تفسير سورة الزلزلة

اللباب
تفسير سورة سورة الزلزلة من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
مدنية١ في قول ابن عباس وقتادة، ومكية في قول ابن مسعود وعطاء وجابر٢، هي ثماني آيات، وخمس وثلاثون كلمة، ومائة وتسع وأربعون حرفا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل في معنى الزلزلة
روى عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه كان يقول : النفخة الأولى تزلزلها٢، وهو قول مجاهد، لقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة تَتْبَعُهَا الرادفة ﴾ [ النازعات : ٦، ٧ ]، ثم تزلزل ثانية، فتخرج موتاها، وهي الأثقال، وذكر المصدر للتأكيد، ثم أضيف إلى الأرض، كقولك : لأعطينَّكَ عطيتك، أي : عطيتي لك، وحسن ذلك لموافقة رءوس الآي بعدها.
وهو مصدر مضاف لفاعله، والمعنى زلزالها الذي تستحق ويقتضيه عظمها.
قال الزمخشري٣ :«ونحوه قولك : أكرم التقي إكرامه، وأهن الفاسق إهانته».
قرأ الجمهور :«زِلْزالهَا» بكسر الزاي، والجحدري وعيسى٤ : بفتحها.
قيل : هما مصدران بمعنى.
وقيل : المكسور مصدر، والمفتوح اسم، قاله الزمخشري٥. وليس في الأبنية «فعلال» يعني غالباً، وإلا فقد ورد : ناقة جزعال.
قال القرطبيُّ٦ :«والزَّلزال - بالفتح - مصدر، كالوسواس، والقلقال والجرْجَار».


١ في أ: مكية..
٢ ينظر تفسير الماوردي (٦/٣١٨)..

مدنية في قول ابن عباس وقتادة، ومكية في قول ابن مسعود وعطاء وجابر، وهي ثمان آيات، وخمس وثلاثون كلمة، ومائة وتسع وأربعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا﴾. «إذّا» شرط، وجوابه «تُحدِّثُ»، وهو النَّاصب لها عند الجمهور.
وجوَّز أبو البقاء أن يكون العامل فيها مصدراً.
وغيره يجعل العامل فيها ما بعدها، وإن كان معمولاً لها بالإضافة تقديراً، واختاره مكي، وجعل ذلك نظير «من وما»، يعني أنهما يعملان فيما بعدهما الجزم، وما بعدهما يعمل فيهما النصب، ولو مثل ب «أي» لكان أوضح.
وقيل: العامل فيها مقدر، أي: يحشرون.
وقيل: اذكر، وحينئذ يخرج عن الظرفية والشرط.

فصل في المناسبة بين أول هذه السورة وآخر السورة المتقدمة


وجه المناسبة بين أول هذه السُّورة وآخر السورة المتقدمة، أنه تعالى لما قال: ﴿جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ فكأن المكلف قال: ومتى يكون ذلك؟.
فقيل له: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض﴾ فالعاملون كلهم يكونون في الخوف، وأنت في ذلك الوقت تنال جزاءك، وتكون آمناً، لقوله تعالى: ﴿وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ [النمل: ٨٩].
وقيل: لما ذكر في السُّورة المتقدمة وعيد الكافر ووعد المؤمن أراد أن يزيد في
444
وعيد الكافر، فقال: أجازيه، حتى يقول الكافر السابق ذكره: ما للأرض تزلزلت، نظيره ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: ١٠٦]، فذكر سبحانه الطائفتين، وذكر ما لكل طائفةٍ، ثم جمع بينهما في آخر السورة بذكر الذرة من الخير، فإن قيل: «إذَا» للوقت، فكيف وجه البداية بها في السورة؟ الجواب: أنهم كانوا يسألونه عن الساعة، فقال تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا﴾ فإنه تعالى يقول: لا سبيل إلى تعيينها بحسب وقتها، ولكن أعينه بحسب علاماته، أو أنه تعالى أراد أن يخبر المكلف أن الأرض تتحدث وتشهد يوم القيامة مع أنها في هذه الساعة جماد، فكأنه لما قيل: متى يكون ذلك؟ قال تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض﴾.

فصل في معنى الزلزلة


روى عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنه كان يقول: النفخة الأولى تزلزلها، وهو قول مجاهد، لقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة تَتْبَعُهَا الرادفة﴾ [النازعات: ٦، ٧]، ثم تزلزل ثانية، فتخرج موتاها، وهي الأثقال، وذكر المصدر للتأكيد، ثم أضيف إلى الأرض، كقولك: لأعطينَّكَ عطيتك، أي: عطيتي لك، وحسن ذلك لموافقة رءوس الآي بعدها.
وهو مصدر مضاف لفاعله، والمعنى زلزالها الذي تستحق ويقتضيه عظمها.
قال الزمخشري: «ونحوه قولك: أكرم التقي إكرامه، وأهن الفاسق إهانته».
قرأ الجمهور: «زِلْزالهَا» بكسر الزاي، والجحدري وعيسى: بفتحها.
قيل: هما مصدران بمعنى.
وقيل: المكسور مصدر، والمفتوح اسم، قاله الزمخشري. وليس في الأبنية «فعلال» يعني غالباً، وإلا فقد ورد: ناقة جزعال.
قال القرطبيُّ: «والزَّلزال - بالفتح - مصدر، كالوسواس، والقلقال والجرْجَار».
قوله: ﴿وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا﴾.
قال أبو عبيدة والأخفش: إذا كان الميت في بطن الأرض، فهو ثقل لها، وإذا كان فوقها، فهو ثقل عليها.
وقال ابن عباس ومجاهد: «أثْقَالهَا» موتاها، تخرجهم في النفخة الثانية.
445
ومنه قيل للجن والإنس: الثقلان، وقيل: «أثْقالهَا» : كنوزها، ومنه الحديث: «تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الإسطوان من الذهب والفضة».
قوله: ﴿وَقَالَ الإنسان﴾، أي ابن آدم، الكافر.
وقال ابن عباس: هو الأسود بن عبد الأسد.
وقيل: أراد كلَّ إنسان يشاهد ذلك عند قيام الساعة في النفخة الأولى من مؤمن وكافر، وقوله: ﴿مَا لَهَا﴾ ابتداء وخبر، وهذا يرد قول من قال: إن الحال في نحو قوله تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: ٤٩] لازمة لئلا يصير الكلام غير مفيد، فإنه لا حال هنا، ومعنى: ﴿مَا لَهَا﴾ أي: ما لها زلزلت، وقيل: ما لها أخرجت أثقالها ﴿وهي كلمة تعجب، أي: لأي شيء زلزلت؟﴾ ويجوز أن يُحيي الله الموتى بعد وقوع النفخة الأولى، ثم تتحرك الأرض، فتخرج الموتى، وقد رأوا الزلزلة، وانشقاق الأرض عن الموتى فيقولون من الهول: ما لها، [كأنهم يخاطبون أنفسهم تعجباً].
قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾، أي: يوم إذا زلزلت، والعامل في «يَومَئذٍ» :«تُحدِّثُ» إن جعلت «إذَا» منصوبة بما بعدها، [أو بمحذوف، وإن جعلت العامل فيها «تحدّث» كان «يومئذ» بدلاً منها فالعامل فيه] العامل فيها، أو شيء آخر، لأنه على تكرير العاملِ، وهو خلاف مشهور.

فصل في معنى الآية


معنى «تحدث أخبارها»، أي: تخبر الأرض بما عمل عليها من خير، أو شر يومئذ.
ثم قيل: هو من قول الله تعالى.
وقيل: من قول الإنسان، أي: يقول الإنسان «مَا لَهَا»، «تُحدِّثُ أخْبارهَا» متعجباً.
روى الترمذي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «قال قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآية ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ قال: أتدْرُونَ ما أخْبارُهَا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنَّ أخبارها أن تشْهَدَ على كُلِّ عبدٍ أو أمةٍ بما عمل على ظهرهَا تقُول: عملَ يَوْمَ كَذَا، كَذَا وكَذَا، قال:» فهَذهِ أخْبارُهَا «».
446
قال الماورديُّ: قوله تعالى: ﴿تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن تحدث أخبارها بأعمال العباد على ظهرها، قاله أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ورواه مرفوعاً، وهو قول من زعم أنها زلزلة القيامة.
الثاني: قال يحيى بن سلام: ﴿تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ بما أخرجت من أثقالها، وهو قول من زعم أنها زلزلة أشراط الساعة.
الثالث: قال ابن مسعود: أنها تحدث بقيام الساعة، إذا قال الإنسان: ما لها؟ فتحبر أن أمر الدنيا قد انقضى، وأمر الآخرةِ قد أتى، فيكونُ ذلك منها جواباً لهم عند سؤالهم، ووعيداً للكافر، وإنذاراً للمؤمن.
وفي حديثها بأخبارها ثلاثةُ أقاويل:
أحدها: أن الله تعالى يقلبها حيواناً ناطقاً، فتتكلم بذلك.
الثاني: أن الله يحدث فيها الكلام.
الثالث: أنه يكون منها بيان يقوم مقام الكلام.
قال الطبريُّ: تبين أخبارها بالرَّجَّة، والزلزلة، وإخراج الموتى.
قوله: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ﴾ متعلق ب «تُحدِّثُ»، أي: تحدث الأرض بما أوحى إليها ويجوز أن يتعلق بنفس أخبارها.
وقيل: الباء زائدة و «أنَّ» وما في حيزها بدل من أخبارها.
وقيل: الباء سببية، أي: بسبب إيحاء الله إليها.
وقال الزمخشريُّ: «فإن قلت: أين مفعولاً» تُحدِّثُ «؟.
قلت: حذف أولهما، والثاني: أخبارها، أي: تحدث الخلق أخبارها، إلا أن المقصود ذكر تحديثها الأخبار لا ذكر الخلق تعظيماً لليوم.
فإن قلت: بم تعلقت الباء، في قوله»
بأنَّ ربَّك «؟.
قلتُ: ب»
تحدث «ومعناه: تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها، وأمره إياها
447
بالتحديث، ويجوز أن يكون المعنى: يومئذٍ تحدثُ بتحديث أن ربَّك أوحى لها أخبارها على أن تحديثها بأن ربِّك أوحى لها تحديث بأخبارها، كما تقول: نصحتني كُلَّ نصيحة بأن نصحتني في الدين».
قال أبو حيان: وهو كلام فيه عفش، ينزه القرآن عنه.
قال شهاب الدين: وأي عفش فيه، فصحته وفصاحته، ولكنه لما طال تقديره من جهة إفادة هذا المعنى الحسن جعله عفشاً وحاشاه.
ثم قال الزمخشري: «ويجوز أن يكون» بأنَّ ربَّك «بدلاً من» أخبارها «كأنه قيل: يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربَّك أوحى لها، لأنك تقول: حدثته كذا، وحدثته بكذا».
قال أبو حيَّان: «وإذا كان الفعل تارة يتعدى بحرف جر، وتارة يتعدى بنفسه، وحرف الجر ليس بزائد، فلا يجوز في تابعه إلاَّ الموافقة في الإعراب، فلا يجوز:» استغفرتُ الذنب العظيم «بنصب» الذنب «وجر» العظيم «لجواز أنك تقول:» من الذنب «، ولا» اخترتُ زيداً الرجال الكرام «بنصب» الرجال «وخفض» الكرام «وكذلك لا يجوز:» استغفرتُ من الذنب العظيم «بجر» الذنب «ونصب» العظيم «وكذلك في» اخترتُ «فلو كان حرف الجر زائداً جاز الإتباع على موضع الاسم، بشروطه المحررة في علم النحو، تقول: ما رأيت من رجل عاقلاً، لأن» من «زائدة، ومن رجل عاقل على اللفظ، ولا يجوز نصب» رجل «وجر» عاقل «على مراعاة جواز دخول» من «وإن ورد شيء من ذلك، فبابه الشعر». انتهى.
قال شهاب الدين: ولا أدري كيف يلزم الزمخشري ما ألزمه به من جميع المسائلِ التي ذكرها، فإن الزمخشري يقول: إن هذا بدل مما قبله، ثم ذكر مسوغ دخول الباءِ في البدل، وهو أن المبدل منه يجوز دخول الباء عليه، فلو حل البدل محل المبدل منه ومعه الباء لكان جائزاً، لأن العامل يتعدى به، وذكر مسوغاً لخلو المبدل منه من الباء، فقال: «لأنك تقول: حدثته كذا وحدثته بكذا»، وأما كونه يمتنع أن يقول: «استغفرتُ الذنب العظيم» بنصب «الذنب» وجرّ «العظيمِ» إلى آخره، فليس في كلام الزمخشري شيء منه ألبتة، ونظير ما قاله الزمخشري في باب «استغفر» ان تقول: استغفرت الله ذنباً من شتمي زيداً، فقولك «من شتمي» بدل من «الذنب»، وهذا جائزٌ لا محالة.
قوله
﴿أوحى
لَهَا
. في هذه اللام أوجه:
448
أحدها: أنها بمعنى «إلى»، وإنما أوثرت على «إلى» لمراعاة الفواصل، والمعنى: أوحى لها تحدث أخبارها بوحي الله تعالى لها أي إليها، والعرب تضع لام الصفة موضع «إلى»، قال العجَّاجُ يصفُ الأرض: [الرجز]
٥٢٦٥ - أوْحَى لهَا القَرار فاسْتقرَّتِ وشدَّهَا بالرَّاسياتِ الثُّبَّتِ
قاله أبو عبيدة.
الثاني: على أصلها، «أوحَى» يتعدى باللام تارة، وب «إلى» أخرى، ومنه البيت.
الثالث: اللام على بابها من العلة، والموحى إليه محذوف، وهو الملائكة، تقديره: أوحى إلى الملائكة لأجل الأرض، أي: لأجل ما يفعلون فيها.
قال الثوريُّ: تحدث أخبارها مما كان عليها من الطَّاعات والمعاصي، وما كان على ظهرها من خير وشر.
449
قوله :﴿ وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا ﴾.
قال أبو عبيدة والأخفش : إذا كان الميت في بطن الأرض، فهو ثقل لها، وإذا كان فوقها، فهو ثقل عليها.
وقال ابن عباس ومجاهد :«أثْقَالهَا » موتاها، تخرجهم في النفخة الثانية١.
ومنه قيل للجن والإنس : الثقلان، وقيل :«أثْقالهَا » : كنوزها، ومنه الحديث :«تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الإسطوان من الذهب والفضة »٢.
١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٦٥٩)، عن ابن عباس ومجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٤٥)، عن ابن عباس وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وذكره أيضا عن مجاهد وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٢ أخرجه مسلم (٢/٧٠١)، كتاب: الزكاة، باب: الترغيب في الصدقة (٦٢/١٠١٣)، والترمذي (٤/٤٢٧)، كتاب: التفسير، باب: (٣٦)، رقم (٢٢٠٨)، والبغوي في "شرح السنة" (٧/٤٢٥)، من حديث أبي هريرة..
قوله :﴿ وَقَالَ الإنسان ﴾، أي ابن آدم، الكافر.
وقال ابن عباس : هو الأسود بن عبد الأسد.
وقيل : أراد كلَّ إنسان يشاهد ذلك عند قيام الساعة في النفخة الأولى من مؤمن وكافر، وقوله :﴿ مَا لَهَا ﴾ ابتداء وخبر، وهذا يرد قول من قال : إن الحال في نحو قوله تعالى :﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ ﴾ [ المدثر : ٤٩ ] لازمة لئلا يصير الكلام غير مفيد، فإنه لا حال هنا، ومعنى :﴿ مَا لَهَا ﴾ أي : ما لها زلزلت، وقيل : ما لها أخرجت أثقالها ! وهي كلمة تعجب، أي : لأي شيء زلزلت ؟ ! ويجوز أن يُحيي الله الموتى بعد وقوع النفخة الأولى، ثم تتحرك الأرض، فتخرج الموتى، وقد رأوا الزلزلة، وانشقاق الأرض عن الموتى فيقولون من الهول : ما لها، [ كأنهم يخاطبون أنفسهم تعجباً ]١.
١ سقط من: ب..
قوله :﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾، أي : يوم إذا زلزلت، والعامل في «يَومَئذٍ » :«تُحدِّثُ » إن جعلت «إذَا » منصوبة بما بعدها، [ أو بمحذوف، وإن جعلت العامل فيها «تحدّث » كان «يومئذ » بدلاً منها فالعامل فيه ]١ العامل فيها، أو شيء آخر، لأنه على تكرير العاملِ، وهو خلاف مشهور.

فصل في معنى الآية


معنى «تحدث أخبارها »، أي : تخبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شر يومئذ.
ثم قيل : هو من قول الله تعالى.
وقيل : من قول الإنسان، أي : يقول الإنسان «مَا لَهَا » «تُحدِّثُ أخْبارهَا » متعجباً.
روى الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾ قال :" أتدْرُونَ ما أخْبارُهَا " ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال :" فإنَّ أخبارها أن تشْهَدَ على كُلِّ عبدٍ أو أمةٍ بما عمل على ظهرهَا تقُول : عملَ يَوْمَ كَذَا، كَذَا وكَذَا، قال :«فهَذهِ أخْبارُهَا » " ٢.
قال الماورديُّ : قوله تعالى :﴿ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾ فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : أن تحدث أخبارها بأعمال العباد على ظهرها، قاله أبو هريرة - رضي الله عنه - ورواه مرفوعاً، وهو قول من زعم أنها زلزلة القيامة.
الثاني : قال يحيى بن سلام :﴿ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾ بما أخرجت من أثقالها، وهو قول من زعم أنها زلزلة أشراط الساعة.
الثالث : قال ابن مسعود : أنها تحدث بقيام الساعة، إذا قال الإنسان : ما لها ؟ فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى، وأمر الآخرةِ قد أتى، فيكونُ ذلك منها جواباً لهم عند سؤالهم، ووعيداً للكافر، وإنذاراً للمؤمن.
وفي حديثها بأخبارها ثلاثةُ أقاويل :
أحدها : أن الله تعالى يقلبها حيواناً ناطقاً، فتتكلم بذلك.
الثاني : أن الله يحدث فيها الكلام.
الثالث : أنه يكون منها بيان يقوم مقام الكلام.
قال الطبريُّ٣ : تبين أخبارها بالرَّجَّة٤، والزلزلة، وإخراج الموتى.
١ سقط من: أ..
٢ أخرجه الترمذي (٥/٤١٦)، رقم (٣٣٥٣)، والحاكم (٢/٥٣٣)، وأحمد (٢/٣٧٤)، والنسائي في "الكبرى" (٦/٥٢٠)، والطبري في "تفسيره" (١٢/٦٦١) من حديث أبي هريرة وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٤٥) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في "الشعب"..
٣ هو الحديث السابق..
٤ جامع البيان ١٢/٦٦٠..
قوله :﴿ بِأَنَّ رَبَّكَ ﴾ متعلق ب «تُحدِّثُ »، أي : تحدث الأرض بما أوحى إليها، ويجوز أن يتعلق بنفس أخبارها.
وقيل : الباء زائدة، و«أنَّ » وما في حيزها بدل من أخبارها.
وقيل : الباء سببية، أي : بسبب إيحاء الله إليها.
وقال الزمخشريُّ :«فإن قلت١ : أين مفعولاً «تُحدِّثُ » ؟. قلت : حذف أولهما، والثاني : أخبارها، أي : تحدث الخلق أخبارها، إلا أن المقصود ذكر تحديثها الأخبار لا ذكر الخلق تعظيماً لليوم.
فإن قلت : بم تعلقت الباء، في قوله «بأنَّ ربَّك » ؟. قلتُ : ب «تحدث » ومعناه : تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها، وأمره إياها بالتحديث، ويجوز أن يكون المعنى : يومئذٍ تحدثُ بتحديث أن ربَّك أوحى لها أخبارها، على أن تحديثها بأن ربِّك أوحى لها تحديث بأخبارها، كما تقول : نصحتني كُلَّ نصيحة بأن نصحتني في الدين ».
قال أبو حيان٢ : وهو كلام فيه عفش، ينزه القرآن عنه.
قال شهاب الدين٣ : وأي عفش فيه، فصحته وفصاحته، ولكنه لما طال تقديره من جهة إفادة هذا المعنى الحسن جعله عفشاً، وحاشاه.
ثم قال الزمخشري٤ :«ويجوز أن يكون «بأنَّ ربَّك » بدلاً من «أخبارها »، كأنه قيل : يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربَّك أوحى لها، لأنك تقول : حدثته كذا، وحدثته بكذا ».
قال أبو حيَّان٥ :«وإذا كان الفعل تارة يتعدى بحرف جر، وتارة يتعدى بنفسه، وحرف الجر ليس بزائد، فلا يجوز في تابعه إلاَّ الموافقة في الإعراب، فلا يجوز :«استغفرتُ الذنب العظيم » «بنصب «الذنب » وجر «العظيم » لجواز أنك تقول :«من الذنب »، ولا «اخترتُ زيداً الرجال الكرام » بنصب «الرجال » وخفض «الكرام »، وكذلك لا يجوز :«استغفرتُ من الذنب العظيم » بجر «الذنب » ونصب «العظيم »، وكذلك في «اخترتُ »، فلو كان حرف الجر زائداً جاز الاتباع على موضع الاسم بشروطه المحررة في علم النحو، تقول : ما رأيت من رجل عاقلاً، لأن «من » زائدة، ومن رجل عاقل على اللفظ، ولا يجوز نصب «رجل » وجر «عاقل » على مراعاة جواز دخول «من »، وإن ورد شيء من ذلك، فبابه الشعر ». انتهى.
قال شهاب الدين٦ : ولا أدري كيف يلزم الزمخشري ما ألزمه به من جميع المسائلِ التي ذكرها، فإن الزمخشري يقول : إن هذا بدل مما قبله، ثم ذكر مسوغ دخول الباءِ في البدل، وهو أن المبدل منه يجوز دخول الباء عليه، فلو حل البدل محل المبدل منه ومعه الباء لكان جائزاً ؛ لأن العامل يتعدى به، وذكر مسوغاً لخلو المبدل منه من الباء، فقال :«لأنك تقول : حدثته كذا وحدثته بكذا »، وأما كونه يمتنع أن يقول :«استغفرتُ الذنب العظيم » بنصب «الذنب » وجرّ «العظيمِ » إلى آخره، فليس في كلام الزمخشري شيء منه ألبتة، ونظير ما قاله الزمخشري في باب «استغفر » أن تقول : استغفرت الله ذنباً من شتمي زيداً، فقولك «من شتمي » بدل من «الذنب »، وهذا جائزٌ لا محالة.
قوله :﴿ أوحى لَهَا ﴾ في هذه اللام أوجه :
أحدها : أنها بمعنى «إلى »، وإنما أوثرت على «إلى » لمراعاة الفواصل، والمعنى : أوحى لها تحدث أخبارها بوحي الله تعالى لها، أي إليها، والعرب تضع لام الصفة موضع «إلى »، قال العجَّاجُ يصفُ الأرض :[ الرجز ]
٥٢٦٥- أوْحَى لهَا القَرار فاسْتقرَّتِ وشدَّهَا بالرَّاسياتِ الثُّبَّتِ٧
قاله أبو عبيدة.
الثاني : على أصلها، «أوحَى » يتعدى باللام تارة، وب «إلى » أخرى، ومنه البيت.
الثالث : اللام على بابها من العلة، والموحى إليه محذوف، وهو الملائكة، تقديره : أوحى إلى الملائكة لأجل الأرض، أي : لأجل ما يفعلون فيها.
قال الثوريُّ : تحدث أخبارها مما كان عليها من الطَّاعات والمعاصي، وما كان٨ على ظهرها من خير وشر.
١ ينظر: الكشاف ٤/٧٨٤..
٢ البحر المحيط ٨/٤٩٧..
٣ الدر المصون ٦/٥٥٥..
٤ الكشاف ٤/٧٨٤..
٥ البحر المحيط ٨/٤٩٧..
٦ ينظر: الدر المصون ٦/٥٥٥..
٧ ينظر ديوان العجاج ص ٢٦٦، واللسان (وحى) والمحتسب ٢/٣٣١، والبحر ٨/٤٩٧، والدر المصون ٦/٥٥٥..
٨ في أ: عمل..
قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ إما بدل من «يَومئذٍ» قبله، وإما منصوب ب «يَصْدرُ»، وإما منصوب ب «اذكر» مقدراً. وقوله تعالى: ﴿أَشْتَاتاً﴾ : حال من الناس، وهو جمع «شت» أي: متفرقين في الأمن والخوف والبياض والسواد، والصدر ضد الورود عن موضع الحساب، فريق إلى جهة اليمين إلى الجنة، وفريق إلى جهة الشَّمال إلى النار، لقوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ [الروم: ١٤] ﴿يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ [الروم: ٤٣].
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «أشْتَاتاً» متفرقين على قدر أعمالهم، أهل الإيمان على حدة، وأهل كل دين على حدة.
وقيل: هذا الصدر إنما هو عند النشور، يصدرون أشتاتاً، من القبور إلى موقف الحساب ليروا أعمالهم في كتبهم، أو ليروا جزاء أعمالهم، فإنهم وردوا القبور فدفنوا فيها ثم صدروا عنها، وقوله تعالى: ﴿أَشْتَاتاً﴾، أي: يبعثون من أقطار الأرض، فعلى هذا قوله تعالى: ﴿لِّيُرَوْاْ﴾ متعلق ب «يصدرُ»، وعلى القول الأول فيه تقديم وتأخير أي: تحدث أخبارها بأن ربَّك أوحى لها، ليروا أعمالهم، واعترض قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتاً﴾ متفرقين عن موقف الحساب، وعلى هذا تتعلق ب «أوحى»، وقرأ العامة: ببنائه للمفعول، وهو من رؤية البصر، فتعدى بالهمزة إلى ثان، وهو أعمالهم، والتقدير: ليريهم الله أعمالهم.
449
وقرأ الحسن والأعرج: وقتادة، وحماد بن سلمة، ونصر بن عاصم، وطلحة، ويروى عن نافع: بفتحها.
قال الزمخشري: وهي قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مبنياً للفاعل.
قوله: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾.
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: من يعمل من الكفار مثقال ذرة خيراً يره في الدنيا، ولا يثاب عليه في الآخرة، ومن يعمل مثقال ذرة من شر عوقب عليه في الآخرة مع عقاب الشرك، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يره في الدنيا، ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا مات، ويتجاوز عنه، وإن عمل مثقال ذرة من خير يقبل منه، ويضاعف له في الآخرة.
وفي بعض الحديث: «أن الذرة لا زنةَ لهَا»، وهذا مثل ضربه الله تعالى أنه لا يغفل من عمل ابن آدم صغيرة، ولا كبيرة، وهو مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [النساء: ٤٠] وقد تقدم أن الذر لا وزن له.
وذكر بعض أهل اللغةِ: أن الذَّرَّ: أن يضرب الرَّجل بيده على الأرض، فما علق بها من التراب فهو الذَّر، وكذا قال ابن عباس: إذا وضعت يدك على الأرض، ورفعتها، فكل واحد مما لزق به من التراب ذرة.
وقيل: الذر نملة صغيرة، وأصغر ما تكون إذا مضى عليها حول.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
٥٢٦٦ - مِنَ القَاصِراتِ الطَّرفِ لوْ دَبَّ مُحوِلٌ مِنَ الذَّرَّ فوْقَ الإتْبِ منْهَا لأثَّرَا
قال محمد بن كعب القرظي: فمن يعمل مثقال ذرة من خير من كافر، يرى ثوابه في الدنيا، في نفسه وماله وأهله ووطنه، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في ماله ونفسه وأهله وولده، حتى يخرج من الدنيا، وليس له عند الله شر، ودليله ما رواه أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أن هذه الآية نزلت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [وأبو بكر يأكل فأمسك، وقال: يا رسول الله]، وإنا لنرى ما عملنا من خير وشر؟ قال النبي:» يا أبا بكر، مَا رأيْتَ في الدُّنيا مِمَا
450
تكرَهُ فَهُوَ مَثَاقيلُ ذر الشر، ويدخر لكم مثاقِيلُ ذرِّ الخَيْرِ، حتَّى تُعطوهُ يَوْمَ القِيَامَةِ «».
قال أبو إدريس: إن مصداقه في كتاب الله: ﴿وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى: ٣٠].
قال مقاتل: نزلت في رجلين، وذلك أنه لما نزل ﴿وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ﴾ [الإنسان: ٨]، كان أحدهم يأتيه السائلُ، فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة، وكان الآخر يتهاون بالذَّنب اليسير، كالكذبة والغيبة والنظرة، ويقول: إنما أوعد الله النَّار على الكبائر، فنزلت ترغبهم في القليل من الخير أن يعطوه، فإنه يوشك أن يكثر، وتحذرهم اليسير من الذنب، فإنه يوشك أن يكثر، ولهذا قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اتَّقُوا النَّارَ ولَوْ بِشقِّ تَمرةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجدْ فَبِكَلمَةٍ طيِّبةٍ».

فصل في قراءة «يره»


قوله: ﴿يَرَهُ﴾، جواب الشرط في الموضعين.
وقرأ هشام: بسكون هاء «يَرَهُ» وصلاً في الحرفين، وباقي السبعة: بضمها موصولة بواو وصلاً، وساكنة وقفاً، كسائر «ها» الكناية.
ونقل أبو حيان عن هشام وأبي بكر: سكونها.
وعن أبي عمرو: بضمها مشبعتين، وباقي السبعة بإشباع الأولى وسكون الثانية انتهى.
451
وكان ذلك لأجل الوقف على آخر السورة غالباً، أما لو وصلوا آخرها بأول «العَادِيَات» كان الحكم الإشباع، وهذا مقتضى أصولهم، وهو المنقول.
وقرأ العامة: «يَرَهُ» مبنياً للفاعل فيهما.
وقرأ ابن عبَّاسٍ والحسن ابنا علي بن أبي طالب، وزيد بن علي وابو حيوة وعاصم والكسائي في رواية الجحدريِّ والسلمي وعيسى بن عمر: بضم الياء، أي: يريه اللهُ إياه.
قال القرطبيُّ: والأولى الاختيار، لقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً﴾ [آل عمران: ٣٠].
وقرأ عكرمة: «يَرَاه» بالألف، إما على تقدير الجزم بحذف الحركة المقدرة، وإما على توهم أن «من» موصولة. وتقدم هذا في أواخر «يوسف». ومعنى «يره» أي: يرى جزاءه؛ لأن ما عمله قد مضى وعدم.
وحكى الزمخشري: إن أعرابياً أخر: «خَيْراً يرهُ»، فقيل له: قدمت وأخرت؛ فقال: [الطويل]
٥٢٦٧ - خُذَا جَنْبَ هَرْشَى أو قَفَاهَا فإنَّهُ كِلاَ جَانِبَيْ هَرْشَى لهُنَّ طَريقُ
انتهى.
يريد: أن التقديم والتأخير سواء، وهذا لا يجوز - ألبتة - فإنه خطأ، فلا يعتمد به قراءة. وفي نصب «خيراً، وشراً»، وجهان:
أظهرهما: أنهما تمييز لأنه مقدار.
والثاني: أنهما بدلان من مثقال.

فصل في الكلام على هذه الآية


قال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هذه أحكم آية في القرآن وأصدق. وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية، القائلون بالعموم ومن لم يقل به.
452
قال كعبُ الأحبار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لقد أنزل الله تعالى على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آيتين، أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾. [وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسمي هذه الآية الجامعة الفاذّة].
روى مالك في «الموطأ» : أن مسكيناً استطعم عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - وبين يديها عنب، فقالت لإنسان: خذ حبة وأعطه إياها، فجعل ينظر إليها ويتعجب، فقالت عائشة: أتعجب، كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة.
روى الترمذي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ﴾ عدَلتْ لهُ نِصفَ القُرآنِ، ومَنْ قَرَأ: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ عدلتْ لهُ ثُلُثَ القُرآنِ».
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ﴾ أربعَ مرَّاتٍ، كَانَ كَمَنْ قَرَأ القُرآنَ كُلَّهُ» والله أعلم.
453
سورة العاديات
454
قوله :﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾.
قال ابن عباس - رضي الله عنه - : من يعمل من الكفار مثقال ذرة خيراً يره في الدنيا، ولا يثاب عليه في الآخرة، ومن يعمل مثقال ذرة من شر عوقب عليه في الآخرة مع عقاب الشرك، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يره في الدنيا، ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا مات، ويتجاوز عنه، وإن عمل مثقال ذرة من خير يقبل منه، ويضاعف له في الآخرة١.
وفي بعض الحديث :«أن الذرة لا زنةَ لهَا »، وهذا مثل ضربه الله تعالى أنه لا يغفل من عمل ابن آدم صغيرة ولا كبيرة، وهو مثل قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ [ النساء : ٤٠ ] وقد تقدم أن الذر لا وزن له.
وذكر بعض أهل اللغةِ أن الذَّرَّ : أن يضرب الرَّجل بيده على الأرض، فما علق بها من التراب فهو الذَّر، وكذا قال ابن عباس : إذا وضعت يدك على الأرض، ورفعتها، فكل واحد مما لزق به من التراب ذرة٢.
وقيل : الذر نملة صغيرة، وأصغر ما تكون إذا مضى عليها حول.
قال امرؤ القيس :[ الطويل ]
٥٢٦٦- مِنَ القَاصِراتِ الطَّرفِ لوْ دَبَّ مُحوِلٌ مِنَ الذَّرَّ فوْقَ الإتْبِ منْهَا لأثَّرَا٣
قال محمد بن كعب القرظي : فمن يعمل مثقال ذرة من خير من كافر يرى ثوابه في الدنيا في نفسه وماله وأهله ووطنه، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في ماله ونفسه وأهله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر٤، ودليله ما رواه أنس - رضي الله عنه - «أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم [ وأبو بكر يأكل فأمسك، وقال : يا رسول الله ]٥، وإنا لنرى ما عملنا من خير وشر ؟ قال النبي :«يا أبا بكر، مَا رأيْتَ في الدُّنيا مِمَا تكرَهُ فَهُوَ مَثَاقيلُ ذر الشر، ويدخر لكم مثاقِيلُ ذرِّ الخَيْرِ، حتَّى تُعطوهُ يَوْمَ القِيَامَةِ »٦.
قال أبو إدريس : إن مصداقه في كتاب الله :﴿ وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾ [ الشورى : ٣٠ ].
قال مقاتل : نزلت في رجلين، وذلك أنه لما نزل ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ ﴾ [ الإنسان : ٨ ]، كان أحدهم يأتيه السائلُ، فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة، وكان الآخر يتهاون بالذَّنب اليسير، كالكذبة والغيبة والنظرة، ويقول : إنما أوعد الله النَّار على الكبائر، فنزلت ترغبهم في القليل من الخير أن يعطوه، فإنه يوشك أن يكثر، وتحذرهم اليسير من الذنب، فإنه يوشك أن يكثر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم :«اتَّقُوا النَّارَ ولَوْ بِشقِّ تَمرةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجدْ فَبِكَلمَةٍ طيِّبةٍ ».

فصل في قراءة «يره »


قوله :﴿ يَرَهُ ﴾، جواب الشرط في الموضعين.
وقرأ هشام : بسكون١ هاء «يَرَهُ » وصلاً في الحرفين، وباقي السبعة : بضمها موصولة بواو وصلاً، وساكنة وقفاً، كسائر «ها » الكناية.
ونقل أبو حيان٢ عن هشام وأبي بكر : سكونها.
وعن أبي عمرو : بضمها مشبعتين، وباقي السبعة بإشباع الأولى وسكون الثانية انتهى.
وكان ذلك لأجل الوقف على آخر السورة غالباً، أما لو وصلوا آخرها بأول «العَادِيَات » كان الحكم الإشباع، وهذا مقتضى أصولهم، وهو المنقول.
وقرأ العامة :«يَرَهُ » مبنياً للفاعل فيهما.
وقرأ ابن عبَّاسٍ والحسن ابنا علي بن٣ أبي طالب، وزيد بن علي وأبو حيوة وعاصم والكسائي في رواية الجحدريِّ والسلمي وعيسى بن عمر : بضم الياء، أي : يريه اللهُ إياه.
قال القرطبيُّ٤ : والأولى الاختيار، لقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً ﴾ [ آل عمران : ٣٠ ].
وقرأ عكرمة :«يَرَاه »٥ بالألف، إما على تقدير الجزم بحذف الحركة المقدرة، وإما على توهم أن «من » موصولة. وتقدم هذا في أواخر «يوسف ». ومعنى «يره » أي : يرى جزاءه ؛ لأن ما عمله قد مضى وعدم.
وحكى الزمخشري٦ أن أعرابياً أخر :«خَيْراً يرهُ »، فقيل له : قدمت وأخرت ؛ فقال :[ الطويل ]
٥٢٦٧- خُذَا جَنْبَ هَرْشَى أو قَفَاهَا فإنَّهُ كِلاَ جَانِبَيْ هَرْشَى لهُنَّ طَريقُ٧
انتهى.
يريد : أن التقديم والتأخير سواء، وهذا لا يجوز - ألبتة - فإنه خطأ، فلا يعتمد به قراءة. وفي نصب «خيراً، وشراً »، وجهان :
أظهرهما : أنهما تمييز لأنه مقدار.
والثاني : أنهما بدلان من مثقال.

فصل في الكلام على هذه الآية


قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : هذه أحكم آية في القرآن وأصدق٨. وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية، القائلون بالعموم ومن لم يقل به.
قال كعبُ الأحبار - رضي الله عنه - : لقد أنزل الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم آيتين، أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف :﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾٩. [ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمي هذه الآية الجامعة الفاذّة ]١٠.
روى مالك في «الموطأ » : أن مسكيناً استطعم عائشة - رضي الله عنها - وبين يديها عنب، فقالت لإنسان : خذ حبة وأعطه إياها، فجعل ينظر إليها ويتعجب، فقالت عائشة : أتعجب، كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة١١.
١ ينظر القرطبي (٢٠/١٠٢)..
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/١٠٣)..
٣ تقدم..
٤ ينظر القرطبي (٢٠/١٠٣)..
٥ سقط من أ..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٦٦٢)، من حديث أنس وذكره الهيثمي في "مجمع الزاوئد" (٧/١٤٤-١٤٥)، وقال رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه موسى بن سهل والظاهر أنه الوشاء وهو ضعيف. والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٤٦)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم في "تاريخه" وابن مردويه والبيهقي في "شعب الإيمان".
وله شاهد من حديث أبي أسماء الرحبي أخرجه الحاكم (٢/٥٣٢-٥٣٣)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي فقال: مرسل.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٤٦)، وزاد نسبته إلى إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد وابن مردويه.
وللحديث شاهد آخر عن أبي أيوب ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٤٦)، وعزاه إلى ابن مردويه.
وللحديث شاهد أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص دون ذكر الأكل أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٦٦٣)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٤٦)، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا في "كتاب البكاء" والطبراني وابن مردويه والبيهقي في "شعب الإيمان".
وذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٧/١٤٤)، وقال رواه الطبراني وفيه حيي بن عبد عبد الله المعافري وثقه ابن معين وغيره وبقية رجاله رجال الصحيح. وحيي بن عبد الله ليس في إسناد الطبري..

Icon