ﰡ
( الحديث الأول ) : عن عمران بن حصين أن النبي ﷺ قال : لما نزلت ﴿ ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ ﴾ إلى قوله ﴿ ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ ﴾ قال : نزلت عليه هذه الآية وهو في سفر فقال :« » أتدرون أي يوم ذلك «؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال :» ذلك يوم يقول الله لآدم ابعث بعث النار، قال : يا رب وما بعث النار؟ قال : تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة «، فأنشأ المسلمون يبكون، فقال رسول الله ﷺ :» قاربوا وسددوا فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية، قال فيؤخذ العدد في الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين، وما مثلكم ومثل الأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير «، ثم قال :» إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة «، فكبروا، ثم قال :» إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة «، فكبروا، ثم قال :» إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة «، فكبروا، ثم قال : ولا أدري أقال الثلثين أم لا؟ ».
( الحديث الثاني ) : قال البخاري عند تفسير هذه الآية، عن أبي سعيد الخدري قال، قال النبي ﷺ :« يقول الله تعالى يوم القيامة : يا آدم، فيقول : لبيك ربنا وسعديك، فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار، قال : يا رب وما بعث النار؟ قال : من كل ألف - أراه قال - تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذٍ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد ﴿ وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ ﴾ » فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم، قال النبي ﷺ :« من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد، أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبرنا، ثم قال : ثلث أهل الجنة، فكبرنا، ثم قال : شطر أهل الجنة » فكبرنا.
( الحديث الثالث ) : عن عائشة، عن النبي ﷺ قال :« إنكم تحشرون إلى الله يوم القيامة حفاة عراة غرلاً » قالت عائشة : يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض، قال :« يا عائشة إن الأمر أشد من أن يهمهم ذاك ».
وروى ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن مسعود قال : النطفة إذا استقرت في الرحم جاءها ملك بكفه، فقال : يا رب مخلّقة أو غير مخلقة؟ فإن قيل : غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفتها الأرحام دماً، وإن قيل : مخلقة، قال : أي رب ذكر أو أنثى، شقي أو سعيد، ما الأجل وما الأثر؟ وبأي أرض يموت؟ قال، فيقال للنطفة من ربك؟ فتقول : الله، فيقال من رازقك؟ فتقول : الله، فيقال له : اذهب إلى الكتاب فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة، قال : فتخلق فتعيش في أجلها وتأكل رزقها، وتطأ أثرها حتى إذا جاء أجلها ماتت فدفنت في ذلك؛ ثم تلا عامر الشعبي :﴿ ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ﴾، وقال ابن أبي حاتم، عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي ﷺ قال :
وقوله تعالى :﴿ وَتَرَى الأرض هَامِدَةً ﴾ هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى، كما يحيي الأرض الميتة الهامدة وهي المقحلة التي لا ينبت فيها شيء. وقال قتادة : غبراء متهشمة، وقال السدي : ميتة، ﴿ فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ : أي ماذا أنزل الله عليها المطر ﴿ اهتزت ﴾ أي تحركت بالنبات وحييت بعد موتها، ﴿ وَرَبَتْ ﴾ أي ارتفعت لما سكن فيها الثرى، ثم أنبتت ما فيها من ثمار وزروع، وأشتات النبات في اختلاف ألوانها وطعومها، وروائحها وأشكالها ومنافعها، ولهذا قال تعالى :﴿ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ أي حسن المنظر طيب الريح، وقوله :﴿ ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق ﴾ أي الخالق المدبر الفعال لما يشاء، ﴿ وَأَنَّهُ يُحْيِي الموتى ﴾ أي كما أحيا الأرض الميتة وأنبت منها هذه الأنواع ﴿ إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ فصلت : ٣٩ ] ﴿ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ يس : ٨٢ ]، ﴿ وَأَنَّ الساعة آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ﴾ أي كائنة لا شك فيها ولا مرية، ﴿ وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي القبور ﴾ أي يعيدهم بعد ما صاروا في قبورهم رمماً ويوجدهم بعد العدم، كما قال تعالى :﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٩ ] والآيات في هذا كثيرة. وقد روى الإمام أحمد. « عن لقيط ابن عامر أنه قال : يا رسول الله أكلنا يرى به عزّ وجلّ يوم القيامة وما آية ذلك في خلقه؟ فقال رسول الله ﷺ :» أليس كلكم ينظر إلى القمر مخلياً به؟ قلنا : بلى، قال : فالله أعظم، قال، قلت : يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ قال :« أما مررت بوادي أهلك ممحلاً؟ » قال : بلى، قال :« ثم مررت به يهتز خضراً » قال : بلى، قال :« فكذلك يحيي الله الموتى وذلك آيته في خلقه » وقال ابن أبي حاتم، عن معاذ بن جبل قال : من علم أن الله هو الحق المبين، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، دخل الجنة «.
وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجداً حين يغيب ثم ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه، وأما الجبال والشجر فسجودهما بفيء ظلالهما عن اليمين، والشمائل. وعن ابن عباس قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله إني رأيتني الليلة وأن نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدتُ، فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها وهي تقول : اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود. قال ابن عباس : فقرأ رسول الله ﷺ سجدة، ثم سجد فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة. وقوله :﴿ والدوآب ﴾ أي الحيوانات، كلها، وقد جاء في الحديث عن الإمام أحمد أن رسول الله ﷺ نهى عن اتخاذ ظهور الدواب منابر، فرب مركوبة خير وأكثر ذكراً لله تعالى من راكبها. وقوله :﴿ وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس ﴾ أي يسجد لله طوعاً مختاراً متعبداً بذلك، ﴿ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب ﴾ أي ممن امتنع وأبي واستكبر، ﴿ وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ ﴾. وقال ابن أبي حاتم : قيل لعلي إن هاهنا رجلاً يتكلم في المشيئة، فقال له علي : يا عبد الله، خلقك الله كما يشاء أو كما شئت؟ قال : بل كما شاء، قال : فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال : بل إذا شاء، قال : فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال : بل إذا شاء، قال : فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء، قال : بل حيث يشاء. قال : والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف، وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله ﷺ :« إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد لها اعتزل الشيطان يبكي يقول : يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار ».
عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال :« إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفة، فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه، وهو الصهر ثم يعاد كما كان » وفي رواية : يأتيه الملك يحمل الإناء بكلبتين من حرارته، فإذا أدناه من وجهه تكرهه، قال : فيرفع مقمعة معه فيضرب بها رأسه، فيفرغ دماغه، ثم يفرغ الإناء في دماغعه فيصل إلى جوفه من دماغه، فذلك قوله :﴿ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود ﴾. وقوله :﴿ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ﴾، عن رسول الله ﷺ قال :« لو أن مقمعاً من حديد وضع في الأرض فاجتمع له الثقلان ما أقلوه من الأرض »
وقوله تعالى :﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ قال بعض المفسرين : الباء هاهنا زائدة، كقوله :﴿ تَنبُتُ بالدهن ﴾ [ المؤمنين : ٢٠ ] أي تنبت الدهن، وكذا قوله :﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ﴾ تقديره إلحاداً. والأجود أنه ضمن الفعل ههنا معنى يهم، ولهذا عداه بالباء فقال :﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ﴾ أي يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار، وقوله :﴿ بِظُلْمٍ ﴾ أي عامداً قاصداً أنه ظلم ليس بمتأول، وقال ابن عباس : بظلم بشرك، وقال مجاهد : أن يعبد فيه غير الله، وكذا قال قتادة وغير واحد.
وقوله تعالى :﴿ وَأَذِّن فِي الناس بالحج ﴾ أي ناد في الناس بالحج داعياً لهم لحج هذا البيت الذي أمرناك ببنائه فذكر أنه قال : يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال : ناد وعلينا البلاغ، فقام على مقامه، وقيل على الحجر، وقيل على الصفا، وقيل على أبي قبيس، وقال : يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه، فيقال : إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك، هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف والله أعلم، وأوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة، وقوله :﴿ يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ ﴾ الآية. قد يستدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشياً لمن قدر عليه أفضل من الحج راكباً لأنه قدمهم في الذكر، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم، وقال ابن عباس : ما أساء على شيء إلا أني وددت أني كنت حججت ماشياً، لأن الله يقول :﴿ يَأْتُوكَ رِجَالاً ﴾، والذي عليه الأكثرون أن الحج راكباً أفضل اقتداء برسول الله ﷺ، فإنه حج راكباً مع كمال قوته عليه السلام. وقوله :﴿ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ ﴾ يعني طريق، كما قال :﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً ﴾ [ الأنبياء : ٣١ ]، وقوله :﴿ عَميِقٍ ﴾ أي بعيد، وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ ﴾ [ إبراهيم : ٣٧ ]، فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف، والناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار.
وفي « سنن أبي داود » أن رسول الله ﷺ كان يصوم هذا العشر، وهذا العشر مشتمل على يوم عرفة، وقد سئل رسول الله ﷺ عن صيام يوم عرفة فقال : احتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والآتية، ويشتمل على يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، وقد ورد في حديث أنه أفضل الأيام عند الله، وبالجملة فهذا العشر قد قيل إنه أفضل أيام السنة كما نطق به الحديث، وفضّله كثر على عشر رمضان الأخير، لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك من صلاة وصيام وصدقة وغيرها، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه، وقيل ذلك أفضل لاشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهراً، وتوسط آخرون فقالوا : أيام هذا أفضل وليالي ذاك أفضل؛ وبهذا يجتمع شمل الأدلة والله أعلم، ( قول ثان ) في الأيام المعلومات، قال ابن عباس : الأيام المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده؛ وإليه ذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه. ( قول ثالث ) : عن نافع عن ابن عمر كان يقول : الأيام المعلومات المعدودات هن جميعهن أربعة أيام، فالأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده، والأيام المعدودات ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهو مذهب الإمام مالك بن أنس.
وقوله تعالى :﴿ البآئس الفقير ﴾ قال عكرمة : هو المضطر الذي يظهر عليه البؤس وهو الفقير المتعفف. وقال مجاهد : هو الذي لا يبسط يده. وقال قتادة : وقال قتادة : هو الزَّمِن. وقاتل مقاتل : هو الضرير، وقوله :﴿ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ ﴾، قال ابن عباس : هو وضع الإحرام من حلق الرأس، ولبس الثياب، وقص الأظافر ونحو ذلك، وقوله :﴿ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ ﴾ يعني نحر ما نذر من أمر البدن، وقال مجاهد :﴿ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ ﴾ نذر الحج والهدي وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج، وعنه : كل نذر إلى أجل، وقوله :﴿ وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق ﴾ قال مجاهد : يعني الطواف الواجب يوم النحر، وقال أبو حمزة قال، قال لي ابن عباس : أتقرأ سورة الحج، يقول الله تعالى :﴿ وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق ﴾ ؟ فإن آخر المناسك الطواف بالبيت العتيق، قلت : وهكذا صنع رسول الله ﷺ، فإنه لما رجع إلى مِنى يوم النحر بدأ برمي الجمرة، فرماها بسبع حصيات، ثم نحر هديه وحلق رأسه، ثم أفاض فطاف بالبيت، وفي « الصحيحين » عن ابن عباس أنه قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف إلا أنه خفف عن المرأة الحائض، وقوله :﴿ بالبيت العتيق ﴾، قال الحسن البصري في قوله :﴿ وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق ﴾ قال : لأنه أول بيت وضع للناس، وقال خصيف. إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار قط. وعن مجاهد : لم يرده أحد بسوء إلا هلك، وفي الحديث :« إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار » روي مرفوعاً ومرسلاً.
وقوله :﴿ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ﴾ أي لكم في البدن مافع من لبنها وصوفها وأوبارها وأشعارها وركوبها إلى أجل مسمى، قال مجاهد في قوله :﴿ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ قال : الركوب واللبن والولد، فإذا سميت بدنة أو هدياً ذهب ذلك كله، وقال آخرون : بل له أن ينتفع بها وإن كانت هدياً إذا احتاج إلى ذلك؛ كما ثبت في » الصحيحين « عن أنس » أن رسول الله ﷺ رأى رجلاً يسوق بدنة قال :« اركبها » قال : إنها بدنة، قال :« اركبها ويحك » في الثانية أو الثالثة «، وفي رواية لمسلم :» اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها « وعن علي أنه رأى رجلاص يسوق بدنه ومعها ولدها، فقال : لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدها، وقوله :﴿ ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق ﴾ أي محل الهدى وانتهاؤه إلى البيت العتيق وهو الكعبة، كما قال تعالى :﴿ هَدْياً بَالِغَ الكعبة ﴾ [ المائدة : ٩٥ ]، وقال :﴿ والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾ [ الفتح : ٢٥ ]. وقال عطاء، كان ابن عباس يقول : كل من طاف بالبيت فقد حل، قال الله تعالى :﴿ ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق ﴾.
وعن علي بن الحسين عن أبي رافع « أن رسول الله ﷺ كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب الناس أتى بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية ثم يقول :» اللهم هذا عن أمتي جميعها من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ، ثم يُؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه، ثم يقول :« هذا عن محمد وآل محمد » فيطعمهما جميعاً للمساكين ويأكل هو وأهله منهما « وقال الأعمش عن ابن عباس في قوله :﴿ فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ ﴾ قال : قياماً على ثلاث قوائم معقولة يدها اليسرى يقول : باسم الله والله أكبر لا إله إلا الله، اللهم منك ولك، وقال ليث عن مجاهد : إذا عقلت رجلها اليسرى قامت على ثلاث، وفي » الصحيحين « عن ابن عمر أنه أتى على رجل قد أناخ بدنة وهو ينحرها فقال : ابعثها قياماً مقيدة سنَّة أبي القاسم ﷺ، وعن جابر أن رسول الله ﷺ وأصحابه : كانوا ينحرون البدن معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها.
لمَالُ المرءِ يصلحه فيغني | مفاقرَه أعفُّ من القنوع |
مسألة :
عن البراء بن عازب قال، قال رسول الله ﷺ :« إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر، فمن فعل فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء »، فلهذا قال الشافعي وجماعة من العلماء : إن أول وقت ذبح الأضاحي إذا طلعت الشمس يوم النحر ومضى قدرة صلاة العيد والخطبتين، زاد أحمد : وأن يذبح الإمام بعد ذلك، لما جاء في « صحيح مسلم » : وأن لا تذبحوا حتى يذبح الإمام، وقال أبو حنيفة : أما أهل السواد من القرى ونحوها فلهم أن يذبحوا بعد طلوع الفجر إذ لا صلاة عيد تشرع عنده لهم، وأما أهل الأمصار فلا يذبحوا حتى يصلي الإمام والله أعلم.
ثم قال تعالى :﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾ أي لولا أنه يدفع بقوم عن قوم، ويكف شرور أناس عن غيرهم، بما يخلقه ويقدره من الأسباب لفسدت الأرض، ولأهلك القوي الضعيف، ﴿ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ ﴾ وهي المعابد للرهبان، وقال قتادة : هي معابد الصابئين، وفي رواية عنه : صوامع المجوس، ﴿ وَبِيَعٌ ﴾ وهي أوسع منها وهي للنصارى أيضاً، وحكى ابن جبير عن مجاهد وغيره : أنها كنائس اليهود، وعن ابن عباس : أنها كنائس اليهود، وقوله :﴿ وَصَلَوَاتٌ ﴾ قال ابن عباس : الصلوات كنائس، وكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة : إنها كنائس اليهود وهم يسمونها صلوات، وحكى السدي عن ابن عباس : أنها كنائس النصارى، وقال أبو العالية وغيره : الصلوات معابد الصابئين.
تمنى كتاب الله أول ليله | وآخرها لاقى حمام المقادر |
وقوله تعالى :﴿ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ﴾ حقيقة النسخ لغة الإزالة والرفع، قال ابن عباس : أي فيبطل الله سبحانه وتعالى ما ألقى الشيطان؛ وقال الضحاك : نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته، وقوله :﴿ والله عَلِيمٌ ﴾ أي بما يكون من الأمور والحوادث لا تخفى عليه خافية ﴿ حَكِيمٌ ﴾ أي في تقديره وخلقه وأمره، له الحكمة التامة والحجة البالغة، ولهذا قال :﴿ لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ أي شك وشرك وكفر ونفاق كالمشركين حين فرحوا بذلك واعتقدوا أنه صحيح من عند الله وإنما كان من الشيطان، قال ابن جريج ﴿ لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ هم المنافقون، ﴿ والقاسية قُلُوبُهُمْ ﴾ هم المشركون، وقال مقاتل بن حيان : هم اليهود، ﴿ وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ أي في ضلال ومخالفة وعناد بعيد أي من الحق والصواب، ﴿ وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ ﴾ أي وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق والباطل، والمؤمنون بالله ورسوله أن ما أوحيناه إليك، هو الحق من ربك الذي أنزله بعلمه وحفظه، وحرسه أن يختلط به غيره، بل هو كتاب عزيز
قلت : وهذا المعنى في هذه الآية كقولة :﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ﴾ [ الأنعام : ١٦١ ] الآية، وقوله :﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا ﴾، قال ابن عباس في قوله :﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ ﴾ قال : الله عزَّ وجلَّ. وقال ابن أسلم ﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ ﴾ يعني إبراهيم، وذلك لقوله :﴿ رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ﴾ [ البقرة : ١٢٨ ]، وقد قال الله تعالى :﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا ﴾ قال مجاهد : الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة، وفي الذكر، ﴿ وَفِي هذا ﴾ يعني القرآن وكذا قال غيره. ( قلت ) : وهذا هو الصواب لأنه تعالى قال :﴿ هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ ﴾ ثم حثهم وأغراهم على ما جاء الرسول صلوات الله وسلامه عليه بأنه ملة إبراهيم الخليل، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة، بما نوه به من ذكرها والثناء عليها، في سالف الدهر وقديم الزمان، في كتب الأنبياء يتلى هذه الأمة بما نوه به من ذكرها والثناء عليها، في سالف الدهر وقديم الزمان، في كتب الأنبياء يتلى على الأحبار والرهبان، فقال :﴿ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل هذا القرآن ﴿ وَفِي هذا ﴾، روى النسائي عن الحارث الأشعري عن رسول الله ﷺ قال :« من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم »، قال رجل : يا رسول الله وإن صام وصلى؟ قال :« نعم وإن صام وصلى » فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله «