تفسير سورة البقرة

نيل المرام تفسير آيات الأحكام
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب نيل المرام من تفسير آيات الأحكام المعروف بـنيل المرام تفسير آيات الأحكام .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ

تفسير سورة البقرة وهي مائتان وست وثمانون آية
قال القرطبي: «مدنية نزلت في مدد شتى، وقيل: هي أول سورة نزلت بالمدينة.
إلّا قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فإنها آخر آية نزلت من السماء ونزلت يوم النّحر في حجة الوداع بمنى، وآيات الربا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن»
، انتهى «١».
وقد وردت في فضلها أحاديث «٢».
[الآية الأولى]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩).
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ قال ابن كيسان: أي من أجلكم «٣».
وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل على النقل عن هذا الأصل، ولا فرق بين الحيوانات وغيرها مما ينتفع به من غير ضرر، وفي تأكيد ما في الأرض بقوله: جَمِيعاً أقوى دلالة على هذا.
وقد استدل بهذه الآية على تحريم أكل الطين لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض.
(١) تفسير القرطبي [١/ ١٥٢].
(٢) رواه البخاري في الصحيح ح [٥٠٠٩]، رواه أحمد [٤/ ٢٧٤] والترمذي ح [٢٨٨٢] وابن حبان ح [٧٨٣] وصححه الحاكم [١/ ٥٦٢، ٢/ ٢٦٠].
(٣) انظر التفسير للقرطبي [١/ ٢٥١] والشوكاني في «فتح القدير» [١/ ٦٠].
وقال الرازي في «تفسيره» : إن لقائل أن يقول: إن في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه في الأرض فيكون جامعا للوصفين، ولا شك أن المعادن داخلة في ذلك وكذلك عروق الأرض وما يجري مجرى البعض لها ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه؟ انتهى.
وقد ذكر صاحب «الكشاف» «١» ما هو أوضح من هذا فقال: إن قلت: هل لقول من زعم أن المعنى خلق لكم الأرض وما فيها وجه صحة؟ قلت: إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء- كما تذكر السماء ويراد الجهات العلوية- جاز ذلك فإن الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية. انتهى.
قال الشوكاني في «فتح القدير» «٢». وأما التراب فقد ورد في السنة تحريمه «٣»، وهو أيضا ضار فليس مما ينتفع به أكلا ولكنه ينتفع به في منافع أخرى وليس المراد منفعة خاصة كمنفعة الأكل بل كلما يصدق عليه أنه ينتفع به بوجه من الوجوه.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله تعالى هذا سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ: جميعا كرامة من الله ونعمة لابن آدم وبلغة ومنفعة إلى أجل «٤».
[الآية الثانية]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣).
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً أي قولوا لهم قولا حسنا، فهو صفة مصدر محذوف وهو مصدر كبشرى.
(١) انظر الكشاف [١/ ٦٠] وفتح القدير [١/ ٦٠].
(٢) انظر فتح القدير [١/ ٦٠].
(٣) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [١٠/ ١١] وأخرجه ابن عدي في الكامل [٥/ ١٩٢- ١٩٣] انظر الكامل [٤/ ٢٥٠] ولسان الميزان [٣/ ٣٥٦] والفوائد المجموعة [ص ١٣٠] واللآلئ [٢/ ٢٤٧].
(٤) انظر فتح القدير [١/ ٦١].
12
وقرأ حمزة والكسائي حسنا بفتح الحاء والسين وكذلك قرأ زيد بن ثابت وابن مسعود «١».
وقال الأخفش: هما بمعنى واحد مثل البخل والبخل والرّشد والرّشد.
والظاهر أن هذا القول الذي أمرهم الله به لا يختص بنوع معين بل كلما صدق عليه أنه حسن شرعا كان من جملة ما يصدق عليه هذا الأمر.
وقد قيل إن ذلك هو كلمة التوحيد وقيل: الصدق، وقيل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل: هو اللين في القول والعشرة وحسن الخلق، وقيل غير ذلك «٢».
أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله هذا: قال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «٣».
وروى البيهقي في «الشعب» عن عليّ عليه السلام في قوله وَقُولُوا لِلنَّاسِ، قال:
يعني الناس كلهم.
ومثله روى عبد بن حميد وابن جرير عن عطاء «٤».
(١) أخرجه أبو عبيد وابن المنذر كما عند السيوطي في «الدر المنثور» [١/ ٢١٠] أخرجه سعيد بن منصور في السنن [٢/ ٥٦٧- ط آل حميد] ح [١٩٥] وانظر الشوكاني في فتح القدير [١/ ١٠٨] [ص ١٠٣].
(٢) انظر «تفسير الطبري» [١/ ٤٣٦- ٤٣٧] وفتح القدير [١/ ١٠٨] والدر المنثور للسيوطي [١/ ٢١٠] ومعالم التنزيل [١/ ٩٠] للبغوي.
(٣) رواه الطبري [١/ ٤٣٦] ح [١٤٥٧] وروى ابن جرير الطبري [١/ ٤٣٦] ح [١٤٥٤] انظر التفسير لابن أبي حاتم [١/ ٢٥٧] ح [٨٤٦] والدر المنثور للسيوطي [١/ ٢١٠].
(٤) أخرجه ابن جرير في تفسيره [١/ ٤٣٧] ح [١٤٥٩ و ١٤٦٠] وسعيد بن منصور في سننه [٢/ ٥٦٦- ط آل حميد] ح [١٩٤].]
13

[الآية الثالثة]

وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢).
السّحر: هو ما يفعله السّاحر من الحيل والتخييلات التي يحصل بسببها للمسحور ما يحصل من الخواطر الفاسدة الشبيهة بما يقع لمن يرى السّراب فيظنه ماء، وما يظنه راكب السفينة أو الدابة من أن الجبال تسير «١».
وقد اختلف: هل له حقيقة أم لا؟ فذهبت المعتزلة وأبو حنيفة إلى أنه خدع لا أصل له ولا حقيقة وذهب من عداهم إلى أن له حقيقة مؤثرة «٢».
وقد صح أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سحر: سحره لبيد بن الأعصم اليهودي حتى كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولم يكن قد أتاه!! ثم شفاه الله سبحانه «٣» والكلام في ذلك يطول.
قال الزجاج في قوله وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ: تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه.
قال: وهو الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر ومعناه أنهما يعلمان على النهي فيقولان لهم: لا تفعلوا كذا ومِنْ في قوله مِنْ أَحَدٍ زائدة للتوكيد.
وقد قيل: إن قوله يُعَلِّمانِ من الإعلام لا من التعليم. وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى أعلم، كما حكاه ابن الأنباري وابن الأعرابي وهو كثير في أشعارهم كقول كعب بن مالك:
تعلم رسول الله أنك مدركي وأن وعيدا منك كالأخذ باليد
وقال القطامي:
تعلم أن بعد الغيّ رشدا وأن لذلك الغي انقشاعا
(١) انظر فتح القدير [١/ ١١٩].
(٢) انظر فتح الباري [١٠/ ٢٢٢] وشرح النووي [١٣/ ١٧٤- ١٧٥]. [.....]
(٣) أخرجه البخاري في الصحيح [١٠/ ٢٢١] ح [٥٧٦٣] ومسلم في الصحيح [٤/ ١٧١٩] ح [٢١٨٩].
14
وفي قوله: فَلا تَكْفُرْ أبلغ إنذارا وأعظم تحذيرا: أي أن هذا ذنب يكون من فعله كافرا فلا تكفر. وفيه دليل على أن تعلم السحر كفر وظاهره عدم الفرق بين المعتقد وغير المعتقد، وبين من تعلّمه ليكون ساحرا ومن تعلّمه ليقدر على دفعه.
وفي إسناد التفريق إلى السّحرة وجعل السّحر سببا لذلك، دليل على أن للسحر تأثيرا في التلوث بالحب والبغض، والجمع والفرقة، والقرب والبعد.
وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر لا يقدر على أكثر مما أخبر الله من التفرقة لأن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الذم للسّحر وبين ما هي الغاية في تعليمه فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره.
وقالت طائفة أخرى: إن ذلك خرج مخرج الأغلب وأن السّاحر يقدر على غير ذلك المنصوص عليه أيضا.
وقيل: ليس للسّحر تأثير في نفسه أصلا، لقوله: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ.
والحق أنه لا تنافي بين قوله: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وبين قوله: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فإن المستفاد من جميع ذلك أن للسحر تأثيرا في نفسه ولكنه لا يؤثر ضررا إلا فيمن أذن الله بتأثيره فيه.
وقد أجمع أهل العلم على أن له تأثيرا في نفسه وحقيقة ثابتة ولم يخالف في ذلك إلا المعتزلة وأبو حنيفة «١» كما تقدم.
وفي قوله: وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ تصريح بأن السحر لا يعود على صاحبه بفائدة ولا يجلب إليه منفعة بل هو ضرر محض وخسران بحت» «٢».
قال أبو السعود: فيه أن الاجتناب عما لا تؤمن غوائله خير: كتعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجر إلى الغواية. انتهى.
والمراد بالشراء هنا الاستبدال، أي من استبدل ما تتلو الشياطين على كتاب الله.
(١) قال ابن هبيرة: وأجمعوا على أن السحر له حقيقة، إلا أبا حنيفة فإنه قال: لا حقيقة له عنده.
انظر، الإفصاح لابن هبيرة [٢/ ١٨٥].
(٢) انظر فتح القدير [١/ ١٢٠- ١٢١].
15
والخلاق: النصيب عند أهل اللغة.
[الآية الرابعة]
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥).
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ المشرق: موضع الشروق، والمغرب:
موضع الغروب. أي هما ملك لله وما بينهما من الجهات والمخلوقات، فيشتمل الأرض كلها.
وقوله: فَأَيْنَما تُوَلُّوا أي أيّ جهة تستقبلونها فهناك وجه الله أي المكان الذي يرتضي لكم استقباله. وذلك يكون عند التباس جهة القبلة التي أمرنا بالتوجه إليها بقوله سبحانه: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.
قال في «الكشاف» : والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس فقد جعلت لكم الأرض مسجدا، فصلوا في أي بقعة شئتم من بقاعها وافعلوا التولية فيها، فإن التولية ممكنة في كل مكان لا تختص أماكنها في مسجد دون مسجد ولا في مكان دون مكان «١». انتهى.
قال الشوكاني في «فتح القدير» : وهذا التخصيص لا وجه له فإن اللفظ أوسع منه وإن كان المقصود به بيان السبب فلا بأس «٢». انتهى.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم- وصححه- والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس قال: أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا- والله أعلم- شأن القبلة. قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الآية فاستقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق، ثم صرفه الله إلى البيت ونسخها فقال: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «٣».
(١) انظر الكشاف [١/ ٩٠] وفتح القدير [١/ ١٣١].
(٢) انظر فتح القدير [١/ ١٣١].
(٣) [صحيح] أخرجه الطبري في التفسير [١/ ٥٤٩] ح [١٨٣٥] وأبو عبيد القاسم بن سلام في «الناسخ والمنسوخ» ح [٢١] والبيهقي في السنن [٢/ ١٢] وابن أبي حاتم في التفسير وابن المنذر كما في الدر المنثور [١/ ٢٦٥] والحاكم في المستدرك [٢/ ٢٦٧، ٢٦٨] /].
16
وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر قال: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يصلي على راحلته تطوعا أينما توجهت «١». ثم قرأ ابن عمر هذه الآية فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ: وقال: في هذا أنزلت هذه الآية. وأخرج نحوه عنه ابن جرير «٢» والدارقطني «٣» والحاكم وصححه.
وقد ثبت في «صحيح البخاري» من حديث جابر وغيره عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان يصلي على راحلته قبل المشرق فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل واستقبل القبلة وصلى «٤». وروى نحوه من حديث أنس مرفوعا، أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود «٥».
وأخرج عبد بن حميد والترمذي- وضعفه- وابن ماجة وابن جرير وغيرهم عن عامر بن ربيعة قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا فيصلي فيه فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة! فقلنا: يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة؟ فأنزل الله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الآية، فقال: مضت صلاتكم «٦».
وأخرج الدارقطني وابن مردويه والبيهقي عن جابر مرفوعا نحوه إلا أنه ذكر أنهم خطوا خطوطا، وأخرج نحوه ابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا، وأخرج
(١) أخرجه مسلم في الصحيح ح [٧٠٠] والبخاري في الصحيح [٢/ ٥٧٤] ح [١٠٩٦] وابن أبي شيبة [٢/ ٢٣٦] ومالك في الموطأ [١/ ١٥١] وأحمد في المسند [٢/ ٦٦] والطبري في التفسير ح [١٨٤١] والنسائي في السنن [١/ ٢٤٤] و [٢/ ٦١] والبيهقي في السنن [٢/ ٤] /].
(٢) انظر تفسير الطبري ح [١٨٤١] و [١٨٤٢] /].
(٣) سنن الدارقطني [١/ ٣٩٦] /].
(٤) أخرجه البخاري في الصحيح [١/ ٥٠٣] ح [٤٠٠]، [١٠٩٤]، [١٠٩٩]، [٤١٤٠] وعبد الرزاق في المصنف ح [٤٥١٠] و [٤٥١٦] والدارمي في السنن [١/ ٣٥٦] وابن حبان في الصحيح [٦/ ٢٦٥- مع الإحسان] ح [٢٥٢١] والبيهقي في السنن [٢/ ٦] وابن أبي شيبة في المصنف [١/ ٢٣٦] ح [٨٥١٢] /].
(٥) [حسن] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف [٢/ ٢٣٦] وأبو داود في السنن [٢/ ٩] ح [١٢٢٥] /].
(٦) [حسن] أخرجه الترمذي في السنن [٢/ ١٧٦] ح [٣٤٥] ورواه الدارقطني في السنن [١/ ٢٧٢] ورواه ابن جرير الطبري في التفسير [١/ ٥٥٠] ح [١٨٤٣] ورواه الطيالسي في مسنده ح [١١٤٥] وابن ماجه [١/ ١٦٥] والبيهقي في السنن [٢/ ١١] ورواه الحاكم في المستدرك [١/ ٢٠٦] والدارقطني [١/ ٢٧١] والبيهقي في السنن [٢/ ١٠، ١١- ١٢].
17
نحوه أيضا سعيد بن منصور وابن المنذر عن عطاء يرفعه وهو مرسل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قال: قبلة الله أينما توجهت شرقا أو غربا.
وأخرج ابن أبي شيبة والدارقطني والترمذي- وصححه- وابن ماجة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» «١» وأخرج ابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر مثله، وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن عمر نحوه.
[الآية الخامسة]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤).
لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤). اختلف في المراد بالعهد فقيل: الإمامة وقيل:
النبوة، وقيل: عهد الله: أمره. وقيل: الأمان من عذاب الآخرة! ورجحه الزجاج، والأول أظهر كما يفيده السياق.
وقد استدل بهذه الآية جماعة من أهل العلم على أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع كما ورد، لأنه إذا زاغ عن ذلك كان ظالما.
ويمكن أن ينظر إلى ما يصدق عليه اسم العهد وما تفيده الإضافة من العموم فيشمل جميع ذلك اعتبارا بعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق، فيستدل به على اشتراط السلامة من وصف الظلم في كل ما تعلق بالأمور الدينية.
وقد اختار ابن جرير «٢» أن هذه الآية وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهدي بالإمامة ظالما، ففيه تعظيم من الله لإبراهيم الخليل: أنه سيوجد من ذريته من هو ظالم لنفسه. انتهى.
(١) [صحيح] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف [٢/ ١٤١] ح [٧٤٤٠] والترمذي في السنن [٢/ ١٧٣] ح [٣٤٤] ومن طريق البغوي في «شرح السنة» [٢/ ٣٢٧] ح [٤٤٦] ورواه ابن ماجة في السنن [١/ ٣٢٣] ح [١٠١١] ورواه الحاكم في المستدرك [١/ ٢٠٥، ٢٠٦] انظر الميزان [٣/ ٦٢١] ح [٧٨٣٩] ورواه البيهقي في السنن [٢/ ٩] ورواه الدارقطني في السنن [١/ ٢٧٠- ٢٧١] انظر المصنف لابن أبي شيبة [٢/ ١٤٠- ١٤١] ومالك في الموطأ [١/ ١٩٦] /].
(٢) تفسير الطبري [١/ ٥٧٨]. [.....]
18
قال الشوكاني في «فتح القدير» «١» : ولا يخفى عليك أنه لا جدوى لكلامه هذا فالأولى أن يقال: إن هذا الخبر في معنى الأمر لعباده أن لا يولّوا أمور الشرع ظالما.
وإنما قلنا إنه في معنى الأمر لأن إخباره تعالى لا يجوز أن يتخلف، وقد علمنا أنه قد نال عهده من الإمامة وغيرها كثيرا من الظالمين. انتهى.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله تعالى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً يقتدى بدينك وهديك وسنتك. قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي إماما لغير ذريتي؟ قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤). أن يقتدى بدينهم وهديهم وسنتهم.
وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عنه قال: قال الله لإبراهيم: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فأبى أن يفعل ثم قال: قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ١٢٤.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: هذا عند الله يوم القيامة لا ينال عهده ظالما. فأما في الدنيا فقد نالوا عهده فوارثوا به المسلمين وغازوهم وناكحوهم فلما كان يوم القيامة قصر الله عهده وكرامته على أوليائه «٢».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في تفسير الآية أنه قال: لا أجعل إماما ظالما يقتدى به «٣».
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: يخبره أنه إن كان في ذريته ظالم فلا ينال عهده، ولا ينبغي له أن يوليه شيئا من أمره.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أنه قال: ليس لظالم عليك عهد في معصية الله «٤».
وقد أخرج وكيع وابن مردويه من حديث علي عليه السلام عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله:
لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) : قال: «لا طاعة إلا في المعروف» «٥».
وأخرج عبد بن حميد من حديث عمران بن حصين: سمعت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «لا
(١) فتح القدير [١/ ١٣٨].
(٢) أخرجه ابن جرير في التفسير [١/ ٥٧٩] ح [١٩٥٩].
(٣) أخرجه ابن جرير في التفسير [١/ ٥٧٨- ٥٧٩] ح [١٩٥٤].
(٤) انظر تفسير الطبري [١/ ٥٧٩].
(٥) أصله عند البخاري في الصحيح [٨/ ٥٨] ح [٤٣٤٠] ومسلم [٣/ ١٤٦٨] ح [١٨٤٠].
19
طاعة لمخلوق في معصية الله» «١».
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية: ليس للظالم عهد، وإن عاهدته فانقضه «٢».
قال ابن كثير: وروى عن مجاهد وعطاء ومقاتل بن حيان نحوه «٣».
[الآية السادسة] وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥).
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على أنه فعل ماض، وقرأ الباقون على صيغة الأمر.
والمقام في اللغة: موضع القيام.
واختلف في تعيين المقام على أقوال أصحها أنه الحجر الذي يعرفه الناس ويصلون عنده ركعتي الطواف.
وقيل المقام: الحج كله. وروي ذلك عن عطاء ومجاهد.
وقيل: عرفة والمزدلفة، وروي عن عطاء أيضا.
وقال الشعبي: الحرم كله مقام إبراهيم. وروي عن مجاهد.
وأخرج البخاري وغيره من حديث أنس عن عمر بن الخطاب: «وافقت ربي في ثلاث ووافقني ربي في ثلاث. قلنا: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟
فنزلت وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى. وقلت: يا رسول الله: إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهنّ أن يحتجبن؟ فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم
(١) [صحيح] أخرجه أحمد في المسند [٥/ ٦٦] والطيالسي في المسند ح [٨٥٦] والحاكم في المستدرك [٣/ ٤٤٣].
انظر شرح السنة للبغوي [١٠/ ٤٤] وصحيح ابن حبان [١٠/ ٤٣٠ و ٤٣١].
(٢) أخرجه ابن جرير في التفسير [١/ ٥٧٩] ح [١٩٥٧].
(٣) تفسير ابن كثير [١/ ١٥٩].
20
نساؤه في الغيرة فقلت لهن: «عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت كذلك» «١» وأخرجه مسلم وغيره مختصرا من حديث ابن عمر عنه.
وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم وصلى خلفه ركعتين ثم قرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى «٢».
واختلفوا في قوله مصلى: فمن فسّر المقام بمشاهد الحج ومشاعره قال: مصلى مدعى من الصلاة التي هي الدعاء، ومن فسّر المقام بالحجر قال: معناه اتخذوا من مقام إبراهيم قبلة لصلاتكم، فأمروا بالصلاة عنده. وهذا هو الصحيح.
ثم العندية تصدق بجهاته الأربع والتخصيص بكون المصلي خلفه إنما استفيد من فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والصحابة من بعده رضي الله عنهم.
وفي مقام إبراهيم أحاديث كثيرة مستوفاة في الأمهات وغيرها.
والأحاديث الصحيحة تدل على أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل به ليقوم فوقه، كما في البخاري من حديث ابن عباس «٣». وهو الذي كان ملصقا بجدار الكعبة وأول من نقله عمر بن الخطاب، كما أخرجه عبد الرزاق «٤» والبيهقي بإسناد صحيح، وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق مختلفة.
وأخرج ابن أبي حاتم من حديث جابر في وصف حج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «لما طاف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال له عمر هذا مقام إبراهيم؟ قال نعم» وأخرج نحوه ابن مردويه.
أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) المراد بالتطهير قيل: من
(١) أخرجه البخاري في الصحيح [٨/ ١٦٨] ح [٤٤٨٣] وأحمد في المسند [١/ ٢٤، ٣٦- ٣٧] وفي فضائل الصحابة ح [٤٣٤] و [٤٣٧].
وأخرجه الدارمي في السنن [٢/ ٤٤] والبخاري في الصحيح ح [٤٧٩٠] والترمذي في الجامع [٥/ ١٩٠] ح [٢٩٥٩] و [٢٩٦٠].
(٢) أخرجه مسلم في الصحيح [٢/ ٩٢١] ح [١٢٦٣] ومالك في الموطأ [١/ ٣٦٤] والترمذي في الجامع [٣/ ٢١٢] ح [٨٥٧] والدارمي في السنن [٢/ ٤٢] والنسائي في السنن [٥/ ٢٣٠].
(٣) أخرجه البخاري في الصحيح [٦/ ٣٩٦- ٣٩٨] ح [٣٣٦٤].
(٤) أخرجه عبد الرزاق في المصنف [٥/ ٤٨] ح [٨٩٥٥].
21
الأوثان، وقيل: من الآفات والريب، وقيل: من الكفر وقول الزور والرجس، وقيل: من النجاسات وطواف الجنب والحائض وكل خبيث.
والظاهر أنه لا يختص بنوع من هذه الأنواع وأن كل ما يصدق عليه مسمى التطهير فهو يتناوله تناولا شموليا.
والإضافة في قوله: بَيْتِيَ للتشريف والتكريم. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأهل المدينة وهشام وحفص: بيتي بفتح الياء، وقرأ الآخرون بإسكانها.
والمراد بالبيت: الكعبة.
والطائف: الذي يطوف به ويدور حوله. وقيل: الغريب الطارئ على مكة.
والعاكف: المقيم. وأصل العكوف في اللغة: اللزوم والإقبال على الشيء، وقيل: هو المجاور دون المقيم من أهلها.
والمراد بقوله وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) : المصلون، وخص هاتين الركعتين بالذكر لأنهما أشرف أركان الصلاة.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إذا كان قائما فهو من الطائفتين، وإذا كان جالسا فهو من العاكفين، وإذا كان مصليا فهو من الركع السجود.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن الذين ينامون في المسجد؟ فقال: هم العاكفون.
[الآية السابعة]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤).
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ المراد بالشطر: الناحية والجهة، وهو منتصب على الظرفية. ومنه قول الشاعر:
22
وقد يراد بالشطر النصف، ومنه: «الوضوء شطر الإيمان» «١» ويرد بمعنى البعض مطلقا. ولا خلاف في أن المراد بشطر المسجد بناء الكعبة.
وقد حكى القرطبي الإجماع على أن استقبال عين الكعبة فرض على المعاين، وعلى أن غير المعاين يستقبل الناحية. ويستدل على ذلك بما يمكنه الاستدلال به «٢».
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن أبي العالية قال: شطر المسجد الحرام: تلقاؤه «٣».
وأخرج عبد بن حميد وأبي داود في «ناسخه» وابن جرير وابن أبي حاتم عن البراء في قوله تعالى هذا، قال: قبله «٤».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه- والبيهقي في سننه عن علي مثله «٥».
وأخرج أبو داود في «ناسخه» وابن جرير والبيهقي عن ابن عباس قال: شطره:
نحوه «٦».
وأخرج ابن جرير عنه قال: البيت كله قبلة، وقبلة البيت الباب «٧».
وأخرج البيهقي في «سننه» عنه مرفوعا قال: «البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي» «٨».
(١) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف كما في الجامع الصغير وقد ذكره شيخنا في «صحيح الجامع» تحت ح [٧١٥٢].
(٢) انظر تفسير القرطبي [٢/ ١٦٠]. [.....]
(٣) أخرجه الطبري في التفسير [٢/ ٢٣] ح [٢٢٤٢].
(٤) أخرجه الطبري في التفسير [٢/ ٢٤] ح [٢٢٥٠].
(٥) أخرجه الطبري في التفسير [٢/ ٢٥] ح [٢٢٥٦] والبيهقي في السنن الكبرى [٢/ ٣].
(٦) أخرجه الطبري في التفسير [٢/ ٢٤] ح [٢٢٤٣] والبيهقي في السنن [٢/ ٣].
(٧) أخرجه الطبري في التفسير [٢/ ٢٥] ح [٢٢٥٥].
(٨) [ضعيف] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى [٢/ ١٠] انظر الميزان [٣/ ١٩٠].
23

[الآية الثامنة]

إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨).
أصل الصفا: الحجر الأملس، وهو هنا علم لجبل من جبال مكة معروف.
وكذلك المروة: علم لجبل بمكة معروف، وأصلها في اللغة واحدة المروي وهي الحجارة الصغار التي فيها لين، وقيل: التي فيه صلابة، وقيل: تعم الجميع، وقيل: إنها الحجارة البيض البراقة، وقيل: إنها الحجارة السود.
والشعائر: جمع شعيرة وهي العلامة من أعلام مناسكه. والمراد بها مواضع العبادة التي أشعرها الله إعلاما للناس: من الموقف والمسعى والمنحر. ومنه إشعار الهدي أي إعلامه بغرز حديدة في سنامه.
وحج البيت في اللغة: قصده، وفي الشرع، الإتيان بمناسك الحج التي شرعها الله سبحانه.
والعمرة في اللغة: الزيادة، وفي الشرع: الإتيان بالنسك المعروف على الصفة الثابتة.
والجناح: أصله من الجنوح: وهو الميل، ومنه الجوانح لاعوجاجها.
ورفع الجناح يدل على الوجوب، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري، وحكى الزمخشري في «الكشاف» عن أبي حنيفة أنه يقول: إنه واجب وليس بركن، وعلى تاركه دم.
وقد ذهب إلى عدم الوجوب ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وابن سيرين.
ومما يقوي دلالة هذه الآية على عدم الوجوب قوله تعالى في آخر الآية: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً إلخ.
وذهب الجمهور إلى أن السعي واجب ونسك من جملة المناسك وهو قول عبد الله بن عمر وجابر وعائشة وبه قال الحسن وإليه ذهب الشافعي ومالك واختاره الشوكاني «١» وهو الراجح.
(١) فتح القدير [١/ ١٦٠].
24
واستدلوا بما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة أن عروة قال لها: أرأيت قول الله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما
فما أرى على أحد جناحا أن لا يطوف بهما؟ فقالت عائشة: بئسما قلت يا ابن أختي! إنها لو كانت على ما أولتها لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ولكنها إنما أنزلت في الأنصار قبل أن يسلموا: كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها وكان من أهلّ لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله، إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما الآية. قالت عائشة: ثم قد بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الطواف بهما فليس لأحد أن يدع الطواف بهما «١».
وأخرج مسلم وغيره عنها أنها قالت: لعمري ما أتم الله حج من لم يسع بين الصفا والمروة ولا عمرته لأن الله تعالى قال: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ «٢».
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: «إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا» «٣».
وأخرج أحمد في «مسنده» والشافعي وابن سعد وابن المنذر وابن قانع والبيهقي عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول:
«اسعوا فإن الله عز وجل كتب عليكم السعي» «٤».
وهو في «مسند أحمد» من طريق شيخه عبد الله بن المؤمل عن عطاء بن أبي رباح
(١) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح [٣/ ٤٩٧] ح [١٦٤٣] ومسلم في الصحيح [٢/ ٩٢٨] ح [١٢٧٧].
(٢) أخرجه مسلم في الصحيح ح [١٢٧٧].
(٣) [ضعيف] أخرجه الطبراني في الكبير [١١/ ١٨٤] ح [١١٤٣٧] وفي الأوسط كما في المجمع [٣/ ٢٣٩] انظر الميزان [٤/ ١٦٨].
(٤) [حسن] أخرجه الشافعي في الأم [٢/ ٢٣١] ومن طريق الدارقطني في السنن [٢/ ٢٥٦] والبغوي في شرح السنة [٧/ ١٤٠] ح [١٩٢١] والبيهقي في السنن الكبرى [٥/ ٩٨] وأبو نعيم في الحلية [٩/ ١٥٩] وأخرجه أحمد في المسند [٦/ ٤٢١] والطبراني في الكبير كما في المجمع [٣/ ٢٤٧] وابن سعد في الطبقات [٨/ ١٨٠] والحاكم [٤/ ٧٠].
انظر الفتح [٣/ ٤٩٨] والارواء ح [١١٧٢].
25
عن صفية بنت شيبة عنها.
ورواه من طريق أخرى عن عبد الرزاق أخبرنا معمر عن واصل مولى ابن عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها- فذكرته- ويؤيد ذلك حديث:
«خذوا عني مناسككم» «١».
[الآية التاسعة؟]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣).
قرأ أبو جعفر حرم على البناء للمفعول وإِنَّما كلمة موضوعة للحصر تثبت ما تناوله الخطاب وتنفي ما عداه وقد حصرت هنا التحريم في الأمور المذكورة بعدها.
والميتة: ما فارقتها الروح من غير ذكاة. وقد خصص هذا العموم بمثل حديث:
«أحل لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالطحال والكبد» «٢». أخرجه أحمد وابن ماجة والدارقطني والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر.
ومثل حديث جابر في العنبر «٣» الثابت في الصحيحين مع قوله: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ [المائدة: ٩٦].
فالمراد بالميتة هنا ميتة البر لا ميتة البحر.
وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أكل جميع حيوانات البحر: حيها وميتها، وقال بعض [أهل العلم] «٤» : إنه يحرم من حيوانات البحر ما يحرم شبهه في البر.
(١) أخرجه مسلم في الصحيح [٢/ ٩٤٣] ح [١٢٩٧] وأبو داود في السنن [٢/ ٢٠٧] ح [١٩٧٠] والنسائي في السنن ح [٢/ ٥٠] والترمذي في الجامع [١/ ١٦٨].
(٢) [صحيح] أخرجه أحمد في المسند [٢/ ٩٧] والشافعي في الأم [٢/ ٢٥٦] ومن طريقة البغوي في شرح السنة [١١/ ٢٤٤] ح [٢٨٠٣] وابن ماجه في السنن [٣٣١٤] انظر الكامل لابن عدي [١/ ٣٩٧] ورواه البيهقي [١/ ٢٥٤].
(٣) أخرجه البخاري [٩/ ٦١٥] ح [٥٤٩٣، ٥٤٩٤] ومسلم في الصحيح [٣/ ١٥٣٥] ح [١٩٣٥]. [.....]
(٤) ما بين المعكوفين سقط من المطبوع وهو مستدرك من فتح القدير [١/ ١٦٩].
26
وتوقف ابن حبيب في خنزير الماء.
قال ابن القاسم وأنا أتقيه ولا أراه حراما.
وقد اتفق العلماء على أن الدم حرام. وفي الآية الأخرى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [الأنعام: ١٤٥] فيحمل المطلق على المقيد، لأن ما خلط باللحم غير محرم. قال القرطبي بالإجماع. وقد روت عائشة أنها كانت تطبخ اللحم فتعلو الصفرة على البرمة من الدم فيأكل ذلك النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولا ينكره «١».
وقوله: وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، ظاهر هذه الآية والآية الأخرى أعني قوله: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [الأنعام: ١٤٥] أن المحرم إنما هو اللحم فقط، وقد اجتمعت الأمة على تحريم شحمه كما حكاه القرطبي في «تفسيره» «٢». وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن اللحم يدخل تحته الشحم وحكى القرطبي الإجماع أيضا على أن جملة الخنزير محرّمة إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به وقيل أراد بلحمه جميع أجزائه! وإنما خص اللحم بالذكر لأنه المقصود لذاته بالأكل.
والإهلال: رفع الصوت، يقال أهلّ بكذا أي رفع صوته. ومنه إهلال الصبي واستهلاله وهو صياحه عند ولادته.
والمراد هنا ما ذكر عليه اسم غير الله كاللات والعزى إذا كان الذابح وثنيا، والنار إذا كان الذابح مجوسيا ولا خلاف في تحريم هذا وأمثاله.
قال الشوكاني في «فتح القدير» : ومثله ما يقع من المعتقدين للأموات من الذبح على قبورهم فإنه مما أهل به لغير الله ولا فرق بينه وبين الذبح للوثن «٣». انتهى.
قلت: ومثله ما يقع من المعتقدين للأولياء من الذبح لهم فإنه مما أهلّ به لغير الله وإن لم يذكروا اسمهم عليه عند الذبح، ولا فرق بينه وبين الذبح للطواغيت. وقد أكثر أهل العلم من الكلام في هذه المسألة في تواليف مفردة لا نشتغل بذكرها خشية الإطالة.
(١) أخرجه بنحوه الطبري في التفسير [٥/ ٣٨٠] ح [١٤٠٩٣].
(٢) تفسير القرطبي [٢/ ٢٢٢] وفتح القدير للشوكاني [١/ ١٦٩] وابن عطية في المحرر الوجيز [٢/ ٤٩].
(٣) انظر فتح القدير للشوكاني [١/ ١٧٠].
27
ومن أراد تفصيل ذلك فعليه بتفسيرنا «فتح البيان في مقاصد القرآن» فقد أوردنا فيه جملة صالحة فيه غنية لطالبي الحق وبالله التوفيق.
والمراد من المضطر: من صيره الجوع والعدم إلى الاضطرار إلى الميتة.
والمراد بالباغي: من يأكل فوق حاجته.
والعادي: من يأكل هذه المحرمات وهو يجد عنها مندوحة. وقيل: غير باغ على المسلمين وعاد عليهم فيدخل في الباغي والعادي قطاع الطريق والخارجون على السلطان وقاطعو الرحم ونحوهم، وقيل: المراد غير باغ على مضطر آخر، ولا عاد سدا لجوعه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ يقول: من أكل شيئا من هذه وهو مضطر فلا حرج عليه ومن أكله وهو غير مضطر فقد بغى واعتدى.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله غَيْرَ باغٍ قال: في الميتة، وَلا عادٍ قال: في الأكل.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال: غير باغ على المسلمين ولا معتد عليهم:
من خرج يقطع الرحم أو يقطع السبيل أو يفسد في الأرض أو مفارقا للجماعة والأئمة، أو خرج في معصية الله فاضطر إلى الميتة لم تحل له.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي سعيد بن جبير قال: العادي الذي يقطع الطريق.
وقوله: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يعني في أكله، إن الله غفور لمن أكل من الحرام رحيم به إذا حل له الحرام في الاضطرار.
[الآية العاشرة]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨).
كُتِبَ عَلَيْكُمُ معناه: فرض عليكم وأثبت ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
28
أقول لأمّ زنباع أقيمي صدور العيس شطر بني تميم
كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول
وهذا إخبار من الله سبحانه لعباده بأنه شرع لهم ذلك. وقيل: إنّ كُتِبَ هذا إشارة إلى ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ.
والْقِصاصُ أصله: قصّ الأثر: أي اتباعه. ومن القاص لأنه يتبع الآثار، وقص الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل يسلك طريقا من القتل يقص أثره فيها ومنه قوله تعالى فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) [الكهف: ٦٤]. وقيل: إن القصاص مأخوذ من القص وهو القطع يقال: قصصت بينهما: أي قطعته.
وقد استدل بهذه الآية القائلون بأن الحرّ لا يقتل بالعبد وهم الجمهور. وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى وداود إلى أنه يقتل به إذا كان غير سيده، وأما سيده فلا يقتل به إجماعا، إلا ما روي عن النخعي، فليس بمذهب أبي حنيفة ومن معه على الإطلاق، ذكره الشوكاني في «شرح المنتقى».
قال القرطبي: وروى ذلك عن علي وابن مسعود وبه قال سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وقتادة والحكم بن عتبة واستدلوا بقوله تعالى وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [سورة المائدة: ٤٥] وأجاب الأولون عن هذا الاستدلال بأن قوله تعالى:
الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ مفسر لقوله تعالى: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، وقالوا أيضا: إن قوله وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها، يفيد أن ذلك حكاية عما شرعه الله لبني إسرائيل في التوراة.
ومن جملة ما استدل به الآخرون قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» «١».
ويجاب عنه بأنه مجمل والآية مبينة، ولكنه يقال إن قوله تعالى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ إنما أفاد بمنطوقه أن الحرّ يقتل بالحر والعبد يقتل بالعبد، وليس فيه ما يدل على أن الحرّ لا يقتل بالعبد إلا باعتبار المفهوم، فمن أخذ بمثل هذا المفهوم لزمه القول به هنا ومن لم يأخذ بمثل هذا المفهوم لم يلزمه القول به هنا، والبحث في هذا محرر في علم الأصول.
(١) [صحيح] أخرجه أحمد في المسند [٢/ ١٩١- ١٩٢، ٢١١] وأبو داود في السنن [٣/ ٨١] ح [٢٧٥١، ٤٥٣١] وابن ماجه في السنن [٢/ ٨٩٥] ح [٢٦٨٣] والبيهقي في السنن الكبرى [٨/ ٢٩].
29
وقد استدل بهذه الآية القائلون بأن المسلم يقتل بالكافر وهم الكوفيون والثوري، لأن الحرّ يتناول الكافر كما يتناول المسلم، وكذا العبد والأنثى يتناولان الكافر كما يتناولان المسلم. واستدلوا أيضا بقوله تعالى أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ لأن النفس تصدق على النفس الكافرة كما تصدق على النفس المسلمة.
وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل المسلم بالكافر واستدلوا بما ورد من السنة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أنه لا يقتل مسلم بكافر» «١» وهو مبين لما يراد في الآيتين. والبحث في هذا يطول.
واستدل بهذه الآية القائلون بأن الذكر لا يقتل بالأنثى، وقرروا الدلالة على ذلك بمثل ما سبق إلا إذا أسلم أولياء المرأة الزيادة على ديتها من دية الرجل وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبو ثور.
وذهب الجمهور إلى أنه يقتل الرجل بالمرأة ولا زيادة»
، وهو الحق. قال الشوكاني وقد بسطنا البحث في «شرح المنتقى» فليرجع إليه «٣». انتهى.
قلت: وقد أوضحت المسألة في «مسك الختام شرح بلوغ المرام» فليعول عليه.
قوله فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ: من هنا عبارة عن القاتل أو الجاني، والمراد بالأخ: المقتول أو الولي.
والشيء: عبارة عن الدم. والمعنى: أن القاتل أو الجاني إذا عفي له من جهة المجني عليه أو الوليّ دم أصابه منه على أن يأخذ منه شيئا من الدية أو الأرش فليتبع المجني عليه الوليّ من عليه الدم فيما يأخذه منه من ذلك اتباعا للمعروف، وليؤد الجاني ما لزمه من الدية والأرش إلى المجني عليه أو إلى الوليّ أداء بإحسان.
وقيل: إن من عبارة عن الوليّ و (الأخ) يراد به القاتل. والشيء، الدية.
والمعنى: أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص إلى مقابل الدية فإن القاتل مخير بين
(١) أخرجه البخاري في الصحيح [١/ ٢٠٤] ح [١١١، ١٨٧٠، ٣٠٤٧، ٣١٧٢، ٣١٧٩، ٦٧٥٥، ٦٩٠٣، ٦٩١٥، ٧٣٠٠] والنسائي في السنن [٨/ ٢٣- ٢٤] والترمذي في السنن ح [١٤١٢] والدرامي في السنن [٢/ ١١٠- ١١١] وأحمد في المسند [١/ ٧٩].
(٢) انظر الإفصاح لابن هبيرة [٢/ ١٥٨].
(٣) انظر فتح القدير [١/ ١٧٥].
30
أن يعطيها ويسلم نفسه للقصاص، كما روي عن مالك أنه يثبت الخيار للقاتل في ذلك.
وذهب من عداه إلى أنه لا يخير إلا إذا رضي الأولياء بالدية، فلا خيار للقاتل وليتبع بالمعروف. وقيل: إن المراد بذلك أن من فضل له من الطائفتين على الأخرى شىء من الديات، فيكون عفي بمعنى فضل. وعلى جميع التقادير فتنكير شَيْءٌ للتقليل فيتناول العفو عن الشيء اليسير من الدية والعفو الصادر عن فرد من أفراد الورثة.
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: إن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء ولم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم. فنزلت هذه الآية.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الشعبي نحوه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس قال: كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة فأنزل الله تعالى: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ «١» فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم في العمد رجالهم ونساؤهم في النفس وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستوين في العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي مالك قال: كان بين حيين من الأنصار قتال كان لأحدهما على الآخر الطول فكأنهم طلبوا الفضل فجاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليصلح بينهم فنزلت هذه الآية الْحُرُّ بِالْحُرِّ «٢» قال ابن عباس: فنسختها النَّفْسَ بِالنَّفْسِ.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والحاكم- وصححه- والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ قال: هو العمد رضي أهله بالعفو فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ أمر به الطالب، وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ من القاتل، قال: يؤدي المطلوب بإحسان «٣»،
(١) انظر تفسير الطبري [٢/ ١٠٨- ١٠٩].
(٢) أخرجه ابن جرير في التفسير [٢/ ١٠٩] ح [٢٥٧٢].
(٣) أخرجه الطبري في التفسير [٢/ ١١٢] ح [٢٥٨١] والحاكم في المستدرك [٢/ ٢٧٣] وصححه والبيهقي في السنن الكبرى [٨/ ٥٢].
31
ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ مما كان على بني إسرائيل.
وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن الدية فيهم فقال الله لهذه الأمة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى إلى قوله فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فالعفو أن يقبل الدية في العمد فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ مما كتب على من كان قبلكم فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ بأن قتل بعد قبول الدية فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) «١».
قلت: إن الله شرع لهذه الأمة العفو من غير عوض أو بعوض ولم يضيق عليهم كما ضيق على اليهود فإنه أوجب عليهم القصاص ولا عفو، وكما ضيق على النصارى فإنه أوجب عليهم العفو ولا دية.
وقد اختلف أهل العلم فيمن قتل القاتل بعد أخذ الدية فقال جماعة منهم مالك والشافعي: إنه كمن قتل ابتداء إن شاء الوليّ قتله وإن شاء عفا عنه.
قال قتادة وعكرمة والسّدي وغيرهم: يقتل البتة ولا يمكّن الحاكم الوليّ من العفو.
وقال الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة.
وقال عمر بن عبد العزيز: أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى.
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: كان أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو ليس بينهما أرش، وكان أهل الإنجيل إنما هو العفو أمروا به، وجعل الله لهذه الأمة القتل والعفو والدية- إن شاؤوا- وأحلها لهم ولم يكن لأمة قبلهم.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد وابن أبي حاتم والبيهقي عن أبي شريح الخزاعي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «من أصيب بقتل فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو وإما أن يأخذ الدية. فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها أبدا» «٢».
(١) أخرجه البخاري في الصحيح [٨/ ١٧٦] ح [٤٤٩٨، ٦٨٨١] والنسائي في السنن [٨/ ٣٦] وعبد الرزاق في المصنف [١٠/ ٨٥] ح [١٨٤٥٠ و ١٨٤٥١] والبيهقي في السنن الكبرى [٨/ ٥١، ٥٢] والدارقطني في السنن [٣/ ١٩٩].
(٢) [حسن] أخرجه عبد الرزاق في المصنف [١٠/ ٨٦- ٨٧] ح [١٨٤٥٤] والدارمي في السنن
32
واستدل بالآية أيضا على أن الكبيرة لا تخرج العبد المؤمن من إيمانه فإنه لا شك في كونه قتل العمد والعدوان من الكبائر إجماعا، ومع هذا خاطبه بعد القتل بالإيمان وسماه- حال ما وجب عليه من القصاص- مؤمنا، وكذا أثبت الأخوة بينه وبين وليّ الدم، وإنما أراد بذلك الأخوة الإيمانية، وكذا ندب إلى العفو عنه وذا لا يليق إلا عن العبد المؤمن. فليتذكر.
[الآيتان الحادية والثانية عشرة]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤).
لا خلاف بين المسلمين أجمعين أن صوم رمضان فريضة افترضها الله سبحانه على هذه الأمة.
والصيام في اللغة: أصله الإمساك وترك التنقل من حال إلى حال «١».
وهو في الشرع: الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس «٢».
قيل: للمريض حالتان إن كان لا يطيق الصوم كان الإفطار عزيمة، وإن كان يطيقه مع تضرر ومشقة كان رخصة، وبهذا قال الجمهور.
واختلف أهل العلم في السفر المبيح للإفطار فقيل مسافة قصر الصلاة والخلاف في قدرها معروف- وبه قال الجمهور «٣»، وقال غيرهم بمقادير لا دليل عليها.
[٢/ ١٨٨] وأحمد في المسند [٤/ ٣١] وأبو داود في السنن [٤/ ١٦٧] ح [٤٤٩٦] وابن الجارود في المنتقى ح [٧٧٤] والبيهقي في السنن الكبرى [٨/ ٥٢]. [.....]
(١) انظر لسان العرب [٤/ ٢٥٢٩].
(٢) انظر شرح المهذب [٦/ ٢٤٨].
(٣) قال ابن هبيرة: وأجمعوا على أن للمسافر أن يترخص بالفطر، وعليه القضاء. انظر، الإفصاح
33
والحق أن ما صدق عليه مسمى السفر فهو الذي يباح عنده الفطر، وهكذا ما صدق عليه مسمى المرض فهو الذي يباح عنده الإفطار، وقد وقع الإجماع على الفطر في سفر الطاعة واختلفوا في الأسفار المباحة- والحق أن الرخصة ثابتة فيها- وكذا اختلفوا في سفر المعصية وليس في الآية أعني قوله: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ما يدل على وجوب التتابع في القضاء.
وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية يعني: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ هل هي محكمة أو منسوخة؟ وإنما كانت رخصة عند ابتداء فرض الصيام لأنه شق عليهم وكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم وهو يطيقه ثم نسخ ذلك. وهذا قول الجمهور، وروى عن بعض أهل العلم أنها لم تنسخ وأنها رخصة للشيوخ والعجائز خاصة- إذا كانوا لا يطيقون الصيام إلا بمشقة- وهذا يناسب قراءة التشديد أي يكلفونه.
والناسخ لهذه الآية عند الجمهور قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.
وقد اختلفوا في مقدار الفدية فقيل كل يوم صاع من غير البر ونصف صاع منه، وقيل مدّ فقط.
وقال ابن شهاب: معناه، أي معنى قوله فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً من أراد الإطعام مع الصوم.
وقال مجاهد: معناه من زاد في الإطعام على المد، وقيل: من أطعم مع المسكين مسكينا آخر.
وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ معناه أن الصيام خير لهم من الإفطار مع الفدية، وكان هذا قبل النسخ، وقيل: معناه أن تصوموا في السفر والمرض غير الشاق.
[١/ ٢١١].
34
[الآية الثالثة عشرة] شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥).
أي من حضر ولم يكن في سفر بل كان مقيما.
قال جماعة من السلف والخلف: إن من أدركه شهر رمضان مقيما غير مسافر لزمه صيامه، سافر بعد ذلك أو أقام، استدلالا بهذه الآية.
وقال الجمهور: إنه إذا سافر أفطر، لأن معنى الآية أنه إذا حضر الشهر من أوله إلى آخره لا أنه إذا حضر بعضه وسافر فإنه لا يتحتم عليه إلا صوم ما حضره. وهذا هو الحق. وعليه دلت الأدلة الصحيحة من السنة. وقد كان يخرج صلّى الله عليه وآله وسلّم في رمضان فيفطر «١».
قوله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ: فيه أن هذا مقصد من مقاصد الرب سبحانه ومراد من مراداته في جميع أمور الدين، ومثله قوله تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. وقد ثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان يرشد إلى التيسير ونهى عن التعسير كقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» «٢» وهو في الصحيح.
واليسر: السهل الذي لا عسر فيه.
والمراد بالتكبير هنا: هو قول القائل: الله أكبر الله أكبر. قال الجمهور ومعناه الحض على التكبير في آخر رمضان. وقد وقع الخلاف في وقته: فروى عن بعض السلف أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر، وقيل: إذا رأوا هلال شوال كبروا إلى انقضاء الخطبة، وقيل: إلى خروج الإمام، وقيل: هو التكبير يوم الفطر.
قال مالك: هو من حين يخرج من داره إلى أن يخرج الإمام، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يكبر في الأضحى ولا يكبر في الفطر.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس في قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، قال: هو هلاله بالدار «٣».
(١) أخرجه البخاري في الصحيح [٤/ ١٨٠] ح [١٩٤٤].
(٢) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح ح [٤٣٤١] و [٤٣٤٢] و [٤٣٤٤] ومسلم في الصحيح [٣/ ١٥٨٧] ح [١٧٣٣].
(٣) أخرجه ابن جرير في التفسير [٢/ ١٥٢] ح [٢٨٣١].
35
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، قال اليسر: الإفطار في السفر، والعسر الصوم في السفر «١».
وقد صح عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوما» «٢».
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنه كان يكبر: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
[الآية الرابعة عشرة]
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧).
في قوله: أُحِلَّ لَكُمْ دلالة على أن هذا الذي أحله الله كان حراما عليهم- وهكذا كان- كما يفيده السبب لنزول الآية.
والرفث: كناية عن الجماع. قال الزجاج: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته، وعدى الرفث بإلى لتضمينه معنى الإفضاء، وجعل النساء لباسا للرجال والرجال لباسا لهن لامتزاج كل واحد منهما بالآخر عند الجماع كالامتزاج الذي يكون بين الثوب ولابسه.
يقال: خان واختان بمعنى، وهما من الخيانة وإنما سماهم خائنين لأن ضرر ذلك عائد عليهم.
وقوله فَتابَ عَلَيْكُمْ يحتمل معنيين: أحدهما قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم،
(١) أخرجه ابن جرير في التفسير [٢/ ١٦٢] ح [٢٩٠١].
(٢) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح ح [١٩٠٩] ومسلم في الصحيح [٢/ ٧٦٢] ح [١٠٨١].
36
والآخر التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة.
وهكذا قوله: وَعَفا عَنْكُمْ يحتمل العفو من الذنب، ويحتمل التوسعة والتسهيل.
وقوله وَابْتَغُوا: قيل: هو الولد، أي ابتغوا بمباشرة نسائكم حصول ما هو معظم المقصود من النكاح وهو حصول النسل، وقيل: ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه- قاله الزجاج وغيره- وقيل: الرخصة والتوسعة، وقيل: الإماء والزوجات، وقيل: غير ذلك مما لا يفيده النظم القرآني ولا دل عليه دليل.
والمراد بالخيط الأبيض: هو المعترض في الأفق، لا الذي هو كذب السرحان فإنه الفجر الكذاب الذي لا يحلّ شيئا ولا يحرمه.
والمراد بالخيط الأسود: سواد الليل. والتبيين إنما يمتاز أحدهما عن الآخر، وذلك لا يكون إلا عند دخول وقت الفجر.
وقوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ أمر للوجوب، وهو يتناول كل الصيام، وخصه الشافعية بالفرض لورود الآية في بيانه، ويدل على إباحة الفطر من النفل حديث عائشة عند مسلم من أنه أهدي لنا حيس فقال أرينيه فلقد أصبحت صائما فأكل «١».
وأيضا فيه التصريح بأن للصوم غاية هي الليل: فعند إقبال الليل من المشرق وإدبار النهار من المغرب يفطر الصائم ويحل له الأكل والشرب وغيرهما.
والمراد بالمباشرة هنا: الجماع، وقيل يشمل التقبيل واللمس إذا كانا بشهوة لا إذا كانا بغير شهوة فهما جائزان كما قال عطاء والشافعي وابن المنذر وغيرهم، وعلى هذا يحمل ما حكاه ابن عبد البر من الإجماع على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل، فتكون هذه الحكاية للإجماع مفيدة بأن يكونا بشهوة.
والاعتكاف في اللغة: الملازمة «٢». وفي الشرع: ملازمة مخصوصة على شرط مخصوص «٣». وقد وقع الإجماع على أنه ليس بواجب وعلى أنه لا يكون إلا في المسجد. وللاعتكاف أحكام مستوفاة في شروح الحديث ذكرنا طرفا منها في «شرح
(١) أخرجه مسلم في الصحيح [٢/ ٨٠٩] ح [١١٥٤].
(٢) انظر لسان العرب [٩/ ٢٥٥]-[مادة/ عكف].
(٣) انظر الاختيار للموصلي [١/ ١٧٩].
37
بلوغ المرام»، ورويت في بيان سبب نزول هذه الآية أحاديث عن جماعة من الصحابة ذكرها الشوكاني في «فتح القدير» «١» فليرجع إليه.
[الآية الخامسة عشرة] وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨).
هذا يعم جميع الأمة وجميع الأموال، لا يخرج عن ذلك إلا ما ورد دليل الشرع بأنه يجوز أخذه فإنه مأخوذ بالحق لا بالباطل ومأكول بالحل لا بالإثم، وإن كان صاحبه كارها كقضاء الدين إذا امتنع منه من هو عليه، وتسليم ما أوجبه الله من الزكاة ونحوها ونفقة من أوجب الشرع نفقته.
والحاصل أن ما لم يبح الشرع أخذه من مالكه فهو مأكول بالباطل وإن طابت به نفس مالكه، كمهر البغيّ وحلوان الكاهن وثمن الخمر.
والباطل في اللغة: الذاهب الزائل «٢». والمعنى أنكم لا تجمعوا بين أكل الأموال بالباطل «٣» وبين الإدلاء إلى الحكام بالحجج الباطلة.
وفي هذه الآية دليل على أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام ولا يحرم الحلال من غير فرق بين الأموال والفروج، فمن حكم له القاضي بشيء مستندا في حكمه إلى شهادة زور ويمين فجور- فلا يحل له أكله فإن ذلك من أكل أموال الناس بالباطل، وهكذا إذا ارتشى «٤» الحاكم فحكم له بغير الحق فإنه من أكل أموال الناس بالباطل.
ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام ولا يحرم الحلال.
وقد روي عن أبي حنيفة ما يخالف ذلك، وهو مردود بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما في حديث أم سلمة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إنكم تختصمون إليّ ولعل أن يكون بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت
(١) انظر فتح القدير [١/ ١٨٦].
(٢) جاء في المطبوع [الذائل] بالذال المعجمة والتصحيح من فتح القدير [١/ ١٨٨]. [.....]
(٣) جاء في المطبوع [الباطل] والتصحيح من فتح القدير [١/ ١٨٨].
(٤) جاء في فتح القدير [١/ ١٨٨] [أرشى].
38
له من حق أخيه بشيء فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» «١» وهو في الصحيحين وغيرهما.
فَرِيقاً: أي قطعة أو جزءا أو طائفة.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى هذا، قال: هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه بيّنة فيجحد «٢» بالمال فيخاصم إلى الحكام وهو يعرف أن الحق عليه «٣».
وروى سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن مجاهد قال: معناها: لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم «٤».
وأخرج ابن المنذر عن قتادة نحوه.
[الآية السادسة عشرة] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩).
الأهلة: جمع هلال، وجمعها باعتبار هلال كل شهر أو كل ليلة تنزيلا لاختلاف الأوقات منزلة اختلاف الذوات.
والهلال: اسم لما يبدو في أوّل الشهر وفي آخره، وفيه بيان وجه الحكمة في زيادة الهلال ونقصانه وأن ذلك لأجل بيان المواقيت التي يوقت الناس عباداتهم ومعاملاتهم به كالصوم والفطر والحج ومدّة الحمل والعدّة والإجارات والأيمان وغير ذلك، ومثله قوله تعالى: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يونس: ٥].
(١) متفق عليه أخرجه البخاري في الصحيح [٥/ ٢٨٨] ح [٢٦٨٠] ومسلم في الصحيح [٣/ ١٣٣٧] ح [١٧١٣].
(٢) جاء في المطبوع [فيجىء] وهذا خطأ والتصحيح من تفسير الطبري [١/ ١٩٠].
(٣) أخرجه ابن جرير في التفسير [٢/ ١٩٠].
(٤) أخرجه سعيد بن منصور في السنن [٢/ ٧٠٦- ط آل حميد] ح [٢٨٢] وعزاه السيوطي في الدر المنثور [١/ ٤٨٩] لعبد بن حميد أيضا.
39
والمواقيت: جميع الميقات وهو الوقت، وقد جعل بعض علماء المعاني هذا الجواب- أعني قوله قُلْ هِيَ مَواقِيتُ- من الأسلوب الحكيم: وهو تلقي المخاطب بغير ما يرتقب تنبيها على أنه الأولى بالقصد.
ووجه ذلك أنهم سألوا عن أجرام الأهلة باعتبار زيادتها ونقصانها فأجيبوا بالحكمة التي كانت الزيادة والنقصان لأجلها، لكون ذلك أولى [بأن] «١» يقصد السائل، وأحق بأن يتطلع لعلمه، وأن الأنصار كانوا إذا حجوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم إذا رجع أحدهم إلى بيته بعد إحرامه قبل تمام حجه لأنهم يعتقدون أن المحرم لا يجوز أن يحول بينه وبين السماء حائل، فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم.
وقال أبو عبيدة [إن] «٢» هذا ضرب [من] ضرب المثل. والمعنى: ليس البر أن تسألوا الجهال ولكن البرّ التقوى، وأن تسألوا العلماء، كما تقول: أتيت هذا الأمر من بابه. وقيل: هو مثل في جماع النساء وأنهم أمروا بإتيانهن في القبل لا في الدبر، وقيل:
غير ذلك.
[الآية السابعة عشرة] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠).
لا خلاف بين أهل العلم أن القتال كان ممنوعا قبل الهجرة لقوله: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [المائدة: ١٣]، وقوله: وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا (١٠) [المزمل: ١٠]، وقوله:
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) [الغاشية: ٢٢]، وقوله: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [المؤمنون: ٩٦]، ونحو ذلك مما أنزل بمكة. فلما هاجر إلى المدينة أمره الله سبحانه بالقتال ونزلت هذه الآية، وقيل: إن أول ما نزل قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج: ٣٩] فلما نزلت الآية كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يقاتل من قاتله ويكفّ عمن كفّ عنه حتى نزل قوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: ٥]، وقوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة: ٣٦]. قيل: إنه نسخ بها سبعون آية.
(١) ما بين المعكوفين من فتح القدير [١/ ١٨٩] وجاء في المطبوع [ما] بدلا من [بأن].
(٢) ما بين المعكوفين سقط من المطبوع وهو مستدرك من فتح القدير [١/ ١٨٩].
40
وقال جماعة من السلف: إن المراد بقوله الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ من عدا النساء والصبيان والرهبان ونحوهم، وجعلوا هذه الآية محكمة غير منسوخة.
والمراد بالاعتداء- عند أهل القول الأول- هو: مقاتلة من لم يقاتل من الطوائف الكفرية، والمراد به- على القول الثاني- مجاوزة قتل من يستحق القتل إلى قتل من لا يستحقه.
[الآيتان الثامنة والتاسعة عشرة] وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢).
قال ابن جرير: الخطاب للمهاجرين، والضمير لكفار قريش. انتهى.
وقد امتثل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر ربه فأخرج من مكة من لم يسلم عند أن فتحها الله عليه. وفي معنى الفتنة والمراد بها أقوال: والظاهر أن المراد الفتنة في الدين بأي سبب كان وعلى أي صورة اتفق فإنها أشد من القتل.
واختلف أهل العلم في قوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فذهبت طائفة إلى أنها محكمة وأنه لا يجوز القتال في الحرم إلا بعد أن يتعدى متعد بالقتال فيه فإنه يجوز دفعه بالمقاتلة، وهذا هو الحق.
وقالت طائفة: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥] ويجاب عن هذا الاستدلال بأن الجمع هنا ممكن ببناء العام على الخاص: فيقتل المشرك حيث وجد إلا بالحرم. ومما يؤيد ذلك قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إنها لم تحلّ لأحد قبلي «١» وإنها أحلت لي «٢» ساعة من نهار» «٣»، وهو في الصحيح.
وقد احتج القائلون بالنسخ [بقتله] «٤» صلّى الله عليه وآله وسلّم لابن خطل وهو متعلق بأستار
(١) جاء في المطبوع [قبله] والمثبت عن فتح القدير [١/ ١٩١].
(٢) جاء في المطبوع [له] والمثبت عن فتح القدير [١/ ١٩١].
(٣) [متفق عليه] أخرجه البخاري [٤/ ٤٦] ح [١٨٣٣]، [١٨٣٢] ومسلم في الصحيح ح [١٣٥٥].
(٤) وقع في المطبوع [بقوله] بدلا من [قتله] وهو خطأ والمثبت مستدرك من فتح القدير [١/ ١٩١].
41
الكعبة «١» ويجاب عنه بأنه وقع في تلك الساعة التي أحل الله لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم فَإِنِ انْتَهَوْا عن قتالكم ودخلوا في الإسلام.
[الآية الموفية العشرين] وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣).
فيه الأمر بمقاتلة المشركين ولو في الحرم وإن لم يبتدءوكم بالقتال فيه إلى غاية هي أن لا تكون فتنة وأن يكون الدين لله: وهو الدخول في الإسلام والخروج عن سائر الأديان المخالفة له. فمن دخل الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحل قتاله.
قيل المراد بالفتنة هنا: الشرك، والظاهر أنها الفتنة في الدين- على عمومها- كما سلف.
والمراد لا تعتدوا إلا على من ظلم وهو من لم ينته عن الفتنة ولم يدخل في الإسلام. وإنما سمى جزاء الظالمين عدوانا مشاكلة كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤٠]، وقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ [البقرة: ١٩٤].
[الآية الحادية والعشرون] الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤).
أي إذا قاتلوكم في الشهر الحرام وهتكوا حرمته فقاتلتموهم في الشهر الحرام مكافأة لهم ومجازاة على فعلهم.
والحرمات: جمع حرمة، كالظلمات جمع ظلمة. وإنما جمع الحرمات لأنه أراد حرمة الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام.
والحرمة: ما منع الشرع من انتهاكه.
(١) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح [٤/ ٥٩] ح [١٨٤٦] و [٣٠٤٤] و [٤٢٨٦] ومسلم في الصحيح ح [١٣٥٧].
42
والقصاص: المساواة. والمعنى: أن كل حرمة يجري فيها القصاص، فمن هتك حرمتكم عليكم فلكم أن تهتكوا حرمته عليه قصاصا. قيل: وهذا كان في أول الإسلام ثم نسخ بالقتال وقيل: إنه ثابت بين أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لم ينسخ فيجوز لمن تعدّي عليه في مال أو بدن أن يتعدّى بمثل ما تعدّي عليه، وبهذا قال الشافعي وغيره.
وقال الآخرون: إن أمور القصاص مقصورة على الحكام، وهكذا الأموال لقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» «١» أخرجه الدارقطني وغيره وبه قال أبو حنيفة وجمهور المالكية وعطاء الخراساني.
والقول الأوّل أرجح، وبه قال ابن المنذر واختاره ابن العربي والقرطبي وحكاه الداودي «٢» عن مالك، ويؤيده أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أباح لامرأة أبي سفيان أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها «٣»، وهو في الصحيح.
ولا أصرح وأوضح من قوله تعالى في هذه الآية: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ، وهذه الجملة في حكم تأكيد الجملة الأولى أعني قوله: وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ. وإنما سمى المكافأة اعتداء مشاكلة كما تقدم.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما سار رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم معتمرا في سنة ست من الهجرة وحبسه المشركون من الدخول والوصول إلى البيت وصدوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة- وهو شهر حرام- قاضاهم على الدخول من قابل، فدخلها في السنة الآتية هو ومن كان معه من المسلمين وأقصّه الله منهم ذلك في هذه الآية «٤».
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية نحوه، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد «٥» نحوه أيضا، وأخرج أيضا عن قتادة نحوه «٦»، وأخرج ابن جرير عن
(١) [حسن] أخرجه الدارمي في السنن [٢/ ٢٦٤] وأبو داود في السنن [٣/ ٢٨٨] ح [٣٥٣٥] والترمذي في السنن [٣/ ٥٦٤] ح [١٢٦٤] وأخرجه أحمد في المسند [٣/ ٤١٤]. [.....]
(٢) جاء في المطبوع [الأوزاعي] وهذا خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/ ١٩٢].
(٣) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح [٩/ ٥٠٧] ح [٥٣٦٤] ومسلم في الصحيح ح [١٧١٤].
(٤) أخرجه الطبري في التفسير [٢/ ٢٠٢- ٢٠٣] ح [٣١٣٦] وصحيح البخاري [٥/ ٣٢٩] ح [٢٧٣١].
(٥) انظر «تفسير الطبري» [٢/ ٢٠٣] ح [٣١٣٧].
(٦) انظر «تفسير الطبري» ح [٢/ ٢٠٣] ح [٣١٣٨].
43
ابن جريج «١» نحوه.
وأخرج أبو داود في «ناسخه» وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس في قوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ الآية، وقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ [الشورى: ٤٠]، وقوله: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ [الشورى: ٤١]، وقوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ [النحل: ١٢٦]، قال: هذا ونحوه نزل بمكة والمسلمون يومئذ قليل ليس لهم سلطان يقهر المشركين فكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى. فأمر الله المسلمين من يجازي «٢» منهم أن يجازي بمثل ما أوتي إليه أو يصبروا ويعفوا. فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة وأعزّ الله سلطانه أمر المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم، ولا يعدو بعضهم على بعض كأهل الجاهلية «٣» فقال: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً [الإسراء: ٣٣]. يقول ينصره السلطان حتى ينصفه ممن ظلمه «٤». ومن انتصر لنفسه دون السلطان فهو عاص مسرف قد عمل بحمية الجاهلية ولم يرض بحكم الله.
انتهى.
وأقول: هذه الآية التي جعلها ابن عباس رضي الله عقنه ناسخة مؤيدة لما تدل عليه الآيات التي جعلها منسوخة ومؤكدة له، فإن الظاهر من قوله: فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً أنه جعل السلطان له، أي جعل له تسلطا يتسلط به على القاتل، ولهذا قال: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ. ثم لو سلمنا أن معنى الآية كما قاله لكان ذلك مخصصا للقتل من عموم الآيات المذكورة لا ناسخا لها فإنه لم ينص في هذه الآية إلا على القتل وحده.
وتلك الآيات شاملة له ولغيره، وهذا معلوم من لغة العرب التي هي المرجع في تفسير كلام الله سبحانه وتعالى.
(١) انظر «تفسير الطبري» [٢/ ٢٠٤] ح [٣١٤٧].
(٢) جاء في فتح القدير [١/ ١٩٢] [بنجازى].
(٣) انظر تفسير الطبري [٢/ ٢٠٥] ح [٣١٤٨].
(٤) جاء في فتح القدير [١/ ١٩٣] [على من ظلمه].
44
[الآية الثانية والعشرون] وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥).
في هذه الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله وهو الجهاد، واللفظ يتناول غيره مما يصدق عليه أنه من سبيل الله، والباء في قوله بِأَيْدِيكُمْ زائدة «١». ومثله أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (١٤) [العلق: ١٤]. وقال المبرد: بأيديكم أي بأنفسكم تعبيرا بالبعض عن الكل، كقوله: فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: ٣٠]، وقيل: هذا مثل مضروب يقال: فلان ألقى بيده في أمر كذا: إذا استسلم لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيده، فكذلك فعل كل عاجز في أيّ فعل كان.
وقال قوم: التقدير ولا تلقوا أنفسكم «٢» بأيديكم.
والتهلكة: مصدر من هلك يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة: أي لا تأخذوا فيما يهلككم.
وللسلف في معنى الآية أقوال سيأتي بيانها، وبيان سبب نزول الآية.
والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فكلما صدق عليه أنه تهلكة في الدين أو الدنيا فهو داخل في هذه، وبه قال ابن جرير الطبري «٣».
ومن جملة ما يدخل تحت الآية أن يقتحم الرجل في الحرب فيحمل على الجيش مع عدم قدرته على التخلص وعدم تأثيره لأثر ينفع المجاهدين. ولا يمنع من دخول هذا تحت الآية إنكار من أنكره من الذين رأوا «٤» السبب فإنهم ظنوا أن الآية لا تجاوز سببها وهو ظنّ تدفعه لغة العرب.
وقوله وَأَحْسِنُوا أي في الإنفاق في الطاعة، وأحسنوا الظن بالله في إخلافه عليكم.
(١) جاء في فتح القدير [١/ ١٩٣] بعد [زائدة] [والتقدير: ولا تلقوا أيديكم].
(٢) جاء في المطبوع [نفسكم] والتصحيح من «فتح القدير» [١/ ١٩٣].
(٣) انظر تفسير الطبري [٢/ ٢١١].
(٤) جاء في المطبوع [ردوا] وهذا خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/ ١٩٣].
45
أخرج عبد بن حميد والبخاري والبيهقي في «سننه» عن حذيفة في قوله هذا قال:
نزلت في النفقة «١».
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: هو ترك النفقة في سبيل الله مخافة العيلة «٢».
وأخرج عبد بن حميد والبيهقي عن ابن عباس نحوه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة نحوه أيضا «٣».
وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه «٤».
وأخرج ابن حميد والبيهقي في «الشعب» عنه قال: هو البخل.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في الآية قال: كان رجال يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بغير نفقة فإما يقطع بهم «٥» وإما كانوا عيالا فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله وألا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، والتهلكة أن يهلك رجال من الجوع والعطش ومن المشي.
وقال لمن بيده فضل: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥). وأخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير والبغوي في «معجمه» وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن نافع والطبراني عن الضحاك بن أبي جبير أن الأنصار كانوا ينفقون في سبيل الله ويتصدقون فأصابتهم سنة فساء ظنهم وأمسكوا عن ذلك فأنزل الله الآية.
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي- وصححه- والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم- وصححه- والطبراني وابن مردويه والبيهقي في «سننه» عن أسلم بن عمران قال: كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد فخرج صفّ عظيم من الروم فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين
(١) أخرجه البخاري في الصحيح [٨/ ١٨٥] ح [٦/ ٤٥]. [.....]
(٢) أخرجه سعيد بن منصور في السنن [٢/ ٧١٠- ط آل حميد] ح [٢٨٥] وابن جرير الطبري في التفسير [١/ ٢٠٦] ح [٣١٥١] وعزاه السيوطي في الدر المنثور [١/ ٤٩٩].
(٣) أخرجه ابن جرير في التفسير [٢/ ٢٠٧] ح [٣١٥٦].
(٤) أخرجه ابن جرير في التفسير [٢/ ٢٠٨] ح [٣١٦٥].
(٥) جاء في فتح القدير [١/ ١٩٣] [لهم].
46
على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة! فقام أبو أيوب صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: أيها الناس إنكم تأولون هذا التأويل وإنما أنزلت فينا هذه الآية معشر الأنصار إنا لما أعزّ الله دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن أموال الناس قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع هنا؟ فأنزل الله على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم يرد علينا فكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وترك الغزو «١».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم- وصححه- والبيهقي عن البراء بن عازب قال في تفسير الآية: الرجل يذنب الذنب فيلقي بيده فيقول لا يغفر الله لي أبدا «٢»، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والطبراني والبيهقي في «الشعب» عن النعمان بن بشير نحوه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير قال في تفسير الآية: إنه القنوط «٣»، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: التهلكة عذاب الله «٤».
وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أنهم حاصروا دمشق فأسرع رجل إلى العدو وحده فعاب ذلك عليه المسلمون ورفع حديثه إلى عمرو بن العاص فأرسل إليه فردّه «٥» وقال: قال الله وَلا تُلْقُوا الآية.
وأخرج ابن جرير عن رجل من الصحابة في قوله وَأَحْسِنُوا قال: أدوا الفرائض «٦». وأخرج عبد بن حميد عن أبي إسحاق مثله وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة قال: أحسنوا الظنّ بالله «٧».
(١) [صحيح] أخرجه الترمذي في السنن [٥/ ١٩٦] ح [٢٩٧٢] وأبو داود في السنن [٢/ ١٢] ح [٢٥١٢] والنسائي في التفسير [١/ ٢٣٦] ح [٤٨] والطبري في التفسير [٢/ ٢١٠] ح [٣١٨٥] و [٣١٨٦] والطيالسي في المسند ح [٥٩٩] والطبراني في المعجم الكبير ح [٤٠٦٠] مختصرا والحاكم في مستدركه [٢/ ٢٨٤، ٢٧٥] والبيهقي في سننه [٩/ ٤٥].
(٢) أخرجه الطبري في التفسير [٢/ ٢٠٩] ح [٣١٧٣].
(٣) أخرجه الطبري في التفسير [٢/ ٢١٠] ح [٣١٨٢] عن عبيدة.
(٤) أخرجه الطبري في التفسير [٢/ ٢١١] ح [٣١٨٧].
(٥) جاء في المطبوع [قرره] وهذا خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/ ١٩٤].
(٦) أخرجه الطبري في التفسير [٢/ ٢١٢] ح [٣١٨٨].
(٧) أخرجه الطبري في التفسير [٢/ ٢١٢] ح [٣١٨٩].
47
[الآية الثالثة والعشرون] وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦).
اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج والعمرة، فقيل: أداؤهما والإتيان بهما من دون أن يشوبهما شيء مما هو محظور ولا يخل بشرط ولا فرض لقوله «١» تعالى فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة: ١٢٤] وقوله ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: ١٨٧].
وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن يخرج لهما لا لغيرهما، وقيل: إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما من غير تمتع ولا قران. وبه قال ابن حبيب وقال: إتمامهما أن لا يستحلوا فيهما ما لا ينبغي لهم، وقيل: إتمامهما أن يحرم لهما من دويرة أهله، وقيل أن ينفق في سفرهما الحلال الطيب.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في «الدلائل» وابن عبد البر في «التمهيد» عن يعلى بن أمية قال جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو بالجعرانة وعليه أثر خلوق، فقال: كيف تأمرني يا رسول الله أن أصنع في عمرتي؟ فأنزل الله وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ. وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم «أين السائل عن العمرة؟ فقال ها أنا ذا قال اخلع الجبة واغسل عنك أثر الخلوق ثم ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك» «٢». وقد أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديثه ولكن فيهما أنه نزل عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم الوحي بعد السؤال ولم يذكرا ما هو الذي أنزل عليه.
(١) جاء في المطبوع [كقوله] والتصحيح من فتح القدير [١/ ٥١].
(٢) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح [٣/ ٣٩٣] ح [١٥٣٦] و [١٧٨٩] و [١٨٤٧] و [٤٣٢٩] و [٤٩٨٥] ومسلم في الصحيح ح [١١٨٠] وأبو داود في السنن [٢/ ١٦٩- ١٧٠] ح [١٨١٩] والنسائي [٥/ ١٣٠- ١٣٢] والترمذي في السنن [٣/ ١٩٦] ح [٨٣٦] انظر فتح الباري [٣/ ٣٩٤].
48
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: تمام الحجّ يوم النّحر إذا رمى جمرة العقبة وزار البيت فقد حلّ، وتمام العمرة إذا طاف بالبيت وبالصّفا وبالمروة فقد حلّ «١».
وقد ورد في فضائل الحج والعمرة أحاديث كثيرة ليس هذا موطن ذكرها.
وقد اتفقت الأمة على وجوب الحج على من استطاع إليه سبيلا.
وقد استدل بهذه الآية على وجوب العمرة لأن الأمر بإتمامها أمر بها، وبذلك قال عليّ وابن عمر وابن عباس وعطاء وطاووس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير ومسروق وعبد الله بن شدّاد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن الجهم من المالكية.
وقال مالك والنخعي وأصحاب الرأي كما حكاه ابن المنذر عنهم: إنها سنة.
وحكي عن أبي حنيفة أنه يقول بالوجوب.
ومن القائلين بأنها سنة: ابن مسعود وجابر بن عبد الله ومن جملة ما استدل به الأولون ما ثبت عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم في الصحيح أنه قال لأصحابه: «من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة» «٢»، وثبت عنه أيضا في الصحيح أنه قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» «٣».
وأخرج الدارقطني والحاكم من حديث زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرانك بأيهما بدأت» «٤».
واستدل الآخرون بما أخرجه الشافعي في «الأم» وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن أبي صالح الحنفي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم «الحج جهاد والعمرة تطوع» «٥».
(١) أخرجه ابن جرير في التفسير [٢/ ٢١٣] ح [٣١٩٤]. [.....]
(٢) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح [٣/ ٤١٥] ح [١٥٥٦] و [١٥٦٢] ومسلم في الصحيح ح [١٢١١].
(٣) أخرجه مسلم في الصحيح ح [١٢١٨].
(٤) [ضعيف] أخرجه الدارقطني في السنن [٢/ ٢٨٤]، [٢/ ٢٨٥] والحاكم في المستدرك [١/ ٤٧١] والبيهقي [٤/ ٣٥٠] انظر التهذيب [٩/ ١٩٠].
(٥) [ضعيف] أخرجه الشافعي في الأم [٢/ ١٤٤] والبيهقي في السنن الكبرى [٤/ ٣٤٨] ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه [٣/ ٢٢٣] ح [١٣٦٤٧]. انظر سنن البيهقي [٤/ ٣٤٨] وسنن ابن ماجه [٢/ ٩٩٥]
49
وأخرج ابن ماجة عن طلحة بن عبيد الله مرفوعا مثله.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي- وصححه- عن جابر أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن العمرة أواجبة هي؟ قال: «لا! وأن تعتمروا خير لكم» «١».
وأجابوا عن الآية والأحاديث المصرحة بأنها واجبة فريضة بحمل «٢» ذلك على أنه قد وقع الدخول فيها وهي بعد الشروع فيها واجبة بلا خلاف، وهذا وإن كان فيه بعد لكن يجب المصير إليه جمعا بين الأدلة ولا سيما بعد تصريحه صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث جابر من عدم الوجوب وعلى هذا يحمل ما ورد مما فيه دلالة على وجوبها كما أخرجه الشافعي في «الأم» أن في الكتاب الذي كتبه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لعمرو بن حزم «أن العمرة هي الحج الأصغر» «٣»، وكحديث ابن عمر عند البيهقي في «الشعب» قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: أوصني؟ فقال: «تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان وتحج وتعتمر وتسمع وتطيع وعليك بالعلانية وإياك والسر» «٤» هكذا ينبغي حمل ما ورد من الأحاديث التي قرن فيها بين الحج والعمرة في أنهما من أفضل الأعمال وأنهما كفارة لما بينهما وأنهما يهدمان ما كان قبلهما ونحو ذلك.
أُحْصِرْتُمْ الحصر: الحبس قال أبو عبيدة والكسائي والخليل: إنه يقال: أحصر بالمرض وحصر بالعدو. وفي «المجمل» لابن الفارس العكس يقال أحصر بالعدو وحصر بالمرض، ورجح الأول ابن العربي وقال: هو رأي أكثر أهل اللغة، وقال الزجاج إنه
ح [٢٩٨٩].
(١) [ضعيف] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف [٣/ ٢٢٣] ح [١٣٦٤٦] والترمذي في الجامع [٣/ ٢٧٠] ح [٩٣١] والدارقطني في السنن [٢/ ٢٨٦] والبيهقي في السنن [٤/ ٣٤٩] والطبراني في الصغير [٢/ ١٩٤- مع الروض] والبيهقي في السنن [٤/ ٣٤٩] ورواه الطبراني في الصغير ح [١٠١٥- مع الروض] والدارقطني في السنن [٢/ ٢٨٦] انظر الميزان للذهبي [٤/ ٢٦٣].
(٢) وقع في المطبوع [يحمل] والصحيح [بحمل] كما في فتح القدير [١/ ١٩٥].
(٣) [ضعيف] أخرجه الحاكم في المستدرك [١/ ٣٩٥- ٣٩٧] وابن حبان في الصحيح [١٤/ ٥٠١- ٥١٢] ح [٦٥٥٩] والبيهقي في السنن الكبرى [٤/ ٨٩- ٩٠، ٣٥٢] ورواه النسائي [٨/ ٥٩] وأخرجه أبو داود مختصرا في المراسيل ح [٢٥٩] والدارقطني في السنن [١/ ٢٢]، [٢/ ٢٨٥] والدارمي في السنن [٢/ ١٨٨ و ١٨٩- ١٩٠] وأخرجه مالك في الموطأ [٢/ ٨٤٩] ومن طريقه النسائي [٨/ ٦٠] والبغوي في شرح السنة ح [٢٧٥] و [٢٥٣٨].
(٤) أخرجه الدارقطني في السنن الكبرى [٢/ ٢٨٢] نحوه والبيهقي في السنن الكبرى [٤/ ٣٥٠].
50
كذلك عن جميع أهل اللغة، وقال الفراء: هما بمعنى واحد في المرض والعدو ووافقه على ذلك أبو عمر الشيباني «١» فقال: حصرني الشيء وأحصرني أي حبسني.
وبسبب هذا الاختلاف بين أهل اللغة اختلف أئمة الفقه في معنى الآية فقالت الحنفية المحصر: من يصير ممنوعا من مكة بعد الإحرام بمرض أو عدو أو غيره.
وقالت الشافعية وأهل المدينة: المراد بالآية حصر العدو.
وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن المحصر بعدوّ يحل حيث أحصر وينحر هديه- إذا كان ثم هدي- ويحلق رأسه كما فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو وأصحابه في الحديبية.
وأخرج الشافعي في «الأم» وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لا حصر إلا حصر «٢» العدو فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء إنما قال الله: فَإِذا أَمِنْتُمْ فلا يكون الأمن إلا من الخوف.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال: لا إحصار إلا من العدو «٣»، وأخرج أيضا عن الزهري نحوه.
وأخرج أيضا عن عطاء قال: لا إحصار إلا من مرض أو عدو أو أمر حابس «٤».
وأخرج أيضا عن عروة قال: كل شيء حبس المحرم فهو إحصار «٥».
وأخرج البخاري عن المسور أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نحر قبل أن يحلق وأمر أصحابه بذلك «٦».
وأخرج ابن جرير «٧» وابن المنذر عن ابن عباس في قوله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ يقول: من أحرم بحجة أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عدو يحبسه، فعليه ذبح ما
(١) جاء في المطبوع [أبو عمرو الشيباني] وهذا خطأ والصحيح ما أثبتناه من فتح القدير [١/ ١٩٥].
(٢) أخرجه الشافعي في الأم [٢/ ١٧٨] وابن جرير في التفسير [٢/ ٢٢١] ح [٣٢٤١].
(٣) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف [٣/ ٢١٣] ح [١٣٥٥٥].
(٤) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف [٣/ ٢١٣] ح [١٣٥٥٤].
(٥) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف [٣/ ٢١٣] ح [١٣٥٥٦]. [.....]
(٦) أخرجه البخاري في الصحيح [٤/ ١٠] ح [١٨١١].
(٧) انظر تفسير ابن جرير [٢/ ٢٢٤].
51
استيسر من الهدي: شاة فما فوقها، وإن كانت حجة الإسلام فعليه قضاؤها، وإن كانت بعد حج الفريضة فلا قضاء عليه.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ يقول: الرجل إذا أهل بالحج فأحصر بعث بما استيسر من الهدي، فإن كان عجّل قبل أن يبلغ الهدي محله فحلق رأسه أو مس طيبا أو تداوى بدواء كان عليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك: فالصيام ثلاثة أيام، والصدقة ثلاثة آصع على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، والنسك شاة.
فَإِذا أَمِنْتُمْ يقول: فإذا برىء فمضى من وجهه ذلك إلى البيت أحل من حجته بعمرة وكان عليه الحج من قابل، فإن هو رجع ولم يتم من وجهه ذلك إلى البيت كان عليه حجة وعمرة، فإن هو رجع متمتعا في أشهر الحج كان عليه ما استيسر من الهدي:
شاة، فإن هو لم يجد فصيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم.
قال إبراهيم فذكرت هذا الحديث لسعيد بن جبير فقال: هكذا قال ابن عباس في هذا الحديث: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وهو ما يهدى إلى البيت من بدنة أو غيرها، وذهب الجمهور إلى أنه شاة، وقال ابن عمر وعائشة وابن الزبير: جمل أو بقرة، وقال الحسن:
أعلى الهدي بدنة وأوسطه بقرة وأدناه شاة.
وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ هو خطاب لجميع الأمة من غير فرق بين محصر وغير محصر. وإليه ذهب جمع من أهل العلم. وذهبت طائفة إلى أنه خطاب للمحصرين خاصة: أي لا تحلوا من الإحرام حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم قد بلغ محله وهو الموضع الذي يحل فيه ذبحه.
واختلفوا في تعيينه فقال مالك والشافعي: هو في موضع الحصر اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حيث أحصر في عام الحديبية، وقال أبو حنيفة: هو الحرم، لقوله تعالى مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) [الحج: ٣٣] وأجيب عن ذلك بأن المخاطب هو الآمن الذي يمكنه الوصول إلى البيت، وأجاب الحنفية عن نحره صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحديبية بأن طرف الحديبية الذي إلى أسفل مكة هو من الحرم، ورد بأن المكان الذي وقع فيه النحر ليس هو من الحرم فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ، فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ المراد بالمرض هنا ما يصدق عليه مسمى المرض لغة، وبالأذى من الرأس ما فيه من قمل أو جرح فعليه
52
فدية. وقد بينت «١» السنة ما أطلق هنا من الصيام والصدقة والنسك، فثبت في الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم رأى كعب بن عجرة وهو محرم وقمله يتساقط على وجهه فقال:
أيؤذيك هوام رأسك؟ فقال: نعم! فأمره أن يحلق ويطعم ستة مساكين، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام «٢».
وقد ذكر ابن عبد البر أنه لا خلاف بين العلماء في أن النسك هنا هو شاة.
وحكى عن الجمهور أن الصوم المذكور في الآية ثلاثة أيام، والإطعام الستة «٣» مساكين.
وروى عن الحسن وعكرمة ونافع أنهم قالوا: الصوم في فدية الأذى عشرة أيام، والإطعام عشرة مساكين، والحديث الصحيح المتقدم يرد عليهم ويبطل قولهم.
وقد ذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وداود إلى أن الإطعام في ذلك مدّان بمد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي لكل مسكين.
وقال الثوري: نصف صاع من برّ أو صاع من غيره، وروي ذلك عن أبي حنيفة.
قال ابن المنذر: هذا غلط! لأن في بعض أخبار كعب أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال له:
«تصدق بثلاثة أصوع من تمر على ستة مساكين» «٤».
واختلفت الرواية عن أحمد بن حنبل فروى عنه بمثل قول مالك والشافعي.
وروي عنه: إن أطعم برّا فمدّ لكل مسكين وإن أطعم تمرا فنصف صاع.
واختلفوا في مكان هذه الفدية فقال عطاء: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام أو صيام فحيث يشاء. وبه قال أصحاب الرأي.
وقال طاووس والشافعي: الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة والصوم حيث شاء.
وقال مالك ومجاهد: حيث شاء في الجميع.
(١) جاء في المطبوع [أثبتت] والتصحيح من فتح القدير [١/ ١٩٦].
(٢) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح [٤/ ١٢] ح [١٨٨٤] و [١٨١٥- ١٨١٨] ومسلم في الصحيح ح [١٢٠١].
(٣) جاء في المطبوع [سنة] والتصحيح من فتح القدير [١/ ١٩٦].
(٤) أخرجه مسلم في الصحيح [١/ ٨٦١].
53
قال في «فتح القدير» وهو الحق لعدم الدليل على تعيين المكان «١». انتهى.
فَإِذا أَمِنْتُمْ أي برأتم من المرض، وقيل من خوفكم من العدوّ- على الخلاف السابق- ولكن الأمن من العدوّ أظهر من استعمال أمنتم في ذهاب المرض فيكون مقويا لقول من قال: إن قوله فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ المراد به الإحصار من العدوّ. كما أن قوله فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً يقوي قول من قال بذلك لإفراد عذر المرض بالذكر، وقد وقع الخلاف:
هل المخاطب بهذا هم المحصرون خاصة؟ أم جميع الأمة على حسب ما سلف؟
فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ المراد بالتمتع أن يحرم الرجل بعمرة ثم يقيم حلالا بمكة إلى أن يحرم بالحج، فقد استباح بذلك ما لا يحلّ للمحرم استباحته، وهو معنى تمتع واستمتع.
ولا خلاف بين أهل العلم في جواز التمتع قال الشوكاني في «فتح القدير» : بل هو عندي أفضل أنواع الحج كما حررته في شرحي في «المنتقى» «٢». انتهى.
وفي «المختصر» المسمى ب «الدرر البهية» وشرحه المرسوم ب «الدراري المضيئة» أيضا وتقدم الخلاف في معنى قوله فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ أي فمن لم يجد الهدي إما لعدم المال أو لعدم الحيوان صام ثلاثة أيام في أيام الحج وهي من عند شروعه في الإحرام إلى يوم النحر.
وقيل: يصوم قبل يوم التروية يوما ويوم التروية ويوم عرفة.
وقيل: ما بين أن يحرم بالحج إلى يوم عرفة.
وقيل: يصومهنّ من أوّل عشر ذي الحجة.
وقيل: ما دام بمكة.
وقيل: إنه يجوز أن يصوم الثلاثة قبل أن يحرم، وقد جوّز بعض أهل العلم صيام أيام التشريق لمن لم يحل الهدي، ومنعه آخرون.
والمراد بالرجوع هنا الرجوع إلى الأوطان.
قال أحمد وإسحق: يجزيه الصوم في الطريق ولا يتضيق عليه الوجوب إلا إذا
(١) فتح القدير [١/ ١٩٦].
(٢) فتح القدير [١/ ١٩٧].
54
وصل وطنه، وبه قال الشافعي وقتادة والربيع ومجاهد وعكرمة والحسن وغيرهم.
وقال مالك: إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم والأول أرجح.
وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أنه قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله» «١» فبين صلّى الله عليه وآله وسلّم أن الرجوع المذكور في الآية هو الرجوع إلى الأهل.
وثبت أيضا في الصحيح من حديث ابن عباس بلفظ «وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم» «٢» وإنما قال سبحانه: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ مع أن كل أحد يعلم أن الثلاثة والسبعة عشرة، لدفع أن يتوهم متوهم التخيير بين الثلاثة الأيام في الحج والسبعة إذا رجع. قاله الزجاج.
وقال المبرد: ذكر ذلك ليدل على انقضاء العدد لئلا يتوهم متوهم أن قد بقي منه شيء بعد ذكر السبعة. وقيل: هو توكيد وقد كانت العرب تأتي بمثل هذه الفذلكة فيما دون هذا العدد كقول الشاعر:
ثلاث واثنتان فهنّ خمس وسادسة تميل إلى شمامي
وقوله كامِلَةٌ: توكيد آخر بعد الفذلكة لزيادة التوصية بصيامها، وأن لا ينقص من عددها. ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الإشارة بقوله ذلِكَ قيل: هي راجعة إلى التمتع، فيدل على أن لا متعة لحاضري المسجد الحرام كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه. قالوا: ومن تمتع منهم كان عليه دم، وهو دم جناية لا يأكل منه.
وقيل: إنها راجعة إلى الحكم وهو وجوب الهدي والصيام، فلا يجب ذلك على من كان أهله حاضري المسجد الحرام كما يقوله الشافعي ومن وافقه.
والمراد من لم يكن ساكنا في الحرم أو من لم يكن ساكنا في المواقيت فما دونها، على الخلاف في ذلك بين الأئمة.
(١) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح [٣/ ٥٣٩] ح [١٦٩١] ومسلم في الصحيح ح [١٢٢٧، ١٢٢٨].
(٢) أخرجه البخاري في الصحيح [٣/ ٤٣٣] ح [١٥٧٢].
55
[الآية الرابعة والعشرون] الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧).
فيه حذف والتقدير: وقت الحج أشهر، أي وقت عمل الحج، وقيل: التقدير الحج في أشهر، وفيه أن يلزم النصب مع حذف حرف الجر لا الرفع.
قال الفراء: الأشهر رفع لأن معناه وقت الحج أشهر وقيل: التقدير الحج حج أشهر.
وقد اختلف في الأشهر المعلومات، فقال ابن مسعود وابن عمر وعطاء والربيع ومجاهد والزهري: هي شوّال وذو القعدة وذو الحجة كله وبه قال مالك.
وقال ابن عباس والسّدي والشعبي والنخعي: هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم وقد روي أيضا عن مالك.
وتظهر فائدة الخلاف فيما وقع من أعمال الحج بعد يوم النحر: فمن قال إن ذا الحجة كله من الوقت قال: لم يلزمه دم التأخير، ومن قال ليس إلا العشر منه قال يلزم دم التأخير.
وقد استدل بهذه الآية من قال: إنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج- وهو عطاء وطاووس ومجاهد والأوزاعي والشافعي وأبو ثور- قال فمن أحرم بالحج قبلها أحلّ بعمرة ولا يجزيه عن إحرام الحج كمن دخل في صلاة قبل وقتها فإنه لا تجزيه.
وقال أحمد وأبو حنيفة إنه مكروه فقط. وروي نحوه عن مالك والمشهور عنه جواز الإحرام بالحج في جميع السنة من غير كراهة وروي مثله عن أبي حنيفة. وعلى هذا القول ينبغي أن ينظر في فائدة توقيت الحج بالأشهر المذكورة في الآية.
وقد قيل: إن النص عليه لزيادة فضلها، وقد روي القول بجواز الإحرام في جميع السنة عن إسحاق بن راهويه وإبراهيم النخعي والثوري والليث بن سعد واحتج لهم بقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة: ١٨٩] فجعل الأهلة كلها
56
مواقيت للحج، ولم يخص الثلاثة الأشهر، ويجاب بأن تلك خاصة وهذه الآية عامة والخاص مقدم على العام.
ومن جملة ما احتجوا به القياس للحج على العمرة، فكما يجوز الإحرام للعمرة في جميع السنة كذلك يجوز الحج، قال في «فتح القدير» «١» : ولا يخفى أن هذا القياس مصادم للنصّ القرآني فهو باطل، فالحق ما ذهب إليه الأوّلون إن كانت الأشهر المذكورة في قوله الْحَجُّ أَشْهُرٌ مختصة بالثلاثة المذكورة بنص أو إجماع، فإن لم يكن كذلك فالأشهر جمع شهر وهو من جموع القلة يتردد ما بين الثلاثة إلى العشرة، والثلاثة هي المتيقنة فيجب الوقوف عندها، ومعنى قوله: مَعْلُوماتٌ أن الحج في السنة مرة واحدة في أشهر معلومات من شهورها ليس كالعمرة أو المراد معلومات لبيان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو معلومات عند المخاطبين ولا يجوز التقديم عليها ولا التأخير عنها.
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ أصل الفرض في اللغة: الحزّ والقطع، ومنه فرضة القوس والنهر والجبل، ففرضية الحج لازمة للعبد الحر كلزوم الحزّ للقوس.
وقيل: معنى فرض: أبان، وهو أيضا يرجع إلى القطع لأن من قطع شيئا فقد أبانه عن غيره.
والمعنى في الآية فمن ألزم نفسه فيهنّ الحج بالشروع فيه بالنية قصدا باطنا وبالإحرام فعلا ظاهرا وبالتلبية نطقا مسموعا.
وقال أبو حنيفة: إن إلزامه نفسه يكون بالتلبية أو بتقليد الهدي وسوقه.
وقال الشافعي: تكفي النية في الإحرام بالحج.
فَلا رَفَثَ قال ابن عباس وابن جبير والسّدي وقتادة والحسن وعكرمة والزهري ومجاهد ومالك: هو الجماع.
وقال ابن عمر وطاووس وعطاء وغيرهم: الرفث: الإفحاش في الكلام قال أبو عبيدة: الرفث: اللغاء من الكلام.
وَلا فُسُوقَ وهو الخروج عن حدود الشرع.
وقيل: الذبح للأصنام.
(١) فتح القدير [١/ ٢٠٠].
57
وقيل: التنابذ بالألقاب.
وقيل: السباب.
والظاهر أنه لا يختص بمعصية متعينة وإنما خصصه من خصصه بما ذكر باعتبار أنه قد أطلق على ذلك الفرد اسم الفسوق كما قال سبحانه في الذبح للأصنام أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ [الأنعام: ١٤٥]، وفي التنابذ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ [الحجرات: ١١] وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم في السباب: «سباب المسلم فسوق» «١» ولا يخفى على عارف أن إطلاق اسم الفسوق على فرد من أفراد المعاصي لا يوجب اختصاصه به.
وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ مشتق من الجدل وهو القتل والمراد به هاهنا المماراة.
وقيل: السباب.
وقيل: الفخر بالآباء، والظاهر الأول.
ومعنى النفي لهذه الأمور النهي عنها وإيثار النفي للمبالغة وتخصيص نفي الثلاثة بالحج مع لزوم اجتنابها في كل الأزمان لكونها في الحج أفظع.
وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ حثّ على الخير بعد ذكر الشر، وعلى الطاعة بعد ذكر المعصية، وفيه أن كل ما يفعلونه من ذلك فهو معلوم عند الله لا يفوت منه شيء.
وَتَزَوَّدُوا فيه الأمر باتخاذ الزاد لأن بعض العرب كانوا يقولون: كيف نحجّ بيت ربنا ولا يطعمنا؟ فكانوا يحجون بلا زاد ويقولون: نحن متوكلون على الله سبحانه ثم يقدمون فيسألون الناس ويكونون كلا عليهم. أخرجه عبد بن حميد والبخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عباس.
وقيل: المعنى تزوّدوا لمعادكم من الأعمال الصالحة فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى والأول أرجح كما يدل على ذلك سبب النزول، وفيه إخبار بأن خير الزاد اتقاء المنهيات فكأنه قال: اتقوا الله في إتيان ما أمركم به من الخروج بالزاد فإن خير الزاد التقوى.
وقيل: المعنى: فإن خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة والحاجة إلى السؤال والتكفف.
(١) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح [١/ ١١٠] ح [٤٨] و [٦٠٤٤] و [٧٠٧٦] ومسلم في الصحيح [٦٤] و [١١٦] و [١١٧].
58
[الآيتان الخامسة والسادسة والعشرون] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩).
فيه الترخيص لمن حجّ في التجارة ونحوها من الأعمال التي يحصل بها شيء من الرزق، وهو المراد بالفضل هنا، ومنه قوله فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: ١٠] أي لا إثم عليكم في أن تبتغوا فضلا من ربكم مع سفركم لتأدية ما افترضه عليكم من الحج: نزل ردا لكراهتهم ذلك. والحق أن الإذن في هذه التجارة جار مجرى الرخص وتركها أولى.
فَإِذا أَفَضْتُمْ أي دفعتم يقال: فاض الإناء إذا امتلأ حتى ينصب من نواحيه، ورجل فيّاض أي مندفعة «١» يداه بالعطاء، ومعناه: أفضتم أنفسكم فترك ذكر المفعول، كما ترك في قولهم دفعوا من موضع كذا.
مِنْ عَرَفاتٍ اسم لتلك البقعة. أي موضع الوقوف.
واستدل بالآية على وجوب الوقوف بعرفة لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده.
فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ: المراد بذكر الله دعاؤه، ومنه التلبية والتكبير والدعاء عنده من شعائر الحج.
وقيل: المراد بالذكر صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة جمعا.
وقد أجمع أهل العلم على أن السنة أن يجمع الحاج بينهما فيها.
والمشعر: هو جبل قزح الذي يقف عليه الإمام، وقيل: هو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسّر.
(١) جاء في فتح القدير [١/ ٢٠١] [متدفقة].
59
وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ الكاف نعت مصدر محذوف، وما مصدرية أو كافة: أي اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة، وكرّر الأمر بالذكر تأكيدا، وقيل:
الأول أمر بالذكر عند المشعر الحرام، والثاني: أمر بالذكر على حكم الإخلاص، وقيل:
المراد بالثاني تعديد النعمة عليهم.
و «إن» في قوله وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ مخففة كما يفيده دخول اللام في الخبر، وقيل: هي بمعنى قد: أي قد كنتم، والضمير في قوله: مِنْ قَبْلِهِ عائد إلى الهدي، وقيل: إلى القرآن.
لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) : أي الجاهلين.
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩).
قيل: الخطاب للحمس من قريش لأنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات، بل كانوا يقفون بالمزدلفة، وهي من الحرم، فأمروا بذلك. وعلى هذا تكون ثم لعطف جملة على جملة لا للترتيب، وقيل: الخطاب لجميع الأمة.
والمراد بالناس إبراهيم: أي ثم أفيضوا من حيث أفاض إبراهيم عليه السلام.
فيحتمل أن يكون أمرا لهم بالإفاضة من عرفة ويحتمل أن يكون إفاضة أخرى وهي التي من المزدلفة، وعلى هذا يكون ثم على بابها أي للترتيب في الذكر لا في الزمان الواقعة فيه الأعمال، وقد رجح هذا الاحتمال الأخير ابن جرير الطبري «١» - وهو الذي يقتضيه ظاهر القرآن- وإنما أمروا بالاستغفار لأنهم في مساقط الرحمة، ومواطن القبول، ومظنات الإجابة.
وقيل: إن المعنى استغفروا للذي كان مخالفا لسنة إبراهيم. وهو وقوفكم بالمزدلفة دون عرفة.
قيل: فيه دليل على أنه يقبل التوبة من عباده التائبين ويغفر لهم.
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ أي أعمال الحج، ومنه قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «خذوا عني مناسككم» : أي فإذا فرغتم من أعمال الحج فاذكروا الله.
وقيل المراد بالمناسك الذبائح وإنما قال سبحانه كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ لأن
(١) تفسير الطبري [٢/ ٣٠٦]. [.....]
60
العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم يقفون عند الجمرة فيذكرون مفاخر آبائهم، ومناقب أسلافهم، فأمرهم الله بذكره مكان ذلك الذكر، وبأن يجعلوه ذكرا مثل ذكرهم لآبائهم أو أشد ذكرا: أي من ذكرهم لآبائهم، لأنه هو المنعم الحقيقي عليهم وعلى آبائهم.
[الآية السابعة والعشرون]
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣).
قال القرطبي: لا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيام منى وهي أيام التشريق وهي أيام رمي الجمار «١».
وقال الثعلبي: قال إبراهيم: الأيام المعدودات: أيام العشر، والأيام المعلومات:
أيام النحر، وكذا روي عن مكي.
قال القرطبي: ولا يصح لما ذكرناه من الإجماع على ما نقله أبو عمرو بن عبد البر وغيره «٢».
وروى الضحاك عن أبي يوسف أن الأيام المعلومات أيام النحر، قال: لقوله تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ [الحج: ٢٨] وحكى الكرخي عن محمد بن الحسن أن الأيام المعلومات أيام النحر الثلاثة: يوم الأضحى، ويومان بعده.
قال الطبري: فعلى قول أبي يوسف ومحمد لا فرق بين المعلومات والمعدودات لأن المعدودات المذكورة في القرآن أيام التشريق بلا خلاف.
وروي عن مالك أن الأيام المعدودات والأيام المعلومات يجمعها أربعة أيام: يوم النحر وثلاثة أيام بعده. فيوم النحر معلوم غير معدود، واليومان بعده معلومان معدودان، واليوم الرابع معدود لا معلوم وهو مرويّ عن ابن عمر.
(١) تفسير القرطبي [٣/ ١].
(٢) تفسير القرطبي [٣/ ١].
وقال ابن زيد: الأيام المعلومات، عشر: ذي الحجة وأيام التشريق والمخاطب بهذا الخطاب المذكور في الآية- أعني قوله وَاذْكُرُوا اللَّهَ- هو الحاجّ وغيره كما ذهب إليه الجمهور، وقيل: هو خاص بالحاج.
وقد اختلف أهل العلم في وقته: فقيل: من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق وقيل: من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر النحر، وبه قال أبو حنيفة وقيل: من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وبه قال مالك والشافعي.
فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ هما يوم ثاني النحر ويوم ثالثه.
فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ قال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد وقتادة والنخعي: من رمى في اليوم الثاني من الأيام المعدودات فلا حرج عليه ومن تأخر إلى الثالث فلا حرج عليه. فمعنى الآية كل ذلك مباح، وعبر عنه بهذا التقسيم اهتماما وتأكيدا لأن من العرب من كان يذم التعجيل ومنهم من كان يذم التأخير فنزلت الآية رافعة للجناح في كل ذلك.
وقال عليّ وابن مسعود: ومعنى الآية من تعجل فقد غفر له ومن تأخر فقد غفر له. والآية قد دلت على أن التعجل والتأخر مباحان.
وقوله: لِمَنِ اتَّقى: معناه أن التخيير ورفع الإثم ثابت لمن اتقى لأن صاحب التقوى يتحرز عن كل ما يريبه فكان أحق بتخصيصه بهذا الحكم.
قال الأخفش: التقدير ذلك لمن اتقى، وقيل: لمن اتقى بعد انصرافه عن الحج عن جميع المعاصي، وقيل: لمن اتقى قبل الصيد، وقيل: معناه السلامة لمن اتقى، وقيل: هو متعلق بالذكر: أي الذكر لمن اتقى في حجه لأنه الحاج في الحقيقة.
[الآية الثامنة والعشرون]
يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥).
السائلون هنا: هم المؤمنون سألوا عن الشيء الذي ينفقونه ما هو؟ أي ما قدره وما
62
جنسه؟ فأجيبوا ببيان المصرف الذي يصرفون فيه تنبيها على أنه الأولى بالقصد، لأن الشيء لا يعتد به إلا إذا وضع في موضعه وصادق مصرفه وقيل: إنه قد تضمن قوله قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ بيان ما ينفقونه وهو كل خير، وقيل: إنهم سألوا عن وجوه البرّ التي ينفقون فيها وهو خلاف الظاهر.
فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ لكون دفع المال إليهم صدقة وصلة إذا كانوا فقراء، وهكذا اليتامى الفقراء أولى بالصدقة من الفقراء الذين ليسوا بيتامى لعدم قدرتهم على الكسب.
والمسكين: الساكن إلى ما في أيدي الناس لكونه لا يجد شيئا.
وابن السبيل: المسافر المنقطع وجعل ابنا للسبيل لملازمته له.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السّدي قال: يوم نزلت هذه الآية لم تكن زكاة وهي النفقة ينفقها الرجل على أهله والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة «١».
وقال الحسن: إنها محكمة.
وقال ابن زيد: هذا في التطوع وهو ظاهر الآية: فمن أحب التقرب إلى الله تعالى بالإنفاق فالأولى أن ينفق في الوجوه المذكورة.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال: سأل المؤمنون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أين يضعون أموالهم؟ فنزلت، فذلك النفقة في التطوّع والزكاة سوى ذلك كله «٢».
وأخرج ابن المنذر أن عمرو بن الجموح سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها؟ فنزلت.
[الآية التاسعة والعشرون] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦).
(١) أخرجه ابن جرير في التفسير [٢/ ٣٥٦] ح [٤٠٧١].
(٢) أخرجه الطبري في التفسير [٢/ ٣٥٦] ح [٤٠٧٢]. وابن المنذر كما في الدر المنثور [١/ ٥٨٥] وهو مرسل.
63
أي فرض القتال عليهم من جملة ما امتحنوا به والمراد [بالقتال] «١» قتال الكفار، ويستدل بالآية على افتراضه وهو الأولى.
وقيل: الجهاد تطوع والمراد منها الصحابة فقط، وبه قال الثوري والأوزاعي.
والجمهور على أنه فرض على الكفاية.
وقيل: فرض عين إن دخلوا بلادنا وفرض كفاية إن كانوا في بلادهم.
والكره بالضم: المشقة وبالفتح ما أكرهت عليه. ويجوز الضم في معنى الفتح فيكونان لغتين.
وإنما كان الجهاد كرها لأن فيه إخراج المال، ومفارقة الأهل والوطن والتعرض لذهاب النفس، وفي التعبير بالمصدر- وهو كره- مبالغة، ويحتمل أن يكون بمعنى المكروه كما في قولهم: الدرهم ضرب الأمير.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن شهاب في الآية قال: الجهاد مكتوب على كل أحد غزا أو قعد فالقاعد إن استعين به أعان وإن استغيث به أغاث وإن استنفر نفر، وإن استغني عنه قعد.
وقد ورد في وجوب الجهاد وفضله أحاديث كثيرة لا يتسع المقام لبسطها.
[الآية الثلاثون] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧).
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ بدل اشتمال، قاله سيبويه ووجهه أن السؤال عن الشهر لم يكن إلا باعتبار ما وقع فيه من القتال.
(١) ما بين المعكوفين من فتح القدير [١/ ٢١٦].
64
قال الزجاج: المعنى يسألونك عن القتال في الشهر الحرام.
قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ: أي أمر مستنكر.
والشهر الحرام المراد به الجنس، وقد كانت العرب لا تسفك فيه دما ولا تغير على عدوّ، والأشهر الحرم هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب: ثلاثة أشهر سرد وواحد فرد.
وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ أي أعظم إثما وأشد ذنبا من القتال في الشهر الحرام، كذا قال المبرد وغيره.
ومعنى الآية- على ما ذهب إليه الجمهور- أنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام وما تفعلون أنتم من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ومن الكفر بالله ومن الصدّ عن المسجد الحرام، ومن إخراج أهل الحرم منه أكبر جرما عند الله!! والسبب يشهد لهذا المعنى، ويفيد أنه «١» المراد فإن السؤال منهم المذكور في هذه الآية سؤال إنكار لما وقع من السرية التي بعثها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ المراد بالفتنة هنا الكفر أي كفركم أكبر من القتل الواقع من السرية التي بعثها النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وقيل: المراد بالفتنة الإخراج لأهل الحرم منه، وقيل: المراد بالفتنة هنا فتنتهم عن دينهم حتى يهلكوا: أي فتنة المستضعفين من المؤمنين، أو نفس الفتنة التي الكفار عليها. وهذا أرجح من الوجهين الأوّلين لأن الكفر والإخراج سبق ذكرهما وإنهما- مع الصدّ- أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام.
ثم قيل: إن الآية محكمة ولا يجوز الغزو في الشهر الحرام إلا بطريق الدفع.
وعن ابن عباس وسفيان الثوري أنها منسوخة بآية السيف وبه قال الجمهور رحمهم الله تعالى.
(١) جاء في المطبوع [أن] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/ ٢١٨].
65
ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲ ﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ ﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟ ﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ

[الآية الحادية والثلاثون]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩).
السائلون هم المؤمنون.
والخمر: ماء العنب الذي غلى واشتد وقذف بالزبد، وما خامر العقل من غيره فهو في حكمه، كما ذهب إليه الجمهور.
وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة: ما أسكر كثيرة من غير خمر العنب فهو حلال: أي ما دون المسكر منه.
وذهب أبو حنيفة إلى حل ما ذهب ثلثاه بالطبخ، والخلاف في ذلك مشهور.
وقد أطلت الكلام على الخمر في شرحي ل «بلوغ المرام» وأطال الكلام فيه أيضا الشوكاني في «شرحه للمنتقى» «١» وكذا السيد العلامة محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير في «سبل السلام» «٢».
والمراد بالميسر في الآية: قمار العرب بالأزلام.
قال جماعة من السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: كل شيء فيه قمار أو نرد أو شطرنج أو غيرهما فهو الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق.
وقال مالك: الميسر ميسران: [ميسر] «٣» اللهو، وميسر القمار. فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار: ما يتخاطر الناس عليه وكل ما قومر به فهو ميسر.
قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ: يعني في الخمر والميسر. فإثم الخمر: أي إثم تعاطيها
(١) نيل الأوطار شرح منتقى الاخبار [٩/ ٥٢- ٧٩].
(٢) سبل السلام [٤/ ٦٥- ٧١].
(٣) ما بين المعكوفين من فتح القدير [١/ ٢٢٠].
66
ينشأ من فساد عقل مستعملها فيصدر عنه ما يصدر عن فساد العقل من المخاصمة والمشاتمة، وقول الفحش والزور وتعطيل الصلوات، وسائر ما يجب عليه، وأما إثم الميسر: أي إثم تعاطيه فما ينشأ عن ذلك من الفقر وذهاب المال في غير طائل والعداوة وإيحاش الصدور.
وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ: أما منافع الخمر فربح التجارة فيها، وقيل: ما يصدر عنها من الطرب والنشاط وقوة القلب وثبات الجنان وإصلاح المعدة وقوّة الباه وقد أشار شعراء العرب إلى شيء من ذلك وكذا شعراء الفرس بما لا يتسع المقام لبسطه.
ومنافع الميسر: مصير الشيء إلى الإنسان بغير تعب ولا كد وما يحصل من السرور والأريحية عند أن يصير له منها سهم صالح. وسهام الميسر أحد عشر ذكرها في «فتح القدير» «١».
وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما أخبر سبحانه بأن الخمر والميسر إن كان فيهما نفع فالإثم الذي يلحق متعاطيها أكثر من هذا النفع لأنه لا خير يساوي فساد العقل الحاصل بالخمر، فإنه ينشأ عنه من الشرور ما لا يأتي عليه الحصر، وقد ذكر شطرا منها الحافظ ابن القيم في كتابه «حادي الأرواح» وذكرته في كتابي الملخص منه المسمى ب «مثير ساكن الغرام إلى روضات دار السلام».
وكذلك لا خير في الميسر يساوي ما فيه من المخاطرة بالمال والتعرض للفقر واستجلاب العداوة المفضية إلى سفك الدماء وهتك الحرم.
وقرأ حمزة والكسائي بالمثلثة والباقون بالباء الموحدة وأبيّ أقرب.
وقد أخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود والترمذي- وصححه- والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم- وصححه- وأيضا في «المختارة» عن عمر أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فإنها تذهب بالمال والعقل فنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ يعني هذه الآية فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت التي في سورة النساء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: ٤٣] فكان ينادي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، إذا قام إلى الصلاة، أن لا يقربن الصلاة سكران فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في
(١) فتح القدير [١/ ٢٢١].
67
الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في المائدة «١»، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال عمر: انتهينا انتهينا! «٢».
وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ العفو: ما سهل وتيسر ولم يشق على القلب.
والمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تجهدوا فيه أنفسكم وقيل: هو ما فضل عن نفقة العيال، وقال جمهور العلماء: هو نفقات التطوع، وقيل: إن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة المفروضة، وقيل: هي محكمة. وفي المال حق سوى الزكاة أيضا.
[الآية الثانية والثلاثون] فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠).
هذه الآية نزلت بعد نزول قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
[الأنعام: ١٥٢] وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النساء: ١٠] وقد ضاق على الأولياء الأمر فنزلت هذه الآية: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة: ٢٢٠].
المراد بالإصلاح هنا مخالطتهم على وجه الإصلاح لأموالهم، فإن ذلك أصح من مجانبتهم.
وفي ذلك دليل على جواز التصرف في أموال الأيتام من الأولياء والأوصياء بالبيع والمضاربة والإجارة ونحو ذلك.
وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ اختلف في تفسير المخالطة: فقال أبو عبيدة مخالطة اليتامى: أن يكون لأحدهم المال ويشق على كافله أن يفرد طعامه عنه ولا يجد بدا من خلطه بعياله، فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحري فيجعله مع نفقة أهله، وهذا قد تقع فيه الزيادة والنقصان فدلت الآية على الرخصة وهي ناسخة لما قبلها.
(١) المائدة [٩١].
(٢) [صحيح] أخرجه أحمد في المسند [١/ ٥٣] وأبو داود في السنن [٣/ ٣٢٢] ح [٣٦٧٠] والترمذي في الجامع [٥/ ٢٣٦] ح [٣٠٤٩] والنسائي في السنن [٨/ ٢٨٦- ٢٨٧] والحاكم في المستدرك [٤/ ١٤٣] وابن أبي شيبة في المصنف [٥/ ٦٩] ح [٢٣٧٧٢] نحوه.
68
وقيل: المراد بالمخالطة المعاشرة للأيتام، وقيل: المراد بها المصاهرة لهم.
والأولى عدم قصر المخالطة على نوع خاص بل يشمل كل مخالطة كما يستفاد من الجملة الشرطية.
وقوله فَإِخْوانُكُمْ خبر لمبتدأ محذوف: أي فهم إخوانكم في الدين.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ لأموالهم بمخالطته مِنَ الْمُصْلِحِ لها: تحذير للأولياء، أي لا يخفى على الله من ذلك شيء فهو يجازي كل أحد بعمله من أصلح فلنفسه ومن أفسد فعلى نفسه ففيه وعد ووعيد إلا أن في تقديم المفسد مزيد تهديد وتوكيد للوعيد.
[الآية الثالثة والثلاثون] وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١).
في هذه الآية النهي عن نكاح المشركات وتزوجهن: قيل: المراد بالمشركات الوثنيات.
وقيل: إنها تعم الكتابيات لأن أهل الكتاب مشركون، وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: ٣٠] وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية.
فقالت طائفة: إن الله حرم نكاح المشركات فيها والكتابيات من الجملة، ثم جاءت آية المائدة فخصصت الكتابيات من هذا العموم، وهذا محكي عن ابن عباس ومالك وسفيان بن سعيد وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي.
وذهبت طائفة إلى أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة، وأنه يحرم نكاح الكتابيات والمشركات- وهذا أحد قولي الشافعي- وبه قال جماعة من أهل العلم.
ويجاب عن قولهم إن هذه الآية ناسخة لآية المائدة بأن سورة البقرة من أوّل ما نزل وسورة المائدة من آخر ما نزل والقول الأوّل هو الراجح.
69
وقد قال به- مع من تقدم-: عثمان بن عفان وطلحة وجابر وحذيفة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن وطاووس وعكرمة والشعبي والضحاك، كما حكاه النحاس والقرطبي، وقد حكاه ابن المنذر عن المذكورين، وزاد عمر بن الخطاب وقال:
لم يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك، وقال بعض أهل العلم: إن لفظ المشرك لا يتناول أهل الكتاب لقوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: ١٠٥]. وقال: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة: ١].
وعلى فرض أن لفظ المشركين يعمّ فهذا العموم مخصوص بآية المائدة كما قدمنا.
وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ أي ولرقيقة مؤمنة.
وقيل المراد بالأمة: الحرة لأن الناس كلهم عبيد الله وإماؤه. والأول أولى لما سيأتي ولأنه الظاهر من اللفظ ولأنه أبلغ، فإن تفضيل الأمة الرقيقة المؤمنة على الحرّة المشركة يستفاد منه تفضيل الحرّة المؤمنة على الحرّة المشركة بالأولى.
أخرج الواحدي وابن عساكر من طريق السّدّي عن أبي مالك عن ابن عباس قال:
نزلت في عبد الله بن رواحة وكانت له أمة سوداء. الحديث.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: بلغنا أنها كانت أمة لحذيفة سوداء فأعتقها وتزوجها حذيفة.
وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ أي المشركة: من كونها ذات جمال ومال وشرف. وهذه الجملة حالية.
وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ أي لا تزوجوهم بالمؤمنات حتى يؤمنوا.
قال القرطبي:
وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام. وأجمع القراء على ضم التاء من تنكحوا. وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ الكلام فيه كالكلام في قوله: ولأمة، والترجيح كالترجيح.
70
[الآية الرابعة والثلاثون] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢).
هو الحيض، وهو مصدر. وقيل: الاسم.
وقيل: المحيض: عبارة عن الزمان والمكان وهو مجاز فيهما. وأصل هذه الكلمة من السيلان والانفجار يقال: حاض السيل وفاض ومنه الحوض لأن الماء يحوض إليه أي يسيل.
قُلْ هُوَ أَذىً أي شيء يتأذى به أي برائحته. والأذى هو كناية عن القذر ويطلق على القول المكروه، ومنه قوله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [البقرة: ٢٦٤]. ومنه قوله تعالى: وَدَعْ أَذاهُمْ [الأحزاب: ٤٨].
فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ أي فاجتنبوهنّ في زمان الحيض، إن حمل الحيض على المصدر، أو في محل الحيض إن حمل على الاسم.
والمراد من هذا الاعتزال ترك المجامعة لا ترك المجالسة أو الملامسة فإن ذلك جائز، بل يجوز الاستمتاع منها بما عدا الفرج أو بما دون الإزار على خلاف في ذلك.
وأما ما يروى عن ابن عباس وعبيدة السلماني أنه يجب على الرجل أن يعتزل فراش زوجته إذا حاضت فليس ذلك شيئا.
ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم وطء الحائض وهو معلوم من ضرورة الدين.
وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ والطهر: انقطاع الحيض، والتطهر: الاغتسال.
وبسبب اختلاف القراء اختلف أهل العلم فذهب الجمهور إلى أن الحائض لا يحل وطؤها لزوجها حتى تتطهر بالماء.
وقال محمد بن كعب القرضي ويحيى بن بكير: إذا طهرت الحائض وتيممت حيث لا ماء حلت لزوجها وإن لم تغتسل.
71
وقال مجاهد وعكرمة: إن انقطع الدم يحلها لزوجها ولكن تتوضأ.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل، وإن كان انقطاعه قبل العشر لم يجز حتى تغتسل أو يدخل عليها وقت صلاة. وقد رجح ابن جرير الطبري قراءة التشديد «١».
قال الشوكاني في «فتح القدير» «٢» والأولى أن يقال إن الله سبحانه جعل للحلّ غايتين- كما تقتضيه القراءتان- إحداهما انقطاع الدم، والأخرى التطهر منه، والغاية الأخرى مشتملة على زيادة على الغاية الأولى، فيجب المصير إليها.
وقد دلّ على أن الغاية الأخرى هي المعتبرة قوله تعالى بعد ذلك فَإِذا تَطَهَّرْنَ فإن ذلك يفيد أن المعتبر التطهر لا مجرد انقطاع الدم. وقد تقرر أن القراءتين بمنزلة الآيتين فكما أنه يجب الجمع بين الآيتين المشتملة إحداهما على زيادة العمل بتلك الزيادة، كذلك يجب الجمع بين القراءتين. انتهى.
فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أي فجامعوهن. وكنى عنه بالإتيان والمراد أنهم يجامعون في المأتي الذي أباحه الله وهو القبل. قيل: مِنْ حَيْثُ بمعنى في حيث كما في قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة: ٩]. وقوله: ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ [فاطر: ٤٠] أي في الأرض وقيل: إن المعنى من الوجه الذي أذن الله لكم فيه: أي من غير صوم وإحرام واعتكاف. وقيل: إن المعنى من قبل الطهر لا من قبل الحيض، وقيل: من قبل الإحلال لا من قبل الزنا.
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) قيل: المراد التوابون عن الذنوب، والمتطهرون من الجنابة والأحداث، وقيل: التوابون من إتيانهن في الحيض والأول أظهر.
[الآية الخامسة والثلاثون] نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣).
(١) تفسير ابن جرير الطبري [٢/ ٣٩٩].
(٢) فتح القدير [١/ ٢٢٦]. [.....]
72
لفظ الحرث يفيد أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج الذي هو القبل خاصة إذ هو مزرع الذرية كما أن الحرث من زرع النبات، فقد شبه ما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بما يلقى في الأرض من البذور التي منها النبت بجامع أن كل واحد منهما مادة لما يحصل منه. وهذه الجملة بيان للجملة الأولى أعني قوله فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ وقوله أَنَّى شِئْتُمْ أي من أي جهة شئتم: من خلف وقدام وباركة ومستلقية ومضطجعة إذا كان في موضع الحرث وأنشد: -
إنما الأرحام أرضو... ن لنا محترثات
فعلينا الزرع فيها... وعلى الله النبات
وإنما عبر سبحانه: أَنَّى لكونها أعم في اللغة من أين وكيف ومتى. وأما سيبويه ففسرها هنا بكيف، وقد ذهب السلف والخلف من الصحابة والتابعين والأئمة إلى ما ذكرنا من تفسير الآية إلى أن إتيان الزوجة في دبرها حرام.
وروي عن سعيد بن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبد الملك بن الماجشون أنه يجوز ذلك، حكاه القرطبي في «تفسيره» «١»، قال: وحكي ذلك عن مالك في كتاب له يسمى «كتاب السر» وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب ومالك أجلّ من أن يكون له كتاب سرّ! ووقع هذا القول في «العتبية».
وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند جواز ذلك إلى زمرة كبيرة «٢» من الصحابة والتابعين وإلى مالك من روايات كثيرة في كتاب «جماع النسوان وأحكام القرآن» «٣» وقال الطحاوي: روى أصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن القاسم قال: ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال يعني وطء المرأة في دبرها ثم قرأ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ثم قال: فأي شيء أبين من هذا؟
وقد روى الحاكم والدارقطني والخطيب البغدادي عن مالك من طرق ما يقتضي إباحة ذلك. وفي أسانيدها ضعف.
وقد روى الطحاوي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنه سمع الشافعي يقول:
(١) تفسير القرطبي [٣/ ٩٣].
(٢) جاء في المطبوع [كثيرة] والتصحيح من فتح القدير [١/ ٢٢٧].
(٣) القرطبي [٣/ ٩٣].
73
ما صح عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في تحليله ولا تحريمه شيء والقياس أنه حلال.
وقد روى ذلك أبو بكر الخطيب. قال ابن الصباغ: كان الربيع يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد كذب ابن عبد الحكم على الشافعي في ذلك!! فإن الشافعي نص على تحريمه في ستة من كتبه. وقد بسطنا الكلام في هذه المسألة في شرحنا لبلوغ المرام فليرجع إليه. والحق هو التحريم.
وقد أخرج الشافعي في «الأم» وابن أبي شيبة وأحمد والنسائي وابن ماجة وابن المنذر والبيهقي في «سننه» من طريق خزيمة بن ثابت أن سائلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن إتيان النساء في أدبارهن؟ فقال: حلال ولا بأس فلما ولّى دعاه فقال: كيف قلت؟ أمن دبرها في قبلها فنعم أم من دبرها في دبرها فلا إن الله لا يستحي من الحق. «لا تأتوا النساء في أدبارهن» «١».
وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا ينظر الله إلى رجل أتى امرأته في الدبر» «٢» أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان.
وعن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى» «٣» أخرجه أحمد والبيهقي في «سننه».
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ملعون من أتى امرأته في دبرها» «٤» أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي.
(١) [حسن] أخرجه الشافعي في الأم [٥/ ١٨٦] من طريقه البيهقي في السنن الكبرى [٧/ ١٩٦] والنسائي في «عشرة النساء» ح [١٠٦] والطبراني في الكبير [٤/ ١٠٥] ح [٣٧٤٤] والطحاوي في شرح المعاني [٣/ ٤٣- ٤٤] والحميدي في المسند ح [٤٣٦] وأحمد في المسند [٥/ ٢١٣].
(٢) حسن: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه [٣/ ٥٢٩]- ح [١٦٨٠٣]، وأبو يعلى في مسنده [٤/ ٢٦٦]- ح [٢٣٧٨]، وابن حبان في صحيحه [٥١٧١٩]- ح [٤٢٠٣- ٤٢٠٤]، والترمذي [٣/ ٤٦٩]- ح [١١٦٥].
(٣) إسناده ضعيف: أخرجه الإمام أحمد في مسنده [٢/ ١٨٢، ٢١٠]، والبيهقي في الكبرى [٧/ ١٩٨]، والطحاوي في شرح معاني الآثار [٣/ ٤٤]، وفيه زائدة بن أبي الرقاد الصيرفي قال عنه النسائي، مجهول.
(٤) إسناده حسن، أخرجه أبو داود [٢/ ٢٥٥- ٢٥٦]- ح [٢١٦٢]، والنسائي في عشرة النساء [١٢٩]، والإمام أحمد في مسنده [٢/ ٤٤٤، ٤٧٩] وفيه: الحارث بن مخلد: ليس بمشهور، وقال عنه ابن القطان: مجهول الحال، وذكره ابن حبان في الثقات [٤/ ١٣٣].
74
وقد ورد النهي عن ذلك من طرق كثيرة. وقد ثبت نحو ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين مرفوعا وموقوفا. وقد روي القول بحل ذلك عن جماعة كما سلف.
قال الشوكاني في «فتح القدير» «١» : وليس في أقوال هؤلاء حجة البتة: ولا يجوز لأحد أن يعمل على أقوالهم، فإنهم لم يأتوا بدليل يدلّ على الجواز فمن زعم منهم أنه فهم ذلك من الآية فقد أخطأ في فهمه وقد فسرها لنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأكابر الصحابة بخلاف ما قاله هذا المخطئ في فهمه كائنا من كان. ومن زعم منهم أن سبب نزول هذه الآية أن رجلا أتى امرأته في دبرها فليس هذا ما يدل على أن الآية أحلت ذلك ومن زعم ذلك فقد أخطأ بل الذي تدل عليه الآية أن ذلك حرام فيكون ذلك هو السبب لا يستلزم أن تكون الآية نازلة في تحليله فإن الآيات النازلة على أسباب تأتي تارة بتحليل هذا وتارة بتحريمه.
وقد روي عن ابن عباس أنه فسر هذه الآية فقال: معناها إن شئتم فاعزلوا وإن شئتم فلا تعزلوا «٢».
روى ذلك عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والضياء في «المختارة» وروي نحو ذلك عن ابن عمر أخرجه ابن أبي شيبة، وعن سعيد بن المسيب أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير. انتهى.
[الآية السادسة والثلاثون] وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤).
العرضة: النصبة. قاله الجوهري.
وقيل: من الشدة والقوّة، ومنه قولهم للمرأة: عرضة للنكاح: إذا صلحت له وقويت عليه، ولفلان عرضة: أي قوة.
ويطلق على الهمة، ويقال: فلان عرضة للناس لا يزالون يقعون فيه.
فعلى المعنى الأول يكون اسما لما تعرضه دون الشيء: أي لا تجعلوا الله حاجزا
(١) [١/ ٢٢٩].
(٢) أخرجه ابن جرير في التفسير [٢/ ٤٠٨] ح [٤٣٣٩].
75
ومانعا لما حلفتم عليه، وذلك لأن الرجل كان يحلف على بعض الخير من صلة رحم أو إحسان إلى الغير أو إصلاح بين الناس بأن لا يفعل ذلك، ثم يمتنع من فعله معللا لذلك الامتناع بأنه قد حلف أن لا يفعله. وهذا المعنى هو الذي ذكره الجمهور في تفسير الآية فنهاهم الله أن يجعلوه عرضة لأيمانهم أي حاجزا لما حلفوا عليه ومانعا منه وسمي المحلوف عليه يمينا لتلبسه باليمين.
وعلى هذا يكون قوله: أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ عطف بيان لأيمانكم: أي لا تجعلوا الله مانعا منه للأيمان التي هي بركم وتقواكم فإصلاحكم بين الناس: ويتعلق قوله: لِأَيْمانِكُمْ بقوله وَلا تَجْعَلُوا، [أي: لا تجعلوا الله لأيمانكم مانعا وحاجزا] «١»، ويجوز أن يتعلق بعرضة أي «٢» : لا تجعلوه سببا متعرضا بينكم وبين البرّ وما بعده.
وعلى المعنى الثاني، وهو أن العرضة: الشدة والقوة يكون معنى الآية: لا تجعلوا اليمين بالله قوة لأنفسكم وعدّة في الامتناع من الخير.
ولا يصلح «٣» تفسير الآية على المعنى الثالث وهو الهمة.
وأما على المعنى الرابع وهو فلان لا يزال عرضة للناس فيكون معنى الآية لا تجعلوا الله معرضا لأيمانكم فتبتذلونه بكثرة الحلف به. ومنه وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ [المائدة: ٨٩] وقد ذمّ الله المكثرين للحلف فقال: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (١٠) [القلم: ١٠]. وقد كانت العرب تتمادح بقلة الأيمان.
وعلى هذا فيكون قوله: أَنْ تَبَرُّوا علة للنهي أي لا تجعلوا الله معرضا لأيمانكم إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا لأن من يكثر الحلف بالله يجترىء على الحنث ويفجر في يمينه.
وقد قيل في تفسير الآية أقوال هي راجعة إلى هذه الوجوه التي ذكرناها وهي مذكورة في «فتح القدير» «٤» وغيره.
(١) ما بين المعكوفين من فتح القدير [١/ ٢٣٠].
(٢) جاء في المطبوع [إلى] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/ ٢٣٠].
(٣) جاء في فتح القدير [١/ ٢٣٠] [يصح].
(٤) فتح القدير [١/ ٢٣٠- ٢٣٢].
76
[الآية السابعة والثلاثون] لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥).
اللّغو: مصدر لغا يلغو لغوا، ولغى يلغو لغيا: إذا أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام أو بما لا خير فيه، وهو الساقط الذي لا يعتدّ به. فاللغو من اليمين هو الساقط الذي لا يعتدّ به فمعنى الآية لا يعاقبكم الله بالساقط من أيمانكم ولكن يعاقبكم بما كسبت قلوبكم: أي اقترفته بالقصد إليه وهي اليمين المعقودة، مثله قوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [المائدة: ٨٩]. ومثله قول الشاعر:
ولست بمأخوذ بلغو تقوله إذا لم تعمد عاقدات العزائم
وقد اختلف أهل العلم في تفسير اللغو: فذهب ابن عباس وعائشة وجمهور العلماء إلى أنها قول الرجل: لا والله وبلى والله في حديثه وكلامه غير معتقد لليمين ولا مريدا لها.
قال المروزي: هذا معنى لغو اليمين الذي اتفق عليه عامة العلماء.
وقال أبو هريرة وجماعة من السلف: هو أن يحلف الرجل على الشيء لا يظن إلا أنه أتاه فإذا ليس هو ما ظنه. وإلى هذا ذهبت الحنفية وبه قال مالك في «الموطأ».
وروي عن ابن عباس أنه قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان. وبه قال طاووس ومكحول، وروي عن مالك.
وقيل: إن اللغو [هو] «١» يمين المعصية. قال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن وعبد الله بن الزبير وأخوه عروة: كالذي يقسم ليشر بن الخمر أو ليقطعن الرحم.
وقيل: لغو اليمين هو دعاء الرجل على نفسه كأن يقول: أعمى الله بصره أذهب الله ماله هو يهودي، هو مشرك. قاله زيد بن أسلم.
وقال مجاهد: لغو اليمين أن يتبايع الرجلان فيقول أحدهما والله لأبيعك بكذا ويقول الآخر والله لأشتريه بكذا.
(١) ما بين المعكوفين من فتح القدير [١/ ٢٣١]. [.....]
77
وقال الضحاك لغو اليمين هي المكفرة: أي إذا كفرت سقطت وصارت لغوا، والراجح القول الأول لمطابقته للمعنى اللغوي ولدلالته على الأدلة.
[الآيتان الثامنة والتاسعة والثلاثون] لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧).
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ أي يحلفون. وقد اختلف أهل العلم في الإيلاء فقال الجمهور: الإيلاء هو أن يحلف أن لا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر، فإن حلف على أربعة أشهر فما دونها لم يكن موليا، وكانت عندهم يمينا [محضا] «١». وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور.
وقال الثوري والكوفيون: الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدا، وهو قول عطاء.
وروي عن ابن عباس أنه لا يكون موليا حتى يحلف أن لا يمسها أبدا.
وقالت طائفة: إذا حلف أن لا يقرب امرأته يوما أو أقل أو أكثر ثم لم يطأ أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء، وبه قال ابن مسعود والنخعي «٢» وابن أبي ليلى والحاكم وحماد بن أبي سليمان وقتادة وإسحاق. قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم.
وقوله مِنْ نِسائِهِمْ يشمل الحرائر والإماء إذا كنّ زوجات، وكذلك يدخل تحت قوله لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ العبد إذا حلف من زوجته. وبه قال أحمد والشافعي وأبو ثور.
قالوا: وإيلاؤه كالحر.
وقال مالك والزهري وعطاء وأبو حنيفة وإسحاق: إن أجله شهران، وقال الشعبي: إيلاء الأمة نصف إيلاء الحرة.
تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. التربص: التأني والتأخر قال الشاعر:
(١) جاء في المطبوع [خطأ] والتصحيح من فتح القدير [١/ ٢٣٢].
(٢) جاء في المطبوع [النسائي] والتصحيح من فتح القدير [١/ ٢٣٢].
78
تربص بها ريب المنون لعلّها تطلّق يوما أو يموت حليلها «١»
وقت الله سبحانه بهذه المدة دفعا للضرار عن الزوجة، وقد كان أهل الجاهلية يؤلون السنة والسنتين وأكثر من ذلك يقصدون بذلك ضرار النساء، وقد قيل: إن الأربعة الأشهر هي التي لا تطيق المرأة الصبر عن زوجها زيادة عليها.
فَإِنْ فاؤُ أي رجعوا، ومنه حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات: ٩] أي ترجع.
ومنه قيل للظل بعد الزوال: فيء لأنه رجع عن جانب المشرق إلى المغرب.
قال ابن المنذر: وأجمع كل من يحفظ عنه العلم أن الفيء الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذر مرض أو سجن فهي امرأته، فإذا زال العذر فأبى الوطء فرّق بينهما إن كانت المدة قد انقضت. قاله مالك.
وقالت طائفة: إذا شهد على فيئه بقلبه في حال العذر أجزأه. وبه قال الحسن وعكرمة والنخعي والأوزاعي وأحمد بن حنبل.
وقد أوجب الجمهور على المولي إذا فاء بجماع امرأته الكفارة، وقال الحسن والنخعي لا كفارة عليه.
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للزوج إذا تاب من إضراره امرأته. رَحِيمٌ (٢٢٦) بكل التائبين.
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ العزم: العقد على الشيء فمعنى عزموا الطلاق عقدوا عليه قلوبهم.
والطلاق: حلّ عقد النكاح، وفي ذلك دليل على أنها لا تطلق بمضيّ أربعة أشهر- كما قال مالك- ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة، وأيضا فإنه قال فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧) والسماع يقتضي مسموعا بعد المضيّ. وقال أبو حنيفة سميع لإيلائه عليم بعزمه الذي دل مضيّ أربعة أشهر.
قال الشوكاني في «فتح القدير» «٢» واعلم أن أهل كل مذهب قد فسروا هذه الآية بما يطابق مذهبهم وتكلفوا بما لم يدل عليه اللفظ، ولا دليل آخر ومعناها ظاهر واضح وهو أن الله جعل الأجل لمن يولي: أي يحلف من امرأته أربعة أشهر ثم قال مخبرا
(١) جاء في المطبوع (خليها) والمثبت من تفسير القرطبي [٣/ ١٠٨] وفتح القدير [١/ ٢٣٢].
(٢) فتح القدير [١/ ٢٣٣].
79
للعباد بحكم هذا المولي بعد هذه المدة فَإِنْ فاؤُ أي رجعوا إلى بقاء الزوجية واستدامة النكاح فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) أي لا يؤاخذهم بتلك اليمين بل يغفر لهم ويرحمهم، وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ العزم منهم عليه والقصد له فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لذلك منهم عَلِيمٌ (٢٢٧) به. فهذا معنى الآية لا شك فيه ولا شبهة.
فمن حلف أن لا يطأ امرأته ولم يقيد بمدّة أو قيد بزيادة على أربعة أشهر كان علينا إمهاله أربعة أشهر فإن مضت فهو بالخيار: إما رجع إلى نكاح امرأته وكانت زوجته بعد مضي المدة كما كانت زوجته قبلها أو طلقها وكان له حكم المطلق امرأته ابتداء. وأما إذا وقت بدون أربعة أشهر فإن أراد أن يبرّ في يمينه اعتزل امرأته التي حلف منها حتى تنقضي المدة كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين آلى من نسائه شهرا فإنه اعتزلهنّ حتى مضى الشهر، وإن أراد أن يطأ امرأته قبل مضي تلك المدّة التي هي دون أربعة أشهر حنث في يمينه ولزمته الكفارة، وكان ممتثلا لما صح عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم من قوله: «من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» «١».
وللسلف في الفيء أقوال مختلفة فينبغي الرجوع إلى الفيء لغة وقد بيناه.
وللصحابة والتابعين في هذا أقوال مختلفة متناقضة والمتعين الرجوع إلى ما في الآية الكريمة وهو ما عرفناك فاشدد عليه يديك.
وأخرج عبد الرزاق عن عمر قال: إيلاء العبد شهران.
وأخرج مالك عن ابن شهاب قال: إيلاء العبد نحو إيلاء الحر.
[الآية الأربعون] وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨).
وَالْمُطَلَّقاتُ يدخل تحت عمومه المطلقة قبل الدخول، ثم خصّص بقوله
(١) أخرجه مسلم في الصحيح ح [١٦٥٠].
80
فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الأحزاب: ٤٩] فوجب بقاء العام على الخاص وخرجت من هذا العموم المطلّقة قبل الدخول، وكذلك خرجت الحامل بقوله وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ [الطلاق: ٤] وكذلك خرجت الآيسة لقوله تعالى فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ [الطلاق: ٤] يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ [البقرة: ٢٢٨].
التربص: الانتظار وقيل: هو خبر في معنى الأمر: أي ليتربصن، قصد بإخراجه مخرج الخبر تأكيد وقوعه وزاده تأكيدا وقوعه خبرا للمبتدأ.
قال ابن العربي: وهذا باطل وإنما هو خبر عن حكم الشرع فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس ذلك من الشرع ولا يلزم من ذلك وقوع خبر الله سبحانه على خلاف مخبره.
ثَلاثَةَ قُرُوءٍ جمع قرء، قاله الجمهور، وقال الأصمعي: الواحد قرء بضم القاف وتشديد الواو، وقال أبو زيد بالفتح: وكلاهما قال: أقرأت «١» المرأة: حاضت، وأقرأت: طهرت. وقال الأخفش: أقرأت المرأة إذا صارت صاحبة حيض، فإذا حاضت قلت: قرأت بلا ألف.
وقال أبو عمرو بن العلاء: من العرب من يسمي الحيض قرءا ومنهم من يسمي الطهر قرءا ومنهم من يجمعها جميعا فيسمي الحيض مع الطهر قرءا.
وينبغي أن يعلم أن القرء في الأصل: الوقت يقال: هبت الرياح لقرئها: أي لوقتها. فيقال للحيض: قرء، وللطهر: قرء لأن كل واحد منهما له وقت معلوم، وقد أطلقته العرب تارة على الاطهار وتارة على الحيض.
فالحاصل أن القرء في لغة العرب مشتركة بين الحيض والطهر ولأجل هذا الاشتراك اختلف أهل العلم في تعيين ما هو المراد بالقروء المذكورة في الآية، فقال أهل الكوفة: هو الحيض «٢» وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسّدي وأحمد بن حنبل «٣». ورجحه السيد محمد الأمير في «سبل
(١) جاء في المطبوع [أقارأت] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/ ٢٣٤] وتفسير القرطبي [٣/ ١١٣].
(٢) انظر الهداية للمرغيناني [٢/ ٣٠٧].
(٣) في أظهر الروايتين. انظر المحرر [٢/ ١٠٤].
81
السلام» وذكرناه في «مسك الختام».
وقال أهل الحجاز: هي الأطهار «١» وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزهري وأبان بن عثمان والشافعي «٢».
قال الشوكاني في «فتح القدير» «٣» : واعلم أنه قد وقع الاتفاق بينهم على أن القرء الوقت فصار معنى الآية عند الجميع والمطلقات يتربص بأنفسهنّ ثلاثة أوقات فهي على هذا مفسرة في العدد مجملة في المعدود، فوجب طلب البيان للمعدود من غيرها: فأهل القول الأول استدلوا على أن المراد في هذه الآية الحيض بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «دعي الصلاة أيام أقرائك» «٤» وبقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان» «٥» وبأن المقصود من العدّة استبراء الرحم وهو يحصل بالحيض لا بالطهر.
واستدل أهل القول الثاني بقوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: ١] ولا خلاف أنه يؤمر بالطلاق وقت الطهر، وبقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعمر:
«مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فتلك العدة التي أمر الله بها النساء» «٦» وذلك لأن الطهر هو الذي تطلق فيه النساء.
قال أبو بكر بن عبد الرحمن: ما أدركنا أحدا من فقهائنا إلا يقول: الأقراء هي الأطهار، فإذا طلق الرجل في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ولو ساعة ولو لحظة ثم استقبلت طهرا ثانيا بعد حيضة فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة خرجت من العدة.
انتهى.
وعندي أنه لا حجة في بعض ما احتج به أهل القولين جميعا.
أما قول الأولين إن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «دعي الصلاة أيام أقرائك» فغاية ما في هذا أن
(١) انظر الكافي لابن عبد البر [٢/ ٦١٩].
(٢) انظر روضة الطالبين [٥/ ٣٦٦].
(٣) فتح القدير [١/ ٢٣٥].
(٤) [صحيح] رواه أبو داود في السنن [١/ ٧٨] ح [٢٩٧] والترمذي في السنن [١/ ٢٢٠] ح [١٢٦] وابن ماجه في السنن ح [٦٢٥] انظر نصب الراية [١/ ٢٠١- ٢٠٢].
(٥) [ضعيف] أخرجه أبو داود في السنن [٢/ ٢٦٤] ح [٢١٨٩] والترمذي في السنن [٣/ ٤٨٨] ح [١١٨٢] وابن ماجه في السنن ح [٢٠٨٠] والحاكم في المستدرك [٢/ ٢٠٥] وابن عدي في الكامل [٦/ ٤٥٠] والدارقطني في السنن [٤/ ٣٨] والبيهقي [٧/ ٣٦٩].
(٦) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح [٩/ ٣٤٥] ح [٥٢٥١] ومسلم في الصحيح ح [١٤٧١]. [.....]
82
النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أطلق الأقراء على الحيض ولا نزاع في جواز ذلك- كما هو شأن اللفظ المشترك بأنه يطلق تارة على هذا وتارة على هذا- وإنما النزاع في الأقراء المذكورة في هذه الآية، وأما قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الأمة «وعدتها حيضتان» فهو حديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة والدارقطني والحاكم- وصححه- من حديث عائشة- مرفوعا- وأخرجه ابن ماجة والبيهقي من حديث ابن عمر- مرفوعا- أيضا ودلالته على ما قاله الأولون قوية، وأما قولهم إن المقصود من العدّة استبراء الرحم وهو يحصل بالحيض لا بالطهر، فيجاب عنه بأنه يتم لو لم يكن في هذه العدّة شيء من الحيض على فرض تفسير الإقراء بالإطهار وليس كذلك بل هي مشتملة على الحيض كما هي مشتملة على الأطهار، وأما استدلال أهل القول الثاني بقوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: ١] فيجاب بأن التنازع في اللام في قوله لِعِدَّتِهِنَّ يصير ذلك محتملا، ولا تقوم الحجة بمحتمل. أما استدلالهم بقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعمر «مره فليراجعها» الحديث فهو الصحيح ودلالته قوية على ما ذهبوا إليه. ويمكن أن يقال إنها تنقضي بالعدّة بثلاثة أطهار وبثلاث حيض ولا مانع من ذلك فقد جوز جمع من أهل العلم حمل المشترك على معنييه، وبذلك يجمع بين الأدلة ويرتفع الخلاف ويندفع النزاع.
وقد استشكل الزمخشري تمييز الثلاثة بقوله قروء وهي جمع كثرة دون أقراء التي هي من جموع القلة وأجاب بأنهم يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في الجمعية.
وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قيل: المراد به الحيض، وقيل:
الحمل، وقيل: كلاهما.
ووجه النهي عن الكتمان ما فيه في بعض الأحوال من الإضرار بالزوج وإذهاب حقه فإذا قالت المرأة: حضت ولم تحض ذهبت بحقه من الارتجاع وإذا قالت هي:
لم تحض وهي قد حاضت ألزمته من النفقة ما لم يلزمه فأضرت به. وكذلك الحمل ربما تكتمه لتقطع حقه من الارتجاع وربما تدعيه لتوجب عليه النفقة ونحو ذلك من المقاصد المستلزمة للإضرار بالزوج.
وقد اختلفت الأقوال في المدّة التي تصدّق فيها المرأة إذا ادعت انقضاء عدّتها.
وفي الآية دليل على قبول قولهن في ذلك نفيا وإثباتا.
83
وقوله إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فيه وعيد شديد للكتمان، وبيان أن من كتمت ذلك منهنّ لم تستحق اسم الإيمان.
وَبُعُولَتُهُنَّ جمع بعل وهو الزوج سمي بعلا لعلوّه على الزوجة لأنهم يطلقونه على الرب. ومنه قوله تعالى أَتَدْعُونَ بَعْلًا [الصافات: ١٢٥] أي ربا، ويقال بعول وبعولة كما يقال في جمع الذكر: ذكور وذكورة، وهذه التاء لتأنيث الجمع وهو شاذ لا يقاس عليه بل يعتبر فيه السماع. والبعولة أيضا يكون مصدرا من بعل الرجل يبعل، مثل منع يمنع أي صار بعلا.
وقوله أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ أي برجعتهنّ والإتيان بصيغة التفضيل لإفادة أن الرجل إذا أراد الرجعة والمرأة تأباها وجب إيثار قوله على قولها وليس معناه أن لها حقا في الرجعة.
قاله أبو السعود، وذلك يختص بمن كان يجوز للزوج مراجعتها فيكون في حكم التخصيص لعموم قوله وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ لأنه يعم المثلثات وغيرهنّ في ذلك: يعني مدة التربص، فإذا انقضت مدّة التربص فهي أحق بنفسها، ولا تحلّ له إلا بنكاح مستأنف بوليّ وشهود ومهر جديد، ولا خلاف في ذلك. والرجعة تكون باللفظ وتكون بالوطء ولا يلزم المراجع شيء من أحكام النكاح بلا خلاف إن أرادوا إصلاحا أي بالمراجعة أي إصلاح حاله معها وحالها معه، فإن قصد الإضرار بها فهي محرّمة لقوله تعالى وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا قيل: إذا قصد بالرجعة الضرار فهي صحيحة، وإن ارتكب بذلك محرما وظلم نفسه، وعلى هذا فيكون الشرط المذكور في الآية للحث للأزواج على قصد الصلاح والزجر لهم عن قصد الضرار وليس المراد به جعل قصد الإصلاح شرطا لصحة الرجعة.
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ: أي لهنّ من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهنّ، فيحسن عشرتها بما هو معروف من عادة الناس أنهم يفعلونه لنسائهم، وهي كذلك تحسن عشرة زوجها بما هو معروف من عادة النساء أنهنّ يفعلنه لأزواجهنّ من طاعة وتزين وتحبب ونحو ذلك.
وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ: أي منزلة ليست لهنّ وهي قيامه عليه في الإنفاق، وكونه من أهل الجهاد والعقل والقوّة وله من الميراث أكثر مما لها وكونه يجب عليها امتثال أمره والوقوف عند رضاه ولو لم يكن من فضيلة الرجال على النساء إلا كونهنّ خلقهن
84
من الرجال لما ثبت أن حواء خلقت من ضلع آدم.
وقد أخرج أهل السنن عن عمرو بن الأحوص أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «ألا إن لكم على نسائكم حقا وإن لنسائكم عليكم حقا: أما حقكم على نسائكم فإن لا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذنّ في بيوتكم لمن تكرهون. ألا وحقهنّ عليكم أن تحسنوا إليهنّ في كسوتهنّ وطعامهنّ» «١» وصححه الترمذي.
وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة وابن جرير والحاكم- وصححه- والبيهقي عن معاوية بن حيدة القشيري أنه سأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما حق المرأة على الزوج؟
قال: أن تطعمها إذا أطعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تهجر إلا في البيت»
«٢».
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ قال: فضل ما فضله الله به عليها من الجهاد وفضل ميراثه على ميراثها وكل ما فضل به عليها.
[الآية الحادية والأربعون] الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩).
أي عدد الطلاق الذي يثبت فيه الرجعة، فالمراد بالطلاق هنا هو الرجعي بدليل ما تقدم في الآية الأولى هو مَرَّتانِ أي الطلقة الأولى والثانية ولا رجعة بعد الثالثة. وإنما قال سبحانه مرتان ولم يقل طلقتان إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الطلاق مرة بعد مرة، لا طلقتان دفعة واحدة، كذا قال جماعة من المفسرين، ولما لم يكن بعد الطلقة الثانية إلا
(١) [صحيح] أخرجه الترمذي في السنن [٣/ ٤٦٧] وابن ماجه في السنن ح [١٨٥١] والنسائي في عشرة النساء ح [٢٨٧].
(٢) [صحيح] أخرجه أحمد في المسند [٤/ ٤٧٦، ٤٤٧] [٥/ ٣] وأبو داود في السنن [٢/ ٢٥١] ح [٢١٤٢] وابن ماجه في السنن ح [١٨٥٠] والبغوي في شرح السنة [٩/ ١٦٠] ح [٢٣٣٠] والحاكم في المستدرك [٢/ ١٨٧- ١٨٨].
85
أحد أمرين: إما إيقاع الثالثة التي بها «١» تبين الزوجة أو الإمساك لها استدامة نكاحها، وعدم إيقاع الثالثة عليها.
قال سبحانه فَإِمْساكٌ بعد الرجعة لمن طلقها زوجها طلقتين بِمَعْرُوفٍ أي بما هو معروف عند الناس من حسن العشرة. أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أي بإيقاع طلقة ثالثة عليها من دون ضرار لها.
وقيل: المراد إمساك بمعروف أي: برجعة بعد الطلقة الثانية أو تسريح بإحسان أي: بترك الرجعة بعد الثانية حتى تنقضي عدتها، والأول أظهر.
وقد اختلف أهل العلم في إرسال الثلاث دفعة واحدة هل يقع ثلاثا أو واحدة فقط؟ فذهب إلى الأول الجمهور، وذهب إلى الثاني من عداهم وهو الحق.
قال الشوكاني في «فتح القدير» «٢» : وقد قررته في مؤلفاتي تقريرا بالغا وأفردته برسالة مستقلة انتهى.
قلت: وهو الذي اختاره شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني والشيخ الحافظ الإمام محمد بن أبي بكر بن القيم الجوزية الدمشقي وغيرهما جمع من الأئمة الأعلام قديما وحديثا.
وقد بسطت القول فيه في شرحي لبلوغ المرام بأبلغ تقرير وأفصح نظام.
وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً الخطاب للأزواج أي لا يحل لهم أن يأخذوا مما دفعوه إلى نسائهم من المهر شيئا على وجه المضارة لهن.
وتنكير «شيئا» للتحقير أي شيئا نزرا فضلا عن الكثير.
وخص ما دفعوه إليهن بعدم حل الأخذ منه مع كونه لا يحل للأزواج أن يأخذوا شيئا من أموالهنّ التي يملكنها من غير المهر لكون ذلك هو الذي تتعلق به نفس الزوج ويتطلع لأخذه دون ما عداه مما هو في ملكها على أنه إذا كان أخذ ما دفعه إليها لا يحلّ له، كان ما عداه ممنوعا منه بالأولى.
وقيل: الخطاب للأئمة والحكام ليطابق قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ فإن الخطاب فيه للأئمة
(١) جاء في المطبوع (هن) والتصحيح من فتح القدير [١/ ٢٣٨].
(٢) فتح القدير [١/ ٢٣٨].
86
والحكام وعلى هذا يكون إسناد الأخذ إليهم لكونهم الآمرين بذلك.
والأول أولى لقوله: مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ فإن إسناده إلى غير الأزواج بعيد جدا لأن إيتاء الأزواج لم يكن عن أمرهم.
وقيل: إن الثاني أولى لئلا يشوش النظم.
إِلَّا أَنْ يَخافا: أي لا يجوز لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ: أي عدم إقامة حدود الله التي حدها للزوجين، وأوجب عليهما الوفاء بها من حسن العشرة والطاعة.
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ: أي إذا خاف الأئمة والحكام أو المتوسطون بين الزوجين وإن لم يكونوا أئمة وحكاما، عدم إقامة حدود الله من الزوجين وهي ما أوجبه عليهما.
فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ: أي لا جناح على الرجل ولا على المرأة في الإعطاء بأن تفتدي نفسها من ذلك النكاح ببذل شيء من المال يرضى به الزوج فيطلقها لأجله، وهذا هو الخلع.
وقد ذهب الجمهور إلى جواز ذلك للزوج، وأنه يحلّ له الأخذ مع ذلك الخوف «١». وهو الذي صرّح به القرآن. وحكى ابن المنذر عن بعض أهل العلم أنه لا يحلّ له ما أخذ ولا يجبر على رده وهذا في غاية السقوط. وقرأ حمزة إِلَّا أَنْ يَخافا على البناء للمجهول والفاعل محذوف وهو الأئمة والحكام واختاره أبو عبيد. قال:
لقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ فجعل الخوف لغير الزوجين، وقد احتج بذلك من جعل الخلع إلى السلطان وهو سعيد بن جبير والحسن وابن سيرين.
وقد ضعف النحاس اختيار أبي عبيد المذكور.
(١) اعلم أنهم اختلفوا هل يكره الخلع بأكثر من المسمى؟ فقال الإمام مالك والشافعي لا يكره ذلك، وقال أبو حنيفة: إن كان النشوز من قبلها فيكره للزوج أن يأخذ أكثر من المسمى وإن كان من قبله فيكره له أخذ شيء ما عوضا عن الخلع، ويصح مع الكراهية في كلا الحالين.
وقال الإمام أحمد: يكره الخلع على أكثر من المسمى سواء كان النشوز من قبلها أو من قبله، إلا أنه على الكراهية تصح عنده.
انظر الكافي لابن عبد البر [٢/ ٥١٣]- روضة الطالبين [٧/ ٣٧٤] الهداية للمرغيناني [٣/ ٢٩٣] الكافي لموفق الدين المقدسي [٣/ ١٠١]- الإفصاح لابن هبيرة [٢/ ١١٨].
87
وقد حكي عن بكر بن عبد الله المزني أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة النساء وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) [النساء: ٢٠]. وهو قول خارج عن الإجماع ولا تنافي بين الآيتين.
وقد اختلف أهل العلم إذا طلب الزوج من المرأة زيادة على ما دفعه إليها من المهر وما يتبعه ورضيت بذلك المرأة هل يجوز أم لا؟
وظاهر القرآن الجواز لعدم تقييده بمقدار معين، وبهذا قال مالك والشافعي وأبو ثور وروي مثل ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين.
وقال طاووس وعطاء والأوزاعي «١» وأحمد وإسحاق أنه لا يجوز.
وقد ورد في ذمّ المختلعات أحاديث منها حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:
«أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة» «٢» أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وحسنه، وابن ماجة والحاكم، وصححه.
وقال: «المختلعات هن المنافقات» «٣». رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وحسنه، وابن ماجة وابن جرير والحاكم، وصححه، والبيهقي أيضا.
ومنها عن ابن عباس- عند ابن ماجة- أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «لا تسأل المرأة زوجها الطلاق في غير كنهه فتجد ريح الجنة وإن ريحها لتوجد مسيرة أربعين عاما» «٤».
وقد اختلف أهل العلم في عدة المختلعة: والراجح أنها تعتد بحيضة لما أخرجه أبو داود والترمذي، وحسنه، والنسائي والحاكم، وصححه، عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم
(١) وفي المطبوع-[الأنصاري] والتصحيح من فتح القدير [١/ ٢٣٩].
(٢) [صحيح] أخرجه أحمد في المسند [٥/ ٢٧٧، ٢٨٣] والدارمي في السنن [٢/ ١٦٢] وأبو داود في السنن [٢/ ٢٧٥- ٢٧٦] ح [٢٢٢٦] والترمذي في السنن [٣/ ٤٩٣] ح [١١٨٧] وابن ماجه في السنن ح [٢٠٥٥] والطبري في التفسير [٢/ ٤٨١] ح [٤٨٤٧، ٤٨٤٨].
(٣) أخرجه الترمذي في السنن [٣/ ٤٩٢] ح [١١٨٦] والطبري في التفسير [٢/ ٤٨١] ح [٤٨٤٥].
[تنبيه] وقع في المطبوع بعد هذا الحديث عبارة [رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي أيضا] وهذا خطأ إذ أنه مكرر لتخريج الحديث الذي قبله. قارن ب فتح القدير [١/ ٢٤٠- ٢٤١].
(٤) [ضعيف] أخرجه ابن ماجه في السنن ح [٢٠٥٤].
88
أمر امرأة ثابت بن قيس أن تعتد بحيضة «١». وفي الباب أحاديث. ولم يرو ما يعارض هذا من المرفوع بل ورد عن جماعة من الصحابة والتابعين أن عدة المختلعة كعدة الطلاق.
وبه قال الجمهور. قال الترمذي: وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم، واستدلوا على ذلك بأن المختلعة من جملة المطلقات فهي داخلة تحت عموم القرآن.
والحق ما ذكرناه لأن ما ورد عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يخصص عموم القرآن. وتمام البحث في «مسك الختام شرح بلوغ المرام» فليرجع إليه، وفي الباب أحاديث في ذم التحليل وفاعله فليعلم.
[الآية الثانية والأربعون] فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠).
فَإِنْ طَلَّقَها: أي الطلقة الثالثة التي ذكرها سبحانه بقوله: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ:
أي فإن وقع منه ذلك فقد حرمت عليه بالتثليث فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ:
أي حتى تتزوج بزوج آخر.
وقد أخذ بظاهر الآية سعيد بن المسيّب ومن وافقه قالوا: يكفي مجرد العقد لأنه المراد بقوله حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ.
وذهب الجمهور من السلف والخلف إلى أنه لا بد مع العقد من الوطء لما ثبت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من اعتبار ذلك، وهو زيادة يتعين قبولها، ولعله لم يبلغ سعيد بن المسيّب ومن تابعه.
وفي الآية دليل على أنه لا بد من أن يكون ذلك نكاحا شرعيا مقصودا لذاته لا حيلة إلى التحليل وذريعة إلى ردها إلى الزوج الأول فإن ذلك حرام بالأدلة الواردة في ذمّه وذمّ فاعله وأنه التيس المستعار الذي لعنه الشارع ولعن من اتخذه لذلك.
وقد بسط الكلام على هذا الحافظ ابن القيم رحمه الله في «إعلام
(١) [صحيح] أخرجه الترمذي في السنن [٣/ ٤٩١] ح [١١٨٥] وأبو داود في السنن [٢/ ٢٧٧] ح [٢٢٢٩] والحاكم في المستدرك [٢/ ٢٠٦].
89
الموقعين» «١» و «إغاثة اللهفان» «٢».
فَإِنْ طَلَّقَها: أي الزوج الثاني فَلا جُناحَ عَلَيْهِما: أي الزوج الأول والمرأة أَنْ يَتَراجَعا: أي يرجع كل واحد منهما لصاحبه.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحرّ إذا طلق زوجته ثلاثا ثم انقضت عدتها ونكحت زوجا ودخل بها ثم فارقها وانقضت عدتها ثم نكحها الزوج الأول فإنها تكون عنده على ثلاث تطليقات «٣». إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أي حقوق الزوجية الواجبة لكل منهما على الآخر. وأما إذا لم يحصل ظن ذلك: بأن يعلما أو أحدهما عدم الإقامة لحدود الله أو ترددا أو أحدهما ولم يحصل لهما الظن فلا يجوز الدخل في هذا النكاح لأنه مظنة المعصية لله والوقوع فيما حرمه على الزوجين.
[الآية الثالثة والأربعون] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١).
البلوغ إلى الشيء: معناه الحقيقي الوصول إليه، ولا يستعمل البلوغ بمعنى المقاربة إلا مجازا لعلاقة مع قرينة- كما هنا- فإنه لا يصح إرادة المعنى الحقيقي لأن المرأة إذا بلغت آخر جزء من مدة العدة وجاوزته إلى الجزء الذي هو الأجل للانقضاء فقد خرجت من العدة، ولم يبق للزوج عليها سبيل.
قال القرطبي في «تفسيره» «٤» إن معنى بلغن هنا قاربن بإجماع العلماء. وقال:
ولأن المعنى يضطر إلى ذلك لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك.
والإمساك بمعروف: هو القيام بحقوق الزوجية واستدامتها. بل اختاروا
(١) انظر أعلام الموقعين [٤/ ٤٥].
(٢) انظر إغاثة اللهفان [١/ ٢٦٩- ٢٧٣].
(٣) انظر الإجماع لابن المنذر [ص/ ٨١].
(٤) تفسير القرطبي [٣/ ١٥٥]. [.....]
90
أحد أمرين:
إما الإمساك بمعروف من غير قصد إضرار.
أو التسريح «١» بإحسان: أي تركها حتى تنقضي عدتها من غير مراجعة ضرار.
وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً كما كانت تفعل الجاهلية من طلاق المرأة حتى [يقرب] «٢» انقضاء عدّتها، ثم مراجعتها لا عن حاجة ولا لمحبة، ولكن لقصد تطويل العدة وتوسيع مدة الانتظار ضرارا لقصد الاعتداء منكم عليهن والظلم لهنّ.
وأخرج ابن ماجة وابن جرير والبيهقي عن أبي موسى قال قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما بال أقوام يلعبون بحدود الله!! يقول قد طلقتك، قد راجعتك، قد طلقتك، قد راجعتك!! ليس هذا طلاق المسلمين طلقوا المرأة في قبل عدّتها «٣».
[الآية الرابعة والأربعون] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢).
الخطاب في هذه الآية بقوله: وَإِذا طَلَّقْتُمُ وبقوله: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ إما أن يكون للأزواج، ويكون معنى العضل منهم أن يمنعوهنّ من أن يتزوجنّ من أردن من الأزواج بعد انقضاء عدتهن لحمية الجاهلية، كما يقع كثيرا من الخلفاء والسلاطين غيرة على من كان تحتهم من النساء أن يصرن تحت غيرهم، لأنهم لما نالوه من رياسة الدنيا وما صاروا فيه من النخوة والكبرياء يتخيلون أنهم [قد] «٤» خرجوا من جنس بني آدم إلا من عصمة الله منهم بالورع والتواضع وإما أن يكون الخطاب للأولياء، ويكون معنى إسناد الطلاق إليهم أنه سبب له لكونهم المزوجين للنساء المطلقات من الأزواج المطلقين لهن.
(١) جاء في المطبوع [السرح] والتصحيح من فتح القدير [١/ ٢٤٢].
(٢) ما بين المعكوفين سقط من المطبوع وهو مستدرك من فتح القدير [١/ ٢٤٢].
(٣) [ضعيف] أخرجه ابن ماجه في السنن ح [٢٠١٧] وابن جرير في التفسير [٢/ ٤٩٦] ح [٤٩٢٨] والبيهقي في السنن الكبرى [٧/ ٣٢٢] انظر ضعيف الجامع ح [٥٠٣٧].
(٤) ما بين المعكوفين من فتح القدير [١/ ٢٤٣].
91
وبلوغ الأجل المذكور هنا المراد به المعنى الحقيقي: أي نهايته لا كما سبق في الآية الأولى.
والعضل: الحبس وقيل التضييق، والمنع وهو راجع إلى معنى الحبس، وكل مشكل عند العرب معضل. وداء عضال: أي شديد عسير البرء.
وقوله أَزْواجَهُنَّ، إن أريد به المطلقون لهن فهو مجاز باعتبار ما كان، وإن أريد به من يردن أن يتزوجنه فهو مجاز أيضا باعتبار ما سيكون، وقد أخرج البخاري وأهل السنن وغيرهم عن معقل بن يسار قال: كانت لي أخت فأتاني ابن عم فأنكحتها إياه فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقا لم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب فقلت له: يا لكع أكرمتك به وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها، والله لا ترجع إليك أبدا! وكان رجلا لا بأس وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الآية «١». قال: ففيّ نزلت هذه الآية فكفّرت عن يميني وأنكحتها إياه.
[الآية الخامسة والأربعون] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣).
لما ذكر الله سبحانه النكاح والطلاق ذكر الرضاع فإن الزوجين قد يفترقان وبينهما ولد، ولهذا قيل: إن هذا خاص في المطلقات وقيل: هو عام.
حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ تأكيد للدلالة على كون هذا التقدير تحقيقا لا تقريبا.
وفيه رد على أبي حنيفة في قوله: إن مدة الرضاع ثلاثون شهرا وكذا على زفر،
(١) أخرجه البخاري في الصحيح [٩/ ٤٨٢] ح [٥٣٣١]
.
92
وفي قوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ دليل على أن إرضاع الحولين ليس حتما بل هو التمام ويجوز الاقتصار على ما دونه والآية تدل على وجوب الرضاعة على الأم لولدها.
وقد حمل ذلك على ما إذا لم يقبل الرضيع غيرها. وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ أي على الأب الذي يولد له. وآثر هذا اللفظ دون [قوله] «١» وعلى الوالد للدلالة على أن الأولاد للآباء لا للأمهات، ولهذا ينسبون إليهم دونهن كأنهن إنما ولدن لهم فقط. ذكر معناه في «الكشاف». والمراد بالرزق هنا الطعام الكافي المتعارف به بين الناس، والمراد بالكسوة ما يتعارفون به أيضا.
وفي ذلك دليل على وجوب ذلك على الآباء للأمهات المرضعات. وهذا في المطلقات طلاقا بائنا وأما غيرهن فنفقتهن وكسوتهن واجبة على الأزواج من غير إرضاعهن لأولادهن.
لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها هو تقييد لقوله: بِالْمَعْرُوفِ أي هذه النفقة والكسوة الواجبتان على الأب بما يتعارفه الناس لا يكلف منها إلا ما يدخل تحت وسعه وطاقته لا ما يشق عليه ويعجز عنه.
وقيل: المراد لا يكلف المرأة الصبر على التقتير في الأجرة ولا يكلف الزوج ما هو إسراف بل يراعى القصد.
لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها على البناء للفاعل والمفعول: أي لا تضار الأب بسبب الولد بأن تطلب منه ما لا يقدر عليه من الرزق والكسوة أو بأن تفرط في حفظ الولد والقيام بما يحتاج إليه. أو لا تضار من زوجها بأن يقصر عليها في شيء مما يجب عليه أو ينتزع ولدها منها بلا سبب.
ويجوز أن تكون الباء في قوله: بِوَلَدِها صلة لقوله: تُضَارَّ على أنه بمعنى تضر أي لا تضر والدة بولدها فتسيء تربيته أو تقصر في غذائه.
وأضيف الولد تارة إلى الأب وتارة إلى الأم لأن كل واحد منهما يستحق أن ينسب إليه مع ما في ذلك من الاستعطاف. وهذه الجملة تفصيل للجملة التي قبلها وتقرير لها:
(١) ما بين المعكوفين سقط من المطبوع وهو مستدرك من فتح القدير [١/ ٢٤٥].
93
أي لا يكلّف كل واحد منهما ما لا يطيقه فلا تضاره بسبب ولده.
وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ معطوف على قوله: وَعَلَى الْمَوْلُودِ: وما بينهما تفسير للمعروف أو تعليل له معترض بين المعطوف والمعطوف عليه.
واختلف أهل العلم في معنى قوله هذا: فقيل: هو وارث الصبي: أي إذا مات المولود له كان على وارث هذا الصبي المولود وإرضاعه كما كان يلزم أباه ذلك. قاله عمر بن الخطاب وقتادة والسّدي والحسن ومجاهد وعطاء وأحمد وإسحاق وأبو حنيفة وابن أبي ليلى على خلاف بينهم: هل يكون الوجوب على من يأخذ نصيبا من الميراث؟
أو على الذكور فقط؟ أو على كل ذي رحم له وإن لم يكن وارثا منه؟
وقيل: المراد بالوارث وارث الأب يجب عليه نفقة المرضعة وكسوتها بالمعروف.
قاله الضحاك.
وقال مالك في تفسير هذه الآية بمثل ما قاله الضحاك ولكنه قال: إنها منسوخة وإنها لا تلزم الرجل نفقة أخ ولا ذي قرابة ولا ذي رحم منه، وشرطه الضحاك بأن لا يكون للصبي مال، وإن كان له مال أخذت أجرة رضاعه من ماله.
وقيل: المراد بالوارث المذكور في الآية هو الصبي نفسه: أي عليه من ماله إرضاع نفسه إذا مات أبوه وورث من ماله، قاله قبيصة بن ذؤيب وبشير بن نصر قاضي عمر بن عبد العزيز وروي عن الشافعي.
وقيل: هو الباقي من والدي المولود بعد موت الآخر منهما، فإذا مات الأب كان على الأم كفاية الطفل إذا لم يكن له مال، قاله سفيان الثوري.
وقيل: إن معنى قوله: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ: أي وارث المرضعة يجب عليه أن يصنع بالمولود كما كانت الأم تصنعه به من الرضاع والخدمة والتربية.
وقيل: إن معنى على الوارث: أنه يحرم عليه الإضرار بالأم كما يحرم على الأب، وبه قالت طائفة من أهل العلم، قالوا: وهذا هو الأصل فمن ادّعى أنه يرجع فيه العطف إلى جميع ما تقدم فعليه الدليل.
قال القرطبي: وهو الصحيح إذ لو أراد الجميع الذي هو الرضاع والإنفاق وعدم الضرر لقال: وعلى الوارث مثل هؤلاء فدل على أنه معطوف على المنع من المضارّة
94
وعلى ذلك تأوله كافة المفسرين فيما حكى القاضي عبد الوهاب.
قال ابن عطية وقال مالك وجميع أصحابه والشعبي والزهري والضحاك وجماعة من العلماء: المراد بقوله مثل ذلك أن لا تضارّ، وأما الرزق والكسوة فلا يجب شيء منه. وحكى ابن القاسم عن مالك مثل ما قدمنا عنه من دعوى النسخ. ولا يخفى عليك ضعف ما ذهبت إليه هذه الطائفة فإن ما خصصوا به معنى قوله: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ من ذلك المعنى- أي عدم الإضرار بالمرضعة- قد أفاده قوله لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها، يصدق ذلك على كل مضارّة ترد عليها من المولود له أو غيره.
وأما قول القرطبي: لو أراد الجميع لقال مثل هؤلاء، فلا يخفى ما فيه من الضعف البين، فإن اسم الاشارة يصلح للمتعدد كما يصلح للواحد بتأويل المذكور أو نحوه.
وأما ما ذهب إليه أهل القول الأوّل من أن المراد بالوارث وارث الصبيّ، فيقال عليه إنه لم يكن وارثا حقيقة مع وجود الصبيّ حيا، بل هو وارث مجازا باعتبار ما يؤول إليه.
وأما ما ذهب إليه أهل القول الثاني فهو وإن كان فيه حمل الوارث على معناه الحقيقي لكن في إيجاب النفقة عليه مع غنى الصبيّ ما فيه ولهذا قيده القائل به بأن يكون الصبي فقيرا. ووجه الاختلاف في تفسير الوارث ما تقدّم من ذكر الوالدة والمولود له والولد، فاحتمل أن يضاف الوارث إلى كل منهم.
فَإِنْ أَرادا فِصالًا الضمير للوالدين، والفصال: الفطام عن الرضاع أي التفريق بين الصبيّ والثدي، ومنه سمي الفصيل لأنه مفصول عن أمه.
عَنْ تَراضٍ مِنْهُما أي صادرا عن تراض من الأبوين إذا كان الفصال قبل الحولين.
وَتَشاوُرٍ أي استخراج رأي من أهل العلم في ذلك حتى يخبروا أن الفطام قبل الحولين لا يضر بالولد.
فَلا جُناحَ عَلَيْهِما في ذلك الفصال لما بين الله سبحانه أن مدّة الرضاع حولين كاملين قيد ذلك بقوله لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وظاهره أن الأب وحده إذا أراد أن يفصل الصبي قبل الحولين كان ذلك جائزا له. وهنا اعتبر سبحانه تراضي الأبوين وتشاورهما فلا بد من الجمع بين الأمرين بأن يقال: إن الإرادة المذكورة في قوله لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ
95
الرَّضاعَةَ
لا بد أن تكون منهما، أو يقال: إن تلك الإرادة إذا لم يكن الأبوان للصبيّ حيين بأن يكون الموجود أحدهما أو كانت المرضعة للصبيّ غير أمه.
وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ قال الزجاج: التقدير أن تسترضعوا لأولادكم غير الوالدة. وعن سيبويه أنه حذف اللام لأنه يتعدّى إلى مفعولين والمفعول الأول محذوف.
والمعنى أن تسترضعوا المراضع أولادكم.
فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ قيل: والمعنى أنه لا بأس عليكم أن تسترضعوا أولادكم غير أمهاتهم إذا سلمتم إلى الأمهات أجرهنّ بحساب ما قد أرضعن لكم إلى وقت إرادة الاسترضاع، قاله سفيان الثوري ومجاهد.
وقال قتادة والزهري: إن معنى الآية: إذا سلمتم ما آتيتم من إرادة الاسترضاع، أي سلم كل واحد من الأبوين ورضي كان ذلك عن اتفاق منهما وقصد خير وإرادة معروف من الأمر. وعلى هذا فيكون قوله: سلمتم، عاما للرجال والنساء تغليبا.
وعلى القول الأول الخطاب للرجال فقط. وقيل: المعنى إذا سلتم لمن أردتم استرضاعها أجرها فيكون المعنى إذا سلمتم ما أردتم إيتاءه: أي إعطاءه إلى المرضعات بالمعروف بما يتعارفه الناس من أجر المرضعات من دون مماطلة لهن أو حط بعض ما هو لهنّ من ذلك فإن عدم توفير أجرهن يبعثهن على التساهل بأمر الصبيّ والتفريط بشأنه.
[الآية السادسة والأربعون] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤).
لما ذكر سبحانه عدّة الطلاق واتصل بذكرها ذكر الإرضاع عقب ذلك بذكر عدة الوفاة لئلا يتوهم أن عدّة الوفاة مثل عدة الطلاق.
قال الزجاج: ومعنى الآية والرجال الذين يتوفون منكم ولهم زوجات فالزوجات يتربصن.
96
وقال أبو علي الفارسي تقديره: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بعدهم.
وقيل: التقدير: وأزواج الذين إلخ. ذكره صاحب «الكشاف»، وفيه أن قوله وَيَذَرُونَ أَزْواجاً لا يلائم ذلك التقدير، لأن الظاهر من النكرة المعادة المغايرة ووجه الحكمة في جعل العدّة للوفاة هذا المقدار أن الجنين ربما يضعف عن الحركة فتتأخر حركته قليلا ولا يتأخر عن هذا الأجل. وظاهر هذه الآية العموم وأن كل من مات عنها زوجها تكون عدّتها هذه العدّة ولكنه قد خصص هذا العموم قوله: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: ٤] وإلى هذا ذهب الجمهور وروي عن بعض الصحابة وجماعة من أهل العلم أن الحامل تعتد بآخر الأجلين جمعا بين العام والخاص وإعمالا لهما.
والحق ما قاله الجمهور والجمع بين العام والخاص على هذه الصفة لا يناسب قوانين اللغة ولا قواعد الشرع. ولا معنى لإخراج الخاص من بين أفراد العام إلا بيان أن حكمه مغاير لحكم العام ومخالف [له] «١». وقد صح عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه أذن لسبيعة الأسلمية أن تتزوج بعد الوضع «٢».
والتربص: التأني والتصبر عن النكاح وظاهر الآية عدم الفرق بين الصغيرة والكبيرة والحرة والأمة وذات الحيض والآيسة، وإن عدتهنّ جميعا للوفاة أربعة أشهر وعشرا.
وقيل: إن عدة الأمة نصف عدة الحرة شهران وخمسة أيام. قال ابن العربي:
إجماعا إلا ما يحكى عن الأصم فإنه يسوي بين الحرة والأمة.
وقال الباجي: ولا نعلم في ذلك خلافا إلا ما يروى عن ابن سيرين أنه قال عدتها عدة الحرة، وليس بالثابت عنه. ووجه ما ذهب إليه الأصم وابن سيرين ما في هذه الآية من العموم ووجه ما ذهب إليه من عداهما قياس عدة الوفاة على الحد فإنه ينصف للأمة لقوله تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ. وقد تقدم حديث:
(١) ما بين المعكوفين من فتح القدير [١/ ٢٤٨].
(٢) أخرجه البخاري في الصحيح [٩/ ٤٦٩] ح [٥٣١٨]، [٥٣١٩]، [٥٣٢٠] ومسلم في الصحيح ح [١٤٨٤].
97
طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان وهو صالح للاحتجاج به، وليس المراد منه إلا جعل طلاقها على النصف من طلاق الحرة وعدّتها على النصف من عدّتها ولكنه لما لم يمكن «١» أن يقال طلاقها تطليقة ونصف، وعدتها حيضة ونصف لكون ذلك لا يعقل، كانت عدّتها وطلاقها ذلك القدر المذكور في الحديث جبرا للكسر، ولكن هاهنا أمر يمنع من هذا القياس الذي عمل به الجمهور وهو أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا هو ما قدمناه من معرفة خلوها من الحمل ولا يعرف إلا بتلك المدة ولا فرق بين الحرة والأمة في مثل ذلك بخلاف كون عدتها في غير الوفاة حيضتين، فإن ذلك يعرف به خلو الرحم ويؤيد عدم الفرق ما سيأتي في عدة أم الولد.
واختلف أهل العلم في أم الولد يموت سيدها: فقال سعيد بن المسيب ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين والزهري وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل في رواية عنه: إنها تعتد بأربعة أشهر وعشرا لحديث عمرو بن العاص قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم! عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشرا «٢». وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم، وصححه، وضعفه أحمد وأبو عبيد. وقال الدارقطني: الصواب أنه موقوف. وقال طاووس وقتادة: عدّتها شهران وخمس ليال وقال أبو حنيفة «٣» وأصحابه والثوري وحسن بن صالح: تعتد ثلاث حيض وهو قول علي وابن مسعود وعطاء وإبراهيم النخعي.
وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه «٤» : عدّتها حيضة وغير الحائض شهر وبه يقول ابن عمر والشعبي ومكحول والليث وأبو عبيد وأبو ثور والجمهور.
وقد أجمع العلماء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول، وإن
(١) جاء في المطبوع [يكن] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/ ٢٤٨].
(٢) أخرجه ابن الجارود في المنتقى [١/ ١٩٤]- ح [٧٦٩]- وابن حبان في صحيحه [١٠/ ١٣٦]- ح [٤٣٠٠]، والحاكم في المستدرك [٢/ ٢٢٨]- ح [٢٨٣٦]، والدارقطني في سننه [٣/ ٣٠٩]- ح [٢٤٣]، وأبو داود [٢٣٠٨]، وابن أبي شيبة في مصنفه [٤/ ١٤٤] والإمام أحمد في مسنده [٤/ ٢٠٣]، وأبو يعلى في مسنده [١٣/ ٣٢٣]- ح [٧٣٣٨].
(٣) انظر الفتاوى الهندية [١/ ٥٢٩].
(٤) انظر الكافي لابن عبد البر [٢/ ٦٢٢]- روضة الطالبين [٨/ ٣٦٨]، المغني لموفق الدين المقدسي [٩/ ١٤٧].
98
كانت متقدمة في التلاوة.
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ: المراد بالبلوغ هنا انقضاء العدة فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التزين والتعرض للخطاب بِالْمَعْرُوفِ الذي لا يخالف شرعا ولا عادة مستحسنة.
وقد استدل بذلك على وجوب الإحداد على المعتدة. وقد ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما- من غير وجه- أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» «١». وكذلك ثبت عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم في الصحيحين وغيرهما النهي عن الكحل لمن هي في عدة الوفاة «٢».
والإحداد: ترك الزينة من الطيب ولبس الثياب الجيدة والحلي وغير ذلك.
واختلفوا في عدّة البائنة على قولين واحتج أصحاب الإمام أبي حنيفة على جواز النكاح بغير وليّ بهذه الآية لأن إضافة الفعل إلى الفاعل محمولة على المباشرة وأجيب بأنه خطاب للأولياء ولو صح العقد بدونهم لما كانوا مخاطبين. ومحل كل ذلك كتب الفروع.
[الآية السابعة والأربعون] وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥).
الجناح: الإثم، أي لا إثم عليكم.
والتعريض «٣» ضد التصريح وهو من عرض الشيء أي: جانبه كأنه يحوم حول
(١) أخرجه البخاري في الصحيح [٩/ ٤٩٣] ح [٥٣٤٥] و [١٢٨١] ومسلم في الصحيح ح [١٤٨٦] و [١٤٨٧] و [١٤٨٩].
(٢) أخرجه البخاري في الصحيح [٩/ ٤٩٢] ح [٥٣٤٢] ومسلم في الصحيح [٢/ ١١٢٧]. [.....]
(٣) وقعت هذه الكلمة في المطبوع مصحفه والمثبت من فتح القدير [١/ ٢٥٠].
99
الشيء ولا يظهره. فالمعرض بالكلام يوصل إلى صاحبه كلاما يفهم معناه.
قال في «الكشاف» : الفرق بين الكناية والتعريض أن الكناية أن تذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له.
والتعريض: أن تذكر شيئا يدل به على شيء لم تذكره كما يقول المحتاج للمحتاج إليه: جئتك لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم، ولذلك قالوا: وحسبك بالتسليم مني تقاضيا.
وكأنه إمالة «١» الكلام إلى عرض يدل على الغرض ويسمى التلويح لأنه «٢» يلوح منه إلى ما يريده. انتهى.
والخطبة: بالكسر ما يفعله الطالب من الطلب والاستلطاف بالقول والفعل، وأما الخطبة بضم الخاء فهي: الكلام الذي يقوم به الرجل خاطبا.
أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ معناه سترتم وأضمرتم من التزويج بعد انقضاء العدة.
والإكنان: التستر والإخفاء ومنه بيض مكنون ودر مكنون.
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ أي لا تصبرون عن النطق لهن برغبتكم فيهن فرخص لكم في التعريض دون التصريح.
وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا، معناه على سر. وقد اختلف أهل العلم في معنى السر: فقيل أي نكاحا، وإليه ذهب جمهور العلماء أي: لا يقل الرجل لهذه المعتدة:
تزوجيني بل يعرض تعريضا.
وقيل: السر الزنا، أي: لا يكون منكم مواعدة على الزنا في العدة ثم التزوج بعدها. قاله جابر بن زيد وأبو مجلز والحسن وقتادة والضحاك والنخعي واختاره ابن جرير الطبري.
وقيل: السر: الجماع، أي لا تصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع ترغيبا لهن في النكاح وإلى هذا ذهب الشافعي في معنى الآية.
قال ابن عطية: أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو رفث من ذكر
(١) جاء في المطبوع [وكامالة] وهو خطأ والصواب ما أثبتناه من فتح القدير [١/ ٢٥٠].
(٢) جاء في المطبوع [كأنه] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/ ٢٥٠].
100
جماع أو تحريض عليه لا يجوز. وقال أيضا: أجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة في نفسها وللأب في ابنته البكر وللسيد في أمته.
إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً قيل: هو استثناء منقطع بمعنى: لكن. والقول المعروف: هو ما أبيح من التعريض، ومنع صاحب «الكشاف» أن يكون منقطعا وقال:
هو مستثنى من قوله: لا تُواعِدُوهُنَّ أي مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة فجعله على هذا الاستثناء مفرغا ووجه كونه منقطعا أنه يؤدي إلى جعل التعريض موعودا وليس كذلك لأن التعريض طريق المواعدة لا أنه الموعود في نفسه.
وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ أي على عقدة النكاح وحذف على. قال سيبويه في هذه الآية: لا يقاس عليه. وقال النحاس: أي لا تعقدوا عقدة النكاح لأن معنى تعزموا وتعقدوا واحد. وقيل: إن العزم على الفعل يتقدمه فيكون في هذا النهي مبالغة لأنه إذ نهى عن التقدم على الشيء كان النهي عن ذلك الشيء بالأولى. حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ:
يريد حتى تنقضي العدّة، والكتاب هنا: هو الحد والقدر الذي رسم من المدة سماه كتابا لكونه محدودا ومفروضا كقوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٣٠) [النساء: ١٠٣]. وهذا الحكم- أعني تحريم عقد النكاح في العدة- مجمع عليه.
[الآية الثامنة والأربعون] لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦).
المراد بالجناح هنا: التبعة من المهر ونحوه، فرفعه رفع لذلك: أي لا تبعة عليكم بالمهر ونحوه إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ على الصفة المذكورة ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ما مصدرية ظرفية بتقدير المضاف: أي مدة عدم مسيسكم. وقيل: شرطية من باب اعتراض الشرط على الشرط ليكون الثاني قيدا للأول، والمعنى: إن طلقتموهنّ غير ماسين لهنّ. وقيل:
موصولة: أي إن طلقتم النساء اللائي لم تمسوهن.
وهكذا اختلفوا في قوله أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً فقيل: «أو» بمعنى «إلا» أي: إلا أن تفرضوا.
101
وقيل: «بمعنى إلا» : أي: إلا أن تفرضوا.
وقيل: بمعنى حتى: أي حتى تفرضوا.
وقيل: بمعنى الواو: أي وتفرضوا. ولست أرى لهذا التطويل وجها. ومعنى الآية أوضح من أن يلتبس فإن الله سبحانه رفع الجناح عن المطلقين ما لم يقع أحد الأمرين أي مدّة انتفاء ذلك الأحد، ولا ينتفي الأحد المبهم إلا بانتفاء الأمرين معا، فإن وجد المسيس وجب المسمى أو مهر المثل. وإن وجد الفرض وجب نصفه مع عدم المسيس، وكل واحد منهما جناح أي المسمى أو مهر المثل أو نصفه.
واعلم أن المطلقات أربع: مطلقة مدخول بها مفروض لها- وهي التي تقدم ذكرها قبل هذه الآية- وفيها نهى الأزواج عن أن يأخذوا مما آتوهن شيئا وأن عدّتهنّ ثلاثة قروء.
ومطلقة غير مفروض لها ولا مدخول بها- وهي المذكورة هنا- فلا مهر لها بل المتعة، وبين في سورة الأحزاب أن غير المدخول بها إذا طلقت فلا عدّة لها.
ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها وهي المذكورة بقوله سبحانه هنا: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً.
ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها وهي المذكورة في قوله فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. والمراد بقوله: ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ: ما لم تجامعوهن. والمراد بالفريضة هنا: تسمية المهر.
وَمَتِّعُوهُنَّ: أي: أعطوهنّ شيئا يكون متاعا لهنّ، وظاهر الأمر الوجوب وبه قال علي وابن عمر والحسن البصري وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك.
ومن أدلة الوجوب قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (٤٩) [الأحزاب: ٤٩].
وقال مالك وأبو عبيد والقاضي شريح وغيرهم: أن المتعة للمطلقة المذكورة مندوبة لا واجبة لقوله تعالى حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) [البقرة: ٢٣٦] أي: أن الوفاء بذلك والقيام به شأن أهل التقوى، وكل مسلم يجب عليه أن يتقي الله سبحانه.
102
وقد وقع الخلاف أيضا: هل المتعة مشروعة لغير هذه المطلقة قبل المسيس والفرض أو ليست بمشروعة إلا لها فقط؟
فقيل: إنها مشروعة لكل مطلقة وإليه ذهب ابن عباس وابن عمر وعطاء وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وأبو العالية والحسن البصري والشافعي- في أحد قوليه- وأحمد وإسحاق.
ولكنهم اختلفوا هل هي واجبة في غير المطلقة قبل البناء والفرض أم مندوبة فقط؟
واستدلوا بقوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) وبقوله تعالى:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا (٢٨) [الأحزاب: ٢٨]. والآية الأولى عامة لكل مطلقة، والثانية في أزواج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد كنّ مفروضا لهنّ مدخولا بهن.
وقال سعيد بن المسيب: إنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس، وإن كانت مفروضا لها لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ (٤٩) [الأحزاب: ٤٩]... إلخ قال هذه الآية التي في الأحزاب نسخت بالتي في البقرة.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المتعة مختصة بالمطلقة قبل البناء والتسمية لأن المدخول بها تستحق جميع المسمى أو مهر المثل. وغير المدخولة التي قد فرض لها زوجها فريضة: أي يسمى لها مهرا. وطلقها قبل الدخول المستحق نصف المسمى.
ومن القائلين بهذا ابن عمر ومجاهد ووقع الإجماع على أن المطلقة قبل الدخول والفرض لا تستحق إلا المتعة إذا كانت حرة، وأما إذا كانت أمة فذهب الجمهور إلى أن لها المتعة. وقال الأوزاعي والثوري: لا متعة لها لأنها تكون لسيدها، وهو لا يستحق مالا في مقابل تأذي مملوكته لأن الله سبحانه إنما شرع المتعة للمطلقة قبل الدخول والفرض لكونها تتأذى بالطلاق قبل ذلك.
وقد اختلفوا في المتعة المشروعة: هل هي مقدورة بقدر أم لا؟
فقال مالك والشافعي: لا حدّ لها معروف، بل ما يقع عليه اسم المتعة «١».
(١) اعلم أن أحد قولي الإمام الشافعي، وإحدى روايات الإمام أحمد أنه موكل إلى اجتهاد الحاكم.
103
وقال أبو حنيفة: إذا تنازع الزوجان في قدر المتعة وجب لها نصف مهر «١» مثلها ولا ينقص عن خمسة دراهم لأن أقل المهر عشرة دراهم وللسلف في ذلك أقوال.
عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ وهذا يدل على أن الاعتبار في ذلك بحال الزوج فالمتعة من الغني فوق المتعة من الفقير «٢» ولا ينظر إلى قدر الزوجة وقيل:
هذا ضعيف في مذهب الشافعي، بل ينظر الحاكم باجتهاد إلى حالهما جميعا على أظهر الوجوه مَتاعاً أي متعوهن متاعا بِالْمَعْرُوفِ: ما عرف في الشرع والعادة الموافقة له. حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) : وصف لقوله متاعا أو مصدر لفعل محذوف: أي حق ذلك حقا.
[الآية التاسعة والأربعون] وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧).
أي تجامعوهن، وفيه دليل على أن المتعة لا تجب لمثل هذه المطلقة لوقوعها في مقابل المطلقة قبل البناء والفرض التي تستحق المتعة. وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ: أي فالواجب عليكم نصف ما سميتم لهنّ من المهر. وهذا مجمع عليه.
وقد وقع الاتفاق أيضا على أن المرأة التي لم يدخل بها زوجها ومات وقد فرض لها مهرا تستحقه كاملا بالموت، ولها الميراث، وعليها العدة.
واختلفوا في الخلوة: هل تقوم مقام الدخول وتستحق المرأة بها كمال المهر كما تستحقه بالدخول أم لا؟ فذهب إلى الأول مالك والشافعي- في القديم- والكوفيون
وعن الشافعي قول آخر: أنه بمقدار ما يقع الاسم عليه كالصداق، ويصح بما قول وجل.
انظر: روضة الطالبين [٧/ ٣٢٢]- مغني المحتاج [٢/ ٢٤٢]- الكافي لموفق الدين المقدسي [٧٣١٣]- الإفصاح لابن هبيرة [١١٢١٢]-.
(١) جاء في المطبوع [من] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/ ٢٥٣] وانظر الهداية [١/ ٢٢٢].
(٢) جاء في المطبوع [الأخير] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/ ٢٥٣].
104
والخلفاء الراشدون وجمهور أهل العلم وتجب عندهم أيضا العدة. وقال الشافعي- في الجديد- لا يجب إلا نصف المهر وهو ظاهر الآية لما تقدم من أن المسيس هو الجماع.
ولا تجب عنده العدة، وإليه ذهب جماعة من السلف.
إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ: أي المطلقات ومعناه يتركن ويصفحن، وهو استثناء مفرغ من أعمّ العام. وقيل: العام، وقيل: منقطع. ومعناه يتركن النصف الذي يجب لهنّ على الأزواج ولم يسقط النون لكونها ضميرا وليست بعلامة إعراب. وهذا ما عليه جمهور المفسرين. وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ، الرجال وهو ضعيف لفظا ومعنى.
أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ: قيل: هو الزوج، وبه قال جبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وشريح وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وعكرمة ونافع وابن سيرين والضحاك ومحمد بن كعب القرظي وجابر بن زيد وأبو مجلز والربيع بن أنس وإياس بن معاوية ومكحول ومقاتل بن حيان. وهو الجديد من قولي الشافعي وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن شبرمة والأوزاعي ورجحه ابن جرير.
وفي هذا القول قوة وضعف: أما قوته فلكون الذي بيده عقدة النكاح حقيقة هو الزوج لأنه [هو] الذي إليه رفعه بالطلاق.
وأما ضعفه فلكون العفو منه غير معقول، وما قالوا به من أن المراد بعفوه أن يعطيها المهر كاملا غير ظاهر لأن العفو لا يطلق على الزيادة.
وقيل: المراد بقوله: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ، هو الولي. وبه قال النخعي وعلقمة والحسن وطاووس وعطاء وأبو الزناد وزيد بن أسلم وربيعة والزهري والأسود بن يزيد والشعبي وقتادة ومالك والشافعي في قوله القديم وفيه أيضا قوة وضعف: أما قوته فلكون معنى العفو فيه معقولا، وأما ضعفه فلكون عقدة النكاح بيد الزوج لا بيده. ومما يزيد هذا القول ضعفا أنه ليس للوليّ أن يعفو عن الزوج مما لا يملكه. وقد حكى القرطبي الإجماع على أن الوليّ لا يملك شيئا من مالها، والمهر مالها. فالراجح ما قاله الأولون لوجهين: الأول: أن الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح حقيقة، الثاني: أن عفوه بإكمال المهر هو صادر عن مالك مطلق التصرف بخلاف الولي. وتسميته الزيادة عفوا وإن كان خلاف الظاهر لكنف لما كان الغالب أنهم يسوقون
105
المهر كاملا عند العقد كان العفو معقولا لأنه تركه لها ولم يسترجع النصف منه. ولا يحتاج في هذا أن يقال إنه من باب المشاكلة- كما في الكشاف- لأنه عفو حقيقي: أي ترك ما تستحق المطالبة به إلا أن يقال إنه مشاكلة أو تغليب في توفيته المهر قبل أن يسوقه الزوج.
[الآية الخمسون] حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨).
المحافظة على الشيء: هي المداومة والمواظبة عليه. والأمر للوجوب. والمراد بالصلوات هي الخمس المكتوبات. فالمعنى واظبوا عليها برعاية شرائطها وأركانها.
وَالصَّلاةِ الْوُسْطى: الأوسط وأوسط الشيء ووسطه خياره ومنه قوله تعالى:
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: ١٤٣]. وأفرد الصلاة الوسطى بالذكر بعد دخولها في عموم الصلوات تشريفا لها.
وقد اختلف أهل العلم في تعيينها على ثمانية عشر قولا أوردها الشوكاني في شرحه للمنتقى وذكر ما تمسكت به كل طائفة. وأرجح الأقوال وأصحها ما ذهب إليه الجمهور من أنها العصر لما ثبت عند البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم من حديث عليّ رضي الله عنه قال: كنا نراها الفجر حتى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارا» «١».
وأخرج مسلم والترمذي وابن ماجة وغيرهم من حديث ابن مسعود مرفوعا مثله «٢».
وأخرجه أيضا ابن جرير وابن المنذر والطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا «٣».
(١) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح [٦/ ١٠٥] ح [٢٩٣١] و [٤١١١] و [٤٥٣٣] و [٦٣٩٦] ومسلم في الصحيح ح [٦٢٧].
انظر كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى [١٧- ٢٧].
(٢) أخرجه مسلم في الصحيح ح [٦٢٨] وأحمد في المسند [١/ ٣٩٢] والترمذي في السنن ح [١٨١].
(٣) أخرجه الطبراني في الكبير [١١/ ٣٢٩] ح [١١٩٠٥] وفي الأوسط كما في المجمع [١/ ٣٠٩]
106
وأخرجه البزار بإسناد صحيح من حديث جابر مرفوعا.
وأخرجه أيضا البزار بإسناد صحيح من حديث حذيفة مرفوعا.
وأخرجه الطبراني بإسناد ضعيف من حديث أم سلمة مرفوعا، وورد من غير ذكر يوم الأحزاب أحاديث مرفوعة إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بأسانيد صحيحة مصرحة بأنها القصر.
وقد روي عن الصحابة تعيين أنها العصر آثار كثيرة «١» وفي الثابت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ما لا يحتاج معه إلى غيره.
وأما ما ورد عن عليّ وابن عباس أنهما قالا: إنها صلاة الصبح، كما أخرجه مالك في الموطأ عنهما وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس، وكذلك غيره عن ابن عمر وأبي أمامة رضي الله عنهم. فكل ذلك من أقوالهم وليس فيها شيء من المرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا تقوم بمثل ذلك حجة لا سيما إذا عارض ما قد ثبت عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ثبوتا يمكن أن يدعى فيه التواتر. وإذا لم تقم الحجة بأقوال الصحابة لم تقم بأقوال من بعدهم من التابعين وتابعيهم بالأولى.
وهكذا لا تقوم الحجة بما أخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس أنها صلاة المغرب.
وهكذا لا اعتبار بما ورد من أقوال جماعة من الصحابة أنها الظهر أو غيرها من الصلوات.
ولكن المحتاج إلى إمعان نظر وفكر ما ورد مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مما فيه دلالة على أنها الظهر كما أخرجه ابن جرير عن زيد بن ثابت مرفوعا أنها صلاة الظهر «٢» - ولا يصح رفعه- بل المروي ذلك عن زيد من قوله واستدل على ذلك بأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يصلي بالهاجرة وكانت أثقل الصلاة على أصحابه فلذا خصصها بالذكر.
وأين يقع هذا الاستدلال من تلك الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم؟
وهكذا لا اعتبار بما روي عن ابن عمر وعائشة وأبي سعيد الخدري من قولهم: إنها
وابن جرير في التفسير [٢/ ٥٧٤] ح [٥٤٣٦].
(١) انظرها في تفسير ابن جرير [٢/ ٥٦٩- ٥٧٦].
(٢) أخرجه ابن جرير في التفسير [٢/ ٥٧٧] ح [٥٤٦٣].
107
الظهر، وغيرهم. فلا حجة في قول أحد مع قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وأما ما روي عن حفصة وعائشة وأم سلمة: في القرآن الصلاة الوسطى وصلاة العصر- مرفوعا- فغاية ما يدل عليه عطف صلاة العصر على الصلاة الوسطى أنها غيرها.
وهذا الاستدلال لا يعارض ما ثبت عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم ثبوتا لا يدفع أنها العصر. وهذه القراءة التي نقلتها أمهات المؤمنين الثلاثة بإثبات قوله: وصلاة العصر، معارضة بما أخرجه ابن جرير عن عروة قال: كان في مصحف عائشة: وهي صلاة العصر، وفي رواية: صلاة العصر، بغير الواو، وهكذا أخرج ابن جرير والطحاوي والبيهقي عن عمر بن رافع قال: كان مكتوبا في مصحف حفصة: وهي صلاة العصر، فهذه الروايات تعارض تلك الروايات باعتبار التلاوة ونقل القراءة، ويبقى ما صح عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من التعيين صافيا عن شوب كدر المعارضة. على أنه قد ورد ما يدل على نسخ تلك القراءة التي نقلتها حفصة وعائشة وأم سلمة. وإذا عرفت ما سقناه تبين لك أنه لم يرد ما يعارض أن الصلاة الوسطى صلاة العصر.
وأما حجج بقية الأقوال فليس فيها شيء مما ينبغي الاشتغال به لأنه لم يثبت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك شيء وبعض القائلين عول على أمر لا يعول عليه فقال: إنها صلاة كذا لأنها وسطى بالنسبة إلى أن قبلها كذا من الصلوات وبعدها كذا من الصلوات. وهذا الرأس المحض والتخمين البحت لا ينبغي أن تسند إليه الأحكام الشرعية على فرض عدم وجود ما يعارضه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فكيف مع وجود ما هو في أعلى درجات الصحة والقوة والثبوت عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟! ويا لله العجب من قوم لم يكتفوا بتقصيرهم في علم السنة وإعراضهم عن خير العلوم وأنفعها حتى كلفوا أنفسهم التكلم على أحكام الله والتجرؤ على تفسير كتاب الله بغير علم ولا هدى فجاءوا بما يضحك منه تارة ويبكى منه أخرى!!..
وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) القنوت قيل: هو الطاعة، قاله جابر بن زيد وعطاء وسعيد بن جبير والضحاك والشافعي.
وقيل: هو الخشوع، قاله ابن عمر ومجاهد.
وقيل: هو الدعاء، وبه قال ابن عباس.
108
وفي الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قنت شهرا يدعو على رعل وذكوان «١».
وقال قوم القنوت: طول القيام، وقيل معنى قانتين: ساكتين، قاله السّدي. ويدل عليه حديث زيد بن أرقم في الصحيحين وغيرهما قال: كان الرجل يكلم صاحبه على عهد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الحاجة في الصلاة حتى نزلت هذه الآية وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فأمرنا بالسكوت «٢».
وقيل: أصل القنوت في اللغة: الدوام على الشيء، فكل معنى يناسب الدوام يصح إطلاق القنوت عليه. وقد ذكر أهل العلم أن للقنوت ثلاثة عشر معنى، ذكر ذلك الشوكاني في «نيل الأوطار». والمتعين هنا حمل القنوت على السكوت للحديث المذكور.
وقد اختلفت الأحاديث في القنوت المصطلح عليه: هل هو قبل الركوع أو بعده؟
وهل هو في جميع الصلوات أو بعضها؟ وهل هو مختص بالنوازل أم لا؟ والراجح اختصاصه بالنوازل. أوضح الشوكاني ذلك في شرح المنتقى «٣». وقد أوردت جملة صالحة من ذلك في «الروضة الندية» و «مسك الختام».
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً: الخوف: هو الفزع.. والرجال: جمع رجل أو راجل من قولهم رجل الإنسان يرجل رجلا إذا عدم المركوب، ومشى على قدميه فهو رجل وراجل. يقول أهل الحجاز: مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا حكاه ابن جرير الطبري وغيره. لما ذكر الله سبحانه الأمر بالمحافظة على الصلوات ذكر حالة الخوف وأنهم يصنعون فيها ما يمكنهم ويدخل تحت طوقهم من المحافظة على الصلوات بفعلها حال الترجل والركوب كيف كانت.
وأبان لهم أن هذه العبادة لازمة في كل الأحوال بحسب الإمكان.
وقد اختلف أهل العلم في حد الخوف المبيح لذلك والبحث مستوفى في كتب الفروع.
(١) أخرجه البخاري في الصحيح [٢/ ٤٨٩] ح [١٠٠٢] ومسلم في الصحيح ح [٢٩٧] و [٥٣٩] وأحمد في المسند [٤/ ٣٦٨] وأبو داود في السنن ح [٩٤٩] والترمذي في السنن ح [٤٠٥]. [.....]
(٢) أخرجه مسلم في الصحيح ح [٥٣٩] والبخاري في الصحيح [٨/ ١٩٨] ح [٤٥٣٤].
(٣) شرح المنتقى [٢/ ٣٩٣].
109
ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗ ﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛ ﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙ ﳿ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ
فَإِذا أَمِنْتُمْ: أي زال خوفكم فارجعوا إلى ما أمرتم به من إتمام الصلاة مستقبلين القبلة قائمين بجميع شروطها وأركانها، وهو قوله فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ: أي مثل ما علمكم من الشرائع ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩) والكاف صفة لمصدر محذوف: أي ذكرا كائنا كتعليمه إياكم ومثل تعليمه إياكم، وفيه إشارة إلى إنعام الله تعالى علينا بالعلم، ولولا تعليمه إيانا لم نعلم شيئا، فله الحمد كما يليق.
[الآية الحادية والخمسون]
وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١).
قد اختلف المفسرون في هذه الآية: فقيل: هي المتعة وإنها واجبة لكل مطلقة، وقيل: إن هذه الآية خاصة بالثيبات اللواتي قد جومعن، لأنه قد تقدم قبل هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهنّ الأزواج وقد قدمنا الكلام على هذه المتعة والخلاف في كونها خاصة بمن طلقت قبل البناء والفرض أو عامة للمطلقات.
وقيل: إن هذه الآية شاملة للمتعة الواجبة وهي متعة المطلقة قبل البناء والفرض، وغير الواجبة وهي متعة سائر المطلقات فإنها مستحبة فقط. وقيل: المراد بالمتعة هنا النفقة.
[الآية الثانية والخمسون]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤).
أي من جيد ما كسبتم ومختاره، كذا قال الجمهور.
وقال جماعة: إن معنى الطيبات هنا الحلال، ولا مانع من اعتبار الأمرين جميعا لأن جيد الكسب ومختاره إنما يطلق على الحلال عند أهل الشرع وإن أطلقه أهل اللغة على ما هو جيد في نفسه حلالا كان أو حراما، فالحقيقة الشرعية مقدّمة على اللغوية.
قيل: وفيه دليل على إباحة الكسب.
وأخرج البخاري عن المقدام مرفوعا: «ما أكل أحد طعاما [قطّ] خيرا من أن يأكل من عمل يده» «١».
وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي من طيباتها، وحذف لدلالة ما قبله عليه وهي النباتات والمعادن والركاز. وظهر الآية وجوب الزكاة في كل ما خرج من الأرض وخصه الشافعي بما يزرعه الآدميون ويقتات اختيارا وقد بلغ نصابا. وثمر النخل وثمر العنب.
وتفصيل المذاهب في كتب الفروع.
وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ أي لا تقصدوا المال الرديء. وفي الآية أمر بإنفاق الطيب والنهي عن إنفاق الخبيث. وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن الآية في الصدقة المفروضة، وذهب آخرون إلى أنها تعمّ صدقة الفرض والتطوع، وهو الظاهر. وتقدم الظرف «٢» في قوله: مِنْهُ تُنْفِقُونَ يفيد التخصيص: أي لا تخصصوا الخبيث بالإنفاق قاصرين له عليه.
وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ: أي والحال أنكم لا تأخذونه في معاملاتكم في وقت من الأوقات. هكذا بيّن معناه الجمهور وقيل: معناه لستم بآخذيه لو وجدتموه في السوق يباع.
إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ أغمض الرجل في أمر كذا إذا تساهل ورضي ببعض حقه وتجاوز وغمض بصره عنه.
[الآية الرابعة والخمسون]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥).
الربا في اللغة: الزيادة مطلقا، وفي الشرع يطلق على شيئين: على ربا الفضل وربا النسيئة حسب ما هو مفصل في كتب الفروع.
(١) أخرجه البخاري في الصحيح [٤/ ٣٠٣] ح [٢٠٧٢].
(٢) جاء في المطبوع [الظروف] والتصحيح من فتح القدير [١/ ٢٨٩].
وغالب ما كانت تفعله الجاهلية إذا حلّ أجل الدين قال من هو له، لمن هو عليه:
أتقضي أم تربي؟ فإذا لم يقض زاد مقدارا في المال الذي عليه وأخر له الأجل إلى حين.
وهذا حرام بالاتفاق. ومعنى الآية أن الله أحل البيع وحرّم نوعا من أنواعه وهو المشتمل على الربا.
والبيع مصدر باع يبيع: أي دفع عوضا وأخذ معوّضا، وقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم ذنب الربا منها حديث عبد الله بن مسعود عند الحاكم- وصححه- والبيهقي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه! وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم» «١». وورد هذا المعنى- مع اختلاف العدد- عن جمع من الصحابة منهم عبد الله بن سلام وكعب وابن عباس. وتمام الكلام في هذا المرام في شرحنا لبلوغ المرام فليرجع إليه.
[الآية الخامسة والخمسون]
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩).
وَإِنْ تُبْتُمْ أي من الربا فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ تأخذونها لا تَظْلِمُونَ غرماءكم بأخذ الزيادة وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) أنتم من قبلهم بالمطل والنقص. وفي هذا دليل على أن أموالهم- مع عدم التوبة- حلال لمن أخذها من الأئمة ونحوهم، وقد دلت الآية التي قبلها أعني قوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر. ولا خلاف في ذلك.
[الآية السادسة والخمسون] وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠).
لما حكم سبحانه لأهل الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال، حكم في ذوي العسرة بالنظرة إلى اليسار.
(١) [صحيح] أخرجه الحاكم في المستدرك [٢/ ٣٦] انظر صحيح الجامع ح [٩٥٣٩].
والعسرة: ضيق الحال من جهة عدم المال، ومنه جيش العسرة.
والنظرة: التأخير.
والميسرة: مصدر بمعنى اليسر، وارتفع «ذو» بكان التامة التي بمعنى وجد. وهذا قول سيبويه وأبي علي الفارسي وغيرهما، وفي مصحف أبيّ: إن كان ذا عسرة على معنى وإن كان المطلوب ذا عسرة، وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا، وعلى من قرأ ذو فهي عامة في جميع من عليه دين. وإليه ذهب الجمهور.
وَأَنْ تَصَدَّقُوا على معسري غرمائكم بالإبراء خَيْرٌ لَكُمْ وفيه الترغيب لهم بأن يتصدقوا برؤوس أموالهم كلها أو بعض منها على من أعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره. قاله السّدي وابن زيد والضحاك.
وقال آخرون: معنى الآية وأن تصدقوا على الغني والفقير خير لكم، والصحيح الأول. وليس في الآية مدخل للغني.
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠)، جوابه محذوف: أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتم به. وقد وردت أحاديث صحيحه في «الصحيحين» وغيرهما في الترغيب لمن له دين على معسر أن ينظره.
[الآية السابعة والخمسون]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ
113
عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢).
هذا شروع في بيان حال المداينة الواقعة بين الناس بعد بيان حال الربا: أي إذا داين بعضكم بعضا وعامله بذلك سواء كان معطيا أو آخذا.
والدين: عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة نسيئة.
وإن العين: عند العرب ما كان حاضرا، والدين ما كان غائبا.
وقد بين الله سبحانه هذا المعنى بقوله: إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وقد استدل به على أن الأجل المجهول لا يجوز، وخصوصا أجل السلم.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم» «١». وقد قال بذلك الجمهور واشترطوا توقيته بالأيام أو الأشهر أو السنين.
قالوا: ولا يجوز إلى الحصاد أو الدياس أو رجوع القافلة أو نحو ذلك، وجوزه مالك.
فَاكْتُبُوهُ: أي الدين بأجله بيعا كان أو سلما أو قرضا، لأنه أرفع للنزاع وأقطع للخلاف.
وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ هو بيان لكيفية الكتابة المأمور بها. وظاهر الأمر الوجوب وبه قال عطاء والشعبي وغيرهما، وأوجبوا على الكاتب أن يكتب إذا طلب منه ذلك، ولم يوجد كاتب سواه، وقيل: الأمر للندب. وبه قال الجمهور.
بِالْعَدْلِ صفة لكاتب أي كاتب كائن بالعدل: أي يكتب بالسوية لا يزيد ولا ينقص ولا يميل إلى أحد الجانين، وهو أمر للمداينين باختيار كاتب متصد بهذه الصفة لا يكون في قلبه ولا قلمه هوادة لأحدهما على الآخر بل يتحرى الحق بينهم والمعدلة فيهم.
(١) [متفق عليه] أخرجه البخاري في الصحيح [٤/ ٤٢٨] ح [٢٢٣٩] و [٢٢٤٠] و [٢٢٤١] و [٢٢٥٣] ومسلم في الصحيح ح [١٦٠٤].
114
وَلا يَأْبَ كاتِبٌ النكرة في سياق النفي مشعرة بالعموم: أي لا يمتنع أحد من الكتاب أَنْ يَكْتُبَ كتاب التداين كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ: أي على الطريقة التي علمه الله من الكتابة أو كما علمه الله بقوله العدل.
فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ: الإملال والإملاء لغتان: الأولى لغة أهل الحجاز وبني أسد، والثانية لغة بني تميم. فهذه الآية جاءت على اللغة الأولى. وجاء على اللغة الثانية قوله تعالى: فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٥) [الفرقان: ٥].
الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ: هو من عليه الدين أمره الله تعالى بالإملاء، لأن الشهادة إنما تكون على إقراره بثبوت الدين في ذمته، وأمره الله بالتقوى فيما يمليه على الكاتب، وبالغ في ذلك بالجمع بين الاسم والوصف في قوله: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ، ونهاه عن البخس وهو النقص بقوله: يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً وقيل: إنه نهي للكاتب، والأول أولى لأن من عليه الحق هو الذي يتوقع منه النقص ولو كان نهيا للكاتب لم يقتصر في نهيه عن النقص لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص.
فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ إظهار في مقام الإضمار لزيادة الكشف والبيان.
سَفِيهاً هو الذي لا رأي له في حسن التصرف فلا يحسن الأخذ ولا الإعطاء شبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج. وبالجملة فالسفيه هنا هو المبذر إما بجهله بالتصرف أو لتلاعبه بالمال عبثا مع كونه لا يجهل الصواب. وقيل: هو الطفل الجاهل بالإملاء.
أَوْ ضَعِيفاً وهو الشيخ الكبير أو الصبي. قال أهل اللغة: الضعف بضم الضاد في البدن، وبفتحها في الرأي أو الذي لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ أي لخرس أو لعيّ أو حبس أو غيبة لا يمكنه الحضور عند الكتب فالمراد الذي لا يقدر على التعبير كما ينبغي.
وقيل: إن الضعيف هو المذهول «١» العقل الناقص الفطنة العاجز عن الإملاء، والذي لا يستطيع أن يمل هو الصغير.
فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ: الضمير عائد إلى الذي عليه الحق: فيمل عن السفيه وليه
(١) جاء في المطبوع [المدخول] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/ ٣٠٠].
115
المنصوب عنه بعد حجره عن التصرف في ماله، ويمل عن الصبي وصيه أو وليه وكذلك يمل عن العاجز الذي لا يستطيع الإملال لضعفه وليّه لأنه في حكم الصبي أو المنصوب عنه من الإمام أو القاضي. ويمل عن الذي لا يستطيع وكيله إذا كان صحيح العقل وعرضت له آفة في لسانه، أو لم تعرض ولكنه جاهل لا يقدر على التعبير كما ينبغي.
وقال الطبري «١» الضمير في قوله: وَلِيُّهُ يعود إلى الحق وهو ضعيف جدا.
قال القرطبي في «تفسيره» «٢» وتصرف السفيه المحجور عليه دون وليه فاسد إجماعا مفسوخ «٣» أبدا لا يوجب حكما ولا يؤثر شيئا، فإن تصرف سفيه ولا حجر عليه ففيه الخلاف.
وَاسْتَشْهِدُوا والاستشهاد: طلب الشهادة، وتسمية الكاتبين شَهِيدَيْنِ قبل الشهادة من المجاز: الأول أي باعتبار ما يؤول إليه أمرهما من الشهادة. ومِنْ رِجالِكُمْ متعلق بقوله: وَاسْتَشْهِدُوا أي من المسلمين، فيخرج الكفار. ولا وجه لخروج العبيد من هذه الآية فهم- إذا كانوا مسلمين- من رجال المسلمين. وبه قال شريح وعثمان البتي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور.
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وجمهور العلماء لا تجوز شهادة العبد لما يلحقه من نقص الرق.
وقال الشعبي والنخعي: تصح في الشيء اليسير دون الكثير.
واستدل الجمهور على عدم جوازها بأن الخطاب في هذه الآية مع الذين يتعاملون بالمداينة والعبيد لا يملكون شيئا تجري فيه المعاملة. ويجاب عن هذا بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وأيضا العبد تصح منه المداينة وسائر المعاملات إذا أذن له مالكه بذلك.
وقد اختلف الناس: هل الإشهاد واجب أو مندوب؟ فقال أبو موسى الأشعري
(١) تفسير الطبري [٣/ ١٢٢].
(٢) تفسير القرطبي [٣/ ٣٨٩].
(٣) جاء في المطبوع [منسوخ] بدلا من [مفسوخ] وهو خطأ والصواب ما أثبتناه من تفسير القرطبي [٣/ ٣٨٩].
116
وابن عمر والضحاك وعطاء وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد ومجاهد وداود بن علي الظاهري وابنه: إنه واجب، ورجحه ابن جرير الطبري «١».
وذهب الشعبي والحسن ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنه مندوب، وهذا الخلاف بين هؤلاء هو في وجوب الإشهاد على البيع، واستدل الموجبون بقوله تعالى وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ولا فرق بين هذا الأمر وبين قوله: وَأَشْهِدُوا فيلزم القائلين بوجوب الإشهاد في البيع أن يقولوا بوجوبه في المداينة فَإِنْ لَمْ يَكُونا: أي الشهيدان رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ: أي فليشهد رجل وَامْرَأَتانِ أو فرجل وامرأتان يكفون مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ: أي دينهم وعدالتهم.
وفيه أن المرأتين في الشهادة برجل، وأنها لا تجوز شهادة النساء إلا مع الرجل لا وحدهن، إلا فيما لا يطلع عليه غيرهن للضرورة.
واختلفوا: هل يجوز الحكم بشهادة امرأتين مع يمين المدعي كما جاز الحكم برجل مع يمين المدعي؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه يجوز ذلك لأن الله سبحانه قد جعل المرأتين كالرجل في هذه الآية، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يجوز ذلك.
وهذا يرجع إلى الخلاف في الحكم بشاهد مع يمين المدعي.
والحق أنه جائز لورود الدليل عليه وهو زيادة لم تخالف ما في الكتاب العزيز فيتعين قبولها. وقد أوضح ذلك الشوكاني رحمه الله في شرحه للمنتقى وغيره من مؤلفاته.
ومعلوم عند كل من يفهم أنه ليس في هذه الآية ما يردّ به قضاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالشاهد واليمين ولم يدفعوا هذا إلا بقاعدة مبنية على شفا جرف هار هي قولهم: إن الزيادة على النص نسخ! وهذه دعوى باطلة بل الزيادة على النص شريعة ثابتة جاءنا بها من جاءنا بالنص المتقدم عليها. وأيضا كان يلزمهم ألا يحكموا بنكول المطلوب ولا بيمين الرد على الطالب وقد حكموا بها، والجواب الجواب.
وقد أوضحنا حكم الزيادة على النص في رسالتنا المسماة ب «حصول المأمول من علم الأصول» وبسطنا الكلام على مسئلة القضاء بالشاهد واليمين في «مسك الختام»
(١) تفسير الطبري [٣/ ١٣٤].
117
فليرجع إليهما.
أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما: قال أبو عبيد معنى تضل تنسى: أي لنقص العقل والضبط.
والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء. وقرأ حمزة: أَنْ تَضِلَّ بكسر الهمزة وقوله: فَتُذَكِّرَ جوابه على هذه القراءة وعلى قراءة الجمهور هو منصوب بالعطف على تضل، ومن رفعه فعلى الاستئناف.
وقراءة ابن كثير وأبو عمرو «١» (فتذكر) بتخفيف الذال والكاف ومعناه تزيدها ذكرا.
وقراءة الجماعة بالتشديد: أي تنبيها إذا غفلت ونسيت.
وهذه الآية تعليل لاعتبار العدد في النساء، أي فليشهد رجل ولتشهد امرأتان عوضا عن الرجل الآخر لأجل أن تذكر إحداهما الأخرى إذا ضلت. وعلى هذا فيكون في الكلام حذف وهو سؤال سائل عن وجه اعتبار امرأتين عوضا عن الرجل الواحد فقيل:
وجهه أن تضل إحداهما فتذكرها الأخرى، العلة في الحقيقة هي التذكير، ولكن الضلال لما كان سببا له نزل منزلته، [وأبهم] «٢» الفاعل في تضل وتذكر لأن كلا منهما يجوز عليه الوصفان. فالمعنى إن ضلت هذه ذكرتها هذه وإن ضلت هذه ذكرتها هذه لا على التعيين.
وإنما اعتبر فيهما هذا التذكير لما يلحقهما من ضعف النساء بخلاف الرجال.
وقد يكون الوجه في الإبهام أن ذلك- يعني الضلال والتذكير- يقع بينهما متناوبا حتى ربما ضلت هذه عن وجه وضلت تلك عن وجه آخر، فذكرت كل واحدة منهما صاحبتها.
وقال سفيان بن عيينة معنى قوله: فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى تصيرها ذكرا يعني أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد. وروي نحوه عن أبي عمرو بن العلاء، ولا شك أن هذا باطل لا يدل عليه شرع «٣» ولا لغة ولا عقل.
وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا: أي لأداء الشهادة التي قد تحملوها من قبل وقيل: إذا ما دعوا لتحمل الشهادة. وتسميتهم شهداء مجاز كما تقدم، وحملها الحسن على
(١) جاء في المطبوع [عمر] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/ ٣٠٢].
(٢) جاء في المطبوع [اسم] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/ ٣٠٢].
(٣) جاء في المطبوع [شرح] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/ ٣٠٢]. [.....]
118
المعنيين. وظاهر هذا النهي أن الامتناع من أداء الشهادة حرام.
وَلا تَسْئَمُوا: أي لا تملوا أيها المؤمنون أو المتعاملون أو الشهود أَنْ تَكْتُبُوهُ: أي الذي تداينتم به. وقيل: الحق، وقيل: الشاهد، وقيل: الكتاب. نهاهم الله سبحانه عن ذلك لأنهم ربما ملوا من كثرة المداينة أن يكتبوا ثم بالغ في ذلك فقال:
صَغِيراً أَوْ كَبِيراً: أي لا تملوا من الكتابة في حال من الأحوال سواء كان الدين كثيرا أو قليلا. وقدم الصغير هنا على الكبير للاهتمام به ولدفع ما عساه أن يقال إن هذا مال صغير: أي قليل لا احتياج إلى كتبه. إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ: أي المكتوب المذكور في ضمير قوله: أَنْ تَكْتُبُوهُ.
أَقْسَطُ: أي أعدل وأحفظ وأصح عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ أي أعون على إقامة الشهادة وأثبت لها وهو مبني من أقام وكذلك أقسط مبني من فعله أقسط. وقد صرح سيبويه بأنه قياسي أي بني أفعل التفضيل وَأَدْنى: أي أقرب إلى أَلَّا تَرْتابُوا: أي لنفي الريب والشك في معاملتكم. وذلك أن الكتاب الذي تكتبونه يدفع ما يعرض لهم «١» من الريب كائنا ما كان إِلَّا أَنْ تَكُونَ: أن في موضع نصب على الاستثناء، قاله الأخفش. وكان تامة: أي إلا أن يقع أو يوجد تِجارَةً والاستثناء منقطع أي لكن وقت تبايعكم وكون تجارتكم حاضِرَةً بحضور المدلين تُدِيرُونَها الإدارة: التعاطي والتقابض فالمراد والتبايع الناجز يدا بيد فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها: أي فلا حرج عليكم إن تركتم كتابته. وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ هذا التبايع المذكور هنا وهو التجارة الحاضرة على أن الإشهاد فيها يكفي- كذا قيل، وقيل: معناه إذا تبايعتم أي تبايع كان- حاضرا أو كماليا- لأن ذلك أدفع لمادة الخلاف وأقطع لمنشأ الشجار من غيره وقد تقدم قريبا ذكر الخلاف في كون هذا الإشهاد واجبا أو مندوبا.
وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل أو للمفعول، فعلى الأول معناه: لا يضار كاتب ولا شهيد من طلب ذلك منهما، إما بعدم الإجابة أو بالتحريف والتبديل والزيادة والنقصان في كتابته. ويدل على هذا قراءة عمر بن الخطاب وابن عباس وابن أبي إسحاق. ولا يضارر بكسر الراء الأولى، وعلى الثاني المعنى لا يضار كاتب ولا شهيد بأن يدعيا إلى ذلك وهما مشغولان بمهمّ لهما ويضيق عليهما في
(١) جاء في المطبوع [بالعرض لكم] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/ ٣٠٢].
119
الإجابة ويؤذيا إن حصل منهما التراخي «١» أو يطلب منهما الحضور من مكان بعيد.
ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود ولا يضارر بفتح الراء الأولى، وصيغة المفاعلة تدل على اعتبار الأمرين جميعا وَإِنْ تَفْعَلُوا ما نهيتم عنه من المضارة فَإِنَّهُ: أي فعلكم هذا فُسُوقٌ: أي خروج عن الطاعة إلى المعصية متلبس بِكُمْ.
[الآية الثامنة والخمسون] وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣).
لما ذكر سبحانه مشروعية الكتاب والإشهاد لحفظ الأموال ودفع الريب عقب ذلك بذكر حالة العذر عن وجود الكاتب ونص على حالة السفر فإنها من جملة أصحاب العذر ويلحق بذلك كل عذر يقوم مقام السفر وجعل البرهان المقبوضة قائمة مقام الكتابة: أي فإن كنتم مسافرين وَلَمْ تَجِدُوا كاتبا في سفركم فَرِهانٌ: قال أهل العلم: الرهن في السفر ثابت بنص التنزيل، وفي الحضر بفعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كما ثبت في الصحيحين أنه رهن درعا له عند يهودي «٢» وذهب الجمهور إلى اعتبار القبض، كما أفاده قوله مَقْبُوضَةٌ. وذهب مالك إلى أنه يصح الارتهان بالإيجاب والقبول من دون قبض.
وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ: نهي للشهود أن يكتموا ما تحملوه من الشهادة إذا دعوا لإقامتها وهو في حكم التفسير لقوله: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ أي لا يضار بكسر الراء الأولى على أحد التفسيرين المتقدمين وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ خص القلب بالذكر لأن الكتم من أفعاله، ولكونه رئيس الأعضاء وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد كله.
وإسناد الفعل إلى الجارحة التي تعمله أبلغ، وهو صريح في مؤاخذة الشخص
(١) جاء في المطبوع [التراض] وهو خطأ والتصحيح من فتح القدير [١/ ٣٠٣].
(٢) أخرجه مسلم في الصحيح ح [١٦٠٣] والبخاري في الصحيح [٥/ ١٤٢]. ح [٢٥٠٩].
120
بأعمال قلبه وارتفاع القلب على أنه فاعل أو مبتدأ وآثم خبره- على ما تقرر في علم النحو- ويجوز أن يكون قلبه بدلا من آثم بدل البعض من الكل. ويجوز أيضا أن يكون بدلا من الضمير الذي في آثم الراجع إلى من. وقرىء قلبه بالنصب كما في قوله إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ.
وأخرج البخاري في «تاريخه» وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن ماجة وأبو نعيم والبيهقي عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ- حتى بلغ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً قال هذه نسخت ما قبله.
قال الشوكاني في «فتح القدير» «١» أقول: رضي الله عن هذا الصحابي الجليل ليس هذا من باب النسخ فهذا مقيد بالائتمان وما قبله مع عدمه. فعلى هذا هو ثابت محكم لم ينسخ. انتهى.
أقول: الأحق هو التطبيق والتأويل مهما أمكن دون القول بالنسخ وإلغاء أحد الحكمين كما حققت ذلك في «إفادة الشيوخ بمقدار الناسخ والمنسوخ». أخرج ابن جرير بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين.
(تمت آيات البقرة الشرعية غير المنسوخة بالضرورة).
(١) فتح القدير [١/ ٣٠٥].
121
Icon