ﰡ
﴿سُبْحَانَ﴾ تنزيه له تعالى من كل نقص؛ ولا يجوز أن ينزه به غيره من المخلوقين؛ وهي كلمة تدل على نهاية التنزيه، وغاية التقديس؛ وهي من السبح: بمعنى الذهاب والإبعاد. أي أنزه الله تعالى عن النقائص، وأبعده عن صفات المخلوقين، وأجله عما وصفه به الكافرون، وافتراه عليه المكذبون الضالون ﴿الَّذِي أَسْرَى﴾ الإسراء: السير ليلاً ﴿بِعَبْدِهِ﴾ قال تعالى «بعبده» ولم يقل بنبيه، أو برسوله؛ لأن صفة العبودية: هي غاية الغايات، وأشرف النعوت والصفات؛ يبتغيها العارفون، ويتمناها المخلصون ﴿إِلَى﴾ بيت المقدس؛ وقد كان التوجه إليه في الصلاة قبل تحويل القبلة ﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ يريد بركات الدين والدنيا؛ لأنه كان مهبط الوحي، ومتعبد الأنبياء عليهم السلام ﴿أَنَّهُ﴾ أي النبي صلوات الله تعالى وسلامه عليه ﴿هُوَ السَّمِيعُ﴾ لأوامري، المبلغ لها، العامل بها ﴿البَصِيرُ﴾ المتبصر في ملوكتي، المعتبر بآياتي، المتدبر في عظمتي وجبروتي أو الضمير عائد لله تعالى؛ فهو جل شأنه سميع لكل المسموعات، بصير بكل المبصرات ويأخذ بالرأي الأول المتصوفة؛ أما أرباب الكلام فلا يرون إلا القول الثاني
﴿وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ إليهم وحياً مقضيًّا أو حياً ﴿فِي الْكِتَابِ﴾ التوراة ﴿لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ﴾ بالمعاصي ﴿مَّرَّتَيْنِ﴾ أولاهما: قتل زكريا. وحبس أرمياء عليهما السلام، والأخرى: قتل يحيى، وقصد قتل عيسى عليهما السلام ﴿وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً﴾ تبغون بغياً عظيماً؛ وأي بغي أشد من قتل خيرة خلق الله تعالى، والداعين إلى دينه الحق؟
﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا﴾ أولى مرتي الفساد؛ المشار إليهما بقوله تعالى: ﴿لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ﴾ ﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ﴾ هم أهل بابل؛ وكان عليهم بختنصر.
وقيل: جالوت
﴿أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾
ذوي قوة وبطش. قيل: في المرة الأولى جاءت جند من فارس متنكرون؛ يتجسسون أخبارهم، ويعلمون مواطن ضعفهم؛ لذا قال تعالى: ﴿فَجَاسُواْ﴾ أي تجسسوا، والجوس: طلب الشيء بالاستقصاء، والتردد خلال الدور والبيوت في الغارة
﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾ أعدنا لكم القوة والغلبة؛ حين تبتم وأنبتم. قيل: كان ذلك بقتل داود جالوت ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً﴾ عشيرة وعدداً
﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ﴾ أعمالكم ﴿أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ﴾ لأن ثواب إحسانكم عائد إليها ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ أي فلأنفسكم عقوبة إساءتكم ﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ﴾ وعد المرة الآخرة في الفساد الذي تقومون به في الأرض؛ وكان ذلك بقتل يحيىبن زكرياء عليهما السلام ﴿لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ﴾ أي بعثناهم «ليسوءوا وجوهكم» وإساءة الوجه: ظهور الحزن والأسى عليه. والمراد: ليحزنوكم بالقتل والأسر والسبي. وقد يراد بـ «وجوهكم»: أشرافكم وساداتكم؛ وهو أبلغ في الهوان والإذلال ﴿وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ﴾ بيت المقدس: دخلوه فاتحين فخربوه ﴿كَمَا دَخَلُوهُ﴾ وخربوه ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً﴾ أي يهلكوا كل شيء استولوا عليه
﴿وَإِنْ عُدتُّمْ﴾ إلى الكفران والعصيان ﴿عُدْنَا﴾ إلى العقوبة والإذلال ﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً﴾ من التضييق والحصر. أي محبساً وسجناً، أو فراشاً يتقلبون عليه
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ أي للطريقة التي هي أصوب وأعدل
﴿أَعْتَدْنَا﴾ أعددنا وهيأنا
﴿وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ﴾ أي يطلب النفع العاجل وإن قل؛ بالضرر الآجل وإن جل أو يدعو على نفسه وأهله إذا حل به ضجر؛ كما يدعو بالخير
﴿وَجَعَلْنَا الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾
دالتين على قدرتنا ووحدانيتنا ﴿فَمَحَوْنَآ آيَةَ الْلَّيْلِ﴾ طمسنا نورها بالظلام؛ وفي هذا الطمس آية دالة على وجوده تعالى ﴿وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ أي يبصر بها وفيها ﴿لِّتَبْتَغُواْ﴾ تطلبوا ﴿فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ﴾ رزقاً بالسعي فيه والعمل والاتجار ﴿وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ لأنه لو لم يكن ليل ونهار لما عرفت الأيام، وأحصيت الأعوام ﴿وَكُلَّ شيْءٍ﴾ تحتاجون إليه في معايشكم ﴿فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً﴾ بيناه تبييناً
﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ طائر الإنسان: عمله الذي عمله في دنياه من خير أو شر؛ أي إن جزاء عمله ملازم له ملازمة القلادة للعنق ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً﴾ قد كتب فيه سائر ما عمل في دنياه ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾ ﴿يَلْقَاهُ مَنْشُوراً﴾ مبسوطاً مقروءاً مذاعاً؛ يقال: نشر الخبر: إذا أذاعه
﴿مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ﴾ لأن ثواب هدايته عائد إليها ﴿وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ لأن إثم ضلاله واقع عليها ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ أي لا تحمل نفس إثم نفس أخرى ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ﴾ أحداً من الناس ﴿حَتَّى نَبْعَثَ﴾ إليهم ﴿رَسُولاً﴾ يبين لهم ما يجب عليهم، وأن يكون الرسول بلسان المرسل إليهم؛ ليستطيع أن يبين لهم ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ وعلى هذا فواجب الأمة الإسلامية تبليغ القرآن الكريم لسائر الأمم، وترجمته لمن لا يتكلمون بالعربية. ولهذا البحث مزيد بيان فانظره إن شئت في كتابنا «الفرقان»
﴿وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً﴾ أي أهل قرية؛ بسبب انصرافهم عن الطاعات، وانغماسهم في الشهوات
﴿أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ من الأمر؛ الذي هو ضد النهي. أي أمرنا أغنياءها وكبراءها بالطاعة؛ فلم يمتثلوا لأمرنا، ولم يستجيبوا لإرادتنا ﴿فَفَسَقُواْ فِيهَا﴾ فخرجوا عن أمرنا، وعصوا رسلنا، وكذبوا بآياتنا أو المراد بالفسق: الزنا. وقرىء «أمرنا» من التأمير. أي جعلنا مترفيها أمراء فيها ﴿فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ﴾ وجب العذاب على أهل القرية جميعهم. وجب على من عصى وفسق: لعصيانه وفسقه، ووجب على الباقين لعدم منعهم العاصي عن عصيانه، وعدم ضربهم على أيدي الفسقة قال تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً﴾ والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر: من أولى واجبات المؤمنين ﴿فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً﴾ أي دمرنا القرية التي فشا فيها الفساد والسفاد، وعم فيها العصيان والطغيان وتدميرها يكون بتدمير أهلها؛ وذلك بأن يسلط الله تعالى عليهم الأدواء والآفات،
-[٣٣٩]- ويفشي فيهم الأمراض والعاهات ولا يخفى أن الزنا مصدر من مصادر الأمراض الفتاكة المتلفة، وقد اقتضت حكمة الحكيم العليم بأن تكون عاقبة الزنا فقراً مدقعاً، وهلاكاً محققاً: فهو السبب الأوحد لمرض الزهري؛ الذي يصيب الأجسام، وينخر في العظام، ويجعل القوي هزيلاً، والعزيز ذليلاً ولا يقتصر هذا المرض اللعين على الفاسق فحسب؛ بل يصاحب بنيه وذراريه، وخلطائه وجلسائه، وخلطاء خلطائه، وجلساء جلسائه؛ إلى ما لا نهاية له؛ فتنحط بذلك قوى الأمة، ويضعف إنتاجها ونتاجها؛ حتى يعصف بزهرة الشباب؛ فيشوه خلقهم، كما شوه خلقهم: فنهلك القرية بسبب انحلال قوي بينها وضعفهم واستكانتهم؛ وعدم استطاعتهم مجاراة الحياة في تجارة، أو صناعة، أو زراعة فيحل بواديهم الدمار والبوار؛ وهذا - ولا شك - إحدى العقوبات التي ينزلها الله تعالى في الدنيا بمن غضب عليه أعاذنا الله تعالى من غضبه وعقابه؛ بمنه وفضله
هذا ولا يجوز بحال فهم الآية بظاهر سياقها: ﴿وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا﴾ فحاشلله أن يريد الهلاك لأناس قبل ارتكابهم الإثم، واستحقاقهم الهلاك وكيف يستطيع عبد أن يمتنع عن إرادة مولاه، وإرادته مشيئة كائنة؟ ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ وحاش أن يأمر تعالى بالفسق وهو الناهي عنه، المتوعد عليه وإلا لو قلنا: إنه تعالى أراد الفسق، وأمر الفاسق به؛ فلماذا يتوعده؟ وعلام يعاقبه ويؤاخذه؟ وهل من العدل - يا ذوي العقول - أن يأمر عبيده بالعصيان، ويهلكهم على تنفيذ أمره؟ فتعالى الله عن إرادة الفسق، أو الأمر به، وجل عن الظلم؛ وهو القائل: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ ولا يعذب الله تعالى أحداً من خلقه قبل أن ينذره ويحذره ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ ينهي عن الفسق، ويتوعد عليه؛ لا أن يأمر به، ويرغب فيه هذا وقد عجز بعضهم عن فهم هذه الآية وأمثالها؛ فأطاح ذلك بألبابهم ومعتقداتهم؛ فساروا على غير هدى، وسقطوا في مهاوي الردى فتفهم ما قلناه وتدبره؛ هديت وكفيت
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ﴾ أي وكثيراً ما أهلكنا من الأمم
﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ﴾ الدنيا ﴿عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ﴾ أي آتينا من نشاء ممن يرغبون في الدنيا ما نشاء إعطاءه له؛ لا ما يريده هو لنفسه؛ فكم قد رأينا منصرفاً عن الآخرة، مقبلاً على الدنيا، وقد خسر كليهما: لا مال في يديه، ولا صحة في جسمه، ولا ولد يسنده في كبره وعوزه؛ ورأينا آخر يماثله في كفره، ويشاكله في عقيدته؛ وقد آتاه الله تعالى من دنياه
-[٣٤٠]- ما أراد، بل وزاد؛ وذلك كله بتصريف الحكيم العليم يعطي من يشاء ما يشاء، ويمنع من يشاء عما يشاء؛ وقد يعطي من يبغض، ويمنع من يحب؛ لحكمة علمها، ومشيئة قدرها ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ﴾ أي جعلنا في الآخرة لمن أراد العاجلة ﴿جَهَنَّمَ يَصْلاهَا﴾ يدخلها ﴿مَذْمُوماً مَّدْحُوراً﴾ مطروداً من رحمة الله تعالى
﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا﴾ أي عمل الأعمال الصالحة الموصلة لها ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ شرط الله تعالى إيمانه؛ فقد يعمل الكافر أعمالاً صالحة؛ لا يبتغي بها دنيا؛ ولكنها مردودة عليه لكفره، معجل له ثوابها في دنياه عدلاً من ربه
﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ﴾ أي نعطي كلا من المطيع والعاصي تفضلاً منا وإحساناً ﴿وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾ ممنوعاً من أحد من خلقه
﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ في الرزق والجاه، والصحة والقوة؛ وقد يكون الفاضل أدنى رتبة من المفضول؛ ولكن لا عبرة في التفضيل في الدنيا، وإنما الاعتداد والعبرة بالتفضيل في الآخرة ﴿وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ﴾ أعظم من درجات الدنيا ﴿وَأَكْبَرُ﴾ وأعظم ﴿تَفْضِيلاً﴾ فينبغي الاعتناء والتمسك بالأعمال الموصلة إليها
﴿وَقَضَى رَبُّكَ﴾ أمر وألزم وأوجب ﴿أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ أردف تعالى عبادته بالإحسان إلى الوالدين لأنه سبحانه هو المؤثر في وجود الإنسان على الحقيقة، والوالدان هما المؤثران في وجوده - بحسب العرف الظاهر - وأيضاً فإن الله تعالى لا يمل من الإنعام على عبده؛ ولو أتى بأعظم الجرائم، وأكبر الآثام، وكذا الوالدان لا يملان الإنعام على ولدهما وإكرامه؛ ولو كان مسيئاً لهما غاية الإساءة فليتأمل ذلك العاق لأبويه، وليبادر بالإحسان إليهما؛ ليحظى بالغفران وقد ذهب بعض الفلاسفة إلى أن الوالدين لم ينجبا ولدهما رغبة في إيجاده، وإنما هو ثمرة لشهوة اشتهياها وأراداها بمحض اختيارهما؛ فلا فضل لهما عليه، ولا منة أسدياها إليه. وقد فات هؤلاء الفجار أن الله تعالى جعل مصدر الولد الاشتهاء واللذة: لحكمة حفظ الأنواع وبقائها؛ وناهيك بما يتحمله الوالدان بعد ذلك في سبيل تربية بنيهما وتنشئتهم وما يبذلانه من متاعب في سبيل راحتهم: فطالما سهرا ليناموا، وشقيا ليسعدوا وطالما أنفقا من مالهما في سبيل إطعامهم، وطالما بذلا النفس والنفيس في سبيل تمريضهم والمحافظة عليهم أليس كل ذلك موجب لإكرامهما وإعزازهما، وطلب الرحمة لهما فليتأمل ذلك كل عاق لوالديه، وليبادر إلى إدراك ما فاته من الإحسان إليهما؛ قبل أن ينقطع حبل حياتهما فيخسر الدنيا والآخرة
وقد ورد أن الله تعالى لا ينظر يوم القيامة لمن عق والديه ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ﴾ خص تعالى
-[٣٤١]- الكبر؛ لأنه مبعث الضعف والحاجة، ومظنة الملل والاستثقال ﴿فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ﴾ وهي أدنى كلمة تقال في التضجر. وقد ورد عن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه: «لو علم ربك دون أف لنهى عنه»
﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ أي ألن جانبك، وكن ذليلاً في معاملتهما - مهما كنت عزيزاً - حباً فيهما، ورحمة بهما؛ فقد أذللتهما في صغرك وأتعبتهما وأشقيتهما؛ وقد أحباك كل الحب ورحماك كل الرحمة فكن لهما محباً، وبهما رحيماً، ليحبك الرحمن، ويرحمك الرحيم
﴿لِلأَوَّابِينَ﴾ الراجعين إلى الله تعالى
﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ بعد أن أمر الله تعالى عباده بعبادته، وبالإحسان إلى الوالدين والتذلل لهما: أردف بذوي القربى، ووجوب إيفائهم حقوقهم التي جعلها في أعناقنا؛ فأمرنا بإيتائها لهم. ومن هذه الآية يعلم أي للأقرباء حقوقاً أقلها: معاونة فقرائهم، وزيارة أغنيائهم، ومواساة ضعفائهم. وبعد أن أمرنا تعالى ببر الوالدين والأقرباء؛ ولبعضهم من الحقوق ما يستأهل البر والعطف والمساعدة؛ بعد ذلك عرفنا تعالى أن لكل محتاج - قريب كان أو بعيد - حقاً واجب الأداء والوفاء؛ قال تعالى: ﴿وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ وهو المسافر الذي انقطع به الطريق واعلم - هديت وكفيت - أن هذا الحق الذي أمر به الله تعالى غير فريضة الزكاة؛ فاحرص على ذلك حرصك على دينك ﴿وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً﴾ بالإنفاق في غير طاعة الله تعالى؛ فلو أنفق سائر ماله في الخير والصدقة: ما كان من المبذرين إذ أنه لا خير في السرف، ولا سرف في الخير ولا يعقل أن يكون البار بالمساكين، من إخوان الشياطين
﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ وقد خرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه من سائر ماله في سبيل الله تعالى؛ فكان ذلك إحدى محامده
﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ﴾ أي عمن ذكر؛ لضيق ذات يدك، وفقر به الله امتحنك ﴿ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ﴾ أي طلباً لرزق يأتيك؛ فتوفي به ما عليك مما أمرك الله تعالى به، وألزمك بأدائه.
ومن عجب أن نرى في زماننا بعض من أفاء الله تعالى عليهم بالمال الكثير، والرزق الوفير؛ وقد بدلوا نعمة الله كفراً؛ وجزوا والديهم عقوقاً وخذلاناً، وأقربائهم ذلاً وحرماناً، ومساكينهم قهراً ونهراً؛ في حين أنهم في سعة من العيش؛ يسرفون في ملذاتهم وشهواتهم بغير حساب بينا نجد فقيراً مدقعاً يتعثر في أسماله، ولا يكاد يفي بحاجة عياله؛ إذا به يقتطع من قوته فيعطي الأبوين والأقرباء، ولا ينسى المساكين والفقراء وذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء والله يجزي العاملين، ويتولى الصالحين ﴿فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً﴾ سمحاً سهلاً: بأن تعدهم بالإعطاء، عند حلول العطاء، وبأن توسع عليهم عندما يغدق المولى
-[٣٤٢]- عليك وبذلك يكون رفقك سبباً في رزقك، وسخاؤك سبباً في رخائك
﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ أي لا تكن بخيلاً ﴿وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ فتكن من المسرفين ﴿فَتَقْعُدَ مَلُوماً﴾ مستوجباً للوم: من نفسك، ومن بني جنسك ﴿مَّحْسُوراً﴾ متحسراً
﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾ يوسعه ﴿وَيَقْدِرُ﴾ يضيق
﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾ فقر ﴿خَطَئاً﴾ إثماً وخطأ
﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى﴾ اعلم - هداك الله تعالى - أن قربان الزنا غير إتيانه، وقرع الباب غير ولوجه. وقد أريد بقربانه: غشيان مواضعه، وتعريض النفس له؛ من إطالة النظر، وإشغال الفكر، وإشباع الغرائز: قال تعالى: ﴿قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ﴾ فإذا ما صان الإنسان نفسه، وكف بصره: تجنب مواضع الزلل ولا يخفى ما في الزنا من فساد للأنساب، وقطع للأرحام؛ وما يترتب عليه من فتك الأمراض الخبيثة بالنفوس؛ وهو من الذنوب التي جاء ذمها وتقبيحها والزجر عليها في سائر الأديان؛ والدليل على فحش هذا الجرم وشناعته: قسوة عقابه، وشدة جزائه؛ فقد جعل الشارع الحكيم عقوبة الزنا: الرجم بالحجارة للمحصن «المتزوج» وجلد مائة لغير المحصن «الأعزب» (انظر آيتي ١٦ من هذه السورة، و٢ من سورة النور» ﴿وَسَآءَ سَبِيلاً﴾
أي بئس هذا الطريق طريقاً
﴿وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً﴾ بغير ذنب يستحق عليه القتل ﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ﴾ لوارثه المطالب بدمه ﴿سُلْطَاناً﴾ تسلطاً على القاتل وحده ﴿فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ﴾ بأن يقتل غير القاتل، أو يقتل بعد أخذه الدية ﴿إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً﴾ بكلمة الله تعالى وأمره
﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ كأن ينميه ويستثمره، ولا يأخذ الوصي منه شيئاً إلا بمقدار ما يأكل - إذا كان فقيراً - بشرط عدم الإخلال برأس المال ﴿حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ أي قوته: وهو ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة ﴿وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ﴾ الذي تعاهدون الناس عليه، والميثاق الذي تواثقونهم به ﴿إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾ عنه. وقيل: يسأل العهد نفسه؛ تبكيتاً لناقضه، وتقريعاً له (انظر آيتي صلى الله عليه وسلّم من سورة المائدة، و٧٢ من سورة الأنفال)
﴿وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ﴾ الميزان ﴿ذلِكَ خَيْرٌ﴾ في الدنيا: بحب الناس لكم، وإقبالهم عليكم. وفي الآخرة: برضا الرب عنكم، وإحسانه إليكم ﴿وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ أي أحسن مآلا وعاقبة
﴿وَلاَ تَقْفُ﴾ ولا تَتَتَبَّعْ ﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ كأن تقول: سمعت؛ وأنت لم تسمع، ورأيت؛ وأنت لم تر؛ وعلمت؛ وأنت لم تعلم ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ﴾ الفؤاد: القلب؛ وأريد به العقل ﴿كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ﴾ الإنسان ﴿مَسْؤُولاً﴾ فيجب على العاقل الحكيم ألا يسمع إلا خيراً، وألا يرى محرماً، وألا يفكر
-[٣٤٣]- شراً، ولا يعتقد نكراً
﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً﴾ أي لا تمش متكبراً، مختالاً. وقد أخذ بعضهم من هذه الآية: تحريم الرقص؛ لأنه أشد من المرح، وأشر من الاختيال ﴿إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ﴾
بكبرك وتجبرك ﴿وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً﴾ بتعاظمك وتفاخرك
﴿كُلُّ ذلِكَ﴾ المذكور؛ من أمر ونهي ﴿كَانَ سَيِّئُهُ﴾ أي سيىء ما عددنا عليك ﴿عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً﴾ مبغوضاً مذموماً ومن واجب المؤمن الذكي التقي أن يتبع ما أحب الله تعالى؛ لا ما أبغض وكره
﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم﴾ اصطفى لكم وخصكم ﴿بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ﴾ لنفسه ﴿مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً﴾ بنات؛ كما تزعمون
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا﴾ فصلنا وبينا ﴿فِي هَذَا الْقُرْآنِ﴾ من القصص، والأمثال، والوعد والوعيد ﴿وَمَا يَزِيدُهُمْ﴾ ذلك القرآن المبين المفصل ﴿إِلاَّ نُفُوراً﴾ عن الحق، وتمسكاً بالباطل
﴿قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ﴾ أي مع الله تعالى ﴿آلِهَةً﴾ أخرى ﴿كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ﴾ أي لطلبت الآلهة مع الله ﴿إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً﴾ طريقاً إلى محاربته ومناوأته، ومنازعته في ملكه؛ كما تفعل ملوك الدنيا، ورؤساؤها
﴿سُبْحَانَهُ﴾ تقدس وتنزه ﴿وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ﴾ ويزعمون (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من هذه السورة)
﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ﴾ التسبيح والثناء: كما يجريان على لسان المقال؛ فإنه ينطق بهما لسان الحال: فتسبيح السموات، والأرض، والجبال، والكواكب، والمياه، والأشجار، والأزهار: دلالتها على أنه تعالى حي قادر، جبار قاهر، له القوة والملكوت، والعزة والجبروت فقد خلقها - جلت قدرته، وتعالت عظمته - في أسرع مدة؛ بلا روية، ولا حركة، ولا تجربة ﴿إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ وترى السموات مرفوعة بلا عمد، والكواكب معلقة في الفضاء بلا سبب: تسبح في أفلاكها، وتجري إلى منازلها التي قدرت لها كذلك يسبح بحمده، ويثني عليه كل شيء نستمد منه سروراً وحبوراً، ورزقاً وخيراً كالسموات في زرقتها وصفائها، والأرض في استدارتها وانبساطها، والشمس في إشراقها، والنجوم في بريقها، والسحب في إمطارها، والحقول في خضرتها، والبساتين في نضرتها، والأشجار في حفيفها، والمياه في تدفقها وخريرها، والطيور في تغريدها، والوحوش في زئيرها، والبهم في خوارها ورغائها تلك بعض الطرق التي تسلكها مخلوقاته تعالى، في تسبيحها بحمده وإنها لقل من كثر، وغيض من فيض
﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ ﴿وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ لانصرافكم عن النظر إليها، والتأمل في بديع صنعها وقد يخلق الله تعالى لها ألسناً للتسبيح، فتسبح بحمده بالمنطق الفصيح
﴿حِجَاباً مَّسْتُوراً﴾ يسترهم عن الفهم والإيمان؛ عقوبة لهم على كفرهم وإصرارهم، وعدم
-[٣٤٤]- إيمانهم بالآخرة
﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾ أغطية وحجباً ﴿وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً﴾ صمماً
﴿إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾ أي يستمعون لك حالة كونهم متناجين، والمعنى: أنهم يستمعون إليك سراً؛ متجسسين عليك، غير ظاهرين لك.
أو إنهم يتناجون مع بعضهم حينما تتكلم ﴿إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ﴾ الكافرون للمؤمنين ﴿إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً﴾ أي مجنوناً، به مس من السحر ومن أعجب العجب أن بعض المفسرين يقول في تأويل بعض الآيات: أن الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه قد سحر، مستندين في هذا التأويل الفاسد إلى إفك روته اليهود؛ فتناقله ضعاف العقول، وصغار الأحلام؛ فليحذر العاقل من الوقوع في مثل ذلك الإفك
﴿وَقَالُواْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً﴾ حطاماً
﴿قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً﴾ أي لو كنتم حجارة أو حديداً، ولم تكونوا عظاماً ورفاتاً، فسيعيدكم الله تعالى كما كنتم في الدنيا
﴿فَطَرَكُمْ﴾ خلقكم ﴿فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ﴾ أي يحركونها مستهزئين
﴿وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ في الدنيا، أو في القبور
﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ يفسد ويغري
﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً﴾ كتاباً
﴿قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم﴾ أنهم آلهة مع الله تعالى ﴿فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ﴾ إذا نزل بكم ﴿وَلاَ تَحْوِيلاً﴾ أي ولا يملكون تحويل الضر عنكم إلى غيركم
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ يعبدون؛ أي يعبدهم العباد من دونالله: كالملائكة، وعيسى، وعزير. وقرأ ابن مسعود «تدعون» أي هؤلاء الأرباب الذين تعبدونهم؛ هم عباد أمثالكم ﴿يَبْتَغُونَ﴾ بعبادتهم وطاعتهم ﴿إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ التي تقربهم إليه؛ ولا يدرون ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ﴾ يطلبون ويأملون رضاءه عنهم، ومغفرته لهم ﴿وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ أن ينزل بهم ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً﴾ أي يخاف منه ويحذر. والرجاء والخوف: مرتبتان؛ متلازمتان، والجمع بينهما: هو المثل الأعلى، والتوسط فيهما: هو غاية الكمال؛ فإذا زاد الخوف: ذهب بالحب؛ وهو لب العبادة وجوهرها وإذا زاد الرجاء: ذهب بالأدب والوقار؛ وهما صلب المعرفة
وكما أن الكرم: وسط بين التبذير والبخل. والشجاعة: وسط بين التهور والجبن؛ كذلك يكون كمال الإيمان: في التوسط بين الخوف والرجاء
﴿وَإِن مِّن قَرْيَةٍ﴾ وما من قرية ﴿إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا﴾ أي مخربوها، أو مهلكو أهلها بالموت؛ إن كانت مؤمنة، وبالعذاب؛ إن كانت ظالمة، وبالأمراض والأوصاب؛ إن كانت فاسقة ﴿أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً﴾ بالقتل، والأسر، والذل. أو يكون المعنى: «وإن من قرية» ظالمة «إلا نحن مهلكوها» قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾
-[٣٤٥]- ﴿كَانَ ذلِك فِي الْكِتَابِ﴾ اللوح المحفوظ
﴿وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ﴾ الرسل ﴿بِالآيَاتِ﴾ المعجزات التي يقترحونها ﴿إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ﴾ أي كذب بها آباؤهم، بعد أن أرسلناها لهم ﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً﴾ أي آية واضحة جلية ﴿فَظَلَمُواْ بِهَا﴾ أي كفروا بها، وظلموا أنفسهم بتعريضها للعقاب والعذاب الأليم؛ وأهلكناهم بسبب هذا الكفر وذلك التكذيب ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ﴾ أي القرآن؛ وما فيه من نذر، وقصص وعبر أو أريد «بالآيات» المعجزات ﴿إِلاَّ تَخْوِيفاً﴾ للمكذبين؛ فلا يستمرئون تكذيبهم، وللكافرين، فلا يبقون على كفرهم
﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ﴾ يا محمد ﴿إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ﴾ علماً وقدرة ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ﴾ وهو أنه رأى في منامه - عام الحديبية - أنه يدخل مكة. غير أنه رد عنها في هذا العام؛ فافتتن المسلمون لذلك، فنزلت هذه الآية؛ فلما كان العام القابل دخل الرسول مكة فاتحاً - كما رأى في منامه - وأنزل الله تعالى ﴿لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ﴾ وقيل: رأى في منامه مصارع الكفار في وقعة بدر، وكان يقول حين ورد ماء بدر: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم؛ ويوميء إلى الأرض ويقول: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان؛ وقد كان ما قال وما رأى؛ صلوات الله تعالى وسلامه عليه
﴿وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ﴾ أي الملعون آكلها وهي شجرة الزقوم
﴿قَالَ﴾ إبليس اللعين؛ محاجاً ربه ﴿أَرَأَيْتَكَ﴾ أي أرأيت؛ والكاف: توكيد للمخاطبة؛ والمعنى: أخبرني عن ﴿هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ﴾ فضلته، وجعلته فوقي في المرتبة: لم فضلته عليّ؛ وقد خلقتني من نار، وخلقته من طين؛ والنار خير من الطين؟ ﴿لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ﴾ لأستأصلنهم جميعاً بالإغواء؛ يقال: احتنك الجراد الزرع: إذا ذهب به كله
﴿قَالَ﴾ تعالى لإبليس ﴿اذْهَبْ﴾ مذموماً مدحوراً ﴿فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ﴾ أي من أطاعك واستجاب لإغوائك من ذرية آدم ﴿فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً﴾ كاملاً وافراً
﴿وَاسْتَفْزِزْ﴾ استخف واستنزل ﴿وَأَجْلِبْ﴾ اجمع وصح بهم؛ وهو من الجلبة ﴿بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ﴾ أي بركبانك ومشاتك ﴿وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ﴾ بأن تزين لهم الربا، والسرقة، والغصب؛ أو أن ينفقوها في معصية الله ﴿وَالأَوْلاَدِ﴾ بأن يكونوا أبناء إثم وسفاح؛ لا أبناء طاعة ونكاح ﴿وَعَدَّهُمْ﴾ أي منِّهم بالأماني الكاذبة، والآمال الباطلة؛ بأن لا قيامة، ولا حساب، ولا جزاء؛ وأنه إن كان ثمت قيامة وحساب، وجنة ونار؛ فإنهم أصحاب الجنة، وهم أولى بها ممن سواهم. قال تعالى: ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً﴾
﴿إِنَّ عِبَادِي﴾ الذين آمنوا بي، وصدقوا برسلي، ولم يلبسوا إيمانهم بظلم؛ فهؤلاء ﴿لَيْسَ
-[٣٤٦]- لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ تسلط وقوة
﴿رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي﴾ يسوق ويسير ﴿لَكُمُ الْفُلْكَ﴾ السفن ﴿لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ لتطلبوا الرزق بطريق التجارة، والتنقل في البلاد
﴿ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾
أي غاب من تستغيثون به فيغيثكم، إلا الله تعالى فهو وحده حاضر لا يغيب ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ فادعوه مخلصين له الدين ينجيكم مما تخافون، ويخلصكم مما تحذرون ﴿فَلَمَّا نَجَّاكُمْ﴾ من الضر الذي لحقكم، والموت الذي أحاط بكم ﴿أَعْرَضْتُمْ﴾ عن عبادته، ونسيتم ما أسبغ عليكم من نعمته
﴿أَفَأَمِنْتُمْ﴾ وقد نجوتم من البحر إلى اليابسة ﴿أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ﴾ بأن يزلزل الأرض ويدكها ويخسفها بكم؛ كما فعل بمن سبقكم من المكذبين: كقارون ﴿أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً﴾ الحاصب: الريح الشديدة التي ترمي بالحصباء؛ وهي الحصى
﴿أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ﴾ أي في البحر ﴿تَارَةً أُخْرَى﴾ مرة أخرى ﴿فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ﴾ فيه ﴿قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ﴾ وهي الريح التي تكسر الفلك والشجر ﴿تَبِيعاً﴾ مطالباً
﴿يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ برئيسهم وهو نبيهم؛ فيقال: يا أمة موسى؛ يا أمة عيسى، يا أمة محمد ﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ الفتيل: مثل للحقارة والصغر. وهو قشرة النواة، أو كل ما يفتل بالأصابع؛ مما يدق عن الحس
﴿وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ﴾ الدنيا ﴿أَعْمَى﴾ عن الحق: أريد به عمى القلوب لا العيون ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ ﴿فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى﴾ عن النجاة؛ كالأعمى حينما يتعثر فيما يلقاه
﴿وَإِن كَادُواْ﴾ قاربوا ﴿لَيَفْتِنُونَكَ﴾ يزيلونك ﴿عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ من القرآن. قيل عن هذه الفتنة: إن قريشاً منعت الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه من الطواف بالبيت، واستلام الحجر الأسود: حتى يلم بآلهتهم؛ فحدث الرسول نفسه في ذلك: فنزلت عقاباً له على ما هجست به نفسه ونزل قوله تعالى:
﴿وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ﴾ على ما أنت عليه من الحق ﴿لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً﴾ لأنه قال في نفسه: وما عليِّ أن ألم بآلهتهم بعد أن يدعوني أستلم الحجر؛ والله يعلم أني لها كاره مبغض وقيل: إنهم طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام الكف عن ذم آلهتهم
﴿إِذَآ﴾ لو فعلت ما طلبوه ﴿لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ﴾ أي لعذبناك عذاباً مضاعفاً في الحياة، وبعد الممات وحاشاه أن يركن إليهم؛ وإنما ورد هذا على سبيل التهديد للكفار، ولمن تحدثه نفسه بالركون إلى الكافرين - كما يفعل مسلمو اليوم
﴿وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ﴾ ليزعجونك ويفزعونك ﴿وَإِذَآ﴾ إذا أخرجوك من أرضك ﴿لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ﴾ خلفك وبعدك ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ ثم يهلكهم الله
﴿سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا﴾ أي هذه سنتنا وطريقتنا: أن نهلك من
-[٣٤٧]- يعادون رسلهم ويخرجونهم
﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ لزوالها ﴿إِلَى غَسَقِ الْلَّيْلِ﴾ ظلمته؛ وهو وقت صلاة العشاء ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾ صلاة الصبح ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً﴾ تشهده الملائكة؛ أي تحضره، وتدعو لمقيميه
﴿وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ﴾ الإسلام ﴿وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾ انمحى الكفر وبطل ﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾ مضمحلاً زائلاً
﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ شفاء لقلوبهم، ورحمة لأنفسهم
﴿وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ﴾ بالسعة والرزق والعافية ﴿أَعْرَضَ﴾ عن العبادة ﴿وَإِذَآ أَنْعَمْنَا﴾ تكبر على الناس، وتباعد عنهم ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً﴾ أي وإذا أصابته مصيبة، أو حلت به بلية: قنط من النجاة، ويئس من روح الله
يعارض الإنسان ربه في حكمته، ويعترض على قدرته: فيكله إلى نفسه؛ فينتهي به ذلك إلى العجز، وينتهي به العجز إلى السخط، وينتهي به السخط إلى الكفر؛ فمتى كان الإنسان عاجزاً، ساخطاً، موكولاً إلى نفسه، معتمداً على قدرته؛ مستنداً إلى قوته: كان كالأسد الجائع في المهمة القفر؛ إذا توهم أن قوته وبطشه يستطيعان أن يخلقا الفريسة له؛ فيظل هائجاً هادراً مزمجراً؛ يطيح بكل ما حوله؛ فيجلب ذلك إلى نفس الإنسان اليأس، والانزعاج، والكآبة، وغير ذلك من المهلكات التي تبعث في قلبه الشك بربه، وتدفع إلى نفسه القنوط، وتجيل بخاطره حماقات العقل، ونزغات الشيطان وقد ينتهي به ذلك إلى الانتحار. ولو أنه آمن ب الله مكان إيمانه بنفسه لسلطه الله تعالى عليها، ولم يسلطها عليه، ولأرضاه بما عنده وأقنعه بما لديه؛ ولأبعد عنه هواجسه، ومتاعبه، ولأبدل خوفه أمناً قال تعالى: ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ ولكن الإنسان يؤس كفور؛ يسوق بيأسه لنفسه البلايا، ويحط بكفره على قلبه الرزايا وإن شئت فاقرأ قول الحكيم العليم ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾
﴿قُلْ كُلٌّ﴾ منا ومنكم ﴿يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ طريقته، وطبيعته، ومذهبه، واعتقاده
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ التي يحيا بها البدن: ما صفتها؟ وما هيأتها؟ وما طبيعتها؟ وذهب قوم من المفسرين إلى أن الروح المسئول عنه: هو جبريل، وقيل: ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف لسان في كل لسان سبعون ألف لغة؛ يسبح الله تعالى بكل هاتيك اللغات. وقيل: هو عيسى عليه السلام. وقيل: القرآن. والرأي الأول: أولى بالصواب، وأجدر بالاعتبار ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ توهب بقدرته، وتسلب بأمره؛ ولا يعلم حقيقتها إلا هو، ولا سيطرة لأحد عليها - وجوداً وعدماً - وهي باقية بعد فناء
-[٣٤٨]- الأجساد، حتى يوم المعاد؛ فيعيد الله تعالى لكل جسد روحه؛ ليحاسبها على ما اكتسبت في دنياها: فيعذب الكافر العاصي، ويثيب المؤمن الطائع وقيل: إن اليهود أوعزوا لقريش أن تسأل النبي عن ثلاثة أشياء: عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح؛ وقالوا لهم: إن أخبركم عن اثنين وأمسك عن واحدة: فهو نبي. فلما سألوه أخبرهم عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وقال عن الروح
﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ وقوله تعالى ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ دليل على عجز الإنسان عجزاً تاماً عن معرفة حقيقتها وكنهها؛ فليس لإنسان أن يزعم أن الروح - ولو كانت روح حيوان - هي تحت أمره، وأنه يستطيع - بإذاعة شيء من الموسيقى - أن يحضر من الأرواح ما شاء وأن يستخدمها فيما شاء، ويسألها عما يشاء وقد دأب ناس - عافاهم الله - على اللعب بعقول البسطاء وألبابهم؛ بإشاعة هذه الخرافات، وبث هذه الترهات والخزعبلات؛ وقد حضرت كثيراً من مجالسهم؛ فما ازددت إلا تكذيباً لهم، وتسفيهاً لأعمالهم وأمر هؤلاء لا يعدو أن يكون من عبث الشيطان بهم؛ إذ أنه - لعنه الله تعالى - يستطيع أن يتشكل بمن شاء من مخلوقاته تعالى؛ عدا أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام؛ فيظهر الشيطان أو أحد أعوانه على صورة الإنسان المراد تحضير روحه ويخاطبهم بما يحلو لهم أن يسمعوه. أما الروح - ولو أنها موجودة، وباقية أبد الآبدين - فإنه لا سلطان لأحد عليها من المخلوقين، ولا تدين إلا لرب العالمين
﴿وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ من القرآن؛ بأن ننزعه من الصدور، ونمحوه من الصحف؛ وسيكون ذلك قبيل القيامة؛ وهو من أشراط الساعة
﴿إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾ أي إن إبقاءه وعدم إذهابه «رحمة من ربك»
﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ﴾ (انظر آية ٢٣ من سورة البقرة) ﴿وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ معيناً
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا﴾ بيّنا وأوضحنا ﴿مِن كُلِّ مَثَلٍ﴾ يصح به الاعتبار والاستبصار؛ كالأوامر، والنواهي، والترغيب، والترهيب، وذكر الثواب والعقاب، وأقاصيص المتقدمين وأخبارهم
﴿كِسَفاً﴾ قطعاً ﴿قَبِيلاً﴾ جماعة؛ مقابلة وعياناً
﴿مِّن زُخْرُفٍ﴾ ذهب ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي﴾ تنزه وتقدس عن أن يأتي بأمري، أو بأمركم (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من هذه السورة)
﴿قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ﴾ مثلكم ﴿مُطْمَئِنِّينَ﴾
قارين: يطمئنون لمن في الأرض، ويطمئن من في الأرض إليهم
﴿وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ﴾ نصراء يهدونهم ﴿مِن دُونِهِ﴾ من غيره ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾ تجرهم الزبانية من أرجلهم «على وجوههم» ﴿عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً﴾ عموا حين دخلوا النار لشدة سوادها، وانقطع كلامهم حين قيل لهم ﴿اخْسَؤواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾ وذهب الزفير والشهيق والصراخ بسمعهم فلم يسمعوا شيئاً ﴿كُلَّمَا خَبَتْ﴾ انطفأ لهيبها ﴿وَرُفَاتاً﴾ حطاماً ﴿وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً﴾ لموتهم وبعثهم؛ هم مواقعوه
﴿قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي﴾ من الرزق، والمطر، وسائر النعم ﴿إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ﴾ مخافة الفقر والعدم ﴿وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُوراً﴾ بخيلاً مقتراً
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ واضحات: وهي اليد، والعصا، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنين أو البحر، ونقص الثمرات. وقد ورد في الحديث الشريف أنها «لا تشركوا ب الله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تمشوا ببريء إلى سلطان فيقتله، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفروا من الزحف» ﴿فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يمُوسَى مَسْحُوراً﴾ مجنوناً؛ مغلوباً على عقلك
﴿بَصَآئِرَ﴾ أي عبراً بينات واضحات ﴿مَثْبُوراً﴾ مصروفاً عن الخير، أو هالكاً، أو مطروداً
﴿فَأَرَادَ﴾ فرعون ﴿أَن يَسْتَفِزَّهُم﴾ أي أن يخرج موسى وقومه من الأرض. يقال: استفزه؛ إذا أخرجه من داره وأزعجه
﴿فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً﴾ أي جميعاً؛ ملتفين، ومختلطين؛ فنجزي من أحسن بالحسنى، ومن أساء بالسوأى
﴿وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ﴾ أي فصلناه، أو فرقنا فيه بين الحق والباطل، أو نزلناه مفرقاً؛ في عشرين سنة، أو ثلاث وعشرين ﴿عَلَى مُكْثٍ﴾ على تؤدة وبيان وتمهل؛ ليتفهموه
﴿قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ﴾ تهديد شديد ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ﴾ أي قبل نزول القرآن؛ وهم مؤمنو أهل الكتاب ﴿إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ﴾ ساجدين ﴿لِلأَذْقَانِ﴾ أي على وجوههم
﴿وَيِقُولُونَ﴾ حال سجودهم ﴿سُبْحَانَ رَبِّنَآ﴾ تنزه ربنا وتعالى وتقدس وقد كان يكثر أن يقول في سجوده، وركوعه «سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي» (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من هذه السورة) ﴿إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا﴾ بإرسال محمد، وبإنزال القرآن عليه ﴿لَمَفْعُولاً﴾ لحاصلاً لا محالة
﴿وَيَزِيدُهُمْ﴾ الاستماع إلى القرآن ﴿خُشُوعاً﴾ خضوعاً وتواضعاًلله تعالى
﴿فَلَهُ﴾ جل شأنه ﴿الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى﴾ التي تقتضي أفضل الأوصاف، وأشرف المعاني، وأسمى الصفات وأسماؤه تعالى لا يحصيها عد، ولا يحدها حد؛ وقد ورد في الحديث الشريف «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً؛ كلهن في القرآن، من أحصاهن دخل الجنة» وليس المراد بإحصائها حفظها فحسب؛ بل الإيمان بها كلها، والوثوق بمدلولاتها؛ وهي: «الله لا إله إلا هو. الرحمن. الرحيم. الملك. القدوس. السلام. المؤمن. المهيمن. العزيز. الجبار. المتكبر. الخالق. البارىء. المصور. الغفار. القهار. الوهاب، الرزاق. الفتاح. العليم. القابض. الباسط. الخافض. الرافع. المعز. المذل. السميع. البصير. الحكم. العدل. اللطيف. الخبير. الحليم. العظيم. الغفور. الشكور. العلي. الكبير. الحفيظ. المقيت. الحسيب. الجليل. الكريم. الرقيب. المجيب. الواسع. الحكيم. الودود. المجيد. الباعث. الشهيد. الحق. الوكيل. القوي. المتين. الولي. الحميد. المحصي. المبدىء. المعيد. المحيي. المميت. الحي. القيوم. الواجد. الماجد. الواحد. الصمد. القادر. المقتدر. المقدم. المؤخر. الأول. الآخر. الظاهر. الباطن. الوال. المتعال. البر. التواب. المنتقم. العفو. الرؤوف. مالك الملك. ذو الجلال والإكرام. المقسط. الجامع. الغني. المغني. المانع. الضار. النافع. النور. الهادي. البديع. الباقي. الوارث. الرشيد. الصبور (انظر آية ١٨٠ من سورة الأعراف)
﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ﴾
-[٣٥١]- أي بقراءتك فيها؛ لئلا يسمعك المشركون فيسبوك، ويسبوا القرآن، ومن أنزله ﴿وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا﴾ أي لا تسر بها؛ فلا يسمعك من يقتدي بك. قيل: إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان يسر قراءته كلها، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يجهر بها كلها؛ فقيل لهما في ذلك؛ فقال أبو بكر: إنما أناجي ربي، وهو يعلم حاجتي إليه وقال عمر: أنا أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان فلما نزلت هذه الآية؛ قيل لأبي بكر: ارفع قليلاً. وقيل لعمر: اخفض قليلاً. وقد يقول قائل: ما دامت علة الجهر والإسرار: هو الخوف من أذى الكافرين والمشركين؛ وقد كف الله تعالى أذاهم، وأذهب قوتهم - والعلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً - فما لنا لا نجهر في صلاتنا كلها؟ والجواب على ذلك: إن الأعمال التعبدية؛ لا يجوز فيها الاجتهاد، بل يتبع فيها آثار الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام؛ القائل «صلوا كما رأيتموني أصلي» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن المراد بالصلاة في هذه الآية: الدعاء
﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً﴾ كما يزعم الكافرون
﴿وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴾ كما يزعم المشركون
﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ الذُّلِّ﴾ أي لم يذل؛ فيحتاج إلى ناصر بسبب ضعفه؛ بل هو ولي الصالحين، وناصر المؤمنين
351
سورة الكهف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
351