ﰡ
ولم يختلف المسلمون علمته في أن العقل موروث كما يورث المال، وإذا كان هكذا فكل وارث ولي الدم كما كان لكل وارث ما جعل الله له من ميراث الميت، زوجة كانت له، أو ابنة، أو أمّا، أو ولدا، أو والدا، لا يخرج أحد منهم من ولاية الدم إذا كان لهم أن يكونوا بالدم مالا٢، كما لا يخرجون من سواه من ماله.
قال الشافعي : فإذا قتل رجل رجلا فلا سبيل إلى القصاص، إلا بأن يجمع جميع ورثة الميت من كانوا وحيث كانوا على القصاص، فإذا فعلوا فلهم القصاص، وإذا كان على الميت دين ولا مال له، أو كانت له وصايا، كان للورثة القتل، وإن كره أهل الدين والوصايا لأنهم ليسوا من أوليائه. وأن الورثة إن شاءوا ملكوا المال بسببه، وإن شاءوا ملكوا القود، وكذلك إن شاءوا عَفَوْا على غير مال ولا قود، لأن المال لا يملك بالعمد إلا بمشيئة الورثة، أو بمشيئة المجني عليه إن كان حيا. ( الأم : ٦/١٢-١٣. ون أحكام الشافعي : ١/٢٨٠. )
ــــــــــــ
٢٩٧- قال الشافعي رحمه الله تعالى : قال الله تبارك وتعالى :﴿ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَـانًا فَلا يُسْرِف فِّى اِلْقَتْلِ ﴾٣. قال الشافعي في قول الله عز وجل :
﴿ فَلا يُسْرِف فِّى اِلْقَتْلِ ﴾٤ : لا يقتل غير قاتله، وهذا يشبه ما قيل ـ والله أعلم ـ قال الله عز وجل :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصَاصُ فِى اِلْقَتْلَى ﴾٥ فالقصاص إنما يكون ممن فعل ما فيه القصاص لا ممن لم يفعله، فأحكم الله عز ذكره فرض القصاص في كتابه وأبانت السنة لمن هو، وعلى من هو.
قال الشافعي : أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده قال : وُجِدَ في قائم سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب :« إن أعدى الناس على الله القاتل غير قاتله، والضارب غير ضاربه، ومن تولى غير مواليه، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم »٦.
قال الشافعي : أخبرنا سفيان بن عيينة، عن محمد بن إسحاق قال : قلت لأبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه : ما كان في الصحيفة التي كانت في قراب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : كان فيها : لعن الله القاتل غير قاتله، والضارب غير ضاربه، ومن تولى غير ولي نعمته فقد كفر بما أنزل الله جل ذكره على محمد صلى الله عليه وسلم ٧.
قال الشافعي : أخبرنا سفيان، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، أو عن عيسى بن أبي ليلى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« من اعتبط مؤمنا بقتل فهو قود به، إلا أن يرضى ولي المقتول، فمن حال دونه فعليه لعنة الله وغضبه، لا يقبل منه صرف ولا عدل »٨.
أخبرنا سفيان ابن عيينة، عن عبد الملك بن سعيد بن أبجر٩، عن إياد بن لقيط١٠، عن أبي رمثة١١ قال : دخلت مع أبي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أبي الذي بظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : دعني أعالج هذا الذي بظهرك فإني طبيب، فقال : أنت « رفيق »، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« من هذا معك ؟ فقال : ابني أشهد به، فقال : أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه »١٢. ( الأم : ٦/٤-٥. ون أحكام الشافعي : ١/٢٦٧-٢٦٨. )
ــــــــــــــــــ
٢٩٨- قال الشافعي : فكل مقتول قتله غير المحارب، فالقتل فيه إلى ولي المقتول، من قبل أن الله جل وعلا يقول :﴿ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَـانًا ﴾١٣.
وقال عز وجل :﴿ فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنَ اَخِيهِ شَىْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ﴾١٤ فبين في حكم الله عز وجل أنه جعل العفو أو القتل إلى ولي الدم دون السلطان إلا في المحارب، فإنه قد حكم في المحاربين أن يقتلوا أو يصلبوا، فجعل ذلك حكما مطلقا لم يذكر فيه أولياء الدم. ( الأم : ٤/٢٩٢. )
ــــــــــــ
٢٩٩- قال الشافعي : ولو أن إماما أقر عنده رجل بقتل رجلٍ بلا قطع طريق عليه، فعجل فقتله، كان على الإمام القصاص، إلا أن تشاء ورثته الدية، لأن الله عز وجل لم يجعل للإمام قتله، وإنما جعل ذلك لوليه لقول الله عز وجل :﴿ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَـانًا فَلا يُسْرِف فِّى اِلْقَتْلِ ﴾١٥ الآية، قال الشافعي : الإسراف في القتل : أن يقتل غير قاتله، والله أعلم.
وكذلك لو قضى عليه بالقتل ودفعه إلى أولياء المقتول وقالوا : نحن نقتله، فقتله الإمام، فعليه القود، لأنه قد كان لهم تركه من القود. وأيهم شاء تركه فلا يكون إلى قتله سبيل، والإمام في هذا مخالف أحد ولاة الميت يقتله١٦، لأن لكلهم حقًّا في دمه، ولا حق للإمام ولا غيره في دمه. ( الأم : ٦/٧١. )
٢ - قوله: إذا كان لهم أن يكونوا بالدم مالا، كذا في النسخ، والله أعلم بالصواب..
٣ - الإسراء: ٣٣..
٤ - الإسراء: ٣٣..
٥ - البقرة: ١٧٨..
٦ - سبق تخريجه..
٧ - سبق تخريجه..
٨ - سبق تخريجه..
٩ - عبد الملك بن سعيد بن حيان الكوفي، عرف بابن أبجر. عن: أبي الطفيل، والشعبي. وعنه: عبيد الله الأشجعي، وأبو أسامة. ثقة. الكاشف: ٢/٢٠٣. ون التهذيب: ٥/٢٩٦. وقال في التقريب: ثقة عابد..
١٠ - إياد بن لقيط السدوسي. عن: البراء، وأبي رمثة. وعنه: مسعر والثوري. ثقة. الكاشف: ١/٩٤. ون التهذيب:
١/٤٠١. وقال في التقريب ثقة..
١١ - أبو رِمثة البلوي، صحابي. رفاعة، وقيل: يثربي، وغير ذلك. عنه: إياد بن لقيط، وثابت بن أبي منقذ. الكاشف: ٣/٣١٧. ون الإصابة: ٧/١٤٠. والتهذيب: ١٠/١٠٩. وقال في التقريب: صحابي..
١٢ - سبق تخريجه في النص: ٢٣٥..
١٣ - الإسراء: ٣٣..
١٤ - البقرة: ١٧٨..
١٥ - الإسراء: ٣٣..
١٦ - في النسخ « يقتله » وهو خطأ، والصواب بقتله، والله أعلم..
قال الشافعي رحمه الله تعالى : وحكي أن إخوة يوسف وصَفُوا أن شهادتهم كما ينبغي لهم، فحكى أن كبيرهم قال :﴿ اَرْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَاا بَانَا إِنَّ اَبْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ﴾٣.
قال : ولا يسع شاهدا أن يشهد إلا بما علم، والعلم من ثلاثة وجوه : منها ما عاينه الشاهد فيشهد بالمعاينة، ومنها ما سمعه فيشهد ما أثبت سمعا من المشهود عليه، ومنها ما تظاهرت الأخبار مما لا يمكن في أكثره العيان وتثبت معرفته في القلوب فيشهد عليه بهذا الوجه.
وما شهد به رجل على رجل أنه فعله أو أقر به، لم يجز إلا أن يجمع أمرين : أحدهما : أن يكون يثبته بمعاينة، والآخر : أن يكون يثبته سمعا مع إثبات بصرٍ حين يكون الفعل. وبهذا قلت : لا يجوز شهادة الأعمى إلا أن يكون أثبت شيئا معاينة، أو معاينة وسمعا ثم عمي، فتجوز شهادته، لأن الشهادة إنما تكون يوم يكون الفعل الذي يراه الشاهد، أو القول الذي أثبته سمعا وهو يعرف وجه صاحبه، فإذا كان ذلك قبل يعمى، ثم شهد عليه حافظا له بعد العمى جاز، وإذا كان القول والفعل وهو أعمى لم يجز من قبل أن الصوت يشبه الصوت. ( الأم : ٧/٩٠-٩١. ون أحكام الشافعي : ٢/١٣٦-١٣٧. ومختصر المزني : ٣٠٤-٣٠٥. )
قال ابن كثير: ومضمون ما ذكره أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم بل بالظن الذي هو التوهم والخيال، كما قال تعالى:
﴿ اَجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ اَلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ اَلظَّنِّ إِثْمٌ ﴾. (الحجرات: ١٢).
وأخرج البخاري في النكاح (٧٠) باب: لا يخطب على خطبة أخيه (٤٦)(ر٤٨٤٩) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث.. » الحديث. ورواه في الأدب، وفي الفرائض.
وأخرجه مسلم في البر والصلة والأدب (٤٥) باب: تحريم الظن (٩)(ر٢٥٦٣)..
٢ - الزخرف: ٨٦..
٣ - يوسف: ٨١..
طُولا }. ( مناقب الشافعي : ١/٢٩٣. )
ـــــــــــــ
٣٠٢- الكوكب الأزهر شرح الفقه الأكبر ص : ١٩.
٢ - النحل: ٤..
٣ - المرسلات: ٢٠..
٤ - أخرج مسلم في الطهارة (٢) باب: حكم المني (٣٢)(ر٢٨٨) عن عقلمة والأسود: أن رجلا نزل بعائشة، فأصبح يغسل ثوبه. فقالت عائشة: إنما كان يجزيك إن رأيته أن تغسل مكانه، فإن لم تر نضحت حوله، ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركا فيصلي فيه.
وأخرجه أصحاب السنن كلهم في الطهارة بألفاظ مختلفة.
قال الخطابي: وفي هذا دليل على أن المني طاهر، ولو كان عينه نجسا لكان لا يطهر الثوب بفركه إذا يبس كالعذرة إذا يبست لم تطهر بالفرك. وممن كان يرى فرك المني ولا يأمر بغسله سعد بن أبي وقاص. وقال ابن عباس: امسحه عنك بإذخرة (حشيش طيب الريح) أو خرقة، ولا تغسله إن شئت، إنما هو كالبزاق أو المخاط، وكذلك قال عطاء. وقال الشافعي: المني طاهر، وقال أحمد: يجزيه أن يعركه. ن سنن أبي داود: ١/١٨٦..
قال الشافعي : وأخبرنا مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمان، عن عائشة قالت : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فتنصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس١. ولا تفوت حتى تطلع الشمس قبل أن يصلي منها ركعة. والركعة ركعة بسجودها، فمن لم يكمل ركعة بسجودها قبل طلوع الشمس، فقد فاتته الصبح لقول النبي صلى الله عليه وسلم :« من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح »٢. ( الأم : ١/٧٤-٧٥. )
وأخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (٥) باب: استحباب التبكير بالصبح (٤٠)(ر٦٤٥).
وأخرجه أصحاب السنن، ومالك، وأحمد، والدارمي، والبيهقي، والشافعي في المسند (ر١٤٦)..
٢ - أخرجه البخاري عن أبي هريرة بنحوه في مواقيت الصلاة (١٣) باب: من أدرك من الفجر ركعة (٢٧)(ر٥٥٤).
وأخرجه مسلم عن عائشة في المساجد ومواضع الصلاة (٥) باب: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة (٣٠)(ر٦٠٩).
وأخرجه أصحاب السنن، ومالك، وأحمد، والبيهقي، والشافعي في المسند (ر١٦١).
.
البخاري في أول الدعوات (٨٣)(ر٥٩٤٥ و ٥٩٤٦) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لكل نبي دعوة مستجابة يدعوا بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة ». وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « كل نبي سأل سؤالا أو قال: لكل نبي دعوة قد دعا بها فاستجيب، فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ».
ومسلم في الإيمان (١) باب: اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته (٨٦)(ر١٩٨-١٩٩-٢٠٠-٢٠١)..
٢ - أخرجه البخاري بلفظ مغاير عن جابر بن عبد الله في أول التيمم (٧)(ر٣٢٨). وفي المساجد (١١) باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: « جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا »(٢٣)(ر٤٢٧).
وأخرجه مسلم في أول المساجد ومواضيع الصلاة (٥)(ر٥٢١).
وأخرجه النسائي، وأحمد، والدارمي، والبيهقي..
ومعجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة ـ لا نحصيها في هذا المختصر ـ إلا أنا نذكر منها ما يتعلق بالقرآن، لأن ذلك أظهر ولا مجال للإنكار والجحود فيه، فما هو أبلغ على هذا الوجه من النظم المباين لنظم الشعر والخطب ومنثور الكلام والرجز وأسجاع الكهان، مع التحدي به للخلق، قال تعالى :﴿ قُل لَّئِنِ اِجْتَمَعَتِ اِلاِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَّاتُوا بِمِثْلِ هَاذَا اَلْقُرْءَانِ لا يَاتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ ثم بالغ في غاية التحدي إلى أن قال :
﴿ فَاتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ ﴾١ ولم يمكنهم الإتيان بسورة مثل ذلك، مع أن هذه اللغة لسانهم، والفصاحة جبلتهم، فكانت المعارضة أيسر عليهم من المقابلة بالسيف وإعطاء الأموال وبذل النفوس والمهج.
وإلى يومنا هذا لم تظهر معارضة سورة من قصار السور من أحدٍ، مع كثرة الكفار وأعداء دين الإسلام، وذلك أدل دليل على صحة معجزته وصدق نبوته صلى الله عليه وسلم. ( الكوكب الأزهر شرح الفقه الأكبر : ٢٦-٢٧. )