تفسير سورة طه

إعراب القرآن و بيانه
تفسير سورة سورة طه من كتاب إعراب القرآن وبيانه المعروف بـإعراب القرآن و بيانه .
لمؤلفه محيي الدين الدرويش . المتوفي سنة 1403 هـ

(٢٠) سورة طه مكيّة وآياتها خمس وثلاثون ومائة
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨)
اللغة:
(الْعُلى) : ويجوز كتابتها بالياء والألف لأن الفعل علا يعلو وعلي يعلى وهي المرتبة والرفعة وقال السيوطي وأبو البقاء: هي جمع عليا ككبرى وكبر فكتبت بالياء.
(اسْتَوى) : لها في اللغة معان كثيرة قال في القاموس: «استوى الشيء اعتدل واستقام يقال: سويت الشيء فاستوى واستوى الرجل:
161
استقام أمره وانتهى شبابه وبلغ أشده، واستوى عليه: ظهر واستولى واستوى على ظهر الدابة استقر، يقال: استوى على سرير الملك كناية عن التملك واستوى الى الشيء قصده واستوت به الأرض هلك ودفن فيها واستوى الطعام نضج. وأصل الفعل الثلاثي سوي يسوى سوى الرجل: استقام أمره.
وقال في الأساس: «استوى الشيئان وتساويا وساوى أحدهما صاحبه وفلان يساويك في العلم وساوى بين الشيئين وسوّى بينهما وساويت هذا بهذا وسويته قال الراعي:
بجرد عليهنّ الأجلّة سوّيت بضيف الشتاء والبنين الأصاغر
أي يصونها صيانة الضيوف والأطفال وسويت المعوج فاستوى ورزقك الله تعالى ولدا سويا لا داء به ولا عيب وهما على سوية من الأمر وسواء وفيه النصفة والسوية وهما سواء وهم سواسية في الشر وأنتما سيان وما هو بسيّ لك وفعل القوم كذا ولا سيما زيد ومكان سوى: وسط بين الحدين وجاءوا سوى فلان وسواءه «فرآه في سواء الجحيم»
في وسطها وضرب سواءه وسطه وضربه على مستوى مفرقه قال بعض بني أزنم:
نحن من خير معدّ نسبا ولنا قدما على الناس المهل
إذ ضربنا الصّمة الخير على مستوى مفرقه حتى انجدل
ورجل سواء القدم: مستويها ليس لها أخمص، ومن المجاز:
إذا صليت الفجر استويت إليك قصدتك قصدا لا ألوي على شيء
162
«ثم استوى الى السماء» واستوى على الدابة والفراش والسرير وانتهى شبابه واستوى واستوى على البلد» وسيأتي المراد به في الآية في باب البلاغة.
(الثَّرى) : في المصباح: «الثرى وزان الحصى ندى الأرض، وأثرت الأرض بالألف كثر ثراها والثرى أيضا: التراب الندي فإن لم يكن نديا فهو تراب ولا يقال له حينئذ ثرى» وفيه أيضا: «نديت الأرض ندى من باب تعب فهي ندية مثل تعبة ويعدّى بالهمز والتضعيف وأصابها نداوة وندوة بالضم والتثقيل» وفي الأساس واللسان وغيرهما: «شهر ثرى، وشهر ترى، وشهر مرعى أي تكون الأرض ندية أولا ثم ترى الخضرة ثم يطول النبات حتى يصلح للراعية وثرى المطر التراب يثريه وهو مثري وثري التراب فهو ثرّ وثرّيت التراب نديته وثرّيت السويق».
(وَأَخْفى) سيأتي الكلام فيها في باب الإعراب.
الإعراب:
(طه) تقدم القول في فواتح السور واعرابها. (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) ما نافية وأنزلنا فعل وفاعل وعليك متعلقان بأنزلنا والقرآن مفعول به ولتشقى اللام للتعليل وتشقى فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وسيأتي المراد بالشقاء في باب الفوائد.
(إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) إلا أداة حصر وتذكرة مفعول لأجله والاستثناء منقطع، قال أبو البقاء ولا يجوز أن يكون مفعولا من أجله لأنزلنا المذكورة لأنها قد تعدت الى مفعول له وهو لتشقى فلا تتعدى الى آخر من جنسه ولا يصح أن يعمل فيها لتشقى لفساد المعنى، وقيل تذكرة
163
مصدر في موضع الحال واختار الزمخشري أن تكون تذكرة مفعولا لأجله قال: «وكل واحد من لتشقى وتذكرة علة للفعل إلا أن الأول وجب مجيئه مع اللام لأنه ليس لفاعل الفعل المعلل ففاتته شريطة الانتصاب على المفعولية والثاني جاز قطع اللام عنه ونصبه لاستجماع الشرائط» وعلى هذا جرى معظم المعربين والمفسرين، قال الكرخي في تعليقه على عبارة الجلال السيوطي: «أشار الى أن الاستثناء منقطع وأن تذكرة مفعول من أجله والعامل أنزلناه المقدر لا المذكور وكل واحد من لتشقى وتذكرة علة لقوله ما أنزلنا وتعدى في لتشقى باللام لاختلاف العامل لأن ضمير أنزلنا لله وضمير لتشقى للنبي فلم يتحد الفاعل واتحد في تذكرة لأن المذكر هو الله تعالى وهو المنزل فنصب بغير لام» وأنكر أبو علي الفارسي أن يكون مفعولا لأجله أو بدلا من لتشقى قال وانما هو منصوب على المصدرية أي أنزلناه لتذكر به تذكرة، وإنما أوردنا هذه الأقوال على تباينها وتدافعها لأننا لم نستطع الترجيح بينها.
(تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) مفعول مطلق لفعل محذوف وتقديره نزلناه تنزيلا فحذف وجوبا على حد قول ابن مالك:
والحذف حتم مع آت بدلا من فعله كندلا اللذ كاندلا
وأجاز الزمخشري فيه وجوها كلها واردة فقال «في نصب تنزيلا وجوه: أن يكون بدلا من تذكرة إذا جعل حالا لا إذا كان مفعولا له لأن الشيء لا يعلل بنفسه وأن ينصب بنزل مضمرا وأن ينصب بأنزلنا لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرة أنزلناه تذكرة، وأن ينصب على المدح والاختصاص، وأن ينصب بيخشى مفعولا به أي أنزله الله تذكرة لمن يخشى تنزيل الله وهو معنى حسن واعراب بين» وممن متعلقان بتنزيلا وجملة خلق الأرض والسموات صلة والعلى صفة. (الرَّحْمنُ
164
عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)
الرحمن خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو أو مبتدأ وعلى العرش متعلقان باستوى وجملة استوى خبر ثان ل «هو» المقدرة أو خبر الرحمن وسيأتي معنى الاستواء على العرش في باب الفوائد.
(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) له خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وفي السموات صلة وما في الأرض عطف على ما في السموات وما بينهما كذلك وما عطف على ما وتحت الثرى ظرف متعلق بمحذوف صلة ما. (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) الواو استئنافية مسوقة لبيان شرع الله تعالى في دعائه وان شرطية وتجهر فعل الشرط وفاعله مستتر تقديره أنت وبالقول جار ومجرور متعلقان بتجهر فإنه الفاء رابطة لأن الجواب جملة اسمية وان واسمها وجملة يعلم السر خبرها وأخفى عطف على السر أي أخفى منه فهو اسم تفضيل من خفي بمعنى استتر وغاب وأجاز بعضهم أن يكون فعلا ماضيا أي وأخفى الله عن عباده غيبه وعندنا أن ذلك غير جائز لأنه من جهة اللفظ يلزم منه عطف الفعلية على الاسمية إن كان المعطوف عليه هو الجملة الكبرى أو عطف الماضي على المضارع إن كان المعطوف عليه الجملة الصغرى وكلاهما دون الأحسن ومن جهة المعنى واضح أن المقصود الحض على ترك الجهر بإسقاط فائدته من حيث إن الله يعلم السر وما هو أخفى منه فكيف يبقى للجهر فائدة وكلاهما على هذا التأويل مناسب لترك الجهر وأما إذا جعل فعلا فيخرج عن مقصود السياق، واعلم أنهم قد يحذفون من من افعل إذا أريد به التفضيل ومعنى الفعل وهم يريدونها فتكون كالمنطوق بها نحو زيد أكرم وأفضل فلم تأت بألف ولام كما لم تأت بها مع من لأن الموجود حكما كالموجود لفظا أي: يعلم السرّ وأخفى منه والذي يدل على ارادة من أن أخفى لا ينصرف كما لا ينصرف آخر من قولك مررت برجل آخر إذا أردت من معه وإن لم تذكره وانما
165
نكره للمبالغة في الخفاء. (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الله مبتدأ وجملة لا إله إلا هو الاسمية خبر وقد تقدم اعراب لا إله إلا هو مفصلا وله خبر مقدم والأسماء مبتدأ مؤخر والحسنى صفة للأسماء والجملة خبر ثان. ومعلوم أن جمع التكسير في غير العقلاء يعامل معاملة المؤنثة الواحدة.
الفوائد:
١- روى التاريخ: ان أبا جهل والنضر بن الحارث قالا له:
إنك شقي لأنك تركت دين آبائك فأريد رد ذلك بأن دين الإسلام وهذا القرآن هو السلّم الى نيل كل فوز والسبب في ادراك كل سعادة وما فيه الكفرة هو الشقاوة بعينها وروي انه عليه الصلاة والسلام صلى بالليل حتى اسمغدّت قدماه أي تورمت كما في الصحاح فقال له جبريل عليه السلام أبق على نفسك فإن لها عليك حقا ويحتمل أن يراد لا تتعب نفسك بفرط أسفك على كفر قريش إذ ما عليك إلا البلاغ، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا بعد ان لم تفرط في أداء الرسالة وإسداء الموعظة الحسنة. والشقاء يجيء في معنى التعب قال ابن كيسان: «وأصل الشقاء في اللغة العناء والتعب ومنه قول المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
٢- الاستثناء المنقطع:
استثناء الشيء من غير جنسه لا معنى له ولا مورد من ذلك فليست فيه «إلا»
للاستثناء على سبيل الأصل وانما هي بمعنى «لكن» وهو
166
ما يسونه «الاستثناء المنقطع» ومع ذلك فلا بد من الارتباط بين المستثنى منه والمستثنى ومن ذلك قوله تعالى «ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى» أي لكن أنزلناه تذكرة فتذكرة مستثنى من المصدر المؤول من تشقى بأن المضمرة بعد لام التعليل لأن المعنى ما أنزلنا القرآن لشقائك.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩ الى ١٦]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦)
اللغة:
(آنَسْتُ) : أبصرت والإيناس الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ومنه إنسان العين لأنه يبصر به الأشياء وقال جرير:
167
إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله إنسانا
وفي قوله إنسانا تورية بديعة.
(بِقَبَسٍ) : القبس: الجذوة من النار.
(طُوىً) : اسم علم للوادي ويقرأ بغير تنوين على أنه معرفة مؤنث علم للبقعة وقيل هو معدول وإن لم يعرف لفظ المعدول عنه فكأن أصله طاوي فهو في ذلك كجمع وكتع وقال في القاموس: «وطوى بالضم والكسر وينون واد بالشام» وقال علماء النحو: وأما طوى فمن منع صرفه فالمعتبر فيه التأنيث باعتبار البقعة لا العدل عن طاو ولأنه أي العدل قد أمكن غيره وهو التأنيث فلا وجه لتكلف العدل.
(أُخْفِيها) : سيأتي الكلام عنها في الاعراب.
(فَتَرْدى) : في المختار: ردى من باب صدى أي هلك وأرداه غيره وردى في البئر تردى يردي إذا سقط فيها أو تهور من جبل.
الإعراب:
(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) الواو للاستئناف والجملة استئنافية مسوقة لسرد قصة موسى ليتأسى به النبي ﷺ في تحمل
168
أعباء النبوة وتكاليف الرسالة والصبر على مقاساة الشدائد ومعاناة الأهوال، وأتاك فعل ومفعول به وحديث موسى فاعل والاستفهام للتقرير ومعناه أليس قد أتاك حديث موسى؟ وقيل معناه: قد أتاك حديث موسى. (إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ: امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) الظرف متعلق بالحديث لأنه حدث أو بمضمر تقديره اذكر وجملة رأى مضاف إليها الظرف ونارا مفعول به فقال عطف على رأى ولأهله متعلقان بقال وجملة امكثوا مقول القول وجملة إني تعليل للأمر بالمكوث وان واسمها وجملة آنست خبرها ونارا مفعول به. (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) لعل واسمها وجملة آتيكم خبرها ومنها متعلقان بمحذوف حال لأنه كان في الأصل صفة لقبس أو حرف عطف وأجد معطوف على آتيكم وفاعل أجد مستتر تقديره أنا وعلى النار جار ومجرور متعلقان بأجد وهي على مكانها للاستعلاء على حد قول الأعشى:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة إلى ضوء نار في يفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق
أي أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها كما قال سيبويه في مررت بزيد انه لصوق بمكان يقرب من زيد. وهدى مفعول به أي يهديني الطريق ويدلني عليها قال الفراء: أراد هاديا فذكره بلفظ المصدر أو عبر بالمصدر لقصد المبالغة على حذف المضاف أي ذا هدى.
(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى) الفاء عاطفة على محذوف والتقدير فيمم شطر النار ولما ظرفية حينية أو رابطة وأتاها فعل وفاعل مستتر ومفعول به وجملة نودي لا محل لها لأنها جواب شرط غير جازم ويا موسى حرف نداء ومنادى. (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) إن واسمها وأنا تأكيد للضمير أو مبتدأ وربك خبر إني أو خبر أنا
169
والجملة خبر إن والأول أولى، فاخلع الفاء الفصيحة واخلع فعل أمر وفاعل مستتر ونعليك مفعول به وجملة إنك تعليل للخلع وان واسمها وبالوادي خبرها والمقدس صفة وطوى بدل أو عطف بيان وقد تقدم القول في منعه من الصرف أو عدم منعه في باب اللغة. (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) الواو عاطفة وأنا مبتدأ وجملة اخترتك من الفعل والفاعل والمفعول به خبر، فاستمع الفاء عاطفة واستمع فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت ولما متعلقان باستمع وجملة يوحى صلة ويوحى بالبناء للمجهول. (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) الجملة بدل من «ما» في لما يوحى وان واسمها وأنا تأكيد للضمير أو مبتدأ والله خبر إنني أو خبر أنا والجملة خبر إن وجملة لا إله إلا أنا خبر ثان فاعبدني الفاء الفصيحة واعبدني فعل أمر وفاعل مستتر والنون للوقاية والياء مفعول وأقم الصلاة عطف على اعبدني ولذكري متعلقان بأقم وهو مصدر مضاف لمفعول أي لتذكرني فيها وقيل المصدر مضاف للفاعل أي لذكري إياك. (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) إن واسمها وخبرها وأكاد فعل مضارع ناقص من أفعال المقاربة واسمها مستتر تقديره أنا وجملة أخفيها خبر أي أريد إخفاء وقتها أو أقرب أن أخفيها فلا أقول إنها آتية ويجوز أن يراد أكاد أظهرها وفعل أخفى من الأضداد وسيرد له مزيد بحث في باب البلاغة، ولتجزى اللام للتعليل وتجزى فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وهو متعلق بأخفيها أو بآتية وجملة أكاد أخفيها اعتراضية بينهما وكل نفس نائب فاعل وبما متعلقان بتجزى وجملة تسعى صلة ويجوز أن تكون ما مصدرية أي بجزاء سعيها على حذف مضاف. (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) الفاء الفصيحة ولا ناهية ويصدنك فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد
170
وهو في محل جزم بلا الناهية والكاف مفعول به وعنها متعلقان بيصدنك ومن فاعل وجملة لا يؤمن صلة وبها متعلقان بيؤمن واتبع هواه فعل وفاعل مستتر ومفعول به فتردى الفاء فاء السببية وتردى فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد الفاء بفتحة مقدرة على الألف.
البلاغة:
فن الإبهام:
في قوله تعالى «لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً» وهو فن رفيع ينطوي على الكثير من جلائل المعاني ودقائقها وهو ضد الإيجاز وضد الاطناب وحدّه أن يأتي المتكلم الى المعنى الواحد الذي يمكنه الدلالة عليه باللفظ القليل فيدل عليه باللفظ الكثير لا لقصد إفهام البليد وسماع البعيد ولا للتقرير والتوكيد، بل للاتيان بمعنى يتشعب إلى عدة أمور كل واحد منها مستقل المفهومية فقد قال لعلي آتيكم منها بقبس ولم يبت في الأمر لئلا يعد ما ليس بمستيقن من الوفاء به وما أجملها حكمة تكون درسا للذين يكيلون الوعود جزافا ولا يفكرون في الوفاء بها ثم قال لعلي أجد على النار هدى وهذا يحتوي على معنى آخر ثم يتشعب فالهداية هي المعنى الرئيسي ثم ان الهداية قد تكون بالنار نفسها بخاصة الاضاءة الكامنة فيها وإما بواسطة القوم الذين يقومون بإيقادها ويفهم من هذا ضمنا أنه ضل مع أهله الذين يرافقونه وهم امرأته بنت شعيب وقد ولدت في الطريق ابنا في ليلة شاتية مظلمة باردة وقيل مثلجة فلما أسقط في يده آنس النار فقال ما قال ثم قد يقصد بالهداية معناها المجازي الآخر أي لعلي أهتدي بنور العلم لأن أفكار الأبرار مغمورة بالهمم فتبارك قائل هذا الكلام.
171
وفي قوله تعالى: «إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى» إبهام وهو فن عجيب يقول فيه المتكلم كلاما يحتمل معنيين متغايرين لا يتميز أحدهما عن الآخر فكلمة أخفيها أولا تعني أمورا منها:
آ- أي أكاد أخفيها فلا أقول هي آتية لفرط إرادتي إخفاءها ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به.
ب- أكاد أخفيها عن نفسي.
ثم انه جاء في بعض اللغات أخفاه بمعنى خفاه فهي من الأضداد أي أكاد أظهرها لقرب وقتها وبه فسر قول امرئ القيس:
فإن تدفنوا الداء لا نخفه وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
أي إن تكتموا الضغائن التي بيننا نكتمها نحن أيضا ولا نظهرها.
على أن أحسن محامل الآية الكريمة هو أن يكون المراد أكاد أزيل خفاءها أي أظهرها إذ الخفاء الغطاء وهو أيضا ما تجعله المرأة فوق نيابها يسترها ثم تقول العرب أخفيته إذا أزلت خفاءه كما تقول أشكيته وأعتبته إذا أزلت شكايته وعتبه.
قال أبو علي القالي: «وقال اللحياني: خفيت الشيء أخفيه خفيا وخفيا إذا استخرجته وأظهرته وأنشد لامرئ القيس:
خفاهنّ من أنفاقهنّ كأنما خفاهن ورق من سحاب مركب
قال أبو علي: وغيره يروي: من عشني مجلّب أي مصوت ويقال: اختفيت الشيء أي أظهرته وأهل الحجاز يسمون النباش
172
المختفي لأنه يستخرج أكفان الموتى وأخفيت الشيء أخفيه إخفاء إذا سترته قال الله عز وجل: «أَكادُ أُخْفِيها» وهي قراءة العامة أي أظهرها وقال أبو عبيدة: أخفيت الشيء كتمته وأظهرته ويقال دعوت الله خفية وخفية أي في خفض.
مجموعة من الاضداد في اللغة:
هذا ومن الاضداد الجلل للعظيم وللهين فمن الأول قول الشاعر:
ولئن عفوت لا عفون جللا... ولئن سطوت لأوهننّ عظمي
ومن الثاني قول امرئ القيس لما قتل أبوه:
بقتل بني أسد ربهم... ألا كل شيء سواه جلل
ومنها: غابر للذاهب والآتي، والجون للأبيض والأسود والبين للبعد والقرب، والصريم: الليل والنهار، والناصع الأبيض والأسود، والأمم للعظيم واليسير، والناهل للريان والظمآن، ووراء بمعنى قدام وخلف، وبعت الشيء إذا بعته من غيرك وبعته اشتريته، وشعبت الشيء:
أصلحته وشققته، والصارخ للمستغيث والمغيث، والهاجد للمصلي بالليل والنائم، والوهدة: الارتفاع والانحدار، والتعزير للاكرام والاهانة، والتقريظ للمدح والذم، وترب للغني والفقير، والاهماد للسرعة في السير والاقامة، وعسعس: إذا أقبل وإذا أدبر، والقرء للحيض والطهر.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٧ الى ٢٣]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣)
173
اللغة:
(أَهُشُّ) : في المصباح: هشّ الرجل هشّا من باب رد: صال بعصاه وفي التنزيل «وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي» وهش الشجرة هشا ضربها ليتساقط ورقها وهش الشيء يهش من باب تعب هشاشة لان واسترخى فهو هش وهش العود يهشّ أيضا هشوشا صار هشا سريع الكسر وهش الرجل هشاشة إذا ابتسم من بابي تعب وضرب.
(جَناحِكَ) : سيأتي تفسيرها في باب البلاغة.
الإعراب:
(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) الواو عاطفة وما اسم استفهام للتقرير مبتدأ وتلك خبره وبيمينك متعلق بمحذوف حال وهي تشبه قوله تعالى «وَهذا بَعْلِي شَيْخاً» والعامل في الحال المقدرة اسم الاشارة ويا موسى نداء فما اسم نكرة في موضع رفع بالابتداء والتقدير أي شيء تلك بيمينك وهي مبنية لتضمنها همزة الاستفهام وإنما جيء بها لضرب من الاختصار وذلك أنك إذا قلت ما بيدك فكأنك قلت: أعصا بيدك أم سيف أم خنجر ونحو ذلك مما يكون بيده وليس عليه إجابتك
174
عما بيده إذا لم تأت على المقصود فجاءوا بما وهو اسم واقع على جميع مالا يعقل مبهم فيه وضمنوه همزة الاستفهام فاقتضى الجواب من أول وهلة فكان فيه من الإيجاز ما ترى. (قالَ: هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) هي مبتدأ وعصاي خبره وجملة أتوكأ عليها حالية وقيل مستأنفة وأهش بها على غنمي عطف على أتوكأ عليها وبها متعلقان بأهش وكذلك على غنمي وتعدية أهش بعلى يفيد معنى التهويل والتخويف للغنم. (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) هذا هو الجواب الرابع الذي أجاب به موسى عن سؤال واحد وسيأتي سر ذلك في باب البلاغة ولي خبر مقدم وفيها حال ومآرب جمع مأربة بتثليث الراء مبتدأ مؤخر وأخرى صفة لمآرب، وهذه المآرب الأخرى سيرد قسم كبير منها في باب البلاغة كما يرد تلخيص مفيد لكتاب العصا للجاحظ. (قالَ: أَلْقِها يا مُوسى) جملة ألقها مقول القول ويا موسى نداء. (فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) ألقاها فعل وفاعل ومفعول به والفاء عاطفة وإذا للمفاجأة وهل هي ظرف أم حرف؟ تقدم بحث ذلك مفصلا، وهي مبتدأ وحية خبر وجملة تسعى حال أو خبر ثان وقد تقدم ذكر المسألة الزنبورية بين سيبويه والكسائي. (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) جملة خذها مقول القول والواو حرف عطف ولا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والسين حرف استقبال ونعيدها فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره نحن وسيرتها منصوب بنزع الخافض أي الى سيرتها وهذا أسهل الأعاريب وقيل هي ظرف قالوا «السيرة من السير كالركبة من الركوب يقال سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيها فنقلت الى معنى المذهب والطريقة وقيل سير الأولين فنصبت على الظرف أي سنعيدها في طريقتها الأولى» وأجاز آخرون كأبي البقاء وبه بدأ أن تكون بدل اشتمال من ضمير المفعول لأن معنى سيرتها صفتها وطريقتها
175
وأتي الزمخشري بإعراب آخر مهد له وحسنه قال «ووجه ثالث حسن وهو أن يكون سنعيدها مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية فسنعيدها بعد ذهابها كما أنشأناها أولا ونصب سيرتها بفعل مضمر أي تسير سيرتها الأولى» والأولى صفة لسيرتها على كل حال. (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى) واضمم عطف على ألقها ويدك مفعول به والفاعل مستتر تقديره أنت والى جناحك جار ومجرور متعقان باضمم وتخرج جزم لأنه جواب الطلب وبيضاء حال ومن غير سوء متعلقان ببيضاء لما فيها من معنى الفعل نحو ابيضت من غير سوء وليكون الاحتراس كاملا كما سيأتي في باب البلاغة أو متعلقان بتخرج وآية حال ثانية من فاعل تخرج أيضا وأخرى صفة لآية واختار الزمخشري وجها آخر لنصب آية وهو «بإضمار نحو خذأ ودونك وما أشبه ذلك» ولا نرى داعيا لذلك. (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) اللام للتعليل ونريك فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام وهو تعليل لمحذوف متعلق به أي أمرناك بما ذكرنا لنريك بها أي بيدك ومن آياتنا متعلقان بمحذوف على أنه حال من الكبرى وتكون الكبرى على هذا مفعولا ثانيا لنريك أو صفة للمفعول الثاني على الأصح والتقدير لنريك الآية الكبرى من آياتنا أي حال كونها من آياتنا وقيل غير ذلك وما ذكرناه أولى فلا داعي لذكره.
البلاغة:
قد تستوعب هذه الآية أجلادا ضخمة لما انطوت عليه من ضروب البلاغة وذلك ما نهدف اليه من كتابنا، ولكننا سنجتزئ بقدر الإمكان فنقول:
176
١- فن التلفيف:
في قوله تعالى «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى» الى آخر ما أجاب به موسى صلوات الله عليه من الاجوبة الاربعة فن طريف لم يرد ذكره حتى الآن وهو فن التلفيف، وحدّه إخراج الكلم مخرج التعليم بحكم أو أدب لم يرد المتكلم ذكره وانما قصد ذكر حكم خاص داخل في عموم الحكم المذكور الذي صرح بتعليمه. وهذا التعريف المطول نعتقد أنه يحتاج الى بيان وهو أن يسأل السائل عن حكم هو نوع من أنواع جنس تدعو الحاجة الى بيانها كلها أو أكثرها فيعدل المسئول عن الجواب الخاص عما سئل عنه من تبيين ذلك النوع ويجيب بجواب عام يتضمن الإبانة على الحكم المسئول عنه وعن غيره بدعاء الحاجة الى بيانه فقول موسى جوابا عن سؤال الله تعالى له «هِيَ عَصايَ»
هو الجواب الحقيقي للسؤال ثم قال: «أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى» فأجاب عن سؤال مقدر كأنه توهم أن يقال له: وما تفعل بها؟ فقال معددا منافعها ولم يقع ذلك من موسى عليه السلام إلا لأمور ثلاثة:
آ- بغية الشكر لله تعالى الذي رزقه تلك العصا التي وجد فيها من المآرب ما لا يوجد في مثلها.
ب- ان المقام مقام خطاب الحبيب وهو يقتضي البسط والإسهاب.
ح- تعظيم مساءلة ربه له عن منافعها فابتدأه بالجواب عن السؤال المقدر قبل وقوعه أدبا مع ربه.
والواقع أن السؤال إذا كان واردا على شيء ظاهر فذلك السؤال إنما يتوجه الى أمر يتعلق به بحسب مقتضى الحال وإلا كان عبثا لظهوره
177
كما إذا سألت شخصا عن لبس ثياب السفر بقولك: ما هذا الثوب؟
فإنك لا تسأل عن نفس الثوب وما هيته بل إنما سألت عن سبب لبسه فكأنك قلت: ما سبب عزيمتك؟ فجواب اللابس حينئذ أن يقول:
أريد سفر كذا ولو أجاب بأنه كتان مثلا عدّ لاغيا فكذلك هاهنا لما كان السؤال عن أمر ظاهر فيكون متوجها الى ما يتعلق بالعصا من منافعها فكأنه قال: ما تفعل بما في يمينك با موسى؟ فلذلك قال: هي عصاي أتوكأ عليها... الآية فإن قلت: لو كان قوله تعالى: وما تلك بيمينك سؤالا عما لا يتعلق بالعصا فكان حقّ الجواب أن بقول: أريد أن أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولكان قوله: هي عصاي ضائعا غير مطابق للسؤال كما في السؤال عن نبس السفر.
قلت: هذا السؤال وإن كان عما يتعلق بالعصا لكنه تعالى لما علم أنه سيرد عليها الصورة الثعبانية عند سحر السحرة وكان ذلك مقام أن يخاف موسى بمشاهدة الصورة المنكرة التي ليس يعهدها فأراد تثبيت ماهيتها وعوارضها في نفسه لئلا يدهش عند ورودها عليه فلذلك قال: ما تلك ليجيب عن ماهيتها أيضا كما يجيب عن منافعها لزيادة التثبيت فحاصل معنى الجواب حينئذ هي عصاي أعرفها بالذات والعوارض وإن صورتها مقررة في نفسي لا تنفع إلا منافع أمثالها فإني قديما أتوكأ عليها وأهش بها على عنمي ولي فيها مآرب أخرى.
واختار «تلك» مع قرب المشار اليه إما لتحقيره بالنسبة الى جناب كبريائه أو للتعظيم لاشتمالها على الأمور العجيبة والمنافع الكثيرة.
٢- التقرير:
وفيها أيضا التقرير وهو بالاستفهام فإنه سبحانه عالم بما بيمينه وإنما أراد أن يقر موسى ويعترف بكونها عصا ويزداد علمه بما يمنحه الله
178
في عصاه فلا يعتريه شك إذا قلبها الله ثعبانا بل يعرف أن ذلك كائن بقدرة الله وانه هين عليه يسير.
عصا موسى وما فيها من أقوال:
هذا وقد صنف الجاحظ كتابا سماه كتاب العصا وهو جزيل الفائدة ونورد فيما يلي أضاميم منه، فقد جمع الله لموسى بن عمران في عصاه من البرهانات العظام والعلامات الجسام ما عسى أن يفي ذلك بعلامات عدة من المرسلين قال الله تبارك وتعالى فيما يذكر في عصاه:
«إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما» الى قوله «ولا يفلح الساحر حيث أتى» فلذلك قال الحسن بن هانئ- أبو نواس- في شأن خصيب وأهل مصر حين اضطربوا عليه:
179
ألم تر أن السحرة لم يتكلفوا تغليط الناس والتمويه عليهم إلا بالعصا ولا عارضهم موسى إلا بعصاه، ألا ترى أنهم لما سحروا أعين الناس واسترهبوهم بالعصي والحبال لم يجعل الله للحبال من الفضيلة في إعطاء البرهان ما جعل للعصا؟ وقدرة الله على تصريف الحبال في الوجوه كقدرته على تصريف العصا.
ثم تحدث الجاحظ بأسلوبه العذب السمح عن الشجر ومنافعها مما تأتي الاشارة إليه في حينه، وأورد قصصا مأثورة عن الانتفاع بالعصا، وما كان لها عند العرب من شأن فأورد قصة عامر بن الظرب العدواني- حكم العرب في الجاهلية- لما أسنّ واعتراه النسيان أمر بنته «عمرة» أن تقرع بالعصا إذا هو فهّ عن الحكم وجار عن القصد وكانت من حكيمات بنات العرب، حتى جاوزت في ذلك مقدار صحر بنت لقمان، وهند بنت الخس وخمعة بنت حابس وكان يقال لعامر ذو الحلم ولذلك قال الحارث بن وعلة:
منحتكم يا أهل مصر نصيحتي ألا فخذوا من ناصح بنصيب
ولا تثبوا وثب السفاه فتركبوا على حد حامي الظهر غير ركوب
فإن يك باق إفك فرعون فيكم فإن عصا موسى بكف خصيب
رماكم أمير المؤمنين بحية أكول لحيات البلاد شروب
وزعمتم أن لا حلوم لنا إن العصا قرعت لذي الحلم
وقال الفرزدق:
فإن كنت أنساني حلوم مجاشع فإن العصا كانت لذي الحلم تقرع
قلت:
قلت: هذا ما رواه الجاحظ بصدد قرع العصا، وليس هذا القول حاسما ففي أول من قرعت له العصا خلاف طويل فقيل هو عامر
180
ابن الظرب كما ذكر الجاحظ وقيل هو قيس بن خالد ذو الجدين وقيل هو عمرو بن حممة الدوسي ولكن الأشهر ما رواه الجاحظ.
وذكر العصا عندهم يجري في معان كثيرة تقول العرب: «العصا من العصية، والأفعى بنت حية» تريد أن الأمر الكبير يحدث عن الأمر الصغير، ويقال: طارت عصا فلان شققا ويقال: فلان شق عصا المسلمين ولا يقال شق ثوبا ولا غير ذلك مما يقع عليه اسم الشق وقال المضرّس الأسدي:
وألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافر
ويقال لبني أسد «عبيد العصا» يعنى أنهم ينقادون لكل من حالفوا من الرؤساء وتسمي العرب كل صغير الرأس «العصا» وكان عمرو بن هبيرة صغير الرأس قال سويد بن كراع العكلي:
فمن مبلغ رأس العصا أن بيننا ضغائن لا تنسى وإن قدم الدهر
وكان والبة بن الحباب الأسدي أحد من أخذ عنهم أبو نواس وكان شاعرا ماجنا صغير الرأس فقال أبو العتاهية في رأس والبة ورؤوس قومه:
181
قلت:
قلت: هذا وكان والبة قد هاجى بشارا وأبا العتاهية فغلباه وفر الى الكوفة منهما ومما قاله في أبي العتاهية:
كان فينا يكنى أبا اسحق... وبها الركب سار في الآفاق
فتكنى معتها بعتاه... يا لها كنية أتت باتفاق
حلق الله لحية لك لا تنفك معقودة بداء الحلاق ودخل عمرو بن سعد بن أبي وقاص على عمر بن الخطاب حين رجع اليه من عمل حمص وليس معه إلا جراب وإداوة وقصعة وعصا فقال له عمر: ما الذي أرى بك من سوء الحال، أم ما تصنع؟ فقال:
وما الذي تراني؟ ألست تراني صحيح البدن، معي الدنيا بحذافيرها؟
قال: وما معك من الدنيا؟ قال معي جرابي أحمل فيه زادي، ومعي قصعتي أغسل فيها ثوبي، ومعي إداوتي أحمل فيها مائي لشرابي، ومعي عصاي إن لقيت عدوا قاتلته، وإن لقيت حية قتلتها، وما بقي من الدنيا تبع لما معي.
ومن جميل القول في العصا وما يجوز فيها من المنافع والمرافق تفسير شعر غنيه الاعرابية في شأن ابنها وذلك انها كان لها ابن شديد العرامة كثير التلفت الى الناس مع ضعف أسر، ودقة عظم، فواثب مرة فتى من الأعراب فقطع الفتى أنفه وأخذت غنية دية أنفه فحسنت حالها بعد فقر مدقع ثم واثب آخر فقطع أذنه فأخذت الدية فزادت دية أذنه في المال وحسن الحال ثم واثب بعد ذلك آخر فقطع شفته فلما رأت
182
ما قد صار عندها من الإبل والغنم والمتاع والكسب بجوارح ابنها حسن رأيها فيه فذكرته في أرجوزة لها تقول فيها:
رؤوس عصي كنّ من عود أثلة لها قادح يفري وآخر مخرب
أحلف بالمروة حقا والصفا أنك خير من تفاريق العصا
فقيل لابن الأعرابي: ما تفاريق العصا؟ قال: العصا تقطع ساجورا وتقطع عصا الساجور فتصير أوتادا ويفرق الوتد فتصير كل قطعة شظاظا فإن كان رأس الشظاظ كالعلكة صار للبختي مهارا وهو العود الذي يدخل في أنف البختي (والبختي الجمل الخراساني) وإذا فرق المهار جاءت منه تواد والسواجير تكون للكلاب والأسرى من الناس.
وسئل عن قوله «ولي فيها مآرب أخرى» قال: لست أحيط بجميع مآرب موسى عليه السلام ولكني سأنبئكم جملا تدخل في باب الحاجة الى العصا من ذلك: انها تحمل للحية والعقرب والذئب والفحل الهائج ولعير العانة في زمن هيج الفحول وكذلك فحول الجحور في المروج ويتوكأ عليها الكبير الدانف والسقيم المدنف والأقطع الرجل والأعرج فإنها تقوم مقام رجل أخرى، وقال أعرابي مقطوع الرجل:
الله يعلم أني من رجالهم وإن تخدّد عن متنيّ أطماري
وإن رزئت يدا كانت تجمّلني وإن مشيت على زج ومسمار
والعصا تنوب للأعمى عن قائده وهي للقصار والفاشكار والدباغ ومنها المفأد للملّة (أي الخشبة يحرك بها الرماد الحار) والمحراك للتنور وهي لدق الجص والجبسين والسمسم ولخبط الشجر وللفيج (ساعي البريد والدولة) وللمكاري فانهما يتخذان المخاصر فإذا طال
183
الشوط وبعدت الغاية استعانا في حضرهما وهرولتهما في أضعاف ذلك بالاعتماد على وجه الأرض وهي تعدل من ميل المفلوج وتقيم من ارتعاش المبرسم (المصاب بمرض البرسام) ويتخذها الراعي لغنمه، وكل راكب لمركبه، ويدخل عصاه في عروة المزود ويمسك بيده الطرف الآخر وربما كان أحد طرفيها بيد رجل والطرف الآخر بيد صاحبه وعليها حمل ثقيل، وتكون- إن شئت- وتدا في حائط وإن شئت ركزتها في الفضاء وجعلتها قبلة وإن شئت جعلتها مظلة وإن جعلت فيها زجا كانت عنزة وإن زدت فيها شيئا كانت عكازا، وإن زدت فيها شيئا كانت مطردا وإن زدت فيها شيئا كانت رمحا، والعصا تكون سوطا وسلاحا.
ونجتزئ بما تقدم من كتاب الجاحظ ونعود الى مآرب موسى فقد ذكر في الكشاف «وقيل في المآرب كانت ذا شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب وغيرها وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل، وإذا قصر رشاؤه وصله بها وكان يقاتل بها السباع عن غمه».
٣- الاستعارة المكنية:
في قوله «وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ» الجناح معروف وقيل لكل ناحيتين جناحان كجناحي العسكر، وجناحا الإنسان جنباه والأصل المستعار منه جناحا الطائر سميا جناحين لأنه يجنحهما عند الطيران أي يميلها والمراد الى جنبك تحت العضد دل على ذلك قوله تخرج.
184
٤- الاحتراس والكناية:
وفي قوله «تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» فن الاحتراس وقد تقدم ذكره والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكني به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوءة وكان جذيمة بن الوضاح أبرص فكنوا عنه بالأبرش لأن البرص أبغض شيء الى العرب وبهم عنه نفرة عنبسة فكان جديرا أن يكنى عنه ولا أحسن ولا ألطف من كنايات القرآن كما يأتي ولو أنه لم يذكر من غير سوء لتوهم أن البياض قد ازداد حتى صار برصا فأتى بقوله من غير سوء دفعا لذلك التوهم.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٢٤ الى ٣٥]
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥)
اللغة:
(وَزِيراً) : مشتق من الوزر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره أي أثقاله فهو معين على أمر الملك وقائم بأمره وقيل بل هو مشتق من الوزر بفتحتين وهو الملجأ ومنه قوله تعالى: «كَلَّا لا وَزَرَ» وقيل بل
185
هو مشتق من المؤازرة وهي المعاونة وفي القاموس الأزر الإحاطة والقوة والضعف فهو من الأضداد، والتقوية والظهر.
الإعراب:
(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) اذهب فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت والى فرعون متعلقان باذهب وان واسمها وجملة طغى خبرها وجملة إنه طغى تعليلية لا محل لها. (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو ورب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة واشرح فعل دعاء ولي متعلقان باشرح وصدري مفعول به وذكر كلمة لي لفائدة سترد في باب البلاغة. (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) عطف على اشرح لي صدري. (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) عطف على اشرح وعقدة مفعول به ومن لساني متعلقان بمحذوف صفة لعقدة كأنه قيل عقدة من عقد لساني وسيأتي ما قيل في العقدة في باب البلاغة.
(يَفْقَهُوا قَوْلِي) يفقهوا فعل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب والواو فاعل وقولي مفعول به. (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) (هارُونَ أَخِي) الواو عاطفة واجعل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت ولي في محل نصب مفعول ثان ووزيرا مفعول به أول ومن أهلي صفة لوزيرا وهارون بدل من وزيرا وأخي بدل من هارون ويجوز أن يكون وزيرا مفعولا ثانيا وهارون مفعولا أول وقدم الثاني عليه اعتناء بأمر الوزارة ولي متعلقان بمحذوف حال أو بنفس الجعل ومن أهلي صفة ويجوز أن يكون وزيرا هو المفعول الاول ومن أهلي هو الثاني وجميع هذه الأوجه متساوية الرجحان. (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) اشدد فعل دعاء وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وبه متعلقان باشدد وأزري مفعول به وأشركه عطف على اشدد والهاء مفعول به وفي أمري
186
متعلقان باشركه وقرئ اشدد وأشركه مضارعين مجزومين بالطلب.
(كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً) (وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) كي حرف مصدرية ونصب واستقبال وسيأتي بحثها في باب الفوائد ونسبحك فعل مضارع منصوب بكي وفاعل نسبحك ضمير مستتر تقديره نحن وكثيرا صفة لمصدر محذوف أو صفة لظرف محذوف فهي مفعول مطلق أو مفعول فيه ونذكرك كثيرا عطف على نسبحك كثيرا. (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) إن واسمها وجملة كنت خبر والتاء اسم كنت وبنا متعلقان ببصيرا وبصيرا خبر كنت.
البلاغة:
١- الزيادة:
زيادة «لي» في قوله تعالى «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي» والكلام تام بدونها وقد ذكر الزمخشري سرا ونذكر الثاني فيما بعد قال: «فإن قلت «لي» من قوله اشرح لي صدري ويسر لي أمري ما جدواه والكلام مستتب بدونه، قلت: قد أبهم الكلام أولا فقيل اشرح لي ويسر لي فعلم أن ثم مشروحا وميسرا ثم بين ورفع الإبهام بذكرهما فكان آكد لطلب الشرح والتيسير لصدره وأمره» أما السر الثاني فهو أن تكون فائدتها الاعتراف بأن منفعة شرح الصدر وتيسير الأمر راجعة إليه وعائدة عليه فإن الله عز وجل لا ينتفع بإرساله ولا يستعين بشرح صدره تعالى وتقدس.
٢- التنكير:
وفي تنكير العقدة من قوله تعالى «وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي» دلالة
187
على أنه لم يسأله حل جميع عقد لسانه بل حل بعضها الذي يمنع الافهام بدليل قوله «يفقهوا قولي» كأنه قال واحلل عقدة من عقد لساني وهذه العقدة ناشئة كما يروى عن جمرة وضعها في فمه وهو صغير وقصتها في المطولات.
الفوائد:
بحث كي:
(كَيْ) أحد أحرف النصب وهي قسمان:
١- المصدرية وهي الداخل عليها اللام لفظا نحو لكي لا تأسوا أو تقديرا نحو جئتك كي تكرمني إذا قدرت الأصل لكي وانك حذفت اللام استغناء عنها بنيتها فإن لم تقدر اللام فهي:
٢- التعليلية، فأما المصدرية فناصبة بنفسها وأما التعليلية فجارة والناصب بعدها أن مضمرة لزوما في النثر وقد تظهر في الشعر:
فقالت أكل الناس أصبحت مانحا لسانك كيما ان تغرّ وتخدعا
وهذا مذهب سيبويه والخليل وجمهور البصريين أما الكوفيون فيرون أن كي ناصبة دائما تقدمتها اللام أو لم تتقدمها.
قال أبو حيان: وأجمعوا على أنها يجوز الفصل بينها وبين معمولها بلا النافية وما الزائدة وأما الفصل بغير ما ذكر فلا يجوز عند البصريين.
188

[سورة طه (٢٠) : الآيات ٣٦ الى ٤٠]

قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠)
اللغة:
(السؤل) : الطلبة وهو فعل بمعنى مفعول كالخبز بمعنى المخبوز والأكل بمعنى المأكول.
(التَّابُوتِ) : الصندوق من خشب.
(الْيَمِّ) : البحر وأراد به نهر النيل.
الإعراب:
(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) جملة قد أوتيت مقول القول وأوتيت فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل وسؤلك مفعول
189
به ثان لأوتيت. (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق ومننا فعل وفاعل وعليك متعلقان بمننا ومرة ظرف أو مفعول مطلق وأخرى صفة لمرة.
(إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى) إذ ظرف يفيد هنا التعليل وهو متعلق بمننا وجملة أوحينا مضافة إليها الظرف والى أمك متعلقان بأوحينا وما مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر هو مفعول مطلق أو موصولة فهي نائب فاعل وجملة يوحى صلة وهي تفيد الإبهام وسترد في باب البلاغة.
(أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ) أن مفسرة لأن الوحي بمعنى القول واقذفيه فعل أمر وفاعل ومفعول به وفي التابوت متعلقان باقذفيه، فاقذفيه في اليم عطف على فاقذفيه في التابوت ولم تختلف الضمائر لأن المقذوف هو موسى عليه السلام. (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) الفاء عاطفة واللام لام الأمر ويلقه فعل مضارع مجزوم بلام الأمر وعلامة جزمه حذف حرف العلة والهاء مفعول به واليم فاعل وهذا أمر معناه الخبر ولكونه أمرا لفظا جزم جوابه في قوله يأخذه وسيأتي مزيد بيان له في باب البلاغة وبالساحل متعلقان بيلقه أو بمحذوف حال أي ملتبسا به ويأخذه جواب الطلب والهاء مفعول وعدو فاعل ولي صفة وعدو له عطف على عدو لي. (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) الواو حرف عطف وألقيت فعل وفاعل وعليك متعلقان بألقيت ومحبة مفعول به ومني صفة لمحبة أي محبة عظيمة كائنة مني فلا جرم أحبك كل من رآك ويجوز تعليق مني بألقيت ولتصنع عطف على علة مضمرة مفهومة من سياق الكلام أي لتحب من الناس، ولتصنع: اللام للتعليل وتصنع فعل مضارع مبني للمجهول منصوب بأن مضمرة بعد اللام وعلى عيني حال أي لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك وكالئك وسيأتي بحث المجاز المرسل هنا في
190
باب البلاغة. (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ؟) إذ ظرف للتعليل متعلق بألقيت أو بتصنع أو بمحذوف تقديره اذكر وجملة تمشي مضاف إليها الظرف وأختك فاعل فتقول عطف على تمشي وهل حرف استفهام وأدلكم فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وعلى من متعلقان بأدلكم وجملة يكفله صلة.
(فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) الفاء عاطفة على محذوف للايجاز تقديره فأجيبت الى طلبها فجاءت أمه فقبل موسى ثديها.
ورجعناك فعل وفاعل ومفعول به والى أمك متعلقان برجعناك وكي حرف ناصب وتقر منصوب بكي وعينها فاعل ولا تحزن عطف على كي تقر.
(وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) وقتلت فعل وفاعل ونفسا مفعول قتل وقد قتل موسى القبطي بمصر واسمه قاب قان وكان طباخا لفرعون وكانت سن موسى إذ ذاك ثلاثين سنة، فنجيناك الفاء عاطفة ونجيناك فعل وفاعل ومفعول به ومن الغم متعلقان بنجيناك وفتناك فعل وفاعل ومفعول به وفتونا مفعول مطلق إذا كان مصدرا وهو الأرجح كالقعود والجلوس والشكور والثبور واللزوم أو منصوب بنزع الخافض إذا كان جمع فتنة أي بضروب من الفتن والمعنى ابتليناك وامتحناك بأنواع من الشدائد. (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) الفاء عاطفة ولبثت فعل وفاعل وسنين ظرف زمان متعلق بلبثت قيل مكث عند النبي شعيب في مدين عشر سنوات وتزوج خلالها ابنته وقيل ثمانيا وعشرين سنة منها مهر ابنته وهو عشر حجج حيث قضى أوفى الأجلين، وفي أهل مدين متعلقان بلبثت ومدين مضاف لأهل ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث ثم حرف عطف وجئت فعل وفاعل وعلى قدر حال أي موافقا لما قدر لك أو مستقرا على قدر معين
191
ويا موسى نداء، وقد اقتبس هذا التركيب جرير بقوله مادحا عمر ابن عبد العزيز:
أتى الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر
البلاغة:
فنون هذه الآيات البيانية كثيرة جدا نورد أهمها فيما يلي:
١- التفسير بعد الإبهام:
فأولها التفسير بعد الإبهام وهذا النوع يؤتى به لتفخيم أمر المبهم وإعظامه لأنه يطرق السمع بعد أن كان متعلقا بشيء مبهم فتترنح الجوارح، ويذهب بلب السامع كل مذهب وعلى هذا النحو جاء قوله تعالى «قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى، وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى» فابهم الكلام وأتى به مجملا ليتعلق الذهن، ويتطلع ما عسى أن يكون السؤال؟ وما هي المنة الأخرى؟ وما عسى أن يردفها من منن وآلاء؟
انه يتشوف للمعرفة، ويحاول اكتناه الحقيقة فيأتي قوله بعد ذلك مفسرا ما أبهم، فيقول «إذ أوحينا الى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم» فإن قلت ما هي المنة الأولى؟ وما هي المنة الثانية؟
وهل بعد ذلك من منن؟ قلت ان مجموع المنن التي امتن الله بها على نبيه موسى ثماني منن:
آ- قوله إذ أوحينا إلى قوله «وعدو له».
ب- قوله: «وألقيت عليك محبة مني» إلخ..
ج- قوله: «ولتصنع على عيني» الى قوله «من يكفله».
192
د- قوله: «فرجعناك الى أمك» الى قوله «ولا تحزن».
هـ- قوله: «وقتلت نفسا فنجيناك من الغم».
وقوله: «وفتناك فتونا».
ز- قوله: «فلبثت في أهل مدين» الى قوله «يا موسى».
ح- قوله: «واصنعتك لنفسي».
٢- الإبهام:
أما الإبهام المجرد فقوله «ما يوحى» وهو كثير شائع في القرآن الكريم ومثله في الشعر قول دريد بن الصمة في رثاء أخيه:
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه... فلما علاه قال للباطل: ابعد
وسيرد منه المزيد المطرب.
٣- المجاز العقلي:
المجاز العقلي: في قوله تعالى «فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ» أسند الإلقاء الى اليم وهو لا يعقل ولكنه يمثل مشيئة الله وإرادته التي لا تخطئ ولا يعزب عنها شيء، أسند اليه الإفضاء المقرر في عالم الغيب ودنيا المشيئة كأنه ذو تمييز يطيع الأمر ويمتثل رسمه.
٤- التنكير:
نكر المحبة وأسندها اليه سبحانه، لأمرين هامين:
193
١- ما في التنكير من الفخامة الذاتية كأنها محبة تعلو على الحب المتعارف المتبادل بين المخلوقات.
٢- ما في إسنادها اليه من الفخامة الاضافية أي محبة عظيمة مني وقد زرعتها في القلوب وركزتها في السرائر ومنطويات الضمائر فسبحان المتكلم بهذا الكلام.
٥- المجاز المرسل:
في قوله على عيني مجاز مرسل فقد أراد بالعين المحبة أي على المحبة مني لأن العين رائدها وسببها فالعلاقة السببية قال أبو عبيدة وابن الأنباري: إن المعنى لتغذى على محبتي وإرادتي تقول أتخذ الأشياء على عيني أي على محبتي، قال ابن الأنباري: العين في هذه الآية يقصد بها قصد الارادة والاختيار، من قول العرب: فلان على عيني أي على المحبة مني قيل واللام متعلقة بمحذوف أي فعلت ذلك لتصنع وقيل متعلقة بألقيت.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤١ الى ٤٧]
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥)
قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧)
194
اللغة:
(وَاصْطَنَعْتُكَ) : اخترتك لي من بين الناس جميعا، وسيأتي المزيد من بحث المجاز في هذا التعبير الرشيق.
(تَنِيا) : تفترا والونى الفتور والتقصير يقال ونى يني ونيا كوعد يعد وعدا إذا فتر والاسم الونى وهو الفتور وونى فعل لازم لا يتعدى وزعم بعض النحاة انه يكون من أخوات زال وانفك فيعمل عملهما بشرط النفي يقال: ما وني زيد قائما أي ما زال زيد قائما وفي المصباح:
وني في الأمر ونيا من باب تعب ووعد ضعف وفتر فهو وان وفي التنزيل «ولا تنيا في ذكري» وتوانى في الأمر توانيا: لم يبادر الى ضبطه ولم يهتم به فهو متوان أي غير مهتم ولا محتفل» وهو في الآية من باب وعد لأجل كسر النون إذ لو كان من باب تعب لكان بفتحها وقد أشار في الأساس إلى إمكان عمل هذا الفعل عمل لا يزال قال: «ولا يني يفعل: لا يزال يفعل وامرأة وناة: فيها فتور» وفي القاموس:
«الونى كفتى التعب والفترة ضد ويمد ونى يني ونيا وونيا ووناء وونية ونية وونى وأوناه وتوانى هو وناقة وانية: فاترة طليح وامرأة وناة وأناة وإنية: حليمة بطيئة القيام والقعود والمشي والمينا مرفأ السفينة ويمد وجوهر الزجاج والونية كاللؤلؤة كالوناة أو العقد من الدر».
(يَفْرُطَ) : يقال فرط يفرط من باب قعد علينا فلان إذا عجل بمكروه.
195
الإعراب:
(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) فعل ماض وفاعل ومفعول به ولنفسي متعلقان به. (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) اذهب فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وأنت ضمير منفصل تأكيد للضمير المستتر والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير المراد بالاصطناع وأخوك عطف على الضمير المرفوع وعلامة رفعه الواو والكاف مضاف اليه وبآياتي حال لأن الباء للمصاحبة أي مصحوبين بآياتي ومعتصمين بها وليست للتعدية لأن المراد إظهار الآيات للناس لا مجرد الذهاب الى فرعون والواو حرف عطف ولا ناهية وتنيا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والألف فاعل وفي ذكري متعلقان بتنيا، قيل «في» هنا بمعنى عن أي عن عبادتي ولم أره لأحد فالأولى أن تبقى على حقيقتها من الظرفية كأنه اشتمل على التقصير، لكن قال في المغني «والظاهر أن معنى ونى عن كذا جاوزه ولم يدخل فيه وونى فيه دخل فيه وفتر» وهذا يرجح انها للظرفية لا للمجاوزة. (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) اذهبا فعل وفاعل والى فرعون متعلقان باذهبا وان واسمها وجملة طغى خبرها. (فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) الفاء عاطفة وقولا فعل أمر وفاعل وله متعلقان بقولا وقولا مفعول مطلق ولينا صفة ولعل واسمها وجملة يتذكر خبرها أو حرف عطف ويخشى عطف على يتذكر وسيأتي معنى الترجي هنا وبصورة عامة في باب الفوائد. (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) قالا فعل ماض وفاعل وربنا منادى مضاف وإن واسمها وجملة نخاف خبرها وأن وما في حيزها مفعول نخاف وعلينا متعلقان بيفرط أو حرف عطف أن يطغى عطف على أن يفرط.
(قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) لا ناهية وتخافا فعل مضارع
196
مجزوم بلا والألف فاعل وجملة لا تخافا مقول القول وجملة إنني معكما تعليلية لعدم الخوف وان واسمها والظرف متعلق بمحذوف خبرها وجملة أسمع خبر ثان أو حالية وأرى عطف على أسمع. (فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) فأتياه الفاء هي الفصيحة وأتياه فعل أمر وفاعل ومفعول به فقولا عطف على فأتياه وإن واسمها ورسولا خبرها وربك مضاف اليه. (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) الفاء هي الفصيحة أيضا وأرسل فعل أمر والفاعل مستتر تقديره أنت ومعنا ظرف مكان متعلق بأرسل وبني إسرائيل مفعول به ولا تعذبهم لا ناهية وتعذبهم مجزوم بلا والهاء مفعول به. (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) جملة قد جئناك حالية جرت من جملة إنا رسولا ربك مجرى البيان والتفسير لأن دعوى الرسالة لا تثبت إلا مدعومة بالآيات والدلائل الظاهرة الدالة عليها وقد حرف تحقيق وجئناك فعل ماض وفاعل ومفعول به وبآية متعلقان بجئناك ومن ربك صفة لآية والواو استئنافية والسلام مبتدأ وعلى من اتبع الهدى خبر.
الفوائد:
اهتم العلماء اللغويون والنحاة بمعنى الرجاء في قوله تعالى «لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى» وسنلخص الأوجه التي ذكرها هؤلاء لأن إيرادها بنصوصها لا يتسع له المجال، فالرجاء يحتمل الأمور التالية:
١- أن يكون الترجي هنا على بابه وذلك بالنسبة الى المرسل وهو موسى وهارون أي اذهبا على رجائكما في إيمانه وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله فهو يفرغ جهده ويبذل ما في وسعه ويستحيل أن يرد ذلك في حق الله تعالى
197
إذ هو عالم بالعواقب والمغاب وعن سيبويه «كل ما ورد في القرآن من لعل وعسى فهو من الله واجب» وهذا صريح في أن الترجي يستحيل بقاؤه على معناه في حق الله تعالى.
٢- ان لعل تفيد التعليل فهي بمثابة كي وهذا قول الفراء قال:
كما تقول: اعمل لعلك تأخذ أجرك أي كي تأخذ أجرك.
٣- انها استفهامية أي هل يتذكر ويخشى وهذا قول مردود لأنه يستحيل الاستفهام في حق الله تعالى.
ما يقوله النحاة:
ويقول النحاة إن لعل للتوقع وعبر عنه قوم بالترجي في الشيء المحبوب نحو لعل الحبيب قادم ومنه قوله تعالى: «لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» والإشفاق في الشيء المكروه نحو «فلعلك باخع نفسك» أي قاتل نفسك والمعنى أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من إسلام قومك وقد تقدم بحثه والإشفاق لغة الخوف يقال أشفقت عليه بمعنى خفت عليه وأشفقت منه بمعنى خفت منه وحذرته.
وقال الأخفش والكسائي: وتأتي لعل للتعليل نحو: ما يقول الرجل لصاحبه: افرغ من عملك لعلنا نتغدى واعمل عملك لعلك تأخذ أجرك أي لنتغدى ولتأخذ، ومنه «لعله يتذكر» أي ليتذكر وقال في المغني: ومن لم يثبت ذلك يحمله على الرجاء ويصرفه للمخاطبين أي اذهبا على رجائكما.
198

[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٨ الى ٥٥]

إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥)
الإعراب:
(إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) إن واسمها وجملة قد أوحي خبر وإلينا متعلقان بأوحي وأن وما في حيزها في تأويل مصدر نائب فاعل لأوحى وأن واسمها وعلى من خبرها وجملة كذب صلة وتولى عطف على كذب. (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) أي فأتياه وقالا جميع ما ذكر، فالفاء عاطفة على مقدر ومن اسم استفهام مبتدأ وربكما خبر والجملة مقول القول ولم يذكر هارون لأنه تبع وردء ووزير له وقيل غير ذلك مما لا طائل تحته. (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ
199
ثُمَّ هَدى)
ربنا مبتدأ والذي خبره وجملة أعطى صلة وكل شيء مفعول به أول وخلقه مفعول به ثان وقيل خلقه أول مفعولي أعطى وكل شيء ثانيهما وقدم للاهتمام أي أعطى خليقته «وهي جمع الخلائق» كل شيء يحتاجون اليه وقرئ خلقه على أنه فعل والمفعول الثاني محذوف للعلم. ثم هدى عطف على أعطى أي أعطى كل شيء صورته وأفرغه في مسلاخه الخليق بما نيط به من خصائص ومنافع وهدى كل مخلوق إلى ما خلق له، وفي هذا الإيجاز كلام طويل يطالعه القارئ في باب البلاغة. (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) الفاء عاطفة وما استفهام مبتدأ وبال خبر والقرون مضاف اليه والأولى صفة. (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) علمها مبتدأ وعند ربي الظرف متعلق بمحذوف خبر وفي كتاب حال أو في كتاب هو الخبر وعند ربي حال أو هما خبران أو هما خبر واحد على حد قولك الرمان حلو حامض أي مز وجملة لا يضل مستأنفة وقيل صفة لكتاب والعائد محذوف تقديره في كتاب لا يضله ربي أو لا يضل حفظه ربي، وربي فاعل يضل ولا ينسى عطف على لا يضل وسيأتي في باب الفوائد ما قاله العلماء في معنى هذه الآية. (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا) الذي خبر لمبتدأ محذوف أي هو وجملة جعل صلة ولكم حال لأنه كان صفة لمهادا والأرض مفعول به أول ومهادا مفعول به ثان وسلك فعل ماض والفاعل مستتر تقديره هو ولكم متعلقان بمحذوف حال لأنه كان صفة لسبلا وفيها متعلقان بسلك وسبلا مفعول به. (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) وأنزل عطف على ما تقدم ومن السماء متعلقان بأنزل وماء مفعول به فأخرجنا الفاء عاطفة وأخرجنا فعل وفاعل وبه متعلقان بأخرجنا وأزواجا مفعول به ومن نبات صفة لأزواجا وشتى صفة لأزواجا أو حال منه لأنه وصف وأجاز الزمخشري
200
أن يكون صفة للنبات. (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) كلوا فعل أمر وفاعل والجملة معمولة لحال محذوفة أي قائلين أو آذنين في الانتفاع بها، مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها وارعوا عطف على كلوا وأنعامكم مفعول به لارعوا وإن حرف مشبه بالفعل وفي ذلك خبر إن المقدم ولآيات اللام المزحلقة وآيات اسم إن المؤخر ولأولي النهى صفة لآيات والنهى مضاف لأولي وهي جمع نهيه وقيل اسم مفرد. (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) منها متعلقان بخلقناكم وفيها متعلقان بنعيدكم ومنها متعلقان بنخرجكم وتارة ظرف متعلق بنخرجكم وأخرى صفة لتارة.
البلاغة:
١- الإيجاز:
في قوله تعالى «ثُمَّ هَدى» إيجاز بليغ لأنه حذف جملا لا يقع عليها الحصر لأنه ليس بالمتاح إحصاء المخلوقات الحية وغير الحية، العاقلة وغير العاقلة التي خلقها الله ولكل منها عمله الميسر له على حد قوله ﷺ «كل ميسر لما خلق له» فمن العسير بل من المستحيل أن يتحدث أحد عن المرتفقات العامة وإعطاء كل مرتفق الى صاحبه المخلوق له الذي عرف كيف يرتفق بما أعطي وكيف يتوصل اليه ولهذا أحسن الزمخشري بقوله: «ولله در هذا الجواب ما أحصره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الانصاف وكان طالبا للحق» ثم إن للايجاز فائدة أخرى وهي أن فرعون أراد أن يصرف موسى عليه السلام بعد أن أوشك أن يفضحه ويبطل خرافاته، الى ما لا يعنيه من الأمور التي لا تعلق لها بالرسالة من الحكايات
201
والأساطير فأجابه موسى بأن ذلك ليس من خصائص الرسالة وانما علمه عند ربي فلما سأله عن ربه أوجز الكلام على هذا الشكل البديع.
٢- الالتفات:
من الغيبة الى لفظ التكلم على الحكاية لكلام الله عز وجل والفائدة منه التنبيه على ظهور ما في الأرض من الدلالة على كمال القدرة الإلهية والحكمة التي لا تطيش وانقياد المخلوقات جميعا لمشيئته وقيل لا التفات في الكلام لأنه يشترط في الالتفات أن يكون في كلام المتكلم الواحد يصرف كلامه على وجوه شتى وما نحن فيه ليس من ذلك فإن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون: علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ثم قوله: الذي جعل لكم الأرض مهادا الى قوله فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى فإما أن يجعل من قول موسى فيكون من باب قول خواص الملك: أمرنا وعمرنا وانما يريدون الملك وليس هذا بالتفات وإما أن يكون كلام موسى قد انتهى عند قوله: ولا ينسى ثم ابتدأ الله تعالى وصف ذاته بصفات انعامه على خلقه فليس التفاتا أيضا وانما هو انتقال من حكاية الى إنشاء خطاب.
وقد يبدو هذا الرد وجيها لأول وهلة ولكن نذكر أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفات على لفظ الغيبة فقال: الذي جعل لكم الأرض مهادا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرج به أزواجا من نبات شتى فلما حكاه الله تعالى عنه أسند الضمير الى ذاته لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى فمرجع الضميرين واحد وهذا الوجه دقيق وهو أقرب الوجوه الى الالتفات.
202
الفوائد:
حول «لا يضل ربي ولا ينسى» :
أقرب ما يقال في نفي الضلال والنسيان عن الله تعالى وهو غني عن النفي لأنه علام الغيوب أن يقال هو من باب التعريض والمعنى: ان كل كائن محيط به علمه وهو مثبت عنده في كتاب ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان كما يجوز عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل، أي لا يضل كما تضل أنت يا مدعي الربوبية بالجهل والصلف والوقاحة.
وقال القفال: «هناك فرق بين يضل وينسى أي لا يضل عن الأشياء ومعرفتها وما علمه من ذلك لم ينسه فاللفظ الاول إشارة الى كونه عالما بكل المعلومات واللفظ الثاني دليل على بقاء ذلك العلم أبد الآباد وهو اشارة الى نفي التغير».
هذا، واختلف في معنى لا يضل ربي ولا ينسى على أقوال:
الاول: انه ابتداء كلام تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين وقد تم الكلام عند قوله في كتاب.
الثاني: ان معنى لا يضل لا يخطئ.
الثالث: ان معناه لا يغيب.
الرابع: ان معناه لا يحتاج الى كتاب ولا يضل عنه علم شيء من الأشياء ولا ينسى ما علمه منها.
الخامس: ان هاتين الجملتين صفة لكتاب والمعنى ان الكتاب غير ذاهب عن الله ولا هو ناس له.
203

[سورة طه (٢٠) : الآيات ٥٦ الى ٦٣]

وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠)
قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣)
اللغة:
(ضُحًى) : الضحى: شروق الشمس بعد طلوعها وقد سمت العرب ساعات النهار بأسماء فالأولى الذرور ثم البزوغ ثم الضحى ثم الغزالة ثم الهاجرة ثم الزوال ثم الدلوك ثم العصر ثم الأصيل ثم الصبوب ثم الحدور ثم الغروب.
ويقال فيها: البكور ثم الشروق ثم الإشراق ثم الرأد ثم الضحى ثم المتوع ثم الزوال ثم الهاجرة ثم الأصيل ثم العصر ثم الطفل ثم الغروب.
204
(فَيُسْحِتَكُمْ) : يهلككم من أسحت الرباعي وهي لغة نجد وتميم أي أهلك ويقال سحت وهي لغة الحجاز وأصل هذه المادة تدل على الاستقصاء والنفاد ومنه سحت الحالق الشعر أي استقصاه فلم يترك منه شيئا ويستعمل في الإهلاك والإذهاب وفي القاموس «سحت يسحت من باب فتح وسحّت بالتشديد اكتسب السحت أي المال الحرام وسحته أهلكه واستأصله وذبحه وسحت الشحم عن اللحم قشره وسحت وجه الأرض محاه وأسحت: أفسده وأهلكه واستأصله».
الإعراب:
(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى) اللام جواب لقسم محذوف وقد حرف تحقيق وأريناه فعل ماض من رأى البصرية ولكنها تعدت الى اثنين لدخول همزة النقل عليها ونا ضمير متصل في محل رفع فاعل والهاء مفعول به أول وآياتنا مفعول به ثان وكلها تأكيد لآياتنا فكذب وأبى عطف على أريناه وقد مرت آيات موسى التسع ثم الآيتان الأخيرتان وهما العصا ونزع اليد. (قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو أي فرعون وجملة أجئتنا مقول القول والهمزة للاستفهام الانكاري وجئتنا فعل وفاعل ومفعول به ولتخرجنا اللام للتعليل وتخرج فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ونا مفعول به ومن أرضنا متعلقان بتخرجنا وبسحرك متعلقان بتخرجنا. (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) الفاء الفصيحة واللام جواب قسم محذوف تقديره والله لنأتينك وبسحر متعلقان بنأتينك ومثله صفة لسحر ويجوز أن يتعلق بسحر بمحذوف حال أي متلبسين بسحر مثله في الغرابة يعارضه ويدحضه، فاجعل الفاء عاطفة واجعل فعل أمر
205
وفاعله أنت وبيننا ظرف متعلق بمحذوف مفعول به ثان وبينك عطف وموعدا مصدر ميمي مفعول به أول وجملة لا نخلفه صفة لموعدا ونحن تأكيد للضمير في نخلفه والواو عاطفة ولا نافية وأنت عطف على الضمير في نخلفه ومكانا بدل من موعدا بتقدير مضاف أي مكان موعد أو تعرب مكانا منصوبا بنزع الخافض أي في مكان أو تنصبه بالمصدر وهو موعد وسوى صفة أي وسطا وهو بضم الواو وكسرها وهذا وجه من أعاريب أخرى ستأتي في باب الفوائد. (قالَ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) موعدكم مبتدأ ويوم الزينة خبر وان وما بعدها عطف على يوم الزينة إما على اليوم فيكون محل المصدر الرفع وإما على الزينة فيكون محله الجر والناس نائب فاعل وضحى ظرف متعلق بيحشر وسيأتي بحث يوم الزينة والعلة في اختياره. (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى) الفاء عاطفة وتولى فعل ماض وفرعون فاعل فجمع عطف على فتولى وكيده مفعول به على حذف مضاف أي ذوي كيده وهم السحرة ثم حرف عطف وأتى عطف على جمع وعبر بثم للدلالة على انه استغرق وقتا في جمع السحرة ورسم الخطط. (قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً) قال فعل ماض ولهم متعلقان به وموسى فاعل وويلكم مصدر للدعاء أمات العرب فعله فهو منصوب بفعل محذوف ولا ناهية وتفتروا فعل مضارع مجزوم بلا وعلى الله متعلقان بتفتروا وكذبا مفعول به.
(فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) الفاء فاء السببية ويسحتكم مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية المسبوقة بالنهي وبعذاب متعلقان بيسحتكم وقد الواو حالية وقد حرف تحقيق وخاب فعل ماض ومن فاعل وجملة افترى صلة. (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) الفاء عاطفة وتنازعوا فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة والواو فاعل وأمرهم مفعول به أو منصوب بنزع الخافض وبينهم ظرف
206
متعلق بمحذوف حال وأسروا عطف على تنازعوا والنجوى مفعول به أي أخفوها أي انهم تشاوروا في السر. (قالُوا: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) إن مخففة من الثقيلة ومهملة وهذان اسم اشارة للمثنى في محل رفع مبتدأ واللام الفارقة وساحران خبر هذان وجملة يريدان صفة لساحران وان وما في حيزها مفعول يريدان ومن أرضكم متعلقان بيخرجاكم بسحرهما حال أي متلبسين بسحرهما ويذهبا عطف على يخرجاكم وبطريقتكم متعلقان بيذهبا والمثلى صفة لطريقتكم.
البلاغة:
في قوله «لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى» فن رد العجز على الصدر وسماه المتأخرون التصدير وهو أخف على السمع وأليق بالمقام وقد تقدم البحث فيه ونضيف هنا أن ابن المعتز فسمه ثلاثة أقسام:
الأول ما وافق آخر كلمة في المصراع الأول آخر كلمة في المصراع الثاني أو كانت مجانسة لها كقول بعضهم:
يلقى إذا ما كان يوم عرمرم في جيش رأي لا يفل عرمرم
والقسم الثاني ما وافق آخر كلمة في البيت أول كلمة منه كقول الآخر:
سريع الى ابن العم يلطم وجهه وليس الى داعي الندى بسريع
والقسم الثالث ما وافق آخر كلمة في البيت بعض كلمة في الصدر منه كقوله:
207
سقى الرمل صوب مستهل غمامه وما ذاك إلا حب من حل بالرمل
وقال الشيخ زكي الدين بن أبي الإصبع: «والذي يحسن أن يسمى القسم الأول تصدير التقفيه والثاني تصدير الطرفين والثالث تصدير الحشو». والامثلة على ذلك كثيرة.
الفوائد:
كثر اختلاف المعربين في قوله تعالى «فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً» والحق انه من معضلات التراكيب وقد اخترنا في الاعراب أمثل الوجوه وأقربها الى المنطق وأدناها الى السهولة، بقيت هناك أمور لا بد من إيضاحها:
موعدا: اختلف فيه على الأوجه التالية:
آ- اسم زمان ويرجحه قوله «قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ» والمعنى عيّن لنا وقت اجتماع ولذلك أجابهم بقوله: «موعدكم يوم الزينة».
ب- اسم مكان ويرجحه قوله «مَكاناً سُوىً» والمعنى بيّن لنا مكانا معلوما نعرفه نحن وأنت فتأتيه.
ج- مصدر ميمي بمعنى الوعد ويقدر مضاف محذوف أي مكان وعد ويؤيد هذا قوله «لا نخلفه نحن ولا أنت» لأن المواعدة توصف بالخلف وعدمه وهذا ما اخترناه.
فإن جعلته زمانا لزمك شيئان: أن تجعل الزمان مخلفا وأن يفضل عليك ناصب مكانا وان جعلته مكانا لزمك أيضا أن توقع
208
الأخلاف على المكان وأن لا يطابق قوله موعدكم يوم الزينة فبقى أن يجعل مصدرا بمعنى الوعد ويقدر مضاف محذوف أي مكان موعد ويجعل الضمير في نخلفه للموعد ومكانا بدل من المكان المحذوف.
وجوز أبو علي الفارسي وأبو البقاء أن ينتصب مكانا على المفعول الثاني لا جعل قالا وموعدا على هذا مكان أيضا ولا ينتصب بموعدا لأنه مصدر قد وصف يعني أنه يصح مفعولا ثانيا ولكن بشرط أن يكون الموعد بمعنى المكان ليطابق الخبر.
وجعل الحوفي انتصاب مكانا على الظرف وانتصابه باجعل فتحصل في نصب مكانا خمسة أوجه:
١- أنه بدل من مكانا المحذوف.
٢- انه مفعول ثان للجعل.
٣- انه نصب بإضمار فعل.
٤- انه منصوب بنفس المصدر.
٥- انه منصوب على الظرف بنفس اجعل.
وانما أوردنا هذه الأقوال لأنها قريبة ولأن استيعابها مفيد للغاية فتدبر.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٦٤ الى ٧٠]
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨)
وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠)
209
اللغة:
(فَأَجْمِعُوا) : أي ازمعوا كيدكم واجعلوه مجمعا عليه حتى لا تختلفوا كالمسألة المجمع عليها ويقال: اجمعوا الأمر واجمعوا عليه، وفلانة بجمع أي عذراء وضربه بجمع كفه واستجمع لفلان أمره واستجمع السيل واستجمع الفرس جريا قال يصف السراب:
ومستجمع جريا وليس ببارح تباريه في ضاحي المتان سواعده
أي مجاريه واستجمع الوادي إذا لم يبق منه موضع إلا سال وعن بعض العرب: الرّمة وفلج لا يستجمعان إنما يسيلان في نواحيهما وأضواحهما، واستجمع القوم ذهبوا كلهم وجمعوا لبني فلان إذا حشدوا لقتالهم «إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ» وأجمعت القدر غليا قال امرؤ القيس:
210
ومن الكناية: فلانة قد جمعت الثياب أي كبرت لأنها تلبس الدرع والخمار والملحفة.
(فَأَوْجَسَ) : الإيجاس: الإضمار وايجاس الخوف إضمار شيء منه وكذلك توجس الصوت تسمع نبأة يسيرة منه وكان ذلك لطبع الجبلة البشرية.
(تَلْقَفْ) : تبتلع وأصله التناول بسرعة قال في القاموس: لقف يلقف من باب تعب لقفا والتقف الشيء تناوله بسرعة.
الإعراب:
(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) الفاء الفصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين إلخ فأجمعوا كيدكم واجعلوه مجمعا بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم وأجمعوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل وكيدكم مفعول به إذا اعتبرت أجمعوا متعدية وبعضهم لم يعتبرها متعدية فيكون كيدكم منصوبا بنزع الخافض ثم ائتوا عطف على أجمعوا وصفا حال وانما أمرهم بذلك لإدخال الرهبة في صدور الرائين، وقال أبو عبيدة:
الصف موضع المجمع ويسمى المصلى الصف قال الزجاج: وعلى هذا معناه ثم ائتوا الموضع الذي تجتمعون فيه لعيدكم وصلاتكم يقال أتيت الصف بمعنى أتيت المصلى فعلى هذا يكون انتصابه على المفعولية.
وقد الواو اعتراضية وقد حرف تحقيق وأفلح فعل ماض واليوم ظرف متعلق بأفلح ومن فاعل أفلح وجملة استعلى صلة. (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) إما حرف شرط وتفصيل ومعناها هنا التخيير ولا يكون إلا بعد الطلب، وأن وما بعدها في
211
تأويل مصدر منصوب بفعل محذوف تقديره اختر أحد الأمرين أو مرفوع بأنه خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر القاؤك أو مبتدأ والخبر محذوف والتقدير إلقاؤك أول وإما أن تكون عطف على ما تقدم واسم نكون مضمر تقديره نحن وأول خبرها ومن مضاف اليه وجملة ألقى صلة. ويجوز أن تكون ان وما في حيزها في محل نصب بفعل مضمر أي اختر إلقاءك أولا أو القاءنا. (قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) بل حرف إضراب وعطف وألقوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل فإذا الفاء عاطفة على محذوف تقديره فألقوا فإذا وإذا هذه للمفاجأة وقد تقدم أنها حرف أو ظرف ثم اختلف أهو ظرف مكان أو زمان وسننقل قول الزمخشري فهو غاية الغايات قال:
«والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلا مخصوصا وهو فعل المفاجأة والجملة ابتدائية لا غير فتقدير قوله تعالى «فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ» ففاجأ موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم وهذا تمثيل والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي».
وحبالهم مبتدأ وعصيهم عطف عليه وجملة يخيل اليه خبر حبالهم وإذا جعلت إذا خبرا فتكون جملة يخيل إليه حال ومن سحرهم متعلقان بيخيل وأنها وأن واسمها وجملة تسعى خبر أن وأن وما بعدها في تأويل مصدر نائب فاعل ليخيل أي يخيل إليه سعيها وجعل الزمخشري المصدر بدل اشتمال من الضمير في حبالهم وعصيهم. (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) الفاء عاطفة وأوجس فعل ماض، وفي نفسه متعلقان بأوجس
212
وخيفة مفعول به وموسى فاعل. (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) قلنا فعل وفاعل وجملة لا تخف مقول القول ولا ناهية وتخف فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره أنت وجملة انك مستأنفة كتعليل للنهي عن الخوف الذي ساوره لطبع البشرية من ضعف القلب وان كان متيقنا من أن الله ناصره وأنهم لن يصلوا اليه بسوء وإن واسمها وأنت تأكيد أو ضمير فصل أو مبتدأ والأعلى خبر إن أو خبر أنت والجملة خبر إن وسيأتي الكلام على المبالغة في هذا التعبير في باب البلاغة. (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) وألق الواو عاطفة وألق فعل أمر مبني على حذف حرف العلة والفاعل مستتر تقديره أنت وما مفعول به وفي يمينك متعلقان بمحذوف صلة ما وسيأتي سر هذا الإبهام في باب البلاغة وتلقف جواب الطلب مجزوم وعلامة جزمه السكون وفاعل تلقف ضمير مستتر تقديره هي وما مفعول به وجملة صنعوا صلة أي ما زوّروه وكذبوا فيه. (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) تعليل لقوله تلقف وإن واسمها وجملة صنعوا صلة وكيد ساحر خبر إن، وقد درج المصحف على كتابة ما متصلة بان، ويجوز أن تكون ما مصدرية والاعراب واحد ولا الواو حالية أو عاطفة ولا نافية ويفلح الساحر فعل مضارع وفاعل وحيث ظرف مكان مبني على الضم متعلق بيفلح وجملة أتى مضافة الى الظرف.
(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) الفاء عاطفة على جملة محذوفة تقديرها فألقى موسى عصاه فتلقفت كل ما صنعوه فألقي السحرة فعل ماض مبني للمجهول والسحرة نائب فاعل وسجدا حال من السحرة قالوا فعل وفاعل وجملة آمنا مقول القول وهو فعل وفاعل وبرب هارون وموسى متعلقان بآمنا.
213
البلاغة:
في هذه الآيات فنون من البيان تذهل العقول، فأولها:
١- فن الاستدراج
وقد تقدم القول فيه وهو بالاضافة الى ما فيه من البلاغة ينطوي على نكت دقيقة في استدراج الخصم واضطراره الى الإذعان والتسليم فقد شاء السحرة في بادئ الأمر استدراج موسى ثقة منهم بأنهم فائزون عليه وكأنما ألهمهم الله حسن الأدب مع موسى في تخييره وإعطائه النصفة من أنفسهم عند ما قالوا «فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً» ففوضوا ضرب الموعد اليه ولكن موسى استدرجهم بإلهام من الله عز وجل أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم ليكون الحق أبلج على رؤوس الأشهاد فيكون أفضح لكيدهم وأهتك لسترهم ولما استدرجوه الى التخيير في الإلقاء أيكون هو البادئ أم يكونون هم البادئين استدرجهم هو إلى أن يجعلهم مبتدئين بما معهم ليكون القاؤه العصا بعد قذفا بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق فما أروع هذا الكلام.
٢- فن توكيد الضميرين،
وقد تتساءل وما علاقة البحث النحوي بالبلاغة؟ والضمائر وتوكيد بعضها لبعض مذكورة في كتب النحو ونقول ان المسألة أجلّ وأسمى من النحو، والنحاة بمعزل عن هذا الفن الرفيع ونعني بتوكيد الضميرين أن يؤكد المتصل بالمنفصل كقولك إنك أنت أو يؤكد المنفصل بمنفصل مثله كقولك أنت أنت أو يؤكد المتصل بمتصل مثله كقولك إنك إنك لعالم وانما يؤتى بمثل ذلك في معرض المبالغة وهو من أسرار علم البيان ومن ذلك قوله تعالى «قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ» فإن إرادة السحرة
214
الإلقاء قبل موسى لم تكن معلومة عنده لأنهم لم يصرحوا بما في أنفسهم من ذلك لكنهم لما عدلوا عن مقابلة خطابهم موسى بمثله الى توكيد ما هو لهم بالضميرين اللذين هما نكون ونحن دلّ ذلك على أنهم يريدون التقدم عليه والإلقاء قبله لأن من شأن مقابلة خطابهم موسى بمثله إن كان قالوا: إما أن تلقي وإما أن نلقي لتكون الجملتان متقابلتين فحيث قالوا عن أنفسهم «وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ» استدل بهذا القول على رغبتهم في الإلقاء قبله ومنه أيضا قوله تعالى «فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى» فتوكيد الضميرين هاهنا في قوله إنك أنت الأعلى أنفى للخوف من قلب موسى وأثبت للغلبة والقهر ولو قال: لا تخف إنك الأعلى أنت الأعلى لم يكن له من التقرير والإثبات لنفي الخوف ما لقوله «إنك أنت الأعلى» وفي هذه الكلمات الثلاث ست فوائد:
١- «إن» المشددة التي من شأنها الإثبات لما يأتي بعدها وتأكيده وقد نص علماء المعاني على أن الخبر يكون مع إن طلبيا أو إنكاريا لا ابتدائيا كقولك زيد قائم ثم تقول: إن زيدا قائم ففي قولك إن زيدا قائم من الإثبات لقيام زيد ما ليس في قولك زيد قائم.
٢- تكرير الضمير في قوله «إنك أنت» ولو اقتصر على أحد الضميرين لما كان بهذه المثابة في التقرير لغلبة موسى والإثبات لقهره.
٣- لام التعريف في قوله «الأعلى» ولم يقل أعلى أو عال لأنه لو قال ذلك لكان قد نكره وكان صالحا لكل واحد من جنسه كقولك رجل فإنه يصلح أن يقع على كل واحد من الرجال وإذا قلت الرجل فقد خصصته من بين الرجال بالتعريف وجعلته علما فيهم وكذلك جاء قوله «إنك أنت الأعلى» أي دون غيرك.
215
٤- لفظ أفعل الذي من شأنه التفضيل ولم يقل العالي فهو أعلى من كل عال.
٥- لفظ العلو الدال على أن الغلبة ثابتة له من جهة العلو ومعلوم أن الغرض من قوله «الأعلى» الغلبة إلا أن في الأعلى زيادة وهي كونها صادرة عن مكان عال.
٦- الاستئناف وهو قوله تعالى: «لا تخف إنك أنت الأعلى» ولم يقل لأنك أنت الأعلى فكان ذلك أبلغ في إيقان موسى عليه السلام بالغلبة والاستعلاء وأثبت ذلك في قرارة نفسه بما لا يدع أي مجال للشك.
هذا وقد تقدم نوع من هذا الفن وسيرد غيره في حينه ومواضعه ان شاء الله، بقي أن تتحدث عن اختيار موسى يوم الزينة فما هو هذا اليوم؟
يوم الزينة:
قيل فيه يوم عاشوراء، ويوم النيروز، ويوم عيد كان لهم في كل عام وكانوا يتخذون فيه سوقا ويتزينون ويظهرون فيه كل بهارجهم إذ يحشر فيه الناس منذ ضحوة النهار حتى المساء.
٣- فن الإبهام:
وذلك في قوله «ما في يمينك» فقد أبهمها لأمرين متضادين أولهما استصغار أمرها أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي بيدك فانه بقدرة الله تعالى يتلقفها على وحدته
216
وكثرتها وصغره وعظمها، وثانيهما تعظيم أمرها أي لا تعبأ بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة فإن في يمينك شيئا هو أعظم منها كلها فألقها تمحقها وتطح بها بإذن الله، وقد يقول قائل كيف يحتقر العصا؟
والجواب ان المقصود بتحقيرها في جنب القدرة الإلهية تحقير كيد السحرة بطريق الأولى لأنها إذا كانت وهي الحقيرة الضئيلة التي لا يؤبه بها بالنسبة للقدرة الإلهية قد طاحت بما أتوا به من أضاليل مموّهة وأكاذيب مخترعة فما ظنك بكيدهم وأقل شيء يذهب به وهذا معنى دقيق قل من يتفطن له، وقد رمق سماءه شاعر الخلود أبو الطيب المتنبي فقال من قصيدة يمدح بها بدر بن عمار ويذكر الأسد وقد أعجله فضربه بسوطه:
ونحشّ تحت القدر نوقدها بغضا الغريف فأجمعت تغلي
أمعفر الليث الهزبر بسوطه لمن ادّخرت الصارم المصقولا؟
والمعنى إذا كنت تلقى هذا الأسد وهو أقوى الحيوانات وأشجعها بسوطك فلمن خبأت صارمك المصقول؟
ولأصحاب البلاغة أيضا طريق في علو المدح بتعظيم جيش عدو الممدوح ليلزم من ذلك تعظيم جيش الممدوح وقد قهره واستولى عليه وقد رمق سماءه أبو الطيب إذ وصف جيش الروم الذي لاقاه سيف الدولة فبالغ في تعظيم أمره وتصوير عدده البالغة والغاية هي أن يتناهى في تعظيم أمر سيف الدولة وجيشه فقال في وصف جيش الروم:
217
جعل الروم يبرقون لكثرة ما عليهم من الحديد ولم يفرق بين سيوفهم وبينهم لأن على رءوسهم البيض والمغافر وثيابهم الدروع فهم كالسيوف وأشار بهذا الوصف الى كثرة سلاح هذا الجيش تمهيدا للاشارة الى قوته:
أتوك يجرون الحديد كأنهم سروا بجياد ما لهن قوائم
إذا برقوا لم تعرف البيض منهم ثيابهم من مثلها والعمائم
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه وفي أذن الجوزاء منه زمازم
تجمع فيه كل لسن وأمة فما تفهم الحداث إلا التراجم
فلله وقت ذوب الغشّ ناره فلم يبق إلا صارم أو ضبارم
وستأتي تتمة هذا الوصف البديع في موطن آخر من مواطن البلاغة التي رمق أبو الطيب سماء القرآن فيها.
نكتة أخرى في الإبهام:
وهناك نكتة أخرى سوى قصد التعظيم والتحقير وهي أن موسى عليه السلام أول ما علم أن العصا آية من الله تعالى عند ما سأله:
وما تلك بيمينك يا موسى ثم أظهر له تعالى آيتها فلما دخل وقت الحاجة الى ظهور الآية منها قال تعالى: وألق ما في يمينك ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ» وقد أظهر له آيتها فيكون ذلك تنبيها له وتأنيسا حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت
218
ظهور آيتها وذلك مقام يناسب التأنيس والتثبيت في موقف يزايل الوقار أشد النفوس قوة ورباطة.
٤- فن التكرير:
وقد تقدم كثيرا بحثه والاشارة اليه وذكر نماذج رائعة منه وسيأتي المزيد والأكثر وهنا في هذه الآيات تكرر لفظ الإلقاء ولكنه تكرر لم يطرد على وتيرة واحدة وانما هو لفظ واحد في معنيين متضادين متناقضين نقل بهما سبحانه عباده من غاية الكفر والعناد، الى نهاية الايمان والسداد فما أعظم الفرق بين الإلقاءين: لقد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود. ثم ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر والسجود.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧١ الى ٧٦]
قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥)
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)
219
الإعراب:
(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) جملة آمنتم مقول القول والقائل هو فرعون وآمنتم الهمزة للاستفهام والتقريع والتوبيخ حذفت الهمزة الأولى وسهلت الثانية وهو فعل ماض وفاعل وله متعلقان بآمنتم وقبل ظرف متعلق بآمنتم أيضا وأن آذن لكم المصدر المؤول مضاف لقبل. (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) ان واسمها واللام المزحلقة وكبيركم خبرها والذي صفة وجملة علمكم السحر صلة والسحر مفعول به ثان لعلمكم، أي أن موسى لكبيركم أي معلمكم وأستاذكم وأعلاكم درجة في صناعة السحر، قال الكسائي: الصبي بالحجاز إذا جاء من عند معلمه قال: جئت من عند كبيري، وقال الواحدي: والكبير في اللغة الرئيس ولهذا يقال للمعلم الكبير، وأراد فرعون من ذلك إلقاء الشبهة على الناس وإدخالها في صدورهم ليستريبوا ولا يؤمنوا وإلا فقد علم أنهم لم يتعلموا من موسى ولا كان رئيسا لهم ولا صلة بينه وبينهم. (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) الفاء الفصيحة واللام موطئة للقسم وأقطعن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره أنا وأيديكم مفعول به وأرجلكم عطف على أيديكم ومن خلاف حال بمعنى مختلفة ومن ابتدائية كأن القطع ابتدئ من مخالفة العضو للعضو. (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) الواو حرف عطف ولأصلبنكم عطف على لأقطعن
220
وفي الظرفية شبه تمكن المصلوب بالجذع بتمكن المظروف في الظرف وهو متعلق بأصلبنكم وسيأتي مزيد بحث عنه في باب البلاغة.
(وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) ولتعلمن عطف على لأصلبنكم وأينا استفهامية مبتدأ وأشد خبر والجملة في محل نصب سادة مسد مفعولي تعلمن لأن الفعل علق بأي الاستفهامية ويجوز أن تكون أي موصوليه وبنيت لأنها أضيفت وحذف صدر صلتها وقد تقدمت نظائرها كثيرا وعندئذ تكون هي المفعول به لتعلمن وأشد خبرا لمبتدأ محذوف تقديره هو وجملة أشد صلة الموصول وأبقى عطف على أشد.
(قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا) لن حرف نفي ونصب واستقبال ونؤثرك مضارع منصوب بلن والكاف مفعول به والفاعل مستتر تقديره نحن والجملة مقول قولهم وعلى ما متعلقان بنؤثرك وجملة جاءنا صلة ومن البينات متعلقان بمحذوف حال والذي عطف على ما وأخروا ذكر الباري من باب تقديم الأدنى على الأعلى وسيرد بحث التقديم والتأخير في باب البلاغة وقيل الواو للقسم والذي مجرور بواو القسم أي مقسم به وهو الله تعالى وفطرنا صلة والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف تقديره أقسم وجواب القسم محذوف تقديره لا نؤثرك على الذي جاءنا من الحق. (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) الفاء الفصيحة واقض فعل أمر مبني على حذف حرف العلة وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وما مفعول به وأنت مبتدأ وقاض خبر مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين وجملة أنت قاض صلة والعائد محذوف أي قاضيه وانما كافة ومكفوفة على الأرجح وتقضي فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره أنت ومفعول تقضي محذوف تقديره لبانتك أو مأربك وهذه ظرف والحياة بدل والدنيا صفة والظرف متعلق بتقضي ويجوز أن تكون ما
221
موصولة أو مصدرية وهي اسم إن والخبر هو الظرف ويجوز اعراب هذه الحياة الدنيا مفعولا به على السعة. (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) ان واسمها وجملة آمنا خبرها وبربنا متعلقان بآمنا واللام للتعليل ويغفر فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل ولنا متعلقان بيغفر وما عطف على خطايانا أي ليغفر لنا خطايانا ويغفر لنا أيضا الذي أكرهتنا عليه ولك أن تجعل الواو ابتدائية وما مبتدأ وجملة أكرهتنا صلة والخبر محذوف أي مرفوع عنا وملقى عن كواهلنا وعليه متعلقان بأكرهتنا ومن السحر حال والله مبتدأ وخير خبر وأبقى عطف على خير (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) إن واسمها ومن اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ ويأت فعل الشرط وعلامة جزمه حذف حرف العلة وفاعل يأت مستتر تقديره هو وربه مفعول به والهاء مضاف اليه ومجرما حال من فاعل يأت فإن الفاء رابطة لجواب الشرط وان حرف مشبه بالفعل وله خبرها المقدم وجهنم اسمها المتأخر وجملة لا يموت فيها حالية من الهاء في له أو من جهنم وفيها متعلقان بيموت ولا يحيا عطف على يموت. (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) ومن يأته مؤمنا تقدم إعراب نظيرها وجملة قد عمل الصالحات صفة لمؤمنا فأولئك الفاء رابطة وأولئك اسم اشارة مبتدأ ولهم خبر مقدم والدرجات مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر أولئك وجملة فأولئك في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من والعلى صفة للدرجات. (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) جنات عدن بدل من الدرجات العلى أو خبر لمبتدأ محذوف وجملة تجري من تحتها الأنهار
222
صفة لجنات وخالدين فيها حال من «من» وفيها متعلقان بخالدين وذلك مبتدأ وجزاء خبر ومن مضاف اليه وجملة تزكى صلة.
البلاغة:
معنى لأصلبنكم في جذوع النخل:
قوله «وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ» في الكلام استعارة مكنية تبعية وتقريرها انه شبّه استعلاء المصلوب على الجذع بظرفية المقبور في قبره ثم استعمل في المشبه «في» الموضوعة للمشبه به أعني الظرفية فجرت الاستعارة في الاستعلاء والظرفية وبتبعيتها في على وفي واذن، ففي على بابها من الظرفية وهذا أصح الأقوال فيها وقيل ان في بمعنى على فلا يكون في الكلام استعارة.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٧ الى ٨٢]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)
223
اللغة:
(يَبَساً) : بفتحتين قال في القاموس: يبس الشيء ييبس من بابي علم وحسب يبسا ويبسا واتّبس كان رطبا فجف فهو يبس ويبس ويابس ويبوس ويبيس وأيبس» وسمع بعض العرب: جمّرت الخبز كي يابس ظهره: جعلت عليه الجمر وقد يبست: إذا ذهب نداها وعود يابس وعيدان يبس والسفينة لا تجري على يبس «طريقا في البحر يبسا» وهي ترعى اليبس واليبيس: ما يبس من النبات فاستعمال العامة للنبات اليبيس ليطبخ في غير أوانه لا غبار عليه ومن المجاز قد يبس ما بينهما: إذا تقاطعا ولا توبس الثرى بيني وبينك قال جرير:
أتغلب أولي حلفة ما ذكرتكم بسوء ولكني عتبت على بكر
فلا توبسوا بيني وبينكم الثرى فإن الذي بيني وبينكم مثري
(دَرَكاً) : بفتحتين أي أن يدركك فرعون وجنوده والدرك والدرك بفتحتين وبفتح الدال وسكون الراء اللحاق وادراك الحاجة وأقصى قعر الشيء يقال بلغ الغواص درك البحر ويقال فرس درك الطريدة أي يدركها ومنه قولهم: ما لحقك من درك فعليّ خلاصه فاستعمال رجال الدرك صحيح لا غبار عليه.
الإعراب:
(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) الواو عاطفة أو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وأوحينا فعل وفاعل والى موسى متعلقان بأوحينا وأن مفسرة وأسر بقطع الهمزة من أسرى فعل
224
أمر مبني على حذف حرف العلة وبعبادي متعلقان بأسر أي سربهم ليلا.
(فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) فاضرب عطف على أسر أي اجعل، من قولهم ضرب له في ماله سهما وضرب اللبن عمله فقول العامة: ضرب لبنا لا غبار عليه. ولهم متعلقان باضرب أي قائم مقام المفعول الثاني وطريقا مفعول به أول وفي البحر صفة ويبسا صفة ثانية وهو وصف لما يئول اليه كما سيأتي في باب البلاغة أو مصدر وصف به مبالغة كرجل عدل وصدق وجملة لا تخاف حالية من فاعل اضرب أي اضرب غير خائف أو صفة لطريقا والعائد محذوف أي لا تخاف فيه أو هي جملة مستأنفة والأول أظهر ولا نافية وتخاف فعل مضارع مرفوع وفاعله أنت ودركا مفعول به وجملة ولا تخشى عطف على لا تخاف. (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) الفاء عاطفة واتبعهم فعل ماض متعد لاثنين حذف ثانيهما والتقدير فأتبعهم فرعون عقابه والهاء هو المفعول الأول وقيل الباء زائدة في المفعول الثاني والتقدير فأتبعهم فرعون جنوده فهو كقوله تعالى: «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» واتبع قد جاء متعديا الى اثنين مصرح بهما قال «وَأَتْبَعْناهُمْ ذرياتهم» وقيل هو بمعنى تبع يتعدى لواحد فتكون بجنوده في محل نصب على الحال فغشيهم الفاء عاطفة وغشيهم فعل ماض والهاء مفعوله أي غمرهم وما فاعل وجملة عشيهم صلة وهو من الإبهام وسيأتي الكلام عنه مرة ثانية في باب البلاغة.
(وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) الواو عاطفة مع تقديم وتأخير في الكلام لأن إضلاله قومه كان قبل العرق طبعا وأضل فعل ماض وفرعون فاعل وقومه مفعول به وجملة وما هدى عطف على أضل وسيأتي الكلام عن هذا العطف في باب البلاغة والتهكم فيه. (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) يا حرف نداء وبني إسرائيل منادى مضاف وقد
225
حرف تحقيق وأنجيناكم فعل ماض وفاعل ومفعول به ومن عدوكم متعلقان بأنجيناكم. (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) وواعدناكم عطف على أنجيناكم وواعدناكم فعل وفاعل ومفعول به أول وجانب الطور مفعول به ثان على حذف مضاف أي إتيان جانب ولا يكون ظرفا لأنه محدود، والأيمن صفة لجانب ونزلنا عطف على ما قبله لتتمة تعداد النعم الدنيوية والدينية المترادفة عليهم وعليكم متعلقان بنزلنا والمن مفعول به والسلوى عطف على المن وقد تقدم ذكرهما والنداء إما أن يكون لبني إسرائيل بعد انجائهم من البحر وإهلاك فرعون وجنوده وإما أن يكون موجها الى اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، خوطبوا بما أنعم الله به على أجدادهم ومع ذلك كفروا بالنعمة وغمطوها وجحدوها فهم علة العلل في مختلف ظروف الزمان والمكان، وهم أداة تعطيل السلام في كل آن.
(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) كلوا فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل ومن طيبات متعلقان بكلوا وما مفعول به وجملة رزقناكم صلة ولا تطغوا الواو عاطفة ولا ناهية وتطغوا فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والواو فاعل وفيه متعلقان بتطغوا فيحل الفاء السببية ويحل فعل مضارع منصوب بأن مضمرة لأنه وقع في جواب النهي وعليكم متعلقان بيحل وغضبي فاعل وقيل هو معطوف فيكون نهيا أيضا. (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) الواو عاطفة ومن شرطية مبتدأ ويحلل فعل الشرط وعليه متعلقان بيحلل وغضبي فاعل يحلل والفاء رابطة لجواب الشرط وقد حرف تحقيق وهوى فعل ماض أي هلك والجملة في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من على التحقيق. (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) الواو عاطفة وان واسمها واللام المزحلقة
226
وغفار خبر إن ولمن متعلقان بغفار وجملة تاب صلة وآمن وعمل عطف وصالحا مفعول به أو صفة لمصدر محذوف أي عمل عملا صالحا ثم اهتدى عطف متأخر باعتبار الانتهاء لبعده عن أول الاهتداء أو للتفاوت بين المرتبتين فإن الاستمرار في التوبة والايمان والعمل الصالح هو الشرط الاساسي لقبول الأعمال.
البلاغة:
في هذه الآيات أفانين متنوعة من الفنون ندرجها فيما يلي:
١- المجاز المرسل:
وذلك في قوله يبسا لأنه لم يكن حين خاطبه الله تعالى يبسا ولكن باعتبار ما يئول اليه كقوله تعالى «إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) وقد تقدم القول فيه مفصلا.
٢- الإبهام:
وذلك في قوله «فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ»
أي علاهم وغمرهم من الأمر الهائل الذي ليس في طوقهم احتماله ما لا يمكن ادراك كنهه ولا سبر غوره وهو من جوامع الكلم التي يقل لفظها ويتشعب القول في معناها.
٣- التهكم:
تقدم القول فيه مرارا وهو هنا في قوله «وَما هَدى» والمعروف أن التهكم هو أن يأتي المتكلم بعبارة والمقصود عكس معناها كقوله «إنك لأنت الحليم الرشيد» وغرضهم وصفه بضد هذين الوصفين وأما قوله تعالى «وَما هَدى» فمضمونه هو الواقع فهو حينئذ مجرد
227
إخبار عن عدم هدايته لقومه فأين التهكم؟ ولكن العرف في مثل ما هدى زيد عمرا بثبوت الهداية لزيد في نفسه ولكنه يؤخذ عليه انه لم يهد عمرا ولكن فرعون ضال في نفسه بل ان الضلال مركوز في سليقته كامن فيه كمون الطبائع الاصيلة فكيف يتوهم انه يهدي غيره وإذن فهو جمع بين المثلبتين واكتنفه الشر من ناحيتين فحق لمثله وقد صار مهزأة ان يتهكم به ويكون أداة للتهكم.
٤- المجاز العقلي:
وفي قوله تعالى «وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ» فإن لقائل أن يقول ان المواعدة كانت لموسى عليه السلام فكيف أضيفت إليهم، وإيضاح الجواب الدقيق الذي لم أر من وفّاه حقه أنه مجاز عقلي أسند المواعدة إليهم من قبل الله كما تسند الأمور المدركة الى من ليس له ادراك على حد المجاز العقلي وهذا من أسمى ما يصل اليه الأسلوب اللبق تقول لابن صديقك المتعسف المرتطم في حمأة الهوان لقد عرفتكم أهل حجا وتصون، تريد أن تنسب اليه ما هو بعيد عنه بعد الأمور المدركة عن غير العقلاء حين تنسب إليهم على طريق المجاز العقلي.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٣ الى ٨٦]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦)
228
اللغة:
(عَلى أَثَرِي) : الأثر بقية الشيء والجمع آثار وأثور والخبر وخرج في أثره وإثره: بعده وائتثره وتأثّره تبع اثره والأثر فرند السيف ويكسر كالأثير والجمع أثور.
(السَّامِرِيُّ) : في القاموس: الذي عبد العجل وكان علجا من كرمان أو عظيما من بني إسرائيل ينسب الى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة نسبة الى مقاطعة في فلسطين، قال في المنجد: وهم قوم «يخالفون اليهود في نقاط دينية جوهرية منها أنهم لا يقرون من كتب الوحي إلا أسفار موسى الخمسة المعروفة بالتوراة وانهم يقولون بواجب العبادة لا في أورشليم ولكن على جبل جريزيم جنوبي شكيم» وقال في الخازن «واسمه موسى بن ظفر».
الإعراب:
(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) الواو عطف على محذوف يفهم من السياق والتقدير فسار موسى لحضور الميقات مع قوم مخصوصين وهم السبعون الذين اختارهم موسى من بين قومه ليذهبوا معه الى جبل الطور ليأخذوا التوراة، عجل من بينهم شوقا الى كلام ربه وتنجز ما وعد به بناء على اجتهاده وخلفهم وراءه فقال له تعالى:
وما أعجلك وسيأتي المزيد عن هذا السؤال في باب البلاغة. وما اسم استفهام مبتدأ وأعجل فعل ماض وفاعل مستتر تقديره هو يعود على ما والكاف مفعول به والجملة خبر ما وعن قومك متعلقان بأعجلك.
(قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) هم مبتدأ وأولاء خبر وعلى أثري خبر ثان أو حال وعجلت فعل وفاعل والواو حالية
229
بتقدير قد أو عاطفة وإليك متعلقان بعجلت ورب منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وحرف النداء محذوف ولترضى اللام للتعليل وترضى فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بعجلت أيضا كأنه تعليل لعجلته. (قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) قال فعل ماض وفاعله مستتر يعود على الله والفاء الفصيحة أي إن شئت أن تعلم مصير قومك، وان واسمها وجملة قد فتنا خبرها وهي فعل وفاعل وقومك مفعول به وأضلهم السامري فعل ومفعول به مقدم وفاعل مؤخر. (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) تقدم القول في فاء التعقيب انها قد تتخلف في وقتها دون أن يحدث فاصل فلم يرجع موسى إلا بعد أن استوفى الأربعين يوما وأخذ التوراة، ورجع فعل ماض وموسى فاعل والى قومه متعلقان برجع وغضبان أسفا حالان. (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) يا حرف نداء وقوم منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة، ألم الهمزة للاستفهام الانكاري ويعدكم فعل مضارع مجزوم بلم والكاف مفعول به وربكم فاعل ووعدا مفعول مطلق وحسنا صفة. (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) الهمزة للاستفهام والفاء حرف عطف على محذوف وطال فعل ماض وعليكم متعلقان بطال والعهد فاعل وأم حرف عطف معادل للهمزة وأردتم فعل وفاعل وأن وما في حيزها مفعول أردتم وعليكم متعلقان بيحل وغضب فاعل يحل ومن ربكم صفة لغضب فأخلفتم الفاء حرف عطف وأخلفتم عطف على أردتم وموعدي مفعول أخلفتم.
البلاغة:
الاستفهام من الله تعالى لا يقع لاستدعاء المعرفة ولكنه يخرج عن
230
معناه الأصلي لأغراض أخر تدرك من سياق الكلام وقد أفاد السؤال هنا أغراضا نوجزها فيما يلي:
آ- لتعريف المسئول بما يجهله من أمور وقد أراد سبحانه تعريفه بفتنة قومه فقد قيل انهم كانوا نحو ستمائة ألف نفس ما نجا منهم من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا.
ب- تبكيت المسئول وتفهيمه وتنبيهه الى خطل ما جاء به من ترك القوم وافساح المجال للسامري كي يضلهم لأنه مغرق في الضلالة وماهر في الإضلال.
ج- تعليم المسئول آداب السفر وهي: انه ينبغي على رئيس القوم أن يتأخر عنهم في المسير ليكون نظره محيطا بهم ونافذا فيهم ومهيمنا عليهم، وقاطعا الطريق على كل فتنة قد تتسرب الى صفوفهم.
على أن موسى عليه السلام أغفل هذه الأمور ولعله ملم بها ومطلع عليها ولكن الشوق الى لقاء الله والمسارعة الى ميعاده ألهب قلبه فلم يملك عنان صبره الجامح وذلك شأن الموعود بما طال حنينه اليه يودّ لو امتطى أجنحة الطير واستبق الساعات وهل ثمة ما يلهب الشوق مثل مواعدة الله؟
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٧ الى ٩٨]
قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١)
قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦)
قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨)
231
اللغة:
(بِمَلْكِنا) : بقدرتنا مصدر ملك وهو مثلث الميم وفي القاموس وشرحه التاج ملك يملك من باب تعب ملكا وملكا وملكا بفتح الميم وضمها وكسرها وملكة ومملكة بفتح اللام ومملكة بكسرها
232
ومملكة بضمها الشيء احتواه قادرا على التصرف والاستبداد به وملك على القوم: استولى عليهم وملك على فلان أمره استولى عليه وملك نفسه قدر على حبسها وملك المرأة تزوجها.
(أَوْزاراً) : أثقالا وأرادوا بها حلي القبط التي استعاروها منهم وأرادوا بالأوزار انها آثام وتبعات لأنهم استعاروها منهم وليس لهم فيها حق.
(خُوارٌ) : بضم الخاء صوت البقر والعجاجيل وعبر بالجسد مع أنه لا يقال للعاقل: ولأن الجسد لا يقال إلا للانسان تغليبا وتشبيها له بالعاقل كأنه غاير البقر ولا يقال جسد لغير الإنسان إلا للزعفران ويقال جساد بفتح الجيم أيضا وللدم إذا يبس ويقال له جاسد أيضا.
َا بْنَ أُمَّ)
: سيأتي في باب الفوائد.
(فَقَبَضْتُ) : قبض يقبض من باب جلس بيده الشيء وعلى الشيء:
أمسكه بيده وضم عليه أصابعه وقبض يده عن الشيء: امتنع عن إمساكه وقبضه عن الأمر أنحاه وقبضه الله أماته وقبض الشيء: خلاف بسطه ووسعه وقبض الطائر جناحه: جمعه وقبض الدار ونحوها تسلمها وقبض منه المال: أخذه لنفسه وقبض قبضة أخذها ويقال قبص بالصاد المهملة لأنهما تتعاقبان في كثير من الكلمات نورد أهمها فيما يلي:
قال يعقوب بن السكيت: وقضت قبضة وقبصت قبصة ويقال:
إن القبصة أقل من القبضة وقال غيره: القبص بأطراف الأصابع والقبض بالكف كلها ويقال عاد الى ضئضئه وصئصئه أي الى أصله والهمز الأصل وأنشد:
233
أنا من ضئضىء صدق... بخ ومن أكرم حذل
من عزاني قال به به... سنخ ذا أكرم أصل
الحذل: الحجر وقال اللحياني: بخ بخ وبه به تقال للانسان إذا عظّم، وقال أبو عمرو: ما ينوض بحاجة وما يقدر على أن ينوص أي يتحرك ومنه قوله عز وجل: «وَلاتَ حِينَ مَناصٍ» ومناص ومناض واحد ويقال: أنقاص وأنقاض بمعنى واحد وقال الأصمعي:
المنقاض: المنقعر من أصله والمنقاص: المنشقّ طولا وقال أيضا:
مضمض لسانه ومصمص لسانه إذا حركه وقال اللحياني: يقال: إنه لصلّ أصلال وضلّ أضلال والصل الحية التي تقتل إذا نهشت من ساعتها ويقال مصمص إناءه ومضمضه إذا غسله فقول العامة مصمص العظم صحيح لا غبار عليه.
(بَصُرْتُ) : بصر بالشيء بضم الصاد وأبصره بمعنى علمه وهو من باب ظرف ويقال بصر بالكسر من باب علم.
(مِساسَ) : بكسر الميم مصدر ماس وستأتي حقيقة هذا التركيب في باب الإعراب.
الإعراب:
(قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) قالوا فعل وفاعل وما نافية وأخلفنا فعل وفاعل وموعدك مفعول به وبملكنا جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال أي حال كوننا مالكين أمرنا ولكننا غلبنا على أمرنا من جهة السامري وكيده. (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ) الواو
234
عاطفة ولكن واسمها وحملنا فعل ماضي بالبناء للمجهول ونا نائب فاعل وأوزارا مفعول به ثان ومن زينة القوم صفة. (فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ) الفاء عاطفة وقذفناها فعل وفاعل ومفعول وهو معطوف على محذوف أي فقال لنا السامري اقذفوها في النار لأن موسى تأخر عنكم بسببها فقذفناها الفاء حرف عطف وكذلك نعت لمصدر محذوف وقد تقدم كثيرا وألقى السامري فعل وفاعل. (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ) الفاء عاطفة وأخرج فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على السامري والعطف على فأضلهم السامري لئلا يتوهم أنه من كلامهم ولهم متعلقان بأخرج وعجلا مفعول به وجسدا حال من عجلا ولكن يشكل على هذا الإعراب الذي اختاره عدد من المفسرين أن صاحب الحال لا يكون إلا معرفة ولعل هذا العجل الذي أخرجه السامري من الحفرة التي فيها تراب اثر حافر الرسول الى موسى كما سيأتي صار بحكم المعرفة نقول ولا مانع من إعرابه بدلا من عجلا وجملة له خوار من الخبر المقدم والمبتدأ المؤخر صفة. (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) الفاء حرف عطف وقالوا فعل وفاعل وهذا مبتدأ وإلهكم خبر وإله موسى عطف على إلهكم فنسي الفاء حرف عطف ونسي فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على موسى أي نسي ربه فذهب يطلبه وقيل الضمير يعود على السامري أي ترك ما كان عليه من الايمان الظاهر. (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) الهمزة للاستفهام والفاء حرف عطف ولا نافية ويرون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل وأن مخففة من الثقيلة ولا نافية ويرجع فعل مضارع واسم أن المخففة ضمير الشأن أي انه، وفاعل يرجع مضمر تقديره هو يعود على العجل وإليهم متعلقان بيرجع وقولا مفعول به ولهذا ارتفع الفعل بعدها. (وَلَقَدْ
235
قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ)
الواو حرف عطف واللام موطئة للقسم وقد حرف تحقيق وقال لهم هارون فعل ماض وفاعل ومن قبل متعلقان بمحذوف حال أي قبل رجوع موسى. (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) يا حرف نداء وقوم منادى مضاف الى ياء المتكلم المحذوفة وإنما كافة ومكفوفة وفتنتم فعل ماض مبني للمجهول والتاء نائب فاعل والميم علامة جمع الذكور وبه متعلقان بفتنتم وإن ربكم الرحمن ان واسمها وخبرها والفاء الفصيحة واتبعوني فعل أمر مبني على حذف النون والواو فاعل والنون للوقاية والياء مفعول به وأطيعوا أمري عطف على اتبعوني. (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) لن حرف نفي ونصب واستقبال ونبرح فعل مضارع ناقص منصوب بلن واسمها ضمير مستتر تقديره نحن وعليه متعلقان بعاكفين وعاكفين خبر نبرح، حتى حرف غاية وجر ويرجع فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد حتى وإلينا متعلقان بيرجع وموسى فاعل وهذا التعليق الذي جعلوه غاية لعكوفهم أم يكن منهم إلا تسويفا وتعللا ليس من قبيل الوعد بترك عبادته بعد رجوع موسى. (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) ما اسم استفهام في محل رفع مبتدأ وجملة منعك خبر وإذ ظرف متعلق بمنعك وجملة رأيتهم مضافة للظرف ورأيتهم فعل وفاعل ومفعول به وجملة ضلوا حالية أو مفعول به ثان لرأيتهم إذا اعتبرتها قلبية. (أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) أن حرف مصدري ونصب ولا مزيدة أي أي شيء منعك من اتباعي في الغضب لله وهلا قاتلت من كفر بمن آمن، والهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على مقدر وعصيت فعل ماض وفاعل وأمري مفعول به.
الَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي)
يا ابن أم يا حرف نداء وابن أم اسمان مبنيان على الفتح لتركبهما تركب الأعداد مثل خمسة
236
عشر أو الظروف مثل صباح مساء فعلى هذا ليس ابن مضافا الى أم بل هو مركب معها فحركتهما حركة بناء وقد تقدم تفصيل هذا التركيب في «الأعراف» وعلى كل فهما في محل نصب منادى وانما اقتصر في خطابه على الأم مع أنه شقيقه لأن ذكر الأم أعطف لقلبه، ولا ناهية وتأخذ فعل مضارع مجزوم بلا الناهية والفاعل مستتر تقديره أنت وبلحيتي متعلقان بتأخذ ولا برأسي عطف على بلحيتي. قيل كان موسى مجبولا على الحدة والغضب لله ولدينه فلم يتمالك حين رأى قومه يعبدون غير الله أن أخذ برأس أخيه وبشعر وجهه يجره إليه. ِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي)
ان واسمها وجملة خشيت خبر إن وأن وما في حيزها مفعول خشيت وجملة فرقت مقول القول وبين ظرف مكان متعلق بفرقت وبني إسرائيل مضاف اليه ولم ترقب قولي عطف على فرقت أي وخشيت أن تقول لم ترقب قولي وعلى هذا يكون الضمير في قولي واقعا على موسى، ويجوز عطفها على خشيت فيكون الضمير في قولي واقعا على هارون. (قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ) قال فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو يعود على موسى والفاء عاطفة أو استئنافية وما استفهامية مبتدأ وخطبك خبر ويا حرف نداء وسامري منادى مفرد علم. (قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) جملة بصرت مقول القول وفاعل قال هو أي السامري، وبما متعلقان ببصرت وجملة لم يبصروا به صلة، فقبضت عطف على بصرت وقبضة مفعول به، وهي مصدر مرة من قبض وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر، ومن أثر صفة لقبضة وأثر مضاف والرسول مضاف اليه على تقدير محذوفين أي من أثر حافر فرس الرسول والمعنى من تربة موطئه، وتفصيل القصة في المطولات وسنلخص لك ما قالوه في باب البلاغة (فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي
237
نَفْسِي)
فنبذتها عطف على قبضت أي ألقيتها، وكذلك نعت لمصدر محذوف وقد تقدم وسولت لي نفسي فعل وفاعل أي زينت لي نفسي.
(قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) قال فعل ماض وفاعله يعود على موسى، فاذهب الفاء عاطفة واذهب فعل أمر فاعله أنت، فإن الفاء عاطفة وان حرف مشبه بالفعل ولك خبرها المقدم وفي الحياة متعلقان بمحذوف حال وأن وما بعدها اسم إن ولا نافية للجنس ومساس اسم لا والخبر محذوف فهو مبني مع لا الجنسية والمراد به النهي أي لا تمسني ولا أمسّك، ومساس مصدر ماس كقتال مصدر قاتل، قال الزمخشري: «عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أطم منها وأوحش وذلك انه منع من مخالطة الناس منعا كليا وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ومواجهته وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضا وإذا اتفق أن يماس أحدا رجلا أو امرأة حم الماس والممسوس فتحامى الناس وتحاموه». (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) وإن حرف مشبه بالفعل ولك خبرها المقدم وموعدا اسمها المؤخر ولن حرف نفي ونصب واستقبال وتخلفه منصوب بلن ونائب الفاعل مستتر تقديره أنت والهاء مفعول به ثان. (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) وانظر الواو عاطفة وانظر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وإلى إلهك متعلقان بانظر، والذي صفة وجملة ظلت صلة وظلت فعل ماض ناقص، وأصله ظللت بلامين وأولاهما مكسورة حذفت تخفيفا، وعليه متعلقان بعاكفا وعاكفا خبر ظلت، ولنحرقنه اللام موطئة للقسم ونحرقنه فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به، ثم حرف عطف لننسفنه مثل نحرقنه وفي اليم متعلقان بننسفنه ونسفا مفعول مطلق.
(إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) إنما كافة
238
ومكفوفة وإلهكم مبتدأ والله خبره والجملة مستأنفة والذي نعت وجملة لا إله إلا هو صلة وقد تقدم اعرابها كثيرا ووسع فعل ماض وفاعله مستتر تقديره هو وكل شيء مضاف اليه وعلما تمييز من فاعل وسع.
البلاغة:
الإيجاز في هذه الآيات واضح جدا وهو في كل واحدة، لأن تسلسل الحوادث يقتضي تقدير جمل لا بد منها، وقد أشرنا إليها إشارات واضحة تجزئ عن إعادتها ولكننا نورد هنا إيجازا بالحذف ورد في قوله تعالى «فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ» فقد حذف المضاف مكررا هنا والتقدير من أثر حافر فرس الرسول وهذا الحذف شائع كثيرا في القرآن كقوله تعالى «وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى» وقوله «حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ» فحذف المضاف الى يأجوج ومأجوج وهو سدهما كما حذف المضاف الى القرية في قوله تعالى: «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ» أي أهل القرية وقد ورد في الشعر أيضا ومما جاء منه قول الخزيمي يرثي أبا الهندام وهو من شعراء الحماسة:
إذا لاقيت قومي فاسأليهم كفى قوما بصاحبهم خبيرا
هل أعفو عن أصول الحق فيهم إذا عسرت وأقتطع الصدورا
أراد أنه يقتطع ما في الصدور من الضغائن أي يزيل ذلك بإحسانه من عفو وغيره فحذف المضاف وأقام المضاف اليه مقامه. وحذف المضاف أكثر من حذف المضاف اليه ومما جاء من حذف المضاف اليه في القرآن الكريم قوله تعالى «لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ» أي من قبل الغلب ومن بعده.
239
خلاصة قصة السامري:
هذا وسنخرج عن النطاق الذي ترسمناه في هذا الكتاب وهو نطاق الاعراب واللغة والبيان فنورد لمحة خاطفة عن قصة السامري لعلاقتها بما نحن بصدده تاركين للقارئ مجال الرجوع الى المطولات.
ففي الوقت الذي حل ميعاد الذهاب الى الطور أرسل الله الى موسى جبريل راكبا حيزوم فرس الحياة ليذهب به، فأبصره السامري فقال:
إن لهذا شأنا فقبض قبضة من أثر تربة موطئه فلما سأله موسى عن قصته قال: قبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد ولعله لم يعرف انه جبريل، وقيل انه كلما وضعت الفرس حافرها على شيء اخضر، فعرف أن للتراب الذي تضع الفرس حافرها عليه شأنا وقيل غير ذلك مما لا تطمئن اليه النفس ويحتاج الى كثير من التمحيص.
الفوائد:
صاحب الحال:
الأصل في صاحب الحال التعريف لأنه محكوم عليه بالحال وحق المحكوم عليه أن يكون معرفة لأن الحكم على المجهول لا يفيد غالبا، ويقع صاحب الحال نكرة بمسوغ يقربه من المعرفة وذلك في المواضع التالية:
١- إذا تقدمت عليه الحال نحو في الدار جالسا رجل، وقول كثير عزة:
لمية موحشا طلل... يلوح كأنه خلل
240
وفي المغني ان تقديم حال النكرة عليها ليس لأجل تسويغ الحال فيها بل لئلا يلتبس الحال بالصفة.
٢- أن يكون صاحبها مخصوصا بوصف كقول الشاعر:
نجيت يا رب نوحا واستجبت له في فلك ماخر في اليم مشحونا
فمشحونا حال من فلك لوصفه بماخر.
٣- أن يكون صاحبها مخصوصا باضافة كقوله تعالى «فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ» فسواء حال من أربعة لاختصاصها بالاضافة الى أيام.
٤- أن يكون صاحبها مخصوصا بمعمول نحو: عجبت من ضرب أخوك شديدا، فشديدا حال من ضرب لاختصاصه بالعمل في الفاعل وهو أخوك.
٥- أن يكون صاحبها مخصوصا بعطف نحو: هؤلاء أناس وعبد الله منطلقين، فمنطلقين حال من أناس لاختصاصه بالعطف عليه وهو عبد الله.
٦- أن يكون صاحبها مسبوقا بنفي كقوله تعالى «وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ» فجملة ولها كتاب معلوم حال من قرية لكونها مسبوقة بالنفي، وقد مرّ أن الزمخشري يرد هذا القول ويجعل الجملة صفة لقرية وانما توسطت الواو بينهما لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف.
٧- أن يكون صاحبها مسبوقا بنهي كقول الطرماح:
241
فمتخوفا حال من أحد لأنه مسبوق بالنهي.
٨- أن يكون صاحبها مسبوقا باستفهام كقول أحد الطائبين:
لا يركنن أحد الى الاحجام يوم الوغى متخوفا لحمام
يا صاح هل حم عيش باقيا فترى لنفسك العذر في إبعادها الأملا
فباقيا حال من عيش لكونه مسبوقا بالاستفهام بهل، وصاح منادى مرخم صاحب على غير قياس وحم بالحاء المهملة بمعنى قدر والإبعاد مصدر أبعد والأمل مفعوله.
هذا وقد يقع صاحب الحال نكرة بلا مسوغ كقولهم عليه مائة بيضا، فبيضا بلفظ الجمع حال من مائة وليس تمييزا خلافا للمبرد لأن تمييز المائة لا يكون جمعا منصوبا ولا مجرورا وهو من أمثلة سيبويه، وفي الحديث: صلى رسول الله ﷺ قاعدا ووراءه رجال قياما، فقياما حال من رجال وهو نكرة بلا مسوغ.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٩ الى ١٠٤]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤)
242
اللغة:
(وِزْراً) : حملا ثقيلا والمراد بها هنا العقوبة الثقيلة المرهقة الباهظة، سماها وزرا تشبيها لها في ثقلها على من يحل به العقاب بالحمل الثقيل ينوء به الكاهل ويرزح الحامل تحت عبئه الفادح.
(زُرْقاً) : جمع أرزق وسبب اختياره لعيونهم القيامة لوجهين:
١- ان الزرقة أبغض شيء من ألوان العيوب الى العرب لأن الروم كانوا أعداءهم وهم زرق العيون ومن أقوالهم في صفة العدو:
«أسود الكبد، أصهب السبال، أزرق العين» فأصهب من الصهبة بالصاد المهملة وهي حمرة أو شقرة في الشعر، والسبال: ما على الشارب من الشعر ومقدم اللحية والاثنان مرادان بها هنا وقال بشار في وصف البخيل:
وللبخيل على أمواله علل زرق العيون عليها أوجه سود
وهو من أبيات ممتعة نوردها بكاملها:
243
٢- ان المراد العمى لأن حدقة من يذهب نور بصره تزرق.
(يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) أي يخفضون أصواتهم ويخفونها لما لحقهم من الرعب والهول وفي المختار: خفت الصوت سكن وبابه جلس والمخافتة والتخافت والخفت بوزن السبت: أسرار المنطق.
(أَمْثَلُهُمْ) : أفضلهم وأعدلهم رأيا أو عملا في الحياة الدنيا وجمعه أماثل ومثل ومؤنثه مثلى، وأماثل القوم خيارهم، والطريقة المثلى الشبهى بالحق ويقال المريض اليوم أمثل أي أحسن حالة، وقال امرؤ القيس يصف الليل من معلقته:
ظل اليسار على العباس ممدود وقلبه أبدا بالبخل معقود
إن الكريم ليخفي عنك عسرته حتى تراه غنيا وهو مجهود
وللبخيل على أمواله علل زرق العيون عليها أوجه سود
إذا تكرهت أن تعطي القليل ولم تقدر على سعة لم يظهر الجود
أورق بخير ترجّي للنوال فما ترجى الثمار إذا لم يورق العود
بثّ النوال ولا تمنعك قلته فكل ما سدّ فقرا فهو محمود
وليل كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف إعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل
الإعراب:
(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) كذلك: نعت لمصدر محذوف أي كما قصصنا يا محمد هذه القصة ونقص فعل مضارع فاعله مستتر تقديره نحن وعليك متعلقان بنقص ومن أنباء صفة لموصوف محذوف هو مفعول به لنقصّ أي نقصّ نبأ من أنباء، وما مضاف اليه وجملة قد سبق صلة، وقد الواو عاطفة وقد حرف تحقيق وآتيناك فعل ماض وفاعل ومفعول به ومن لدنا حال لأنه كان صفة لذكرا، وذكرا مفعول به ثان أي قرآنا. (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) من شرطية في محل رفع مبتدأ وأعرض فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر تقديره هو
244
وعنه متعلقان بأعرض والفاء رابطة وان واسمها وجملة يحمل خبرها والفاعل مستتر تقديره هو ويوم القيامة ظرف متعلق بيحمل ووزرا مفعول وجملة من أعرض في محل نصب نعت لذكرا أي قرآنا منطويا مشتملا على هذه القصص يحمل المعرض عنها وزرا كاملا يوم القيامة.
(خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا) خالدين حال وفيه متعلقان بخالدين والضمير يعود للوزر أي في العقاب المتسبب عنه ففي الكلام مجاز كما سيأتي، وساء الواو حالية أو عاطفة وساء فعل ماض من أفعال الذم وقد تقدم كثيرا وفاعله مستتر مميز بنكرة وهو حملا والمخصوص بالذم محذوف تقديره وزرهم، ولهم متعلقان بقول مقدر أي يقال لهم هذا الكلام، وقيل هي كاللام في هيت لك أي لمجرد البيان فراجع سورة يوسف. ويوم القيامة ظرف متعلق بساء وحملا تمييز. (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) الظرف بدل من يوم القيامة وجملة ينفخ مضافة الى الظرف وينفخ فعل مضارع بالبناء للمجهول وفي الصور متعلقان بينفخ، ونحشر الواو عاطفة ونحشر فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن والمجرمين مفعول به ويوم ظرف أضيف الى ظرف مثله متعلق بنحشر والتنوين في إذ عوض عن جملة وزرقا حال من المجرمين. (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) الجملة حال من المجرمين أو مستأنفة مسوقة لبيان حالهم في ذلك اليوم ويتخافتون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة والواو فاعل وبينهم ظرف متعلق بيتخافتون، وإن لبثتم جملة منصوبة بقول دل عليه يتخافتون والقول نصب على الحال أي قائلين في السر، وان نافية ولبثتم فعل وفاعل وإلا أداة حصر وعشرا ظرف زمان ذهابا الى الليالي لأن الشهور غررها الليالي فتكون الأيام داخلة تبعا وتخافتهم ناجم عن الرعب الذي داخلهم، فكأن أيام الدنيا لم تكن شيئا مذكورا
245
فهم يتذكرون أيام السرور التي سنحت لهم في الدنيا كيف مرت عليهم كظل الطائرة.
(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) نحن مبتدأ وأعلم خبر وبما متعلقان بأعلم وجملة يقولون صلة، وإذ ظرف متعلق بأعلم وجملة يقول مضافة الى الظرف وأمثلهم فاعل وطريقة تمييز وإن نافية ولبثتم فعل وفاعل وإلا أداة حصر ويوما ظرف متعلق بلبثتم.
البلاغة:
المجاز المرسل في قوله «خالِدِينَ فِيهِ» أي في الوزر، والوزر لا يقام فيه ولكن أراد العقاب المتسبب عن الوزر، فالعلاقة فيه السببية.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٠٥ الى ١١٤]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤)
246
اللغة:
(قاعاً) : القاع: أرض سهلة مطمئنة قد انفرجت عنها الجبال والآكام والجمع أقواع وأقوع وقيع وقيعان وقيعة، وقيل هو المنكشف من الأرض، وقيل المستوي الصلب منها، وقيل مالا نبات فيه ولا بناء.
(صَفْصَفاً) : الصفصف: الأرض المستوية الملساء كأن أجزاءها صف واحد من كل جهة، وفي القاموس: المستوي من الأرض، وقاع صفصف مستو مطمئن فهو بمثابة التأكيد للقاع لأنه بمعناه.
(أَمْتاً) : الأمت هو النتوّ اليسير، يقال مدّ حبله حتى ما فيه أمت وقيل: الأمت هو التل وهو قريب من الأول وقيل الشقوق في الأرض وقيل الآكام وفي القاموس «أمته يأمته قدره وحزره كأمّته وقصده وأجل مأموت مؤقت والأمت المكان المرتفع والتلال الصغار والانخفاض والارتفاع والاختلاف في الشيء والجمع أمات وأموت
247
والضعف والوهن والطريقة الحسنة والعوج والعيب في الفم وفي الثوب والحجر وأن يغلظ مكان ويرق مكان والمؤمّت المملوء والمتهم بالشر ونحوه والخمر حرمت لا أمت فيها أي لا شك في حرمتها».
(هَمْساً) : الهمس: الصوت الخفي وهو مصدر همست الكلام من باب ضرب إذا أخفيته ومنه الحروف المهموسة وقيل هو من همس الإبل وهو صوت أخفافها إذا مشت.
(وَعَنَتِ) : في المختار: عنا يعنو من باب سما يسمو سموّا فالألف محذوفة قبل تاء التأنيث لالتقاء الساكنين إذا ذل وخضع ومنه العناة جمع عان وهو الأسير.
(هَضْماً) : الهضم: النقص، تقول العرب: هضمت لزيد من حقه أي نقصت منه، ومنه هضيم الكشحين أي ضامرهما، قال امرؤ القيس:
إذا قلت هاتي نوليني تمايلت عليّ هضيم الكشح ريا المخلخل
ورجل هضيم ومهتضم أي مظلوم، وهضمته واهتضمته وتهضمته كله بمعنى.
الإعراب:
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) الواو للاستئناف والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير تعنتهم وإصرارهم على الجدل والمكابرة والاستهزاء، ويسألونك فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل والكاف مفعول به، فقل الفاء عاطفة وقل فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وجملة ينسفها مقول القول والهاء مفعول به مقدم وربي
248
فاعل مؤخر ونسفا مفعول مطلق. (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً) الفاء عاطفة ويذرها فعل مضارع والفاعل مستتر تقديره هو أي الله تعالى والهاء مفعول به وقاعا لك أن تعربها حالا من الضمير المنصوب أو مفعولا به ثانيا لتضمين يذر معنى التصيير، وصفصفا حال ثانية أو بدل من المفعول الثاني وأعربها بعضهم صفة له. (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) الجملة حال ثالثة أو حال أولى ولا نافية وترى فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنت وفيها متعلقان بتري وعوجا مفعول به ولا أمتا عطف. وسيأتي مزيد من التقرير حول هذه الآية في باب البلاغة.
(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) الظرف متعلق بيتبعون أو بدل من يوم القيامة المتقدم وقد تقدم تقرير اضافة يوم الى الظرف ويتبعون الداعي فعل مضارع وفاعل ومفعول به ولا نافية للجنس وعوج اسمها مبني على الفتح وله خبرها وجملة لا عوج له حال من الداعي أو صفة لمصدر محذوف أي يتبعونه اتباعا لا عوج له ويجوز أن تكون مستأنفة والأول أظهر لأن الضمير في له يعود عليه أي لا عوج لدعائه بل يسمع جميعهم فلا يميل الى أناس دون أناس. (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) الواو عاطفة وخشعت الأصوات فعل وفاعل وللرحمن متعلقان بخشعت والفاء عاطفة ولا نافية وتسمع فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو وإلا أداة حصر وهمسا مفعول به لأن الاستثناء مفرغ. (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) الظرف متعلق بتنفع وإذ مضاف ولا نافية وتنفع الشفاعة فعل مضارع وفاعل، وإلا أداة حصر ومن يجوز فيه أن يكون مفعولا لتنفع وعندئذ تكون من واقعة على المشفوع ويجوز أن يكون بدلا من الشفاعة على قاعدة المستثنى المنفي أو النصب على الاستثناء المتصل من الشفاعة ولا بد في هذين الوجهين من تقدير مضاف تقديره إلا شفاعة من أذن له وإذا
249
اعتبر مستثنى منقطعا وجب نصبه فتلخص فيه أربعة أوجه متقاربة الرجحان ورجح الزمخشري الرفع على البدلية وتبعه القاضي البيضاوي.
وجملة أذن له الرحمن صلة ورضي له قولا عطف على أذن له ورجح أبو البقاء النصب على المفعولية. (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) الجملة استئنافية مسوقة لتقرير علمه تعالى ما تقدمهم من الأحوال وما يستقبلهم، ويعلم فعل مضارع مرفوع وفاعله مستتر تقديره هو وما مفعول به وبين ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول وأيديهم مضافة لبين، وما خلفهم عطف على ما بين أيديهم، ولا يحيطون لك أن تجعل الواو عاطفة ولك أن تجعلها حالية، ويحيطون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون وبه متعلقان بيحيطون وعلما مفعول به. (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) وعنت الوجوه فعل وفاعل وللحي متعلقان بعنت والقيوم صفة، وسيأتي المراد بالوجوه في باب البلاغة والواو حالية وجملة وقد خاب حالية ومن فاعل خاب وجملة حمل ظلما صلة. (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) الواو عاطفة على وقد خاب، ومن شرطية مبتدأ ويعمل فعل الشرط ومن الصالحات صفة لمفعول به محذوف أي ومن يعمل أعمالا من الصالحات والواو حالية وهو مبتدأ ومؤمن خبر والفاء رابطة لجواب الشرط ولا نافية ويخاف فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره هو وظلما مفعول به ولا هضما عطف على ظلما وجملة لا يخاف خبر لمبتدأ محذوف والتقدير فهو لا يخاف، وجملة فهو لا يخاف في محل جزم جواب الشرط، وفعل الشرط وجوابه خبر من. (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) الكاف صفة لمصدر محذوف أي مثل ذلك الانزال أنزلناه وقرآنا حال وعربيا صفة. (وَصَرَّفْنا فِيهِ
250
مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً)
وصرفنا فعل وفاعل وفيه متعلقان بصرفنا ومن الوعيد صفة لمفعول محذوف أي صرفنا وعيدا من الوعيد، ولعل واسمها وجملة يتقون خبرها وأو حرف عطف ويحدث عطف على يتقون ولهم متعلقان بيحدث وذكرا مفعول به، وفاعل يحدث هو أي القرآن. (فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) الفاء استئنافية وتعالى الله فعل ماض وفاعل والملك الحق صفتان لله ولا تعجل الواو عاطفة ولا ناهية وتعجل فعل مضارع مجزوم بلا الناهية وبالقرآن متعلقان بتعجل ومن قبل متعلقان بتعجل وأن يقضى المصدر المؤول مضاف لقبل وإليك متعلقان بيقضى ويقضى فعل مضارع مبني للمجهول ووحيه نائب فاعل، وقل عطف على لا تعجل ورب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة وزدني فعل أمر والنون للوقاية والياء مفعول به أول وعلما مفعول به ثان أو تمييز.
البلاغة:
في قوله تعالى: «لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً» فن طريف يذهل العقول، ويسكر العواطف، ولا يكاد يدركه إلا من أودع الله فيهم سر البيان، وارتاضوا بالمعاناة والدربة على إدراك النكت التي تعز على من رامها وتطول، وهذا الفن سموه فن «التنكيت» وحدّه أن يخص المتكلم شيئا بالذكر دون غيره مما يسد مسده وما يقتضيه ظاهر الكلام لأجل نكتة في المذكور ترجح مجيئه على سواه، وهو كثير في القرآن الكريم وسيرد في مواطنه، أما في هذه الآية فقد تقدم في الكهف أن أهل اللغة فرقوا بين العوج والعوج فقالوا: العوج بالكسر في المعاني والعوج بالفتح في الأعيان ولذلك قال في الكهف «الحمد لله الذي
251
أنزل الكتاب ولم يجعل له عوجا» أما في هذه الآية فالأرض عين فكيف صح فيها المكسور العين؟ أوليس مقتضى اللغة يوجب أن يستعمل العوج بالفتح؟ وهنا يأتي هذا الفن ليسبر غور هذه النكتة التي تدق على النظرة السطحية الأولى، ولا تقف عند التقارير اللغوية، فنقول:
إن اختيار العوج بالكسر في الآية له موضع حسن بديع في استواء الأرض ووصفها بالملاسة وانتفاء الاعوجاج عنها على أبلغ وجه، وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة من الأرض فسويتها وبالغت في تسويتها على عينك وعلى عيون البصراء بالأراضي واتفقتم بالإجماع على انه لم يبق فيها اعوجاج قط ثم عمدت الى المهندس تستطلع رأيه لا بحسب الحدس والتخمين والنظر المجرد بل بحسب المقاييس الهندسية المبنية على العلم الدقيق لعثر فيها على عوج في غير موضع، لا يدرك ذلك بحاسة البصر ولكن بالقياس الهندسي الذي لا يضل ولا يعزب عنه القليل النادر.
فنفى الله سبحانه ذلك العوج الذي دقّ ولطف عن الإدراك والفهم أللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الاحساس ولحق بالمعاني وسما عن الأعيان فقيل فيه عوج بالكسر.
وقد مرّ معنا وسيمر في هذا الكتاب نماذج رائعة لهذا التنكيت الذي ظهر لك في هذه الآية الكريمة مما لا يدركه إلا الحذاق الملهمون، فلنرجئ القول فيها وسنعرض الآن على ناظريك نماذج من الشعر الجميل التي اشتملت على نكتة بارعة لتكون لك معالم صبح تحتذيها، فمن ذلك قول الخنساء ترثي أخاها صخرا:
252
وقد سئل الأصمعي عن قولها هذا: لم اختصت فيه طلوع الشمس وغروبها دون أثناء النهار؟ فقال لأن طلوع الشمس وقت الركوب الى الغارات وغروب الشمس وقت قرى الضيفان.
ومنه قول الحسن بن هانئ، أبي نواس:
يذكرني طلوع الشمس صخرا وأذكره لكل غروب شمس
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
فقال «وقل لي هي الخمر» وذلك لأن الحواس الأربع قد التذت حين شربها وبقيت حاسة وحدة لم تستكمل لذتها وهي حاسة السمع فقال «وقل لي هي الخمر» ليسمع ذلك فتكمل له اللذة بجميع حواسه.
ونكتفي الآن بما تقدم ولنا عودة الى هذا الفن الجميل.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٥ الى ١٢٣]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣)
253
اللغة:
(تَضْحى) : ينتابك حر الشمس في الضحى وفي القاموس:
«وضحا يضحو كغزا يغزو ضحوا برز للشمس وكسعى ورضي ضحوا وضحيا أصابته الشمس».
(وسوس) : وسوسة الشيطان كولولة الثكلى ووعوعة الذئب في أنها حكايات للأصوات، وسنتحدث عن أسماء الأصوات وحكاياتها في باب الفوائد، وجاء في القاموس: «وسوس وسواسا ووسوسة الشيطان له وإليه حدثه بشر أو بما لا نفع فيه ولا خير ووسوس الرجل:
أصيب في عقله وتكلم بغير نظام وأصابته الوساوس فهو موسوس وتكلم بكلام خفي، والوسواس صوت الحلي، ووسوس الرجل كلمه كلاما خفيا، ووسوس به بالبناء للمجهول اختلط كلامه ودهش، والوسواس الاسم من وسوس، والوسواس الشيطان، والوسواس مرض يحدث من غلبة السوداء ويختلط معه الذهن ويقال لما يخطر بالقلب من شر أو لما لا خير فيه وسواس وجمعه وساوس.
254
(سَوْآتُهُما) : عوراتهما وقد تقدمت.
(يَخْصِفانِ) : أي يلزقان من خصف النعل وهو أن يخرز عليها الخصاف أي يلزقان ورق الشجر بعضه ببعض حتى يصير عريضا صالحا للاستتار.
(اجْتَباهُ) : اصطفاه وقربه من جبى إلي كذا فاجتبيته فالمجتبى كأنه في الأصل من جمعت فيه المحاسن حتى اختاره غيره.
الإعراب:
(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير مساوئ النسيان الذي هو صنو الجهل وقرينه ولذلك يجب التحوط منه والدعاء دائما بقوله تعالى «وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً». واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وعهدنا فعل وفاعل والى آدم جار ومجرور متعلقان بعهدنا ومن قبل متعلقان بمحذوف حال، فنسي عطف على عهد أي نسي ما أمرناه به أي أن النسيان أمر مركوز في طباع بني آدم، ولم نجد: الواو عاطفة ولم حرف نفي وقلب وجزم والفاعل مستتر تقديره نحن وعزما مفعول به. (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) الظرف متعلق باذكر مقدرا أي واذكر وقت ما جرى على آدم من معاداة إبليس ووسوسته له وتزيينه له الأكل من الشجرة ومبادرة آدم بالطاعة له بعد ما سلف من النصيحة البالغة والتحذير من الشيطان ومكره وأحابيله. وقد تقدم اعراب الآية كثيرا فلا حاجة الى الاعادة، ولا تنس اختلاف العلماء في اتصال الاستثناء وانقطاعه. وجملة أبى حالية. (فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) الفاء عاطفة وقلنا فعل وفاعل ويا آدم نداء وجملة إن
255
مقول القول وهذا اسم ان وعدو خبرها ولك صفة لعدو ولزوجك عطف على لك. (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) الفاء عاطفة ولا ناهية ويخرجنكما فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم بلا والكاف مفعول به والفاعل مستتر وهو إبليس والميم والألف للتثنية، فتشقى الفاء فاء السببية وتشقى فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد فاء السببية والفاعل مستتر تقديره أنت وأسند فعل الشقاء الى آدم وحده لأن شقاء زوجه منوط بشقائه كما أن سعادتها منوطة بسعادته فاختصر الكلام مع المحافظة على الفاصلة. (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) إن حرف مشبه بالفعل ولك خبر مقدم وأن وما في حيزها اسمها المؤخر وفيها متعلقان بتجوع ولا تعرى عطف على لا تجوع. (وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) عطف على سابقتها وسيأتي كلام بديع حول فصل الجوع عن الظمأ والعري عن الضحو والسر البياني الذي تتقطع دونه الأعناق في باب البلاغة. بقيت هناك مشكلة وهي عطف أنك على أن لا تجوع فكأنها اسم لإن بالكسر وهذا ممتنع فلا يقال: إن أن زيدا منطلق ولكن لما فصل هنا بينهما جاز فتقول: إن عندي أن زيدا قائم، فعندي هو الخبر قدم على الاسم وهو ان وما في حيزها لكونه ظرفا.
والآية من هذا القبيل، ورأى الزمخشري رأيا آخر فقال «فإن قلت:
إن لا تدخل على أن فلا يقال إن أن زيدا منطلق، والواو نائبة عن أن وقائمة مقامها، فلم أدخلت عليها؟ قلت: الواو لم توضع لتكون أبدا نائبة عن إن، إنما هي نائبة عن كل عامل، فلما لم تكن حرفا موضوعا للتحقيق خاصة كأن لم يمتنع اجتماعهما كما امتنع اجتماع إن وأن»
.
قال ابن هشام في صدد الحديث عن المواضع التي يجوز فيها كسر همزة إن وفتحها: السادس أن تقع بعد واو مسبوقة بمفرد صالح
256
للعطف عليه نحو إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى، قرأ نافع وأبو بكر بالكسر في «وانك لا تظمأ» إما على الاستئناف فتكون جملة منقطعة عما قبلها أو بالعطف على جملة إن الأولى وهي إن لك أن لا تجوع وعليهما فلا محل لها من الإعراب وقرأ الباقون من السبعة بالعطف على أن لا تجوع من عطف المفرد على مثله والتقدير ان لك عدم الجوع وعدم الظمأ».
(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى) فوسوس الفاء عاطفة ووسوس فعل ماض واليه متعلقان بوسوس والشيطان فاعل، قال يا آدم فعل ماض ونداء وهل حرف استفهام وأدلك فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره أنا والكاف مفعول به وعلى شجرة الخلد متعلقان بأدلك وملك عطف على شجرة وجملة لا يبلى صفة لملك. (فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) فأكلا فعل ماض والألف فاعل ومنها متعلقان بأكلا فبدت عطف على أكلا ولهما متعلقان ببدت وسوءاتهما فاعل، وطفقا فعل ماض من أفعال الشروع العاملة عمل كاد في وقوع الخبر فعلا مضارعا والالف اسمها وجملة يخصفان خبر طفقا وعليهما متعلقان بيخصفان ومن ورق الجنة صفة لموصوف محذوف هو المفعول به أي ورقا من ورق الجنة قيل هو التين والأولى أن يكون عاما ليشمل جميع أوراق الأشجار، وعصى آدم ربه فعل وفاعل ومفعول به، فغوى عطف على عصى. (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) ثم حرف عطف واجتباه فعل ومفعول به وربه فاعل فتاب عليه عطف على اجتباه وهدى عطف على تاب. (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) اهبطا فعل أمر مبني على حذف النون والألف فاعل ومنها متعلقان
257
باهبطا وجميعا حال وبعضكم مبتدأ ولبعض حال لأنه كان صفة لعدو وعدو خبر وجملة بعضكم لبعض عدو في محل نصب على الحال.
(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) الفاء عاطفة وإن شرطية وما زائدة ويأتينكم فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط والكاف مفعول به ومني متعلقان بيأتينكم وهدى فاعل يأتينكم، فمن اتبع الفاء رابطة ومن شرطية مبتدأ واتبع فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وهداي مفعول به والفاء رابطة للجواب وجملة لا يضل في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من وجملة من اتبع في محل جزم جواب إن.
البلاغة:
في قوله تعالى «إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى» فن بديع يسمى قطع النظير عن النظير وذلك انه قطع الظمأ عن الجوع والضحو عن الكسوة مع ما بينهما من التناسب، والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها، ولو قرن كلّا بشكله لتوهم المعدودات نعمة واحدة. ويسميه بعض علماء البيان «فن التوهيم» وقد سبقت الاشارة اليه وهو أن يأتي المتكلم بكلمة يوهم ما بعدها من الكلام أن المتكلم أراد تصحيفها وهو يريد غير ذلك، ومنها أن يأتي في ظاهر الكلام ما يوهم أن فيه لحنا خارجا عن اللسان، ومنها ما يأتي ظاهره يوهم أن الكلام قد قلب عن وجهه لغير فائدة، ومنها ما يأتي دالا على أن ظاهر الكلام فاسد المعنى وهو صحيح.
وهذه الآية من القسم الذي يوهم ظاهره أن نظم الكلام جاء على غير طريق البلاغة لكون لفظه غير مؤتلف بمعناه لما ترى في الألفاظ من
258
عدم ملاءمة، وإذا تأمله المتأمل حق التأمل وجده جاريا على منهج البلاغة بحيث لو جاء على ما توهمه المعترض لكان النظم معيبا. وفي الآية يقول المتوهم لو قيل لا تجوع ولا تظمأ ولا تضحى ولا تعرى لكان ذلك جاريا على ما توجبه البلاغة من الملاءمة والجواب ان مجيئها على ما توهمه المتوهم يفسد معنى النظم لأنه لو قيل: ان لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ لوجب أن يقول وانك لا تعرى فيها ولا تضحى، والتضحي البروز للشمس بغير سترة. قال الهذلي وقيل للمجنون كما في أمالي القالي:
سلبت عظامي لحمها فتركتها مجردة تضحى لديك وتخصر
أي تلقى الشمس الضاحية مجردة فينال منها حرها وتلقى برد الليل مجردة فينال منها برده فهي معذبة ليلها ونهارها وإذا كان التضحي البروز للشمس بغير سترة كان معناه التعري فيصير معنى الكلام:
وانك لا تعرى فيها ولا تعرى وهذا فساد ظاهر، ولما كان هذا الفساد لازما للنظم على الوجه الذي توهمه المتوهّم وجب العدول عنه الى لفظ القرآن وهو أن يضم سبحانه لنفي الجوع نفي العري لتطمئن النفس بسد الجوعة وستر العورة اللذين تدعو إليهما ضرورة الحياة وتطلبهما طبيعة الإنسان بالجبلّة، ولما كان الجوع مقدّما على العطش كتقديم الأكل على الشراب أوجبت البلاغة تأخر ذكر الظمأ عن الجوع وتقديمه على التضحي لأنه مهم يجب أن يتقدم الوعد بنفيه كما تقدم الوعد بنفي الجوع، ويتأخر ذكر التضحي كما تأخر ذكر العري عن الجوع لأن التضحي من جنس العري والظمأ من جنس الجوع فإن قيل: لم ذكر التضحي وهو عري في المعنى وقد أغنى ذكر العري؟ قلت: في ذكر التضحي فائدة كبيرة وهي وصف الجنة بأنها لا شمس فيها كما قال سبحانه:
«لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» فإن التضحي عري مخصوص
259
مشروط بالبروز الى الشمس وقت الضحى لذلك سمي تضحيا والانتقال من الأعم الى الأخص بلاغة لاختصاص الأخص بما لا يوجد في الأعم وقال العز بن عبد السلام في الأمالي: كان المناسب من طريق المجاز أن لا تجوع ولا تظمأ ولا تعرى ولا تضحى للجمع بين المتماثلين فلم عدل عن هذا؟ والجواب: ان في الآية جناسا خيرا من هذا وذلك أن الجوع تجرد الباطن من الغذاء والعري تجرد الظاهر من الغشاء فجانس في الآية بين التجردين وكذلك الظمأ حر الباطن والضحى وهو الظهور للشمس حرّ الظاهر فجانس بالجمع بين الحرّين.
وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديما وحديثا فقال أبو الطيب المتنبي:
وفقت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضّاح وثغرك باسم
يحكى انه لما استنشده سيف الدولة يوما قصيدته التي أولها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
فلما بلغ الى هذين البيتين قال سيف الدولة: قد انتقدتهما عليك كما انتقد على امرئ القيس قوله:
260
كأني لم أركب جوادا للذة ولم أتبطّن كاعبا ذات خلخال
ولم اسبأ الزق الروي ولم أقل لخيلي كرّي كرّة بعد إجفال
فبيتاك لم يلتئم شطراهما كما لم يلتئم شطرا بيتي امرئ القيس وكان ينبغي لك أن تقول:
وفقت وما في الموت شك لواقف ووجهك وضاح وثغرك باسم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة كأنك في جفن الردى وهو نائم
فقال المتنبي إن صحّ أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا هو أعلم بالشعر منه فقد أخطأ امرؤ القيس واخطأت انا، ومولاي يعلم أن الثوب لا يعلمه البزاز كما يعلمه الحائك لأن البزاز يعرف جملته والحائك يعرف تفاصيله، وانما قرن امرؤ القيس النساء بلذة الركوب للصيد، وقرن السماحة بسباء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء، وكذلك لما ذكرت الموت في صدر البيت الأول أتبعته بذكر الردى في آخره ليكون أحسن تلاؤما، ولما كان وجه المنهزم الجريح عبوسا وعينه باكية قلت «ووجهك وضاح وثغرك باسم» لأجمع بين الأضداد.
على أن في هذه الآية سرا لذلك زائدا على ما ذكر وهو أنه قصد تناسب الفواصل ولو قرن الظمأ بالجوع لانتثر سلك رؤوس الآي وأحسن به منتظما.
261
الفوائد:
أسماء الأصوات:
وعدناك ببحث أسماء الأصوات ونرى أن نتوسع فيها قليلا لأن كتب النحو قلّما تهتم لها. فهي تجري مجرى أسماء الافعال لأنها متواخية معها وهي مبنية وتنقسم الى قسمين:
آ- ما خوطب به مالا يعقل مما يشبه اسم الفعل في الاكتفاء به، ولكن اسم الفعل مركب واسم الصوت مفرد لعدم تحمله الضمير كقولهم في دعاء الإبل لتشرب: جىء جىء بكسر الجيم فيهما مكررين مهموزين، وفي المحكم انهما أمر للابل بورود الماء يقال جأجأت الإبل إذا دعوتها لتشرب فقلت جىء جىء نقله الجوهري عن الاموي، وكقولهم في دعاء الضأن حاحا وفي دعاء المعز عاعا غير مهموزين والفعل منهما حاحيت وعاعيت، قال سيبويه وأبدلوا الألف من الياء لشبهها بها لأن قولك حاحيت انما هو صوت بنيت منه فعلا وليست فاعلت وكقولهم في زجر البغل:
عدس ما لعباد عليك إمارة أمنت وهذا تحملين طليق
فعدس صوت يزجر به البغل وقد يسمى البغل به والتقدير على التسمية به يا عدس فحذف حرف النداء. وإمارة بكسر الهمزة أي حكم.
ب- ما حكي به صوت مسموع، والمحكي صوته قسمان حيوان وغيره: فالأول كغاق بالغين المعجمة والقاف لصوت الغراب، والثاني نحو طاق حكاية لصوت الضرب وطق بفتح الطاء حكاية لصوت
262
وقع الحجارة بعضها على بعض. هذا وسيرد المزيد من بحث أسماء الأصوات في هذا الكتاب.
نبذة من أسماء الأصوات:
وفيما يلي طائفة مختارة من أسماء الأصوات:
الصرير صوت القلم والسرير والباب والطست والنعل، والنشيش صوت غليان القدر والشراب، الرنين: صوت الثكلى والقوس، القصيف: صوت الرعد والبحر، وهدير الفحل، النقيق صوت الدجاج والضفدع، القعقعة: صوت السلاح والجلد اليابس والقرطاس، الغرغرة: صوت غليان القدر وتردد النفس في صدر المحتضر، العجيج:
صوت الرعد والنساء والشاء، الزفير: صوت النار والحمار والمكروب إذا امتلأ صدره غما فزفر به، الخشخشة والشخشخة: صوت حركة القرطاس والثوب الجديد والدرع، الجلجلة: صوت السبع والرعد وحركة الجلاجل، الحفيف: صوت حركة الأغصان وجناح الطائر وحركة الحية، الصليل والصلصلة: صوت الحديد واللجام والسيف والدراهم والمسامير، الطنين: صوت البعوض والذباب والطنبور، الأطيط: صوت الناقة والمحمل والرجل إذا أثقله ما عليه، الصرصرة:
صوت البازي والبط، الدوي: صوت النحل والأذن والمطر والرعد، الانقاض: صوت الدجاجة والفروج، التغريد صوت المغني والحادي والطائر وكل صائت طرب الصوت فهو غرد، الزمزمة والزهزمة:
صوت الرعد ولهب النار وحكاية صوت المجوسي إذا تكلف الكلام وهو مطبق فمه.
263

[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٤ الى ١٣٥]

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨)
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣)
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥)
264
اللغة:
(ضَنْكاً) : بالتنوين مصدر بمعنى ضيقة ولهذا لم يؤنث بأن يقال ضنكة على حد القاعدة التي ذكرها صاحب الخلاصة:
ونعتوا بمصدر كثيرا... فالتزموا الإفراد أو التذكيرا
وفي القاموس: «الضنك الضيق في كل شيء للذكر والأنثى يقال ضنك ككرم ضنكا وضناكة وضنوكة ضاق» وقرئ ضنكى على فعلى.
(يَهْدِ لَهُمْ) : أي يهتدي لهم فهو لازم ومعناه يتبين.
(آناءِ اللَّيْلِ) : جمع إنى بكسر الهمزة والقصر كمعى بكسر الميم.
وفي المختار: آناء الليل ساعاته، قال الأخفش واحدها إنى مثل معى وقيل واحدها أني وأنو، يقال مضى من الليل أنوان وانيان.
(مُتَرَبِّصٌ) : منتظر ما يئول اليه الأمر.
الإعراب:
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) الواو عاطفة على جواب الشرط المتقدم وهو «فمن اتبع هداي» ومن اسم شرط جازم مبتدأ وأعرض فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وفاعله ضمير مستتر تقديره هو وعن ذكري متعلقان بأعرض، فإن الفاء رابطة للجواب لأنه
265
جملة اسمية وان حرف مشبه بالفعل وله خبرها المقدم ومعيشة اسمها المؤخر وضنكا صفة والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط وفعل الشرط وجوابه خبر من. (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) ونحشره الواو استئنافية ونحشر فعل مضارع مرفوع والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به ويوم القيامة ظرف متعلق بنحشره وأعمى حال من الهاء في نحشره وقد قرئ بالجزم عطفا على محل «فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً».
(قالَ: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) رب منادى مضاف لياء المتكلم المحذوفة ولم اللام حرف جر وما الاستفهامية في محل جر باللام وقد حذفت ألف ما الاستفهامية كما هي القاعدة والجار والمجرور متعلقان بحشرتني، وحشرتني فعل وفاعل ومفعول به وأعمى حال والواو للحال وقد حرف تحقيق وكنت: كان واسمها وبصيرا خبر كنت.
(قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) كذلك نعت لمصدر محذوف أي حشرا مثل ذلك أو خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وأتتك آياتي فعل وو مفعول به مقدم وفاعل مؤخر، فنسيتها الفاء عاطفة ونسيتها فعل وفاعل ومفعول به، وكذلك نعت لمصدر محذوف واليوم ظرف متعلق بتنسى. (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) وكذلك نعت لمصدر محذوف ونجزي فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن ومن موصول مفعول به وجملة أسرف صلة، ولم يؤمن عطف على أسرف فهو داخل في حيز الصلة وبآيات متعلقان بيؤمن وربه مضاف إليه، ولعذاب: الواو حالية أو عاطفة واللام للابتداء وعذاب مبتدأ والآخرة مضاف إليه وأشد خبر وأبقى عطف على أشد. (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) الهمزة للاستفهام وهي داخلة على محذوف عطف عليه بالفاء وقد تقدم تقريره كثيرا وأعدناه الآن للتذكير والتقدير أغفلوا فلم
266
يتبين لهم، وفاعل يهد المصدر المفهوم من أهلكنا أي أفلم يتبين لهم إهلاكنا ويحتمل أن يكون فاعل يهد ضميرا عائدا على الله تعالى أي يبين الله والأول أولى لأن يهدي معناه يتبين فهو لازم فالفاعل هو الجملة المنسبكة مصدرا لأهلكنا. وقد أنكر البصريون وقوع الجملة فاعلا وجوزه غيرهم قال القفال: جعل كثرة ما أهلك من القرون مبينا لهم، قال النحاس: وهذا خطأ لأن كم استفهام فلا يعمل فيها ما قبلها وقال الزجاج: المعنى أولم يهد لهم الأمر باهلاكنا من أهلكناه وحقيقته تدل على الهدى فالفاعل هو الهدى. ولهم متعلقان بيهد وكم خبرية مفعول مقدم لأهلكنا ومن القرون نعت لتمييزكم الخبرية أي كم قرن من القرون والمراد الأمة، وجملة يمشون في مساكنهم حال من مفعول أهلكنا أو من الضمير في لهم وفي مساكنهم متعلقان بيمشون والضمير يعود على المهلكين بفتح اللام يريد أن قريشا يتقلبون في بلاد عاد وثمود ويعاينون آثار هلاكهم وفيها ما يدعوا الى العبرة والاتعاظ، وقد رمق أبو الطيب سماء هذا المعنى كما سيأتي في باب البلاغة. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) إن وخبرها المقدم واللام المزحلقة وآيات اسمها المؤخر، ولأولي صفة لآيات والنهى مضاف اليه وهي جمع نهية بمعنى العقل.
(وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى) الواو استئنافية ولولا حرف امتناع لوجود وكلمة مبتدأ محذوف الخبر وجملة سبقت من ربك صفة لكلمة ومن ربك متعلقان بسبقت، لكان اللام واقعة في جواب لولا وكان فعل ماض ناقص واسمها ضمير مستتر تقديره هو يعود على الإهلاك ولزاما خبرها، وأجل مسمى عطف على كلمة أي ولولا أجل مسمى لكان الإهلاك لازما لهم ويجوز كما يرى الزمخشري وأبو البقاء أن يكون معطوفا على الضمير المستتر في «كان» أي لكان الإهلاك العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود ومن العجيب ان معظم المفسرين كالجلال والبيضاوي وغيرهما جروا على هذا الوجه رغم
267
ما فيه من تكلف وقالوا: ان الفصل بالخبر قام مقام التأكيد لأنه كان من حق العطف أن يؤكد الضمير المستتر في كان بالضمير المنفصل فكان يقال هو لزاما وأجل مسمى ولا داعي لكل هذا التكلف وعطفه على كلمة أسهل وأسرع في تأدية المعنى المراد. (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) الفاء الفصيحة أي إذا كان الأمر على ما ذكر من أن تأخير عذابهم ليس باهمال بل امهال وهو واقع بهم وآت عليهم فاصبر. واصبر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وعلى ما متعلقان باصبر وجملة يقولون صلة وسبح عطف على اصبر وبحمد ربك في موضع نصب على الحال أي وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه وسيأتي المراد بالصبر في باب الفوائد. وقبل متعلق بسبح وطلوع الشمس مضاف وقبل غروبها عطف على قبل طلوع الشمس. (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) الجار والمجرور متعلقان بسبح والفاء هي الفصيحة أيضا وسبح فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وأطراف النهار نصب عطفا على محل «ومن آناء» المنصوب ويجوز عطفه على قبل طلوع الشمس ولعل حرف ترج ونصب والكاف اسمها وجملة ترضى خبرها ومتعلق نرضى محذوف مفهوم من السياق أي بما تعطاه من الثواب وجملة لعلك ترضى حالية من فاعل سبح أي صل حال كونك راجيا في أن الله تعالى يرضيك بما يعطيكه من الثواب. (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) الواو عاطفة ولا ناهية وتمدن فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد وهو في محل جزم بلا وفاعله ضمير مستتر تقديره أنت وعينيك مفعول به والى ما متعلقان بتمدن وجملة متعنا صلة وبه متعلقان بمتعنا والهاء هي العائد وأزواجا مفعول متعنا أي أصنافا منهم ومنهم صفة ويجوز أن يعرب
268
نصبا على الحال من هاء الضمير فيكون منهم متعلقا بمتعنا وزهرة الحياة الدنيا توسع المعربون في اعرابها فأوصلوا أوجه نصبها الى تسعة وقد محصناها فرأيناها كلها سائغة ولهذا نعرضها كما ذكروها لنتوصل إلى الترجيح:
١- أن تكون مفعولا ثانيا إذا أعربنا أزواجا هو المفعول الاول لأن معنى متعنا أعطينا.
٢- أن تكون منصوبة على الحال من ما الموصولة.
٣- أن تكون منصوبة على البدلية من أزواجا على المبالغة كأنهم نفس الزهرة.
٤- أن تكون منصوبة بفعل مضمر دل عليه متّعنا تقديره جعلنا لهم زهرة.
٥- أن تكون منصوبة على الذم أي أذم زهرة الحياة الدنيا.
٦- أن تكون منصوبة على الاختصاص.
٧- أن تكون منصوبة على البدلية من محل «به».
٨- أن تكون منصوبة على الحال من الضمير في «به».
٩- أن تكون منصوبة على التمييز ل «ما» أو للهاء في «به».
ومن تمحيص هذه الوجوه ومراعاة جانب السهولة يتبين أن نصب زهرة يترجح في نصبها على الذم أو المفعولية على تضمين متعنا معنى أعطينا وبهما بدأ الزمخشري وغيره.
ولنفتنهم اللام للتعليل ونفتنهم مضارع منصوب بأن مضمرة بعد
269
لام التعليل والجار والمجرور متعلقان بمتعناهم والهاء مفعول به وفيه متعلقان بنفتنهم. (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) الواو للحال ورزق ربك مبتدأ وخير خبر وأبقى عطف على خير. (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) وأمر الواو استئنافية أو عاطفة وأمر فعل أمر وفاعله مستتر تقديره أنت وأهلك مفعول به وبالصلاة متعلقان بفعل الأمر واصطبر فعل أمر وفاعله مستتر وتقديره أنت وعليها متعلقان باصطبر وجملة لا نسألك استئنافية ونسألك فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به ورزقا مفعول به ثان. (نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) نحن مبتدأ وجملة نرزقك خبر والعاقبة مبتدأ وللتقوى خبر وهاتان الجملتان مستأنفتان أيضا. (وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) لولا حرف تحضيض أي هلا ويأتينا فعل وفاعل مستتر ومفعول به وبآية متعلقان بيأتينا ومن ربه متعلقان بمحذوف صفة لآية، اقترحوا جريا على دينهم المعروف وعادتهم في التعنت واللجاج، أولم الهمزة للاستفهام الانكاري والواو عاطفة على مقدر يقتضيه السياق والتقدير ألم تأتهم البينات تترى ولم تأتهم بصورة خاصة بينة ما في الصحف الأولى، وبينة فاعل لتأتهم وما موصول مضاف لبينة وفي الصحف متعلقان بمحذوف صلة الموصول والأولى صفة للصحف وفيها ما يكفي المنصف أما المكابر المتعنت فهيهات أن يقنعه شيء. (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا) تقدم اعراب مثل هذا التركيب أي لو ثبت إهلاكنا، فأنا وما بعدها فاعل لفعل محذوف والجملة مستأنفة سيقت لدعيم ما تقرر من تعنتهم وصلفهم ومجادلتهم وبعذاب متعلقان بأهلكناهم ومن قبله صفة لعذاب. لقالوا: جواب لو والجملة لا محل لها وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء ولولا حرف تحضيض
270
وأرسلت فعل وفاعل وإلينا متعلقان بأرسلت ورسولا مفعول به والجملة مقول القول. (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) فنتبع الفاء هي السببية وتنبع منصوب بأن مضمرة في جواب التحضيض والفاعل مستتر تقديره نحن وآياتك مفعول به منصوب بالكسرة لأنه جمع مؤنث سالم ومن قبل متعلقان بنتبع وان وما بعدها في تأويل مصدر مضاف لقبل ونخزى عطف على نذل. (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) كل مبتدأ ساغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم ومتربص خبر والجملة مقول القول والفاء الفصيحة وتربصوا فعل أمر، فستعلمون الفاء استئنافية والسين حرف استقبال وتعلمون فعل مضارع مرفوع بثبوت النون والواو فاعل ومن اسم استفهامية مبتدأ وأصحاب الصراط السوي خبر ومن اهتدى عطف على من أصحاب والجملة من أصحاب مفعول تعلمون المعلقة عن العمل ويجوز أن تكون من موصولة مفعول تعلمون وأصحاب الصراط خبر لمبتدأ محذوف أي هم أصحاب.
البلاغة:
١- المجاز المرسل فقد ذكر القرون وأراد الأمم التي تعيش عبرها والاعتبار بآثار الأمم البائدة، والقرون الخالية، كان مثارا لأخيلة الشعراء وخاصة في مقام الرثاء وأبرع من سما بخياله الى هذا المعنى أبو الطيب المتنبي والبحتري فنكتفي بهما وسنورد أبياتا مختارة من قصيدتين لهما.
يقول عبد الله بن المعتز الشاعر العباسي الخليفة: «لو لم يكن للبحتري إلا قصيدته في ايوان كسرى وقصيدته في وصف بركة المتوكل لكان أشعر الناس» فقد زار البحتري بعد أن سئم الحياة في بغداد بعد
271
مقتل المتوكل على الله المدائن وهي مدينة يقع فيها ايوان كسرى وقد أبدع في وصف الايوان إبداعا فريدا زاده روعة أنه من شعراء العرب أول من وصف الآثار القديمة الخالدة واستوحاها وصب عليها من روحه وهذه مختارات منها:
صنت نفسي عما يدنّس نفسي... وترفعت عن جدا كلّ جبس
وتماسكت حيث زعزعني الده... ر التماسا منه لتعسي ونكسي
حضرت رحلي الهموم فوجه... ت الى أبيض المدائن عنسي
ذكرتنيهم الخطوب التوالي... ولقد تذكر الخطوب وتنسي
حلل لم تكن كأطلال سعدى... في فقار من البسابس ملس
فكأن الجرماز من عدم الأن... س وإخلاله بنية رمس
لو تراه علمت أن الليالي... جعلت فيه مأتما بعد عرس
272
فإذا ما رأيت صورة انطا... كية ارتعت بين روم
وفرس والمنايا مواثل وانوشر......... وان يزجي الصفوف تحت ال
درفس في اخضرار من اللباس على أص... فر يختال في صبيغة
ورس عمرت للسرور دهرا فصارت... للتعزي رباعهم وال
تأسي فلها ان أعينها بدموع... موفقات على الصبابة حبس
ولا يتسع المجال لا يراد القصيدة بكاملها، فهي نموذج حي معبر من أدبنا العربي، كما لا يتسع المجال لدراستها فنكتفي بإيراد بعض الملاحظات السريعة عليها:
١- تشعر حين تقرأ السينية بروعة موسيقاها الناتجة عن خفة الجر وجماله (الخفيف) وتلاؤمه مع العواطف والمعاني والألفاظ والروي المهموس وهو السين وترداد الحروف المهموسة كالسين والصاد والتاء.
273
٢- تشعر بتأثر الشاعر بالعظمة حين قدم لوصف الايوان ثم ما تعتم أن تأسى وتحزن حين تقرأ أن الليالي جعلت فيه مأتما بعد عرس وهذا التجاوب النفسي بين ما يصفه الشاعر وبين ما يصف ميزة فنية بحتة.
٣- تشعر أن الشاعر يعجب بكل ما هو عظيم في الدنيا ولو كان من غير قومه فنراه هنا معجبا بالفرس فبكاهم أصدق بكاء ورثاهم أحر رثاء وهكذا الفن يسمو ليستحيل انسانية صرفا.
٤- وأخيرا تعجب من أن الشاعر يطرق في الأدب العربي فنا جديدا لم يطرقه أحد من قبله وهو رثاء الممالك الزائلة والآثار الباقية، ولم يشر إليه قبل القرآن أحد فيقول الله تعالى «أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى».
وننتقل الى عينية أبي الطيب المتنبي وهي القصيدة التي رثى بها أبا شجاع فاتك وفيها تحدث عن شعور الإنسان حيال الآثار المتخلفة عن أصحابها فقال منها:
274
إني لأجبن عن فراق أحبتي وتحسّ نفسي بالحمام فأشجع
ويزيدني غضب الأعادي قسوة ويلمّ بي عتب الصديق فأجزع
تصفو الحياة لجاهل أو غافل عما مضى فيها وما يتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه ويسومها طلب المحال فتطمع
أين الذي الهرمان من بنيانه ما قومه ما يومه؟ ما المصرع
تتخلّف الآثار عن أصحابها حينا ويدركها الفناء فتتبع
ويظهر أن أبا الطيب كان يحب القائد فاتكا أبا شجاع حبا خالصا قائما على الاعجاب فهو يرثيه بقصيدتين يجعل منهما وسيلة إلى الإبانة عما في نفسه من هموم ومحن وترى من خلالهما بعض النظرات الفلسفية فهو كما ترى يرى الحياة لا تصفو إلا للجاهل أو الغافل أما الشجاع الأبي فقلما تخطئه سهامها ونراه هنا معاني مظلمة قاتمة في نفسه حتى ليكاد يلقي سلاحه أمام عوادي الزمان لولا بقية من قوة يستمسك بها: ٢- وفي قوله: «أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ... » الآية فن المناسبة وهي على ضربين معنوية ولفظية والمعنوية هي أن يبتدئ المتكلم بمعنى ثم يتمم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ فالآية موعظتها سمعية فختمها بأشد مناسبة معنوية بقوله «أَفَلا يَسْمَعُونَ» وقال في الآية التي موعظتها مرئية وهي آية السجدة: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ» فقد ختمها بقوله:
المجد أخسر والمكارم صفقة من أن يعيش لها الهمام الأروع
والناس أنزل في مكانك منزلا من أن تعايشهم وقدرك أرفع
«أَفَلا يُبْصِرُونَ» لأن ذلك مما يتبين بالرؤية وما فوق هذه المناسبة مناسبة. ومن بديع ما ورد فيها شعرا قول القاضي الفاضل:
275
وبدر بأفلاك الخواطر طالع وغصن بريحان الغدار وريق
لئن بت في بحر من الفكر سابحا فإنسان عيني في الدموع غريق
فالمناسبة في الشطر الاول في البدر والافلاك والطلوع وفي الشطر الثاني بين الغصن والريحان ووريق وفي الثالث بين البحر وسابحا وفي الرابع بين إنسان العين والدموع وغريق ففي كل شطر من البيتين مناسبات عديدة، وأما المناسبة اللفظية فهي دون رتبة المعنوية وهي الإتيان بكلمات متزنات وهي أيضا على ضربين: تامة وغير تامة فالتامة تكون الكلمات مع الاتزان مقفاة والناقصة موزونة غير مقفاة فمن شواهد التامة من القرآن العظيم قوله تعالى: «ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ، ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ» ومن الشعر قول ابن هانئ الاندلسي:
وعوابس وقوابس وفوارس وكوانس وأوانس وعقائل
ومن غير التامة قول ابن خلوف المغربي:
كالورد خدا والغزالة بهجة والغصن قدا والغزال مقلدا
وقد اجتمعت التامة والناقصة في قول أبي تمام:
مها الوحش إلا أن هاتا أوانس قنا الحظ إلا أن تلك ذوابل فبين قنا ومها مناسبة لفظية تامة وبين الوحش والحظ وأوانس وذوابل مناسبة غير تامة.
276
الفوائد:
النسخ في القرآن:
في قوله تعالى «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ» مبحث هام جدير بالتأمل وهو أن معظم المفسرين درجوا على القول إن هذه الآية منسوخة بآية القتال والصواب انها ليست منسوخة بل هي أمر بالصبر المحمود على كل حال وهو عدم الاضطراب ومساورة الجزع لما يقولون ولما يصدر عنهم من الأذية وليس فيها أية اشارة أو تلميح الى عدم القتال حتى يكون الأمر بالقتال ناسخا لها.
وموضوع النسخ في القرآن الكريم من الموضوعات الشائكة الصعبة، والاختلاف حوله كثير وما علم في هذا الباب من استقراء كلام الصحابة والتابعين انهم كانوا يستعملون النسخ بإزالة المعنى اللغوي الذي هو إزالة شيء بشيء لا بإزاء مصطلح الأصوليين فمعنى النسخ عندهم إزالة بعض الأوصاف من الآية بآية أخرى إما بانتهاء مدة العمل أو بصر الكلام عن المعنى المتبادر الى غير المتبادر، أو بيان كون قيد من القيود اتفاقيا أو تخصيص عام أو بيان الفارق بين المنصوص وما قيس ظاهرا عليه أو ازالة عادة الجاهلية أو الشريعة السابقة فاتسع باب النسخ عندهم وكثر جولان العقل هنالك واتسعت دائرة الاختلاف.
أما المنسوخ باصطلاح المتأخرين فهو قليل جدا وقد ذكر الشيخ جلال الدين السيوطي في الإتقان بتقرير مبسوط، كما ينبغي، بعض ما ذكره العلماء ثم حرر المنسوخ الذي فيه رأي المتأخرين على وفق الامام الحافظ القاضي أبي بكر محمد بن عبد الله ابن العربي المعافري
277
الاندلسي فعنده قريبا من عشرين آية، وأتى في العصر الحديث الشيخ الامام محمد عبده فأنكر النسخ في القرآن وقال ان كل ما زعموا انه منسوخ يمكن تأويله كما رأيت في قوله تعالى «فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ» وهو ظاهر في هذه الآية يطيح بالقول القديم ان الآيات المنسوخة تبلغ حوالي خمسمائة آية وهو قول ظاهر البطلان بالبداهة.
278
Icon