كَلِمَة تَحْذِير ; أَيْ إِنَّمَا يُرِيد مُحَمَّد بِمَا يَقُول الِانْقِيَاد لَهُ لِيَعْلُوَ عَلَيْنَا، وَنَكُون لَهُ أَتْبَاعًا فَيَتَحَكَّم فِينَا بِمَا يُرِيد، فَاحْذَرُوا أَنْ تُطِيعُوهُ.
وَقَالَ مُقَاتِل : إِنَّ عُمَر لَمَّا أَسْلَمَ وَقَوِيَ بِهِ الْإِسْلَام شَقَّ ذَلِكَ عَلَى قُرَيْش فَقَالُوا : إِنَّ إِسْلَام عُمَر فِي قُوَّة الْإِسْلَام لَشَيْءٌ يُرَاد.
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ
قَالَ اِبْن عَبَّاس وَالْقُرَظِيّ وَقَتَادَة وَمُقَاتِل وَالْكَلْبِيّ وَالسُّدِّيّ : يَعْنُونَ مِلَّة عِيسَى النَّصْرَانِيَّة وَهِيَ آخِر الْمِلَل.
وَالنَّصَارَى يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّه إِلَهًا.
وَقَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة أَيْضًا : يَعْنُونَ مِلَّة قُرَيْش.
وَقَالَ الْحَسَن : مَا سَمِعْنَا أَنَّ هَذَا يَكُون فِي آخِر الزَّمَان.
وَقِيلَ : أَيْ مَا سَمِعْنَا مِنْ أَهْل الْكِتَاب أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول حَقّ.
إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ
أَيْ كَذِب وَتَخَرُّص ; عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره.
يُقَال : خَلَقَ وَاخْتَلَقَ أَيْ اِبْتَدَعَ.
وَخَلَقَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الْخَلْق مِنْ هَذَا ; أَيْ اِبْتَدَعَهُمْ عَلَى غَيْر مِثَال.
أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا
هُوَ اِسْتِفْهَام إِنْكَار، وَالذِّكْر هَا هُنَا الْقُرْآن.
أَنْكَرُوا اِخْتِصَاصه بِالْوَحْيِ مِنْ بَيْنهمْ.
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي
شَكّ مِنْ ذِكْرِي " أَيْ مِنْ وَحْيِي وَهُوَ الْقُرْآن.
أَيْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّك لَمْ تَزَلْ صَدُوقًا فِيمَا بَيْنهمْ، وَإِنَّمَا شَكُّوا فِيمَا أَنْزَلْته عَلَيْك هَلْ هُوَ مِنْ عِنْدِي أَمْ لَا.
بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ
أَيْ إِنَّمَا اِغْتَرُّوا بِطُولِ الْإِمْهَال، وَلَوْ ذَاقُوا عَذَابِي عَلَى الشِّرْك لَزَالَ عَنْهُمْ الشَّكّ، وَلَمَا قَالُوا ذَلِكَ ; وَلَكِنْ لَا يَنْفَع الْإِيمَان حِينَئِذٍ.
وَ " لَمَّا " بِمَعْنَى لَمْ وَمَا زَائِدَة كَقَوْلِهِ :" عَمَّا قَلِيل " الْمُؤْمِنُونَ : ٤٠ ] وَقَوْله " فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ " [ النِّسَاء : ١٥٥ ].
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ
قِيلَ : أَمْ لَهُمْ هَذَا فَيَمْنَعُوا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَام مِمَّا أَنْعَمَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ النُّبُوَّة.
وَ " أَمْ " قَدْ تَرِد بِمَعْنَى التَّقْرِيع إِذَا كَانَ الْكَلَام مُتَّصِلًا بِكَلَام قَبْله ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" الم تَنْزِيل الْكِتَاب لَا رَيْب فِيهِ مِنْ رَبّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ " [ السَّجْدَة :
١ - ٣ ] وَقَدْ قِيلَ إِنَّ قَوْله :" أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِن رَحْمَة رَبّك " مُتَّصِل بِقَوْلِهِ :" وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِر مِنْهُمْ " [ ص : ٤ ] فَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يُرْسِل مَنْ يَشَاء ; لِأَنَّ خَزَائِن السَّمَوَات وَالْأَرْض لَهُ.
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
أَيْ فَإِنْ اِدَّعَوْا ذَلِكَ :" فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَاب "
فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ
أَيْ فَلْيَصْعَدُوا إِلَى السَّمَوَات، وَلْيَمْنَعُوا الْمَلَائِكَة مِنْ إِنْزَال الْوَحْي عَلَى مُحَمَّد.
يُقَال : رَقِيَ يَرْقَى وَارْتَقَى إِذَا صَعِدَ.
وَرَقَى يَرْقِي رَقْيًا مِثْل رَمَى يَرْمِي رَمْيًا مِنْ الرُّقْيَة.
قَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس : الْأَسْبَاب أَرَقُّ مِنْ الشَّعْر وَأَشَدّ مِنْ الْحَدِيد وَلَكِنْ لَا تُرَى.
وَالسَّبَب فِي اللُّغَة كُلّ مَا يُوصَل بِهِ إِلَى الْمَطْلُوب مِنْ حَبْل أَوْ غَيْره.
وَقِيلَ : الْأَسْبَاب أَبْوَاب السَّمَوَات الَّتِي تَنْزِل الْمَلَائِكَة مِنْهَا ; قَالَهُ مُجَاهِد وَقَتَادَة.
قَالَ زُهَيْر :
وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
وَقِيلَ : الْأَسْبَاب السَّمَوَات نَفْسهَا ; أَيْ فَلْيَصْعَدُوا سَمَاء سَمَاء.
وَقَالَ السُّدِّيّ :" فِي الْأَسْبَاب " فِي الْفَضْل وَالدِّين.
وَقِيلَ : أَيْ فَلْيُعَلُّوا فِي أَسْبَاب الْقُوَّة إِنْ ظَنُّوا أَنَّهَا مَانِعَة.
وَهُوَ مَعْنَى قَوْل أَبِي عُبَيْدَة.
وَقِيلَ : الْأَسْبَاب الْحِبَال ; يَعْنِي إِنْ وَجَدُوا حَبْلًا أَوْ سَبَبًا يَصْعَدُونَ فِيهِ إِلَى السَّمَاء فَلْيَرْتَقُوا ; وَهَذَا أَمْر تَوْبِيخ وَتَعْجِيز.
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ
وَعَدَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّصْر عَلَيْهِمْ فَقَالَ :" جُنْد مَا هُنَالِكَ " " مَا " صِلَة وَتَقْدِيره هُمْ جُنْد، فَـ " جُنْد " خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف.
" مَهْزُوم " أَيْ مَقْمُوع ذَلِيل قَدْ اِنْقَطَعَتْ حُجَّتُهُمْ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَى أَنْ يَقُولُوا هَذَا لَنَا.
وَيُقَال : تَهَزَّمَتْ الْقِرْبَة إِذَا اِنْكَسَرَتْ، وَهَزَمْت الْجَيْش كَسَرْته.
وَالْكَلَام مُرْتَبِط بِمَا قَبْل ; أَيْ :" بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّة وَشِقَاق " وَهُمْ جُنْد مِنْ الْأَحْزَاب مَهْزُومُونَ، فَلَا تَغُمَّك عِزَّتُهُمْ وَشِقَاقُهُمْ، فَإِنِّي أَهْزِم جَمْعهمْ وَأَسْلُب عِزَّهُمْ.
وَهَذَا تَأْنِيس لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَقَدْ فَعَلَ بِهِمْ هَذَا فِي يَوْم بَدْر.
قَالَ قَتَادَة : وَعَدَ اللَّه أَنَّهُ سَيَهْزِمُهُمْ وَهُمْ بِمَكَّة فَجَاءَ تَأْوِيلهَا يَوْم بَدْر.
وَ " هُنَالِكَ " إِشَارَة لِبَدْرٍ وَهُوَ مَوْضِع تَحَزُّبهمْ لِقِتَالِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ : الْمُرَاد بِالْأَحْزَابِ الَّذِينَ أَتَوْا الْمَدِينَة وَتَحَزَّبُوا عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي [ الْأَحْزَاب ].
وَالْأَحْزَاب الْجُنْد، كَمَا يُقَال : جُنْد مِنْ قَبَائِل شَتَّى.
وَقِيلَ : أَرَادَ بِالْأَحْزَابِ الْقُرُون الْمَاضِيَة مِنْ الْكُفَّار.
أَيْ هَؤُلَاءِ جُنْد عَلَى طَرِيقَة أُولَئِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي " [ الْبَقَرَة : ٢٤٩ ] أَيْ عَلَى دِينِي وَمَذْهَبِي.
وَقَالَ الْفَرَّاء : الْمَعْنَى هُمْ جُنْد مَغْلُوب ; أَيْ مَمْنُوع عَنْ أَنْ يَصْعَد إِلَى السَّمَاء.
وَقَالَ الْقُتَبِيّ : يَعْنِي أَنَّهُمْ جُنْد لِهَذِهِ الْآلِهَة مَهْزُوم، فَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَدَّعُوا لِشَيْءٍ مِنْ آلِهَتهمْ، وَلَا لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا مِنْ خَزَائِن رَحْمَة اللَّه، وَلَا مِنْ مُلْك السَّمَوَات وَالْأَرْض.
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ
ذَكَرَهَا تَعْزِيَة لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْلِيَة لَهُ ; أَيْ هَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمك يَا مُحَمَّد جُنْد مِنْ الْأَحْزَاب الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وَقَدْ كَانُوا أَقْوَى مِنْ هَؤُلَاءِ فَأُهْلِكُوا.
وَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى الْقَوْم بِلَفْظِ التَّأْنِيث، وَاخْتَلَفَ أَهْل الْعَرَبِيَّة فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ يَجُوز فِيهِ التَّذْكِير وَالتَّأْنِيث.
الثَّانِي : أَنَّهُ مُذَكَّر اللَّفْظ لَا يَجُوز تَأْنِيثه، إِلَّا أَنْ يَقَع الْمَعْنَى عَلَى الْعَشِيرَة وَالْقَبِيلَة، فَيَغْلِب فِي اللَّفْظ حُكْم الْمَعْنَى الْمُضْمَر تَنْبِيهًا عَلَيْهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَة فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ " [ الْمُدَّثِّر :
٥٤ - ٥٥ ] وَلَمْ يَقُلْ ذَكَرَهَا ; لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُضْمَر فِيهِ مُذَكَّرًا ذَكَّرَهُ ; وَإِنْ كَانَ اللَّفْظ مُقْتَضِيًا لِلتَّأْنِيثِ.
وَوَصَفَ فِرْعَوْن بِأَنَّهُ ذُو الْأَوْتَاد.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَأْوِيل ذَلِكَ ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : الْمَعْنَى ذُو الْبِنَاء الْمُحْكَم.
وَقَالَ الضَّحَّاك : كَانَ كَثِير الْبُنْيَان، وَالْبُنْيَان يُسَمَّى أَوْتَادًا.
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا وَقَتَادَة وَعَطَاء : أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ أَوْتَاد وَأَرْسَان وَمَلَاعِب يُلْعَب لَهُ عَلَيْهَا.
وَعَنْ الضَّحَّاك أَيْضًا : ذُو الْقُوَّة وَالْبَطْش.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل : كَانَ يُعَذِّب النَّاس بِالْأَوْتَادِ، وَكَانَ إِذَا غَضِبَ عَلَى أَحَد مَدَّهُ مُسْتَلْقِيًا بَيْن أَرْبَعَة أَوْتَاد فِي الْأَرْض، وَيُرْسِل عَلَيْهِ الْعَقَارِب وَالْحَيَّات حَتَّى يَمُوت.
وَقِيلَ : كَانَ يُشَبِّح الْمُعَذَّب بَيْن أَرْبَع سِوَار ; كُلّ طَرَف مِنْ أَطْرَافه إِلَى سَارِيَة مَضْرُوب فِيهِ وَتِد مِنْ حَدِيد وَيَتْرُكهُ حَتَّى يَمُوت.
وَقِيلَ : ذُو الْأَوْتَاد أَيْ ذُو الْجُنُود الْكَثِيرَة فَسُمِّيَتْ الْجُنُود أَوْتَادًا ; لِأَنَّهُمْ يُقَوُّونَ أَمْره كَمَا يُقَوِّي الْوَتِد الْبَيْت.
وَقَالَ اِبْن قُتَيْبَة : الْعَرَب تَقُول هُمْ فِي عِزٍّ ثَابِت الْأَوْتَادِ، يُرِيدُونَ دَائِمًا شَدِيدًا.
وَأَصْل هَذَا أَنَّ الْبَيْت مِنْ بُيُوت الشَّعْر إِنَّمَا يَثْبُت وَيَقُوم بِالْأَوْتَادِ.
وَقَالَ الْأَسْوَد بْن يَعْفُر :
وَلَقَدْ غَنَوْا فِيهَا بِأَنْعَمِ عِيشَةٍ فِي ظِلِّ مُلْكٍ ثَابِتِ الْأَوْتَادِ
وَوَاحِد الْأَوْتَاد وَتِدٌ بِالْكَسْرِ، وَبِالْفَتْحِ لُغَة.
وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ : يُقَال وَتِد وَاتِد كَمَا يُقَال : شُغْل شَاغِل.
وَأَنْشَدَ :
لَاقَتْ عَلَى الْمَاءِ جُذَيْلًا وَاتِدَا وَلَمْ يَكُنْ يُخْلِفُهَا الْمَوَاعِدَا
قَالَ : شَبَّهَ الرَّجُل بِالْجِذْلِ.
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ
أَيْ الْغَيْضَة.
وَقَدْ مَضَى ذِكْرهَا فِي [ الشُّعَرَاء ].
وَقَرَأَ نَافِع وَابْن كَثِير وَابْن عَامِر :" لَيْكَة " بِفَتْحِ اللَّام وَالتَّاء مِنْ غَيْر هَمْز.
وَهَمْز الْبَاقُونَ وَكَسَرُوا التَّاء.
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا.
أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ
أَيْ هُمْ الْمَوْصُوفُونَ بِالْقُوَّةِ وَالْكَثْرَة ; كَقَوْلِك فُلَان هُوَ الرَّجُل.
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ
" إِنْ كُلّ " بِمَعْنَى مَا كُلّ.
" إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُل فَحَقَّ عِقَاب " أَيْ فَنَزَلَ بِهِمْ الْعَذَاب لِذَلِكَ التَّكْذِيب.
وَأَثْبَتَ يَعْقُوب الْيَاء فِي " عَذَابِي " وَ " عِقَابِي " فِي الْحَالَيْنِ وَحَذَفَهَا الْبَاقُونَ فِي الْحَالَيْنِ.
وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة قَوْله عَزَّ وَجَلَّ :" وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُمْ مِثْل يَوْم الْأَحْزَاب مِثْل دَأْب قَوْم نُوح وَعَاد وَثَمُود " [ غَافِر :
٣٠ - ٣١ ] فَسَمَّى هَذِهِ الْأُمَم أَحْزَابًا.
وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً
" يَنْظُر " بِمَعْنَى يَنْتَظِر ; وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى :" اُنْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُوركُمْ " [ الْحَدِيد : ١٣ ].
" هَؤُلَاءِ " يَعْنِي كُفَّار مَكَّة.
" إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة " أَيْ نَفْخَة الْقِيَامَة.
أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ بَعْد مَا أُصِيبُوا بِبَدْرٍ إِلَّا صَيْحَة الْقِيَامَة.
وَقِيلَ : مَا يَنْتَظِر أَحْيَاؤُهُمْ الْآن إِلَّا الصَّيْحَة الَّتِي هِيَ النَّفْخَة فِي الصُّور، كَمَا قَالَ تَعَالَى :" مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة تَأْخُذهُمْ وَهُوَ يَخِصِّمُونَ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَة " [ يس :
٤٩ - ٥٠ ] وَهَذَا إِخْبَار عَنْ قُرْب الْقِيَامَة وَالْمَوْت.
وَقِيلَ : أَيْ مَا يَنْتَظِر كُفَّار آخِر هَذِهِ الْأُمَّة الْمُتَدَيِّنِينَ بِدِينِ أُولَئِكَ إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة وَهِيَ النَّفْخَة.
وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو : لَمْ تَكُنْ صَيْحَة فِي السَّمَاء إِلَّا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَهْل الْأَرْض.
مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ
أَيْ مِنْ تَرْدَاد ; عَنْ اِبْن عَبَّاس.
مُجَاهِد : مَا لَهَا رُجُوع.
قَتَادَة : مَا لَهَا مِنْ مَثْنَوِيَّة.
السُّدِّيّ : مَا لَهَا مِنْ إِفَاقَة.
وَقَرَأَ حَمْزَة وَالْكِسَائِيّ :" مَا لَهَا مِنْ فُوَاق " بِضَمِّ الْفَاء.
الْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ.
الْجَوْهَرِيّ : وَالْفَوَاق وَالْفُوَاق مَا بَيْن الْحَلْبَتَيْنِ مِنْ الْوَقْت ; لِأَنَّهَا تُحْلَب ثُمَّ تُتْرَك سُوَيْعَة يَرْضَعُهَا الْفَصِيل لِتُدِرَّ ثُمَّ تُحْلَب.
يُقَال : مَا أَقَامَ عِنْده إِلَّا فَوَاقًا ; وَفِي الْحَدِيث :( الْعِيَادَة قَدْر فَوَاق النَّاقَة ).
وَقَوْل تَعَالَى :" مَا لَهَا مِنْ فَوَاق " يُقْرَأ بِالْفَتْحِ وَالضَّمّ أَيْ مَا لَهَا مِنْ نَظْرَة وَرَاحَة وَإِفَاقَة.
وَالْفِيقَة بِالْكَسْرِ اِسْم اللَّبَن الَّذِي يَجْتَمِع بَيْن الْحَلْبَتَيْنِ : صَارَتْ الْوَاو يَاء لِكَسْرِ مَا قَبْلهَا ; قَالَ الْأَعْشَى يَصِف بَقَرَة :
حَتَّى إِذَا فِيقَةٌ فِي ضَرْعِهَا اِجْتَمَعَتْ... جَاءَتْ لِتُرْضِعَ شِقَّ النَّفْس لَوْ رَضَعَا
وَالْجَمْع فِيَق ثُمَّ أَفْوَاق مِثْل شِبَر وَأَشْبَار ثُمَّ أَفَاوِيق.
قَالَ اِبْن هَمَّام السَّلُولِيّ :
وَذَمُّوا لَنَا الدُّنْيَا وَهُمْ يَرْضَعُونَهَا... أَفَاوِيقَ حَتَّى مَا يُدِرُّ لَهَا ثُعْلُ
وَالْأَفَاوِيق أَيْضًا مَا اِجْتَمَعَ فِي السَّحَاب مِنْ مَاء، فَهُوَ يُمْطِر سَاعَة بَعْد سَاعَة.
وَأَفَاقَتْ النَّاقَة إِفَاقَة أَيْ اِجْتَمَعَتْ الْفِيقَة فِي ضَرْعهَا ; فَهِيَ مُفِيق وَمُفِيقَة - عَنْ أَبِي عَمْرو - وَالْجَمْع مَفَاوِيق.
وَقَالَ الْفَرَّاء وَأَبُو عُبَيْدَة وَغَيْرهمَا :" مِنْ فَوَاق " بِفَتْحِ الْفَاء أَيْ رَاحَة لَا يُفِيقُونَ فِيهَا، كَمَا يُفِيق الْمَرِيض وَالْمَغْشِيّ عَلَيْهِ.
وَ " مِنْ فُوَاق " بِضَمِّ الْفَاء مِنْ اِنْتِظَار.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَهُوَ مَا بَيْن الْحَلْبَتَيْنِ.
قُلْت : وَالْمَعْنَى الْمُرَاد أَنَّهَا مُمْتَدَّة لَا تَقْطِيع فِيهَا.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَة قَالَ : حَدَّثَنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي طَائِفَة مِنْ أَصْحَابه... الْحَدِيث.
وَفِيهِ :( يَأْمُر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِسْرَافِيل بِالنَّفْخَةِ الْأُولَى فَيَقُول اُنْفُخْ نَفْخَة الْفَزَع فَيَفْزَع أَهْل السَّمَوَات وَأَهْل الْأَرْض إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّه وَيَأْمُرهُ فَيَمُدّهَا وَيُدِيمُهَا وَيُطَوِّلُهَا يَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" مَا يَنْظُر هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة مَا لَهَا مِنْ فَوَاق "... ) وَذَكَرَ الْحَدِيث، خَرَّجَهُ عَلِيّ بْن مَعْبَد وَغَيْره كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَاب التَّذْكِرَة.
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا
قَالَ مُجَاهِد : عَذَابَنَا.
وَكَذَا قَالَ قَتَادَة : نَصِيبَنَا مِنْ الْعَذَاب.
الْحَسَن : نَصِيبنَا مِنْ الْجَنَّة لِنَتَنَعَّمَ بِهِ فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر.
وَمَعْرُوف فِي اللُّغَة أَنْ يُقَال لِلنَّصِيبِ قِطٌّ وَلِلْكِتَابِ الْمَكْتُوب بِالْجَائِزَةِ قِطّ.
قَالَ الْفَرَّاء : الْقِطّ فِي كَلَام الْعَرَب الْحَظّ وَالنَّصِيب.
وَمِنْهُ قِيلَ لِلصَّكِّ قِطّ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَالْكِسَائِيّ : الْقِطّ الْكِتَاب بِالْجَوَائِزِ وَالْجَمْع الْقُطُوط ; قَالَ الْأَعْشَى :
وَلَا الْمَلِكُ النُّعْمَانُ يَوْمَ لَقِيته بِغِبْطَتِهِ يُعْطِي الْقُطُوطَ وَيَأْفِقُ
يَعْنِي كُتُب الْجَوَائِز.
وَيُرْوَى : بِأُمَّتِهِ بَدَل بِغِبْطَتِهِ، أَيْ بِنِعْمَتِهِ وَحَالِهِ الْجَلِيلَة، وَيَأْفِق يُصْلِح.
وَيُقَال : فِي جَمْع قِطّ أَيْضًا قِطَطَة وَفِي الْقَلِيل أُقُط وَأَقْطَاط.
ذَكَرَهُ النَّحَّاس.
وَقَالَ السُّدِّيّ : سَأَلُوا أَنْ يُمَثِّل لَهُمْ مَنَازِلهمْ مِنْ الْجَنَّة لِيَعْلَمُوا حَقِيقَة مَا يُوعَدُونَ بِهِ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيل بْن أَبِي خَالِد : الْمَعْنَى عَجِّلْ لَنَا أَرْزَاقَنَا.
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ عَجِّلْ لَنَا مَا يَكْفِينَا ; مِنْ قَوْلهمْ : قَطْنِي ; أَيْ يَكْفِينِي.
وَقِيلَ : إِنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ اِسْتِعْجَالًا لِكُتُبِهِمْ الَّتِي يُعْطَوْنَهَا بِأَيْمَانِهِمْ وَشَمَائِلهمْ حِين تُلِيَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الْقُرْآن.
وَهُوَ قَوْله تَعَالَى :" فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ " [ الْحَاقَّة : ١٩ ].
" وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابه وَرَاء ظَهْره " [ الِانْشِقَاق : ١٠ ].
وَأَصْل الْقِطّ الْقَطُّ وَهُوَ الْقَطْع، وَمِنْهُ قَطَّ الْقَلَم ; فَالْقَطّ اِسْم لِلْقِطْعَةِ مِنْ الشَّيْء كَالْقَسْمِ وَالْقِسْم فَأُطْلِقَ عَلَى النَّصِيب وَالْكِتَاب وَالرِّزْق لِقَطْعِهِ عَنْ غَيْره، إِلَّا أَنَّهُ فِي الْكِتَاب أَكْثَر اِسْتِعْمَالًا وَأَقْوَى حَقِيقَة.
قَالَ أُمَيَّة بْن أَبِي الصَّلْت :
قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ
أَيْ قَبْل يَوْم الْقِيَامَة فِي الدُّنْيَا إِنْ كَانَ الْأَمْر كَمَا يَقُول مُحَمَّد.
وَكُلّ هَذَا اِسْتِهْزَاء مِنْهُمْ.
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ
أَمَرَ نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ لِمَا اِسْتَهْزَءُوا بِهِ.
وَهَذِهِ مَنْسُوخَة بِآيَةِ السَّيْف.
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ
لَمَّا ذَكَرَ مِنْ أَخْبَار الْكُفَّار وَشِقَاقهمْ وَتَقْرِيعهمْ بِإِهْلَاكِ الْقُرُون مِنْ قَبْلهمْ، أَمَرَ نَبِيّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ، وَسَلَّاهُ بِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
ثُمَّ أَخَذَ فِي ذِكْر دَاوُدَ وَقَصَص الْأَنْبِيَاء ; لِيَتَسَلَّى بِصَبْرِ مَنْ صَبَرَ مِنْهُمْ ; وَلِيَعْلَمَ أَنَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ أَضْعَافَ مَا أُعْطِيَهُ دَاوُدُ وَغَيْره مِنْ الْأَنْبِيَاء.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى اِصْبِرْ عَلَى قَوْلهمْ، وَاذْكُرْ لَهُمْ أَقَاصِيص الْأَنْبِيَاء ; لِتَكُونَ بُرْهَانًا عَلَى صِحَّة نُبُوَّتك.
وَقَوْله :" عَبْدَنَا " إِظْهَارًا لِشَرَفِهِ بِهَذِهِ الْإِضَافَة
ذَا الْأَيْدِ
ذَا الْقُوَّة فِي الْعِبَادَة.
وَكَانَ يَصُوم يَوْمًا وَيُفْطِر يَوْمًا وَذَلِكَ أَشَدّ الصَّوْم وَأَفْضَله ; وَكَانَ يُصَلِّي نِصْف اللَّيْل، وَكَانَ لَا يَفِرّ إِذَا لَاقَى الْعَدُوّ، وَكَانَ قَوِيًّا فِي الدُّعَاء إِلَى اللَّه تَعَالَى.
وَيُقَال : الْأَيْد وَالْآدّ كَمَا تَقُول الْعَيْب وَالْعَاب.
قَالَ :
لَمْ يَكُ يَنْآد فَأَمْسَى اِنْآدَا
وَمِنْهُ رَجُل أَيْدٍ أَيْ قَوِيّ.
وَتَأَيَّدَ الشَّيْء تَقَوَّى، قَالَ الشَّاعِر :
قَوْمٌ لَهُمْ سَاحَةُ الْعِرَاقِ وَمَا يُجْبَى إِلَيْهِ وَالْقِطُّ وَالْقَلَمُ
إِذَا الْقَوْسُ وَتَّرَهَا أَيِّدٌ رَمَى فَأَصَابَ الْكُلَى وَالذُّوَا
يَقُول : إِذَا اللَّه وَتَّرَ الْقَوْس الَّتِي فِي السَّحَاب رَمَى كُلَى الْإِبِل وَأَسْمَنَهَا بِالشَّحْمِ.
يَعْنِي مِنْ النَّبَات الَّذِي يَكُون مِنْ الْمَطَر.
إِنَّهُ أَوَّابٌ
قَالَ الضَّحَّاك : أَيْ تَوَّاب.
وَعَنْ غَيْره : أَنَّهُ كُلَّمَا ذَكَرَ ذَنْبَهُ أَوْ خَطَرَ عَلَى بَاله اِسْتَغْفَرَ مِنْهُ ; كَمَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنِّي لَأَسْتَغْفِر اللَّه فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة مِائَة مَرَّة ).
وَيُقَال آبَ يَئُوب إِذَا رَجَعَ ; كَمَا قَالَ :
وَكُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يَئُوبُ وَغَائِبُ الْمَوْتِ لَا يَئُوبُ
فَكَانَ دَاوُدُ رَجَّاعًا إِلَى طَاعَة اللَّه وَرِضَاهُ فِي كُلّ أَمْر فَهُوَ أَهْل لِأَنْ يُقْتَدَى بِهِ.
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ
" يُسَبِّحْنَ " فِي مَوْضِع نَصْب عَلَى الْحَال.
ذَكَرَ تَعَالَى مَا آتَاهُ مِنْ الْبُرْهَان وَالْمُعْجِزَة وَهُوَ تَسْبِيح الْجِبَال مَعَهُ.
قَالَ مُقَاتِل : كَانَ دَاوُدُ إِذَا ذَكَرَ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ ذَكَرَتْ الْجِبَال مَعَهُ، وَكَانَ يَفْقَهُ تَسْبِيح الْجِبَال.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس :" يُسَبِّحْنَ " يُصَلِّينَ.
وَإِنَّمَا يَكُون هَذَا مُعْجِزَة إِذَا رَآهُ النَّاس وَعَرَفُوهُ.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق : أُوتِيَ دَاوُدُ مِنْ حُسْن الصَّوْت مَا يَكُون لَهُ فِي الْجِبَال دَوِيّ حَسَن، وَمَا تُصْغِي لِحُسْنِهِ الطَّيْر وَتُصَوِّت مَعَهُ، فَهَذَا تَسْبِيح الْجِبَال وَالطَّيْر.
وَقِيلَ : سَخَّرَهَا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِتَسِيرَ مَعَهُ فَذَلِكَ تَسْبِيحهَا ; لِأَنَّهَا دَالَّة عَلَى تَنْزِيه اللَّه عَنْ شَبَه الْمَخْلُوقِينَ.
وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي هَذَا فِي [ سَبَأ ] وَفِي [ سُبْحَان ] عِنْد قَوْله تَعَالَى :" وَإِنْ مِنْ شَيْء إِلَّا يُسَبِّح بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ " [ الْإِسْرَاء : ٤٤ ] وَأَنَّ ذَلِكَ تَسْبِيح مَقَال عَلَى الصَّحِيح مِنْ الْأَقْوَال.
وَاَللَّه أَعْلَم.
بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ
الْإِشْرَاق أَيْضًا اِبْيِضَاض الشَّمْس بَعْد طُلُوعهَا.
يُقَال : شَرِقَتْ الشَّمْس إِذَا طَلَعَتْ، وَأَشْرَقَتْ إِذَا أَضَاءَتْ.
فَكَانَ دَاوُدُ يُسَبِّح إِثْر صَلَاته عِنْد طُلُوع الشَّمْس وَعِنْد غُرُوبهَا.
رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : كُنْت أَمُرُّ بِهَذِهِ الْآيَة :" بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاق " وَلَا أَدْرِي مَا هِيَ، حَتَّى حَدَّثَتْنِي أُمّ هَانِئ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا، فَدَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى صَلَاة الضُّحَى، وَقَالَ :( يَا أُمّ هَانِئ هَذِهِ صَلَاة الْإِشْرَاق ).
وَقَالَ عِكْرِمَة قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَ فِي نَفْسِي شَيْء مِنْ صَلَاة الضُّحَى حَتَّى وَجَدْتهَا فِي الْقُرْآن " يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاق ".
قَالَ عِكْرِمَة : وَكَانَ اِبْن عَبَّاس لَا يُصَلِّي صَلَاة الضُّحَى ثُمَّ صَلَّاهَا بَعْد.
وَرُوِيَ أَنَّ كَعْب الْأَحْبَار قَالَ لِابْنِ عَبَّاس : إِنِّي أَجِد فِي كُتُب اللَّه صَلَاة بَعْد طُلُوع الشَّمْس هِيَ صَلَاة الْأَوَّابِينَ.
فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : وَأَنَا أُوجِدُك فِي الْقُرْآن ; ذَلِكَ فِي قِصَّة دَاوُدَ :" يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاق ".
صَلَاة الضُّحَى نَافِلَة مُسْتَحَبَّة، وَهِيَ فِي الْغَدَاة بِإِزَاءِ الْعَصْر فِي الْعَشِيّ، لَا يَنْبَغِي أَنْ تُصَلَّى حَتَّى تَبْيَضَّ الشَّمْس طَالِعَة ; وَيَرْتَفِع كَدَرُهَا ; وَتُشْرِق بِنُورِهَا ; كَمَا لَا تُصَلَّى الْعَصْر إِذَا اِصْفَرَّتْ الشَّمْس.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ زَيْد بْن أَرْقَم أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( صَلَاة الْأَوَّابِينَ حِين تَرْمَض الْفِصَال ) الْفِصَال وَالْفِصْلَان جَمْع فَصِيل، وَهُوَ الَّذِي يُفْطَم مِنْ الرَّضَاعَة مِنْ الْإِبِل.
وَالرَّمْضَاء شِدَّة الْحَرّ فِي الْأَرْض.
وَخَصَّ الْفِصَال هُنَا بِالذِّكْرِ ; لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تَرْمَض قَبْل اِنْتِهَاء شِدَّة الْحَرّ الَّتِي تَرْمَض بِهَا أُمَّهَاتُهَا لِقِلَّةِ جَلَدِهَا، وَذَلِكَ يَكُون فِي الضُّحَى أَوْ بَعْده بِقَلِيلٍ وَهُوَ الْوَقْت الْمُتَوَسِّط بَيْن طُلُوع الشَّمْس وَزَوَالهَا ; قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ.
وَمِنْ النَّاس مَنْ يُبَادِر بِهَا قَبْل ذَلِكَ اِسْتِعْجَالًا، لِأَجْلِ شُغْلِهِ فَيَخْسَر عَمَله ; لِأَنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي الْوَقْت الْمَنْهِيّ عَنْهُ وَيَأْتِي بِعَمَلٍ هُوَ عَلَيْهِ لَا لَهُ.
رَوَى التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث أَنَس بْن مَالِك قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ صَلَّى الضُّحَى ثِنْتَيْ عَشْرَة رَكْعَة بَنَى اللَّه لَهُ قَصْرًا مِنْ ذَهَبٍ فِي الْجَنَّة ) قَالَ حَدِيث غَرِيب.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي ذَرّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( يُصْبِح عَلَى كُلّ سُلَامَى مِنْ أَحَدكُمْ صَدَقَة فَكُلّ تَسْبِيحَة صَدَقَة وَكُلّ تَهْلِيلَة صَدَقَة وَكُلّ تَكْبِيرَة صَدَقَة وَأَمْر بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَة وَنَهْي عَنْ الْمُنْكَر صَدَقَة وَيُجْزِي مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعهُمَا مِنْ الضُّحَى ).
وَفِي التِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ حَافَظَ عَلَى شُفْعَة الضُّحَى غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبه وَإِنْ كَانَتْ مِثْل زَبَد الْبَحْر ).
وَرَوَى الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ :( أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ لَا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوت صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام مِنْ كُلّ شَهْر وَصَلَاة الضُّحَى وَنَوْم عَلَى وِتْر ) لَفْظ الْبُخَارِيّ.
وَقَالَ مُسْلِم :( وَرَكْعَتَيْ الضُّحَى ) وَخَرَّجَهُ مِنْ حَدِيث أَبِي الدَّرْدَاء كَمَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة.
وَهَذَا كُلّه يَدُلّ عَلَى أَنَّ أَقَلّ الضُّحَى رَكْعَتَانِ وَأَكْثَره ثِنْتَا عَشْرَة.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَصْل السُّلَامَى ( بِضَمِّ السِّين ) عِظَام الْأَصَابِع وَالْأَكُفّ وَالْأَرْجُل، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي سَائِر عِظَام الْجَسَد وَمَفَاصِله.
وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( إِنَّهُ خَلَقَ كُلّ إِنْسَان مِنْ بَنِي آدَم عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثمِائَةِ مَفْصِل فَمَنْ كَبَّرَ اللَّه وَحَمِدَ اللَّه وَهَلَّلَ اللَّه وَسَبَّحَ اللَّه وَاسْتَغْفَرَ اللَّه وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيق النَّاس، أَوْ شَوْكَة أَوْ عَظْمًا عَنْ طَرِيق النَّاس وَأَمْر بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْي عَنْ مُنْكَر عَدَد تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلَاثمِائَةِ سُلَامَى فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسه عَنْ النَّار ) قَالَ أَبُو تَوْبَة : وَرُبَّمَا قَالَ :( يُمْسِي ) كَذَا خَرَّجَهُ مُسْلِم.
وَقَوْله :( وَيُجْزِي مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ ) أَيْ يَكْفِي مِنْ هَذِهِ الصَّدَقَات عَنْ هَذِهِ الْأَعْضَاء رَكْعَتَانِ.
وَذَلِكَ أَنَّ الصَّلَاة عَمَل بِجَمِيعِ أَعْضَاء الْجَسَد ; فَإِذَا صَلَّى فَقَدْ قَامَ كُلّ عُضْو بِوَظِيفَتِهِ الَّتِي عَلَيْهِ فِي الْأَصْل.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً
مَعْطُوف عَلَى الْجِبَال.
قَالَ الْفَرَّاء : وَلَوْ قُرِئَ " وَالطَّيْرُ مَحْشُورَةٌ " لَجَازَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَر الْفِعْل.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَام إِذَا سَبَّحَ جَاوَبَتْهُ الْجِبَال وَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ الطَّيْر فَسَبَّحَتْ مَعَهُ.
فَاجْتِمَاعُهَا إِلَيْهِ حَشْرُهَا.
فَالْمَعْنَى وَسَخَّرْنَا الطَّيْر مَجْمُوعَةً إِلَيْهِ لِتُسَبِّحَ اللَّهَ مَعَهُ.
وَقِيلَ : أَيْ وَسَخَّرْنَا الرِّيحَ لِتَحْشُرَ الطُّيُور إِلَيْهِ لِتُسَبِّحَ مَعَهُ.
أَوْ أَمَرْنَا الْمَلَائِكَة تَحْشُر الطُّيُور.
كُلٌّ لَهُ
أَيْ لِدَاوُدَ
أَوَّابٌ
أَيْ مُطِيع ; أَيْ تَأْتِيه وَتُسَبِّح مَعَهُ.
وَقِيلَ : الْهَاء لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ
أَيْ قَوَّيْنَاهُ حَتَّى ثَبَتَ.
قِيلَ : بِالْهَيْبَةِ وَإِلْقَاء الرُّعْب مِنْهُ فِي الْقُلُوب.
وَقِيلَ : بِكَثْرَةِ الْجُنُود.
وَقِيلَ : بِالتَّأْيِيدِ وَالنَّصْر.
وَهَذَا اِخْتِيَار اِبْن الْعَرَبِيّ.
فَلَا يَنْفَع الْجَيْشَ الْكَثِيرَ اِلْتِفَافُهُ عَلَى غَيْر مَنْصُور وَغَيْر مُعَانٍ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : كَانَ دَاوُدُ أَشَدّ مُلُوك الْأَرْض سُلْطَانًا.
كَانَ يَحْرُس مِحْرَابه كُلّ لَيْلَة نَيِّف وَثَلَاثُونَ أَلْف رَجُل فَإِذَا أَصْبَحَ قِيلَ : اِرْجِعُوا فَقَدْ رَضِيَ عَنْكُمْ نَبِيّ اللَّه.
وَالْمَلِك عِبَارَة عَنْ كَثْرَة الْمُلْك، فَقَدْ يَكُون لِلرَّجُلِ مُلْك وَلَكِنْ لَا يَكُون مَلِكًا حَتَّى يَكْثُر ذَلِكَ ; فَلَوْ مَلَكَ الرَّجُل دَارًا وَامْرَأَة لَمْ يَكُنْ مَلِكًا حَتَّى يَكُون لَهُ خَادِم يَكْفِيهِ مُؤْنَة التَّصَرُّف فِي الْمَنَافِع الَّتِي يَفْتَقِر إِلَيْهَا لِضَرُورَتِهِ الْآدَمِيَّة.
وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي [ بَرَاءَة ] وَحَقِيقَة الْمُلْك فِي [ النَّمْل ] مُسْتَوْفًى.
وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ
أَيْ النُّبُوَّة ; قَالَهُ السُّدِّيّ.
مُجَاهِد : الْعَدْل.
أَبُو الْعَالِيَة : الْعِلْم بِكِتَابِ اللَّه تَعَالَى.
قَتَادَة : السُّنَّة.
شُرَيْح : الْعِلْم وَالْفِقْه.
وَفَصْلَ الْخِطَابِ
قَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمِيّ وَقَتَادَة : يَعْنِي الْفَصْل فِي الْقَضَاء.
وَهُوَ قَوْل اِبْن مَسْعُود وَالْحَسَن وَالْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : بَيَان الْكَلَام.
عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب : هُوَ الْبَيِّنَة عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِين عَلَى مَنْ أَنْكَرَ.
وَقَالَهُ شُرَيْح وَالشَّعْبِيّ وَقَتَادَة أَيْضًا.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَالشَّعْبِيّ أَيْضًا : هُوَ قَوْله أَمَّا بَعْدُ، وَهُوَ أَوَّل مَنْ تَكَلَّمَ بِهَا.
وَقِيلَ :" فَصْل الْخِطَاب " الْبَيَان الْفَاصِل بَيْن الْحَقّ وَالْبَاطِل.
وَقِيلَ : هُوَ الْإِيجَاز بِجَعْلِ الْمَعْنَى الْكَثِير فِي اللَّفْظ الْقَلِيل.
وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْأَقْوَال مُتَقَارِب.
وَقَوْل عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَجْمَعُهُ ; لِأَنَّ مَدَار الْحُكْم عَلَيْهِ فِي الْقَضَاء مَا عَدَا قَوْل أَبِي مُوسَى.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ : فَأَمَّا عِلْم الْقَضَاء فَلَعَمْرُ إِلَهِك إِنَّهُ لَنَوْعٌ مِنْ الْعِلْم مُجَرَّد، وَفَصْل مِنْهُ مُؤَكَّد، غَيْر مَعْرِفَة الْأَحْكَام وَالْبَصَر بِالْحَلَالِ وَالْحَرَام ; فَفِي الْحَدِيث :( أَقْضَاكُمْ عَلِيّ وَأَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَام مُعَاذ بْن جَبَل ).
وَقَدْ يَكُون الرَّجُل بَصِيرًا بِأَحْكَامِ الْأَفْعَال، عَارِفًا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَام، وَلَا يَقُوم بِفَصْلِ الْقَضَاء.
يُرْوَى أَنَّ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : لَمَّا بَعَثَنِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَن حَفَرَ قَوْمٌ زُبْيَةً لِلْأَسَدِ ; فَوَقَعَ فِيهَا الْأَسَد ; وَازْدَحَمَ النَّاس عَلَى الزُّبْيَة فَوَقَعَ فِيهَا رَجُل وَتَعَلَّقَ بِآخَرَ، وَتَعَلَّقَ الْآخَرُ بِآخَرَ، حَتَّى صَارُوا أَرْبَعَة، فَجَرَحَهُمْ الْأَسَد فِيهَا فَهَلَكُوا، وَحَمَلَ الْقَوْم السِّلَاح وَكَادَ يَكُون بَيْنهمْ قِتَال ; قَالَ فَأَتَيْتهمْ فَقُلْت : أَتَقْتُلُونَ مِائَتَيْ رَجُل مِنْ أَجْل أَرْبَعَة إِنَاس ! تَعَالَوْا أَقْضِ بَيْنكُمْ بِقَضَاءٍ ; فَإِنْ رَضِيتُمُوهُ فَهُوَ قَضَاء بَيْنكُمْ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ رَفَعْتُمْ ذَلِكَ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَحَقّ بِالْقَضَاءِ.
فَجَعَلَ لِلْأَوَّلِ رُبُعَ الدِّيَة، وَجَعَلَ لِلثَّانِي ثُلُث الدِّيَة، وَجَعَلَ لِلثَّالِثِ نِصْف الدِّيَة، وَجَعَلَ لِلرَّابِعِ الدِّيَة، وَجَعَلَ الدِّيَات عَلَى مَنْ حَفَرَ الزُّبْيَة عَلَى قَبَائِل الْأَرْبَعَة ; فَسَخِطَ بَعْضهمْ وَرَضِيَ بَعْضهمْ، ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصُّوا عَلَيْهِ الْقِصَّة ; فَقَالَ :( أَنَا أَقْضِي بَيْنكُمْ ) فَقَالَ قَائِل : إِنَّ عَلِيًّا قَدْ قَضَى بَيْنَنَا.
فَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَضَى عَلِيّ ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( الْقَضَاء كَمَا قَضَى عَلِيّ ) فِي رِوَايَة : فَأَمْضَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاء عَلِيّ.
وَكَذَلِكَ يُرْوَى فِي الْمَعْرِفَة بِالْقَضَاءِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَة جَاءَ إِلَيْهِ رَجُل فَقَالَ : إِنَّ اِبْن أَبِي لَيْلَى - وَكَانَ قَاضِيًا بِالْكُوفَةِ - جَلَدَ اِمْرَأَة مَجْنُونَة قَالَتْ لِرَجُلٍ يَا اِبْن الزَّانِيَيْنِ حَدَّيْنِ فِي الْمَسْجِد وَهِيَ قَائِمَة.
فَقَالَ : أَخْطَأَ مِنْ سِتَّة أَوْجُه.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَة بِالْبَدِيهَةِ لَا يُدْرِكهُ أَحَد بِالرُّؤْيَةِ إِلَّا الْعُلَمَاء.
فَأَمَّا قَضِيَّة عَلِيّ فَلَا يُدْرِكُهَا الشَّادِي، وَلَا يَلْحَقُهَا بَعْدَ التَّمَرُّنِ فِي الْأَحْكَام إِلَّا الْعَاكِفُ الْمُتَمَادِي.
وَتَحْقِيقهَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة الْمَقْتُولِينَ خَطَأً بِالتَّدَافُعِ عَلَى الْحُفْرَة مِنْ الْحَاضِرِينَ عَلَيْهَا، فَلَهُمْ الدِّيَات عَلَى مَنْ حَضَرَ عَلَى وَجْه الْخَطَأ، بَيْدَ أَنَّ الْأَوَّل مَقْتُول بِالْمُدَافَعَةِ قَاتِل ثَلَاثَة بِالْمُجَاذَبَةِ، فَلَهُ الدِّيَة بِمَا قُتِلَ، وَعَلَيْهِ ثَلَاثَة أَرْبَاع الدِّيَة بِالثَّلَاثَةِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلَهُ ثُلُث الدِّيَة وَعَلَيْهِ الثُّلُثَانِ بِالْاثْنَيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا بِالْمُجَاذَبَةِ.
وَأَمَّا الثَّالِث فَلَهُ نِصْف الدِّيَة وَعَلَيْهِ النِّصْف ; لِأَنَّهُ قَتَلَ وَاحِدًا بِالْمُجَاذَبَةِ فَوَقَعَتْ الْمُحَاصَّة وَغَرِمَتْ الْعَوَاقِل هَذَا التَّقْدِير بَعْد الْقِصَاص الْجَارِي فِيهِ.
وَهَذَا مِنْ بَدِيع الِاسْتِنْبَاط.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَة فَإِنَّهُ نَظَرَ إِلَى الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَة فَرَآهَا سِتَّة : الْأَوَّل أَنَّ الْمَجْنُون لَا حَدَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْجُنُون يُسْقِط التَّكْلِيف.
وَهَذَا إِذَا كَانَ الْقَذْف فِي حَالَة الْجُنُون، وَأَمَّا إِذَا كَانَ يُجَنُّ مَرَّة وَيُفِيق أُخْرَى فَإِنَّهُ يُحَدّ بِالْقَذْفِ فِي حَالَة إِفَاقَته.
وَالثَّانِي قَوْلُهَا يَا اِبْن الزَّانِيَيْنِ فَجَلَدَهَا حَدَّيْنِ لِكُلِّ أَبٍ حَدّ، فَإِنَّمَا خَطَّأَهُ أَبُو حَنِيفَة عَلَى مَذْهَبه فِي أَنَّ حَدّ الْقَذْف يَتَدَاخَل، لِأَنَّهُ عِنْده حَقّ لِلَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الْخَمْر وَالزِّنَى، وَأَمَّا الشَّافِعِيّ وَمَالِك فَإِنَّهُمَا يَرَيَانِ أَنَّ الْحَدّ بِالْقَذْفِ حَقّ لِلْآدَمِيِّ، فَيَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْمَقْذُوف.
الثَّالِث أَنَّهُ جَلَدَ بِغَيْرِ مُطَالَبَة الْمَقْذُوف، وَلَا تَجُوز إِقَامَة حَدّ الْقَذْف بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّة إِلَّا بَعْد الْمُطَالَبَة بِإِقَامَتِهِ مِمَّنْ يَقُول إِنَّهُ حَقّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ يَقُول إِنَّهُ حَقّ الْآدَمِيّ.
وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الِاحْتِجَاج لِمَنْ يَرَى أَنَّهُ حَقّ لِلْآدَمِيِّ ; إِذْ لَوْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ لَمَا تَوَقَّفَ عَلَى الْمُطَالَبَة كَحَدِّ الزِّنَى.
الرَّابِع أَنَّهُ وَالَى بَيْن الْحَدَّيْنِ، وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدَّانِ لَمْ يُوَالَ بَيْنهمَا، بَلْ يُحَدّ لِأَحَدِهِمَا ثُمَّ يُتْرَك حَتَّى يَنْدَمِلَ الضَّرْب، أَوْ يُسْتَبَل الْمَضْرُوب ثُمَّ يُقَام عَلَيْهِ الْحَدّ الْآخَر.
الْخَامِس أَنَّهُ حَدَّهَا قَائِمَةً، وَلَا تُحَدّ الْمَرْأَة إِلَّا جَالِسَة مَسْتُورَة، قَالَ بَعْض النَّاس : فِي زِنْبِيل.
السَّادِس أَنَّهُ أَقَامَ الْحَدّ فِي الْمَسْجِد وَلَا تُقَام الْحُدُود فِيهِ إِجْمَاعًا.
وَفِي الْقَضَاء فِي الْمَسْجِد وَالتَّعْزِير فِيهِ خِلَاف.
قَالَ الْقَاضِي : فَهَذَا هُوَ فَصْل الْخِطَاب وَعِلْم الْقَضَاء، الَّذِي وَقَعَتْ الْإِشَارَة إِلَيْهِ عَلَى أَحَد التَّأْوِيلَات فِي الْحَدِيث الْمَرْوِيّ ( أَقْضَاكُمْ عَلِيّ ).
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إِنَّهُ الْإِيجَاز فَذَلِكَ لِلْعَرَبِ دُون الْعَجَم، وَلِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُون الْعَرَب ; وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا بِقَوْلِهِ :( وَأُوتِيت جَوَامِع الْكَلِم ).
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إِنَّهُ قَوْله أَمَّا بَعْد ; فَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول فِي خُطْبَتِهِ :( أَمَّا بَعْدُ ).
وَيُرْوَى أَنَّ أَوَّل مَنْ قَالَهَا فِي الْجَاهِلِيَّة سَحْبَانُ بْنُ وَائِل، وَهُوَ أَوَّل مَنْ آمَنَ بِالْبَعْثِ، وَأَوَّل مَنْ تَوَكَّأَ عَلَى عَصًا، وَعُمِّرَ مِائَة وَثَمَانِينَ سَنَة.
وَلَوْ صَحَّ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَهَا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ عَلَى هَذَا النَّظْم، وَإِنَّمَا كَانَ بِلِسَانِهِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ
" الْخَصْم " يَقَع عَلَى الْوَاحِد وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَة ; لِأَنَّ أَصْله الْمَصْدَر.
قَالَ الشَّاعِر :
وَخَصْمٌ غِضَابٌ يَنْفُضُونَ لِحَاهُمُ كَنَفْضِ الْبَرَاذِينِ الْعِرَابِ الْمَخَالِيَا
النَّحَّاس : وَلَا خِلَاف بَيْن أَهْل التَّفْسِير أَنَّهُ يُرَاد بِهِ هَا هُنَا مَلَكَانِ.
وَقِيلَ :" تُسَوَّرُوا " وَإِنْ كَانَ اِثْنَيْنِ حَمْلًا عَلَى الْخَصْم، إِذْ كَانَ بِلَفْظِ الْجَمْع وَمُضَارِعًا لَهُ، مِثْل الرَّكْب وَالصَّحْب.
تَقْدِيره لِلِاثْنَيْنِ ذَوَا خَصْم وَلِلْجَمَاعَةِ ذَوُو خَصْم.
وَمَعْنَى :" تُسَوَّرُوا الْمِحْرَاب " أَتَوْهُ مِنْ أَعْلَى سُورِهِ.
يُقَال : تَسَوَّرَ الْحَائِط تَسَلَّقَهُ، وَالسُّور حَائِط الْمَدِينَة وَهُوَ بِغَيْرِ هَمْز، وَكَذَلِكَ السُّور جَمَعَ سُورَة مِثْل بُسْرَة وَبُسْر وَهِيَ كُلّ مَنْزِلَة مِنْ الْبِنَاء.
وَمِنْهُ سُورَة الْقُرْآن ; لِأَنَّهَا مَنْزِلَة بَعْد مَنْزِلَة مَقْطُوعَة عَنْ الْأُخْرَى.
وَقَدْ مَضَى فِي مُقَدِّمَة الْكِتَاب بَيَان هَذَا.
وَقَوْل النَّابِغَة :
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاك سُورَةً تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ
يُرِيد شَرَفًا وَمَنْزِلَة.
فَأَمَّا السُّؤْر بِالْهَمْزِ فَهُوَ بَقِيَّة الطَّعَام فِي الْإِنَاء.
اِبْن الْعَرَبِيّ : وَالسُّؤْر الْوَلِيمَة بِالْفَارِسِيِّ.
وَفِي الْحَدِيث : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْم الْأَحْزَاب :( إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ لَكُمْ سُؤْرًا فَحَيَّهَلًا بِكُمْ ).
وَالْمِحْرَاب هُنَا الْغُرْفَة ; لِأَنَّهُمْ تَسَوَّرُوا عَلَيْهِ فِيهَا ; قَالَ يَحْيَى بْن سَلَّام.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة : إِنَّهُ صَدْر الْمَجْلِس، وَمِنْهُ مِحْرَاب الْمَسْجِد.
وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِيهِ فِي غَيْر مَوْضِع.
إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ
جَاءَتْ " إِذْ " مَرَّتَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ.
وَزَعَمَ الْفَرَّاء : أَنَّ إِحْدَاهُمَا بِمَعْنَى لَمَّا.
وَقَوْل آخَر أَنْ تَكُون الثَّانِيَة مَعَ مَا بَعْدهَا تَبْيِينًا لِمَا قَبْلهَا.
قِيلَ : إِنَّهُمَا كَانَا إِنْسِيَّيْنِ ; قَالَهُ النَّقَّاش.
وَقِيلَ : مَلَكَيْنِ ; قَالَهُ جَمَاعَة.
وَعَيَّنَهُمَا جَمَاعَة فَقَالُوا : إِنَّهُمَا جِبْرِيل وَمِيكَائِيل.
وَقِيلَ : مَلَكَيْنِ فِي صُورَة إِنْسِيَّيْنِ بَعَثَهُمَا اللَّه إِلَيْهِ فِي يَوْم عِبَادَته.
فَمَنَعَهُمَا الْحَرَس الدُّخُول، فَتَسَوَّرُوا الْمِحْرَاب عَلَيْهِ، فَمَا شَعَرَ وَهُوَ فِي الصَّلَاة إِلَّا وَهُمَا بَيْن يَدَيْهِ جَالِسَيْنِ ; وَهُوَ قَوْله تَعَالَى :" وَهَلْ أَتَاك نَبَأ الْخَصْم إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَاب " أَيْ عَلَوْا وَنَزَلُوا عَلَيْهِ مِنْ فَوْق الْمِحْرَاب ; قَالَهُ سُفْيَان الثَّوْرِيّ وَغَيْره.
وَسَبَب ذَلِكَ مَا حَكَاهُ اِبْن عَبَّاس أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام حَدَّثَ نَفْسه إِنْ اُبْتُلِيَ أَنْ يَعْتَصِمَ.
فَقِيلَ لَهُ : إِنَّكَ سَتُبْتَلَى وَتَعْلَمُ الْيَوْم الَّذِي تُبْتَلَى فِيهِ فَخُذْ حِذْرَك.
فَأَخَذَ الزَّبُورَ وَدَخَلَ الْمِحْرَاب وَمَنَعَ مِنْ الدُّخُول عَلَيْهِ، فَبَيْنَا هُوَ يَقْرَأ الزَّبُور إِذْ جَاءَ طَائِر كَأَحْسَن مَا يَكُون مِنْ الطَّيْر، فَجَعَلَ يُدْرِج بَيْن يَدَيْهِ.
فَهَمَّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ بِيَدِهِ، فَاسْتَدْرَجَ حَتَّى وَقَعَ فِي كُوَّة الْمِحْرَاب، فَدَنَا مِنْهُ لِيَأْخُذَهُ فَطَارَ، فَاطَّلَعَ لِيُبْصِرَهُ فَأَشْرَفَ عَلَى اِمْرَأَةٍ تَغْتَسِلُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ غَطَّتْ جَسَدَهَا بِشَعْرِهَا.
قَالَ السُّدِّيّ : فَوَقَعَتْ فِي قَلْبه.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَكَانَ زَوْجُهَا غَازِيًا فِي سَبِيل اللَّه وَهُوَ أوريا بْن حنان، فَكَتَبَ دَاوُدُ إِلَى أَمِير الْغُزَاة أَنْ يَجْعَل زَوْجَهَا فِي حَمَلَة التَّابُوت، وَكَانَ حَمَلَة التَّابُوت إِمَّا أَنْ يَفْتَحَ اللَّه عَلَيْهِمْ أَوْ يُقْتَلُوا، فَقَدَّمَهُ فِيهِمْ فَقُتِلَ، فَلَمَّا اِنْقَضَتْ عِدَّتُهَا خَطَبَهَا دَاوُدُ، وَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ إِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا أَنْ يَكُون الْخَلِيفَةَ بَعْدَهُ، وَكَتَبَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا، وَأَشْهَدَتْ عَلَيْهِ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل، فَلَمْ تَسْتَقِرَّ نَفْسه حَتَّى وَلَدَتْ سُلَيْمَانَ وَشَبَّ، وَتَسَوَّرَ الْمَلَكَانِ وَكَانَ مِنْ شَأْنهمَا مَا قَصَّ اللَّه فِي كِتَابه.
ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ وَغَيْره.
وَلَا يَصِحُّ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهُوَ أَمْثَل مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ.
قُلْت : وَرَوَاهُ مَرْفُوعًا بِمَعْنَاهُ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم فِي نَوَادِر الْأُصُول عَنْ يَزِيد الرَّقَاشِيّ، سَمِعَ أَنَس بْن مَالِك يَقُول : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( إِنَّ دَاوُدَ النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام حِين نَظَرَ إِلَى الْمَرْأَة فَهَمَّ بِهَا قَطَعَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيل بَعْثًا وَأَوْصَى صَاحِب الْبَعْث فَقَالَ : إِذَا حَضَرَ الْعَدُوّ قَرِّبْ فُلَانًا وَسَمَّاهُ، قَالَ فَقَرَّبَهُ بَيْن يَدَيْ التَّابُوت - قَالَ - وَكَانَ ذَلِكَ التَّابُوت فِي ذَلِكَ الزَّمَان يُسْتَنْصَر بِهِ فَمَنْ قُدِّمَ بَيْن يَدَيْ التَّابُوت لَمْ يَرْجِع حَتَّى يُقْتَل أَوْ يَنْهَزِمَ عَنْهُ الْجَيْش الَّذِي يُقَاتِلُهُ فَقُدِّمَ فَقُتِلَ زَوْج الْمَرْأَة وَنَزَلَ الْمَلَكَانِ عَلَى دَاوُدَ فَقَصَّا عَلَيْهِ الْقِصَّة ).
وَقَالَ سَعِيد عَنْ قَتَادَة : كَتَبَ إِلَى زَوْجهَا وَذَلِكَ فِي حِصَار عَمَّان مَدِينَة بَلْقَاء أَنْ يَأْخُذُوا بِحَلْقَةِ الْبَاب، وَفِيهِ الْمَوْت الْأَحْمَر، فَتَقَدَّمَ فَقُتِلَ.
وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ قَالَ قَوْم مِنْ الْعُلَمَاء : إِنَّمَا اِمْتَحَنَ اللَّه دَاوُدَ بِالْخَطِيئَةِ ; لِأَنَّهُ تَمَنَّى يَوْمًا عَلَى رَبّه مَنْزِلَة إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب، وَسَأَلَهُ أَنْ يَمْتَحِنَهُ نَحْو مَا اِمْتَحَنَهُمْ، وَيُعْطِيَهُ نَحْو مَا أَعْطَاهُمْ.
وَكَانَ دَاوُدُ قَدْ قَسَمَ الدَّهْر ثَلَاثَة أَيَّام، يَوْم يَقْضِي فِيهِ بَيْن النَّاس، وَيَوْم يَخْلُو فِيهِ بِعِبَادَةِ رَبّه، وَيَوْم يَخْلُو فِيهِ بِنِسَائِهِ وَأَشْغَاله.
وَكَانَ يَجِد فِيمَا يَقْرَأ مِنْ الْكُتُب فَضْل إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب.
فَقَالَ : يَا رَبّ إِنَّ الْخَيْر كُلّه قَدْ ذَهَبَ بِهِ آبَائِي، فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ : إِنَّهُمْ اُبْتُلُوا بِبَلَايَا لَمْ يُبْتَلَ بِهَا غَيْرهمْ فَصَبَرُوا عَلَيْهَا ; اُبْتُلِيَ إِبْرَاهِيم بِنُمْرُوذ وَبِالنَّارِ وَبِذَبْحِ اِبْنه، وَابْتُلِيَ إِسْحَاق بِالذَّبْحِ، وَابْتُلِيَ يَعْقُوب بِالْحُزْنِ عَلَى يُوسُف وَذَهَاب بَصَره، وَلَمْ تُبْتَلَ أَنْتَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
فَقَالَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَام : فَابْتَلِنِي بِمِثْلِ مَا اِبْتَلَيْتهمْ، وَأَعْطِنِي مِثْل مَا أَعْطَيْتهمْ، فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ : إِنَّك مُبْتَلًى فِي شَهْر كَذَا فِي يَوْم الْجُمُعَة.
فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْم دَخَلَ مِحْرَابه وَأَغْلَقَ بَابه، وَجَعَلَ يُصَلِّي وَيَقْرَأ الزَّبُور.
فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ مُثِّلَ لَهُ الشَّيْطَان فِي صُورَة حَمَامَة مِنْ ذَهَب، فِيهَا مِنْ كُلّ لَوْن حَسَن، فَوَقَفَ بَيْن رِجْلَيْهِ، فَمَدَّ يَدَهُ لِيَأْخُذَهَا فَيَدْفَعَهَا لِابْنٍ لَهُ صَغِير، فَطَارَتْ غَيْر بَعِيد وَلَمْ تُؤَيِّسْهُ مِنْ نَفْسهَا، فَامْتَدَّ إِلَيْهَا لِيَأْخُذهَا فَتَنَحَّتْ، فَتَبِعَهَا فَطَارَتْ حَتَّى وَقَعَتْ فِي كُوَّة، فَذَهَبَ لِيَأْخُذَهَا فَطَارَتْ وَنَظَرَ دَاوُدُ يَرْتَفِعُ فِي إِثْرِهَا لِيَبْعَثَ إِلَيْهَا مَنْ يَأْخُذُهَا، فَنَظَرَ اِمْرَأَةً فِي بُسْتَان عَلَى شَطّ بِرْكَة تَغْتَسِل ; قَالَهُ الْكَلْبِيّ.
وَقَالَ السُّدِّيّ : تَغْتَسِل عُرْيَانَةً عَلَى سَطْح لَهَا ; فَرَأَى أَجْمَل النِّسَاء خَلْقًا، فَأَبْصَرَتْ ظِلَّهُ فَنَفَضَتْ شَعْرَهَا فَغَطَّى بَدَنهَا، فَزَادَهُ إِعْجَابًا بِهَا.
وَكَانَ زَوْجُهَا أوريا بْن حنان، فِي غَزْوَة مَعَ أَيُّوب بْن صُورِيًّا اِبْن أُخْت دَاوُدَ، فَكَتَبَ دَاوُدُ إِلَى أَيُّوب أَنْ اِبْعَثْ بأوريا إِلَى مَكَان كَذَا وَكَذَا، وَقَدِّمْهُ قِبَلَ التَّابُوت، وَكَانَ مَنْ قُدِّمَ قِبَلَ التَّابُوت لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْجِع وَرَاءَهُ حَتَّى يَفْتَح اللَّه عَلَيْهِ أَوْ يُسْتَشْهَد.
فَقَدَّمَهُ فَفُتِحَ لَهُ فَكَتَبَ إِلَى دَاوُدَ يُخْبِرهُ بِذَلِكَ.
قَالَ الْكَلْبِيّ : وَكَانَ أوريا سَيْفَ اللَّه فِي أَرْضه فِي زَمَان دَاوُدَ، وَكَانَ إِذَا ضَرَبَ ضَرْبَة وَكَبَّرَ كَبَّرَ جِبْرِيل عَنْ يَمِينه وَمِيكَائِيل عَنْ شِمَاله، وَكَبَّرَتْ مَلَائِكَة السَّمَاء بِتَكْبِيرِهِ حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إِلَى الْعَرْش، فَتُكَبِّر مَلَائِكَة الْعَرْش بِتَكْبِيرِهِ.
قَالَ : وَكَانَ.
سُيُوف اللَّه ثَلَاثَة ; كالب بْن يوفنا فِي زَمَن مُوسَى، وأوريا فِي زَمَن دَاوُدَ، وَحَمْزَة بْن عَبْد الْمُطَّلِب فِي زَمَن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا كَتَبَ أَيُّوب إِلَى دَاوُدَ يُخْبِرُهُ أَنَّ اللَّه قَدْ فَتَحَ عَلَى أوريا كَتَبَ دَاوُدُ إِلَيْهِ : أَنْ اِبْعَثْهُ فِي بَعْث كَذَا وَقَدِّمْهُ قِبَل التَّابُوت ; فَفَتَحَ اللَّه عَلَيْهِ، فَقُتِلَ فِي الثَّالِث شَهِيدًا.
فَتَزَوَّجَ دَاوُدُ تِلْكَ الْمَرْأَة حِين اِنْقَضَتْ عِدَّتُهَا.
فَهِيَ أُمّ سُلَيْمَان بْن دَاوُدَ.
وَقِيلَ : سَبَب اِمْتِحَان دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّ نَفْسه حَدَّثَتْهُ أَنَّهُ يُطِيق قَطْع يَوْم بِغَيْرِ مُقَارَفَة شَيْء.
قَالَ الْحَسَن : إِنَّ دَاوُدَ جَزَّأَ الدَّهْر أَرْبَعَة أَجْزَاء ; جُزْءًا لِنِسَائِهِ، وَجُزْءًا لِلْعِبَادَةِ، وَجُزْءًا لِبَنِي إِسْرَائِيل يُذَاكِرُونَهُ وَيُذَاكِرهُمْ وَيُبَكُّونَهُ و يُبَكِّيهِمْ، وَيَوْمًا لِلْقَضَاءِ.
فَتَذَاكَرُوا هَلْ يَمُرُّ عَلَى الْإِنْسَان يَوْم لَا يُصِيب فِيهِ ذَنْبًا ؟ فَأَضْمَرَ دَاوُدُ أَنَّهُ يُطِيق ذَلِكَ ; فَأَغْلَقَ الْبَاب عَلَى نَفْسه يَوْم عِبَادَته، وَأَمَرَ أَلَّا يَدْخُل عَلَيْهِ أَحَد، وَأَكَبَّ عَلَى قِرَاءَة الزَّبُور، فَوَقَعَتْ حَمَامَة مِنْ ذَهَب بَيْن يَدَيْهِ.
وَذَكَرَ نَحْو مَا تَقَدَّمَ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْحَاكِم أَنْ يَنْتَصِب لِلنَّاسِ كُلّ يَوْم، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتْرُك وَطْء نِسَائِهِ وَإِنْ كَانَ مَشْغُولًا بِالْعِبَادَةِ.
وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي [ النِّسَاء ].
وَحَكَمَ كَعْب بِذَلِكَ فِي زَمَن عُمَر بِمَحْضَرِهِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لِعَبْدِ اللَّه بْن عُمَر :( إِنَّ لِزَوْجِك عَلَيْك حَقًّا.
) الْحَدِيث.
وَقَالَ الْحَسَن أَيْضًا وَمُجَاهِد : إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيل حِين اُسْتُخْلِفَ : وَاَللَّه لَأَعْدِلَنَّ بَيْنكُمْ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَابْتُلِيَ بِهَذَا.
وَقَالَ أَبُو بَكْر الْوَرَّاق : كَانَ دَاوُدُ كَثِير الْعِبَادَة فَأُعْجِبَ بِعَمَلِهِ وَقَالَ : هَلْ فِي الْأَرْض أَحَد يَعْمَل كَعَمَلِي.
فَأَرْسَلَ اللَّه إِلَيْهِ جِبْرِيل ; فَقَالَ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول لَك : أَعُجِبْت بِعِبَادَتِك، وَالْعُجْب يَأْكُل الْعِبَادَة كَمَا تَأْكُل النَّار الْحَطَب، فَإِنْ أُعْجِبْت ثَانِيَة وَكَلْتُك إِلَى نَفْسك.
قَالَ : يَا رَبّ كِلْنِي إِلَى نَفْسِي سَنَة.
قَالَ : إِنَّ ذَلِكَ لَكَثِير.
قَالَ : فَشَهْرًا.
قَالَ : إِنَّ ذَلِكَ لَكَثِير.
قَالَ : فَيَوْمًا.
قَالَ : إِنَّ ذَلِكَ لَكَثِير.
قَالَ : يَا رَبّ فَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي سَاعَة.
قَالَ : فَشَأْنك بِهَا.
فَوَكَّلَ الْأَحْرَاس، وَلَبِسَ الصُّوف، وَدَخَلَ الْمِحْرَاب، وَوَضَعَ الزَّبُور بَيْن يَدَيْهِ ; فَبَيْنَمَا هُوَ فِي عِبَادَته إِذْ وَقَعَ الطَّائِر بَيْن يَدَيْهِ، فَكَانَ مِنْ أَمْر الْمَرْأَة مَا كَانَ.
وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ : قَالَ دَاوُدُ ذَاتَ يَوْم : يَا رَبّ مَا مِنْ يَوْم إِلَّا وَمِنْ آلِ دَاوُدَ لَك فِيهِ صَائِم، وَمَا مِنْ لَيْلَة إِلَّا وَمِنْ آلِ دَاوُدَ لَك فِيهَا قَائِم.
فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ : يَا دَاوُدُ مِنْك ذَلِكَ أَوْ مِنِّي ؟ وَعِزَّتِي لَأَكِلَنَّكَ إِلَى نَفْسك.
قَالَ : يَا رَبّ اُعْفُ عَنِّي.
قَالَ : أَكِلُك إِلَى نَفْسك سَنَة.
قَالَ : لَا بِعِزَّتِك.
قَالَ : فَشَهْرًا.
قَالَ : لَا بِعِزَّتِك.
قَالَ : فَأُسْبُوعًا.
قَالَ : لَا بِعِزَّتِك.
قَالَ : فَيَوْمًا.
قَالَ : لَا بِعِزَّتِك.
قَالَ : فَسَاعَة.
قَالَ : لَا بِعِزَّتِك.
قَالَ : فَلَحْظَة.
فَقَالَ لَهُ الشَّيْطَان : وَمَا قَدْر لَحْظَة.
قَالَ : كِلْنِي إِلَى نَفْسِي لَحْظَة.
فَوَكَلَهُ اللَّه إِلَى نَفْسه لَحْظَة.
وَقِيلَ لَهُ : هِيَ فِي يَوْم كَذَا فِي وَقْت كَذَا.
فَلَمَّا جَاءَ ذَلِكَ الْيَوْم جَعَلَهُ لِلْعِبَادَةِ، وَوَكَّلَ الْأَحْرَاس حَوْل مَكَانه.
قِيلَ : أَرْبَعَة آلَاف.
وَقِيلَ : ثَلَاثِينَ أَلْفًا أَوْ ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ أَلْفًا.
وَخَلَا بِعِبَادَةِ رَبّه، وَنَشَرَ الزَّبُور بَيْن يَدَيْهِ، فَجَاءَتْ الْحَمَامَة فَوَقَعَتْ لَهُ، فَكَانَ مِنْ أَمْره فِي لَحْظَته مَعَ الْمَرْأَة مَا كَانَ.
وَأَرْسَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ الْمَلَكَيْنِ بَعْد وِلَادَة سُلَيْمَان، وَضَرَبَا لَهُ الْمَثَل بِالنِّعَاجِ ; فَلَمَّا سَمِعَ الْمَثَل ذَكَرَ خَطِيئَتَهُ فَخَرَّ سَاجِدًا أَرْبَعِينَ لَيْلَة عَلَى مَا يَأْتِي.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فَإِنْ قِيلَ كَيْف لَمْ يَأْمُر بِإِخْرَاجِهِمَا إِذْ قَدْ عَلِمَ مَطْلَبهمَا، وَهَلَّا أَدَّبَهُمَا وَقَدْ دَخَلَا عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْن ؟ فَالْجَوَاب عَلَيْهِ مِنْ أَرْبَعَة أَوْجُه : الْأَوَّل : أَنَّا لَمْ نَعْلَم كَيْفِيَّة شَرْعِهِ فِي الْحِجَاب وَالْإِذْن، فَيَكُون الْجَوَاب بِحَسَبِ تِلْكَ الْأَحْكَام وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي اِبْتِدَاء شَرْعنَا مُهْمَلًا فِي هَذِهِ الْأَحْكَام، حَتَّى أَوْضَحَهَا اللَّه تَعَالَى بِالْبَيَانِ.
الثَّانِي : أَنَّا لَوْ نَزَّلْنَا الْجَوَاب عَلَى أَحْكَام الْحِجَاب، لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُون الْفَزَع الطَّارِئ عَلَيْهِ أَذْهَلَهُ عَمَّا كَانَ يَجِب فِي ذَلِكَ لَهُ.
الثَّالِث : أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ كَلَامَهُمَا الَّذِي دَخَلَا لَهُ حَتَّى يَعْلَم آخِر الْأَمْر مِنْهُ، وَيَرَى هَلْ يَحْتَمِل التَّقَحُّم فِيهِ بِغَيْرِ إِذْن أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يَقْتَرِن بِذَلِكَ عُذْر لَهُمَا أَمْ لَا يَكُون لَهُمَا عُذْر فِيهِ ؟ فَكَانَ مِنْ آخِر الْحَال مَا اِنْكَشَفَ أَنَّهُ بَلَاء وَمِحْنَة، وَمَثَل ضَرَبَهُ اللَّه فِي الْقِصَّة، وَأَدَب وَقَعَ عَلَى دَعْوَى الْعِصْمَة.
الرَّابِع : أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون فِي مَسْجِد وَلَا إِذْن فِي الْمَسْجِد لِأَحَدٍ إِذْ لَا حَجْر فِيهِ عَلَى أَحَد.
قُلْت : وَقَوْل خَامِس ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيّ ; وَهُوَ أَنَّهُمَا قَالَا : لَمَّا لَمْ يَأْذَن لَنَا الْمُوَكَّلُونَ بِالْحِجَابِ، تَوَصَّلْنَا إِلَى الدُّخُول بِالتَّسَوُّرِ، وَخِفْنَا أَنْ يَتَفَاقَم الْأَمْر بَيْننَا.
فَقَبِلَ دَاوُدُ عُذْرَهُمْ، وَأَصْغَى إِلَى قَوْلهمْ.
فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ
لِأَنَّهُمَا أَتَيَاهُ لَيْلًا فِي غَيْر وَقْت دُخُول الْخُصُوم.
وَقِيلَ : لِدُخُولِهِمْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنه.
وَقِيلَ : لِأَنَّهُمْ تَسَوَّرُوا عَلَيْهِ الْمِحْرَاب وَلَمْ يَأْتُوهُ مِنْ الْبَاب.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَكَانَ مِحْرَاب دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ الِامْتِنَاع بِالِارْتِفَاعِ، بِحَيْثُ لَا يَرْتَقِي إِلَيْهِ آدَمِي بِحِيلَةٍ إِلَّا أَنْ يُقِيم إِلَيْهِ أَيَّامًا أَوْ أَشْهُرًا بِحَسَبِ طَاقَته، مَعَ أَعْوَان يَكْثُر عَدَدهمْ، وَآلَات جَمَّة مُخْتَلِفَة الْأَنْوَاع.
وَلَوْ قُلْنَا : إِنَّهُ يُوصَل إِلَيْهِ مِنْ بَاب الْمِحْرَاب لَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ ذَلِكَ :" تَسَوَّرُوا الْمِحْرَاب " إِذْ لَا يُقَال تَسَوَّرَ الْمِحْرَاب وَالْغُرْفَة لِمَنْ طَلَعَ إِلَيْهَا مِنْ دَرَجِهَا، وَجَاءَهَا مِنْ أَسْفَلهَا إِلَّا أَنْ يَكُون ذَلِكَ مَجَازًا ; وَإِذَا شَاهَدْت الْكُوَّة الَّتِي يُقَال إِنَّهُ دَخَلَ مِنْهَا الْخَصْمَانِ عَلِمْت قَطْعًا أَنَّهُمَا مَلَكَانِ ; لِأَنَّهَا مِنْ الْعُلُوّ بِحَيْثُ لَا يَنَالهَا إِلَّا عُلْوِيّ.
قَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَقَدْ قِيلَ : كَانَ الْمُتَسَوِّرَانِ أَخَوَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل لِأَبٍ وَأُمّ.
فَلَمَّا قَضَى دَاوُدُ بَيْنهمَا بِقَضِيَّةٍ قَالَ لَهُ مَلَك مِنْ الْمَلَائِكَة : فَهَلَّا قَضَيْت بِذَلِكَ عَلَى نَفْسك يَا دَاوُدُ.
قَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَالْأَوَّل أَحْسَن أَنَّهُمَا كَانَا مَلَكَيْنِ نَبَّهَا دَاوُدَ عَلَى مَا فَعَلَ.
قُلْت : وَعَلَى هَذَا أَكْثَر أَهْل التَّأْوِيل.
فَإِنْ قِيلَ : كَيْف يَجُوز أَنْ يَقُول الْمَلَكَانِ " خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْض " وَذَلِكَ كَذِب وَالْمَلَائِكَة عَنْ مِثْله مُنَزَّهُونَ.
فَالْجَوَاب عَنْهُ أَنَّهُ لَا بُدّ فِي الْكَلَام مِنْ تَقْدِير ; فَكَأَنَّهُمَا قَالَا : قَدِّرْنَا كَأَنَّنَا خَصْمَانِ بَغَى بَعْضنَا عَلَى بَعْض فَاحْكُمْ بَيْننَا بِالْحَقِّ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَل قَوْلهمَا :" إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْع وَتِسْعُونَ نَعْجَة " لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ بِصُورَةِ الْخَبَر فَالْمُرَاد إِيرَادُهُ عَلَى طَرِيق التَّقْدِير لِيُنَبَّهَ دَاوُدُ عَلَى مَا فَعَلَ ; وَاَللَّه أَعْلَم.
إِنْ قِيلَ : لِمَ فَزِعَ دَاوُدُ وَهُوَ نَبِيّ، وَقَدْ قَوِيَتْ نَفْسه بِالنُّبُوَّةِ، وَاطْمَأَنَّتْ بِالْوَحْيِ، وَوَثِقَتْ بِمَا آتَاهُ اللَّه مِنْ الْمَنْزِلَة، وَأَظْهَرَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الْآيَات، وَكَانَ مِنْ الشُّجَاعَة فِي غَايَة الْمَكَانَة ؟ قِيلَ لَهُ : ذَلِكَ سَبِيل الْأَنْبِيَاء قَبْله، لَمْ يَأْمَنُوا الْقَتْل وَالْأَذِيَّة وَمِنْهُمَا كَانَ يُخَاف.
أَلَا تَرَى إِلَى مُوسَى وَهَارُون عَلَيْهِمَا السَّلَام كَيْف قَالَا :" إِنَّنَا نَخَاف أَنْ يَفْرُط عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى " [ طه : ٤٥ ] فَقَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" لَا تَخَافَا ".
وَقَالَتْ الرُّسُل لِلُوطٍ : لَا تَخَفْ " إِنَّا رُسُل رَبّك لَنْ يَصِلُوا إِلَيْك " [ هُود : ٨١ ] وَكَذَا قَالَ الْمَلَكَانِ هُنَا :" لَا تَخَفْ ".
قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق : بَعَثَ اللَّه إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ يَخْتَصِمَانِ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي مِحْرَابه - مَثَلًا ضَرَبَهُ اللَّه لَهُ ولأوريا فَرَآهُمَا وَاقِفَيْنِ عَلَى رَأْسه ; فَقَالَ : مَا أَدْخَلَكُمَا عَلَيَّ ؟ قَالَا :" لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضنَا عَلَى بَعْض " فَجِئْنَاك لِتَقْضِيَ بَيْننَا.
خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ
إِنْ قِيلَ : كَيْف قَالَ :" خَصْمَانِ " وَقَبْل هَذَا :" إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَاب " فَقِيلَ : لِأَنَّ الْاثْنَيْنِ جَمْع ; قَالَ الْخَلِيل : كَمَا تَقُول نَحْنُ فَعَلْنَا إِذَا كُنْتُمَا اِثْنَيْنِ.
وَقَالَ الْكِسَائِيّ : جَمْع لِمَا كَانَ خَبَرًا، فَلَمَّا اِنْقَضَى الْخَبَر وَجَاءَتْ الْمُخَاطَبَة، خَبَّرَ الْاثْنَان عَنْ أَنْفُسهمَا فَقَالَا خَصْمَانِ.
وَقَالَ الزَّجَّاج : الْمَعْنَى نَحْنُ خَصْمَانِ.
وَقَالَ غَيْره : الْقَوْل مَحْذُوف ; أَيْ يَقُول :" خَصْمَانِ بَغَى بَعْضنَا عَلَى بَعْض " قَالَ الْكِسَائِيّ : وَلَوْ كَانَ بَغَى بَعْضُهُمَا عَلَى بَعْضٍ، لَجَازَ.
الْمَاوَرْدِيّ : وَكَانَا مَلَكَيْنِ، وَلَمْ يَكُونَا خَصْمَيْنِ وَلَا بَاغِيَيْنِ، وَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُمَا كَذِب ; وَتَقْدِير كَلَامهمَا مَا تَقُول : إِنْ أَتَاك خَصْمَانِ قَالَا بَغَى بَعْضنَا عَلَى بَعْض.
وَقِيلَ : أَيْ نَحْنُ فَرِيقَانِ مِنْ الْخُصُوم بَغَى بَعْضنَا عَلَى بَعْض.
وَعَلَى هَذَا يَحْتَمِل أَنْ تَكُون الْخُصُومَة بَيْن اِثْنَيْنِ وَمَعَ كُلّ وَاحِد جَمْع.
وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون لِكُلِّ وَاحِد مِنْ هَذَا الْفَرِيق خُصُومَة مَعَ كُلّ وَاحِد مِنْ الْفَرِيق الْآخَر، فَحَضَرُوا الْخُصُومَات وَلَكِنْ اِبْتَدَأَ مِنْهُمْ اِثْنَانِ، فَعَرَفَ دَاوُدُ بِذِكْرِ النِّكَاح الْقِصَّة.
وَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ التَّعَرُّض لِلْخُصُومَاتِ الْأُخَر.
وَالْبَغْي التَّعَدِّي وَالْخُرُوج عَنْ الْوَاجِب.
يُقَال : بَغَى الْجُرْح إِذَا أَفْرَطَ وَجَعُهُ وَتَرَامَى، إِلَى مَا يَفْحُش، وَمِنْهُ بَغَتْ الْمَرْأَة إِذَا أَتَتْ الْفَاحِشَة.
فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ
أَيْ لَا تَجُرْ ; قَالَهُ السُّدِّيّ.
وَحَكَى أَبُو عُبَيْد : شَطَطْت عَلَيْهِ وَأَشْطَطْت أَيْ جُرْت.
وَفِي حَدِيث تَمِيم الدَّارِيّ :( إِنَّك لَشَاطِّيّ ) أَيْ جَائِر عَلَيَّ فِي الْحُكْم.
وَقَالَ قَتَادَة : لَا تَمِلْ.
الْأَخْفَش : لَا تُسْرِفْ.
وَقِيلَ : لَا تُفْرِطْ.
وَالْمَعْنَى مُتَقَارِب.
وَالْأَصْل فِيهِ الْبُعْد مِنْ شَطَّتْ الدَّار أَيْ بَعُدَتْ ; شَطَّتْ الدَّار تَشِطُّ وَتَشُطُّ شَطًّا وَشُطُوطًا بَعُدَتْ.
وَأَشَطَّ فِي الْقَضِيَّة أَيْ جَارَ، وَأَشَطَّ فِي السَّوْم وَاشْتَطَّ أَيْ أَبْعَدَ، وَأَشَطُّوا فِي طَلَبِي أَيْ أَمْعَنُوا.
قَالَ أَبُو عَمْرو : الشَّطَط مُجَاوَزَة الْقَدْر فِي كُلّ شَيْء.
وَفِي الْحَدِيث :( لَهَا مَهْر مِثْلهَا لَا وَكْس وَلَا شَطَط ) أَيْ لَا نُقْصَان وَلَا زِيَادَة.
وَفِي التَّنْزِيل :" لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا " [ الْكَهْف : ١٤ ] أَيْ جُورًا مِنْ الْقَوْل وَبُعْدًا عَنْ الْحَقّ.
وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ
أَيْ أَرْشِدْنَا إِلَى قَصْد السَّبِيل.
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً
أَيْ قَالَ الْمَلَك الَّذِي تَكَلَّمَ عَنْ أوريا " إِنَّ هَذَا أَخِي " أَيْ عَلَى دِينِي، وَأَشَارَ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ.
وَقِيلَ : أَخِي أَيْ صَاحِبِي.
" لَهُ تِسْع وَتِسْعُونَ نَعْجَة " وَقَرَأَ الْحَسَن :" تَسْعٌ وَتَسْعُونَ نَعْجَة " بِفَتْحِ التَّاء فِيهِمَا وَهِيَ لُغَة شَاذَّة، وَهِيَ الصَّحِيحَة مِنْ قِرَاءَة الْحَسَن ; قَالَ النَّحَّاس.
وَالْعَرَب تُكَنِّي عَنْ الْمَرْأَة بِالنَّعْجَةِ وَالشَّاة ; لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ السُّكُون وَالْمَعْجِزَة وَضَعْف الْجَانِب.
وَقَدْ يُكَنَّى عَنْهَا بِالْبَقَرَةِ وَالْحُجْرَة وَالنَّاقَة ; لِأَنَّ الْكُلّ مَرْكُوب.
قَالَ ابْن عَوْن :
أَنَا أَبُوهُنَّ ثَلَاثٌ هُنَّهْ رَابِعَةٌ فِي الْبَيْتِ صُغْرَاهُنَّهْ
وَنَعْجَتِي خَمْسًا تُوَفِّيهنَّهْ أَلَا فَتًى سَمْحٌ يُغَذِّيهُنَّهْ
طَيُّ النَّقَا فِي الْجُوعِ يَطْوِيهُنَّهْ وَيْلَ الرَّغِيفِ وَيْلَهُ مِنْهُنَّهْ
وَقَالَ عَنْتَرَة :
يَا شَاةُ مَا قَنَص لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ
فَبَعَثْت جَارِيَتِي فَقُلْت لَهَا اِذْهَبِي فَتَجَسَّسِي أَخْبَارَهَا لِي وَاعْلَمِي
قَالَتْ رَأَيْت مِنْ الْأَعَادِي غِرَّةً وَالشَّاةُ مُمْكِنَةٌ لِمَنْ هُوَ مُرْتَمِ
فَكَأَنَّمَا اِلْتَفَتَتْ بِجِيدِ جِدَايَةٍ رَشَإٍ مِنْ الْغِزْلَانِ حُرٍّ أَرْثَمِ
وَقَالَ آخَر :
فَرَمَيْت غَفْلَةَ عَيْنِهِ عَنْ شَاتِه فَأَصَبْت حَبَّةَ قَلْبِهَا وَطِحَالَهَا
وَهَذَا مِنْ أَحْسَن التَّعْرِيض حَيْثُ كَنَّى بِالنِّعَاجِ عَنْ النِّسَاء.
قَالَ الْحُسَيْن بْن الْفَضْل : هَذَا مِنْ الْمَلَكَيْنِ تَعْرِيض وَتَنْبِيه كَقَوْلِهِمْ ضَرَبَ زَيْد عَمْرًا، وَمَا كَانَ ضَرْب وَلَا نِعَاج عَلَى التَّحْقِيق، كَأَنَّهُ قَالَ : نَحْنُ خَصْمَانِ هَذِهِ حَالنَا.
قَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : وَأَحْسَن مَا قِيلَ فِي هَذَا أَنَّ الْمَعْنَى : يَقُول : خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْض عَلَى جِهَة الْمَسْأَلَة ; كَمَا تَقُول : رَجُل يَقُول لِامْرَأَتِهِ كَذَا، مَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؟ قُلْت : وَقَدْ تَأَوَّلَ الْمُزَنِيّ صَاحِب الشَّافِعِيّ هَذِهِ الْآيَة، وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث اِبْن شِهَاب الَّذِي خَرَّجَهُ الْمُوَطَّأ وَغَيْره :( هُوَ لَك يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَة ) عَلَى نَحْو هَذَا ; قَالَ الْمُزَنِيّ : يَحْتَمِل هَذَا الْحَدِيث عِنْدِي - وَاَللَّه أَعْلَم - أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَابَ عَنْ الْمَسْأَلَة فَأَعْلَمَهُمْ بِالْحُكْمِ أَنَّ هَذَا يَكُون إِذَا اِدَّعَى صَاحِب فِرَاش وَصَاحِب زِنًى، لَا أَنَّهُ قَبِلَ عَلَى عُتْبَة قَوْل أَخِيهِ سَعْد، وَلَا عَلَى زَمْعَة قَوْل اِبْنه إِنَّهُ وَلَد زِنًى، لِأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا أَخْبَرَ عَنْ غَيْره.
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ لَا يُقْبَل إِقْرَار أَحَد عَلَى غَيْره.
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّه سُبْحَانَهُ فِي كِتَابه مِثْل ذَلِكَ فِي قِصَّة دَاوُدَ وَالْمَلَائِكَة ; إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَفَزِعَ مِنْهُمْ، قَالُوا : لَا تَخَفْ خَصْمَانِ وَلَمْ يَكُونُوا خَصْمَيْنِ، وَلَا كَانَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ تِسْع وَتِسْعُونَ نَعْجَة، وَلَكِنَّهُمْ كَلَّمُوهُ عَلَى الْمَسْأَلَة لِيَعْرِف بِهَا مَا أَرَادُوا تَعْرِيفه.
فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ فِي هَذِهِ الْقِصَّة عَلَى الْمَسْأَلَة، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَد يُؤْنِسُنِي عَلَى هَذَا التَّأْوِيل فِي الْحَدِيث ; فَإِنَّهُ عِنْدِي صَحِيح.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ النَّحَّاس : وَفِي قِرَاءَة اِبْن مَسْعُود " إِنَّ هَذَا أَخِي كَانَ لَهُ تِسْع وَتِسْعُونَ نَعْجَة أُنْثَى " وَ " كَانَ " هُنَا مِثْل قَوْله عَزَّ وَجَلَّ :" وَكَانَ اللَّه غَفُورًا رَحِيمًا " [ النِّسَاء : ٩٦ ] فَأَمَّا قَوْله :" أُنْثَى " فَهُوَ تَأْكِيد، كَمَا يُقَال : هُوَ رَجُل ذَكَرٌ وَهُوَ تَأْكِيد.
وَقِيلَ : لَمَّا كَانَ يُقَال هَذِهِ مِائَة نَعْجَة، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الذُّكُور شَيْء يَسِير، جَازَ أَنْ يُقَال : أُنْثَى لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا ذَكَرَ فِيهَا.
وَفِي التَّفْسِير : لَهُ تِسْع وَتِسْعُونَ اِمْرَأَة.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : إِنْ كَانَ جَمِيعهنَّ أَحْرَارًا فَذَلِكَ شَرْعُهُ، وَإِنْ كُنَّ إِمَاء فَذَلِكَ شَرْعُنَا.
وَالظَّاهِر أَنَّ شَرْع مَنْ تَقَدَّمَ قَبْلنَا لَمْ يَكُنْ مَحْصُورًا بِعَدَدٍ، وَإِنَّمَا الْحَصْر فِي شَرِيعَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِضَعْفِ الْأَبَدَانِ وَقِلَّة الْأَعْمَار.
وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَيَجُوز أَنْ يُقَال : لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا الْعَدَد بِعَيْنِهِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُود ضَرْب مَثَل، كَمَا تَقُول : لَوْ جِئْتنِي مِائَةَ مَرَّةٍ لَمْ أَقْضِ حَاجَتك، أَيْ مِرَارًا كَثِيرَة.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : قَالَ بَعْض الْمُفَسِّرِينَ : لَمْ يَكُنْ لِدَاوُدَ مِائَة اِمْرَأَة، وَإِنَّمَا ذَكَرَ التِّسْعَة وَالتِّسْعِينَ مَثَلًا ; الْمَعْنَى : هَذَا غَنِيّ عَنْ الزَّوْجَة وَأَنَا مُفْتَقِر إِلَيْهَا.
وَهَذَا فَاسِد مِنْ، وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا : أَنَّ الْعُدُول عَنْ الظَّاهِر بِغَيْرِ دَلِيل، لَا مَعْنَى لَهُ، وَلَا دَلِيل يَدُلّ عَلَى أَنَّ شَرْع مَنْ قَبْلنَا كَانَ مَقْصُورًا مِنْ النِّسَاء عَلَى مَا فِي شَرْعنَا.
الثَّانِي : أَنَّهُ رَوَى الْبُخَارِيّ وَغَيْره أَنَّ سُلَيْمَان قَالَ :( لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَة عَلَى مِائَة اِمْرَأَة تَلِد كُلّ أَمْرَأَة غُلَامًا يُقَاتِل فِي سَبِيل اللَّه وَنَسِيَ أَنْ يَقُول إِنْ شَاءَ اللَّه ) وَهَذَا نَصّ
وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ
أَيْ اِمْرَأَة وَاحِدَة
فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا
أَيْ اِنْزِلْ لِي عَنْهَا حَتَّى أَكْفُلهَا.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَعْطِنِيهَا.
وَعَنْهُ : تَحَوَّلْ لِي عَنْهَا.
وَقَالَ اِبْن مَسْعُود.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَة : ضُمَّهَا إِلَيَّ حَتَّى أَكْفُلَهَا.
وَقَالَ اِبْن كَيْسَان : اِجْعَلْهَا كِفْلِي وَنَصِيبِي.
وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ
أَيْ غَلَبَنِي.
قَالَ الضَّحَّاك : إِنْ تَكَلَّمَ كَانَ أَفْصَحَ مِنِّي، وَإِنْ حَارَبَ كَانَ أَبْطَشَ مِنِّي.
يُقَال : عَزَّهُ يَعُزُّهُ بِضَمِّ الْعَيْن فِي الْمُسْتَقْبَل عَزًّا غَلَبَهُ.
وَفِي الْمَثَل : مَنْ عَزَّ بَزَّ ; أَيْ مَنْ غَلَبَ سَلَبَ.
وَالِاسْم الْعِزَّة وَهِيَ الْقُوَّة وَالْغَلَبَة.
قَالَ الشَّاعِر :
قَطَاةٌ عَزَّهَا شَرَكٌ فَبَاتَتْ تُجَاذِبُهُ وَقَدْ عَلِقَ الْجَنَاحُ
وَقَرَأَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود وَعُبَيْد بْن عُمَيْر :" وَعَازَنِي فِي الْخِطَاب " أَيْ غَالَبَنِي ; مِنْ الْمُعَازَّة وَهِيَ الْمُغَالَبَة ; عَازَّهُ أَيْ غَالَبَهُ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَاخْتُلِفَ فِي سَبَب الْغَلَبَة ; فَقِيلَ : مَعْنَاهُ غَلَبَنِي بِبَيَانِهِ.
وَقِيلَ : غَلَبَنِي بِسُلْطَانِهِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ لَمْ يَسْتَطِعْ خِلَافه.
كَانَ بِبِلَادِنَا أَمِير يُقَال لَهُ : سَيْر بْن أَبِي بَكْر فَكَلَّمْته فِي أَنْ يَسْأَل لِي رَجُلًا حَاجَة، فَقَالَ لِي : أَمَا عَلِمْت أَنَّ طَلَبَ السُّلْطَان لِلْحَاجَةِ غَصْبٌ لَهَا.
فَقُلْت : أَمَّا إِذَا كَانَ عَدْلًا فَلَا.
فَعَجِبْت مِنْ عُجْمَته وَحِفْظه لِمَا تَمَثَّلَ بِهِ وَفِطْنَتِهِ، كَمَا عَجِبَ مِنْ جَوَابِي لَهُ وَاسْتَغْرَبَهُ.
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ
قَالَ النَّحَّاس : فَيُقَال إِنَّ هَذِهِ كَانَتْ خَطِيئَةَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام ; لِأَنَّهُ قَالَ : لَقَدْ ظَلَمَك مِنْ غَيْر تَثَبُّتٍ بِبَيِّنَةٍ، وَلَا إِقْرَار مِنْ الْخَصْم ; هَلْ كَانَ هَذَا كَذَا أَوْ لَمْ يَكُنْ.
فَهَذَا قَوْل.
وَسَيَأْتِي بَيَانه فِي الْمَسْأَلَة بَعْد هَذَا، وَهُوَ حَسَن إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى.
وَقَالَ أَبُو جَعْفَر النَّحَّاس : فَأَمَّا قَوْل الْعُلَمَاء الَّذِينَ لَا يُدْفَع قَوْلهمْ ; مِنْهُمْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس، فَإِنَّهُمْ قَالُوا : مَا زَادَ دَاوُدُ صَلَّى اللَّه عَلَى نَبِيّنَا وَعَلَيْهِ عَلَى أَنْ قَالَ لِلرَّجُلِ اِنْزِلْ لِي عَنْ اِمْرَأَتك.
قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَعَاتَبَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى ذَلِكَ وَنَبَّهَهُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هَذَا بِكَبِيرٍ مِنْ الْمَعَاصِي، وَمَنْ تَخَطَّى إِلَى غَيْر هَذَا فَإِنَّمَا يَأْتِي بِمَا لَا يَصِحّ عَنْ عَالِم، وَيَلْحَقهُ فِيهِ إِثْم عَظِيم.
كَذَا قَالَ : فِي كِتَاب إِعْرَاب الْقُرْآن.
وَقَالَ : فِي كِتَاب مَعَانِي الْقُرْآن لَهُ بِمِثْلِهِ.
قَالَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : قَدْ جَاءَتْ أَخْبَار وَقَصَص فِي أَمْر دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام وأوريا، وَأَكْثَرُهَا لَا يَصِحّ وَلَا يَتَّصِل إِسْنَاده، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْتَرَأَ عَلَى مِثْلهَا إِلَّا بَعْد الْمَعْرِفَة بِصِحَّتِهَا.
وَأَصَحّ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَسْرُوق عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : مَا زَادَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَام عَلَى أَنْ قَالَ :" أَكْفِلْنِيهَا " أَيْ اِنْزِلْ لِي عَنْهَا.
وَرَوَى الْمِنْهَال عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر قَالَ : مَا زَادَ دَاوُدُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ قَالَ :" أَكْفِلْنِيهَا " أَيْ تَحَوَّلْ لِي عَنْهَا وَضُمَّهَا إِلَيَّ.
قَالَ أَبُو جَعْفَر : فَهَذَا أَجَلُّ مَا رُوِيَ فِي هَذَا، وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام سَأَلَ أوريا أَنْ يُطَلِّقَ اِمْرَأَته، كَمَا يَسْأَل الرَّجُلُ الرَّجُلَ أَنْ يَبِيعَهُ جَارِيَتَهُ، فَنَبَّهَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَى ذَلِكَ، وَعَاتَبَهُ لَمَّا كَانَ نَبِيًّا وَكَانَ لَهُ تِسْع وَتِسْعُونَ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَشَاغَل بِالدُّنْيَا بِالتَّزَيُّدِ مِنْهَا، فَأَمَّا غَيْر هَذَا فَلَا يَنْبَغِي الِاجْتِرَاء عَلَيْهِ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَأَمَّا قَوْلهمْ إِنَّهَا لَمَّا أَعْجَبَتْهُ أَمَرَ بِتَقْدِيمِ زَوْجهَا لِلْقَتْلِ فِي سَبِيل اللَّه فَهَذَا بَاطِل قَطْعًا ; فَإِنَّ دَاوُدَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لِيُرِيقَ دَمه فِي غَرَض نَفْسه، وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ الْأَمْر أَنَّ دَاوُدَ قَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابه : اِنْزِلْ لِي عَنْ أَهْلِك وَعَزَمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، كَمَا يَطْلُب الرَّجُل مِنْ الرَّجُل الْحَاجَة بِرَغْبَةٍ صَادِقَة ; كَانَتْ فِي الْأَهْل أَوْ فِي الْمَال.
وَقَدْ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حِينَ آخَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنهمَا : إِنَّ لِي زَوْجَتَيْنِ أَنْزِلُ لَك عَنْ أَحْسَنِهِمَا ; فَقَالَ لَهُ : بَارَكَ اللَّه لَك فِي أَهْلِك.
وَمَا يَجُوز فِعْله اِبْتِدَاء يَجُوز طَلَبه، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآن أَنَّ ذَلِكَ كَانَ، وَلَا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَعْد زَوَال عِصْمَة الرَّجُل عَنْهَا، وَلَا وِلَادَتهَا لِسُلَيْمَانَ، فَعَمَّنْ يُرْوَى هَذَا وَيُسْنَدُ ؟ ! وَعَلَى مَنْ فِي نَقْلِهِ يُعْتَمَد، وَلَيْسَ يَأْثُرُهُ عَنْ الثِّقَات الْأَثْبَات أَحَد.
أَمَّا أَنَّ فِي سُورَة [ الْأَحْزَاب ] نُكْتَة تَدُلّ عَلَى أَنَّ دَاوُدَ قَدْ صَارَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ زَوْجَةً، وَذَلِكَ قَوْله :" مَا كَانَ عَلَى النَّبِيّ مِنْ حَرَج فِيمَا فَرَضَ اللَّه لَهُ سُنَّة اللَّه فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْل " [ الْأَحْزَاب : ٣٨ ] يَعْنِي فِي أَحَد الْأَقْوَال : تَزْوِيج دَاوُدَ الْمَرْأَة الَّتِي نَظَرَ إِلَيْهَا، كَمَا تَزَوَّجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَب بِنْت جَحْش ; إِلَّا أَنَّ تَزْوِيج زَيْنَب كَانَ مِنْ غَيْر سُؤَال الزَّوْج فِي فِرَاق، بَلْ أَمَرَهُ بِالتَّمَسُّكِ بِزَوْجَتِهِ، وَكَانَ تَزْوِيج دَاوُدَ لِلْمَرْأَةِ بِسُؤَالِ زَوْجهَا فِرَاقَهَا.
فَكَانَتْ هَذِهِ الْمَنْقَبَة لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دَاوُدَ مُضَافَة إِلَى مَنَاقِبهِ الْعَلِيَّة صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَكِنْ قَدْ قِيلَ : إِنَّ مَعْنَى " سُنَّة اللَّه فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْل " تَزْوِيج الْأَنْبِيَاء بِغَيْرِ صَدَاق مَنْ وَهَبَتْ نَفْسهَا لَهُمْ مِنْ النِّسَاء بِغَيْرِ صَدَاق.
وَقِيلَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ :" سُنَّةَ اللَّه فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْل " [ الْأَحْزَاب : ٣٨ ] أَنَّ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ فُرِضَ لَهُمْ مَا يَمْتَثِلُونَهُ فِي النِّكَاح وَغَيْره.
وَهَذَا أَصَحّ الْأَقْوَال.
وَقَدْ رَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام نَكَحَ مِائَة اِمْرَأَة ; وَهَذَا نَصّ الْقُرْآن.
وَرُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَان كَانَتْ لَهُ ثَلَاثُمِائَةِ اِمْرَأَة وَسَبْعمِائَةِ جَارِيَة ; وَرَبّك أَعْلَم.
وَذَكَرَ إِلْكِيَا الطَّبَرِيّ فِي أَحْكَامه فِي قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" وَهَلْ أَتَاك نَبَأ الْخَصْم إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَاب " الْآيَة : ذَكَرَ الْمُحَقِّقُونَ الَّذِينَ يَرَوْنَ تَنْزِيهَ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ السَّلَام عَنْ الْكَبَائِر، أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ قَدْ أَقْدَمَ عَلَى خِطْبَة اِمْرَأَة قَدْ خَطَبَهَا غَيْره، يُقَال : هُوَ أوريا ; فَمَالَ الْقَوْم إِلَى تَزْوِيجهَا مِنْ دَاوُدَ رَاغِبِينَ فِيهِ، وَزَاهِدِينَ فِي الْخَاطِب الْأَوَّل، وَلَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ دَاوُدُ عَارِفًا، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِف ذَلِكَ فَيَعْدِل عَنْ هَذِهِ الرَّغْبَة، وَعَنْ الْخِطْبَة بِهَا فَلَمْ يَفْعَل ذَلِكَ، مِنْ حَيْثُ أُعْجِبَ بِهَا إِمَّا وَصْفًا أَوْ مُشَاهَدَة عَلَى غَيْر تَعَمُّد ; وَقَدْ كَانَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ النِّسَاء الْعَدَد الْكَثِير، وَذَلِكَ الْخَاطِب لَا اِمْرَأَةَ لَهُ، فَنَبَّهَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى مَا فَعَلَ بِمَا كَانَ مِنْ تُسَوُّر الْمَلَكَيْنِ، وَمَا أَوْرَدَاهُ مِنْ التَّمْثِيل عَلَى وَجْه التَّعْرِيض ; لِكَيْ يَفْهَم مِنْ ذَلِكَ مَوْقِع الْعَتْب فَيَعْدِل عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَة، وَيَسْتَغْفِر رَبّه مِنْ هَذِهِ الصَّغِيرَة.
" قَالَ لَقَدْ ظَلَمَك بِسُؤَالِ نَعْجَتِك إِلَى نِعَاجه " فِيهِ الْفَتْوَى فِي النَّازِلَة بَعْد السَّمَاع مِنْ أَحَد الْخَصْمَيْنِ، وَقَبْل أَنْ يَسْمَع مِنْ الْآخَر بِظَاهِرِ هَذَا الْقَوْل.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا مِمَّا لَا يَجُوز عِنْد أَحَد، وَلَا فِي مِلَّة مِنْ الْمِلَل، وَلَا يُمْكِن ذَلِكَ لِلْبَشَرِ.
وَإِنَّمَا تَقْدِير الْكَلَام أَنَّ أَحَد الْخَصْمَيْنِ اِدَّعَى وَالْآخَر سَلَّمَ فِي الدَّعْوَى، فَوَقَعَتْ بَعْد ذَلِكَ الْفَتْوَى.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِذَا جَلَسَ إِلَيْك الْخَصْمَانِ فَلَا تَقْضِي لِأَحَدِهِمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ الْآخَر ) وَقِيلَ : إِنَّ دَاوُدَ لَمْ يَقْضِ لِلْآخَرِ حَتَّى اِعْتَرَفَ صَاحِبه بِذَلِكَ.
وَقِيلَ : تَقْدِيره لَقَدْ ظَلَمَكَ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ.
وَاَللَّه أَعْلَم بِتَعْيِينِ مَا يُمْكِنُ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ.
قُلْت : ذَكَرَ هَذَيْن الْوَجْهَيْنِ الْقُشَيْرِيّ وَالْمَاوَرْدِيّ وَغَيْرهمَا.
قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَقَوْله :" لَقَدْ ظَلَمَك بِسُؤَالِ نَعْجَتك " مِنْ غَيْر أَنْ يَسْمَع كَلَام الْخَصْم مُشْكِل ; فَيُمْكِن أَنْ يُقَال : إِنَّمَا قَالَ هَذَا بَعْد مُرَاجَعَة الْخَصْم الْآخَر وَبَعْد اِعْتِرَافه.
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ رِوَايَته، فَهَذَا مَعْلُوم مِنْ قَرَائِن الْحَال، أَوْ أَرَادَ لَقَدْ ظَلَمَك إِنْ كَانَ الْأَمْر عَلَى مَا تَقُول، فَسَكَّتَهُ بِهَذَا وَصَبَّرَهُ إِلَى أَنْ يَسْأَل خَصْمه.
قَالَ وَيَحْتَمِل أَنْ يُقَال : كَانَ مِنْ شَرْعهمْ التَّعْوِيل عَلَى قَوْل الْمُدَّعِي عِنْد سُكُوت الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إِذَا لَمْ يَظْهَر مِنْهُ إِنْكَار بِالْقَوْلِ.
وَقَالَ الْحَلِيمِيّ أَبُو عَبْد اللَّه فِي كِتَاب مِنْهَاج الدِّين لَهُ : وَمِمَّا جَاءَ فِي شُكْر النِّعْمَة الْمُنْتَظَرَة إِذَا حَضَرَتْ، أَوْ كَانَتْ خَافِيَة فَظَهَرَتْ : السُّجُود لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ وَالْأَصْل فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :" وَهَلْ أَتَاك نَبَأ الْخَصْم " إِلَى قَوْله :" وَحُسْن مَآب ".
أَخْبَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَنْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام : أَنَّهُ سَمِعَ قَوْل الْمُتَظَلِّم مِنْ الْخَصْمَيْنِ، وَلَمْ يُخْبِر عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ الْآخَر، إِنَّمَا حَكَى أَنَّهُ ظَلَمَهُ، فَكَانَ ظَاهِر ذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمُتَكَلِّم مَخَائِلَ الضَّعْف وَالْهَضِيمَة، فَحَمَلَ أَمْره عَلَى أَنَّهُ مَظْلُوم كَمَا يَقُول، وَدَعَاهُ ذَلِكَ إِلَى أَلَّا يَسْأَل الْخَصْم ; فَقَالَ لَهُ مُسْتَعْجِلًا :" لَقَدْ ظَلَمَك " مَعَ إِمْكَان أَنَّهُ لَوْ سَأَلَهُ لَكَانَ يَقُول : كَانَتْ لِي مِائَة نَعْجَة وَلَا شَيْء لِهَذَا، فَسَرَقَ مِنِّي هَذِهِ النَّعْجَة، فَلَمَّا وَجَدْتهَا عِنْده قُلْت لَهُ اُرْدُدْهَا، وَمَا قُلْت لَهُ أَكْفِلْنِيهَا، وَعَلِمَ أَنِّي مَرَافِعُهُ إِلَيْك، فَجَرَّنِي قَبْل أَنْ أَجُرَّهُ، وَجَاءَك مُتَظَلِّمًا مِنْ قَبْل أَنْ أُحْضِرَهُ، لِتَظُنّ أَنَّهُ هُوَ الْمُحِقّ وَأَنِّي أَنَا الظَّالِم.
وَلَمَّا تَكَلَّمَ دَاوُدُ بِمَا حَمَلَتْهُ الْعَجَلَة عَلَيْهِ، عَلِمَ أَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ خَلَّاهُ وَنَفْسه فِي ذَلِكَ الْوَقْت، وَهُوَ الْفِتْنَة الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا عَنْ تَقْصِير مِنْهُ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا لِلَّهِ تَعَالَى شُكْرًا عَلَى أَنْ عَصَمَهُ، بِأَنْ اِقْتَصَرَ عَلَى تَظْلِيم الْمَشْكُوِّ، وَلَمْ يَزِدْهُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ اِنْتِهَار أَوْ ضَرْب أَوْ غَيْرهمَا، مِمَّا يَلِيق بِمَنْ تَصَوَّرَ فِي الْقَلْب أَنَّهُ ظَالِم، فَغَفَرَ اللَّه لَهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ يُعَاتِبهُ ; فَقَالَ :" يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاك خَلِيفَة فِي الْأَرْض فَاحْكُمْ بَيْن النَّاس بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّك عَنْ سَبِيل اللَّه " [ ص : ٢٦ ] فَبَانَ بِمَا قَصَّهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الْمَوْعِظَة، الَّتِي تَوَخَّاهُ بِهَا بَعْد الْمَغْفِرَة، أَنَّ خَطِيئَته إِنَّمَا كَانَتْ التَّقْصِير فِي الْحُكْم، وَالْمُبَادَرَة إِلَى تَظْلِيم مَنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْده ظُلْمه.
ثُمَّ جَاءَ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : سَجَدَهَا دَاوُدُ شُكْرًا، وَسَجَدَهَا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِتِّبَاعًا، فَثَبَتَ أَنَّ السُّجُود لِلشُّكْرِ سُنَّة مُتَوَاتِرَة عَنْ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ.
" بِسُؤَالِ نَعْجَتك " أَيْ بِسُؤَالِهِ نَعْجَتَك ; فَأَضَافَ الْمَصْدَر إِلَى الْمَفْعُول، وَأَلْقَى الْهَاء مِنْ السُّؤَال ; وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" لَا يَسْأَم الْإِنْسَان مِنْ دُعَاء الْخَيْر " [ فُصِّلَتْ : ٤٩ ] أَيْ مِنْ دُعَائِهِ الْخَيْرَ.
وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ
يُقَال : خَلِيط وَخُلَطَاء، وَلَا يُقَال طَوِيل وَطُوَلَاء ; لِثِقَلِ الْحَرَكَة فِي الْوَاو.
وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدهمَا أَنَّهُمَا الْأَصْحَاب.
الثَّانِي أَنَّهُمَا الشُّرَكَاء.
قُلْت : إِطْلَاق الْخُلَطَاء عَلَى الشُّرَكَاء.
فِيهِ بُعْدٌ، وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي صِفَة الْخُلَطَاء فَقَالَ أَكْثَر الْعُلَمَاء : هُوَ أَنْ يَأْتِي كُلّ وَاحِد بِغَنَمِهِ فَيَجْمَعهُمَا رَاعٍ وَاحِد وَالدَّلْو وَالْمَرَاح.
وَقَالَ طَاوُس وَعَطَاء : لَا يَكُون الْخُلَطَاء إِلَّا الشُّرَكَاء.
وَهَذَا خِلَاف الْخَبَر ; وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لَا يُجْمَع بَيْن مُفْتَرِق وَلَا يُفَرَّق بَيْن مُجْتَمِع خَشْيَة الصَّدَقَة وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنهمَا بِالسَّوِيَّةِ ) وَرُوِيَ ( فَإِنَّهُمَا يَتَرَادَّانِ الْفَضْل ) وَلَا مَوْضِع لِتَرَادِّ الْفَضْل بَيْن الشُّرَكَاء ; فَاعْلَمْهُ.
وَأَحْكَام الْخُلْطَة مَذْكُورَة فِي كُتُب الْفِقْه.
وَمَالِك وَأَصْحَابه وَجَمْع مِنْ الْعُلَمَاء لَا يَرَوْنَ الصَّدَقَة عَلَى مَنْ لَيْسَ فِي حِصَّته مَا تَجِب فِيهِ الزَّكَاة.
وَقَالَ الرَّبِيع وَاللَّيْث وَجَمْع مِنْ الْعُلَمَاء مِنْهُمْ الشَّافِعِيّ : إِذَا كَانَ فِي جَمِيعهَا مَا تَجِب فِيهِ الزَّكَاة أُخِذَتْ مِنْهُمْ الزَّكَاة.
قَالَ مَالِك : وَإِنْ أَخَذَ الْمُصَدِّق بِهَذَا تَرَادَّوْا بَيْنهمْ لِلِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَتَكُون كَحُكْمِ حَاكِمْ اُخْتُلِفَ فِيهِ.
لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ
أَيْ يَتَعَدَّى وَيَظْلِم.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
فَإِنَّهُمْ لَا يَظْلِمُونَ أَحَدًا.
وَقَلِيلٌ مَا هُمْ
يَعْنِي الصَّالِحِينَ، أَيْ وَقَلِيل هُمْ فَـ " مَا " زَائِدَة.
وَقِيلَ : بِمَعْنَى الَّذِينَ وَتَقْدِيره وَقَلِيل الَّذِينَ هُمْ.
وَسَمِعَ عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ رَجُلًا يَقُول فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ اِجْعَلْنِي مِنْ عِبَادِك الْقَلِيل.
فَقَالَ لَهُ عُمَر : مَا هَذَا الدُّعَاء.
فَقَالَ أَرَدْت قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات وَقَلِيل مَا هُمْ " فَقَالَ عُمَر : كُلّ النَّاس أَفْقَهُ مِنْك يَا عُمَر !
وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ
أَيْ اِبْتَلَيْنَاهُ.
" وَظَنَّ " مَعْنَاهُ أَيْقَنَ.
قَالَ أَبُو عَمْرو وَالْفَرَّاء : ظَنَّ بِمَعْنَى أَيْقَنَ، إِلَّا أَنَّ الْفَرَّاء شَرَحَهُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوز فِي الْمُعَايَن أَنْ يَكُون الظَّنّ إِلَّا بِمَعْنَى الْيَقِين.
وَالْقِرَاءَة " فَتَنَّاهُ " بِتَشْدِيدِ النُّون دُون التَّاء.
وَقَرَأَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ " فَتَّنَّاهُ " بِتَشْدِيدِ التَّاء وَالنُّون عَلَى الْمُبَالَغَة.
وَقَرَأَ قَتَادَة وَعُبَيْد بْن عُمَيْر وَابْن السَّمَيْقَع " فَتَنَاهُ " بِتَخْفِيفِهِمَا.
وَرَوَاهُ عَلِيّ بْن نَصْر عَنْ أَبِي عَمْرو، وَالْمُرَاد بِهِ الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ دَخَلَا عَلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام.
قِيلَ : لَمَّا قَضَى دَاوُدُ بَيْنهمَا فِي الْمَسْجِد، نَظَرَ أَحَدهمَا إِلَى صَاحِبه فَضَحِكَ فَلَمْ يَفْطِنْ دَاوُدُ ; فَأَحَبَّا أَنْ يَعْرِفَهُمَا، فَصَعِدَا إِلَى السَّمَاء حِيَال وَجْهِهِ، فَعَلِمَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّ اللَّه تَعَالَى اِبْتَلَاهُ بِذَلِكَ، وَنَبَّهَهُ عَلَى مَا اِبْتَلَاهُ.
قُلْت : وَلَيْسَ فِي الْقِرَان مَا يَدُلّ عَلَى الْقَضَاء فِي الْمَسْجِد إِلَّا هَذِهِ الْآيَة، وَبِهَا اِسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ الْقَضَاء فِي الْمَسْجِد، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَجُوز كَمَا قَالَ الشَّافِعِيّ لَمَا أَقَرَّهُمْ دَاوُدُ عَلَى ذَلِكَ.
وَيَقُول : اِنْصَرِفَا إِلَى مَوْضِع الْقَضَاء.
وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاء يَقْضُونَ فِي الْمَسْجِد، وَقَدْ قَالَ مَالِك : الْقَضَاء فِي الْمَسْجِد مِنْ الْأَمْر الْقَدِيم.
يَعْنِي فِي أَكْثَر الْأُمُور.
وَلَا بَأْس أَنْ يَجْلِس فِي رَحْبَتِهِ ; لِيَصِلَ إِلَيْهِ الضَّعِيف وَالْمُشْرِك وَالْحَائِض، وَلَا يُقِيم فِيهِ الْحُدُود ; وَلَا بَأْس بِخَفِيفِ الْأَدَب.
وَقَدْ قَالَ أَشْهَب : يَقْضِي فِي مَنْزِله وَأَيْنَ أَحَبَّ.
قَالَ مَالِك رَحِمَهُ اللَّه : وَكَانَ الْخُلَفَاء يَقْضُونَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَأَوَّل مَنْ اِسْتَقْضَى مُعَاوِيَة.
قَالَ مَالِك : وَيَنْبَغِي لِلْقُضَاةِ مُشَاوَرَة الْعُلَمَاء.
وَقَالَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز : لَا يَسْتَقْضِي حَتَّى يَكُون عَالِمًا بِآثَارِ مَنْ مَضَى، مُسْتَشِيرًا لِذَوِي الرَّأْي، حَلِيمًا نَزِهًا.
قَالَ : وَيَكُون وَرِعًا.
قَالَ مَالِك : وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُون مُتَيَقِّظًا كَثِير التَّحَذُّرِ مِنْ الْحِيَل، وَأَنْ يَكُون عَالِمًا بِالشُّرُوطِ، عَارِفًا بِمَا لَا بُدّ لَهُ مِنْهُ مِنْ الْعَرَبِيَّة ; فَإِنَّ الْأَحْكَام تَخْتَلِف بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَات وَالدَّعَاوَى وَالْإِقْرَارَات وَالشَّهَادَات وَالشُّرُوط الَّتِي تَتَضَمَّن حُقُوق الْمَحْكُوم لَهُ.
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقُول قَبْل إِنْجَاز الْحُكْم لِلْمَطْلُوبِ : أَبَقِيَتْ لَك حُجَّة ؟ فَإِنْ قَالَ لَا، حَكَمَ عَلَيْهِ، وَلَا يَقْبَل مِنْهُ حُجَّة بَعْد إِنْفَاذ حُكْمه إِلَّا أَنْ يَأْتِي بِمَا لَهُ وَجْه أَوْ بَيِّنَة.
وَأَحْكَام الْقَضَاء وَالْقُضَاة فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ مَذْكُورَة فِي غَيْر هَذَا الْمَوْضِع.
فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ
اِخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الذَّنْب الَّذِي اِسْتَغْفَرَ مِنْهُ
عَلَى أَقْوَال سِتَّة :
[ الْأَوَّل ] أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى الْمَرْأَة حَتَّى شَبِعَ مِنْهَا.
قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر : إِنَّمَا كَانَتْ فِتْنَتُهُ النَّظْرَةَ.
قَالَ أَبُو إِسْحَاق : وَلَمْ يَتَعَمَّدْ دَاوُدُ النَّظَر إِلَى الْمَرْأَة لَكِنَّهُ عَاوَدَ النَّظَر إِلَيْهَا، فَصَارَتْ الْأُولَى لَهُ وَالثَّانِيَة عَلَيْهِ.
[ الثَّانِي ] أَنَّهُ أَغْزَى زَوْجهَا فِي حَمَلَة التَّابُوت.
[ الثَّالِث ] أَنَّهُ نَوَى إِنْ مَاتَ زَوْجهَا أَنْ يَتَزَوَّجهَا.
[ الرَّابِع ] أَنَّ أوريا كَانَ خَطَبَ تِلْكَ الْمَرْأَة، فَلَمَّا غَابَ خَطَبَهَا دَاوُدُ فَزُوِّجَتْ مِنْهُ لِجَلَالَتِهِ، فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ أوريا.
فَعَتَبَ اللَّه عَلَى دَاوُدَ إِذْ لَمْ يَتْرُكهَا لِخَاطِبِهَا.
وَقَدْ كَانَ عِنْده تِسْع وَتِسْعُونَ اِمْرَأَة.
[ الْخَامِس ] أَنَّهُ لَمْ يَجْزَع عَلَى قَتْل أوريا، كَمَا كَانَ يَجْزَع عَلَى مَنْ هَلَكَ مِنْ الْجُنْد، ثُمَّ تَزَوَّجَ اِمْرَأَته، فَعَاتَبَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ ذُنُوب الْأَنْبِيَاء وَإِنْ صَغُرَتْ فَهِيَ عَظِيمَة عِنْد اللَّه.
[ السَّادِس ] أَنَّهُ حَكَمَ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَبْل أَنْ يَسْمَع مِنْ الْآخَر.
قَالَ الْقَاضِي اِبْن الْعَرَبِيّ : أَمَّا قَوْل مَنْ قَالَ : إِنَّهُ حَكَمَ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قَبْل أَنْ يَسْمَع مِنْ الْآخَر فَلَا يَجُوز عَلَى الْأَنْبِيَاء، وَكَذَلِكَ تَعْرِيض زَوْجهَا لِلْقَتْلِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إِنَّهُ نَظَرَ إِلَيْهَا حَتَّى شَبِعَ فَلَا يَجُوز ذَلِكَ عِنْدِي بِحَالٍ ; لِأَنَّ طُمُوح النَّظَر لَا يَلِيق بِالْأَوْلِيَاءِ الْمُتَجَرِّدِينَ لِلْعِبَادَةِ، فَكَيْف بِالْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ هُمْ وَسَائِط اللَّه الْمُكَاشَفُونَ بِالْغَيْبِ ! وَحَكَى السُّدِّيّ عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : لَوْ سَمِعْت رَجُلًا يَذْكُر أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام قَارَفَ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَة مُحَرَّمًا لَجَلَدْته سِتِّينَ وَمِائَة ; لِأَنَّ حَدّ قَاذِف النَّاس ثَمَانُونَ وَحَدّ قَاذِف الْأَنْبِيَاء سِتُّونَ وَمِائَة.
ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ وَالثَّعْلَبِيّ أَيْضًا.
قَالَ الثَّعْلَبِيّ : وَقَالَ الْحَارِث الْأَعْوَر عَنْ عَلِيّ : مَنْ حَدَّثَ بِحَدِيثِ دَاوُدَ عَلَى مَا تَرْوِيهِ الْقُصَّاص مُعْتَقِدًا جَلَدْته حَدَّيْنِ ; لِعِظَمِ مَا اِرْتَكَبَ بِرَمْيِ مَنْ قَدْ رَفَعَ اللَّه مَحَلّه، وَارْتَضَاهُ مِنْ خَلْقه رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ، وَحُجَّة لِلْمُجْتَهِدِينَ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَصِحّ عَنْ عَلِيّ.
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا حُكْمُهُ عِنْدكُمْ ؟ قُلْنَا : أَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّ نَبِيًّا زَنَى فَإِنَّهُ يُقْتَل، وَأَمَّا مَنْ نَسَبَ إِلَيْهِ مَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ النَّظَر وَالْمُلَامَسَة، فَقَدْ اِخْتَلَفَ نَقْل النَّاس فِي ذَلِكَ ; فَإِنْ صَمَّمَ أَحَد عَلَى ذَلِكَ فِيهِ وَنَسَبَهُ إِلَيْهِ قَتَلْته، فَإِنَّهُ يُنَاقِض التَّعْزِير الْمَأْمُور بِهِ، فَأَمَّا قَوْلهمْ : إِنَّهُ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى اِمْرَأَة تَغْتَسِلُ عُرْيَانَة، فَلَمَّا رَأَتْهُ أَسْبَلَتْ شَعْرهَا فَسَتَرَتْ جَسَدهَا، فَهَذَا لَا حَرَج عَلَيْهِ فِيهِ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّة ; لِأَنَّ النَّظْرَة الْأُولَى تَكْشِف الْمَنْظُور إِلَيْهِ وَلَا يَأْثَم النَّاظِر بِهَا، فَأَمَّا النَّظْرَة الثَّانِيَة فَلَا أَصْل لَهَا.
وَأَمَّا قَوْلهمْ : إِنَّهُ.
نَوَى إِنْ مَاتَ زَوْجهَا تَزَوَّجَهَا فَلَا شَيْء فِيهِ إِذْ لَمْ يُعَرِّضْهُ لِلْمَوْتِ.
وَأَمَّا قَوْلهمْ : إِنَّهُ خَطَبَ عَلَى خِطْبَة أوريا فَبَاطِل يَرُدُّهُ الْقُرْآن وَالْآثَار التَّفْسِيرِيَّة كُلّهَا.
وَقَدْ رَوَى أَشْهَب عَنْ مَالِك قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّ تِلْكَ الْحَمَامَة أَتَتْ فَوَقَعَتْ قَرِيبًا مِنْ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام وَهِيَ مِنْ ذَهَب، فَلَمَّا رَآهَا أَعْجَبَتْهُ فَقَامَ لِيَأْخُذَهَا فَكَانَتْ قُرْب يَده، ثُمَّ صَنَعَ مِثْل ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ طَارَتْ وَاتَّبَعَهَا بِبَصَرِهِ فَوَقَعَتْ عَيْنه عَلَى تِلْكَ الْمَرْأَة وَهِيَ تَغْتَسِل وَلَهَا شَعْر طَوِيل ; فَبَلَغَنِي أَنَّهُ أَقَامَ أَرْبَعِينَ لَيْلَة سَاجِدًا حَتَّى نَبَتَ الْعُشْب مِنْ دُمُوع عَيْنه.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَأَمَّا قَوْل الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ الطَّائِر دَرَجَ عِنْده فَهَمَّ بِأَخْذِهِ وَاتَّبَعَهُ فَهَذَا لَا يُنَاقِض الْعِبَادَة ; لِأَنَّهُ مُبَاح فِعْله، لَا سِيَّمَا وَهُوَ حَلَال وَطَلَب الْحَلَال فَرِيضَة، وَإِنَّمَا اِتَّبَعَ الطَّيْر لِذَاتِهِ لَا لِجَمَالِهِ فَإِنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ، وَإِنَّمَا ذِكْرُهُمْ لِحُسْنِ الطَّائِر خَرْق فِي الْجَهَالَة.
أَمَّا أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ طَائِرًا مِنْ ذَهَب فَاتَّبَعَهُ لِيَأْخُذَهُ ; لِأَنَّهُ مِنْ فَضْل اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى كَمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيح :( إِنَّ أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَغْتَسِل عُرْيَانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ رِجْلٌ مِنْ جَرَاد مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَحْثِي مِنْهُ وَيَجْعَل فِي ثَوْبه، فَقَالَ اللَّه تَعَالَى لَهُ :" يَا أَيُّوب أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُك " قَالَ :( بَلَى يَا رَبّ وَلَكِنْ لَا غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِك ).
وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : فَهَمَّ دَاوُدُ بِأَنْ يَأْخُذهُ لِيَدْفَعَهُ إِلَى اِبْن لَهُ صَغِير فَطَارَ وَوَقَعَ عَلَى كُوَّة الْبَيْت ; وَقَالَهُ الثَّعْلَبِيّ أَيْضًا وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ
أَيْ خَرَّ سَاجِدًا، وَقَدْ يُعَبَّر عَنْ السُّجُود بِالرُّكُوعِ.
قَالَ الشَّاعِر :
فَخَرَّ عَلَى وَجْهه رَاكِعًا وَتَابَ إِلَى اللَّه مِنْ كُلّ ذَنْب
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : لَا خِلَاف بَيْن الْعُلَمَاء أَنَّ الْمُرَاد بِالرُّكُوعِ هَا هُنَا السُّجُود ; فَإِنَّ السُّجُود هُوَ الْمَيْل، وَالرُّكُوع هُوَ الِانْحِنَاء، وَأَحَدهمَا يَدْخُل عَلَى الْآخَر، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَخْتَصُّ كُلّ وَاحِد بِهَيْئَتِهِ، ثُمَّ جَاءَ هَذَا عَلَى تَسْمِيَة أَحَدهمَا بِالْآخَرِ، فَسُمِّيَ السُّجُود رُكُوعًا.
وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ : وَكَانَ رُكُوعهمْ سُجُودًا.
وَقِيلَ : بَلْ كَانَ سُجُودهمْ رُكُوعًا.
وَقَالَ مُقَاتِل : فَوَقَعَ مِنْ رُكُوعه سَاجِدًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
أَيْ لَمَّا أَحَسَّ بِالْأَمْرِ قَامَ إِلَى الصَّلَاة، ثُمَّ وَقَعَ مِنْ الرُّكُوع إِلَى السُّجُود ; لِاشْتِمَالِهِمَا جَمِيعًا عَلَى الِانْحِنَاء.
" وَأَنَابَ " أَيْ تَابَ مِنْ خَطِيئَته وَرَجَعَ إِلَى اللَّه.
وَقَالَ الْحَسَن بْن الْفَضْل : سَأَلَنِي عَبْد اللَّه بْن طَاهِر وَهُوَ الْوَالِي عَنْ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" وَخَرَّ رَاكِعًا " فَهَلْ يُقَال لِلرَّاكِعِ خَرَّ ؟.
قُلْت : لَا.
قَالَ : فَمَا مَعْنَى الْآيَة ؟ قُلْت : مَعْنَاهَا فَخَرَّ بَعْد أَنْ كَانَ رَاكِعًا أَيْ سَجَدَ.
وَاخْتُلِفَ فِي سَجْدَة دَاوُدَ هَلْ هِيَ مِنْ عَزَائِم السُّجُود الْمَأْمُور بِهِ فِي الْقُرْآن أَمْ لَا ؟ فَرَوَى أَبُو سَعِيد الْخِدْرَيَّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَر :" ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْر " فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَة نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاس مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْم آخَر قَرَأَ بِهَا فَتَشَزَّنَ النَّاس لِلسُّجُودِ، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّهَا تَوْبَة نَبِيّ وَلَكِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَشَزَّنْتُمْ لِلسُّجُودِ ) وَنَزَلَ وَسَجَدَ.
وَهَذَا لَفْظ أَبِي دَاوُدَ.
وَفِي الْبُخَارِيّ وَغَيْره عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ :" ص " لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِم الْقُرْآن، وَقَدْ رَأَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُد فِيهَا.
وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيق عَنْ اِبْن مَسْعُود أَنَّهُ قَالَ :" ص " تَوْبَة نَبِيّ وَلَا يَسْجُد فِيهَا ; وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهَا تَوْبَة نَبِيّ وَنَبِيّكُمْ مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مَوْضِع سُجُود، وَلَكِنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِيهَا فَسَجَدْنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ.
وَمَعْنَى السُّجُود أَنَّ دَاوُدَ سَجَدَ خَاضِعًا لِرَبِّهِ، مُعْتَرِفًا بِذَنْبِهِ.
تَائِبًا مِنْ خَطِيئَته ; فَإِذَا سَجَدَ أَحَد فِيهَا فَلْيَسْجُدْ بِهَذِهِ النِّيَّة، فَلَعَلَّ اللَّه أَنْ يَغْفِر لَهُ بِحُرْمَةِ دَاوُدَ الَّذِي اِتَّبَعَهُ، وَسَوَاء قُلْنَا إِنَّ شَرْع مَنْ قَبْلَنَا شَرْع لَنَا أَمْ لَا ؟ فَإِنَّ هَذَا أَمْر مَشْرُوع فِي كُلّ أُمَّة لِكُلِّ أَحَد.
وَاَللَّه أَعْلَم.
قَالَ اِبْن خُوَيْزِ مَنْدَادٍ : قَوْله :" وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ " فِيهِ دَلَالَة عَلَى أَنَّ السُّجُود لِلشُّكْرِ مُفْرَدًا لَا يَجُوز ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ مَعَهُ الرُّكُوع ; وَإِنَّمَا الَّذِي يَجُوز أَنْ يَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ شُكْرًا فَأَمَّا سَجْدَة مُفْرَدَة فَلَا ; وَذَلِكَ أَنَّ الْبِشَارَات كَانَتْ تَأْتِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَئِمَّة بَعْده، فَلَمْ يُنْقَل عَنْ أَحَد مِنْهُمْ أَنَّهُ سَجَدَ شُكْرًا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَفْعُولًا لَهُمْ لَنُقِلَ نَقْلًا مُتَظَاهِرًا لِحَاجَةِ الْعَامَّة إِلَى جَوَازه وَكَوْنه قُرْبَة.
قُلْت : وَفِي سُنَن اِبْن مَاجَهْ عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي أَوْفَى أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى يَوْم بُشِّرَ بِرَأْسِ أَبِي جَهْل رَكْعَتَيْنِ.
وَخَرَّجَ مِنْ حَدِيث أَبِي بَكْرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَتَاهُ أَمْر يَسُرُّهُ - أَوْ يُسَرُّ بِهِ - خَرَّ سَاجِدًا شُكْرًا لِلَّهِ.
وَهَذَا قَوْل الشَّافِعِيّ وَغَيْره.
رَوَى التِّرْمِذِيّ وَغَيْره وَاللَّفْظ لِلْغَيْرِ : أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَار عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْل يَسْتَتِر بِشَجَرَةٍ وَهُوَ يَقْرَأ :" ص وَالْقُرْآن ذِي الذِّكْر " فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَة سَجَدَ وَسَجَدَتْ مَعَهُ الشَّجَرَة، فَسَمِعَهَا وَهِيَ تَقُول : اللَّهُمَّ أَعْظِمْ لِي بِهَذِهِ السَّجْدَة أَجْرًا، وَارْزُقْنِي بِهَا شُكْرًا.
قُلْت : خَرَّجَ اِبْن مَاجَهْ فِي سُنَنه عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كُنْت عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُ رَجُل فَقَالَ : إِنِّي رَأَيْت الْبَارِحَة فِيمَا يَرَى النَّائِم، كَأَنِّي أُصَلِّي إِلَى أَصْل شَجَرَة، فَقَرَأْت السَّجْدَة فَسَجَدْت فَسَجَدَتْ الشَّجَرَة لِسُجُودِي، فَسَمِعْتهَا تَقُول : اللَّهُمَّ اُحْطُطْ بِهَا عَنِّي وِزْرًا، وَاكْتُبْ لِي بِهَا أَجْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدك ذُخْرًا.
قَالَ اِبْن عَبَّاس فَرَأَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ " السَّجْدَة " فَسَجَدَ، فَسَمِعْته يَقُول فِي سُجُوده مِثْل الَّذِي أَخْبَرَهُ الرَّجُل عَنْ قَوْل الشَّجَرَة.
ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيّ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ ; قَالَ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه رَأَيْتنِي فِي النَّوْم كَأَنِّي تَحْت شَجَرَة وَالشَّجَرَة تَقْرَأ " ص " فَلَمَّا بَلَغَتْ السَّجْدَة سَجَدَتْ فِيهَا، فَسَمِعْتهَا تَقُول فِي سُجُودهَا : اللَّهُمَّ اُكْتُبْ لِي بِهَا أَجْرًا، وَحُطَّ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَارْزُقْنِي بِهَا شُكْرًا، وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْت مِنْ عَبْدك دَاوُدَ سَجْدَتَهُ.
فَقَالَ لِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَفَسَجَدْت أَنْتَ يَا أَبَا سَعِيد ) فَقُلْت : لَا وَاَللَّه يَا رَسُول اللَّه.
فَقَالَ :( لَقَدْ كُنْت أَحَقَّ بِالسُّجُودِ مِنْ الشَّجَرَة ) ثُمَّ قَرَأَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ص " حَتَّى بَلَغَ السَّجْدَة فَسَجَدَ، ثُمَّ قَالَ مِثْل مَا قَالَتْ الشَّجَرَة.
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ
أَيْ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَنْبه.
قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ :" فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ " تَامّ، ثُمَّ تَبْتَدِئ " وَإِنَّ لَهُ " وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَيَجُوز الْوَقْف عَلَى " فَغَفَرْنَا لَهُ " ثُمَّ تَبْتَدِئ " ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ " كَقَوْلِهِ :" هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ " [ ص : ٥٥ ] أَيْ الْأَمْر ذَلِكَ.
وَقَالَ عَطَاء الْخُرَاسَانِيّ وَغَيْره : إِنَّ دَاوُدَ سَجَدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى نَبَتَ الْمَرْعَى حَوْل وَجْهه وَغَمَرَ رَأْسه فَنُودِيَ : أَجَائِع فَتُطْعَم وَأَعَارٍ فَتُكْسَى فَنَحَبَ نَحْبَة هَاجَ الْمَرْعَى مِنْ حَرّ جَوْفه وَغَمَرَ رَأْسه، فَنُودِيَ : أَجَائِع فَتُطْعَم وَأَعَارٍ فَتُكْسَى ; فَنَحَبَ نَحْبَة هَاجَ الْمَرْعَى مِنْ حَرّ جَوْفِهِ، فَغُفِرَ لَهُ وَسُتِرَ بِهَا.
فَقَالَ : يَا رَبّ هَذَا ذَنْبِي فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنك قَدْ غَفَرْته، وَكَيْف بِفُلَانٍ وَكَذَا وَكَذَا رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل، تَرَكْت أَوْلَادهمْ أَيْتَامًا، وَنِسَاءَهُمْ أَرَامِل ؟ قَالَ : يَا دَاوُدُ لَا يُجَاوِزُنِي يَوْم الْقِيَامَة ظُلْم أُمَكِّنُهُ مِنْك ثُمَّ أَسْتَوْهِبُك مِنْهُ بِثَوَابِ الْجَنَّة.
قَالَ : يَا رَبّ هَكَذَا تَكُون الْمَغْفِرَة الْهَيِّنَة.
ثُمَّ قِيلَ : يَا دَاوُدُ اِرْفَعْ رَأْسَك.
فَذَهَبَ لِيَرْفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا بِهِ قَدْ نَشِبَ فِي الْأَرْض، فَأَتَاهُ جِبْرِيل فَاقْتَلَعَهُ عَنْ وَجْه الْأَرْض كَمَا يُقْتَلَعُ مِنْ الشَّجَرَة صَمْغهَا.
رَوَاهُ الْوَلِيد بْن مُسْلِم عَنْ اِبْن جَابِر عَنْ عَطَاء.
قَالَ الْوَلِيد : وَأَخْبَرَنِي مُنِير بْن الزُّبَيْر، قَالَ : فَلَزِقَ مَوَاضِع مَسَاجِده عَلَى الْأَرْض مِنْ فَرْوَةِ وَجْهه مَا شَاءَ اللَّه.
قَالَ الْوَلِيد قَالَ اِبْن لَهِيعَة : فَكَانَ يَقُول فِي سُجُوده سُبْحَانَك هَذَا شَرَابِي دُمُوعِي وَهَذَا طَعَامِي فِي رَمَاد بَيْن يَدَيَّ.
فِي رِوَايَة : إِنَّهُ سَجَدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا يَرْفَع رَأْسه إِلَّا لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَة، فَبَكَى حَتَّى نَبَتَ الْعُشْب مِنْ دُمُوعه.
وَرُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ دَاوُدَ مَكَثَ أَرْبَعِينَ لَيْلَة سَاجِدًا حَتَّى نَبَتَ الْعُشْب مِنْ دُمُوعه عَلَى رَأْسه وَأَكَلَتْ الْأَرْض مِنْ جَبِينه وَهُوَ يَقُول فِي سُجُوده : يَا رَبِّ دَاوُدُ زَلَّ زَلَّة بَعُدَ بِهَا مَا بَيْن الْمَشْرِق وَالْمَغْرِب رَبِّ إِنْ لَمْ تَرْحَمْ ضَعْف دَاوُدَ وَتَغْفِرْ ذَنْبه جَعَلْت ذَنْبه حَدِيثًا فِي الْخَلْق مِنْ بَعْده فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل بَعْد أَرْبَعِينَ سَنَة يَا دَاوُدُ إِنَّ اللَّه قَدْ غَفَرَ لَك الْهَمَّ الَّذِي هَمَمْت بِهِ ) وَقَالَ وَهْب : إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام نُودِيَ إِنِّي قَدْ غَفَرْت لَك.
فَلَمْ يَرْفَع رَأْسه حَتَّى جَاءَهُ جِبْرِيل فَقَالَ : لِمَ لَا تَرْفَع رَأْسَك وَرَبّك قَدْ غَفَرَ لَك ؟ قَالَ يَا رَبّ كَيْف وَأَنْتَ لَا تَظْلِم أَحَدًا.
فَقَالَ اللَّه لِجِبْرِيل : اِذْهَبْ إِلَى دَاوُدَ فَقُلْ لَهُ يَذْهَب إِلَى قَبْر أوريا فَيَتَحَلَّل مِنْهُ، فَأَنَا أُسْمِعُهُ نِدَاءَهُ.
فَلَبِسَ دَاوُدُ الْمُسُوحَ وَجَلَسَ عِنْد قَبْر أوريا وَنَادَى يَا أوريا فَقَالَ : لَبَّيْكَ ! مَنْ هَذَا الَّذِي قَطَعَ عَلَيَّ لَذَّتِي وَأَيْقَظَنِي ؟ فَقَالَ : أَنَا أَخُوك دَاوُدُ أَسْأَلُك أَنْ تَجْعَلَنِي فِي حِلٍّ فَإِنِّي عَرَّضْتُك لِلْقَتْلِ قَالَ : عَرَّضْتَنِي لِلْجَنَّةِ فَأَنْتَ فِي حِلّ.
وَقَالَ الْحَسَن وَغَيْره : كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَام بَعْد الْخَطِيئَة لَا يُجَالِس إِلَّا الْخَاطِئِينَ، وَيَقُول : تَعَالَوْا إِلَى دَاوُدَ الْخَطَّاء، وَلَا يَشْرَب شَرَابًا إِلَّا مَزَجَهُ بِدُمُوعِ عَيْنَيْهِ.
وَكَانَ يَجْعَل خُبْز الشَّعِير الْيَابِس فِي قَصْعَة فَلَا يَزَال يَبْكِي حَتَّى يَبْتَلَّ بِدُمُوعِهِ، وَكَانَ يَذُرُّ عَلَيْهِ الرَّمَاد وَالْمِلْح فَيَأْكُل وَيَقُول : هَذَا أَكْل الْخَاطِئِينَ.
وَكَانَ قَبْل الْخَطِيئَة يَقُوم نِصْف اللَّيْل وَيَصُوم نِصْف الدَّهْر.
ثُمَّ صَامَ بَعْده الدَّهْر كُلّه وَقَامَ اللَّيْل كُلّه.
وَقَالَ : يَا رَبّ اِجْعَلْ خَطِيئَتِي فِي كَفِّي فَصَارَتْ خَطِيئَته مَنْقُوشَة فِي كَفِّهِ.
فَكَانَ لَا يَبْسُطُهَا لِطَعَامٍ وَلَا شَرَاب وَلَا شَيْء إِلَّا رَآهَا فَأَبْكَتْهُ، وَإِنْ كَانَ لَيُؤْتَى بِالْقَدَحِ ثُلُثَاهُ مَاء، فَإِذَا تَنَاوَلَهُ أَبْصَرَ خَطِيئَته فَمَا يَضَعهُ عَنْ شَفَته حَتَّى يُفِيض مِنْ دُمُوعه.
وَرَوَى الْوَلِيد بْن مُسْلِم : حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( إِنَّمَا مَثَل عَيْنَيْ دَاوُدَ مَثَل الْقِرْبَتَيْنِ تَنْطِفَانِ وَلَقَدْ خَدَّدَ الدُّمُوع فِي وَجْه دَاوُدَ خَدِيدَ الْمَاء فِي الْأَرْض ).
قَالَ الْوَلِيد : وَحَدَّثَنَا عُثْمَان بْن أَبِي الْعَاتِكَة أَنَّهُ كَانَ فِي قَوْل دَاوُدَ.
إِذْ هُوَ خُلُوّ مِنْ الْخَطِيئَة شِدَّة قَوْله فِي الْخَطَّائِينَ إِنْ كَانَ يَقُول : اللَّهُمَّ لَا تَغْفِرْ لِلْخَطَّائِينَ.
ثُمَّ صَارَ إِلَى أَنْ يَقُول : اللَّهُمَّ رَبّ اِغْفِرْ لِلْخَاطِئِينَ لِكَيْ تَغْفِرَ لِدَاوُدَ مَعَهُمْ ; سُبْحَان خَالِق النُّور.
إِلَهِي خَرَجْت أَسْأَل أَطِبَّاء عِبَادك أَنْ يُدَاوُوا خَطِيئَتِي فَكُلُّهُمْ عَلَيْك يَدُلُّنِي.
إِلَهِي أَخْطَأْت خَطِيئَة قَدْ خِفْت أَنْ تَجْعَل حَصَادهَا عَذَابَك يَوْم الْقِيَامَة إِنْ لَمْ تَغْفِرْهَا ; سُبْحَان خَالِق النُّور.
إِلَهِي إِذَا ذَكَرْت خَطِيئَتِي ضَاقَتْ الْأَرْض بِرَحْبِهَا عَلَيَّ، وَإِذَا ذَكَرْت رَحْمَتَك اِرْتَدَّ إِلَيَّ رُوحِي.
وَفِي الْخَبَر : أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذَا عَلَا الْمِنْبَر رَفَعَ يَمِينَهُ فَاسْتَقْبَلَ بِهَا النَّاس لِيُرِيَهُمْ نَقْش خَطِيئَته ; فَكَانَ يُنَادِي : إِلَهِي إِذَا ذَكَرْت خَطِيئَتِي ضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْض بِرَحْبِهَا، وَإِذَا ذَكَرْت رَحْمَتك اِرْتَدَّ إِلَيَّ رُوحِي ; رَبّ اغْفِرْ لِلْخَاطِئِينَ كَيْ تَغْفِرَ لِدَاوُدَ مَعَهُمْ.
وَكَانَ يَقْعُد عَلَى سَبْعَة أَفْرِشَة مِنْ اللِّيف مَحْشُوَّة بِالرَّمَادِ، فَكَانَتْ تَسْتَنْقِع دُمُوعه تَحْت رِجْلَيْهِ حَتَّى تَنْفُذ مِنْ الْأَفْرِشَة كُلّهَا.
وَكَانَ إِذَا كَانَ يَوْم نَوْحِهِ نَادَى مُنَادِيه فِي الطُّرُق وَالْأَسْوَاق وَالْأَوْدِيَة وَالشِّعَاب وَعَلَى رُءُوس الْجِبَال وَأَفْوَاه الْغِيرَان : أَلَا إِنَّ هَذَا يَوْم نَوْح دَاوُدَ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْكِي عَلَى ذَنْبه فَلْيَأْتِ دَاوُدَ فَيُسْعِدهُ ; فَيَهْبِط السُّيَّاح مِنْ الْغِيرَان وَالْأَوْدِيَة، وَتَرْتَجّ الْأَصْوَات حَوْل مِنْبَره وَالْوُحُوش وَالسِّبَاع وَالطَّيْر عُكَّفٌ ; وَبَنُو إِسْرَائِيل حَوْل مِنْبَره ; فَإِذَا أَخَذَ فِي الْعَوِيل وَالنَّوْح، وَأَثَارَتْ الْحُرُقَات مَنَابِع دُمُوعه، صَارَتْ الْجَمَاعَة ضَجَّة وَاحِدَة نَوْحًا وَبُكَاء، حَتَّى يَمُوت حَوْل مِنْبَره بَشَر كَثِير فِي مِثْل ذَلِكَ الْيَوْم.
وَمَاتَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَام فِيمَا قِيلَ يَوْم السَّبْت فَجْأَة ; أَتَاهُ مَلَك الْمَوْت وَهُوَ يَصْعَد فِي مِحْرَابه وَيَنْزِل ; فَقَالَ : جِئْت لِأَقْبِضَ رُوحَك.
فَقَالَ : دَعْنِي حَتَّى أَنْزِلَ أَوْ أَرْتَقِيَ.
فَقَالَ : مَا لِي إِلَى ذَلِكَ سَبِيل ; نَفِدَتْ الْأَيَّام وَالشُّهُور وَالسُّنُونَ وَالْآثَار وَالْأَرْزَاق، فَمَا أَنْتَ بِمُؤْثِرٍ بَعْدَهَا أَثَرًا.
قَالَ : فَسَجَدَ دَاوُدُ عَلَى مِرْقَاة مِنْ الدَّرَج فَقَبَضَ نَفْسه عَلَى تِلْكَ الْحَال.
وَكَانَ بَيْنه وَبَيْن مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام خَمْسمِائَة وَتِسْع وَتِسْعُونَ سَنَة.
وَقِيلَ : تِسْع وَسَبْعُونَ، وَعَاشَ مِائَة سَنَة، وَأَوْصَى إِلَى اِبْنه سُلَيْمَان بِالْخِلَافَةِ.
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ
قَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب وَمُحَمَّد بْن قَيْس :" وَإِنَّ لَهُ عِنْدنَا لَزُلْفَى " قُرْبَة بَعْد الْمَغْفِرَة.
" وَحُسْنَ مَآب " قَالَا : وَاَللَّه إِنَّ أَوَّل مَنْ يَشْرَب الْكَأْس يَوْم الْقِيَامَة دَاوُدُ.
وَقَالَ مُجَاهِد عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر : الزُّلْفَى الدُّنُوّ مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَوْم الْقِيَامَة.
وَعَنْ مُجَاهِد : يُبْعَث دَاوُدُ يَوْم الْقِيَامَة وَخَطِيئَته مَنْقُوشَة فِي يَده : فَإِذَا رَأَى أَهَاوِيلَ يَوْم الْقِيَامَة لَمْ يَجِد مِنْهَا مُحْرِزًا إِلَّا أَنْ يَلْجَأ إِلَى رَحْمَة اللَّه تَعَالَى.
قَالَ : ثُمَّ يَرَى خَطِيئَته فَيَقْلَق فَيُقَال لَهُ هَاهُنَا ; ثُمَّ يَرَى فَيَقْلَق فَيُقَال لَهُ هَاهُنَا، ثُمَّ يَرَى فَيَقْلَق فَيُقَال لَهُ هَاهُنَا ; حَتَّى يَقْرَب فَيَسْكُن فَذَلِكَ قَوْله عَزَّ وَجَلَّ :" وَإِنَّ لَهُ عِنْدنَا لَزُلْفَى وَحُسْن مَآب " ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم.
قَالَ : حَدَّثَنَا الْفَضْل بْن مُحَمَّد، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد الْمَلِك بْن الْأَصْبَغ قَالَ : حَدَّثَنَا الْوَلِيد بْن مُسْلِم، قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد الْفَزَارِيّ عَنْ عَبْد الْمَلِك بْن أَبِي سُلَيْمَان عَنْ مُجَاهِد فَذَكَرَهُ.
قَالَ التِّرْمِذِيّ : وَلَقَدْ كُنْت أَمُرُّ زَمَانًا طَوِيلًا بِهَذِهِ الْآيَات فَلَا يَنْكَشِف لِي الْمُرَاد وَالْمَعْنَى مِنْ قَوْله :" رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا " وَالْقِطّ الصَّحِيفَة فِي اللُّغَة ; وَذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا عَلَيْهِمْ :" فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ " [ الْحَاقَّة : ١٩ ] : وَقَالَ لَهُمْ :( إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ هَذَا كُلّه فِي صَحَائِفكُمْ تُعْطَوْنَهَا بِشَمَائِلِكُمْ ) قَالُوا :" رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا " أَيْ صَحِيفَتَنَا " قَبْل يَوْم الْحِسَاب " قَالَ اللَّه تَعَالَى :" اِصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْد " فَقَصَّ قِصَّة خَطِيئَته إِلَى مُنْتَهَاهَا، فَكُنْت أَقُول : أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا قَالُوا، وَأَمَرَهُ بِذِكْرِ دَاوُدَ فَأَيّ شَيْء أُرِيدَ مِنْ هَذَا الذِّكْر ؟ وَكَيْف اِتَّصَلَ هَذَا بِذَاكَ ؟ فَلَا أَقِف عَلَى شَيْء يَسْكُن قَلْبِي عَلَيْهِ، حَتَّى هَدَانِي اللَّه لَهُ يَوْمًا فَأُلْهِمْته أَنَّ هَؤُلَاءِ أَنْكَرُوا قَوْل أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ بِشَمَائِلِهِمْ، فِيهَا ذُنُوبُهُمْ وَخَطَايَاهُمْ اِسْتِهْزَاءً بِأَمْرِ اللَّه ; وَقَالُوا :" رَبّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْل يَوْم الْحِسَاب " فَأَوْجَعَهُ ذَلِكَ مِنْ اِسْتِهْزَائِهِمْ، فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَقَالَتهمْ، وَأَنْ يَذْكُرَ عَبْده دَاوُدَ ; سَأَلَ تَعْجِيل خَطِيئَته أَنْ يَرَاهَا مَنْقُوشَة فِي كَفّه، فَنَزَلَ بِهِ مَا نَزَلَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَآهَا اِضْطَرَبَ وَامْتَلَأَ الْقَدَح مِنْ دُمُوعه، وَكَانَ إِذَا رَآهَا بَكَى حَتَّى تَنْفُذ سَبْعَة أَفْرِشَة مِنْ اللِّيف مَحْشُوَّة بِالرَّمَادِ، فَإِنَّمَا سَأَلَهَا بَعْد الْمَغْفِرَة وَبَعْد ضَمَان تَبِعَة الْخَصْم، وَأَنَّ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى اِسْمُهُ يَسْتَوْهِبهُ مِنْهُ، وَهُوَ حَبِيبه وَوَلِيُّهُ وَصَفِيُّهُ ; فَرُؤْيَة نَقْش الْخَطِيئَة بِصُورَتِهَا مَعَ هَذِهِ الْمَرْتَبَة صَنَعَتْ بِهِ هَكَذَا، فَكَيْف كَانَ يَحِلُّ بِأَعْدَاءِ اللَّه وَبِعُصَاتِهِ مِنْ خَلْقه وَأَهْل خِزْيِهِ، لَوْ عُجِّلَتْ لَهُمْ صَحَائِفهمْ فَنَظَرُوا إِلَى صُورَة تِلْكَ الْخَطَايَا الَّتِي عَمِلُوهَا عَلَى الْكُفْر وَالْجُحُود، وَمَاذَا يَحِلّ بِهِمْ إِذَا نَظَرُوا إِلَيْهَا فِي تِلْكَ الصَّحَائِف، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُمْ فَقَالَ :" فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَاب لَا يُغَادِر صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة إِلَّا أَحْصَاهَا " [ الْكَهْف : ٤٩ ] فَدَاوُد صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِ مَعَ الْمَغْفِرَة وَالْبُشْرَى وَالْعَطْف لَمْ يَقُمْ لِرُؤْيَةِ صُورَتهَا.
وَقَدْ رُوِّينَا فِي الْحَدِيث : إِذَا رَآهَا يَوْم الْقِيَامَة مَنْقُوشَة فِي كَفّه قَلِقَ حَتَّى يُقَال لَهُ هَا هُنَا، ثُمَّ يَرَى فَيَقْلَق ثُمَّ يُقَال هَا هُنَا، ثُمَّ يَرَى فَيَقْلَق حَتَّى يَقْرَب فَيَسْكُنُ.
يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي
أَيْ مَلَّكْنَاك لِتَأْمُر بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَر، فَتَخْلُف مَنْ كَانَ قَبْلَك مِنْ الْأَنْبِيَاء وَالْأَئِمَّة الصَّالِحِينَ وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] الْقَوْل فِي الْخَلِيفَة وَأَحْكَامه.
مُسْتَوْفًى وَالْحَمْد لِلَّهِ.
الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ
أَيْ بِالْعَدْلِ وَهُوَ أَمْر عَلَى الْوُجُوب وَقَدْ اِرْتَبَطَ هَذَا بِمَا قَبْله، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي عُوتِبَ عَلَيْهِ دَاوُدُ طَلَبُهُ الْمَرْأَةَ مِنْ زَوْجهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ بِعَدْلٍ.
فَقِيلَ لَهُ بَعْد هَذَا ; فَاحْكُمْ بَيْن النَّاس بِالْعَدْلِ الْأَصْل فِي الْأَقْضِيَة قَوْله تَعَالَى :" يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاك خَلِيفَة فِي الْأَرْض فَاحْكُمْ بَيْن النَّاس بِالْحَقِّ " وَقَوْله :" وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنهمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه " [ الْمَائِدَة : ٤٩ ] وَقَوْله تَعَالَى :" لِتَحْكُم بَيْن النَّاس بِمَا أَرَاك اللَّه " [ النِّسَاء : ١٠٥ ] وَقَوْله تَعَالَى :" يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ " [ الْمَائِدَة : ٨ ] الْآيَة.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام فِيهِ.
قَالَ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى :" يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاك خَلِيفَة فِي الْأَرْض فَاحْكُمْ بَيْن النَّاس بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّك عَنْ سَبِيل اللَّه " قَالَ : إِنْ اِرْتَفَعَ لَك الْخَصْمَانِ فَكَانَ لَك فِي أَحَدهمَا هَوًى، فَلَا تَشْتَهِ فِي نَفْسك الْحَقّ لَهُ لِيَفْلُج عَلَى صَاحِبه، فَإِنْ فَعَلْت مَحَوْتُ اِسْمَك مِنْ نُبُوَّتِي، ثُمَّ لَا تَكُون خَلِيفَتِي وَلَا أَهْل كَرَامَتِي.
فَدَلَّ هَذَا عَلَى بَيَان وُجُوب الْحُكْم بِالْحَقِّ، وَأَلَّا يَمِيل إِلَى أَحَد الْخَصْمَيْنِ لِقَرَابَةٍ أَوْ رَجَاء نَفْع، أَوْ سَبَب يَقْتَضِي الْمَيْل مِنْ صُحْبَة أَوَصَدَاقَة، أَوَغَيْرهمَا.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنَّمَا اُبْتُلِيَ سُلَيْمَان بْن دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام ; لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ خَصْمَانِ فَهَوِيَ أَنْ يَكُون الْحَقّ لِأَحَدِهِمَا.
وَقَالَ عَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي رَوَّاد : بَلَغَنِي أَنَّ قَاضِيًا كَانَ فِي زَمَن بَنِي إِسْرَائِيل، بَلَغَ مِنْ اِجْتِهَاده أَنْ طَلَبَ إِلَى رَبّه أَنْ يَجْعَل بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عِلْمًا، إِذَا هُوَ قَضَى بِالْحَقِّ عَرَفَ ذَلِكَ ; وَإِذَا هُوَ قَصَّرَ عَرَفَ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ : اُدْخُلْ مَنْزِلَك، ثُمَّ مُدَّ يَدك فِي جِدَارك، ثُمَّ اُنْظُرْ حَيْثُ تَبْلُغُ أَصَابِعُك مِنْ الْجِدَارِ فَاخْطُطْ عِنْدهَا خَطًّا ; فَإِذَا أَنْتَ قُمْت مِنْ مَجْلِس الْقَضَاء، فَارْجِعْ إِلَى ذَلِكَ الْخَطّ فَامْدُدْ يَدك إِلَيْهِ، فَإِنَّك مَتَى مَا كُنْت عَلَى الْحَقّ فَإِنَّك سَتَبْلُغُهُ، وَإِنْ قَصَّرْت عَنْ الْحَقّ قَصَّرَ بِك، فَكَانَ يَغْدُو إِلَى الْقَضَاء وَهُوَ مُجْتَهِد فَكَانَ لَا يَقْضِي إِلَّا بِحَقٍّ، وَإِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسه وَفَرَغَ لَمْ يَذُقْ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا، وَلَمْ يُفْضِ إِلَى أَهْله بِشَيْءٍ مِنْ الْأُمُور حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ الْخَطَّ، فَإِذَا بَلَغَهُ حَمِدَ اللَّه وَأَفْضَى إِلَى كُلّ مَا أَحَلَّ اللَّه لَهُ مِنْ أَهْل أَوْ مَطْعَم أَوْ مَشْرَب.
فَلَمَّا كَانَ ذَات يَوْم وَهُوَ فِي مَجْلِس الْقَضَاء، أَقْبَلَ إِلَيْهِ رَجُلَانِ يُرِيدَانِهِ : فَوَقَعَ فِي نَفْسه أَنَّهُمَا يُرِيدَانِ أَنْ يَخْتَصِمَا إِلَيْهِ، وَكَانَ أَحَدهمَا لَهُ صَدِيقًا وَخِدْنًا، فَتَحَرَّكَ قَلْبه عَلَيْهِ مَحَبَّةً أَنْ يَكُون الْحَقّ لَهُ فَيَقْضِي لَهُ، فَلَمَّا أَنْ تَكَلَّمَا دَار الْحَقّ عَلَى صَاحِبه فَقَضَى عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ مِنْ مَجْلِسه ذَهَبَ إِلَى خَطِّهِ كَمَا كَانَ يَذْهَب كُلّ يَوْم، فَمَدَّ يَده إِلَى الْخَطّ فَإِذَا الْخَطّ قَدْ ذَهَبَ وَتَشَمَّرَ إِلَى السَّقْف، وَإِذَا هُوَ لَا يَبْلُغُهُ فَخَرَّ سَاجِدًا وَهُوَ يَقُول : يَا رَبّ شَيْئًا لَمْ أَتَعَمَّدْهُ وَلَمْ أُرِدْهُ فَبَيِّنِهِ لِي.
فَقِيلَ لَهُ : أَتَحْسَبَن أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى خِيَانَة قَلْبك، حَيْثُ أَحْبَبْت أَنْ يَكُون الْحَقّ لِصَدِيقِك لِتَقْضِيَ لَهُ بِهِ، قَدْ أَرَدْته وَأَحْبَبْته وَلَكِنَّ اللَّه قَدْ رَدَّ الْحَقّ إِلَى أَهْله وَأَنْتَ كَارِه.
وَعَنْ لَيْث قَالَ : تَقَدَّمَ إِلَى عُمَر بْن الْخَطَّاب خَصْمَانِ فَأَقَامَهُمَا، ثُمَّ عَادَا فَأَقَامَهُمَا، ثُمَّ عَادَا فَفَصَلَ بَيْنهمَا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ : تَقَدَّمَا إِلَيَّ فَوَجَدْت لِأَحَدِهِمَا مَا لَمْ أَجِدْ لِصَاحِبِهِ، فَكَرِهْت أَنْ أَفْصِلَ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ، عَادَا فَوَجَدْت بَعْض ذَلِكَ لَهُ، ثُمَّ عَادَا وَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ فَفَصَلْت بَيْنهمَا.
وَقَالَ الشَّعْبِيّ : كَانَ بَيْن عُمَر وَأُبَيّ خُصُومَة، فَتَقَاضَيَا إِلَى زَيْد بْن ثَابِت، فَلَمَّا دَخَلَا عَلَيْهِ أَشَارَ لِعُمَر إِلَى وِسَادَته، فَقَالَ عُمَر : هَذَا أَوَّل جَوْرِك ; أَجْلِسْنِي وَإِيَّاهُ مَجْلِسًا وَاحِدًا ; فَجَلَسَا بَيْن يَدَيْهِ.
هَذِهِ الْآيَة تَمْنَع مِنْ حُكْم الْحَاكِم بِعِلْمِهِ ; لِأَنَّ الْحُكَّام لَوْ مُكِّنُوا أَنْ يَحْكُمُوا بِعِلْمِهِمْ لَمْ يَشَأْ أَحَدهمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَحْفَظ وَلِيَّهُ وَيُهْلِك عَدُوَّهُ إِلَّا اِدَّعَى عِلْمَهُ فِيمَا حَكَمَ بِهِ.
وَنَحْو ذَلِكَ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة مِنْهُمْ أَبُو بَكْر ; قَالَ : لَوْ رَأَيْت رَجُلًا عَلَى حَدّ مِنْ حُدُود اللَّه، مَا أَخَذْته حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرِي.
وَرُوِيَ أَنَّ اِمْرَأَة جَاءَتْ إِلَى عُمَر فَقَالَتْ لَهُ : اُحْكُمْ لِي عَلَى فُلَان بِكَذَا فَإِنَّك تَعْلَم مَا لِي عِنْده.
فَقَالَ لَهَا : إِنْ أَرَدْت أَنْ أَشْهَد لَك فَنَعَمْ وَأَمَّا الْحُكْم فَلَا.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِد ; وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اِشْتَرَى فَرَسًا فَجَحَدَهُ الْبَائِع، فَلَمْ يَحْكُم عَلَيْهِ بِعِلْمِهِ وَقَالَ :( مَنْ يَشْهَدُ لِي ) فَقَامَ خُزَيْمَة فَشَهِدَ فَحَكَمَ.
خَرَّجَ الْحَدِيث أَبُو دَاوُدَ وَغَيْره وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ].
بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ
أَيْ لَا تَقْتَدِ بِهَوَاك الْمُخَالِف لِأَمْرِ اللَّه.
الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ
أَيْ عَنْ طَرِيق الْجَنَّة.
اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ
أَيْ يَحِيدُونَ عَنْهَا وَيَتْرُكُونَهَا
اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ
فِي النَّار
شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ
أَيْ بِمَا تَرَكُوا مِنْ سُلُوك طَرِيق اللَّه ; فَقَوْله :" نَسُوا " أَيْ تَرَكُوا الْإِيمَان بِهِ، أَوْ تَرَكُوا الْعَمَل بِهِ فَصَارُوا كَالنَّاسِينَ.
ثُمَّ قِيلَ : هَذَا لِدَاوُدَ لَمَّا أَكْرَمَهُ اللَّه بِالنُّبُوَّةِ.
وَقِيلَ : بَعْد أَنْ تَابَ عَلَيْهِ وَغَفَرَ خَطِيئَتَهُ.
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا
أَيْ هَزْلًا وَلَعِبًا.
أَيْ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا لِأَمْرٍ صَحِيح وَهُوَ الدَّلَالَة عَلَى قُدْرَتنَا.
ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ
أَيْ حُسْبَان الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اللَّه خَلَقَهُمَا بَاطِلًا " فَوَيْل لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّار "
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ
تَوْبِيخ لَهُمْ وَالْمِيم صِلَة تَقْدِيره : أَنَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات " كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْض " فَكَانَ فِي هَذَا رَدّ عَلَى الْمُرْجِئَة ; لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ : يَجُوز أَنْ يَكُون الْمُفْسِد كَالصَّالِحِ أَوْ أَرْفَع دَرَجَة مِنْهُ.
أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ
أَيْ أَنَجْعَلُ أَصْحَاب مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلَام كَالْكُفَّارِ ; قَالَهُ اِبْن عَبَّاس.
وَقِيلَ هُوَ عَامّ فِي الْمُسْلِمِينَ الْمُتَّقِينَ وَالْفُجَّار الْكَافِرِينَ وَهُوَ أَحْسَن، وَهُوَ رَدّ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْث الَّذِينَ جَعَلُوا مَصِير الْمُطِيع وَالْعَاصِي إِلَى شَيْء وَاحِد.
كِتَابٌ
أَيْ هَذَا كِتَاب
أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ
أَيْ " أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْك مُبَارَكٌ " يَا مُحَمَّد
لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ
أَيْ لِيَتَدَبَّرُوا فَأُدْغِمَتْ التَّاء فِي الدَّال.
وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى، وُجُوب مَعْرِفَة مَعَانِي الْقُرْآن، وَدَلِيل عَلَى أَنَّ التَّرْتِيل أَفْضَل مِنْ الْهَذِّ ; إِذْ لَا يَصِحّ التَّدَبُّر مَعَ الْهَذّ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَاب التَّذْكَار.
وَقَالَ الْحَسَن : تَدَبُّر آيَات اللَّه اِتِّبَاعهَا.
وَقِرَاءَة الْعَامَّة " لِيَدَّبَّرُوا ".
وَقَرَأَ أَبُو حَنِيفَة وَشَيْبَةُ :" لِتَدَبَّرُوا " بِتَاء وَتَخْفِيف الدَّال، وَهِيَ قِرَاءَة عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، وَالْأَصْل لِتَتَدَبَّرُوا فَحُذِفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفِيفًا
وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ
أَيْ أَصْحَاب الْعُقُول وَاحِدهَا لُبّ، وَقَدْ جُمِعَ عَلَى أَلُبّ، كَمَا جُمِعَ بُؤْس عَلَى أَبْؤُس، وَنُعْم عَلَى أَنْعُم ; قَالَ أَبُو طَالِب :
قَلْبِي إِلَيْهِ مُشْرِفُ الْأَلُبِّ
وَرُبَّمَا أَظْهَرُوا التَّضْعِيف فِي ضَرُورَة الشِّعْر ; قَالَ الْكُمَيْت :
وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
لَمَّا ذَكَرَ دَاوُدَ ذَكَرَ سُلَيْمَان وَ " أَوَّاب " مَعْنَاهُ مُطِيع.
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ
يَعْنِي الْخَيْل جَمْع جَوَاد لِلْفَرَسِ إِذَا كَانَ شَدِيد الْحَضَر ; كَمَا يُقَال لِلْإِنْسَانِ جَوَاد إِذَا كَانَ كَثِيرَ الْعَطِيَّةِ غَزِيرَهَا ; يُقَال : قَوْم أَجُوَاد وَخَيْل جِيَاد، جَادَ الرَّجُل بِمَالِهِ يَجُودُ جُودًا فَهُوَ جَوَاد، وَقَوْم جُود مِثَال قَذَال وَقُذُل، وَإِنَّمَا سُكِّنَتْ الْوَاو لِأَنَّهَا حَرْف عِلَّة، وَأَجْوَاد وَأَجَاوِد وَجُوَدَاء، وَكَذَلِكَ اِمْرَأَة جَوَاد وَنِسْوَة جُود مِثْل نَوَار وَنُور، قَالَ الشَّاعِر :
إِلَيْكُمْ ذَوِي آلِ النَّبِيِّ تَطَلَّعَتْ نَوَازِعُ مِنْ قَلْبِي ظِمَاءٌ وَأَلْبُبُ
صَنَاعٌ بِإِشْفَاهَا حَصَانٌ بِشُكْرِهَا جَوَادٌ بِقُوتِ الْبَطْنِ وَالْعِرْقُ زَاخِرُ
وَتَقُول : سِرْنَا عُقْبَة جَوَادًا، وَعُقْبَتَيْنِ جَوَادَيْنِ، وَعُقَبًا جِيَادًا.
وَجَادَ الْفَرَس أَيْ صَارَ رَائِعًا يَجُود جُودَةً بِالضَّمِّ فَهُوَ جَوَاد لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، مِنْ خَيْل جِيَاد وَأَجْيَاد وَأَجَاوِيد.
وَقِيلَ : إِنَّهَا الطِّوَال الْأَعْنَاق مَأْخُوذ مِنْ الْجِيد وَهُوَ الْعُنُق ; لِأَنَّ طُول الْأَعْنَاق فِي الْخَيْل مِنْ صِفَات فَرَاهَتهَا.
وَفِي الصَّافِنَات أَيْضًا وَجْهَانِ : أَحَدهمَا أَنَّ صُفُونَهَا قِيَامهَا.
قَالَ الْقُتَبِيّ وَالْفَرَّاء : الصَّافِن فِي كَلَام الْعَرَب الْوَاقِف مِنْ الْخَيْل أَوْ غَيْرهَا.
وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقُوم لَهُ الرِّجَال صُفُونًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّار ) أَيْ يُدِيمُونَ لَهُ الْقِيَام ; حَكَاهُ قُطْرُب أَيْضًا وَأَنْشَدَ قَوْل النَّابِغَة :
لَنَا قُبَّةٌ مَضْرُوبَةٌ بِفِنَائِهَا عِتَاقُ الْمَهَارَى وَالْجِيَادُ الصَّوَافِنِ
وَهَذَا قَوْل قَتَادَة.
الثَّانِي أَنَّ صُفُونَهَا رَفْع إِحْدَى الْيَدَيْنِ عَلَى طَرَف الْحَافِر حَتَّى يَقُوم عَلَى ثَلَاث كَمَا قَالَ الشَّاعِر :
أَلِفَ الصُّفُونَ فَمَا يَزَالُ كَأَنَّهُ مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثَّلَاثِ كَسِيرَا
وَقَالَ عَمْرو بْن كُلْثُوم :
تَرَكْنَا الْخَيْلَ عَاكِفَةً عَلَيْهِ مُقَلَّدَةً أَعِنَّتُهَا صُفُونَا
وَهَذَا قَوْل مُجَاهِد.
قَالَ الْكَلْبِيّ : غَزَا سُلَيْمَان أَهْل دِمَشْق وَنَصِيبِينَ فَأَصَابَ مِنْهُمْ أَلْف فَرَس.
وَقَالَ مُقَاتِل : وَرِثَ سُلَيْمَان مِنْ أَبِيهِ دَاوُدَ أَلْف فَرَس، وَكَانَ أَبُوهُ أَصَابَهَا مِنْ الْعَمَالِقَة.
وَقَالَ الْحَسَن : بَلَغَنِي أَنَّهَا كَانَتْ خَيْلًا خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْر لَهَا أَجْنِحَة.
وَقَالَهُ الضَّحَّاك.
وَأَنَّهَا كَانَتْ خَيْلًا أُخْرِجَتْ لِسُلَيْمَان مِنْ الْبَحْر مَنْقُوشَة ذَات أَجْنِحَة.
اِبْن زَيْد : أَخْرَجَ الشَّيْطَان لِسُلَيْمَان الْخَيْل مِنْ الْبَحْر مِنْ مُرُوج الْبَحْر، وَكَانَتْ لَهَا أَجْنِحَة.
وَكَذَلِكَ قَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : كَانَتْ عِشْرِينَ فَرَسًا ذَوَات أَجْنِحَة.
وَقِيلَ : كَانَتْ مِائَة فَرَس.
وَفِي الْخَبَر عَنْ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ : أَنَّهَا كَانَتْ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَاَللَّه أَعْلَم.
فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي
يَعْنِي بِالْخَيْرِ الْخَيْل، وَالْعَرَب تُسَمِّيهَا كَذَلِكَ، وَتُعَاقِب بَيْن الرَّاء وَاللَّام ; فَتَقُول : اِنْهَمَلَتْ الْعَيْن وَانْهَمَرَتْ، وَخَتَلَتْ وَخَتَرَتْ إِذَا خُدِعَتْ.
قَالَ الْفَرَّاء : الْخَيْر فِي كَلَام الْعَرَب وَالْخَيْل وَاحِد.
النَّحَّاس : فِي الْحَدِيث :( الْخَيْل مَعْقُود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ) فَكَأَنَّهَا سُمِّيَتْ خَيْرًا لِهَذَا.
وَفِي الْحَدِيث : لَمَّا وَفَدَ زَيْدُ الْخَيْل عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهُ :( أَنْتَ زَيْدُ الْخَيْرِ ) وَهُوَ زَيْد بْن مُهَلْهِل الشَّاعِر.
وَقِيلَ : إِنَّمَا سُمِّيَتْ خَيْرًا لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَنَافِع.
وَفِي الْخَبَر : إِنَّ اللَّه تَعَالَى عَرَضَ عَلَى آدَم جَمِيع الدَّوَابّ، وَقِيلَ لَهُ : اِخْتَرْ مِنْهَا وَاحِدًا فَاخْتَارَ الْفَرَس ; فَقِيلَ لَهُ : اِخْتَرْت عِزَّك ; فَصَارَ اِسْمه الْخَيْر مِنْ هَذَا الْوَجْه.
وَسُمِّيَ خَيْلًا ; لِأَنَّهَا مَوْسُومَة بِالْعِزِّ.
وَسُمِّيَ فَرَسًا لِأَنَّهُ يَفْتَرِس مَسَافَات الْجَوّ اِفْتِرَاس الْأَسَد وَثَبَانًا، وَيَقْطَعهَا كَالِالْتِهَامِ بِيَدَيْهِ عَلَى كُلّ شَيْء خَبْطًا وَتَنَاوُلًا.
وَسُمِّيَ عَرَبِيًّا لِأَنَّهُ جِيءَ بِهِ مِنْ بَعْد آدَم لِإِسْمَاعِيل جَزَاء عَنْ رَفْع قَوَاعِد الْبَيْت، وَإِسْمَاعِيل عَرَبِيّ فَصَارَتْ لَهُ نِحْلَة مِنْ اللَّه ; فَسُمِّيَ عَرَبِيًّا.
وَ " حُبَّ " مَفْعُول فِي قَوْل الْفَرَّاء.
وَالْمَعْنَى إِنِّي آثَرْت حُبَّ الْخَيْر.
وَغَيْرُهُ يُقَدِّرُهُ مَصْدَرًا أُضِيفَ إِلَى الْمَفْعُول ; أَيْ أَحْبَبْت الْخَيْر حُبًّا فَأَلْهَانِي عَنْ ذِكْر رَبِّي.
وَقِيلَ : إِنَّ مَعْنَى " أَحْبَبْت " قَعَدْت وَتَأَخَّرْت مِنْ قَوْلهمْ : أَحَبَّ الْبَعِير إِذَا بَرَكَ وَتَأَخَّرَ.
وَأَحَبَّ فُلَان أَيْ طَأْطَأَ رَأْسه.
قَالَ أَبُو زَيْد : يُقَال : بَعِير مُحِبٌّ، وَقَدْ أَحَبَّ إِحْبَابًا وَهُوَ أَنْ يُصِيبَهُ مَرَض أَوْ كَسْر فَلَا يَبْرَح مَكَانه حَتَّى يَبْرَأ أَوْ يَمُوت.
وَقَالَ ثَعْلَب : يُقَال أَيْضًا لِلْبَعِيرِ الْحَسِير مُحِبّ ; فَالْمَعْنَى قَعَدْت عَنْ ذِكْر رَبِّي.
وَ " حُبَّ " عَلَى هَذَا مَفْعُول لَهُ.
وَذَكَرَ أَبُو الْفَتْح الْهَمْدَانِيّ فِي كِتَاب التِّبْيَان : أَحْبَبْت بِمَعْنَى لَزِمْت ; مِنْ قَوْله :
مِثْلُ بَعِيرِ السُّوءِ إِذْ أَحَبَّا
حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ
يَعْنِي الشَّمْس كِنَايَة عَنْ غَيْر مَذْكُور ; مِثْل قَوْله تَعَالَى :" مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّة " [ فَاطِر : ٤٥ ] أَيْ عَلَى ظَهْر الْأَرْض ; وَتَقُول الْعَرَب : هَاجَتْ بَارِدَةً أَيْ هَاجَتْ الرِّيحُ بَارِدَةً.
وَقَالَ اللَّه تَعَالَى :" فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُوم " [ الْوَاقِعَة : ٨٣ ] أَيْ بَلَغَتْ النَّفْس الْحُلْقُوم.
وَقَالَ تَعَالَى :" إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ " [ الْمُرْسَلَات : ٣٢ ] وَلَمْ يَتَقَدَّم لِلنَّارِ ذِكْر.
وَقَالَ الزَّجَّاج : إِنَّمَا يَجُوز الْإِضْمَار إِذَا جَرَى ذِكْر الشَّيْء أَوْ دَلِيل الذِّكْر، وَقَدْ جَرَى هَا هُنَا الدَّلِيل وَهُوَ قَوْله :" بِالْعَشِيِّ ".
وَالْعَشِيّ مَا بَعْد الزَّوَال، وَالتَّوَارِي الِاسْتِتَار عَنْ الْأَبْصَار، وَالْحِجَاب جَبَل أَخْضَر مُحِيط بِالْخَلَائِقِ ; قَالَهُ قَتَادَة وَكَعْب.
وَقِيلَ : هُوَ جَبَل قَاف.
وَقِيلَ : جَبَل دُون قَاف.
وَالْحِجَاب اللَّيْل سُمِّيَ حِجَابًا لِأَنَّهُ يَسْتُر مَا فِيهِ.
وَقِيلَ :" حَتَّى تَوَارَتْ " أَيْ الْخَيْل فِي الْمُسَابَقَة.
وَذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَان كَانَ لَهُ مَيْدَان مُسْتَدِير يُسَابِق فِيهِ بَيْن الْخَيْل، حَتَّى تَوَارَتْ عَنْهُ وَتَغِيب عَنْ عَيْنه فِي الْمُسَابَقَة ; لِأَنَّ الشَّمْس لَمْ يَجْرِ لَهَا ذِكْر.
وَذَكَرَ النَّحَّاس أَنَّ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ فِي صَلَاة فَجِيءَ إِلَيْهِ بِخَيْلٍ لِتُعْرَضَ عَلَيْهِ قَدْ غُنِمَتْ فَأَشَارَ بِيَدِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي حَتَّى تَوَارَتْ الْخَيْل وَسَتَرَتْهَا جُدُر الْإِصْطَبْلَات فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاته قَالَ :" رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا " أَيْ فَأَقْبَلَ يَمْسَحُهَا مَسْحًا.
وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ : أَحَدهمَا أَنَّهُ أَقْبَلَ يَمْسَح سُوقهَا وَأَعْنَاقهَا بِيَدِهِ إِكْرَامًا مِنْهُ لَهَا، وَلِيُرِيَ أَنَّ الْجَلِيل لَا يَقْبُح أَنْ يَفْعَل مِثْل هَذَا بِخَيْلِهِ.
وَقَالَ قَائِل هَذَا الْقَوْل : كَيْف يَقْتُلُهَا ؟ وَفِي ذَلِكَ إِفْسَاد الْمَال وَمُعَاقَبَة مَنْ لَا ذَنْب لَهُ.
وَقِيلَ : الْمَسْح هَا هُنَا هُوَ الْقَطْع أُذِنَ لَهُ فِي قَتْلهَا.
قَالَ الْحَسَن وَالْكَلْبِيّ وَمُقَاتِل : صَلَّى سُلَيْمَان الصَّلَاة الْأُولَى وَقَعَدَ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَهِيَ تُعْرَض عَلَيْهِ، وَكَانَتْ أَلْف فَرَس ; فَعُرِضَ عَلَيْهِ مِنْهَا تِسْعمِائَة فَتَنَبَّهْ لِصَلَاةِ الْعَصْر، فَإِذَا الشَّمْس قَدْ غَرَبَتْ وَفَاتَتْ الصَّلَاة، وَلَمْ يُعْلَمْ بِذَلِكَ هَيْبَةً لَهُ فَاغْتَمَّ ; فَقَالَ :" رُدُّوهَا عَلَيَّ " فَرُدَّتْ فَعَقَرَهَا بِالسَّيْفِ ; قُرْبَة لِلَّهِ وَبَقِيَ مِنْهَا مِائَة، فَمَا فِي أَيْدِي النَّاس مِنْ الْخَيْل الْعِتَاق الْيَوْم فَهِيَ مِنْ نَسْل تِلْكَ الْخَيْل.
قَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَقِيلَ : مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت صَلَاة الظُّهْر وَلَا صَلَاة الْعَصْر، بَلْ كَانَتْ تِلْكَ الصَّلَاة نَافِلَة فَشُغِلَ عَنْهَا.
وَكَانَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام رَجُلًا مَهِيبًا، فَلَمْ يُذَكِّرْهُ أَحَد مَا نَسِيَ مِنْ الْفَرْض أَوْ النَّفْل وَظَنُّوا التَّأَخُّر مُبَاحًا، فَتَذَكَّرَ سُلَيْمَان تِلْكَ الصَّلَاة الْفَائِتَة، وَقَالَ عَلَى سَبِيل التَّلَهُّف :" إِنِّي أَحْبَبْت حُبّ الْخَيْر عَنْ ذِكْر رَبِّي " أَيْ عَنْ الصَّلَاة، وَأَمَرَ بِرَدِّ الْأَفْرَاس إِلَيْهِ، وَأَمَرَ بِضَرْبِ عَرَاقِيبِهَا وَأَعْنَاقهَا، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُعَاقَبَةً لِلْأَفْرَاسِ ; إِذْ ذَبْح الْبَهَائِم جَائِز إِذَا كَانَتْ مَأْكُولَةً، بَلْ عَاقَبَ نَفْسه حَتَّى لَا تَشْغَلَهُ الْخَيْلُ بَعْد ذَلِكَ عَنْ الصَّلَاة.
وَلَعَلَّهُ عَرْقَبَهَا لِيَذْبَحَهَا فَحَبَسَهَا بِالْعَرْقَبَةِ عَنْ النِّفَار، ثُمَّ ذَبَحَهَا فِي الْحَال، لِيَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا ; أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُبَاحًا فِي شَرْعه فَأَتْلَفَهَا لَمَّا شَغَلَتْهُ عَنْ ذِكْر اللَّه، حَتَّى يَقْطَع عَنْ نَفْسه مَا يَشْغَلهُ عَنْ اللَّه، فَأَثْنَى اللَّه عَلَيْهِ بِهَذَا، وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَثَابَهُ بِأَنْ سَخَّرَ لَهُ الرِّيح، فَكَانَ يَقْطَع عَلَيْهَا مِنْ الْمَسَافَة فِي يَوْم مَا يَقْطَع مِثْله عَلَى الْخَيْل فِي شَهْرَيْنِ غُدُوًّا وَرَوَاحًا.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْهَاء فِي قَوْله :" رُدُّوهَا عَلَيَّ " لِلشَّمْسِ لَا لِلْخَيْلِ.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : سَأَلْت عَلِيًّا عَنْ هَذِهِ الْآيَة فَقَالَ : مَا بَلَغَك فِيهَا ؟ فَقُلْت سَمِعْت كَعْبًا يَقُول : إِنَّ سُلَيْمَان لَمَّا اِشْتَغَلَ بِعَرْضِ الْأَفْرَاس حَتَّى تَوَارَتْ الشَّمْس بِالْحِجَابِ وَفَاتَتْهُ الصَّلَاة، قَالَ :" إِنِّي أَحْبَبْت حُبَّ الْخَيْر عَنْ ذِكْر رَبِّي " أَيْ آثَرْت " حُبّ الْخَيْر عَنْ ذِكْر رَبِّي " الْآيَة " رُدُّوهَا عَلَيَّ " يَعْنِي الْأَفْرَاس وَكَانَتْ أَرْبَع عَشْرَة ; فَضَرَبَ سُوقهَا وَأَعْنَاقهَا بِالسَّيْفِ، وَأَنَّ اللَّه سَلَبَهُ مُلْكَهُ أَرْبَعَة عَشَرَ يَوْمًا ; لِأَنَّهُ ظَلَمَ الْخَيْل.
فَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب : كَذَبَ كَعْب لَكِنَّ سُلَيْمَان اِشْتَغَلَ بِعَرْضِ الْأَفْرَاس لِلْجِهَادِ حَتَّى تَوَارَتْ أَيْ غَرَبَتْ الشَّمْس بِالْحِجَابِ فَقَالَ بِأَمْرِ اللَّه لِلْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِالشَّمْسِ :" رُدُّوهَا " يَعْنِي الشَّمْس فَرَدُّوهَا حَتَّى صَلَّى الْعَصْر فِي وَقْتهَا، وَأَنَّ أَنْبِيَاء اللَّه لَا يَظْلِمُونَ لِأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ.
قُلْت : الْأَكْثَر فِي التَّفْسِير أَنَّ الَّتِي تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ هِيَ الشَّمْس، وَتَرَكَهَا لِدَلَالَةِ السَّامِع عَلَيْهَا بِمَا ذُكِرَ مِمَّا يَرْتَبِط بِهَا وَيَتَعَلَّق بِذِكْرِهَا، حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانه.
وَكَثِيرًا مَا يُضْمِرُونَ الشَّمْس ; قَالَ لَبِيد :
رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ
الْهَاء فِي " رُدُّوهَا " لِلْخَيْلِ، وَمَسْحهَا قَالَ الزُّهْرِيّ وَابْن كَيْسَان : كَانَ يَمْسَح سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا، وَيَكْشِف الْغُبَار عَنْهَا حُبًّا لَهَا.
وَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة وَابْن عَبَّاس.
وَفِي الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُئِيَ وَهُوَ يَمْسَح فَرَسه بِرِدَائِهِ.
وَقَالَ :( إِنِّي عُوتِبْت اللَّيْلَة فِي الْخَيْل ) خَرَّجَهُ الْمُوَطَّأ عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد مُرْسَلًا.
وَهُوَ فِي غَيْر الْمُوَطَّأ مُسْنَد مُتَّصِل عَنْ مَالِك عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ أَنَس.
وَقَدْ مَضَى فِي [ الْأَنْفَال ] قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام :( وَامْسَحُوا بِنَوَاصِيهَا وَأَكْفَالهَا ) وَرَوَى اِبْن وَهْب عَنْ مَالِك أَنَّهُ مَسَحَ أَعْنَاقهَا وَسُوقهَا بِالسُّيُوفِ.
قُلْت : وَقَدْ اِسْتَدَلَّ الشِّبْلِيُّ وَغَيْره مِنْ الصُّوفِيَّة فِي تَقْطِيع ثِيَابهمْ وَتَخْرِيقهَا بِفِعْلِ سُلَيْمَان هَذَا.
وَهُوَ اِسْتِدْلَال فَاسِد ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوز أَنْ يُنْسَب إِلَى نَبِيّ مَعْصُوم أَنَّهُ فَعَلَ الْفَسَاد.
وَالْمُفَسِّرُونَ اِخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَة ; فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مَسَحَ عَلَى أَعْنَاقهَا وَسُوقهَا إِكْرَامًا لَهَا وَقَالَ : أَنْت فِي سَبِيل اللَّه ; فَهَذَا إِصْلَاح.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : عَرْقَبَهَا ثُمَّ ذَبَحَهَا، وَذَبْح الْخَيْل وَأَكْل لَحْمهَا جَائِز.
وَقَدْ مَضَى فِي [ النَّحْل ] بَيَانه.
وَعَلَى هَذَا فَمَا فَعَلَ شَيْئًا عَلَيْهِ فِيهِ جَنَاح.
فَأَمَّا إِفْسَاد ثَوْب صَحِيح لَا لِغَرَضٍ صَحِيح فَإِنَّهُ لَا يَجُوز.
وَمِنْ الْجَائِز أَنْ يَكُون فِي شَرِيعَة سُلَيْمَان جَوَاز مَا فَعَلَ، وَلَا يَكُون فِي شَرْعنَا.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّمَا فَعَلَ بِالْخَيْلِ مَا فَعَلَ بِإِبَاحَةِ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ لَهُ ذَلِكَ.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ مَسْحَهُ إِيَّاهَا وَسْمُهَا بِالْكَيِّ وَجَعْلُهَا فِي سَبِيل اللَّه ; فَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَدْ ضُعِّفَ هَذَا الْقَوْل مِنْ حَيْثُ إِنَّ السُّوق لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلْوَسْمِ بِحَالٍ.
وَقَدْ يُقَال : الْكَيّ عَلَى السَّاق عِلَاطٌ، وَعَلَى الْعُنُق وِثَاق.
وَاَلَّذِي فِي الصِّحَاح لِلْجَوْهَرِيِّ : عَلَطَ الْبَعِيرَ عَلْطًا كَوَاهُ فِي عُنُقه بِسِمَةِ الْعِلَاط.
وَالْعِلَاطَانِ جَانِبَا الْعُنُق.
قُلْت : وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْهَاء فِي " رُدُّوهَا " تَرْجِع لِلشَّمْسِ فَذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاته.
وَقَدْ اِتَّفَقَ مِثْل ذَلِكَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
خَرَّجَ الطَّحَاوِيّ فِي مُشْكِل الْحَدِيث عَنْ أَسْمَاء بِنْت عُمَيْسٍ مِنْ طَرِيقَيْنِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوحَى إِلَيْهِ وَرَأْسُهُ فِي حِجْر عَلِيّ، فَلَمْ يُصَلِّ الْعَصْر حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْس ; فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَصَلَّيْت يَا عَلِيّ ) قَالَ : لَا.
فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ فِي طَاعَتك وَطَاعَة رَسُولِك فَارْدُدْ عَلَيْهِ الشَّمْس ) قَالَتْ أَسْمَاء : فَرَأَيْتهَا غَرَبَتْ ثُمَّ رَأَيْتهَا بَعْدَمَا غَرَبَتْ طَلَعَتْ عَلَى الْجِبَال وَالْأَرْض، وَذَلِكَ بِالصَّهْبَاءِ فِي خَيْبَر.
قَالَ الطَّحَاوِيّ : وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ ثَابِتَانِ، وَرُوَاتُهُمَا ثِقَات.
قُلْت : وَضَعَّفَ أَبُو الْفَرْج اِبْن الْجَوْزِيّ هَذَا الْحَدِيث فَقَالَ : وَغُلُوّ الرَّافِضَة فِي حُبّ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَام حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ وَضَعُوا أَحَادِيث كَثِيرَة فِي فَضَائِله ; مِنْهَا أَنَّ الشَّمْس غَابَتْ فَفَاتَتْ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَام الْعَصْر فَرُدَّتْ لَهُ الشَّمْس، وَهَذَا مِنْ حَيْثُ النَّقْلُ مُحَال، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَإِنَّ الْوَقْت قَدْ فَاتَ وَعَوْدُهَا طُلُوعٌ مُتَجَدِّدٌ لَا يَرُدّ الْوَقْت.
وَمَنْ قَالَ : إِنَّ الْهَاء تَرْجِع إِلَى الْخَيْل، وَأَنَّهَا كَانَتْ تَبْعُد عَنْ عَيْن سُلَيْمَان فِي السِّبَاق، فَفِيهِ دَلِيل عَلَى الْمُسَابَقَة بِالْخَيْلِ، وَهُوَ أَمْر مَشْرُوع.
وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِيهِ فِي [ يُوسُف ].
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ
قِيلَ : فُتِنَ سُلَيْمَان بَعْد مَا مَلَكَ عِشْرِينَ سَنَة، وَمَلَكَ بَعْد الْفِتْنَة عِشْرِينَ سَنَة ; ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيّ.
وَ " فَتَنَّا " أَيْ اِبْتَلَيْنَا وَعَاقَبْنَا.
وَسَبَب ذَلِكَ مَا رَوَاهُ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : اِخْتَصَمَ إِلَى سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام فَرِيقَانِ أَحَدهمَا مِنْ أَهْل جَرَادَة اِمْرَأَة سُلَيْمَان ; وَكَانَ يُحِبُّهَا فَهَوَى أَنْ يَقَع الْقَضَاء لَهُمْ، ثُمَّ قَضَى بَيْنهمَا بِالْحَقِّ، فَأَصَابَهُ الَّذِي أَصَابَهُ عُقُوبَة لِذَلِكَ الْهَوَى.
وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : إِنَّ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام اِحْتَجَبَ عَنْ النَّاس ثَلَاثَة أَيَّام لَا يَقْضِي بَيْن أَحَد، وَلَا يُنْصِف مَظْلُومًا مِنْ ظَالِم، فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ :" إِنِّي لَمْ أَسْتَخْلِفْك لِتَحْتَجِبَ عَنْ عِبَادِي وَلَكِنْ لِتَقْضِيَ بَيْنهمْ وَتُنْصِف مَظْلُومَهُمْ ".
وَقَالَ شَهْر بْن حَوْشَب وَوَهْب بْن مُنَبِّه : إِنَّ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام سَبَى بِنْت مَلِكٍ غَزَاهُ فِي الْبَحْر، فِي جَزِيرَة مِنْ جَزَائِر الْبَحْر يُقَال لَهَا صِيدُون.
فَأُلْقِيَتْ عَلَيْهِ مَحَبَّتهَا، وَهِيَ تُعْرِضُ عَنْهُ، لَا تَنْظُر إِلَيْهِ إِلَّا شَزْرًا، وَلَا تُكَلِّمُهُ إِلَّا نَزْرًا، وَكَانَ لَا يُرْقَأُ لَهَا دَمْعٌ حُزْنًا عَلَى أَبِيهَا، وَكَانَتْ فِي غَايَة مِنْ الْجَمَال، ثُمَّ إِنَّهَا سَأَلَتْهُ أَنْ يَصْنَع لَهَا تِمْثَالًا عَلَى صُورَة أَبِيهَا حَتَّى تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَأَمَرَ فَصُنِعَ لَهَا فَعَظَّمَتْهُ وَسَجَدَتْ لَهُ، وَسَجَدَتْ مَعَهَا جَوَارِيهَا، وَصَارَ صَنَمًا مَعْبُودًا فِي دَارِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَم، حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَة، وَفَشَا خَبَره فِي بَنِي إِسْرَائِيل وَعَلِمَ بِهِ سُلَيْمَان فَكَسَرَهُ، وَحَرَقَهُ ثُمَّ ذَرَّاهُ فِي الْبَحْر.
وَقِيلَ : إِنَّ سُلَيْمَان لَمَّا أَصَابَ اِبْنَة مَلِكِ صِيدُون وَاسْمهَا جَرَادَة - فِيمَا ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيّ - أُعْجِبَ بِهَا، فَعَرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَام فَأَبَتْ، فَخَوَّفَهَا فَقَالَتْ : اُقْتُلْنِي وَلَا أُسْلِمُ فَتَزَوَّجَهَا وَهِيَ مُشْرِكَة فَكَانَتْ تَعْبُدُ صَنَمًا لَهَا مِنْ يَاقُوت أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي خُفْيَة مِنْ سُلَيْمَان إِلَى أَنْ أَسْلَمَتْ فَعُوقِبَ سُلَيْمَان بِزَوَالِ مُلْكِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا.
وَقَالَ كَعْب الْأَحْبَار : إِنَّهُ لَمَّا ظَلَمَ الْخَيْل بِالْقَتْلِ سُلِبَ مُلْكَهُ.
وَقَالَ الْحَسَن : إِنَّهُ قَارَبَ بَعْض نِسَائِهِ فِي شَيْء مِنْ حَيْض أَوَغَيْره.
وَقِيلَ : إِنَّهُ أُمِرَ أَلَّا يَتَزَوَّج اِمْرَأَة إِلَّا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل، فَتَزَوَّجَ اِمْرَأَة مِنْ غَيْرِهِمْ، فَعُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ ; وَاَللَّه أَعْلَم.
وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا
قِيلَ : شَيْطَان فِي قَوْل أَكْثَر أَهْل التَّفْسِير ; أَلْقَى اللَّه شَبَهَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْهِ، وَاسْمه صَخْر بْن عُمَيْر صَاحِب الْبَحْر، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ سُلَيْمَان عَلَى الْمَاس حِين أَمَرَ سُلَيْمَان بِبِنَاءِ بَيْت الْمَقْدِس، فَصَوَّتَتْ الْحِجَارَة لَمَّا صُنِعَتْ بِالْحَدِيدِ، فَأَخَذُوا الْمَاس فَجَعَلُوا يَقْطَعُونَ بِهِ الْحِجَارَة وَالْفُصُوص وَغَيْرهَا وَلَا تُصَوِّت.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : كَانَ مَارِدًا لَا يَقْوَى عَلَيْهِ جَمِيع الشَّيَاطِين، وَلَمْ يَزَلْ يَحْتَال حَتَّى ظَفِرَ بِخَاتَمِ سُلَيْمَان بْن دَاوُدَ، وَكَانَ سُلَيْمَان لَا يَدْخُل الْكَنِيف بِخَاتَمِهِ، فَجَاءَ صَخْر فِي صُورَة سُلَيْمَان حَتَّى أَخَذَ الْخَاتَم مِنْ اِمْرَأَة مِنْ نِسَاء سُلَيْمَان أُمّ وَلَد لَهُ يُقَال لَهَا الْأَمِينَة ; قَالَ شَهْر وَوَهْب.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَابْن جُبَيْر : اِسْمهَا جَرَادَة.
فَقَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَى مُلْك سُلَيْمَان وَسُلَيْمَان هَارِب، حَتَّى رَدَّ اللَّه عَلَيْهِ الْخَاتَم وَالْمُلْك.
وَقَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : كَانَ سُلَيْمَان قَدْ وَضَعَ خَاتَمه تَحْت فِرَاشه، فَأَخَذَهُ الشَّيْطَان مِنْ تَحْته.
وَقَالَ مُجَاهِد : أَخَذَهُ الشَّيْطَان مِنْ يَد سُلَيْمَان ; لِأَنَّ سُلَيْمَان سَأَلَ الشَّيْطَان وَكَانَ اِسْمه آصف : كَيْف تُضِلُّونَ النَّاس ؟ فَقَالَ لَهُ الشَّيْطَان : أَعْطِنِي خَاتَمَك حَتَّى أُخْبِرَك.
فَأَعْطَاهُ خَاتَمه، فَلَمَّا أَخَذَ الشَّيْطَان الْخَاتَم جَلَسَ عَلَى كُرْسِيّ سُلَيْمَان، مُتَشَبِّهًا بِصُورَتِهِ، دَاخِلًا عَلَى نِسَائِهِ، يَقْضِي بِغَيْرِ الْحَقّ، وَيَأْمُر بِغَيْرِ الصَّوَاب.
وَاخْتُلِفَ فِي إِصَابَته لِنِسَاءِ سُلَيْمَان، فَحُكِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَوَهْب بْن مُنَبِّه : أَنَّهُ كَانَ يَأْتِيهِنَّ فِي حَيْضِهِنَّ.
وَقَالَ مُجَاهِد : مُنِعَ مِنْ إِتْيَانِهِنَّ وَزَالَ عَنْ سُلَيْمَان مُلْكُهُ فَخَرَجَ هَارِبًا إِلَى سَاحِل الْبَحْر يَتَضَيَّفُ النَّاس ; وَيَحْمِلُ سُمُوكَ الصَّيَّادِينَ بِالْأَجْرِ، وَإِذَا أَخْبَرَ النَّاس أَنَّهُ سُلَيْمَان أَكْذَبُوهُ.
قَالَ قَتَادَة : ثُمَّ إِنَّ سُلَيْمَان بَعْد أَنْ اِسْتَنْكَرَ بَنُو إِسْرَائِيل حُكْم الشَّيْطَان أَخَذَ حُوتَهُ مِنْ صَيَّاد.
قِيلَ : إِنَّهُ اِسْتَطْعَمَهَا.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : أَخَذَهَا أُجْرَة فِي حَمْل حُوت.
وَقِيلَ : إِنَّ سُلَيْمَان صَادَهَا فَلَمَّا شَقَّ بَطْنهَا وَجَدَ خَاتَمَهُ فِيهَا، وَذَلِكَ بَعْد أَرْبَعِينَ يَوْمًا مِنْ زَوَال مُلْكه، وَهِيَ عَدَد الْأَيَّام الَّتِي عُبِدَ فِيهَا الصَّنَم فِي دَاره، وَإِنَّمَا وَجَدَ الْخَاتَم فِي بَطْن الْحُوت ; لِأَنَّ الشَّيْطَان الَّذِي أَخَذَهُ أَلْقَاهُ فِي الْبَحْر.
وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : بَيْنَمَا سُلَيْمَان عَلَى شَاطِئ الْبَحْر وَهُوَ يَعْبَث بِخَاتَمِهِ، إِذْ سَقَطَ مِنْهُ فِي الْبَحْر وَكَانَ مُلْكه فِي خَاتَمه.
وَقَالَ جَابِر بْن عَبْد اللَّه : قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( كَانَ نَقْش خَاتَم سُلَيْمَان بْن دَاوُدَ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه مُحَمَّد رَسُول اللَّه ).
وَحَكَى يَحْيَى بْن أَبِي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ أَنَّ سُلَيْمَان وَجَدَ خَاتَمه بِعَسْقَلَان، فَمَشَى مِنْهَا إِلَى بَيْت الْمَقْدِس تَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى.
قَالَ ابْن عَبَّاس وَغَيْره : ثُمَّ إِنَّ سُلَيْمَان لَمَّا رَدَّ اللَّه عَلَيْهِ مُلْكَهُ، أَخَذَ صَخْرًا الَّذِي أَخَذَ خَاتَمه، وَنَقَرَ لَهُ صَخْرَة وَأَدْخَلَهُ فِيهَا، وَسَدَّ عَلَيْهِ بِأُخْرَى وَأَوْثَقَهَا بِالْحَدِيدِ وَالرَّصَاص، وَخَتَمَ عَلَيْهَا بِخَاتَمِهِ وَأَلْقَاهَا فِي الْبَحْر، وَقَالَ : هَذَا مَحْبِسُك إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : لَمَّا أَخَذَ سُلَيْمَان الْخَاتَم، أَقْبَلَتْ إِلَيْهِ الشَّيَاطِين وَالْجِنّ وَالْإِنْس وَالطَّيْر وَالْوَحْش وَالرِّيح، وَهَرَبَ الشَّيْطَان الَّذِي خَلَفَ فِي أَهْله، فَأَتَى جَزِيرَة فِي الْبَحْر، فَبَعَثَ إِلَيْهِ الشَّيَاطِين فَقَالُوا : لَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يَرِدُ عَيْنًا فِي الْجَزِيرَة فِي كُلّ سَبْعَة أَيَّام يَوْمًا، وَلَا نَقْدِر عَلَيْهِ حَتَّى يَسْكَر ! قَالَ : فَنَزَحَ سُلَيْمَان مَاءَهَا وَجَعَلَ فِيهَا خَمْرًا، فَجَاءَ يَوْم وُرُودِهِ فَإِذَا هُوَ بِالْخَمْرِ، فَقَالَ : وَاَللَّه إِنَّك لَشَرَاب طَيِّب إِلَّا أَنَّك تُطِيشِينَ الْحَلِيم، وَتَزِيدِينَ الْجَاهِل جَهْلًا.
ثُمَّ عَطِشَ عَطَشًا شَدِيدًا ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ مِثْل مَقَالَته، ثُمَّ شَرِبَهَا فَغَلَبَتْ عَلَى عَقْله ; فَأَرَوْهُ الْخَاتَم فَقَالَ : سَمْعًا وَطَاعَة.
فَأَتَوْا بِهِ سُلَيْمَان فَأَوْثَقَهُ وَبَعَثَ بِهِ إِلَى جَبَل، فَذَكَرُوا أَنَّهُ جَبَل الدُّخَان فَقَالُوا : إِنَّ الدُّخَان الَّذِي تَرَوْنَ مِنْ نَفَسِهِ، وَالْمَاء الَّذِي يَخْرُج مِنْ الْجَبَل مِنْ بَوْله.
وَقَالَ مُجَاهِد : اِسْم ذَلِكَ الشَّيْطَان آصف.
وَقَالَ السُّدِّيّ اِسْمه حبقيق ; فَاَللَّه أَعْلَم.
وَقَدْ ضُعِّفَ هَذَا الْقَوْل مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّيْطَان لَا يَتَصَوَّر بِصُورَةِ الْأَنْبِيَاء، ثُمَّ مِنْ الْمُحَال أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَى أَهْل مَمْلَكَة سُلَيْمَان الشَّيْطَان بِسُلَيْمَان حَتَّى يَظُنُّوا أَنَّهُمْ مَعَ نَبِيّهمْ فِي حَقّ، وَهُمْ مَعَ الشَّيْطَان فِي بَاطِل.
وَقِيلَ : إِنَّ الْجَسَد وَلَدٌ وُلِدَ لِسُلَيْمَان، وَأَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ اِجْتَمَعَتْ الشَّيَاطِين ; وَقَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ : إِنْ عَاشَ لَهُ اِبْن لَمْ نَنْفَكَّ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْبَلَاء وَالسُّخْرَة، فَتَعَالَوْا نَقْتُلْ وَلَدَهُ أَوْ نَخْبِلْهُ.
فَعَلِمَ سُلَيْمَان بِذَلِكَ فَأَمَرَ الرِّيح حَتَّى حَمَلَتْهُ إِلَى السَّحَاب، وَغَدَا اِبْنه فِي السَّحَاب خَوْفًا مِنْ مَضَرَّة الشَّيَاطِين، فَعَاقَبَهُ اللَّه بِخَوْفِهِ مِنْ الشَّيَاطِين، فَلَمْ يَشْعُر إِلَّا وَقَدْ وَقَعَ عَلَى كُرْسِيّه مَيِّتًا.
قَالَ مَعْنَاهُ الشَّعْبِيّ.
فَهُوَ الْجَسَد الَّذِي قَالَ اللَّه تَعَالَى :" وَالْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّه جَسَدًا ".
وَحَكَى النَّقَّاش وَغَيْره : إِنَّ أَكْثَر مَا وَطِئَ سُلَيْمَان جَوَارِيَهُ طَلَبًا لِلْوَلَدِ، فَوُلِدَ لَهُ نِصْف إِنْسَان، فَهُوَ كَانَ الْجَسَد الْمُلْقَى عَلَى كُرْسِيِّهِ جَاءَتْ بِهِ الْقَابِلَة فَأَلْقَتْهُ هُنَاكَ.
وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( قَالَ سُلَيْمَان لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَة عَلَى تِسْعِينَ اِمْرَأَة كُلّهنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِد فِي سَبِيل اللَّه فَقَالَ لَهُ صَاحِبه قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّه، فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّه فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا اِمْرَأَة وَاحِدَة جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُل، وَاَيْمُ الَّذِي نَفْس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّه لَجَاهَدُوا فِي سَبِيل اللَّه فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ ) وَقِيلَ : إِنَّ الْجَسَد هُوَ آصف بْن برخيا الصِّدِّيق كَاتِب سُلَيْمَان، وَذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَان لَمَّا فُتِنَ سَقَطَ الْخَاتَم مِنْ يَده وَكَانَ فِيهِ مُلْكه، فَأَعَادَهُ إِلَى يَده فَسَقَطَ فَأَيْقَنَ بِالْفِتْنَةِ ; فَقَالَ لَهُ آصف : إِنَّك مَفْتُون وَلِذَلِكَ لَا يَتَمَاسَك فِي يَدك، فَفِرَّ إِلَى اللَّه تَعَالَى تَائِبًا مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَا أَقُوم مَقَامَك فِي عَالَمِك إِلَى أَنْ يَتُوب اللَّه عَلَيْك، وَلَك مِنْ حِين فُتِنْت أَرْبَعَة عَشَرَ يَوْمًا.
فَفَرَّ سُلَيْمَان هَارِبًا إِلَى رَبّه، وَأَخَذَ آصف الْخَاتَم فَوَضَعَهُ فِي يَده فَثَبَتَ، وَكَانَ عِنْده عِلْم مِنْ الْكِتَاب.
وَقَامَ آصف فِي مُلْك سُلَيْمَان وَعِيَاله، يَسِير بِسَيْرِهِ وَيَعْمَل بِعَمَلِهِ، إِلَى أَنْ رَجَعَ سُلَيْمَان إِلَى مَنْزِله تَائِبًا إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَرَدَّ اللَّه عَلَيْهِ مُلْكه ; فَأَقَامَ آصف فِي مَجْلِسه، وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيّه وَأَخَذَ الْخَاتَم.
وَقِيلَ : إِنَّ الْجَسَد كَانَ سُلَيْمَان نَفْسه ; وَذَلِكَ أَنَّهُ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا حَتَّى صَارَ جَسَدًا.
وَقَدْ يُوصَف بِهِ الْمَرِيض الْمُضْنَى فَيُقَال : كَالْجَسَدِ الْمُلْقَى.
صِفَة كُرْسِيّ سُلَيْمَان وَمُلْكه :
رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَانَ سُلَيْمَان يُوضَع لَهُ سِتُّمِائَةِ كُرْسِيّ، ثُمَّ يَجِيء أَشْرَاف النَّاس فَيَجْلِسُونَ مِمَّا يَلِيهِ، ثُمَّ يَأْتِي أَشْرَاف الْجِنّ فَيَجْلِسُونَ مِمَّا يَلِي الْإِنْس، ثُمَّ يَدْعُو الطَّيْر فَتُظِلّهُمْ، ثُمَّ يَدْعُو الرِّيح فَتُقِلُّهُمْ، وَتَسِير بِالْغَدَاةِ الْوَاحِدَة مَسِيرَة شَهْر.
وَقَالَ وَهْب وَكَعْب وَغَيْرهمَا : إِنَّ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا مَلَكَ بَعْد أَبِيهِ، أَمَرَ بِاِتِّخَاذِ كُرْسِيّ لِيَجْلِس عَلَيْهِ لِلْقَضَاءِ، وَأَمَرَ أَنْ يُعْمَل بَدِيعًا مَهُولًا بِحَيْثُ إِذَا رَأْهُ مُبْطِل أَوْ شَاهِد زُور اِرْتَدَعَ وَتَهَيَّبَ ; فَأَمَرَ أَنْ يُعْمَل مِنْ أَنْيَاب الْفِيَلَةِ مُفَصَّصَة بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوت وَالزَّبَرْجَد، وَأَنْ يُحَفَّ بِنَخِيلِ الذَّهَب ; فَحُفَّ بِأَرْبَعِ نَخَلَات مِنْ ذَهَبٍ، شَمَارِيخُهَا الْيَاقُوت الْأَحْمَر وَالزُّمُرُّد الْأَخْضَر، عَلَى رَأْس نَخْلَتَيْنِ مِنْهُمَا طَاوُوسَانِ مِنْ ذَهَبٍ، وَعَلَى رَأْس نَخْلَتَيْنِ نِسْرَانِ مِنْ ذَهَب بَعْضهَا مُقَابِل لِبَعْضٍ، وَجَعَلُوا مِنْ جَنْبَيْ الْكُرْسِيّ أَسَدَيْنِ مِنْ ذَهَب، عَلَى رَأْس كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا عَمُود مِنْ الزُّمُرُّد الْأَخْضَر.
وَقَدْ عَقَدُوا عَلَى النَّخَلَات أَشْجَار كُرُوم مِنْ الذَّهَب الْأَحْمَر، وَاِتَّخَذُوا عَنَاقِيدَهَا مِنْ الْيَاقُوت الْأَحْمَر، بِحَيْثُ أَظَلَّ عَرِيش الْكُرُوم النَّخْل وَالْكُرْسِيّ.
وَكَانَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام إِذَا أَرَادَ صُعُوده وَضَعَ قَدَمَيْهِ عَلَى الدَّرَجَة السُّفْلَى، فَيَسْتَدِير الْكُرْسِيّ كُلّه بِمَا فِيهِ دَوَرَان الرَّحَى الْمُسْرِعَة، وَتَنْشُرُ تِلْكَ النُّسُور وَالطَّوَاوِيس أَجْنِحَتَهَا، وَيَبْسُط الْأَسَدَانِ أَيْدِيَهُمَا، وَيَضْرِبَانِ الْأَرْض بِأَذْنَابِهِمَا.
وَكَذَلِكَ يَفْعَل فِي كُلّ دَرَجَة يَصْعَدهَا سُلَيْمَان، فَإِذَا اِسْتَوَى بِأَعْلَاهُ أَخَذَ النِّسْرَانِ اللَّذَانِ عَلَى النَّخْلَتَيْنِ تَاج سُلَيْمَان فَوَضَعَاهُ عَلَى رَأْسه، ثُمَّ يَسْتَدِير الْكُرْسِيّ بِمَا فِيهِ، وَيَدُور مَعَهُ النِّسْرَانِ وَالطَّاوُوسَانِ وَالْأَسَدَانِ مَائِلَانِ بِرُءُوسِهِمَا إِلَى سُلَيْمَان، وَيَنْضَحْنَ عَلَيْهِ مِنْ أَجْوَافِهِنَّ الْمِسْك وَالْعَنْبَر، ثُمَّ تُنَاوِلُهُ حَمَامَة مِنْ ذَهَب قَائِمَة عَلَى عَمُود مِنْ أَعْمِدَة الْجَوَاهِر فَوْق الْكُرْسِيّ التَّوْرَاة، فَيَفْتَحهَا سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام وَيَقْرَؤُهَا عَلَى النَّاس وَيَدْعُوهُمْ إِلَى فَصْل الْقَضَاء.
قَالُوا : وَيَجْلِس عُظَمَاء بَنِي إِسْرَائِيل عَلَى كَرَاسِيّ الذَّهَب الْمُفَصَّصَة بِالْجَوَاهِرِ، وَهِيَ أَلْف كُرْسِيّ عَنْ يَمِينه، وَيَجْلِس عُظَمَاء الْجِنّ عَلَى كَرَاسِيّ الْفِضَّة عَنْ يَسَاره وَهِيَ أَلْف كُرْسِيّ، ثُمَّ تَحُفّ بِهِمْ الطَّيْر تُظِلّهُمْ، وَيَتَقَدَّم النَّاس لِفَصْلِ الْقَضَاء.
فَإِذَا تَقَدَّمَتْ الشُّهُود لِلشَّهَادَاتِ، دَارَ الْكُرْسِيّ بِمَا فِيهِ وَعَلَيْهِ دَوَرَانَ الرَّحَى الْمُسْرِعَة، وَيَبْسُط الْأَسَدَانِ أَيْدِيَهُمَا وَيَضْرِبَانِ الْأَرْض بِأَذْنَابِهِمَا، وَيَنْشُر النِّسْرَانِ وَالطَّاوُوسَانِ أَجْنِحَتَهُمَا، فَتَفْزَعُ الشُّهُود فَلَا يَشْهَدُونَ إِلَّا بِالْحَقِّ.
وَقِيلَ : إِنَّ الَّذِي كَانَ يَدُور بِذَلِكَ الْكُرْسِيّ تِنِّينٌ مِنْ ذَهَب ذَلِكَ الْكُرْسِيّ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَظْم مِمَّا عَمِلَهُ لَهُ صَخْر الْجِنِّيّ ; فَإِذَا أَحَسَّتْ بِدَوَرَانِهِ تِلْكَ النُّسُورُ وَالْأُسْد وَالطَّوَاوِيس الَّتِي فِي أَسْفَل الْكُرْسِيّ إِلَى أَعْلَاهُ دُرْنَ مَعَهُ، فَإِذَا وَقَفْنَ وَقَفْنَ كُلّهنَّ عَلَى رَأْس سُلَيْمَان، وَهُوَ جَالِس، ثُمَّ يَنْضَحْنَ جَمِيعًا عَلَى رَأْسه مَا فِي أَجْوَافِهِنَّ مِنْ الْمِسْك وَالْعَنْبَر.
فَلَمَّا تُوُفِّيَ سُلَيْمَان بَعَثَ بُخْتُنَصَّر فَأَخَذَ الْكُرْسِيّ فَحَمَلَهُ إِلَى أَنْطَاكِيَة، فَأَرَادَ أَنْ يَصْعَد إِلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْم كَيْف يَصْعَد إِلَيْهِ ; فَلَمَّا وَضَعَ رَجُله ضَرَبَ الْأَسَد رِجْلَهُ فَكَسَرَهَا، وَكَانَ سُلَيْمَان إِذَا صَعِدَ وَضَعَ قَدَمَيْهِ جَمِيعًا.
وَمَاتَ بُخْتُنَصَّر وَحُمِلَ الْكُرْسِيّ إِلَى بَيْت الْمَقْدِس، فَلَمْ يَسْتَطِعْ قَطُّ مَلِك أَنْ يَجْلِس عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَمْ يَدْرِ أَحَد عَاقِبَة أَمْره وَلَعَلَّهُ رُفِعَ.
ثُمَّ أَنَابَ
أَيْ رَجَعَ إِلَى اللَّه وَتَابَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي
أَيْ اِغْفِرْ لِي ذَنْبِي
وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
يُقَال : كَيْف أَقْدَمَ سُلَيْمَان عَلَى طَلَب الدُّنْيَا، مَعَ ذَمِّهَا مِنْ اللَّه تَعَالَى، وَبُغْضه لَهَا، وَحَقَارَتهَا لَدَيْهِ ؟.
فَالْجَوَاب أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُول عِنْد الْعُلَمَاء عَلَى أَدَاء حُقُوق اللَّه تَعَالَى وَسِيَاسَة مُلْكه، وَتَرْتِيب مَنَازِل خَلْقه، وَإِقَامَة حُدُوده، وَالْمُحَافَظَة عَلَى رُسُومه، وَتَعْظِيم شَعَائِره، وَظُهُور عِبَادَته، وَلُزُوم طَاعَته، وَنُظُم قَانُون الْحُكْم النَّافِذ عَلَيْهِمْ مِنْهُ، وَتَحْقِيق الْوُعُود فِي أَنَّهُ يَعْلَم مَا لَا يَعْلَم أَحَد مِنْ خَلْقه حَسَبَ مَا صَرَّحَ بِذَلِكَ لِمَلَائِكَتِهِ فَقَالَ :" إِنِّي أَعْلَم مَا لَا تَعْلَمُونَ " [ الْبَقَرَة : ٣٠ ] +١٨٣ وَحَاشَا سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام أَنْ يَكُون سُؤَاله طَلَبًا لِنَفْسِ الدُّنْيَا ; لِأَنَّهُ هُوَ وَالْأَنْبِيَاء أَزْهَد خَلْق اللَّه فِيهَا، وَإِنَّمَا سَأَلَ مَمْلَكَتهَا لِلَّهِ، كَمَا سَأَلَ نُوح دَمَارَهَا وَهَلَاكَهَا لِلَّهِ ; فَكَانَا مَحْمُودَيْنِ مُجَابَيْنِ إِلَى ذَلِكَ، فَأُجِيبَ نُوح فَأُهْلِك مَنْ عَلَيْهَا، وَأُعْطِيَ سُلَيْمَان الْمَمْلَكَة.
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِأَمْرٍ مِنْ اللَّه جَلَّ وَعَزَّ عَلَى الصِّفَة الَّتِي عَلِمَ اللَّه أَنَّهُ لَا يَضْبِطُهُ إِلَّا هُوَ وَحْدَهُ دُون سَائِر عِبَاده، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ مُلْكًا عَظِيمًا فَقَالَ :" لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي " وَهَذَا فِيهِ نَظَر.
وَالْأَوَّل أَصَحّ.
ثُمَّ قَالَ لَهُ :" هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَاب " قَالَ الْحَسَن : مَا مِنْ أَحَد إِلَّا وَلِلَّهِ عَلَيْهِ تَبِعَة فِي نِعَمِهِ غَيْر سُلَيْمَان بْن دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُ قَالَ :" هَذَا عَطَاؤُنَا " الْآيَة.
قُلْت : وَهَذَا يَرُدّ مَا رُوِيَ فِي الْخَبَر : إِنَّ آخِر الْأَنْبِيَاء دُخُولًا الْجَنَّة سُلَيْمَان بْن دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام لِمَكَانِ مُلْكه فِي الدُّنْيَا.
وَفِي بَعْض الْأَخْبَار : يَدْخُل الْجَنَّة بَعْد الْأَنْبِيَاء بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا ; ذَكَرَهُ صَاحِب الْقُوت وَهُوَ حَدِيث لَا أَصْل لَهُ ; لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِذَا كَانَ عَطَاؤُهُ لَا تَبِعَةَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيق الْمِنَّة، فَكَيْف يَكُون آخِر الْأَنْبِيَاء دُخُولًا الْجَنَّة، وَهُوَ سُبْحَانه يَقُول :" وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْن مَآب ".
وَفِي الصَّحِيح :( لِكُلِّ نَبِيّ دَعْوَة مُسْتَجَابَة فَتَعَجَّلَ كُلّ نَبِيٍّ دَعَوْتَهُ... ) الْحَدِيث.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فَجَعَلَ لَهُ مِنْ قَبْل السُّؤَال حَاجَة مَقْضِيَّة، فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ تَبِعَة.
وَمَعْنَى قَوْله :" لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي " أَيْ أَنْ يَسْأَلَهُ.
فَكَأَنَّهُ سَأَلَ مَنْع السُّؤَال بَعْده، حَتَّى لَا يَتَعَلَّق بِهِ أَمَل أَحَد، وَلَمْ يَسْأَل مَنْع الْإِجَابَة.
وَقِيلَ : إِنَّ سُؤَالَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْده ; لِيَكُونَ مَحَلّه وَكَرَامَته مِنْ اللَّه ظَاهِرًا فِي خَلْق السَّمَوَات وَالْأَرْض ; فَإِنَّ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِمْ السَّلَام لَهُمْ تَنَافُس فِي الْمَحَلّ عِنْده، فَكُلٌّ يُحِبُّ أَنْ تَكُون لَهُ خُصُوصِيَّة يَسْتَدِلّ بِهَا عَلَى مَحَلّه عِنْده، وَلِهَذَا لَمَّا أَخَذَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِفْرِيت الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَقْطَع عَلَيْهِ صَلَاته وَأَمْكَنَهُ اللَّه مِنْهُ، أَرَادَ رَبْطه ثُمَّ تَذَكَّرَ قَوْلَ أَخِيهِ سُلَيْمَان :" رَبّ اِغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي " فَرَدَّهُ خَاسِئًا.
فَلَوْ أُعْطِيَ أَحَد بَعْده مِثْله ذَهَبَتْ الْخُصُوصِيَّة، فَكَأَنَّهُ كَرِهَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُزَاحِمَهُ فِي تِلْكَ الْخُصُوصِيَّة، بَعْد أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ شَيْء هُوَ الَّذِي خُصَّ بِهِ مِنْ سُخْرَة الشَّيَاطِين، وَأَنَّهُ أُجِيبَ إِلَى أَلَّا يَكُون لِأَحَدٍ بَعْده.
وَاَللَّه أَعْلَم.
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً
أَيْ لَيِّنَةً مَعَ قُوَّتِهَا وَشِدَّتِهَا حَتَّى لَا تَضُرَّ بِأَحَدٍ، وَتَحْمِلهُ بِعَسْكَرِهِ وَجُنُوده وَمَوْكِبه.
وَكَانَ مَوْكِبه فِيمَا رُوِيَ فَرْسَخًا فِي فَرْسَخ، مِائَة دَرَجَة بَعْضهَا فَوْق بَعْض، كُلّ دَرَجَة صِنْف مِنْ النَّاس، وَهُوَ فِي أَعْلَى دَرَجَة مَعَ جَوَارِيه وَحَشَمِهِ وَخَدَمِهِ ; صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِ.
وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْم الْحَافِظ قَالَ : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن جَعْفَر، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَحْمَد بْن حَنْبَل، قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن أَيُّوب، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن عَيَّاش عَنْ إِدْرِيس بْن وَهْب بْن مُنَبِّه، قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ : كَانَ لِسُلَيْمَان بْن دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام أَلْف بَيْت أَعْلَاهُ قَوَارِير وَأَسْفَله حَدِيد، فَرَكِبَ الرِّيح يَوْمًا فَمَرَّ بِحَرَّاثٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِ الْحَرَّاث فَقَالَ : لَقَدْ أُوتِيَ آلُ دَاوُدَ مُلْكًا عَظِيمًا فَحَمَلَتْ الرِّيح كَلَامه فَأَلْقَتْهُ فِي أُذُن سُلَيْمَان، قَالَ فَنَزَلَ حَتَّى أَتَى الْحَرَّاث فَقَالَ : إِنِّي سَمِعْت قَوْلَك، وَإِنَّمَا مَشَيْت إِلَيْك لِئَلَّا تَتَمَنَّى مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ ; لَتَسْبِيحَةٌ وَاحِدَةٌ يَقْبَلُهَا اللَّه مِنْك لَخَيْرٌ مِمَّا أُوتِيَ آلُ دَاوُدَ.
فَقَالَ الْحَرَّاث : أَذْهَبَ اللَّه هَمَّك كَمَا أَذْهَبْتَ هَمِّي.
حَيْثُ أَصَابَ
أَيْ أَرَادَ ; قَالَهُ مُجَاهِد.
وَالْعَرَب تَقُول : أَصَابَ الصَّوَاب وَأَخْطَأَ الْجَوَاب.
أَيْ أَرَادَ الصَّوَاب وَأَخْطَأَ الْجَوَاب ; قَالَهُ اِبْن الْأَعْرَابِيّ.
وَقَالَ الشَّاعِر :
حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلَامُهَا
أَصَابَ الْكَلَامَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَأَخْطَا الْجَوَابَ لَدَى الْمَفْصِل
وَقِيلَ : أَصَابَ أَرَادَ بِلُغَةِ حِمْيَر.
وَقَالَ قَتَادَة : هُوَ بِلِسَانِ هَجَرَ.
وَقِيلَ :" حَيْثُ أَصَابَ " حِينَمَا قَصَدَ، وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ إِصَابَة السَّهْم الْغَرَضَ الْمَقْصُودَ.
وَالشَّيَاطِينَ
أَيْ وَسَخَّرْنَا لَهُ الشَّيَاطِين وَمَا سُخِّرَتْ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ.
كُلَّ بَنَّاءٍ
بَدَل مِنْ الشَّيَاطِين أَيْ كُلَّ بَنَّاءٍ مِنْهُمْ، فَهُمْ يَبْنُونَ لَهُ مَا يَشَاء.
قَالَ :
وَغَوَّاصٍ
يَعْنِي فِي الْبَحْر يَسْتَخْرِجُونَ لَهُ الدُّرّ.
فَسُلَيْمَان أَوَّل مَنْ اُسْتُخْرِجَ لَهُ اللُّؤْلُؤ مِنْ الْبَحْر.
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ
أَيْ وَسَخَّرْنَا لَهُ مَرَدَة الشَّيَاطِين حَتَّى قَرَنَهُمْ فِي سَلَاسِل الْحَدِيد وَقُيُود الْحَدِيد ; قَالَ قَتَادَة.
السُّدِّيّ : الْأَغْلَال.
اِبْن عَبَّاس : فِي وَثَاق.
وَمِنْهُ قَوْل الشَّاعِر :
إِلَّا سُلَيْمَانَ إِذْ قَالَ الْإِلَهُ لَهُ قُمْ فِي الْبَرِيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنْ الْفَنَدِ
وَخَيِّسْ الْجِنَّ إِنِّي قَدْ أَذِنْت لَهُمْ يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصُّفَّاحِ وَالْعُمُدِ
فَآبَوْا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا وَأُبْنَا بِالْمُلُوكِ مُصَفَّدِينَا
قَالَ يَحْيَى بْن سَلَّام : وَلَمْ يَكُنْ يَفْعَل ذَلِكَ إِلَّا بِكُفَّارِهِمْ، فَإِذَا آمَنُوا أَطْلَقَهُمْ وَلَمْ يُسَخِّرْهُمْ.
هَذَا عَطَاؤُنَا
الْإِشَارَة بِهَذَا إِلَى الْمُلْك، أَيْ هَذَا الْمُلْك عَطَاؤُنَا فَأَعْطِ مَنْ شِئْت أَوْ اِمْنَعْ مَنْ شِئْت لَا حِسَاب عَلَيْك ; عَنْ الْحَسَن وَالضَّحَّاك وَغَيْرهمَا.
قَالَ الْحَسَن : مَا أَنْعَمَ اللَّه عَلَى أَحَد نِعْمَة إِلَّا عَلَيْهِ فِيهَا تَبِعَة إِلَّا سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام ; فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُول :" هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَاب ".
وَقَالَ قَتَادَة : الْإِشَارَة فِي قَوْله تَعَالَى :" هَذَا عَطَاؤُنَا " إِلَى مَا أُعْطِيَهُ مِنْ الْقُوَّة عَلَى الْجِمَاع، وَكَانَتْ لَهُ ثَلَاثُمِائَةِ اِمْرَأَة وَسَبْعمِائَةِ سُرِّيَّةٍ، وَكَانَ فِي ظَهْرِهِ مَاء مِائَة رَجُل، رَوَاهُ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس.
وَمَعْنَاهُ فِي الْبُخَارِيّ.
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ
وَعَلَى هَذَا " فَامْنُنْ " مِنْ الْمَنِيّ ; يُقَال : أَمْنَى يُمْنِي وَمَنَى يَمْنِي لُغَتَانِ، فَإِذَا أَمَرْت مَنْ أَمْنَى قُلْت أَمْنِ ; وَيُقَال : مِنْ مَنَى يَمْنِي فِي الْأَمْر اِمْنِ، فَإِذَا جِئْت بِنُونِ الْفِعْل نُون الْخَفِيفَة قُلْت اُمْنُنْ.
وَمَنْ ذَهَبَ بِهِ إِلَى الْمِنَّة قَالَ : مَنَّ عَلَيْهِ ; فَإِذَا أَخْرَجَهُ مُخْرَج الْأَمْر أَبْرَزَ النُّونَيْنِ ; لِأَنَّهُ كَانَ مُضَاعَفًا فَقَالَ اُمْنُنْ.
فَيُرْوَى فِي الْخَبَر أَنَّهُ سَخَّرَ لَهُ الشَّيَاطِين، فَمَنْ شَاءَ مَنَّ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ وَالتَّخْلِيَة، وَمَنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ ; قَالَ قَتَادَة وَالسُّدِّيّ.
وَعَلَى مَا رَوَى عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَيْ جَامِعْ مَنْ شِئْت مِنْ نِسَائِك، وَاتْرُكْ جِمَاع مَنْ شِئْت مِنْهُنَّ لَا حِسَاب عَلَيْك.
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ
أَيْ إِنْ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَلَهُ عِنْدنَا فِي الْآخِرَة قُرْبَةٌ وَحُسْنُ مَرْجِعٍ.
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ
أَمْر لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي الصَّبْر عَلَى الْمَكَارِه.
" أَيُّوب " بَدَل.
إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ
وَقَرَأَ عِيسَى بْن عُمَر " إِنِّي " بِكَسْرِ الْهَمْزَة أَيْ قَالَ.
قَالَ الْفَرَّاء : وَأَجْمَعَتْ الْقُرَّاء عَلَى أَنْ قَرَءُوا " بِنُصْبٍ " بِضَمِّ النُّون وَالتَّخْفِيف.
النَّحَّاس : وَهَذَا غَلَط وَبَعْده مُنَاقَضَة وَغَلَط أَيْضًا ; لِأَنَّهُ قَالَ : أَجْمَعَتْ الْقُرَّاء عَلَى هَذَا، وَحَكَى بَعْده أَنَّهُمْ ذَكَرُوا عَنْ يَزِيد بْن الْقَعْقَاع أَنَّهُ قَرَأَ :" بِنَصَبٍ " بِفَتْحِ النُّون وَالصَّاد فَغَلِطَ عَلَى أَبِي جَعْفَر، وَإِنَّمَا قَرَأَ أَبُو جَعْفَر :" بِنُصُبٍ " بِضَمِّ النُّون وَالصَّاد ; كَذَا حَكَاهُ أَبُو عُبَيْد وَغَيْره وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ الْحَسَن.
فَأَمَّا " بِنَصَبٍ " فَقِرَاءَة عَاصِم الْجَحْدَرِيّ وَيَعْقُوب الْحَضْرَمِيِّ.
وَقَدْ رُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَة عَنْ الْحَسَن وَقَدْ حُكِيَ " بِنَصْبٍ " بِفَتْحِ النُّون وَسُكُون الصَّاد عَنْ أَبِي جَعْفَر.
وَهَذَا كُلّه عِنْد أَكْثَر النَّحْوِيِّينَ بِمَعْنَى النَّصَب فَنُصْبٌ وَنَصَبٌ كَحُزْنٍ وَحَزَنٍ.
وَقَدْ يَجُوز أَنْ يَكُون نُصْب جَمْع نَصَب كَوُثْنٍ وَوَثَنٍ.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون نُصْب بِمَعْنَى نُصُب حُذِفَتْ مِنْهُ الضَّمَّة، فَأَمَّا " وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُب " [ الْمَائِدَة : ٣ ] فَقِيلَ : إِنَّهُ جَمْع نِصَاب.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَغَيْره : النُّصُب الشَّرّ وَالْبَلَاء.
وَالنَّصَب التَّعَب وَالْإِعْيَاء.
وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَى :" أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَان بِنُصْبٍ وَعَذَاب " أَيْ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ وَسْوَسَته لَا غَيْر.
وَاَللَّه أَعْلَم.
ذَكَرَهُ النَّحَّاس.
وَقِيلَ : إِنَّ النُّصْب مَا أَصَابَهُ فِي بَدَنه، وَالْعَذَاب مَا أَصَابَهُ فِي مَاله ; وَفِيهِ بُعْد.
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ : إِنَّ أَيُّوب كَانَ رُومِيًّا مِنْ الْبَثَنِيَّة وَكُنْيَته أَبُو عَبْد اللَّه فِي قَوْل الْوَاقِدِيّ ; اِصْطَفَاهُ اللَّه بِالنُّبُوَّةِ، وَآتَاهُ جُمْلَة عَظِيمَة مِنْ الثَّرْوَة فِي أَنْوَاع الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد.
وَكَانَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِ اللَّه ; مُوَاسِيًا لِعِبَادِ اللَّه، بَرًّا رَحِيمًا.
وَلَمْ يُؤْمِن بِهِ إِلَّا ثَلَاثَة نَفَر.
وَكَانَ لِإِبْلِيس مَوْقِف مِنْ السَّمَاء السَّابِعَة فِي يَوْم مِنْ الْأَيَّام، فَوَقَفَ بِهِ إِبْلِيس عَلَى عَادَتِهِ ; فَقَالَ اللَّه لَهُ أَوْ قِيلَ لَهُ عَنْهُ : أَقَدَرْت مِنْ عَبْدِي أَيُّوب عَلَى شَيْء ؟ فَقَالَ : يَا رَبّ وَكَيْف أَقْدِرُ مِنْهُ عَلَى شَيْء، وَقَدْ اِبْتَلَيْته بِالْمَالِ وَالْعَافِيَة، فَلَوْ اِبْتَلَيْته بِالْبَلَاءِ وَالْفَقْر وَنَزَعْت مِنْهُ مَا أَعْطَيْته لَحَالَ عَنْ حَاله، وَلَخَرَجَ عَنْ طَاعَتك، .
قَالَ اللَّه : قَدْ سَلَّطْتُك عَلَى أَهْله وَمَاله.
فَانْحَطَّ عَدُوُّ اللَّهِ فَجَمَعَ عَفَارِيت الْجِنّ فَأَعْلَمَهُمْ، وَقَالَ قَائِل مِنْهُمْ : أَكُون إِعْصَارًا فِيهِ نَار أُهْلِكُ مَالَهُ فَكَانَ ; فَجَاءَ أَيُّوبَ فِي صُورَة قَيِّمِ مَاله فَأَعْلَمَهُ بِمَا جَرَى ; فَقَالَ : الْحَمْد لِلَّهِ هُوَ أَعْطَاهُ وَهُوَ مَنَعَهُ.
ثُمَّ جَاءَ قَصْرَهُ بِأَهْلِهِ وَوَلَده، فَاحْتَمَلَ الْقَصْر مِنْ نَوَاحِيه حَتَّى أَلْقَاهُ عَلَى أَهْله وَوَلَده، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ وَأَعْلَمَهُ فَأَلْقَى التُّرَاب عَلَى رَأْسه، وَصَعِدَ إِبْلِيس إِلَى السَّمَاء فَسَبَقَتْهُ تَوْبَة أَيُّوبَ.
قَالَ : يَا رَبّ سَلِّطْنِي عَلَى بَدَنِهِ.
قَالَ : قَدْ سَلَّطْتُك عَلَى بَدَنه إِلَّا عَلَى لِسَانه وَقَلْبه وَبَصَرِهِ، فَنَفَخَ فِي جَسَده نَفْخَةً اِشْتَعَلَ مِنْهَا فَصَارَ فِي جَسَده ثَآلِيل فَحَكَّهَا بِأَظْفَارِهِ حَتَّى دَمِيَتْ، ثُمَّ بِالْفَخَّارِ حَتَّى تَسَاقَطَ لَحْمُهُ.
وَقَالَ عِنْد ذَلِكَ :" مَسَّنِي الشَّيْطَان ".
وَلَمْ يَخْلُصْ إِلَى شَيْء مِنْ حَشْوَة الْبَطْن ; لِأَنَّهُ لَا بَقَاء لِلنَّفَسِ إِلَّا بِهَا فَهُوَ يَأْكُل وَيَشْرَب، فَمَكَثَ كَذَلِكَ ثَلَاث سِنِينَ.
فَلَمَّا غَلَبَهُ أَيُّوب اِعْتَرَضَ لِامْرَأَتِهِ فِي هَيْئَة أَعْظَم مِنْ هَيْئَة بَنِي آدَم فِي الْقَدْر وَالْجَمَال، وَقَالَ لَهَا : أَنَا إِلَه الْأَرْض، وَأَنَا الَّذِي صَنَعْت بِصَاحِبِك مَا صَنَعْت، وَلَوْ سَجَدْت لِي سَجْدَة وَاحِدَة لَرَدَدْت عَلَيْهِ أَهْله وَمَاله وَهُمْ عِنْدِي.
وَعَرَضَ لَهَا فِي بَطْن الْوَادِي ذَلِكَ كُلّه فِي صُورَته ; أَيْ أَظْهَرَهُ لَهَا، فَأَخْبَرَتْ أَيُّوب فَأَقْسَمَ أَنْ يَضْرِبهَا إِنْ عَافَاهُ اللَّه.
وَذَكَرُوا كَلَامًا طَوِيلًا فِي سَبَب بَلَائِهِ وَمُرَاجَعَته لِرَبِّهِ وَتَبَرُّمه مِنْ الْبَلَاء الَّذِي نَزَلَ بِهِ، وَأَنَّ النَّفَر الثَّلَاثَة الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ نَهَوْهُ عَنْ ذَلِكَ وَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ، وَقِيلَ : اِسْتَعَانَ بِهِ مَظْلُوم فَلَمْ يَنْصُرْهُ فَابْتُلِيَ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَقِيلَ : اِسْتَضَافَ يَوْمًا النَّاس فَمَنَعَ فَقِيرًا الدُّخُول فَابْتُلِيَ بِذَلِكَ.
وَقِيلَ : كَانَ أَيُّوب يَغْزُو مَلِكًا وَكَانَ لَهُ غَنَم فِي وِلَايَته، فَدَاهَنَهُ لِأَجْلِهَا بِتَرْكِ غَزَوْهُ فَابْتُلِيَ.
وَقِيلَ، : كَانَ النَّاس يَتَعَدَّوْنَ اِمْرَأَته وَيَقُولُونَ نَخْشَى الْعَدْوَى وَكَانُوا يَسْتَقْذِرُونَهَا ; فَلِهَذَا قَالَ.
" مَسَّنِيَ الشَّيْطَان ".
وَامْرَأَته ليا بِنْت يَعْقُوب.
وَكَانَ أَيُّوب فِي زَمَن يَعْقُوب وَكَانَتْ أُمّه اِبْنَة لُوط.
وَقِيلَ : كَانَتْ زَوْجَة أَيُّوب رَحْمَة بِنْت إفرائيم بْن يُوسُف بْن يَعْقُوب عَلَيْهِمْ السَّلَام.
ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ الطَّبَرِيّ رَحِمَهُ اللَّه.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ أَنَّ إِبْلِيس كَانَ لَهُ مَكَان فِي السَّمَاء السَّابِعَة يَوْمًا مِنْ الْعَام فَقَوْل بَاطِل ; لِأَنَّهُ أُهْبِطَ مِنْهَا بِلَعْنَةٍ وَسَخَطٍ إِلَى الْأَرْض، فَكَيْف يَرْقَى إِلَى مَحَلّ الرِّضَا، وَيَجُول فِي مَقَامَات الْأَنْبِيَاء، وَيَخْتَرِق السَّمَوَات الْعُلَى، وَيَعْلُو إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة إِلَى مَنَازِل الْأَنْبِيَاء، فَيَقِف مَوْقِف الْخَلِيل ؟ ! إِنَّ هَذَا لَخَطْبٌ مِنْ الْجَهَالَة عَظِيم.
وَأَمَّا قَوْلهمْ : إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لَهُ هَلْ قَدَرْت مِنْ عَبْدِي أَيُّوب عَلَى شَيْء فَبَاطِل قَطْعًا ; لِأَنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَا يُكَلِّم الْكُفَّار الَّذِينَ هُمْ مِنْ جُنْد إِبْلِيس الْمَلْعُون ; فَكَيْف يُكَلِّم مَنْ تَوَلَّى إِضْلَالَهُمْ ؟ ! وَأَمَّا قَوْلهمْ : إِنَّ اللَّه قَالَ قَدْ سَلَّطْتُك عَلَى مَاله وَوَلَده فَذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي الْقُدْرَة، وَلَكِنَّهُ بَعِيد فِي هَذِهِ الْقِصَّة.
وَكَذَلِكَ قَوْلهمْ : إِنَّهُ نَفَخَ فِي جَسَده حِين سَلَّطَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ أَبْعَدُ، وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ قَادِر عَلَى أَنْ يَخْلُق ذَلِكَ كُلّه مِنْ غَيْر أَنْ يَكُون لِلشَّيْطَانِ فِيهِ كَسْب حَتَّى تَقَرَّ لَهُ - لَعْنَةُ اللَّه عَلَيْهِ - عَيْنٌ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الْأَنْبِيَاء فِي أَمْوَالهمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَنْفُسهمْ.
وَأَمَّا قَوْلهمْ : إِنَّهُ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنَا إِلَه الْأَرْض، وَلَوْ تَرَكْت ذِكْر اللَّه وَسَجَدْت أَنْتِ لِي لَعَافَيْته، فَاعْلَمُوا وَإِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَوْ عَرَضَ لِأَحَدِكُمْ وَبِهِ أَلَمٌ وَقَالَ هَذَا الْكَلَام مَا جَازَ عِنْده أَنْ يَكُون إِلَهًا فِي الْأَرْض، وَأَنَّهُ يَسْجُد لَهُ، وَأَنَّهُ يُعَافِي مِنْ الْبَلَاء، فَكَيْف أَنْ تَسْتَرِيبَ زَوْجَة نَبِيّ ؟ ! وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَة سَوَادِيّ أَوْ فَدْمٍ بَرْبَرِيّ مَا سَاغَ ذَلِكَ عِنْدهَا.
وَأَمَّا تَصْوِيره الْأَمْوَال وَالْأَهْل فِي وَادٍ لِلْمَرْأَةِ فَذَلِكَ مَا لَا يَقْدِر عَلَيْهِ إِبْلِيس بِحَالٍ، وَلَا هُوَ فِي طَرِيق السِّحْر فَيُقَال إِنَّهُ مِنْ جِنْسه.
وَلَوْ تُصُوِّرَ لَعَلِمَتْ الْمَرْأَة أَنَّهُ سِحْر كَمَا نَعْلَمهُ نَحْنُ وَهِيَ فَوْقَنَا فِي الْمَعْرِفَة بِذَلِكَ ; فَإِنَّهُ لَمْ يَخْلُ زَمَان قَطُّ مِنْ السِّحْر وَحَدِيثه وَجَرْيه بَيْن النَّاس وَتَصْوِيره.
قَالَ الْقَاضِي : وَاَلَّذِي جَرَّأَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَتَذَرَّعُوا بِهِ إِلَى ذِكْر هَذَا قَوْله تَعَالَى :" إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَان بِنُصْبٍ وَعَذَاب " فَلَمَّا رَأَوْهُ قَدْ شَكَا مَسَّ الشَّيْطَان أَضَافُوا إِلَيْهِ مِنْ رَأْيهمْ مَا سَبَقَ مِنْ التَّفْسِير فِي هَذِهِ الْأَقْوَال.
وَلَيْسَ الْأَمْر كَمَا زَعَمُوا وَالْأَفْعَال كُلّهَا خَيْرهَا وَشَرّهَا.
فِي إِيمَانهَا وَكُفْرهَا، طَاعَتهَا وَعِصْيَانهَا، خَالِقهَا هُوَ اللَّه لَا شَرِيك لَهُ فِي خَلْقه، وَلَا فِي خَلْق شَيْء غَيْرهَا، وَلَكِنَّ الشَّرّ لَا يُنْسَب إِلَيْهِ ذِكْرًا، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا مِنْهُ خَلْقًا ; أَدَبًا أَدَّبَنَا بِهِ، وَتَحْمِيدًا عَلَّمَنَاهُ.
وَكَانَ مِنْ ذِكْر مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَبِّهِ بِهِ قَوْلٌ مِنْ جُمْلَته :( وَالْخَيْر فِي يَدَيْك وَالشَّرّ لَيْسَ إِلَيْك ) عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.
وَمِنْهُ قَوْل إِبْرَاهِيم :" وَإِذَا مَرِضْت فَهُوَ يَشْفِينِ " [ الشُّعَرَاء : ٨٠ ] وَقَالَ الْفَتَى لِلْكَلِيمِ :" وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَان " [ الْكَهْف : ٦٣ ] وَأَمَّا قَوْلهمْ : إِنَّهُ اِسْتَعَانَ بِهِ مَظْلُوم فَلَمْ يَنْصُرهُ، فَمَنْ لَنَا بِصِحَّةِ هَذَا الْقَوْل.
وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُون قَادِرًا عَلَى نَصْره، فَلَا يَحِلّ لِأَحَدٍ تَرْكُهُ فَيُلَام عَلَى أَنَّهُ عَصَى وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، .
أَوْ كَانَ عَاجِزًا فَلَا شَيْء عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَوْلهمْ : إِنَّهُ مَنَعَ فَقِيرًا مِنْ الدُّخُول ; إِنْ كَانَ عَلِمَ بِهِ فَهُوَ بَاطِل عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَم بِهِ فَلَا شَيْء عَلَيْهِ فِيهِ.
وَأَمَّا قَوْلهمْ : إِنَّهُ دَاهَنَ عَلَى غَنَمِهِ الْمَلِك الْكَافِر فَلَا تَقُلْ دَاهَنَ وَلَكِنْ قُلْ دَارَى.
وَدَفْع الْكَافِر وَالظَّالِم عَنْ النَّفْس أَوْ الْمَال بِالْمَالِ جَائِز ; نَعَمْ وَيَحْسُن الْكَلَام.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ الْقَاضِي أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ أَيُّوب فِي أَمْره إِلَّا مَا أَخْبَرَنَا اللَّه عَنْهُ فِي كِتَابه فِي آيَتَيْنِ ; الْأُولَى قَوْله تَعَالَى :" وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبّه أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرّ " [ الْأَنْبِيَاء : ٨٣ ] وَالثَّانِيَة فِي :[ ص ] " أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَان بِنُصْبٍ وَعَذَاب ".
وَأَمَّا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ أَنَّهُ ذَكَرَهُ بِحَرْفٍ وَاحِد إِلَّا قَوْله :( بَيْنَا أَيُّوب يَغْتَسِل إِذْ خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلٌ مِنْ جَرَاد مِنْ ذَهَبٍ... ) الْحَدِيث.
وَإِذْ لَمْ يَصِحّ عَنْهُ فِيهِ قُرْآن وَلَا سُنَّة إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ، فَمَنْ الَّذِي يُوصِل السَّامِع إِلَى أَيُّوب خَبَره، أَمْ عَلَى أَيّ لِسَان سَمِعَهُ ؟ وَالْإِسْرَائِيلِيَّات مَرْفُوضَة عِنْد الْعُلَمَاء عَلَى الْبَتَات ; فَأَعْرِضْ عَنْ سُطُورهَا بَصَرك، وَأَصْمِمْ عَنْ سَمَاعهَا أُذُنَيْك، فَإِنَّهَا لَا تُعْطِي فِكْرَك إِلَّا خَيَالًا، وَلَا تَزِيد فُؤَادَك إِلَّا خَبَالًا وَفِي الصَّحِيح وَاللَّفْظ لِلْبُخَارِيِّ أَنَّ اِبْن عَبَّاس قَالَ : يَا مَعْشَر الْمُسْلِمِينَ تَسْأَلُونَ أَهْل الْكِتَاب وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى نَبِيّكُمْ أَحْدَثُ الْأَخْبَار بِاَللَّهِ، تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْل الْكِتَاب قَدْ بَدَّلُوا مِنْ كُتُب اللَّه وَغَيَّرُوا وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكُتُب ; فَقَالُوا :" هَذَا مِنْ عِنْد اللَّه لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا " [ الْبَقَرَة : ٧٩ ] وَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْم عَنْ مَسْأَلَتهمْ، فَلَا وَاَللَّه مَا رَأَيْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ يَسْأَلكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ، وَقَدْ أَنْكَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث الْمُوَطَّأ عَلَى عُمَر قِرَاءَته التَّوْرَاة.
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ
الرَّكْض الدَّفْع بِالرِّجْلِ.
يُقَال : رَكَضَ الدَّابَّةَ وَرَكَضَ ثَوْبَهُ بِرِجْلِهِ.
وَقَالَ الْمُبَرِّد : الرَّكْض التَّحْرِيك ; وَلِهَذَا قَالَ الْأَصْمَعِيّ : يُقَال رَكَضْت الدَّابَّة وَلَا يُقَال رَكَضَتْ هِيَ ; لِأَنَّ الرَّكْض إِنَّمَا هُوَ تَحْرِيك رَاكِبهَا رِجْلَيْهِ وَلَا فِعْل لَهَا فِي ذَلِكَ.
وَحَكَى سِيبَوَيْهِ : رَكَضْت الدَّابَّةَ فَرَكَضَتْ مِثْل جَبَرْت الْعَظْم فَجَبَرَ وَحَزَنْته فَحَزِنَ ; وَفِي الْكَلَام إِضْمَار أَيْ قُلْنَا لَهُ :" اُرْكُضْ " قَالَ الْكِسَائِيّ.
وَهَذَا لَمَّا عَافَاهُ اللَّه.
اِسْتَدَلَّ بَعْض جُهَّال الْمُتَزَهِّدَة ; وَطَغَام الْمُتَصَوِّفَة بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِأَيُّوبَ :" اُرْكُضْ بِرِجْلِك " عَلَى جَوَاز الرَّقْص قَالَ أَبُو الْفَرَج الْجَوْزِيّ : وَهَذَا اِحْتِجَاج بَارِد ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أُمِرَ بِضَرْبِ الرِّجْل فَرَحًا كَانَ لَهُمْ فِيهِ شُبْهَة، وَإِنَّمَا أُمِرَ بِضَرْبِ الرَّجُل لِيَنْبُعَ الْمَاء.
قَالَ اِبْن عَقِيل : أَيْنَ الدَّلَالَة فِي مُبْتَلًى أُمِرَ عِنْد كَشْف الْبَلَاء بِأَنْ يَضْرِب بِرِجْلِهِ الْأَرْض لِيَنْبُعَ الْمَاء إِعْجَازًا مِنْ الرَّقْص وَلَئِنْ جَازَ قَوْله سُبْحَانَهُ لِمُوسَى :" اِضْرِبْ بِعَصَاك الْحَجَر " [ الْبَقَرَة : ٦٠ ] دَلَالَة عَلَى ضَرْب المحاد بِالْقُضْبَانِ نَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ التَّلَاعُب بِالشَّرْعِ.
وَقَدْ اِحْتَجَّ بَعْض قَاصِرِيهِمْ بِأَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ :( أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْك ) فَحَجَلَ، .
وَقَالَ لِجَعْفَرٍ :( أَشْبَهْت خَلْقِي وَخُلُقِي ) فَحَجَلَ.
وَقَالَ لِزَيْدٍ :( أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا ) فَحَجَلَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ اِحْتَجَّ بِأَنَّ الْحَبَشَة زَفَنَتْ وَالنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُر إِلَيْهِمْ.
وَالْجَوَاب : أَمَّا الْحَجَل فَهُوَ نَوْع مِنْ الْمَشْي يُفْعَل عِنْد الْفَرَح فَأَيْنَ هُوَ وَالرَّقْص، وَكَذَلِكَ زَفْن الْحَبَشَة نَوْع مِنْ الْمَشْي يُفْعَل عِنْد اللِّقَاء لِلْحَرْبِ.
هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ
أَيْ فَرَكَضَ فَنَبَعَتْ عَيْن مَاء فَاغْتَسَلَ بِهِ، فَذَهَبَ الدَّاء مِنْ ظَاهِره، ثُمَّ شَرِبَ مِنْهُ فَذَهَبَ الدَّاء مِنْ بَاطِنه.
وَقَالَ قَتَادَة : هُمَا عَيْنَانِ بِأَرْضِ الشَّام فِي أَرْض يُقَال لَهَا الْجَابِيَة، فَاغْتَسَلَ مِنْ إِحْدَاهُمَا فَأَذْهَبَ اللَّه تَعَالَى ظَاهِر دَائِهِ، وَشَرِبَ مِنْ الْأُخْرَى فَأَذْهَبَ اللَّه تَعَالَى بَاطِن دَائِهِ.
وَنَحْوه عَنْ الْحَسَن وَمُقَاتِل ; قَالَ مُقَاتِل : نَبَعَتْ عَيْن حَارَّة وَاغْتَسَلَ فِيهَا فَخَرَجَ صَحِيحًا، ثُمَّ نَبَعَتْ عَيْن أُخْرَى فَشَرِبَ مِنْهَا مَاء عَذْبًا.
وَقِيلَ : أُمِرَ بِالرَّكْضِ بِالرِّجْلِ لِيَتَنَاثَرَ عَنْهُ كُلّ دَاء فِي جَسَده.
وَالْمُغْتَسَل الْمَاء الَّذِي يُغْتَسَل بِهِ ; قَالَ الْقُتَبِيّ.
وَقِيلَ : إِنَّهُ الْمَوْضِع الَّذِي يُغْتَسَل فِيهِ ; قَالَ مُقَاتِل.
الْجَوْهَرِيّ : وَاغْتَسَلْت بِالْمَاءِ، وَالْغَسُول الْمَاء الَّذِي يُغْتَسَل بِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُغْتَسَل، قَالَ اللَّه تَعَالَى :" هَذَا مُغْتَسَل بَارِد وَشَرَاب " وَالْمُغْتَسَل أَيْضًا الَّذِي يُغْتَسَل فِيهِ، وَالْمَغْسِل وَالْمَغْسَل بِكَسْرِ السِّين وَفَتْحهَا مَغْسَل الْمَوْتَى وَالْجَمْع الْمَغَاسِل.
وَاخْتُلِفَ كَمْ بَقِيَ أَيُّوب فِي الْبَلَاء ; فَقَالَ اِبْن عَبَّاس : سَبْع سِنِينَ وَسَبْعَة أَشْهَر وَسَبْعَة أَيَّام وَسَبْع سَاعَات.
وَقَالَ وَهْب بْن مُنَبِّه : أَصَابَ أَيُّوبَ الْبَلَاءُ سَبْع سِنِينَ، وَتُرِكَ يُوسُف، فِي السِّجْن سَبْع سِنِينَ، وَعُذِّبَ بُخْتُنَصَّر وَحُوِّلَ فِي السِّبَاع سَبْع سِنِينَ.
ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْم.
وَقِيلَ : عَشْر سِنِينَ.
وَقِيلَ : ثَمَان عَشْرَة سَنَة.
رَوَاهُ أَنَس مَرْفُوعًا فِيمَا ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ : قُلْت : وَذَكَرَهُ اِبْن الْمُبَارَك ; أَخْبَرَنَا يُونُس بْن يَزِيد، عَنْ عُقَيْل عَنْ اِبْن شِهَاب أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ يَوْمًا أَيُّوب، وَمَا أَصَابَهُ مِنْ الْبَلَاء، وَذَكَرَ أَنَّ الْبَلَاء الَّذِي أَصَابَهُ كَانَ بِهِ ثَمَان عَشْرَة سَنَة.
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الْقُشَيْرِيّ.
وَقِيلَ : أَرْبَعِينَ سَنَة.
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ
قَالَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة قِيلَ لِأَيُّوبَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ آتَيْنَاك أَهْلك فِي الْجَنَّة فَإِنْ شِئْت تَرَكْنَاهُمْ لَك فِي الْجَنَّة وَإِنْ شِئْت آتَيْنَاكَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ مُجَاهِد : فَتَرَكَهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَهُ فِي الْجَنَّة وَأَعْطَاهُ مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ النَّحَّاس : وَالْإِسْنَاد عَنْهُمَا بِذَلِكَ صَحِيح.
قُلْت : وَحَكَاهُ الْمَهْدَوِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس.
وَقَالَ الضَّحَّاك : قَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود كَانَ أَهْل أَيُّوب قَدْ مَاتُوا إِلَّا اِمْرَأَته فَأَحْيَاهُمْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي أَقَلَّ مِنْ طَرْف الْبَصَر، وَآتَاهُ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ.
وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا : كَانَ بَنُوهُ قَدْ مَاتُوا فَأُحْيُوا لَهُ وَوُلِدَ لَهُ مِثْلهمْ مَعَهُمْ.
وَقَالَ قَتَادَة وَكَعْب الْأَحْبَار وَالْكَلْبِيّ وَغَيْرهمْ.
قَالَ اِبْن مَسْعُود : مَاتَ أَوْلَاده وَهُمْ سَبْعَة مِنْ الذُّكُور وَسَبْعَة مِنْ الْإِنَاث فَلَمَّا عُوفِيَ نُشِرُوا لَهُ، وَوَلَدَتْ اِمْرَأَته سَبْعَة بَنِينَ وَسَبْع بَنَات.
الثَّعْلَبِيّ : وَهَذَا الْقَوْل أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْآيَة.
قُلْت : لِأَنَّهُمْ مَاتُوا اِبْتِلَاء قَبْل آجَالهمْ حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانه فِي سُورَة [ الْبَقَرَة ] فِي قِصَّة " الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارهمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْت " [ الْبَقَرَة : ٢٤٣ ].
وَفِي قِصَّة السَّبْعِينَ الَّذِينَ أَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَة فَمَاتُوا ثُمَّ أُحْيُوا ; وَذَلِكَ أَنَّهُمْ مَاتُوا قَبْل آجَالِهِمْ، وَكَذَلِكَ هُنَا وَاَللَّه أَعْلَم.
وَعَلَى قَوْل مُجَاهِد وَعِكْرِمَة يَكُون الْمَعْنَى :" وَأَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ " فِي الْآخِرَة " وَمِثْلهمْ مَعَهُمْ " فِي الدُّنْيَا.
وَفِي الْخَبَر : إِنَّ اللَّه بَعَثَ إِلَيْهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام حِين رَكَضَ بِرِجْلِهِ عَلَى الْأَرْض رَكْضَة فَظَهَرَتْ عَيْن مَاءٍ حَارٍّ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ وَنَفَضَهُ نَفْضَةً فَتَنَاثَرَتْ عَنْهُ الدِّيدَان، وَغَاصَ فِي الْمَاء غَوْصَة فَنَبَتَ لَحْمه وَعَادَ إِلَى مَنْزِله، وَرَدَّ اللَّه عَلَيْهِ أَهْله وَمِثْلهمْ مَعَهُمْ، وَنَشَأَتْ سَحَابَة عَلَى قَدْر قَوَاعِد دَاره فَأَمْطَرَتْ ثَلَاثه أَيَّام بِلَيَالِيِهَا جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ.
فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل : أَشَبِعْت ؟ فَقَالَ : وَمَنْ يَشْبَعُ مِنْ فَضْل اللَّه.
فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ : قَدْ أَثْنَيْت عَلَيْك بِالصَّبْرِ قَبْل وُقُوعك فِي الْبَلَاء وَبَعْده، وَلَوْلَا أَنِّي وَضَعْت تَحْت كُلّ شَعْرَة مِنْك صَبْرًا مَا صَبَرْت.
رَحْمَةً مِنَّا
أَيْ نِعْمَة مِنَّا.
فَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِ رَحْمَة مِنْ عِنْدنَا.
وَقِيلَ : اِبْتَلَيْنَاهُ لِيَعْظُمَ ثَوَابه غَدًا.
وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ
أَيْ عِبْرَة لِذَوِي الْعُقُول وَتَذْكِيرًا لِلْعِبَادِ ; لِأَنَّهُمْ إِذَا ذَكَرُوا بَلَاء أَيُّوب وَصَبْره عَلَيْهِ وَمِحْنَته لَهُ وَهُوَ أَفْضَل أَهْل زَمَانه وَطَّنُوا أَنْفُسهمْ عَلَى الصَّبْر عَلَى شَدَائِد الدُّنْيَا نَحْو مَا فَعَلَ أَيُّوب، فَيَكُون هَذَا تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى إِدَامَة الْعِبَادَة، وَاحْتِمَال الضَّرَر.
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ
كَانَ أَيُّوب حَلَفَ فِي مَرَضه أَنْ يَضْرِب اِمْرَأَته مِائَة جَلْدَة ; وَفِي سَبَب ذَلِكَ
أَرْبَعَة أَقْوَال :
[ أَحَدهَا ] مَا حَكَاهُ اِبْن عَبَّاس أَنَّ إِبْلِيس لَقِيَهَا فِي صُورَة طَبِيب فَدَعَتْهُ لِمُدَاوَاةِ أَيُّوب، فَقَالَ أُدَاوِيه عَلَى أَنَّهُ إِذَا بَرِئَ قَالَ أَنْتَ شَفَيْتنِي، لَا أُرِيد جَزَاء سِوَاهُ.
قَالَتْ : نَعَمْ فَأَشَارَتْ عَلَى أَيُّوب بِذَلِكَ فَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا.
وَقَالَ : وَيْحَك ذَلِكَ الشَّيْطَانُ.
[ الثَّانِي ] مَا حَكَاهُ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب، أَنَّهَا جَاءَتْهُ بِزِيَادَة عَلَى مَا كَانَتْ تَأْتِيه مِنْ الْخُبْز، فَخَافَ خِيَانَتهَا فَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا.
[ الثَّالِث ] مَا حَكَاهُ يَحْيَى بْن سَلَّام وَغَيْره : أَنَّ الشَّيْطَان أَغْوَاهَا أَنْ تَحْمِل أَيُّوب عَلَى أَنْ يَذْبَح سَخْلَة تَقَرُّبًا إِلَيْهِ وَأَنَّهُ يَبْرَأ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا إِنْ عُوفِيَ مِائَةً.
[ الرَّابِع ] قِيلَ : بَاعَتْ ذَوَائِبَهَا بِرَغِيفَيْنِ إِذْ لَمْ تَجِد شَيْئًا تَحْمِلُهُ إِلَى أَيُّوب، وَكَانَ أَيُّوب يَتَعَلَّق بِهَا إِذَا أَرَادَ الْقِيَام، فَلِهَذَا حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا، فَلَمَّا شَفَاهُ اللَّه أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذ ضِغْثًا فَيَضْرِب بِهِ، فَأَخَذَ شَمَارِيخ قَدْر مِائَة فَضَرَبَهَا ضَرْبَة وَاحِدَة.
وَقِيلَ : الضِّغْث قَبْضَة حَشِيش مُخْتَلِطَة الرُّطَب بِالْيَابِسِ.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : إِنَّهُ إِثْكَال النَّخْل الْجَامِع بِشَمَارِيخِهِ.
تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَة جَوَاز ضَرْب الرَّجُل اِمْرَأَتَهُ تَأْدِيبًا.
وَذَلِكَ أَنَّ اِمْرَأَة أَيُّوب أَخْطَأَتْ فَحَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهَا مِائَةً، فَأَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَضْرِبَهَا بِعُثْكُولٍ مِنْ عَثَاكِيل النَّخْل، وَهَذَا لَا يَجُوز فِي الْحُدُود.
إِنَّمَا أَمَرَهُ اللَّه بِذَلِكَ لِئَلَّا يَضْرِب اِمْرَأَته فَوْق حَدّ الْأَدَب.
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَضْرِب اِمْرَأَته فَوْق حَدّ الْأَدَب ; وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام :( وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْر مُبَرِّح ) عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي [ النِّسَاء ] بَيَانه.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذَا الْحُكْم هَلْ هُوَ عَامّ أَوَخَاصّ بِأَيُّوبَ وَحْده، فَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ عَامّ لِلنَّاسِ.
ذَكَرَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ.
وَحُكِيَ عَنْ الْقُشَيْرِيّ أَنَّ ذَلِكَ خَاصّ بِأَيُّوبَ.
وَحَكَى الْمَهْدَوِيّ عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ حُكْم بَاقٍ، وَأَنَّهُ إِذَا ضَرَبَ بِمِائَةِ قَضِيب وَنَحْوه ضَرْبَة وَاحِدَة بَرَّ.
وَرَوَى نَحْوه الشَّافِعِيّ.
وَرَوَى نَحْوه عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُقْعَد الَّذِي حَمَلَتْ مِنْهُ الْوَلِيدَة، وَأَمَرَ أَنْ يُضْرَبَ بِعُثْكُولٍ فِيهِ مِائَة شِمْرَاخ ضَرْبَة وَاحِدَة.
وَقَالَ الْقُشَيْرِيّ : وَقِيلَ لِعَطَاءٍ هَلْ يُعْمَل بِهَذَا الْيَوْم ؟ فَقَالَ : مَا أُنْزِلَ الْقُرْآن إِلَّا لِيُعْمَلَ بِهِ وَيُتَّبَعَ.
اِبْن الْعَرَبِيّ : وَرُوِيَ عَنْ عَطَاء أَنَّهَا لِأَيُّوب خَاصَّة.
وَكَذَلِكَ رَوَى أَبُو زَيْد عَنْ اِبْن الْقَاسِم عَنْ مَالِك : مَنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْده مِائَة فَجَمَعَهَا فَضَرَبَهُ بِهَا ضَرْبَة وَاحِدَة لَمْ يَبَرَّ.
قَالَ بَعْض عُلَمَائِنَا : يُرِيد مَالِك قَوْله تَعَالَى :" لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا " [ الْمَائِدَة : ٤٨ ] أَيْ إِنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخ بِشَرِيعَتِنَا.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عَلِيّ أَنَّهُ جَلَدَ الْوَلِيد بْن عُقْبَة بِسَوْطٍ لَهُ طَرَفَانِ أَرْبَعِينَ جَلْدَة.
وَأَنْكَرَ مَالِك هَذَا وَتَلَا قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" فَاجْلِدُوا كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا مِائَة جَلْدَة " [ النُّور : ٢ ] وَهَذَا مَذْهَب أَصْحَاب الرَّأْي.
وَقَدْ اِحْتَجَّ الشَّافِعِيّ لِقَوْلِهِ بِحَدِيثٍ، وَقَدْ تُكُلِّمَ فِي إِسْنَاده ; وَاَللَّه أَعْلَم.
قُلْت : الْحَدِيث الَّذِي اِحْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيّ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنه قَالَ : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن سَعِيد الْهَمْدَانِيّ، قَالَ حَدَّثَنَا اِبْن وَهْب، قَالَ : أَخْبَرَنِي يُونُس عَنْ اِبْن شِهَاب، قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْن سَهْل بْن حُنَيْف أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بَعْض أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَنْصَار، أَنَّهُ اِشْتَكَى رَجُل مِنْهُمْ حَتَّى أَضْنَى، فَعَادَ جِلْدَة عَلَى عَظْم، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ جَارِيَة لِبَعْضِهِمْ فَهَشَّ لَهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رِجَال قَوْمه يَعُودُونَهُ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ وَقَالَ : اِسْتَفْتُوا لِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَإِنِّي قَدْ وَقَعْت عَلَى جَارِيَة دَخَلَتْ عَلَيَّ.
فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا : مَا رَأَيْنَا بِأَحَدٍ مِنْ النَّاس مِنْ الضُّرّ مِثْل الَّذِي هُوَ بِهِ ; لَوْ حَمَلْنَاهُ إِلَيْك لَتَفَسَّخَتْ عِظَامه، مَا هُوَ إِلَّا جِلْد عَلَى عَظْم ; فَأَمَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْخُذُوا لَهُ مِائَة شِمْرَاخ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَة وَاحِدَة.
قَالَ الشَّافِعِيّ : إِذَا حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ فُلَانًا مِائَة جَلْدَة، أَوْ ضَرْبًا وَلَمْ يَقُلْ ضَرْبًا شَدِيدًا وَلَمْ يَنْوِ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ يَكْفِيهِ مِثْل هَذَا الضَّرْب الْمَذْكُور فِي الْآيَة وَلَا يَحْنَث.
قَالَ اِبْن الْمُنْذِر : وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُل لَيَضْرِبَنَّ عَبْده مِائَة فَضَرَبَهُ ضَرْبًا خَفِيفًا فَهُوَ بَارّ عِنْد الشَّافِعِيّ وَأَبِي ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي.
وَقَالَ مَالِك : لَيْسَ الضَّرْب إِلَّا الضَّرْب الَّذِي يُؤْلِم.
وَلَا تَحْنَثْ
دَلِيل عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاء فِي الْيَمِين لَا يَرْفَع حُكْمًا إِذَا كَانَ مُتَرَاخِيًا.
وَقَدْ مَضَى، الْقَوْل فِيهِ فِي [ الْمَائِدَة ] يُقَال : حَنِثَ فِي يَمِينه يَحْنَث إِذَا لَمْ يَبَرَّ بِهَا.
وَعِنْد الْكُوفِيِّينَ الْوَاو مُقْحَمَة أَيْ فَاضْرِبْ لَا تَحْنَثْ.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : قَوْله تَعَالَى :" فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ " يَدُلّ عَلَى أَحَد وَجْهَيْنِ : إِمَّا أَنْ يَكُون أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهِمْ كَفَّارَة، وَإِنَّمَا كَانَ الْبِرّ وَالْحِنْث.
وَالثَّانِي أَنْ يَكُون صَدَرَ مِنْهُ نَذْر لَا يَمِين وَإِذَا كَانَ النَّذْر مُعَيَّنًا فَلَا كَفَّارَة فِيهِ عِنْد مَالِك وَأَبِي حَنِيفَة.
وَقَالَ الشَّافِعِيّ : فِي كُلّ نَذْر كَفَّارَة.
قُلْت : قَوْل إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعهمْ كَفَّارَة لَيْسَ بِصَحِيحٍ ; فَإِنَّ أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا بَقِيَ فِي الْبَلَاء ثَمَان عَشْرَة سَنَة، كَمَا فِي حَدِيث اِبْن شِهَاب، قَالَ لَهُ صَاحِبَاهُ : لَقَدْ أَذْنَبْت ذَنْبًا مَا أَظُنّ أَحَدًا بَلَغَهُ.
فَقَالَ أَيُّوب صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَدْرِي مَا تَقُولَانِ، غَيْر أَنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ يَعْلَم أَنِّي كُنْت أَمُرُّ عَلَى الرَّجُلَيْنِ يَتَزَاعَمَانِ فَكُلٌّ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ، أَوْ عَلَى النَّفَر يَتَزَاعَمُونَ فَأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي، فَأُكَفِّر عَنْ أَيْمَانهمْ إِرَادَةَ أَلَّا يَأْثَم أَحَد يَذْكُرهُ وَلَا يَذْكُرهُ إِلَّا بِحَقٍّ فَنَادَى رَبّه " أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرّ وَأَنْتَ أَرْحَم الرَّاحِمِينَ " [ الْأَنْبِيَاء : ٨٣ ] وَذَكَرَ الْحَدِيث.
فَقَدْ أَفَادَك هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الْكَفَّارَة كَانَتْ مِنْ شَرْع أَيُّوب، وَأَنَّ مَنْ كَفَّرَ عَنْ غَيْره بِغَيْرِ إِذْنه فَقَدْ قَامَ بِالْوَاجِبِ عَنْهُ وَسَقَطَتْ عَنْهُ الْكَفَّارَة.
إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا
أَيْ عَلَى الْبَلَاء.
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
أَيْ تَوَّاب رَجَّاع مُطِيع.
وَسُئِلَ سُفْيَان عَنْ عَبْدَيْنِ اُبْتُلِيَ أَحَدهمَا فَصَبَرَ، وَأُنْعِمَ عَلَى الْآخَر فَشَكَرَ ; فَقَالَ : كِلَاهُمَا سَوَاء ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَثْنَى عَلَى عَبْدَيْنِ ; أَحَدُهُمَا صَابِر وَالْآخَر شَاكِر ثَنَاء وَاحِدًا ; فَقَالَ فِي وَصْف أَيُّوب :" نِعْمَ الْعَبْد إِنَّهُ أَوَّاب " وَقَالَ فِي وَصْفِ سُلَيْمَان :" نِعْمَ الْعَبْد إِنَّهُ أَوَّاب ".
قُلْت : وَقَدْ رَدَّ هَذَا الْكَلَامَ صَاحِبُ الْقُوت وَاسْتَدَلَّ بِقِصَّةِ أَيُّوب فِي تَفْضِيل الْفَقِير عَلَى الْغَنِيّ وَذَكَرَ كَلَامًا كَثِيرًا شَيَّدَ بِهِ كَلَامه، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْر هَذَا الْمَوْضِع مِنْ كِتَاب [ مَنْهَج الْعِبَاد وَمَحَجَّة السَّالِكِينَ وَالزُّهَّاد ].
وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ أَحَد الْأَغْنِيَاء مِنْ الْأَنْبِيَاء قَبْل الْبَلَاء وَبَعْده، وَإِنَّمَا اُبْتُلِيَ بِذَهَابِ مَاله وَوَلَده وَعَظِيم الدَّاء فِي جَسَده.
وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه عَلَيْهِمْ وَسَلَامه صَبَرُوا عَلَى مَا بِهِ اُمْتُحِنُوا وَفُتِنُوا.
فَأَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام دَخَلَ فِي الْبَلَاء عَلَى صِفَة، فَخَرَجَ مِنْهُ كَمَا دَخَلَ فِيهِ، وَمَا تَغَيَّرَ مِنْهُ حَال وَلَا مَقَال، فَقَدْ اِجْتَمَعَ مَعَ أَيُّوب فِي الْمَعْنَى الْمَقْصُود، وَهُوَ عَدَم التَّغَيُّر الَّذِي يَفْضُل فِيهِ بَعْض النَّاس بَعْضًا.
وَبِهَذَا الِاعْتِبَار يَكُون الْغَنِيّ الشَّاكِر وَالْفَقِير الصَّابِر سَوَاء.
وَهُوَ كَمَا قَالَ سُفْيَان.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَفِي حَدِيث اِبْن شِهَاب عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إِنَّ أَيُّوب خَرَجَ لِمَا كَانَ يَخْرُج إِلَيْهِ مِنْ حَاجَته فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ :" اُرْكُضْ بِرِجْلِك هَذَا مُغْتَسَل بَارِد وَشَرَاب " فَاغْتَسَلَ فَأَعَادَ اللَّه لَحْمه وَشَعْره وَبَشَرَهُ عَلَى أَحْسَن مَا كَانَ ثُمَّ شَرِبَ فَأَذْهَبَ اللَّه كُلّ مَا كَانَ فِي جَوْفه مِنْ أَلَم أَوْ ضَعْف وَأَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ مِنْ السَّمَاء أَبْيَضَيْنِ فَائْتَزَرَ بِأَحَدِهِمَا وَارْتَدَى بِالْآخَرِ ثُمَّ أَقْبَلَ يَمْشِي إِلَى مَنْزِله وَرَاثَ عَلَى اِمْرَأَته فَأَقْبَلَتْ حَتَّى لَقِيَتْهُ وَهِيَ لَا تَعْرِفهُ فَسَلَّمَتْ عَلَيْهِ وَقَالَتْ أَيْ يَرْحَمك اللَّه هَلْ رَأَيْت هَذَا الرَّجُل الْمُبْتَلَى ؟ قَالَ مَنْ هُوَ ؟ قَالَتْ نَبِيّ اللَّه أَيُّوب، أَمَا وَاَللَّه مَا رَأَيْت أَحَدًا قَطُّ أَشْبَهَ بِهِ مِنْك إِذْ كَانَ صَحِيحًا.
قَالَ فَإِنِّي أَيُّوب وَأَخَذَ ضِغْثًا فَضَرَبَهَا بِهِ ) فَزَعَمَ اِبْن شِهَاب أَنَّ ذَلِكَ الضِّغْث كَانَ ثُمَامًا.
وَرَدَّ اللَّه إِلَيْهِ أَهْله وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، فَأَقْبَلَتْ سَحَابَة حَتَّى سَجَلَتْ فِي أَنْدَر قَمْحه ذَهَبًا حَتَّى امْتَلَأَ، وَأَقْبَلَتْ سَحَابَة أُخْرَى إِلَى أَنْدَر شَعِيرِهِ وَقَطَّانِيهِ فَسَجَلَتْ فِيهِ وَرِقًا حَتَّى اِمْتَلَأَ.
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
قَرَأَ اِبْن عَبَّاس :" عَبْدَنَا " بِإِسْنَادٍ صَحِيح ; رَوَاهُ اِبْن عُيَيْنَة عَنْ عَمْرو عَنْ عَطَاء عَنْهُ، وَهِيَ قِرَاءَة مُجَاهِد وَحُمَيْد وَابْن مُحَيْصِن وَابْن كَثِير ; فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَة يَكُون " إِبْرَاهِيم " بَدَلًا مِنْ " عَبْدنَا " وَ " إِسْحَاق وَيَعْقُوب " عَطْف.
و الْقِرَاءَة بِالْجَمْعِ أَبْيَنُ، وَهِيَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد وَأَبِي حَاتِم، وَيَكُون " إِبْرَاهِيم " وَمَا بَعْده عَلَى الْبَدَل.
النَّحَّاس : وَشَرْح هَذَا مِنْ الْعَرَبِيَّة أَنَّك إِذَا قُلْت : رَأَيْت أَصْحَابنَا زَيْدًا وَعُمْرًا وَخَالِدًا، فَزَيْد وَعَمْرو وَخَالِد بَدَل وَهُمْ الْأَصْحَاب، وَإِذَا قُلْت رَأَيْت صَاحِبَنَا زَيْدًا وَعُمْرًا وَخَالِدًا فَزَيْد وَحْده بَدَل وَهُوَ صَاحِبُنَا، وَزَيْد وَعَمْرو عَطْف عَلَى صَاحِبنَا وَلَيْسَا بِدَاخِلَيْنِ فِي الْمُصَاحَبَة إِلَّا بِدَلِيلٍ غَيْر هَذَا، غَيْر أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّ قَوْله :" وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب " دَاخِل فِي الْعُبُودِيَّة.
وَقَدْ اِسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَة مَنْ قَالَ : إِنَّ الذَّبِيح إِسْحَاق لَا إِسْمَاعِيل، وَهُوَ الصَّحِيح عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَاب [ الْإِعْلَام بِمَوْلِدِ النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلَام ]
أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ
قَالَ النَّحَّاس : أَمَّا " الْأَبْصَار " فَمُتَّفَق عَلَى تَأْوِيلهَا أَنَّهَا الْبَصَائِر فِي الدِّين وَالْعِلْم.
وَأَمَّا " الْأَيْدِي " فَمُخْتَلَف فِي تَأْوِيلهَا ; فَأَهْل التَّفْسِير يَقُولُونَ : إِنَّهَا الْقُوَّة فِي الدِّين.
وَقَوْم يَقُولُونَ :" الْأَيْدِي " جَمْع يَد وَهِيَ النِّعْمَة ; أَيْ هُمْ أَصْحَاب النِّعَم ; أَيْ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِمْ.
وَقِيلَ : هُمْ أَصْحَاب النِّعَم وَالْإِحْسَان ; لِأَنَّهُمْ قَدْ أَحْسَنُوا وَقَدَّمُوا خَيْرًا.
وَهَذَا اخْتِيَار الطَّبَرِيّ.
إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ
قِرَاءَة الْعَامَّة " بِخَالِصَةٍ " مُنَوَّنَة وَهِيَ اِخْتِيَار أَبِي عُبَيْد وَأَبِي حَاتِم.
وَقَرَأَ نَافِع وَشَيْبَة وَأَبُو جَعْفَر وَهِشَام عَنْ اِبْن عَامِر " بِخَالِصَةِ ذِكْرَى الدَّار " بِالْإِضَافَةِ فَمَنْ نَوَّنَ خَالِصَة فَـ " ذِكْرَى الدَّار " بَدَل مِنْهَا ; التَّقْدِير إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِأَنْ يَذْكُرُوا الدَّار الْآخِرَة وَيَتَأَهَّبُوا لَهَا وَيَرْغَبُوا فِيهَا وَيُرَغِّبُوا النَّاس فِيهَا.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون " خَالِصَة " مَصْدَرًا لِخَلَصَ وَ " ذِكْرَى " فِي مَوْضِع رَفْع بِأَنَّهَا فَاعِلَة، وَالْمَعْنَى أَخْلَصْنَاهُمْ بِأَنْ خَلَصَتْ لَهُمْ ذِكْرَى الدَّار ; أَيْ تَذْكِير الدَّار الْآخِرَة.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون " خَالِصَة " مَصْدَرًا لِأَخْلَصْت فَحُذِفَتْ الزِّيَادَة، فَيَكُون " ذِكْرَى " عَلَى هَذَا فِي مَوْضِع نَصْب، التَّقْدِير : بِأَنْ أَخْلَصُوا ذِكْرَى الدَّار.
وَالدَّار يَجُوز أَنْ يُرَاد بِهَا الدُّنْيَا ; أَيْ لِيَتَذَكَّرُوا الدُّنْيَا وَيَزْهَدُوا فِيهَا، وَلِتَخْلُصَ لَهُمْ بِالثَّنَاءِ الْحَسَن عَلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :" وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَان صِدْق عَلِيًّا " [ مَرْيَم : ٥٠ ] وَيَجُوز أَنْ يُرَاد بِهَا الدَّار الْآخِرَة وَتَذْكِير الْخَلْق بِهَا.
وَمَنْ أَضَافَ خَالِصَة إِلَى الدَّار فَهِيَ مَصْدَر بِمَعْنَى الْإِخْلَاص، وَالذِّكْرَى مَفْعُول بِهِ أُضِيفَ إِلَيْهِ الْمَصْدَر ; أَيْ بِإِخْلَاصِهِمْ ذِكْرَى الدَّار.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَصْدَر مُضَافًا إِلَى الْفَاعِل وَالْخَالِصَة مَصْدَر بِمَعْنَى الْخُلُوص ; أَيْ بِأَنْ خَلَصَتْ لَهُمْ ذِكْرَى الدَّار، وَهِيَ الدَّار الْآخِرَة أَوْ الدُّنْيَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
وَقَالَ اِبْن زَيْد : مَعْنَى أَخْلَصْنَاهُمْ أَيْ بِذِكْرِ الْآخِرَة ; أَيْ يَذْكُرُونَ الْآخِرَة وَيَرْغَبُونَ فِيهَا وَيَزْهَدُونَ فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ مُجَاهِد : الْمَعْنَى إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِأَنْ ذَكَرْنَا الْجَنَّة لَهُمْ.
وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ
أَيْ الَّذِينَ اِصْطَفَاهُمْ مِنْ الْأَدْنَاس وَاخْتَارَهُمْ لِرِسَالَتِهِ وَمُصْطَفَيْنَ جَمْع مُصْطَفَى وَالْأَصْل مُصْتَفَى وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ] عِنْد قَوْله :" إِنَّ اللَّه اِصْطَفَى لَكُمْ الدِّين " [ الْبَقَرَة : ١٣٢ ] " وَالْأَخْيَار " جَمْع خَيْر.
وَقَرَأَ الْأَعْمَش وَعَبْد الْوَارِث وَالْحَسَن وَعِيسَى الثَّقَفِيّ " أُولِي الْأَيْدِ " بِغَيْرِ يَاء فِي الْوَصْل وَالْوَقْف عَلَى مَعْنَى أُولِي الْقُوَّة فِي طَاعَة اللَّه.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون كَمَعْنَى قِرَاءَة الْجَمَاعَة وَحَذْف الْيَاء تَخْفِيفًا.
وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ
وَقَرَأَ أَهْل الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو عَمْرو وَعَاصِم " وَاَلْيَسَع " بِلَامٍ مُخَفَّفَةٍ.
وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ إِلَّا عَاصِمًا " وَاَلْيَسَع ".
وَكَذَا قَرَأَ الْكِسَائِيّ، وَرَدَّ قِرَاءَة مَنْ قَرَأَ " وَاَلْيَسْع " قَالَ : لِأَنَّهُ لَا يُقَال الْيَفْعَل مِثْل الْيَحْيَى.
قَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا الرَّدّ لَا يَلْزَم، وَالْعَرَب تَقُول : الْيَعْمَل وَالْيَحْمَد، وَلَوْ نَكَّرْت يَحْيَى لَقُلْت الْيَحْيَى.
وَرَدَّ أَبُو حَاتِم عَلَى مَنْ قَرَأَ " اللَّيْسَع " وَقَالَ : لَا يُوجَد لَيْسَع.
وَقَالَ النَّحَّاس : وَهَذَا الرَّدّ لَا يَلْزَم، فَقَدْ جَاءَ فِي كَلَام الْعَرَب حَيْدَر وَزَيْنَب، وَالْحَقّ فِي هَذَا أَنَّهُ اِسْم أَعْجَمِيّ، وَالْعُجْمَة لَا تُؤْخَذ بِالْقِيَاسِ إِنَّمَا تُؤْخَذ سَمَاعًا وَالْعَرَب تُغَيِّرُهَا كَثِيرًا، فَلَا يُنْكَر أَنْ يَأْتِي الِاسْم بِلُغَتَيْنِ.
قَالَ مَكِّيّ : مَنْ قَرَأَ بِلَامَيْنِ فَأَصْل الِاسْم لَيْسَع، ثُمَّ دَخَلَتْ الْأَلِف وَاللَّام لِلتَّعْرِيفِ.
وَلَوْ كَانَ أَصْله يَسَع مَا دَخَلَتْهُ الْأَلِف وَاللَّام ; إِذْ لَا يَدْخُلَانِ عَلَى يَزِيد وَيَشْكُر : اِسْمَيْنِ لِرَجُلَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا مَعْرِفَتَانِ عَلَمَانِ.
فَأَمَّا " لَيْسَع " نَكِرَةً فَتَدْخُلهُ الْأَلِف وَاللَّام لِلتَّعْرِيفِ، وَالْقِرَاءَة بِلَامٍ وَاحِدَة أَحَبُّ إِلَيَّ ; لِأَنَّ أَكْثَر الْقُرَّاء عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ : مَنْ قَرَأَ " الْيَسَع " بِلَامٍ وَاحِدَة فَالِاسْم يَسَع، وَدَخَلَتْ الْأَلِف وَاللَّام زَائِدَتَيْنِ، كَزِيَادَتِهِمَا فِي نَحْو الْخَمْسَة عَشَرَ، وَفِي نَحْو قَوْل :
وَجَدْنَا الْيَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ مُبَارَكًا شَدِيدًا بِأَعْبَاءِ الْخِلَافَةِ كَاهِلُهْ
وَقَدْ زَادُوهَا فِي الْفِعْل الْمُضَارِع نَحْو قَوْلِه :
فَيَسْتَخْرِجُ الْيَرْبُوعَ مِنْ نَافِقَائِهِ وَمِنْ بَيْتِهِ بِالشَّيْخَةِ الْيَتَقَصَّعُ
يُرِيد الَّذِي يَتَقَصَّعُ.
قَالَ الْقُشَيْرِيّ : قُرِئَ بِتَخْفِيفِ اللَّام وَالتَّشْدِيد.
وَالْمَعْنَى وَاحِد فِي أَنَّهُ اِسْم لِنَبِيٍّ مَعْرُوف ; مِثْل إِسْمَاعِيل وَإِبْرَاهِيم، وَلَكِنْ خَرَجَ عَمَّا عَلَيْهِ الْأَسْمَاء الْأَعْجَمِيَّة بِإِدْخَالِ الْأَلِف وَاللَّام.
وَتَوَهَّمَ قَوْم أَنَّ الْيَسَعَ هُوَ إِلْيَاس، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَفْرَدَ كُلّ وَاحِد بِالذِّكْرِ.
وَقَالَ وَهْب : الْيَسَع هُوَ صَاحِب إِلْيَاس، وَكَانَا قَبْل زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى.
وَقِيلَ : إِلْيَاس هُوَ إِدْرِيس وَهَذَا غَيْر صَحِيح لِأَنَّ إِدْرِيس جَدّ نُوح وَإِلْيَاس مِنْ ذُرِّيَّته.
وَقِيلَ : إِلْيَاس هُوَ الْخَضِر.
وَقِيلَ : لَا، بَلْ الْيَسَع هُوَ الْخَضِر.
" وَذَا الْكِفْل " خَرَّجَ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم فِي نَوَادِر الْأُصُول وَغَيْره مِنْ حَدِيث اِبْن عُمَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيل رَجُل يُقَال لَهُ ذُو الْكِفْل لَا يَتَوَرَّع مِنْ ذَنْب عَمِلَهُ فَاتَّبَعَ اِمْرَأَة فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارًا عَلَى أَنْ يَطَأَهَا فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَد الرَّجُل مِنْ اِمْرَأَته اِرْتَعَدَتْ وَبَكَتْ فَقَالَ مَا يُبْكِيك قَالَتْ مِنْ هَذَا الْعَمَل وَاَللَّهِ مَا عَمِلْته قَطُّ قَالَ أَأَكْرَهْتُك قَالَتْ لَا وَلَكِنْ حَمَلَنِي عَلَيْهِ الْحَاجَة قَالَ اِذْهَبِي فَهُوَ لَك وَاَللَّه لَا أَعْصِي اللَّه بَعْدهَا أَبَدًا ثُمَّ مَاتَ مِنْ لَيْلَته فَوَجَدُوا مَكْتُوبًا عَلَى بَاب دَاره إِنَّ اللَّه قَدْ غَفَرَ لِذِي الْكِفْل ) وَخَرَّجَهُ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ أَيْضًا وَلَفْظه.
اِبْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا قَالَ : سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّث حَدِيثًا لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا مَرَّة أَوْ مَرَّتَيْنِ - حَتَّى عَدَّ سَبْع مَرَّات - لَمْ أُحَدِّث بِهِ وَلَكِنِّي سَمِعَتْهُ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ ; سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( كَانَ ذُو الْكِفْل مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل لَا يَتَوَرَّعُ مِنْ ذَنْب عَمِلَهُ فَأَتَتْهُ اِمْرَأَة فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارًا عَلَى أَنْ يَطَأهَا فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَد الرَّجُل مِنْ اِمْرَأَته اِرْتَعَدَتْ وَبَكَتْ فَقَالَ مَا يُبْكِيك أَأَكْرَهْتُك قَالَتْ لَا وَلَكِنَّهُ عَمَل مَا عَمِلْته قَطُّ وَمَا حَمَلَنِي عَلَيْهِ إِلَّا الْحَاجَة فَقَالَ تَفْعَلِينَ أَنْتِ هَذَا وَمَا فَعَلْتِهِ اِذْهَبِي فَهِيَ لَكِ وَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَعْصِي اللَّه بَعْدهَا أَبَدًا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَته فَأَصْبَحَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابه إِنَّ اللَّه قَدْ غَفَرَ لِذِي الْكِفْل ) قَالَ : حَدِيث حَسَن.
وَقِيلَ إِنَّ الْيَسَع لَمَّا كَبِرَ قَالَ : لَوْ اِسْتَخْلَفْت رَجُلًا عَلَى النَّاس أَنْظُر كَيْف يَعْمَل.
فَقَالَ : مَنْ يَتَكَفَّل لِي بِثَلَاثٍ : بِصِيَامِ النَّهَار وَقِيَام اللَّيْل وَأَلَّا يَغْضَب وَهُوَ يَقْضِي ؟ فَقَالَ رَجُل مِنْ ذُرِّيَّة العيص : أَنَا ; فَرَدَّهُ ثُمَّ قَالَ مِثْلهَا مِنْ الْغَد ; فَقَالَ الرَّجُل : أَنَا ; فَاسْتَخْلَفَهُ فَوَفَّى فَأَثْنَى اللَّه عَلَيْهِ فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْل ; لِأَنَّهُ تَكَفَّلَ بِأَمْرٍ ; قَالَ أَبُو مُوسَى وَمُجَاهِد وَقَتَادَة.
وَقَالَ عَمْرو بْن الرَّحْمَن بْن الْحَارِث وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ ذَا الْكِفْل لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَلَكِنَّهُ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا فَتَكَفَّلَ بِعَمَلِ رَجُل صَالِح عِنْد مَوْته، وَكَانَ يُصَلِّي لِلَّهِ كُلّ يَوْم مِائَة صَلَاة فَأَحْسَنَ اللَّه الثَّنَاء عَلَيْهِ قَالَ كَعْب : كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيل مَلِك كَافِر فَمَرَّ بِبِلَادِهِ رَجُل صَالِح فَقَالَ : وَاَللَّهِ إِنْ خَرَجْت مِنْ هَذِهِ الْبِلَاد حَتَّى أَعْرِض عَلَى هَذَا الْمَلِك الْإِسْلَام.
فَعَرَضَ عَلَيْهِ فَقَالَ : مَا جَزَائِي ؟ قَالَ : الْجَنَّة - وَوَصَفَهَا لَهُ - قَالَ : مَنْ يَتَكَفَّل لِي بِذَلِكَ ؟ قَالَ : أَنَا فَأَسْلَمَ الْمَلِك وَتَخَلَّى عَنْ الْمَمْلَكَة وَأَقْبَلَ عَلَى طَاعَة رَبّه حَتَّى مَاتَ، فَدُفِنَ فَأَصْبَحُوا فَوَجَدُوا يَده خَارِجَة مِنْ الْقَبْر وَفِيهَا رُقْعَة خَضْرَاء مَكْتُوب فِيهَا بِنُور أَبْيَض : إِنَّ اللَّه قَدْ غَفَرَ لِي وَأَدْخَلَنِي الْجَنَّة وَوَفَّى عَنْ كَفَالَة فُلَان فَأَسْرَعَ النَّاس إِلَى ذَلِكَ الرَّجُل بِأَنْ يَأْخُذ عَلَيْهِمْ الْإِيمَان، وَيَتَكَفَّل لَهُمْ بِمَا تَكَفَّلَ بِهِ لِلْمَلِكِ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَآمَنُوا كُلّهمْ فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْل.
وَقِيلَ : كَانَ رَجُلًا عَفِيفًا يَتَكَفَّل بِشَأْنِ كُلّ إِنْسَان وَقَعَ فِي بَلَاء أَوْ تُهْمَة أَوْ مُطَالَبَة فَيُنْجِيهِ اللَّه عَلَى يَدَيْهِ.
وَقِيلَ : سُمِّيَ ذَا الْكِفْل لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى تَكَفَّلَ لَهُ فِي سَعْيه وَعَمَله بِضِعْفِ عَمَل غَيْره مِنْ الْأَنْبِيَاء الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانه.
وَالْجُمْهُور عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ.
وَقَالَ الْحَسَن : هُوَ نَبِيّ قَبْل إِلْيَاس.
وَقِيلَ : هُوَ زَكَرِيَّا بِكَفَالَةِ مَرْيَم.
وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ
أَيْ مِمَّنْ اُخْتِيرَ لِلنُّبُوَّةِ.
هَذَا ذِكْرٌ
بِمَعْنَى هَذَا ذِكْر جَمِيل فِي الدُّنْيَا وَشَرَف يَذْكُرُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا أَبَدًا.
وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ
أَيْ لَهُمْ مَعَ هَذَا الذِّكْر الْجَمِيل فِي الدُّنْيَا حُسْن الْمَرْجِع فِي الْقِيَامَة.
جَنَّاتِ عَدْنٍ
وَالْعَدْن فِي اللُّغَة الْإِقَامَة ; يُقَال : عَدَنَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ.
وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر : إِنَّ فِي الْجَنَّة قَصْرًا يُقَال لَهُ عَدْن حَوْله الْبُرُوج وَالْمُرُوج فِيهِ خَمْسَة آلَاف بَاب عَلَى كُلّ بَاب خَمْسَة آلَاف حَبَرَة لَا يَدْخُلهُ إِلَّا نَبِيّ أَوْ صِدِّيق أَوْ شَهِيد.
مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ
" مُفَتَّحَة " حَال " لَهُمْ الْأَبْوَاب " رُفِعَتْ الْأَبْوَاب لِأَنَّهُ اِسْم مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِله.
قَالَ الزَّجَّاج : أَيْ مُفَتَّحَة لَهُمْ الْأَبْوَاب مِنْهَا.
وَقَالَ الْفَرَّاء : مُفَتَّحَة لَهُمْ أَبْوَابهَا.
وَأَجَازَ الْفَرَّاء :" مُفَتَّحَةً لَهُمْ الْأَبْوَاب " بِالنَّصْبِ.
قَالَ الْفَرَّاء : أَيْ مُفَتَّحَة الْأَبْوَاب ثُمَّ جِئْت بِالتَّنْوِينِ فَنَصَبْت.
وَأَنْشَدَ هُوَ وَسِيبَوَيْهِ :
وَنَأْخُذُ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ أَجَبَّ الظَّهْرِ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ
وَإِنَّمَا قَالَ :" مُفَتَّحَة " وَلَمْ يَقُلْ مَفْتُوحَة ; لِأَنَّهَا تُفْتَح لَهُمْ بِالْأَمْرِ لَا بِالْمَسِّ.
قَالَ الْحَسَن : تُكَلَّم : اِنْفَتِحِي فَتَنْفَتِح اِنْغَلِقِي فَتَنْغَلِق.
وَقِيلَ : تَفْتَح لَهُمْ الْمَلَائِكَة الْأَبْوَاب.
مُتَّكِئِينَ فِيهَا
هُوَ حَال قُدِّمَتْ عَلَى الْعَامِل فِيهَا وَهُوَ قَوْله :" يَدْعُونَ فِيهَا "
يَدْعُونَ فِيهَا
أَيْ يَدْعُونَ فِي الْجَنَّات مُتَّكِئِينَ فِيهَا.
بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ
أَيْ بِأَلْوَانِ الْفَوَاكِه
وَشَرَابٍ
أَيْ وَشَرَاب كَثِير فَحُذِفَ لِدَلَالَةِ الْكَلَام عَلَيْهِ.
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ
أَيْ عَلَى أَزْوَاجهنَّ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرهمْ ; وَقَد مَضَى فِي الصَّافَات.
أَتْرَابٌ
أَيْ عَلَى سِنّ وَاحِد.
وَمِيلَاد اِمْرَأَة وَاحِدَة، وَقَدْ تَسَاوَيْنَ فِي الْحُسْن وَالشَّبَاب، بَنَات ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سَنَة.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : يُرِيد الْآدَمِيَّات.
وَ " أَتْرَاب " جَمْع تِرْب وَهُوَ نَعْت لِقَاصِرَاتٍ ; لِأَنَّ " قَاصِرَات " نَكِرَة وَإِنْ كَانَ مُضَافًا إِلَى الْمَعْرِفَة.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَلِف وَاللَّام يَدْخُلَانِهِ كَمَا قَالَ :
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ
أَيْ هَذَا الْجَزَاء الَّذِي وُعِدْتُمْ بِهِ.
وَقِرَاءَة الْعَامَّة بِالتَّاءِ أَيْ مَا تُوعَدُونَ أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ.
وَقَرَأَ اِبْن كَثِير وَابْن مُحَيْصِن وَأَبُو عَمْرو وَيَعْقُوب بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَر، وَهِيَ قِرَاءَة السُّلَمِيّ وَاخْتِيَار أَبِي عُبَيْد وَأَبِي حَاتِم ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآب " فَهُوَ خَبَر.
" لِيَوْمِ الْحِسَاب " أَيْ فِي يَوْم الْحِسَاب، قَالَ الْأَعْشَى :
مِنْ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ مِنْ الذَّرِّ فَوْق الْإِتْبِ مِنْهَا لَأَثَّرَا
الْمُهِينِينَ مَا لَهُمْ لِزَمَانِ السُّوءِ حَتَّى إِذَا أَفَاقَ أَفَاقُوا
أَيْ فِي زَمَان السُّوء.
إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ
دَلِيل عَلَى أَنَّ نَعِيم الْجَنَّة دَائِم لَا يَنْقَطِع ; كَمَا قَالَ :" عَطَاء غَيْر مَجْذُوذ " [ هُود : ١٠٨ ] وَقَالَ :" لَهُمْ أَجْر غَيْر مَمْنُون " [ التِّين : ٦ ].
هَذَا
لَمَّا ذَكَرَ مَا لِلْمُتَّقِينَ ذَكَرَ مَا لِلطَّاغِينَ قَالَ الزَّجَّاج :" هَذَا " خَبَر اِبْتِدَاء مَحْذُوف أَيْ الْأَمْر هَذَا فَيُوقَف عَلَى " هَذَا " قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ :" هَذَا " وَقْف حَسَن.
وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ
ثُمَّ تَبْتَدِئ " وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ " وَهُمْ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُل.
لَشَرَّ مَآبٍ
أَيْ مُنْقَلَب يَصِيرُونَ إِلَيْهِ.
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ
أَيْ بِئْسَ مَا مَهَّدُوا لِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ بِئْسَ الْفِرَاش لَهُمْ.
وَمِنْهُ مَهْد الصَّبِيّ.
وَقِيلَ : فِيهِ حَذْف أَيْ بِئْسَ مَوْضِع الْمِهَاد.
وَقِيلَ : أَيْ هَذَا الَّذِي وَصَفْت لِهَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ، ثُمَّ قَالَ : وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَرْجِع فَيُوقَف عَلَى " هَذَا " أَيْضًا.
هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ
" هَذَا " فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَره " حَمِيم " عَلَى التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير ; أَيْ هَذَا حَمِيم وَغَسَّاق فَلْيَذُوقُوهُ.
وَلَا يُوقَف عَلَى " فَلْيَذُوقُوهُ " وَيَجُوز أَنْ يَكُون " هَذَا " فِي مَوْضِع رَفْع بِالِابْتِدَاءِ وَ " فَلْيَذُوقُوهُ " فِي مَوْضِع الْخَبَر، وَدَخَلَتْ الْفَاء لِلتَّنْبِيهِ الَّذِي فِي " هَذَا " فَيُوقَف عَلَى " فَلْيَذُوقُوهُ " وَيَرْتَفِع " حَمِيم " عَلَى تَقْدِير هَذَا حَمِيم.
قَالَ النَّحَّاس : وَيَجُوز أَنْ يَكُون الْمَعْنَى الْأَمْر هَذَا، وَحَمِيم وَغَسَّاق إِذَا لَمْ تَجْعَلهُمَا خَبَرًا فَرَفْعهمَا عَلَى مَعْنَى هُوَ حَمِيم وَغَسَّاق.
وَالْفَرَّاء يَرْفَعُهُمَا بِمَعْنَى مِنْهُ حَمِيم وَمِنْهُ غَسَّاق وَأَنْشَدَ :
حَتَّى إِذَا مَا أَضَاءَ الصُّبْحُ فِي غَلَسٍ وَغُودِرَ الْبَقْلُ مَلْوِيٌّ وَمَحْصُودُ
وَقَالَ آخَر :
لَهَا مَتَاعٌ وَأَعْوَانٌ غَدَوْنَ بِهِ قِتْبٌ وَغَرْبٌ إِذَا مَا أُفْرِغَ اِنْسَحَقَا
وَيَجُوز أَنْ يَكُون " هَذَا " فِي مَوْضِع نَصْب بِإِضْمَارِ فِعْل يُفَسِّرهُ " فَلْيَذُوقُوهُ " كَمَا تَقُول زَيْدًا اِضْرِبْهُ.
وَالنَّصْب فِي هَذَا أَوْلَى فَيُوقَف عَلَى " فَلْيَذُوقُوهُ " وَتَبْتَدِئ " حَمِيم وَغَسَّاق " عَلَى تَقْدِير الْأَمْر حَمِيم وَغَسَّاق.
وَقِرَاءَة أَهْل الْمَدِينَة وَأَهْل الْبَصْرَة وَبَعْض الْكُوفِيِّينَ بِتَخْفِيفِ السِّين فِي " وَغَسَّاق ".
وَقَرَأَ يَحْيَى بْن وَثَّاب وَالْأَعْمَش وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ " وَغَسَّاق " بِالتَّشْدِيدِ، وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِد فِي قَوْل الْأَخْفَش.
وَقِيلَ : مَعْنَاهُمَا مُخْتَلِف ; فَمَنْ خَفَّفَ فَهُوَ اِسْم مِثْل عَذَاب وَجَوَاب وَصَوَاب، وَمَنْ شَدَّدَ قَالَ : هُوَ اِسْم فَاعِل نُقِلَ إِلَى فَعَّال لِلْمُبَالَغَةِ، نَحْو ضَرَّاب وَقَتَّال وَهُوَ فَعَّال مِنْ غَسَقَ يَغْسِقُ فَهُوَ غَسَّاق وَغَاسِق.
قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ الزَّمْهَرِيرُ يُخَوِّفُهُمْ بِبَرْدِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِد وَمُقَاتِل : هُوَ الثَّلْج الْبَارِد الَّذِي قَدْ اِنْتَهَى بَرْدُهُ.
وَقَالَ غَيْرهمَا.
إِنَّهُ يُحْرِق بِبَرْدِهِ كَمَا يُحْرِق الْحَمِيم بِحَرِّهِ.
وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو : هُوَ قَيْح غَلِيظ لَوْ وَقَعَ مِنْهُ شَيْء بِالْمَشْرِقِ لَأَنْتَنَ مَنْ فِي الْمَغْرِب، وَلَوْ وَقَعَ مِنْهُ شَيْء فِي الْمَغْرِب لَأَنْتَنَ مَنْ فِي الْمَشْرِق.
وَقَالَ قَتَادَة : هُوَ مَا يَسِيل مِنْ فُرُوج الزُّنَاة وَمِنْ نَتْنِ لُحُوم الْكَفَرَة وَجُلُودهمْ مِنْ الصَّدِيد وَالْقَيْح وَالنَّتْنِ.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن كَعْب : هُوَ عُصَارَة أَهْل النَّار.
وَهَذَا الْقَوْل أَشْبَهُ بِاللُّغَةِ ; يُقَال : غَسَقَ الْجُرْح يَغْسِقُ غَسْقًا إِذَا خَرَجَ مِنْهُ مَاء أَصْفَر ; قَالَ الشَّاعِر :
إِذَا مَا تَذَكَّرْت الْحَيَاةَ وَطِيبَهَا إِلَيَّ جَرَى دَمْعٌ مِنْ اللَّيْلِ غَاسِق
أَيْ بَارِد.
وَيُقَال : لَيْل غَاسِق ; لِأَنَّهُ أَبْرَدُ مِنْ النَّهَار.
وَقَالَ السُّدِّيّ : الْغَسَّاق الَّذِي يَسِيل مِنْ أَعْيُنهمْ وَدُمُوعهمْ يُسْقَوْنَهُ مَعَ الْحَمِيم.
وَقَالَ اِبْن زَيْد : الْحَمِيم دُمُوع أَعْيُنهمْ، يُجْمَع فِي حِيَاض النَّار فَيُسْقَوْنَهُ، وَالصَّدِيد الَّذِي يَخْرُج مِنْ جُلُودهمْ.
وَالِاخْتِيَار عَلَى هَذَا " وَغَسَّاق " حَتَّى يَكُون مِثْل سَيَّال.
وَقَالَ كَعْب : الْغَسَّاق عَيْن فِي جَهَنَّم يَسِيل إِلَيْهَا سَمُّ كُلّ ذِي حُمَّة مِنْ عَقْرَب وَحَيَّة.
وَقِيلَ : هُوَ مَأْخُوذ مِنْ الظُّلْمَة وَالسَّوَاد.
وَالْغَسَق أَوَّل ظُلْمَة اللَّيْل، وَقَدْ غَسَقَ اللَّيْل يَغْسِق إِذَا أَظْلَمَ.
وَفِي التِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ ( لَوْ أَنَّ دَلْوًا مِنْ غَسَّاق يُهْرَاق فِي الدُّنْيَا لَأَنْتَنَ أَهْل الدُّنْيَا ).
قُلْت : وَهَذَا أَشْبَه عَلَى الِاشْتِقَاق الْأَوَّل كَمَا بَيَّنَّا، إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْغَسَّاق مَعَ سَيَلَانه أَسْوَد مُظْلِمًا فَيَصِحّ الِاشْتِقَاقَانِ.
وَاَللَّه أَعْلَم.
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ
قَرَأَ أَبُو عَمْرو :" وَأُخَر " جَمْع أُخْرَى مِثْل الْكُبْرَى وَالْكُبَر.
الْبَاقُونَ :" وَآخَر " مُفْرَد مُذَكَّر.
وَأَنْكَرَ أَبُو عَمْرو " وَآخَر " لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" أَزْوَاج " أَيْ لَا يُخْبَرُ بِوَاحِدٍ عَنْ جَمَاعَة.
وَأَنْكَرَ عَاصِم الْجَحْدَرِيّ " وَأُخَر " قَالَ : وَلَوْ كَانَتْ " وَأُخَر " لَكَانَ مِنْ شَكْلهَا.
وَكِلَا الرَّدَّيْنِ لَا يَلْزَم وَالْقِرَاءَتَانِ صَحِيحَتَانِ.
" وَآخَر " أَيْ وَعَذَاب آخَر سِوَى الْحَمِيم وَالْغَسَّاق.
" مِنْ شَكْله " قَالَ قَتَادَة : مِنْ نَحْوه.
قَالَ اِبْن مَسْعُود : هُوَ الزَّمْهَرِير.
وَارْتَفَعَ " وَآخَرُ " بِالِابْتِدَاءِ وَ " أَزْوَاجٌ " مُبْتَدَأ ثَانٍ وَ " مِنْ شَكْله " خَبَره وَالْجُمْلَة خَبَر " آخَر ".
وَيَجُوز أَنْ يَكُون " وَآخَر " مُبْتَدَأ وَالْخَبَر مُضْمَر دَلَّ عَلَيْهِ " هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيم وَغَسَّاق " لِأَنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَهُمْ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَلَهُمْ آخَر وَيَكُون " مِنْ شَكْله أَزْوَاج " صِفَة لِآخَر فَالْمُبْتَدَأ مُتَخَصِّص بِالصِّفَةِ وَ " أَزْوَاج " مَرْفُوع بِالظَّرْفِ.
وَمَنْ قَرَأَ " وَأُخَر " أَرَادَ وَأَنْوَاع مِنْ الْعَذَاب أُخَرُ، وَمَنْ جَمَعَ وَهُوَ يُرِيد الزَّمْهَرِير فَعَلَى أَنَّهُ جَعَلَ الزَّمْهَرِير أَجْنَاسًا فَجُمِعَ لِاخْتِلَافِ الْأَجْنَاس.
أَوْ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ جُزْء مِنْهُ زَمْهَرِيرًا ثُمَّ جُمِعَ كَمَا قَالُوا : شَابَتْ مَفَارِقُهُ.
أَوْ عَلَى أَنَّهُ جَمْع لِمَا فِي الْكَلَام مِنْ الدَّلَالَة عَلَى جَوَاز الْجَمْع ; لِأَنَّهُ جَعَلَ الزَّمْهَرِير الَّذِي هُوَ نِهَايَة الْبَرْد بِإِزَاءِ الْجَمْع فِي قَوْل :" هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيم وَغَسَّاق " وَالضَّمِير فِي " شَكْله " يَجُوز أَنْ يَعُود عَلَى الْحَمِيم أَوْ الْغَسَّاق.
أَوْ عَلَى مَعْنَى " وَآخَر مِنْ شَكْله " مَا ذَكَرْنَا، وَرُفِعَ " أُخَر " عَلَى قِرَاءَة الْجَمْع بِالِابْتِدَاءِ وَ " مِنْ شَكْله " صِفَة لَهُ وَفِيهِ ذِكْر يَعُود عَلَى الْمُبْتَدَإِ وَ " أَزْوَاج " خَبَر الْمُبْتَدَإِ.
وَلَا يَجُوز أَنْ يُحْمَل عَلَى تَقْدِير وَلَهُمْ أُخَر وَ " مِنْ شَكْله " صِفَة لِأُخَرَ وَ " أَزْوَاج " مُرْتَفِعَة بِالظَّرْفِ كَمَا جَازَ فِي الْإِفْرَاد ; لِأَنَّ الصِّفَة لَا ضَمِير فِيهَا مِنْ حَيْثُ اِرْتَفَعَ " أَزْوَاج " مُفْرَد، قَالَهُ أَبُو عَلِيّ.
وَ " أَزْوَاج " أَيْ أَصْنَاف وَأَلْوَان مِنْ الْعَذَاب.
وَقَالَ يَعْقُوب : الشَّكْل بِالْفَتْحِ الْمِثْل وَبِالْكَسْرِ الدَّلّ.
هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : هُوَ أَنَّ الْقَادَة إِذَا دَخَلُوا النَّار ثُمَّ دَخَلَ بَعْدهمْ الْأَتْبَاع، قَالَتْ الْخَزَنَة لِلْقَادَةِ :" هَذَا فَوْج " يَعْنِي الْأَتْبَاع وَالْفَوْج الْجَمَاعَة " مُقْتَحِم مَعَكُمْ " أَيْ دَاخِل النَّار مَعَكُمْ ; فَقَالَتْ السَّادَة :" لَا مَرْحَبًا بِهِمْ "
لَا مَرْحَبًا بِهِمْ
أَيْ لَا اِتَّسَعَتْ مَنَازِلهمْ فِي النَّار.
وَالرَّحْب السَّعَة، وَمِنْهُ رَحْبَةُ الْمَسْجِد وَغَيْره.
وَهُوَ فِي مَذْهَب الدُّعَاء فَلِذَلِكَ نُصِبَ ; قَالَ النَّابِغَة :
لَا مَرْحَبًا بِغَدٍ وَلَا أَهْلًا بِهِ إِنْ كَانَ تَفْرِيقُ الْأَحِبَّةِ فِي غَدٍ
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة الْعَرَب تَقُول : لَا مَرْحَبًا بِك ; أَيْ لَا رَحُبَتْ عَلَيْك الْأَرْض وَلَا اِتَّسَعَتْ.
إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ
قِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل الْقَادَة، أَيْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّار كَمَا صَلَيْنَاهَا.
وَقِيلَ : هُوَ مِنْ قَوْل الْمَلَائِكَة مُتَّصِل بِقَوْلِهِمْ :" هَذَا فَوْج مُقْتَحِم مَعَكُمْ "
قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ
هُوَ مِنْ قَوْل الْأَتْبَاع وَحَكَى النَّقَّاش : أَنَّ الْفَوْج الْأَوَّل قَادَة الْمُشْرِكِينَ وَمُطْعِمُوهُمْ يَوْم بَدْر، وَالْفَوْج الثَّانِي أَتْبَاعُهُمْ بِبَدْرٍ وَالظَّاهِر مِنْ الْآيَة أَنَّهَا عَامَّة فِي كُلّ تَابِع وَمَتْبُوع.
أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا
أَيْ دَعَوْتُمُونَا إِلَى الْعِصْيَان
فَبِئْسَ الْقَرَارُ
لَنَا وَلَكُمْ
قَالُوا
يَعْنِي الْأَتْبَاع
رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا
قَالَ الْفَرَّاء : مَنْ سَوَّغَ لَنَا هَذَا وَسَنَّهُ وَقَالَ غَيْره مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا الْعَذَاب بِدُعَائِهِ إِيَّانَا إِلَى الْمَعَاصِي
فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ
وَعَذَابًا بِدُعَائِهِ إِيَّانَا فَصَارَ ذَلِكَ ضِعْفًا.
وَقَالَ اِبْن مَسْعُود : مَعْنَى عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّار الْحَيَّات وَالْأَفَاعِي.
وَنَظِير هَذِهِ الْآيَة قَوْلُهُ تَعَالَى :" رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنْ النَّار " [ الْأَعْرَاف : ٣٨ ].
وَقَالُوا
يَعْنِي أَكَابِر الْمُشْرِكِينَ
مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ
قَالَ اِبْن عَبَّاس : يُرِيدُونَ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; يَقُول أَبُو جَهْل : أَيْنَ بِلَال أَيْنَ صُهَيْب أَيْنَ عَمَّار أُولَئِكَ فِي الْفِرْدَوْس وَاعَجَبًا لِأَبِي جَهْل مِسْكِين ; أَسْلَمَ اِبْنه عِكْرِمَة، وَابْنَته جُوَيْرِيَة، وَأَسْلَمَتْ أُمُّهُ، وَأَسْلَمَ أَخُوهُ، وَكَفَرَ هُوَ ; قَالَ :
أَأَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا
قَالَ مُجَاهِد : أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا فِي الدُّنْيَا فَأَخْطَأْنَا وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر وَنَافِع وَشَيْبَة وَالْمُفَضَّل وَهُبَيْرَة وَيَحْيَى وَالْأَعْمَش وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ، :" سُخْرِيًّا " بِضَمِّ السِّين.
الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة : مَنْ كَسَرَ جَعَلَهُ مِنْ الْهُزْء وَمَنْ ضَمَّ جَعَلَهُ مِنْ التَّسْخِير.
وَقَدْ تَقَدَّمَ.
أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ
فَلَمْ نَعْلَمْ مَكَانهمْ.
قَالَ الْحَسَن : كُلّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلُوا ; اِتَّخَذُوهُمْ سِخْرِيًّا، وَزَاغَتْ عَنْهُمْ أَبْصَارهمْ فِي الدُّنْيَا مُحَقِّرَة لَهُمْ.
وَقِيلَ : مَعْنَى " أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمْ الْأَبْصَار " أَيْ أَهُمْ مَعَنَا فِي النَّار فَلَا نَرَاهُمْ.
وَكَانَ اِبْن كَثِير وَالْأَعْمَش وَأَبُو عُمَر وَحَمْزَة وَالْكِسَائِيّ يَقْرَءُونَ " مِنْ الْأَشْرَار اِتَّخَذْنَاهُمْ " بِحَذْفِ الْأَلِف فِي الْوَصْل.
وَكَانَ أَبُو جَعْفَر وَشَيْبَة وَنَافِع وَعَاصِم وَابْن عَامِر يَقْرَءُونَ " أَتَّخَذْنَاهُمْ " بِقَطْعِ الْأَلِف عَلَى الِاسْتِفْهَام وَسَقَطَتْ أَلِف الْوَصْل ; لِأَنَّهُ قَدْ اُسْتُغْنِيَ عَنْهَا ; فَمَنْ قَرَأَ بِحَذْفِ الْأَلِف لَمْ يَقِفْ عَلَى " الْأَشْرَار " لِأَنَّ " اِتَّخَذْنَاهُمْ " حَال.
وَقَالَ النَّحَّاس وَالسِّجِسْتَانِيّ : هُوَ نَعْت لِرِجَالٍ.
قَالَ اِبْن الْأَنْبَارِيّ : وَهَذَا خَطَأ ; لِأَنَّ النَّعْت لَا يَكُون مَاضِيًا وَلَا مُسْتَقْبَلًا.
وَمَنْ قَرَأَ :" أَتَّخَذْنَاهُمْ " بِقَطْعِ الْأَلِف وَقَفَ عَلَى " الْأَشْرَار " قَالَ الْفَرَّاء : وَالِاسْتِفْهَام هُنَا بِمَعْنَى التَّوْبِيخ وَالتَّعَجُّب.
" أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمْ الْأَبْصَار " إِذَا قَرَأْت بِالِاسْتِفْهَامِ كَانَتْ أَمْ لِلتَّسْوِيَةِ، وَإِذَا قَرَأْت بِغَيْرِ الِاسْتِفْهَام فَهِيَ بِمَعْنَى بَلْ.
إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ
" لَحَقٌّ " خَبَر إِنَّ وَ " تَخَاصُم " خَبَر مُبْتَدَإٍ مَحْذُوف بِمَعْنَى هُوَ تَخَاصُم.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون بَدَلًا مِنْ حَقّ.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون خَبَرًا بَعْد خَبَر.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْمَوْضِع.
أَيْ إِنَّ تَخَاصُم أَهْل النَّار فِي النَّار لَحَقٌّ.
يَعْنِي قَوْلهمْ :" لَا مَرْحَبًا بِكُمْ " الْآيَة وَشِبْهه مِنْ قَوْل أَهْل النَّار.
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ
أَيْ مُخَوِّفٌ عِقَابَ اللَّه لِمَنْ عَصَاهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَمَا مِنْ إِلَهٍ
أَيْ مَعْبُود
إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
الَّذِي لَا شَرِيك لَهُ
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
بِالرَّفْعِ عَلَى النَّعْت وَإِنْ نَصَبْت الْأَوَّل نَصَبْته.
وَيَجُوز رَفْع الْأَوَّل وَنَصْب مَا بَعْده عَلَى الْمَدْح.
الْعَزِيزُ
مَعْنَاهُ الْمَنِيع الَّذِي لَا مِثْل لَهُ.
الْغَفَّارُ
السَّتَّار لِذُنُوبِ خَلْقه.
قُلْ
أَيْ وَقُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّد
هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ
أَيْ مَا أُنْذِرُكُمْ بِهِ مِنْ الْحِسَاب وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب خَبَر عَظِيم الْقَدْر فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَخَفَّ بِهِ.
قَالَ مَعْنَاهُ قَتَادَة.
نَظِيره قَوْله تَعَالَى :" عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيم " [ النَّبَأ :
١ - ٢ ].
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَقَتَادَة : يَعْنِي الْقُرْآن الَّذِي أَنْبَأَكُمْ بِهِ خَبَر جَلِيل.
وَقِيلَ : عَظِيم الْمَنْفَعَة " أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ "
لا يوجد تفسير لهذه الأية
مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ
الْمَلَأ الْأَعْلَى هُمْ الْمَلَائِكَة فِي قَوْل اِبْن عَبَّاس وَالسُّدِّيّ اِخْتَصَمُوا فِي أَمْر آدَم حِين خُلِقَ فَـ " قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا " [ الْبَقَرَة : ٣٠ ] وَقَالَ إِبْلِيسُ :" أَنَا خَيْر مِنْهُ " [ الْأَعْرَاف : ١٢ ] وَفِي هَذَا بَيَان أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ عَنْ قِصَّة آدَم وَغَيْره، وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّر إِلَّا بِتَأْيِيدٍ إِلَهِيّ ; فَقَدْ قَامَتْ الْمُعْجِزَة عَلَى صِدْقِهِ، فَمَا بَالُهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ تَدَبُّر الْقُرْآن لِيَعْرِفُوا صِدْقه ; وَلِهَذَا وَصَلَ قَوْله بِقَوْلِهِ :" قُلْ هُوَ نَبَأ عَظِيم أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ".
وَقَوْل ثَانٍ رَوَاهُ أَبُو الْأَشْهَب عَنْ الْحَسَن قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( سَأَلَنِي رَبِّي فَقَالَ يَا مُحَمَّد فِيمَ اِخْتَصَمَ الْمَلَأ الْأَعْلَى قُلْت فِي الْكَفَّارَات وَالدَّرَجَات قَالَ وَمَا الْكَفَّارَات قُلْت الْمَشْي عَلَى الْأَقْدَام إِلَى الْجَمَاعَات وَإِسْبَاغ الْوُضُوء فِي السَّبَرَات وَالتَّعْقِيب فِي الْمَسَاجِد بِانْتِظَارِ الصَّلَاة بَعْد الصَّلَاة قَالَ وَمَا الدَّرَجَات قُلْت إِفْشَاء السَّلَام وَإِطْعَام الطَّعَام وَالصَّلَاة بِاللَّيْلِ وَالنَّاس نِيَام ) خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيّ بِمَعْنَاهُ عَنْ اِبْن عَبَّاس، وَقَالَ فِيهِ حَدِيث غَرِيب.
وَعَنْ مُعَاذ بْن جَبَل أَيْضًا وَقَالَ حَدِيث حَسَن صَحِيح.
وَقَدْ كَتَبْنَاهُ بِكَمَالِهِ فِي كِتَاب الْأَسْنَى فِي شَرْح أَسْمَاء اللَّه الْحُسْنَى، وَأَوْضَحْنَا إِشْكَالَهُ وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَقَدْ مَضَى فِي [ يس ] الْقَوْل فِي الْمَشْي إِلَى الْمَسَاجِد، وَأَنَّ الْخُطَا تُكَفِّر السَّيِّئَات، وَتَرْفَع الدَّرَجَات.
وَقِيلَ : الْمَلَأ الْأَعْلَى الْمَلَائِكَة وَالضَّمِير فِي " يَخْتَصِمُونَ " لِفِرْقَتَيْنِ.
يَعْنِي قَوْل مَنْ قَالَ مِنْهُمْ الْمَلَائِكَة بَنَات اللَّه، وَمَنْ قَالَ آلِهَة تُعْبَدُ.
وَقِيلَ : الْمَلَأ الْأَعْلَى هَا هُنَا قُرَيْش ; يَعْنِي اِخْتِصَامُهُمْ فِيمَا بَيْنهمْ سِرًّا، فَأَطْلَعَ اللَّه نَبِيَّهُ عَلَى ذَلِكَ.
إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ
أَيْ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا الْإِنْذَار.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَر بْن الْقَعْقَاع " إِلَّا إِنَّمَا " بِكَسْرِ الْهَمْزَة ; لِأَنَّ الْوَحْي قَوْل، كَأَنَّهُ قَالَ : يُقَال لِي إِنَّمَا أَنْتَ نَذِير مُبِين، وَمَنْ فَتَحَهَا جَعَلَهَا فِي مَوْضِع رَفْع ; لِأَنَّهَا اِسْم مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ.
قَالَ الْفَرَّاء : كَأَنَّك قُلْت مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا الْإِنْذَار، النَّحَّاس : وَيَجُوز أَنْ تَكُون فِي مَوْضِع نَصْب بِمَعْنَى إِلَّا لِأَنَّمَا.
وَاَللَّه أَعْلَم.
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ
" إِذْ " مِنْ صِلَة " يَخْتَصِمُونَ " الْمَعْنَى ; مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْم بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى حِين يَخْتَصِمُونَ حِين " قَالَ رَبّك لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِق بَشَرًا مِنْ طِين ".
وَقِيلَ :" إِذْ قَالَ " بَدَل مِنْ " إِذْ يَخْتَصِمُونَ " وَ " يَخْتَصِمُونَ " يَتَعَلَّق بِمَحْذُوفٍ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْم بِكَلَامِ الْمَلَأ الْأَعْلَى وَقْت اِخْتِصَامهمْ.
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ
" إِذَا " تَرُدُّ الْمَاضِي إِلَى الْمُسْتَقْبَل ; لِأَنَّهَا تُشْبِه حُرُوف الشَّرْط وَجَوَابهَا كَجَوَابِهِ ; أَيْ خَلَقْته.
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي
أَيْ مِنْ الرُّوح الَّذِي أَمْلِكُهُ وَلَا يَمْلِكُهُ غَيْرِي.
فَهَذَا مَعْنَى الْإِضَافَة، وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى مُجَوَّدًا فِي [ النِّسَاء ] فِي قَوْله فِي عِيسَى " وَرُوح مِنْهُ " [ النِّسَاء : ١٧١ ].
فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ
نَصْب عَلَى الْحَال.
وَهَذَا سُجُود تَحِيَّةٍ لَا سُجُود عِبَادَةٍ.
وَقَدْ مَضَى فِي [ الْبَقَرَة ].
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ
أَيْ اِمْتَثَلُوا الْأَمْر وَسَجَدُوا لَهُ خُضُوعًا لَهُ وَتَعْظِيمًا لِلَّهِ بِتَعْظِيمِهِ
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ
" إِلَّا إِبْلِيس " أَنِفَ مِنْ السُّجُود لَهُ جَهْلًا بِأَنَّ السُّجُود لَهُ طَاعَة لِلَّهِ ; وَالْأَنَفَة مِنْ طَاعَة اللَّه اِسْتِكْبَارًا كُفْرٌ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ بِاسْتِكْبَارِهِ عَنْ أَمْر اللَّه تَعَالَى.
وَقَدْ مَضَى الْكَلَام فِي هَذَا فِي [ الْبَقَرَة ] مُسْتَوْفًى.
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا
أَيْ صَرَفَك وَصَدَّك
مَنَعَكَ أَنْ
أَيْ عَنْ أَنْ تَسْجُدَ
تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ
أَضَافَ خَلْقه إِلَى نَفْسه تَكْرِيمًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ خَالِقَ كُلّ شَيْء وَهَذَا كَمَا أَضَافَ إِلَى نَفْسه الرُّوح وَالْبَيْت وَالنَّاقَة وَالْمَسَاجِد.
فَخَاطَبَ النَّاس بِمَا يَعْرِفُونَهُ فِي تَعَامُلهمْ، فَإِنَّ الرَّئِيس مِنْ الْمَخْلُوقِينَ لَا يُبَاشِر شَيْئًا بِيَدِهِ إِلَّا عَلَى سَبِيل الْإِعْظَام وَالتَّكَرُّم، فَذِكْر الْيَد هُنَا بِمَعْنَى هَذَا.
قَالَ مُجَاهِد : الْيَد هَا هُنَا بِمَعْنَى التَّأَكُّد وَالصِّلَة ; مَجَازُهُ لِمَا خَلَقْت أَنَا كَقَوْلِهِ :" وَيَبْقَى وَجْه رَبّك " [ الرَّحْمَن : ٢٧ ] أَيْ يَبْقَى رَبّك.
وَقِيلَ : التَّشْبِيه فِي الْيَد فِي خَلْق اللَّه تَعَالَى دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْنَى النِّعْمَة وَالْقُوَّة وَالْقُدْرَة ; وَإِنَّمَا هُمَا صِفَتَانِ مِنْ صِفَات ذَاتِهِ تَعَالَى.
وَقِيلَ : أَرَادَ بِالْيَدِ الْقُدْرَة ; يُقَال : مَا لِي بِهَذَا الْأَمْر يَد.
وَمَا لِي بِالْحَمْلِ الثَّقِيل يَدَانِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْخَلْق لَا يَقَع إِلَّا بِالْقُدْرَةِ بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَالَ الشَّاعِر :
وَنُورًا أَضَاءَ الْأَرْض شَرْقًا وَمَغْرِبًا وَمَوْضِعُ رِجْلِي مِنْهُ أَسْوَدُ مُظْلِمُ
تَحَمَّلْت مِنْ عَفْرَاءَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ وَلَا لِلْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ يَدَانِ
وَقِيلَ :" لِمَا خَلَقْت بِيَدَيَّ " لِمَا خَلَقْت بِغَيْرِ وَاسِطَة.
بِيَدَيَّ
أَيْ عَنْ السُّجُود
أَأَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ
أَيْ الْمُتَكَبِّرِينَ عَلَى رَبِّكَ.
وَقَرَأَ مُحَمَّد بْن صَالِح عَنْ شِبْل عَنْ اِبْن كَثِير وَأَهْل مَكَّة " بِيَدَيَّ اِسْتَكْبَرْت " مَوْصُولَة الْأَلِف عَلَى الْخَبَر وَتَكُون أَمْ مُنْقَطِعَة بِمَعْنَى بَلْ مِثْل :" أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرَاهُ " [ السَّجْدَة : ٣ ] وَشِبْهه.
وَمَنْ اِسْتَفْهَمَ فَـ " أَمْ " مُعَادِلَة لِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَام وَهُوَ تَقْرِير وَتَوْبِيخ.
أَيْ اِسْتَكْبَرْت بِنَفْسِك حِين أَبَيْت السُّجُود لِآدَم، أَمْ كُنْت مِنْ الْقَوْم الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فَتَكَبَّرْت لِهَذَا.
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ
قَالَ الْفَرَّاء : مِنْ الْعَرَب مَنْ يَقُول أَنَا أَخْيَرُ مِنْهُ وَأَشَرُّ مِنْهُ ; وَهَذَا هُوَ الْأَصْل إِلَّا أَنَّهُ حُذِفَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَال.
خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ
فَضَّلَ النَّار عَلَى الطِّين، وَهَذَا جَهْل مِنْهُ ; لِأَنَّ الْجَوَاهِر مُتَجَانِسَة فَقَاسَ فَأَخْطَأَ الْقِيَاس.
وَقَدْ مَضَى فِي [ الْأَعْرَاف ] بَيَانه.
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا
يَعْنِي مِنْ الْجَنَّة
فَإِنَّكَ رَجِيمٌ
أَيْ مَرْجُوم بِالْكَوَاكِبِ وَالشُّهُب
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي
أَيْ طَرْدِي وَإِبْعَادِي مِنْ رَحْمَتِي
إِلَى يَوْمِ الدِّينِ
تَعْرِيف بِإِصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْر ; لِأَنَّ اللَّعْن مُنْقَطِع حِينَئِذٍ، ثُمَّ بِدُخُولِهِ النَّار يَظْهَر تَحْقِيق اللَّعْن
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
أَرَادَ الْمَلْعُون أَلَّا يَمُوت فَلَمْ يُجَبْ إِلَى ذَلِكَ،
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ
فَأُخِّرَ تَهَاوُنًا بِهِ.
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ
أُخِّرَ إِلَى وَقْت مَعْلُوم، وَهُوَ يَوْم يَمُوت الْخَلْق فِيهِ
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
لَمَّا طَرَدَهُ بِسَبَبِ آدَم حَلَفَ بِعِزَّةِ اللَّه أَنَّهُ يُضِلُّ بَنِي آدَم بِتَزْيِينِ الشَّهَوَات وَإِدْخَال الشُّبْهَة عَلَيْهِمْ، فَمَعْنَى :" لَأُغْوِيَنَّهُمْ " لَأَسْتَدْعِيَنهُمْ إِلَى الْمَعَاصِي وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَصِل إِلَّا إِلَى الْوَسْوَسَة، وَلَا يُفْسِد إِلَّا مَنْ كَانَ لَا يَصْلُح لَوْ لَمْ يُوَسْوِسْهُ ;
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ
وَلِهَذَا قَالَ :" إِلَّا عِبَادك مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ " أَيْ الَّذِي أَخْلَصْتهمْ لِعِبَادَتِك، وَعَصَمْتهمْ مِنِّي.
وَقَدْ مَضَى فِي [ الْحِجْر ] بَيَانه.
قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ
هَذِهِ قِرَاءَة أَهْل الْحَرَمَيْنِ وَأَهْل الْبَصْرَة وَالْكِسَائِيّ.
وَقَرَأَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَعَاصِم وَالْأَعْمَش وَحَمْزَة بِرَفْعِ الْأَوَّل.
وَأَجَازَ الْفَرَّاء فِيهِ الْخَفْض.
وَلَا اِخْتِلَاف فِي الثَّانِي فِي أَنَّهُ مَنْصُوب بِـ " أَقُولُ " وَنَصْب الْأَوَّل عَلَى الْإِغْرَاء أَيْ فَاتَّبِعُوا الْحَقَّ وَاسْتَمِعُوا الْحَقّ، وَالثَّانِي بِإِيقَاعِ الْقَوْل عَلَيْهِ.
وَقِيلَ : هُوَ بِمَعْنَى أُحِقُّ الْحَقّ أَيْ أَفْعَلُهُ.
قَالَ أَبُو عَلِيّ : الْحَقّ الْأَوَّل مَنْصُوب بِفِعْلٍ مُضْمَر أَيْ يُحِقُّ اللَّه الْحَقّ، أَوْ عَلَى الْقَسَم وَحَذْف حَرْف الْجَرّ ; كَمَا تَقُول : اللَّه لَأَفْعَلَنَّ ; وَمَجَازه : قَالَ فَبِالْحَقِّ وَهُوَ اللَّه تَعَالَى أَقْسَمَ بِنَفْسِهِ.
" وَالْحَقّ أَقُول " جُمْلَة اُعْتُرِضَتْ بَيْن الْقَسَم وَالْمُقْسَم عَلَيْهِ، وَهُوَ تَوْكِيد الْقِصَّة، وَإِذَا جُعِلَ الْحَقّ مَنْصُوبًا بِإِضْمَارِ فِعْل كَانَ " لَأَمْلَأَنَّ " عَلَى إِرَادَة الْقَسَم.
وَقَدْ أَجَازَ الْفَرَّاء وَأَبُو عُبَيْدَة أَنْ يَكُون الْحَقّ مَنْصُوبًا بِمَعْنَى حَقًّا " لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّم " وَذَلِكَ عِنْد جَمَاعَة مِنْ النَّحْوِيِّينَ خَطَأ ; لَا يَجُوز زَيْدًا لَأَضْرِبَنَّ ; لِأَنَّ مَا بَعْد اللَّام مَقْطُوع مِمَّا قَبْلهَا فَلَا يَعْمَل فِيهِ.
وَالتَّقْدِير عَلَى قَوْلِهِمَا لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّم حَقًّا.
وَمَنْ رَفَعَ " الْحَقّ " رَفَعَهُ بِالِابْتِدَاءِ ; أَيْ فَأَنَا الْحَقّ أَوْ الْحَقّ مِنِّي.
رُوِيَا جَمِيعًا عَنْ مُجَاهِد.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون التَّقْدِير هَذَا الْحَقّ.
وَقَوْل ثَالِث عَلَى مَذْهَب سِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاء أَنَّ مَعْنَى فَالْحَقّ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّم بِمَعْنَى فَالْحَقّ أَنْ أَمْلَأَ جَهَنَّم.
وَفِي الْخَفْض قَوْلَانِ وَهِيَ قِرَاءَة اِبْن السَّمَيْقَع وَطَلْحَةَ بْن مُصَرِّفٍ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَلَى حَذْف حَرْف الْقَسَم.
هَذَا قَوْل الْفَرَّاء قَالَ كَمَا يَقُول : اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لَأَفْعَلَنَّ.
وَقَدْ أَجَازَ مِثْل هَذَا سِيبَوَيْهِ وَغَلَّطَهُ فِيهِ أَبُو الْعَبَّاس وَلَمْ يُجِزْ الْخَفْض ; لِأَنَّ حُرُوف الْخَفْض لَا تُضْمَر، وَالْقَوْل الْآخَر أَنْ تَكُون الْفَاء بَدَلًا مِنْ وَاو الْقَسَم ; كَمَا أَنْشَدُوا :
فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْت وَمُرْضِعٍ
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ
أَيْ مِنْ نَفْسك وَذُرِّيَّتك
وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ
مِنْ بَنِي آدَم " أَجْمَعِينَ ".
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
أَيْ مِنْ جُعْلٍ عَلَى تَبْلِيغ الْوَحْي وَكَنَّى بِهِ عَنْ غَيْر مَذْكُور.
وَقِيلَ هُوَ رَاجِع إِلَى قَوْله :" أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْر مِنْ بَيْنِنَا " [ ص : ٨ ].
وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ
أَيْ لَا أَتَكَلَّف وَلَا أَتَخَرَّصُ مَا لَمْ أُومَرْ بِهِ.
وَرَوَى مَسْرُوق عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : مَنْ سُئِلَ عَمَّا لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ لَا أَعْلَم وَلَا يَتَكَلَّف ; فَإِنَّ قَوْله لَا أَعْلَم عِلْم، وَقَدْ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ ".
وَعَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( لِلْمُتَكَلِّفِ ثَلَاث عَلَامَات يُنَازِع مَنْ فَوْقَهُ وَيَتَعَاطَى مَا لَا يَنَال وَيَقُول مَا لَا يَعْلَم ).
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيث نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : خَرَجَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْض أَسْفَاره، فَسَارَ لَيْلًا فَمَرُّوا عَلَى رَجُل جَالِس عِنْد مَقْرَاةٍ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَر : يَا صَاحِب الْمَقْرَاة أَوَلَغَتْ السِّبَاعُ اللَّيْلَة فِي مَقْرَاتِك ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( يَا صَاحِبَ الْمَقْرَاةِ لَا تُخْبِرْهُ هَذَا مُتَكَلِّف لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونهَا وَلَنَا مَا بَقِيَ شَرَابٌ وَطَهُورٌ ).
وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ يَحْيَى بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن حَاطِب : أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّاب خَرَجَ فِي رَكْب فِيهِمْ عَمْرو بْن الْعَاص حَتَّى وَرَدُوا حَوْضًا، فَقَالَ عَمْرو بْن الْعَاص : يَا صَاحِب الْحَوْض هَلْ تَرِد حَوْضَك السِّبَاعُ ؟ فَقَالَ عُمَر : يَا صَاحِب الْحَوْض لَا تُخْبِرْنَا فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاع وَتَرِد عَلَيْنَا.
وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي الْمِيَاه فِي سُورَة [ الْفُرْقَان ].
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ
يَعْنِي الْقُرْآن
لِلْعَالَمِينَ
مِنْ الْجِنّ وَالْإِنْس.
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ
أَيْ نَبَأ الذِّكْر وَهُوَ الْقُرْآن أَنَّهُ حَقّ " بَعْد حِين " قَالَ قَتَادَة : بَعْد الْمَوْت.
وَقَالَ الزَّجَّاج.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَعِكْرِمَة وَابْن زَيْد : يَعْنِي يَوْم الْقِيَامَة.
وَقَالَ الْفَرَّاء : بَعْد الْمَوْت وَقَبْله.
أَيْ لَتَظْهَر لَكُمْ حَقِيقَةُ مَا أَقُول :" بَعْدَ حِين " أَيْ فِي الْمُسْتَأْنَف أَيْ إِذَا أَخَذَتْكُمْ سُيُوف الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ السُّدِّيّ : وَذَلِكَ يَوْم بَدْر.
وَكَانَ الْحَسَن يَقُول : يَا اِبْن آدَم عِنْد الْمَوْت يَأْتِيك الْخَبَر الْيَقِين.
وَسُئِلَ عِكْرِمَة عَمَّنْ حَلَفَ لَيَصْنَعَنَّ كَذَا إِلَى حِين.
قَالَ : إِنَّ مِنْ الْحِين مَا لَا تُدْرِكهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْد حِين " وَمِنْهُ مَا تُدْرِكهُ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى :" تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلّ حِين بِإِذْنِ رَبّهَا " [ إِبْرَاهِيم : ٢٥ ] مِنْ صِرَامِ النَّخْل إِلَى طُلُوعه سِتَّة أَشْهُر.
وَقَدْ مَضَى الْقَوْل فِي هَذَا فِي [ الْبَقَرَة ] وَ [ إِبْرَاهِيم ] وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
Icon