تفسير سورة العلق

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة العلق من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة العلق( ١ ) مكية( ٢ )
١ كذا في معاني الزجاج ٥/٣٤٥ والمختصر لابن خالويه: وإعراب مكي ٢/٨٣٧ والكشف ٢/٣٧٣ وشرح كلا: ٦٠ والكشاف ٤/٢٧٠ والمحرر ١٦/٣٣٣ وزاد المسير ٩/١٧٥ وتفسير القرطبي ٢٠/١١٧ والبحر ٨/٤٩١ وتفسير ابن كثير ٤/٥٦٤ وروح المعاني ٣٠/٢٢٧. والذي عند البخاري في كتاب التفسير، (الفتح ٨/٧١٤): "سورة: ﴿اقرأ باسم ربك﴾. وفي فتح القدير ٥/٤٦٧: "سورة اقرأ"..
٢ بالإجماع: تفسير الماوردي ٤/٤٨٢ والبحر ٨/٤٩٢ والبرهان ١/١٩٣ وروح المعاني ٣٠/٢٢٧..

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة العلق
مكية
قوله: ﴿اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ﴾ إلى آخر السورة.
أي: اقرأ يا محمد بذكر ربك الذي خلق - ثم بين ما خلق، فقال: ﴿خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ﴾.
أي: من الدم والمراد: من علقة: " وعلق " جمع " علقة "، فجمع: لأن الإنسان بمعنى الجماعة. ومعنى الباء اللزوم، أي: ألزم القرءاة بذكر ربك.
8349
ثم قال: ﴿اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم﴾ أي: الأكرم من كل شيء.
روى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أول ما ابتدئ به رسول الله ﷺ من الوحي: الرؤيا [الصادقة]، كانت تجيء مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان بِحَراء يَتَحَنَّثُ فيه اللَّيَالي ذَواتِ العَدَدِ قبل أن يَرْجِعَ إلى أَهْلِهِ فَيَتَزَوَّدُ لمثلها حَتَّى [فَجِئَهُ] الحقَّ فَأَتَاه، فقالَ: يا مُحَمَّدُ، أنتَ رسولُ الله. قالَ رسولُ الله: فَجَثَوْتُ لِرُكْبَتَيَّ وأنا قائِمٌ ثُمَّ رَجِعْتُ يَرْجِفُ فُؤَدِي، ثُمَّ دَخَلْتُ - يريد على خديجة - فَقُلْتُ: زَمِّلُوني، زَمِّلُوني، حتى ذهب عني الروع ثم أتاني فقال: يا محمد، أنت رسول الله. (قال): فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالق من جبل،
8350
فتبدى لي حين هممت بذلك فقال: يا محمد، أنا جبرئيل، وأنت رسول الله، ثم قال: اقرأ. قلت: ما أقرا؟
فأخذني [فغطني] ثلاث مرات حتى بلغ مني الجهد، ثم قال: ﴿اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ﴾ فقرأت، فأتيت خديدة فقلت: لقد أشفقت على نفسي، وأخبرتها خبري، فقالت: أبشر، فوالله لا يحزنك الله أبداً. والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتصبر على نوائب الحق. قال: ثم انطلقت بي خديجة إلى ورقة بن نوفل بن أسد فقالت: امسع من ابن أخيك. فسألني، فأخبرته خبري. فقال: هذا الناموس الذي أنزل على موسى ابن عمران. ليتني أكون فيها [جذعاً]، ليتني أكون حياً [حين] يخرجك قومك.
8351
قلت: [أمخرجي هم]؟! قال: نعم، إنه لم يجيء رجل قط بما جئت به إلا عودي. ولئن أدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً. ثم كان أول ما أنزل علي من القرآن - بعد " أقرأ " - ﴿[ن] والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ [القلم: ١ - ٢]. حتى قرأ (إلى) ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ﴾ [القلم: ٥]، (و) ﴿يا أيها المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ﴾ [المدثر: ١ - ٢].
﴿والضحى * والليل إِذَا سجى﴾ [الضحى: ١ - ٢].
قال مجاهد وعطاء بن يسار وعبيد بن عمير وأبو رجاء [العطاردي]: أول
8352
ما نزل على النبي ﷺ: ﴿ اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ﴾، كقول عائشة رضي الله عنهـ.
والرواية أنه إنما عليه من ﴿اقرأ باسم رَبِّكَ﴾ إلى قوله ﴿عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾، ثم نزل باقيها بعد:
﴿يا أيها المدثر﴾ [المدثر: ١] و ﴿يا أيها المزمل﴾ [المزمل: ١].
وقوله: ﴿الذى عَلَّمَ بالقلم﴾ أي: علم خلقه الكتاب والخط.
قال قتادة: القلم نعمة من الله جل وعز عظيمة، لولا ذلك لم يتم أمر ولم يصلح عيش.
ثم قال: ﴿عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ أي: علمه الخط بالقلم وغيره، ولم يكن يعلمه.
ثم قال: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى﴾.
قيل: " كلا " ردع ورد، ومعناها: ما هكذا ينبغي أن يكون الإنسان! [ينعم] عليه ربه بتسويته خلقه وتعليمه ما لم يكن يعلم ثم يكفر به!
ثم بين كفره من أين أتاه، فقال: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى﴾.
8353
أي: إن الإنسان إذا أحس بالغنى طغى واستكبر وكفر. فيوقف على " كلا " [على] هذا التأويل.
قال ابن مسعود: منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب دنيا.
فأما طالب العلم فيزداد خيفة. قال الله/: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء﴾ [فاطر: ٢٨]، وأما طالب الدنيا فيزداد طغيانا. قال الله: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى﴾.
ويجوز أن [يكون] " كلا " بمعنى: " ألا "، فيبتدأ بها لأن المعنى الذي يكون رداً لم يظهر لفظه في الآية، [فيبعد] أن [تكون] ردا لما (لم) ينص قبلها.
8354
[" ورأى "] هاهنا من رؤية القلب، دل على ذلك [تعدي] [الضمير] إلى المضمر، ولو كان من رؤية العين لم يجز " رآه "، والفاعل هو المفعول.
وإنما كان يقال: " رأى نفسه "، " كضرب نفسه ". والمفعول الثاني [" الرأى "]: " استغنى ".
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى﴾.
أي: إن إلى ربك - يا محمد - مرجع هذا الإنسان، فذائق من أليم عقابه ما لا طاقة لا به.
ثم قال: ﴿أَرَأَيْتَ الذي ينهى * عَبْداً إِذَا صلى﴾.
روي أن هذه الآية نزلت في أبي جهل بن هشام، وذلك أنه قال: لئن رأيت [محمداً] يصلي عند المقام لأَطَأَنَّ رقبته. وكان ينهى رسول الله ﷺ أن يطي.
فالمعنى: أرأيت يا محمد أبا جهل الذي ينهاك عن الصلاة؟! يعجب نبيه من جهل أبي جهل وجرأته. هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وقتادة.
قال قتادة: كان يقال: لكل أمة فرعون وفرعون هذه الأمة أبو جهل.
8355
والجواب محذوف (لعلم [السامع]. فالمعنى والتقدير: أرأيت، يا محمد، الذي ينهى عبدا إذا صلى، أمصيب هو، أم هو آمن من العقوبة؟!
والمعنى عند سيبويه: أخبروني عن هذا.
وقوله: ﴿أَرَأَيْتَ إِن كَانَ على الهدى * أَوْ أَمَرَ بالتقوى﴾.
أي: أرأيت إن كان محمد على الهدى والرشاد في صلاته لربه، أليس الناهي هالكاً ملعوناً؟!
ثم قل تعالى: ﴿أَوْ أَمَرَ بالتقوى﴾.
أي: أو أمر محمد هذا الذي ينهاه عن الصلاة [بالتقوى] فلم يقبل منه، أليس هو مالكاً معلوناً؟!
ثم قال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى﴾.
أي: إن كذب أبو جهل بما جاء به محمد ﷺ وأعرض عنه وأدبر فلم يصدقه.
﴿أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى﴾.
[أي: ألم يعلم] أبو جهل بأن الله يراه فما صنع من نهيه عن الصلاة وتكذيبه وإعراضه عما جاء به محمد ﷺ فيخاف أن تنزل به عقوبة من الله؟!
8356
ثم قال تعالى: ﴿كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ﴾.
قيل: " كلا " رد وردع، والمعنى: لا يتهيأ لأبي جهل أن يتم له نهي النبي ﷺ عن صلاته وعبادته ربه.
وقال الطبري: المعنى: ليس الأمر كما يقول إنه يطأ عنق النبي ﷺ، أي: لا يقدر على ذلك ولا يصل إلكيه، فيوقف على " كلا " على تقدير التقديرين.
ويجوز أن تكن " كلا " بمعنى " حقاً ". وبمعنى " ألا "، فبيتدأ بها، إذ ليس قبلها لفظ ظاهر تكون رداً له، وإنما يحسن الوقوف عليها إذا كان قبلها لفظ منصوص يحسن أن يكون رداً له. والوقف عند القتبي على " كلا "، وعند أبي
8357
حاتم: " يرى "، وهو الوجه الظاهر.
وقوله: ﴿لَئِن لَّمْ يَنتَهِ﴾ تهدد ووعيد، أي: لئن لم ينته أبو جهل عن أذى محمد ﴿لَنَسْفَعاً بالناصية﴾ أي: [لنأخذن] بمقدم رأسه فلنقهرنه (ولنذلنه).
يقال: سفعت بيده، إذا أخذت بها.
وقيل: معناه: لنسودن وجهه، فاكتفى بذكر الناصية من الوجه، إذا كانت الناصية في مقدم الوجه.
وقيل: معناه: لنأخذن بناصيته إلى النار، كما قال تعالى: ﴿فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام﴾ [الرحمن: ٤١].
[واللام] في " لئن ": لام توطئة للقسم، وهي من [لامات] التأكيد.
8358
[واللام] في " لنسفعاً ": لام قسم.
ومعنى " توطئة " أنها تؤذن بإتيان القسم بعدها.
ثم قال تعالى: ﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ أي: كاذب صاحبها خاطئ، وهي بدل من الأول.
ثم قال تعالى: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾.
أي: فليدع أبو جهل أهل مجلسه وأنصاره وعشيرته لنصرته.
روي أن النبي ﷺ [ انتهر أبا] جهل لما نهاه) عن الصلاة، فقال أبو جهل: علام يتوعدني محمد وأنا أكثر أهل الوادي نادياً؟! فأنزل الله:
8359
﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾، أي: أهل ناديه، فإن دعاهم ﴿سَنَدْعُ الزبانية﴾ (لهم). قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب من ساعته.
قال أبو هريرة: قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟
فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته. قال: فما [فجئهم] منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه.
قال: [فقيل له: مالك]؟! قال: إن بيني وبينه خندقاً من نار [وهؤلاء].
قال: فقال رسول الله ﷺ: لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا.
قال ابن عباس: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾، أي: " ناصره ".
8360
وقال قتادة: عشيرته.
والنادي والندي: المجلس.
والزبانية: ملائكة، وهم عند العرب الشرط، وهو مشتق من " زبنة " إذا دفعة، كأنهم يدفعون الكفار إلى النار. وواحد الزبانية عند أبي عبيدة: زبنية.
وقال عيسى بن عمر واحدهم: زابن.
وقال الأخفش: واحدهم: زباني.
وقال الكسائي: واحدهم: ربني.
قال عبد الله بن أبي الهذيل: " الزبانية أرجلهم في الأرض ورؤوسهم في السماء ".
8361
ثم قال: ﴿كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ﴾.
أي: ليس الأمر على ما يقول أبو جهل في نهيه إياك يا محمد عن الصلاة وطاعة ربك، لا تطعه فيما أمرك به واسجد لربك واقترب منه بالدعاء والعمل الصالح في السجود.
وفي الحديث: أقرب ما يكون العبد من ربه إذا كان ساجداً، فأكثروا من الدعاء في السجود، فقمن أن يستجاب لكم.
قال مجاهد: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، ألم تسمعوا إلى قوله: ﴿واسجد واقترب﴾.
8362
ويجوز أن تكون " كلاً " بمعنى: " حقا "، وبمعنى: " ألا " فيبتدأ بها. وروى ابن وهب عن رجاله أن أبا جهل كان يقول: لئن رأيت محمداً يصلي لأطأن على رقبته، فأمر الله نبيه بالسجود، فقال: ﴿واسجد﴾، وقال لأبي جهل: " واقترب "، على طريق التهدد، أي: اقترب من محمد إن كنت صادقا في قولك: فقيل لأبي جهل: هذا محمد يسجد، فاقترب منه! فقال: ما أستطيعه، إن بيني وبينه كالفحل، لو اقترتب منه لأهلكني.
هذه رواية ابن وهب، وفيها زيادة تفسير لما روي، وفيها بعض اختصار.
8363
Icon