ﰡ
شرح الكلمات:
اتقوا ربكم: أي عذاب ربكم وذلك بالإيمان والتقوى.
إن زلزلة الساعة: أي زلزلة الأرض عند مجىء الساعة.
تذهل كل موضعة: أي من شدة الهول والخوف تنسى رضيعها وتغفل عنه.
وتضع كل ذات حمل حملها: أي تسقط الحوامل ما في بطونهن من الخوف والفزع.
سكارى وما هم بسكارى: أي ذاهلون فاقدون رشدهم وصوابهم كالسكارى وما هم بسكارى.
يجادل في الله بغير علم.: أي يقول إن الملائكة بنات الله وإن الله لا يحيي الموتى.
شيطان مريد: أي متجرد من كل خير لا خير فيه البتة.
كتب عليه أنه من تولاه: فرض فيه أن من تولاه أي اتبعه يضله عن الحق.
معنى الآيات:
بعد ذلك البيان الإلهي في سورة الأنبياء وما عرض تعالى من أدلة الهداية وما بين من سبل النجاة نادى تعالى بالخطاب العام الذي يشمل العرب والعجم والكافر والمؤمن إنذاراً وتحذيراً فقال في فاتحة هذه السورة سورة الحج المكية المدنية لوجود أي كثير فيها نزل في مكة وآخر نزل بالمدينة: ﴿يا أيها الناس اتقوا١ ربكم﴾ أي خافوا عذابهُ، وذلك
هذا ما دلت عليه الآيتان (١) و (٢) وأما الآية الثالثة فينعى تعالى على النضر بن الحارث وأمثاله ممن يجادلون في الله بغير علم فينسبون لله الولد والبنت ويزعمون أنه ما أرسل محمداً رسولاً، وأنه لا يحيي الموتى بعد فناء الأجسام وتفتتها فقال تعالى: ﴿ومن الناس من يجادل في الله بغير علم﴾ بجلال الله وكماله ولشرائعه وأحكامه وسننه في خلقه، ﴿ويتبع﴾ أي في جداله وما يقوله من الكذب والباطل ﴿كل شيطان مريد﴾ أي متجرد من الحق والخير، ﴿كتب٢ عليه﴾ أي على ذلك الشيطان في قضاء الله أن من تولاه بالطاعة والإتباع فإنه يضله عن الحق ويهديه بذلك إلى عذاب السعير في النار.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحوالهما وأهوالهما.
٢- حرمة الجدال بالباطل لإدحاض الحق وإبطاله.
٣- حرمة الكلام في ذات الله وصفاته بغير علم من وحي إلهي أو كلام نبوي صحيح.
٤- موالاة الشياطين وأتباعهم يفضى بالموالي المتابع لهم إلى جهنم وعذاب السعير.
٢ قال قتادة ومجاهد: من تولى الشيطان فإنه يضله.
شرح الكلمات:
في ريب من البعث: الريب الشك مع اضطراب النفس وحيرتها، والبعث الحياة بعد الموت.
من نطفة: قطرة المنّي التي يفرزها الزوجان.
علقة: أي قطعة دم متجمد تتحول إليه النطفة في خلال أربعين يوماً.
مضغة: أي قطعة لحم قدر ما يمضغ المرء تتحول العلقة إليها بعد أربعين يوماً.
وغير مخلقة: أي مصورة خلقاً تاماً، مخلقة وغير مخلقة هي السقط يسقط
لنبين لكم: أي قدرتنا على ما نشاء ونعرفكم بابتداء خلقكم كيف يكون.
ونقر في الأرحام ما نشاء: أي ونبقي في الرحم من نريد له الحياة والبقاء إلى نهاية مدة الحمل ثم نخرجه طفلاً سوياً.
لتبلغوا أشدكم: أي كمالي أبداًنكم وتمام عقولكم.
إلى أرذل العمر: أي سن الشيخوخة والهرم فيخرف.
لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً: أي فيصير كالطفل في معارفه إذ ينسى كل علم علمه.
هامدة: خامدة لا حراك لها ميتة.
اهتزت وربت: أي تحركت بالنبات وارتفعت تربتها وأنبتت.
زوج بهيج: أي من كل نوع من أنواع النباتات جميل المنظر حسنه.
ذلك بأن الله هو الحق: أي الإله الحق الذي لا إله سواه، فعبادة الله حق وعبادة غير الله باطل.
وأن الساعة آتية: أي القيامة.
بعث من في القبور: أي يحييهم ويخرجهم من قبورهم أحياء كما كانوا قبل موتهم.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى بعض أحوال القيامة وأهوالها، وكان الكفر بالبعث الآخر هو العائق عن الاستجابة للطاعة وفعل الخير نادى تعالى الناس مرة أخرى ليعرض عليهم أدلة البعث العقلية لعلهم يؤمنون فقال: ﴿يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث﴾ أي في شك وحيرة وقلق نفسى من شأن بعث الناس أحياء من قبورهم بعد موتهم وفنائهم لأجل حسابهم ومجازاتهم على أعمالهم التي عملوها في دار الدنيا فإليكم ما يزيل شككم ويقطع حيرتكم في هذه القضية العقدية وهو أن الله تعالى قد خلقكم١ من تراب أي خلق
٢ العلقة: الدم الجامد، والعلق: الدم العبيطُ أي: الطري.
٣ هذه الأطوار أربعة أشهر، قال ابن عباس: وفي العشر بعد الأربعة أشهر ينفخ فيه الروح، فذلك عدّة الوفاة منها أربعة أشهر وعشر، وفي الصحيح عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم ليُجُمَع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات.. رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.
٤ روى ابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لسقط أقدّمه بين يدي أحبّ إليّ من ألف فارس أخلّفه ورائي".
٥ أي: فخرج كل واحد منكم طفلا، ويطلق الطفل على الولد من يوم انفصاله إلى البلوغ وولد كل وحشية يقال له طفل ويوصف به مفرداً كالمصدر فيقال: جارية طفل وجاريتان طفل، وجوار طفل، وغلام طفل وغلامان طفل، ويجمع الطفل على أطفال، وأطفلت المرأة: صارت ذات طفل.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث الآخر والجزاء على الأعمال يوم القيامة.
٢ بيان تطور خلق الإنسان ودلالته على قدرة الله وعلمه وحكمته.
٣- الاستدلال على الغائب بالحاضر المحسوس وهذا من شأن العقلاء فإن المعادلات الحسابية والجبرية قائمة على مثل ذلك.
٤- تقرير عقيدة التوحيد وهي أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٢ ومن براهين ألوهيته الحقة دون من سواه أنه يحيى الموتى وأنه على كل ما يريده قدير وأنه موجد الدنيا والآخرة وسيفني هذه في ساعة آتية لا محالة، وسيبعث الناس من القبور للحياة الثانية فيخلدون فيها منهم شقي ومنهم سعيد.
شرح الكلمات:
يجادل في الله: أي في شأن الله تعالى فينسب إلى الله تعالى ما هو منه براء كالشريك والولد والعجز عن إحياء الموتى، وهذا المجادل هو أبو جهل.
بغير علم: أي بدون علم من الله ورسوله.
ولا كتاب منير: أي ولا كتاب من كتب الله ذي نور يكشف الحقائق ويقرر الحق ويبطل الباطل.
ثاني عطفه: أي لآوى عنقه تكبراً، لأن العطف الجانب من الإنسان.
له في الدنيا خزي: وقد أذاقه الله تعالى يوم بدر إذ ذبح هناك واحتز رأسه.
بظلام للعبيد: أي بذي ظلم للعبيد فيعذبهم بغير ظلم منهم لأنفسهم.
يعبد الله على حرف: أي على شك في الإسلام هل هو حق أو باطل وذلك لجهلهم به
اطمأن به: أي سكنت نفسه إلى الإسلام ورضي به.
وإن أصابته فتنة: أي ابتلاء بنقص مال أو مرض في جسم ونحوه.
إنقلب على وجهه: أي رجع عن الإسلام إلى ما كان عليه من الكفر الجاهلي.
مالا يضره ولا ينفعه: أي صنماً لا يضره إن لم يعبده، ولا ينفعه إن عَبَدَه..
لبئس المولى: أي قبح هذا الناصر من ناصر.
ولبئس العشير: أي المعاشر وهو الصاحب الملازم.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿ومن الناس من يجادل في الله بغير علم﴾ هذه شخصية ثانية معطوفة على الأولى التي تضمنها قوله تعالى: ﴿ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد﴾ وهي شخصية النضر بن الحارث أحد رؤساء الفتنة في مكة، وهذِه الشخصية هي فرعون هذه الأمة عمرو بن هشام الملقب بأبي جهل يخبر تعالى عنه فيقول: ﴿ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير١﴾ بل يجادل بالجهل وما أقبح جدال الجهل والجهّال ويجادل في الله عز وجل يا للعجب أفيريد ان يثبت لله تعالى الولد والبنت والعجز والشركاء والشفعاء، ولا علم من وحي عنده، ولا من كتاب إلهي موحى به إلى أحد أنبيائه. وقوله تعالى: ﴿ثاني عطفه﴾ وصف له في حال مشيه وهو يجر رداءه مصعراً خده مائلاً إلى أحد جنبيه كبراً وغروراً، وجداله لا لطلب الهدى أو لمجرد حب الانتصار للنفس بل ليضل غيره عن سبيل الله تعالى الذي هو الإسلام حتى لا يدخلوا فيه فيكملوا ويسعدوا عليه في الحياتين. وقوله تعالى: ﴿له في الدنيا خزي٢﴾ أي ذل وهوان وقد ناله حيث قتل في بدر شر قتلة فقد احتز رأسه وفصل عن جثته ونال منه الذين كان يسخر منهم ويعذبهم من ضعفة المؤمنين، وقوله تعالى: ﴿ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق﴾ وقد أذاقه ذلك بمجرد أن قتل فروحه في النار ويوم
٢ في هذه الآية إخبار بغيب فكان كما أخبر تعالى فإن كلاًّ من أبي جهل والنضر بن الحارث قد أذلهما الله وأخذهما ببدر، فأبو جهل قتل وأخذ رأسه، والنضر قتل صبراً، والآية قطعاً نزلت بمكة فهي من معجزات القرآن الكريم.
٢ حرف كل شيء: طرفه وجانبه والآية تمثيل لحال المتردد في عمله.
٣ أي: في الآخرة لأنه بعبادته دخل النار ولم ير منه نفعاً أصلا وإنما قال: (ضرّه أقرب من نفعه) ترفيعاً للكلام نحو: (إنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين) ومعنى الكلام: القسم والتأخير أي: يدعو والله من ضرّه أقرب من نفعه، والمدعو هو الوثن الذي عبده من دون الله تعالى.
٤ هذه الجمل تحمل الذم والتقبيح للأصنام التي يدعوها المركون فإنها شر الموالي وشر العشير، لأن شأن الولي جلب النفع لمولاه وشأن العشير جلب الخير لعشيره فإذا كان العكس كانا شر الموالي والعشراء.
٥ قال تعالى من سورة يونس: ﴿ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله﴾، ﴿وقالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾ وهذا منهم على فرض إن بعثوا أحياء يوم القيامة أو يرجون شفاعتهم في الدنيا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- قبح جدال الجاهل فيما ليس له به علم.
٢- ذم الكبر والخيلاء وسواء من كافر أو من مؤمن.
٣- عدم جدوى عِبَاَدةٍ صاحبُها شاك في نفعها غير مؤمن بوجوبها ومشروعيتها.
٤- لا يصح دين مع الشك.
٥- تقرير التوحيد والتنديد بالشرك والمشركين.
إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (١٤) مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (١٥) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧)
شرح الكلمات:
وعملوا الصالحات: أي الفرائض والنوافل وأفعال الخير.
يفعل ما يريد: من إكرام المطيع وإهانة العاصي وغير ذلك من رحمة المؤمن وعذاب الكافر.
أن لن ينصره الله: أي محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إلى السماء: أي سقف بينه وليختنق غيظاً.
هل يذهبن كيده: أي في عدم نصرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يغيظه.
وكذلك أنزلناه: أي ومثل إنزالنا تلك الآيات السابقة أنزلنا القرآن.
هادوا: أي اليهود.
والصابئين: فرقة من النصارى.
والمجوس: عبدة النار والكواكب.
على كل شيء شهيد: أي عالم به حافظ له.
معنى الآيات:
بعدما ذكر تعالى جزاء الكافرين والمترددين بين الكفر والإيمان أخبر أنه تعالى يدخل الذين آمنوا به وبرسوله ولقاء ربهم ووعده ووعيده وعملوا الصالحات وهي الفرائض التي افترضها الله عليهم والنوافل التي رغبهم فيها يدخلهم جزاء لهم على إيمانهم وصالح أعمالهم جنات تجري من تحتها الأنهار وقوله تعالى: ﴿إن الله يفعل ما يريد١﴾ ومن ذلك تعذيبه من كفر به وعصاه ورحمة من آمن به وأطاعه وقوله تعالى: ﴿من٢ كان يظن أن لن ينصره الله﴾ أي من كان يظن أن الله لا ينصر رسوله ودينه وعباده المؤمنين فلذا هو يتردد ولم يؤمن ولم ينخرط في سلك المسلمين كبني أسد وغطفان فإنا نرشده إلى ما يذهب عنه غيظه حيث يسوءه نصر الله تعالى لرسوله وكتابه ودينه وعباده المؤمنين وهو أن يأتي بحبل وليربطه بخشبة في سقف بيته ويشده على عنقه ثم ليقطع الحبل٣، وينظر بعد هذه العملية الانتحارية هل كيده٤ هذا يذهب عنه الذي يغيظه؟.
٢ الظاهر أن هذا فريق ثالث غير الفريقين المتقدمين وهما: فريق من يجادل في الله بغير علم وفريق من يعبد الله على حرف وهذا الفريق الثالث قد يكون من اليهود والمنافقين وبعض المشركين الذين كانوا يغتاظون لانتصار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنهم لا يودّون ذلك ولا كانوا يرون انتصاره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كائنا فكلما رأوا نصراً له ازداد غمهم واشتد كربهم لأن انتصاره يحزنهم ويخيفهم.
٣ قرأ الجمهور: ﴿ليقطع﴾ بسكون اللام لوجود ثم العاطفة وقرأ بعضٌ ﴿ليقطع﴾ بكسر اللام لأن ثم ليست كالفاء والواو العاطفتين لأنها مركبة من ثلاثة أحرف.
٤ ﴿هل يذهبن كيده ما يغيظ﴾ الاستفهام إنكاري، وما: مصدرية أي: هل يذهبن كيده غيظه.
وقوله تعالى: ﴿إن الذين آمنوا١﴾ وهم المسلمون ﴿والذين هادوا﴾ وهم اليهود ﴿والصابئين﴾ وهم فرقة من النصارى يقرأون الزبور ويعبدون الكواكب ﴿والنصارى﴾ وهم عبدة الصليب ﴿والمجوس﴾ وهم عبدة النار٢ والكواكب ﴿والذين أشركوا﴾ وهم عبدة الأوثان هؤلاء جميعا سيحكم٣ الله بينهم يوم القيامة فيدخل المؤمنين الجنة ويدخل أهل تلك الملل الباطلة النار هذا هو الفصل الحق فالأديان ستة دين واحد للرحمن وخمسة للشيطان فأهل دين الرحمن يدخلهم في رحمته، وأهل دين الشيطان يدخلهم النار مع الشيطان وقوله: ﴿إن الله على كل شيء شهيد﴾ أي عالم بكل شيء لا يخفى عليه شيء وسيجزى كل عامل بما عمل، ولا يهلك على الله إلا هالك فقد أنزل كتابه وبعث رسوله ورغب ورهب وواعد وأوعد والناس يختارون ما قدر لهم أو عليهم وسبحان الله العظيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- كل الأديان هي من وحي الشيطان وأهلها خاسرون إلا الإسلام فهو دين الله الحق وأهله هم الفائزون، أهله هم القائمون عليه عقيدة وعبادة وحكماً وقضاء.
٢- إن الله ناصر دينه، ومكرم أهله، ومن غاظه ذلك ولم يرضه فليختنق.
٣- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
٤- تقرير إرادة الله ومشيئته فهو تعالى يفعل ما يشاء ويهدي من يريد.
٢ لذا فهم يثبتون إلهين إلها للخير وإلها للشر وهم أهل فارس، وأقدم النحل المجوسية أسسها ملك فارسي قديم في التاريخ يدعى (كبومرث).
٣ هذا تفسير لقوله تعالى في الآية: ﴿إن الله يفصل بينهم﴾ إذ الفصل هو الحكم.
شرح الكلمات:
ألم تر: أي ألم تر بقلبك فتعلم.
يسجد له: أي يخضع ويذل له بوضع وجهه على الأرض بين يدي الرب تعالى.
من في السموات: من الملائكة.
والدواب: من سائر الحيوانات التي تدب على الأرض.
حق عليه العذاب: وجب عليه العذاب فلا بد هو واقع به.
ومن يهن الله: أي يُشقهِ في عذاب مهين.
فماله من مكرم: أي ليس له من مكرم أي مسعد ليسعده، وقد أشقاه الله.
معنى الآية الكريمة:
يقول تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿ألم تر﴾ ١ أيها الرسول بقلبك فتعلم ﴿أن الله٢ يسجد له من في السموات﴾ من الملائكة ﴿ومن في الأرض﴾ من الجن والدواب ﴿والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس﴾ وهم المؤمنون المطيعون وكثير أي من الناس حق عليهم العذاب أي وجب لهم العذاب وثبت، فهو لا يسجد سجود عبادة وقربة لنا أما سجود الخضوع فظلالهم تسجد٣ لنا بالصباح والمساء، وقوله تعالى: ﴿ومن يهن الله فماله من مكرم﴾ أي ومن أراد الله إشقاءه وعذابه فما له من مكرم يكرمه بِرَفْع
٢ قد استعمل السجود في هذه الآية. في حقيقته ومجازه.
٣ وكذلك خضوعهم لأحكام الله تعالى فيهم ومجاري أقداره عزّ وجلّ عليهم من صحة ومرض وغنىً وفقر وحياة وموت.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
١- تقرير ربوبية الله وألوهيته.
٢- سجود المخلوقات بحسب ذواتها، وما أراد الله تعالى منها.
٣- كل شيء خاضع لله إلا الإنسان فأكثر أفراده عصاة له متمردون عليه وبذلك استوجبوا العذاب المهين.
٤- التالي لهذه الآية والمستمع لتلاوته يسن لهم أن يسجدوا لله تعالى إذا بلغوا قوله تعالى: ﴿إن الله يفعل ما يشاء﴾.
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (٢٤)
خصمان: خصم مؤمن وخصم كافر كل واحد يريد أن يخصم صاحبه.
اختصموا في ربهم: أي في دينه.
قطعت لهم ثياب: أي فصلت لهم ثياب على قدر أجسامهم.
يصهر به ما في بطونهم: أي يذاب بالحميم وهو الماء الحار من شحوم وغيرها.
مقامع من حديد: جمع مقمعة وهى آلة من حديد كالمجن.
وذوقوا عذاب الحريق: أي يقال لهم توبيخاً وتقريعاً: ذوقوا عذاب النار.
ولؤلؤا: أي أساور من لؤلؤ محلاة بالذهب.
إلى الطيب من القول: هو شهادة أن لا إله إلا الله.
إلى صراط الحميد: أي إلى الإسلام إذ هو طريق الله الموصل إلى رضاه وجنته.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿هذان خصمان١﴾ الخصم الأول المسلمون والثاني أهل الشرك والكفر ﴿اختصموا في ربهم﴾ أي في دينه تعالى كل خصم يدعي أنه على الدين الحق، وماتوا على ذلك وفصل الله تعالى بينهم يوم القيامة ﴿فالذين كفروا﴾ وهم أهل الدين الباطل ادخلوا النار وفصلت٢ لهم ثياب من نار ﴿يصب من فوق رؤوسهم الحميم﴾ أي الماء الحار المنتهي في الحرارة، ﴿يصهر٣ به ما في بطونهم والجلود﴾ من لحم وشحم، ﴿ولهم مقامع من حديد﴾ يضربون بها و ﴿كلما أرادوا أن يخرجوا منها﴾ أي من النار بسبب ما ينالهم من غم عظيم ﴿أعيدوا فيها﴾ أي تجبرهم الزبانية على العودة إليها ولم تمكنهم من الخروج
٢ قطعت: فصلت أي: تقطّع لهم في الآخرة ثياب من نار، وذكر بلفظ الماضي لأنّ ما كان من أخبار الآخرة فالموعود منه كالواقع المحقق، كما قال تعالى ﴿وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس..﴾ أي: يقول الله وجائز أن يكون قد أعدّت لهم تلك الثياب ليلبسوها يوم القيامة وهذا أولى. وتلك الثياب من النحاس المذاب وهي السرابيل المذكورة ني سورة إبراهيم من قطران.
٣ الصَّهر: إذابة الشحم والصهارة: ما ذاب منه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- إثبات حقيقة هي أن المؤمن خصم الكافر والكافر خصم المؤمن في كل زمان ومكان حيث إن الآية نزلت في علي وحمزة وعبيدة بن الحارث هذا الخصم المؤمن، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وهذا الخصم الكافر وذلك أنهم تقاتلوا يوم بدر بالمبارزة ونصر الله الخصم المؤمن على الكافر.
٢- بيان جزاء كل من الكافرين والمؤمنين في الدار الآخرة.
٣- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحوال الآخرة وما للناس فيها.
٤- بيان الطيب من القول وهو كلمة التوحيد وذكر الله تعالى.
٥- بيان صراط الحميد وهو الإسلام جعلنا الله من أهله.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٥)
٢ قالت العلماء: ليس أحد من أهل الجنة إلاّ وفي يده ثلاثة أسورة. سوار من ذهب، وسوار من لؤلؤ وسوار من فضة.
٣ روى أبو داود بإسناد صحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو" وصحّ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حُرمها في الآخرة".
كفروا: جحدوا توحيد الله وكذَّبوا رسوله وما جاءهم به من عند ربهم.
ويصدون عن سبيل الله: يمنعون الناس من الإسلام، ويصرفونهم عنه.
والمسجد الحرام: مكة المكرمة والمسجد الحرام ضمنها١.
العاكف: المقيم بمكة للتعبد في المسجد الحرام.
والباد: الطاريء عن مكة النازح إليها.
بإلحاد بظلم: أي إلحاداً أي ميلاً عن الحق مُلتبساً بظلم لنفسه أو لغيره.
معنى الآية الكريمة:
قوله تعالى: ﴿إن الذين كفروا ويصدون٢ عن سبيل الله﴾ هذه الآية الكريمة تحمل تهديداً ووعيداً شديداً لكل من كفر بتوحيد الله وكذب رسوله وما جاء به من الهدى والدين الحق وصدَّ عن سبيل الله أي صرف الناس عن الدخول في الإسلام، وعن دخول المسجد الحرام للطواف بالبيت والإقامة بمكة للتعبد في المسجد الحرام والآية وإن تناولت المشركين الذين صدوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه عن دخول مكة عام الحديبية فإنها عامة في كل من كفر وصدَّ إلى يوم القيامة وقوله تعالى: ﴿الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والبادِ﴾ هو وصف للمسجد الحرام إذ جعله الله تعالى موضع تنسُّك لكل من أتاه وأقام به أو يأتيه للعبادة ثم يخرج منه، فالعاكف أي المقيم فيه كالبادي الطارىء القدوم إليه هم سواء في حق الإقامة في مكة٣ والمسجد الحرام للتعبد.
وقوله تعالى: ﴿ومن يرد فيه بإلحاد بظلم﴾ أي يرد بمعنى يعتزم الميل عن الحق فيه بظلم يرتكبه كالشرك وسائر الذنوب والمعاصي القاصرة على الفاعل أو المتعدية إلى غيره. وقوله تعالى: ﴿نذقه من٤ عذاب أليم﴾ هذا جزاء من كفر وصد عن سبيل الله
٢ أي: وهم يصدّون، وقيل الواو مزيدة أي: إن الذين كفروا يصدّون، وهذا ضعيف والصحيح أن خبر إن محذوف تقديره: خسروا وهلكوا ولا يصح أن يكون نذقه لأنه مجزوم.
٣ كان في الصدر الأول أبواب دور مكة مفتوحة لكل من يريد النزول بها حاجاً أو معتمراً حتى سرق منزل أحدهم فاتخذ له باباً فأنكر عليه عمر ذلك فقال الرجل: إنما اتخذت الباب لأحفظ لهم متاعهم فتركه عمر فاتخذ الناس من يومئذ الأبواب.
قال مالك. دور مكة ليست كالمسجد بل لهم أن يمنعوا من النزول بها من شاءوا.
(نذقه) جواب مَن: الشرطية في قوله: ﴿ومن يرد فيه بإلحاد﴾.
هداية الآية الكريمة
من هداية الآية الكريمة:
١- التنديد بالكفر والصدَّ عن سبيل الله والمسجد الحرام والظلم فيه والوعيد الشديد لفاعل ذلك.
٢- مكة بلد الله وحرمه من حق كل مسلم أن يقيم بها للتعبد والتنسك ما لم يظلم وينتهك حرمة الحرم بالذنوب والمعاصي، وخاصة الشرك والظلم والضلال.
٣- عظيم شأن الحرم حيث يؤاخذ فيه على مجرد العزم على الفعل ولو لم يفعل.
وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج
نضرب بالسيف ونرجوا بالفرج
٢ لا يؤاخذ المؤمن بالنية السيئة في أي بلد كان إلاّ بمكة المكرمة لهذه الآية.
إذ بوأنا لإبراهيم: أي أذكر يا رسولنا إذ بوأنا: أي أنزلنا إبراهيم بمكة مبينين له مكان البيت.
أن لا تشرك بي١ شيئاً: أي ووصيناه بأن لا تشرك بي شيئاً من الشرك والشركاء.
وطهر بيتي: ونظف بيتي من أقذار الشرك وأنجاس المشركين.
وأذن في الناس بالحج: أعلن في الناس بأعلى صوتك.
رجالاً وعلى كل ضامر: مشاة وركباناً على ضوامر الإبل.
فج عميق: طريق واسع بعيد الغور في قارات الأرض.
في أيام معلومات: هي أيام التشريق.
بهيمة الأنعام: أي الإبل والبقر والغنم إذ لا يصح الهدى إلا منها.
البائس الفقير: أي الشديد الفقر.
ليقضوا تفثهم: أي ليزيلوا أوساخهم المترتبة على مدة الإحرام.
وليوفوا نذورهم: أي بأن يذبحوا وينحروا ما نذروه لله من هدايا وضحايا.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿وإذ بوأنا لإبراهيم٢﴾ أي اذكر يا رسولنا لقومك المنتسبين إلى إبراهيم باطلاً وزوراً حيث كان موحداً وهم مشركون اذكر لهم كيف بوأه ربّه مكان البيت لِيَبْنِيه ويرفع بناءه وكيف عهد الله إليه ووصاه بأن يطهره من الأقذار الحسية كالنجاسات من دماء وأوساخ والمعنوية كالشرك والمعاصي وسائر الذنوب وذلك من أجل الطائفين به والقائمين في الصلاة والراكعين والساجدين فيه إذ الرُّكع جمع راكع والسجد جمع ساجد حتى لا يتأذوا بأي أذى معنوي أو حسيّ وهم حول بيت ربهم وفي بلده وحرمه، ليذكر قومك هذا وهم قد نصبوا حول البيت التماثيل والأصنام، ويحاربون كل من يقول لا إله إلا الله وقد صدوك وأصحابك عن المسجد الحرام ومنعوك من الطواف بالبيت العتيق، فأين يذهب
٢ يقال: بوأه كذا وبوأ له كذا فاللام مزيدة لتقوية الكلام كما يقال مكنته من كذا، ومكنت له كذا، ومعنى بوأنا لإبراهيم أي: أريناه أصله. وكان قد درس بطول العهد وأنزلناه فيه.
وقوله تعالى: ﴿وأذن في الناس بالحج١﴾ أي وعهدنا إليه آمرين إياه أن يؤذن في الناس بأن ينادي معلناً معلماً: أيها الناس٢ إن ربكم قد بنى لكم بيتاً فحجوه ففعل ذلك فأسمع الله صوته من شاء من عباده ممن كتب لهم أزلا أن يحُجوا وسهل طريقهم وحجوا فعلاً ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: ﴿يأتوك رجالاً﴾ أي عليك النداء وعلينا البلاغ فنادِ ﴿يأتوك رجالاً﴾ أي مشاة ﴿وعلى كل ضامر﴾ من النوق المهازيل ﴿يأتين من كل فج عميق﴾ أي طريق بعيد في أغوار الأرض وأبعادها كالأندلس غرباً وأندونيسيا شرقاً. وقوله تعالى: ﴿ليشهدوا منافع لهم﴾ أي يأتوك ليشهدوا منافع لهم دينيَّة كمغفرة ذنوبهم واستجابة دعائهم والفوز برضا ربهم، وتعلم دينهم من علمائهم، ودنيويّة كربح تجارة ببيع وشراء وعرض سلع وأنواع صناعات، وقوله تعالى: ﴿ويذكروا اسم الله﴾ شاكرين لله تعالى إنعامه عليهم وإفضاله وذلك في أيام الحج كلها من العشر الأول من ذي الحجة إلى نهاية أيام التشريق بالصلاة والذكر والدعاء، كما يذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام عند نحر الإبل وذبح البقر والغنم بأن يقول الناحر أو الذابح بسم الله والله أكبر٣ قوله تعالى: ﴿فكلوا منها﴾ أي من بهيمة الأنعام التي نحرتموها أو ذبحتموها٤ تقرباً إلينا كهدى التمتع أو التطوع، ﴿واطعموا البائس الفقير﴾ وهو من اشتد به الفقر وقوله تعالى: ﴿ثم ليقضوا تفثهم﴾ بإزالة الشعث والوسخ الذي لازمهم طيلة مدة الإحرام. وقوله: ﴿وليوفوا نذورهم﴾ أن من كان منهم قد نذر هدياً بذبحه في الحرم فليوف بذلك إذ هذا أوان الوفاء بما نذر أن ينحره أو يذبحه
٢ روي عن ابن عباس وابن جير: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، وقيل له: أذن في الناس بالحج قال له يا ربّ: وما يبلغ صوتي؟ قال: أذّن وعليّ البلاغ فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح يا أيها الناس إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار فحجوا فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك فمن أجاب يومئذ حجّ على قدر الإجابة إن أجاب مرّة فمرة وإن أجاب مرتين فمرتين وجرت التلبية على ذلك.
٣ السنة في ذبح الأضحية أن تكون بعد صلاة العيد، ومن ذبح قبل ذلك أعاد لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم" ويستحب في ذبح الأضحية والهدي أن يقول بعد التسمية الواجبة: اللهم منك ولك.
٤ المشهور وعليه الأكثر أنّ أيام النحر ثلاثة وهي: أيام التشريق الثلاثة بعد يوم العيد.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب بناء البيت وإعلائه كلما سقط وتهدم ووجوب تطهيره من كل ما يؤذي الطائفين والعاكفين في المسجد الحرام من الشرك والمعاصي وسائر الذنوب ومن الأقذار كالأبوال والدماء ونحوها.
٢- مشروعية فتح مكاتب للدعاية للحج.
٣- جواز الاتجار أثناء إقامته في الحج.
٤- وجوب شكر الله تعالى وذكره.
٥- جواز الأكل من الهدي ومن ذبائح التطوع بل استحبابه.
٦- وجوب الحلق أو التقصير بعد رمي جمرة العقبة.
٧- وجوب الوفاء بالنذور الشرعية١ أما النذور للأولياء فهي شرك ولا يجوز الوفاء بها.
٨- تقرير طواف الإفاضة٢ وبيان زمنه وهو بعد الوقوف بعرفة وعي جمرة العقبة.
ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ
٢ أما طواف القدوم فواجب عند مالك وطواف الوداع سنة مؤكدة ويسقط بالعذر عند أكثر أهل العلم، لسقوطه عن الحائض إجماعاً، ومن أهل العلم من يرى طواف القدوم سنة ليس بواجب.
شرح الكلمات:
ذلك: أي الأمر هذا مثل قول المتكلم هذا أي ما ذكرت.. وكذا وكذا..
حرمات الله: جمع حرمة ما حرَّم الله إنتهاكه من قول أو فعل.
فهو خير له عند ربه: أي خير في الآخرة لمن يعظم حرمات الله فلا ينتهكها.
إلا ما يتلى عليكم: أي تحريمه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به.
فاجتنبوا الرجس: أي اجتنبوا عبادة الأوان.
واجتنبوا قول الزور: وهو الكذب وأعظم الكذب ما كان على الله تعالى١ والشرك وشهادة الزور.
حنفاء لله: موحدين له مائلين عن كل دين إلى الإسلام.
خرَّ من السماء: أي سقط.
فتخطفه الطير: أي تأخذه بسرعة.
شعائر الله: أعلام دينه وهي هنا البُدْن بأن تختار الحسنة السمينة منها.
فإنها من تقوى القلوب: أي تعظيمها ناشىء من تقوى قلوبهم.
لكم فيها منافع: منها ركوبها والحمل عليها بما لا يضرها وشرب لبنها.
إلى أجل مسمى: أي وقت معين وهو نحرها بالحرم أيام التشريق.
ثم محلها إلى البيت العتيق: أي عند البيت العتيق وهو مكة والحرم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في مناسك الحج قوله تعالى ﴿ذلك﴾ أي الأمر ذاك الذي علمتم من قضاء التفث أي إزالة شعر الرأس وقص الشارب وقلم الأظافر ولباس الثياب ونحر وذبح الهدايا والضحايا، ﴿ومن يعظم﴾ منكم ﴿حرمات الله﴾ فلا ينتهكها ﴿فهو خير له﴾ أي ذلك التعظيم لها باحترامها وعدم انتهاكها خير له عند ربّه يوم يلقاه وقوله تعالى: {وأحلت لكم
٢ لفظ: حنفاء: من الأضداد يقع على الاستقامة والميل معاً، ومعناها مائلين عن الشرك إلى التوحيد، وعن الأديان إلى الإسلام.
٣ الشعائر: جمع شريعة. وهو كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر عباده به وأعلمهم، والشعار: العلامة، ومنه شعار الحرب وإشعار: البدنة لتعلم أنها مهداة للحرم، فشعائر الله: أعلام دينه لاسيما المناسك وما يتعلّق بها.
٤ أضيفت التقوى إلى القلوب لأنّ حقيقة التقوى في القلب، والتقوى من الخوف والخوف في القلب ويشهد لهذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "التقوى ها هنا" وأشار إلى صدره ثلاث مرات.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب تعظيم حرمات الله لما فيها من الخير العظيم.
٢- تقرير حلِّيَّة بهيمة الأنعام بشرط ذكر اسم ا! ته عند ذبحها أو نحرها.
٣- حرمة قول الزور وشهادة الزور وفي الأثر عدلت٣ شهادة الزور الشرك بالله.
٤- وجوب ترك عبادة الأوثان ووجوب البعد عنها وترك كل ما يمت إليها بصلة.
٥- بيان عقوبة الشرك وخسران المشرك.
٦- تعظيم شعائر الله وخاصة البدن من تقوى قلوب أصحابها.
٧- جواز الانتفاع بالبدن الهدايا بركوبها وشرب لبنها والحمل عليها إلى غاية نحرها بالحرم.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا
٢ إن كان الهدي في الحج فمحلّه بعد رمي جمرة العقبة ولا ينحر أو يذبح قبله، وإن كان في غير الحج، وإنما هدي مهدى إلى الحرم فمحلّه مكة حيث يطعمه فقراؤها وفقراء الحرم كله.
٣ وفي الصحيح: "إن أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور.. " الحديث.
شرح الكلمات:
منسكاً: أي ذبائح من بهيمة الأنعام يتقربون بها إلى الله تعالى، ومكان الذبح يقال له منسك.
فله أسلموا: أي انقادوا ظاهراً وباطناً لأمره ونهيه.
وبشر المخبتين: أي المطيعين المتواضعين الخاشعين.
وجلت قلوبهم: أي خافت من الله تعالى أن تكون قصَّرتْ في طاعته.
والبدن: جمع بدنة وهى ما يساق للحرم من إبل وبقر ليذبح تقرباً إلى الله تعالى.
م ن شعائر الله: أي من أعلام دينه، ومظاهر عبادته.
صوآف: جمع صافة وهي القائمة على ثلاث معقولة اليد اليسرى.
فإذا وجبت جنوبها: أي بعد أن تسقط على جنوبها على الأرض لا روح فيها.
القانع والمعتر: القانع١ السائل والمعتر الذي يتعرض للرجل ولا يسأله حياء وعفة.
لعلكم تشكرون: أي لأجل أن تشكروا الله تعالى بحمده وطاعته.
لن ينال الله لحومها: أي لا يرفع إلى الله لحم ولا دم، ولكن تقواه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه.
لتكبروا الله على ما هداكم: أي تقولون الله أكبر بعد الصلوات الخمس أيام التشريق شركاً له على هدايته إياكم.
وبشر المحسنين: أي الذين يريدون بالعبادة وجه الله تعالى وحده ويؤدونها على الوجه المشروع.
معنى الآيات:
ما زال السياق في توجيه المؤمنين وإرشادهم إلى ما يكملهم ويسعدهم في الدارين فقوله تعالى: ﴿ولكل أمة جعلنا منسكاً﴾ أي ولكل أمة من الأمم السابقة من أهل الإيمان والإسلام جعلنا لهم مكان نسك يتعبدوننا فيه ومنسكاً١ أي ذبح قربان ليتقربوا به إلينا، وقوله: ﴿ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام﴾ أي شرعنا لهم عبادة ذبح القربان لحكمة: وهو أن يذكروا اسمنا على ذبح ما يذبحون ونحر ما ينحرون بأن يقولوا بسم الله والله أكبر. وقوله تعالى: ﴿فإلهكم إله واحد﴾ أي فمعبودكم أيها الناس معبود واحد ﴿فله أسلموا﴾ وجوهكم وخصوه بعبادتكم ثم قال لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿وبشر المخبتين﴾ برضواننا ودخول دار كرامتنا ووصف المخبتين معرفاً بهم الذين تنالهم البشرى على لسان رسول الله فقال ﴿الذين إذا ذكر الله﴾ لهم أو بينهم ﴿وجلت قلوبهم﴾ أي خافت شعوراً بالتقصير في طاعته وعدم أداء شكره والغفلة عن ذكره ﴿والصابرين على ما أصابهم﴾ من البلاء فلا يجزعون ولا يتسخطون ولكن يقولون إنا لله وإنا إليه راجعون،
وقوله تعالى: ﴿والبدن٢ جعلناها لكم من شعائر الله﴾ أي الإبل والبقر مما يُهدى إلى الحرم جعلنا ذلكم من شعائر ديننا ومظاهر عبادتنا، ﴿لكم فيها خير﴾ عظيم وأجر كبير عند ربكم يوم تلقوه إذ ما تقرب متقرب يوم عيد الأضحى بأفضل من دم يهرقه في سبيل الله وعليه ﴿فاذكروا اسم الله عليها﴾ أي قولوا بسم الله والله أكبر عند نحرها، وقوله: ﴿صوآف٣﴾ أي قائمة على ثلاثة معقولة اليد اليسرى، فإذا نحرتموها ووجبت أي سقطت على جنوبها فوق الأرض ميتة ﴿فكلوا منها وأطعموا القانع٤﴾ الذي يسألكم ﴿والمعتر﴾ الذي يتعرض لكم ولا يسألكم حياءاً، وقوله تعالى: ﴿سخرناها لكم﴾ أي مثل ذلك التسخير الذي سخرناها لكم فتركبوا وتحلبوا وتذبحوا وتأكلوا سخرناها لكم من أجل أن تشكرونا بالطاعة والذكر. وقوله تعالى في آخر آية في هذا السياق وهي (٣٧) قوله: ﴿لن٥ ينال الله لحومها ولا دماؤها﴾ أي لن يرفع إليه لحم ولا دم ولن يبلغ الرضا منه، ولكن التقوى بالإخلاص وفعل الواجب والمندوب وترك الحرام والمكروه هذا الذي يرفع إليه ويبلغ مبلغ الرضا منه.
الحافظو عورة العشيرة لا
يأتيهم من ورائنا نَطف
النطف: التلطخ بالعيب والاتهام بريبة أو فجور.
٢ البدن: بضم الباء والدال، والبُدن: بضم الباء وإسكان الدال لغة فصيحة وقرأ الجمهور: (والبدن) بإسكان الدال واحدها بدنة كثمرة وثمر، وخشبة وخشب وسميت بدنة لأنها تبدن، والبدانة: السمن، وتطلق على البقر على الصحيح فمن نذرها أجزأته البقرة، وهي كالبعير تجزىء عن سبعة في هدي التمتع والقرآن.
٣ أصل هذا اللفظ مأخوذ من صفن الفرس إذا وقف على ثلاثة أرجل، ورفع الرابعة ومنها: تنحر الإبل بعد أن توقف على ثلاثة وتعقد اليد اليسرى منها، وقرىء (صوافي) و (صوافٍ) من الصفاء الذي هو الخلوص لله تعالى أي: خالصة له عزّ وجلّ.
٤ القانع: اسم فاعل من قنع يقنع فهو قانع: إذا سأل وتذلل في السؤال: أما القانع بمعنى: ذي القناعة ففعله قنع بكسر النون قناعة: إذا اكتفى بما عنده ولم يسأل قال مالك: أحسن ما سمعت أن القانع: الفقير، والمعتر، الزائر وهو موافق في المعنى لما تقدم، ويؤيد هذا قراءة الحسن: (والمعتري) وهو الذي يتعرض لك ويأتك بدون علم منك.
٥ قال ابن عباس رضي الله عنهما: لن يصعد إليه. أي اللحم والدم، ولكن الذي يصل إليه التقوى منكم وما أريد به وجهه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- ذبح القربان مشروع في سائر الأديان الإلهية وهو دليل على أنه لا إله إلا الله إذ وحدة التشريع تدل على وحدة المشرع.
وسر مشروعية ذبح القربان هو أن يذكر الله تعالى، ولذا وجب ذكر اسم الله عند ذبح ما يذبح ونحر ما ينحر بلفظ بسم الله والله أكبر.
٢- تعريف المخبتين أهل البشارة السارة برضوان الله وجواره الكريم.
٣- وجوب ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام.
٤- بيان كيفية نحر البدن، وحرمة الأخذ منها قبل موتها وخروج روحها.
٥- الندب إلى الأكل من الهدايا ووجوب إطعام الفقراء والمساكين منها.
٦- وجوب شكر الله على كل إنعام.
٧- مشروعية التكبير عند أداء المناسك كرمي الجمار وذبح ما يذبح وبعد الصلوات الخمس أيام التشريق.
٨- فضيلة الإحسان وفوز المحسنين ببشرى على لسان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ
شرح الكلمات:
يدافع: قُرِىء يدفع أي غوائل المشركين وما يكيدون به المؤمنين.
خوان: كثير الخيانة لأمانته وعهوده.
كفور: أي جحود لربه وكتابه ورسوله ونعمه عليه.
بأنهم ظلموا: أي بسبب ظلم المشركين لهم.
بغير حق: أي استوجب إخراجهم من ديارهم.
إلا أن يقولوا ربنا الله: أي إلا قولهم: ربنا الله والله حق، وهل قول الحق يُسَوغ إخراج قائله؟
صوامع وبيع: معابد الرهبان وكنائس النصارى.
وصلوات: معابد اليهود، باللغة العبرية مفردها صلوثا.
ومساجد: أي بيوت الصلاة للمسلمين.
من ينصره: أي ينصر في ينه وعباده المؤمنين.
قوي عزيز: قادر على ما يريد عزيز لا يمانع فيما يريد.
إن مكناهم في الأرض: أي نصرناهم على عدوهم ومكنا لهم في البلاد بأن جعلنا السلطة بأيديهم.
معنى الآيات:
ما زال السياق في إرشاد المؤمنين وتعليمهم وهدايتهم قوله تعالى: ﴿إن١ الله يدافع عن٢ الذين آمنوا﴾ أي يدفع عنهم غوائل المشركين ويحميهم من كيدهم ومكرهم. وقوله: ﴿إن الله لا يجب كل خوَّان كفور٣﴾ تعليل وهم المشركين الذين صدوا رسول الله والمؤمنين عن المسجد الحرام وهم الخائنون لأماناتهم وعهودهم الكافرون بربهم ورسوله وكتابه وبما جاء به، ولما كان لا يحبهم فهو عليهم، وليس لهم. ومقابله أنه يحب كل مؤمن صادق في إيمانه محافظ على أماناته وعهوده مطيع لربه، ومن أحبَّهُ دافع عنه وحماه من أعدائه.
وقوله تعالى: ﴿أُذن للذين يقاتلون﴾ باسم للفاعل أي القادرين على القتال ويقاتلون باسم المفعول وهما قراءتان أي قاتلهم المشركون هؤلاء أذن٤ الله تعالى لهم في قتال أعدائهم المشركين بعدما كانوا ممنوعين من ذلك لحكمة يعلمها ربهم، وهذه أول آية في القرآن تحمل طابع الحرب بالإذن فيه للمؤمنين، وقوله: ﴿وإن الله على نصرهم لقدير﴾ طمأنهم على أنه معهم بتأييده ونصره وهو القدير على ذلك وقوله تعالى: ﴿الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق﴾ أي بدون موجب لإخراجهم اللهم إلا قولهم٥: ربنا الله وهذا حق وليس بموجب لإخراجهم من ديارهم وطردهم من منازلهم وبلادهم هذه الجملة بيان لمقتضى الإذن لهم بالقتال، ونصرة الله تعالى لهم. وقوله تعالى: ﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم٦ ببعض﴾ أي يدفع بأهل الحق أهل الباطل لولا هذا لتغلب أهل الباطل و ﴿لهدمت
٢ قرأ الجمهور: ﴿يدافع﴾ وقرأ بعضهم: ﴿يدفع﴾.
٣ الخوّان: كثير الخيانة، وهي الغدر، والغدر من شر الصفات، فقد صحّ "أن الله تعالى ينصب يوم القيامة للغادر لواءً عند أسته بقدر غدرته: يقال هذه غدرة فلان بن فلان"!!
٤ هذه الآية نزلت بالمدينة بعد هجرة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين إليها وفيها إذن بقتال المشركين بعد المنع الأوّل فهي أول آية بالإذن بالقتال بعدما كان غير مأذون فيه كما تقدم.
٥ قوله: ﴿إلاّ أن قالوا ربنا الله.﴾. " الاستثناء منقطع أي: لكن لقولهم ربنا الله أي: وحده لا ربّ لنا سواه استمرّت مدة السلم ثلاث عشرة سنة، وفي السنة الأولى من الهجرة أذن الله تعالى للمؤمنين بقتال المشركين إذ قد أعذر الله تعالى إليهم.
٦ في الآية دليل على أن أمر الجهاد متقدم في الأمم قبل هذه الأمّة وبه صلحت الرائع وعبد الناس ربّهم، واستقامت أمورهم وصلحت أحوالهم.
وقوله تعالى: ﴿ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي﴾ أي قدير ﴿عزيز﴾ غالب فمن أراد نصرتة نَصَرهُ ولو اجتمع عليه من بأقطار الأرض، والذي يريد الله نصرته هو الذي يقاتل من أجل الله بأن يُعبد في الأرض ولا يُعبد معه سواه فذلك وجه نصر الله فليعلم وقوله ﴿الذين إن مكناهم٢﴾ أي وطأنا لهم في الأرض وملكناهم بعد قهر أعدائهم المشركين فحكموا وسادوا أقاموا الصلاة على الوجه المطلوب منهم، وآتوا الزكاة المفروضة في أموالهم، وأمروا بالمعروف أي بالإسلام والدخول فيه وإقامته، ونهوا عن المنكر وهو الشرك والكفر ومعاصِي الله ورسوله هؤلاء الأحقون بنصر الله تعالى لهم لأنهم يقاتلون لنصرة الله عز وجل، وقوله تعالى: ﴿ولله عاقبة الأمور﴾ يخبر تعالى بأن مرد كل أمر إليه تعالى يحكم فيه بما هو الحق والعدل فيثيب على العمل الصالح ويعاقب على العمل الفاسد، وذلك يوم القيامة، وعليه فليراقب الله وليُتق في السر والعلن وليُتوكل عليه، وليُنب إليه، فإن مرد كل أمر إليه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وعد الله الصادق بالدفاع عن المؤمنين الصادقين في إيمانهم.
٢- كره الله تعالى لأهل الكفر والخيانة.
٣- مشروعية القتال لإعلاء كلمة الله بأن يعبد وحده ولا يضطهد أولياؤه.
٤- بيان سر الإذن بالجهاد ونصرة الله لأوليائه الذين يقاتلون من أجله.
٢ هذه عامة في هذه الأمة وليست خاصة بالخلفاء الراشدين الأربعة ولا بالصحابة والتابعين بل هي عامة فيمن مكن الله تعالى لهم في الأرض فسوّدهم وحكّمهم وجب عليهم أن يقوموا بفعل ما ذكر في هذه الآية من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إقام الصلاة – إيتاء الزكاة – الأمر بالمعروف- النهي عن المنكر.
وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأابْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)
شرح الكلمات:
وإن يكذبوك: أي إن يكذبك قوم فقد كذبت قبلهم قوم نوح إذاً فلا تأس إذ لست وحدك المكذب.
وأصحاب مدين: هم قوم شعيب عليه السلام.
وكذب موسى: أي كذبه فرعون وآله الأقباط.
فأمليت للكافرين: أي أمهلتهم فلم أُعجل العقوبة لهم.
ثم أخذتهم: أي بالعذاب المستأصل لهم.
فكيف كان نكير: أي كيف كان إنكاري عليهم تكذيبهم وكفرهم أكان واقعاً موقعه؟ نعم إذ الاستفهام للتقرير.
فهي خاوية على عروشها: أي ساقطة على سقوفها.
وقصر مشيد: مرتفع مجصص بالجص.
فإنها لا تعمى الأبصار: أي فإنها أي القصة لا تعمى الأبصار فإن الخلل ليس في أبصارهم ولكن في قلوبهم حيث أعماها الهوى وأفسدتها الشهوة والتقليد لأهل الجهل والضلال.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة قريش إلى الإيمان والتوحيد وإن تخللته إرشادات للمؤمنين فإنه لما أذن للمؤمنين بقتال المشركين بين مقتضيات هذا الإذن وضمن النصرة لهم وأعلم أن عاقبة الأمور إليه لا إلى غيره وسوف يقضي بالحق والعدل بين عباده يوم يلقونه. قال لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسلياً له عن تكذيب المشركين له: ﴿وإن يكذبوك١﴾ أيها الرسول فيما جئت به من التوحيد والرسالة والبعث والجزاء يوم القيامة فلا تأس ولا تحزن ﴿فقد كذبت قبلهم﴾ أي قبل مُكذِّبيك من قريش والعرب واليهود ﴿قوم نوح وعاد﴾ قوم هود ﴿وثمود﴾ قوم صالح ﴿وقوم إبراهيم وقوم لوط، وأصحاب مدين، وكُذَّب موسى﴾ أيضاً مع ما آتيناه من الآيات البينات، وكانت سنتي فيهم أني أمليت لهم أي مددت لهم في الزمن وأرخيت لهم الرسن حتى إذا بلغوا غاية الكفر والعناد والظلم والاستبداد وحقت عليهم كلمة العذاب أخذتهم أخذ العزيز المقتدر ﴿فكيف كان نكير٢﴾ أي إنكاري عليهم؟ كان وربّك واقعاً موقعه، وليس المذكورون أخذت فقط.. ﴿فكأين من قرية﴾ عظيمة غانية برجالها ومالها وسلطانها ﴿أهلكناها وهي ظالمة﴾ أي ضالعة في الظلم أي الشرك والتكذيب ﴿فهي خاوية على عروشها٣﴾ أي ساقطة على سقوفها، وكم من بئر ماء٤ عذب كانت سقيا لهم فهي الآن معطلة، وكم من قصر مشيد أي رفيع مشيد بِالجص إذ
٢ أي: تغييري ما كانوا فيه من النعم بالعذاب والهلاك. والإنكار والنكير: تغيير المنكر.
٣ العروش: جمع عرش وهو السقف. والمعنى: إن جدرانها فوق سقفها.
٤ قرأ نافع: ﴿وبير﴾ بدون همزة تخفيفاً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تكذيب الرسل والدعاة إلى الحق والخير سنة مطردة في البشر لها عواملها من أبرزها التقليد والمحافظة على المنافع المادية، وظلمات القلب الناشئة عن الشرك والمعاصي.
٢- مظاهر قدرة الله تعالى في إهلاك الأمم والشعوب الظالمة بعد الإمهال لهم والإعذار.
٣- مشروعية طلب العبر وتصيدها من آثار الهالكين.
٤- العبرة بالبصيرة القلبية لا بالبصر فكم من أعمى هو أبصر للحقائق وطرق النجاة من ذي بصر حاد حديد. ومن هنا كان المفروض على العبد أن يحافظ على بصيرته أكثر من المحافظة على عينيه، وذلك بأن يتجنب مدمرات القلوب من الكذب والترهات والخرافات، والكبر والعجب والحب والبغض في غير الله.
٢ الاستفهام للتعجيب من حالهم وهم في غيهم وجهلهم.
٣ ﴿فإنها..﴾ أي: الحال أو القصة لا تعمى الأبصار: قال ابن عباس رضي الله عنهما ومقاتل لما نزلت: ﴿ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى﴾ سأل ابن أم مكتوم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائلاً: أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى فنزلت هذه الآية: ﴿فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور﴾ الآية صريحة في أنّ العقل في القلب، ولا منافاة بين من يرى ذلك في المخ إذ ارتباط كبير بين المخ والقلب في حصول الوعي والإدراك للإنسان.
٤ ذكر الصدور ظرفاً للقلوب للتأكيد إذا القلوب لا تكون إلا في الصدور فهو كقوله تعالى: ﴿ولا طائر يطير بجناحيه..﴾ "وكقولهم رأيت بعيني".
شرح الكلمات:
يستعجلونك بالعذاب: أي يطالبونك مستعجلينك بما حذّرتهم منه من عذاب الله.
كألف سنة مما تعدون: أي من أيام الدنيا ذات الأربع والعشرين ساعة.
وكأين من قرية: أي وكثير من القرى أي العواصم والحواضر الجامعة لكل أسباب الحضارة.
أمليت لها: أي أمهلتها فمددت أيام حياتها ولم استعجلها بالعذاب.
نذير مبين: منذر أي مخوف عاقبة الكفر والظلم بيّنُ النذارة.
لهم مغفرة ورزق كريم: أي ستر لذنوبهم ورزق حسن في الجنة.
سعوا في آياتنا معاجزين: أي عملوا بجد واجتهاد في شأن إبعاد الناس عن الإيمان بآياتنا وما تحمله من دعوة إلى التوحيد وترك الشرك والمعاصي.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في إرشاد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتوجيهه في دعوته إلى الصبر والتحمل فيقول له: ﴿ويستعجلونك بالعذاب١﴾ أي يستعجلك المشركون من قومك بالعذاب الذي خوفتهم به وحذرتهم منه، ﴿ولن يخلف الله وعده﴾ وقد وعدهم فهو واقع بهم لا بد وقد
٢ أي: ظانين أنهم يعجزوننا فلم نقو عليهم ولم نقدر على أخذهم لأنهم مكذّبون بالبعث الآخر وما فيه من حساب وجزاء على الكسب في هذه الدنيا.
٣ ومما يزيد تفسير هذه الآية وضوحاً قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وأنا النذير العريان فالنجاء النجاء فأطاعته طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم، وكذبت طائفة فهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثلي ومثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق".
من هداية الآيات:
١- العجلة من طبع الإنسان ولكن استعجال الله ورسوله بالعذاب حمق وطيش وضلال وكفر.
٢- ما عند الله في الملكوت الأعلى يختلف تماماً عما في هذا الملكوت السلفي.
٣- عاقبة الظلم وخيمة وفي الخبر الظلم يترك الديار بلاقع أي خراباً خالية.
٤- بيان مهمة الرسل وهي البلاغ مع الإنذار والتبشير ليس غير.
٥- بيان مصير المؤمنين والكافرين يوم القيامة.
وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (٥٧)
من رسول ولا نبي: الرسول ذكر من بني آدم أوحي إليه بشرع وأمر بابلاغه. والنبي مقرر لشرع من قبله.
تمنى في أمنيته: أي قرأ في أمنيته، أي في قراءته.
ثم يُحكم الله آياته: أي بعد إزالة ما ألقاه الشيطان في القراءة بحُكم الله آياته أي يثبتها.
فتنة للذين في قلوبهم مرض: أي اختباراً للذين في قلوبهم مرض الشرك والشك.
والقاسية قلوبهم: هم المشركون.
فتخبت له قلوبهم: أي تتطامن وتخشع له قلوبهم.
في مرية منه: أي في شك منه وريب من القرآن.
عذاب يوم عقيم: هو عذاب يوم بدر إذ كان يوماً عقيماً لا خير فيه.
في جنات النعيم: أي جنات ذات نعيم لا يبلغ الوصف مداه.
فلهم عذاب مهين: أي يهان فيه صاحبه فهو عذاب جثماني نفساني.
معنى الآيات:
بعد التسلية الأولى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي تضمنها قوله تعالى: ﴿وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح.. الخ﴾ ذكر تعالى تسلية ثانية وهي أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ حول الكعبة في صلاته سورة النجم والمشركون حول الكعبة يسمعون فلما بلغ قوله تعالى: ﴿أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى﴾ ألقى الشيطان في مسامع المشركين الكلمات التالية: "تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى" ففرح المشركون بما سمعوا ظناً منهم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأها وأن الله أنزلها فلما سجد في آخر السورة سجدوا معه إلا رجلاً١ كبيراً لم يقدر على السجود فأخذ حثية من تراب وسجد عليها وشاع أن محمداً قد اصطلح مع قومه حتى رجع المهاجرون من الحبشة فكرب لذلك رسول الله وحزن فأنزل الله تعالى هذه
٢ قال سليمان بن حرب إنّ (في) هنا هي بمعنى عند أي: ألقى الشيطان عند قراءته ألقى في قلوب المشركين. ولـ (في) بمعنى عند نظير هو قوله تعالى ﴿ولبثت فينا من عمرك سنين﴾ أي: عندنا.
٣ ما روي من خبر في قصة الغرانيق كله ضعيف ولم يثبت فيها حديث صحيح قط، والذي ثبت في الصحيح هو قراءة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لسورة النجم وسجوده وسجود المشركين معه والذي عصم منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو المعصوم أن ينطق بكلمة: تلك الغرانيق العلا.. الخ وإنما نطق بها الشيطان وأسمعها المشركين للفتنة كما في التفسير المثبت فيه رأي ابن جرير إمام المفسّرين رحمه الله تعالى.
وقوله تعالى: ﴿الملك٥ يومئذ لله﴾ أي يوم تأتي الساعة يتمحض الملك لله وحده فلا يملك معه أحد فهو الحاكم العدل الحق يحكم بين عباده بما ذكر في الآية وهو أن الذين آمنوا به وبرسوله وبما جاء به وعملوا الصالحات من فرائض ونوافل بعد تخليهم عن الشرك والمعاصي يدخلهم. جنات النعيم، والذين كفروا به وبرسوله وبما جاء به، وكذبوا بآيات الله المتضمنة شرائعه وبيان طاعاته فلم يؤمنوا ولم يعملوا الصالحات وعملوا العكس وهو السيئات فأولئك البعداء في الحطة والخسة لهم عذاب مهين يكسر أنوفهم ذلة لهم ومهانة لأنفسهم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان سنة الله في إلقاء الشيطان في قراءة الرسول أو النبي للفتنة.
٢- بيان أن الفتنة يهلك فيها مرضى القلوب وقساتها، ويخرج منها المؤمنون أكثر يقيناً.
٢ ومثبتهم على الهداية.
٣ ومن الدين ومن كل ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٤ وعذاب يوم القيامة عذاب عظيم باعتبار أنه يوم لا ليلة له فهذا وجه العقم لأنّ العقيم هو الذي لا يخلّف ولداً، ولما ذكر عذاب يوم القيامة تعيّن أن يكون هو يوم بدر ومعنى عقمه: أنه لا خير فيه للمشركين ولم يحصلوا منه على فائدة.
٥ قالوا: الملك هو اتساع المقدور لمن له تدبير الأمور، وقيل في الآية إشارة إلى يوم بدر وهو بعيد ولا داعي إليه، ودلالة الآية تنفيه.
٣- بيان حكم الله تعالى بين عباده يوم القيامة بإكرام أهل الإيمان والتقوى وإهانة أهل الشرك والمعاصي.
٤- ظهور مصداق ما أخبر به تعالى عن مجرمي قريش فقد استمروا على ريبهم حتى هلكوا في بدر.
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢)
شرح الكلمات:
والذين هاجروا: أي هجروا ديار الكفر وذهبوا إلى دار الإيمان المدينة المنورة.
في سبيل الله: أي هجروا ديارهم لا لدنيا ولكن ليعبدوا الله وينصروا دينه وأولياءه.
ليرزقنهم رزقاً حسناً: أي في الجنة إذ أرواحهم في حواصل طير خضر ترعى في الجنة.
ذلك: أي الأمر ذلك المذكور فاذكروه ولا تنسوه.
ثم بغى عليه: أي ظُلم بعد أن عاقب عدوه بمثل ما ظلم به.
يولج الليل في النهار: أي يدخل جزءاً من الليل في النهار والعكس بحسب فصول السنة كما أنه يومياً يدخل الليل في النهار إذا جاء النهار ويدخل النهار في الليل إذا جاء الليل.
بأن الله هو الحق: أي الإله الحق الذي تجب عبادته دون سواه.
من دونه: أي من أصنام وأوثان وغيرها هو الباطل بعينه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان حكم الله تعالى بين عباده فذكر تعالى ما حكم به لأهل الإيمان والعمل الصالح وما حكم به لأهل الكفر والتكذيب، وذكر هنا ما حكم به لأهل الهجرة والجهاد فقال عز وجل: ﴿والذين هاجروا١ في سبيل الله﴾ أي خرجوا من ديارهم لأجل طاعة الله ونصرة دينه ﴿ثم قتلوا﴾ من قبل أعداء الله المشركين ﴿أو ماتوا﴾ حتف أنوفهم بدون قتل ﴿ليرزقنهم الله رزقاً حسناً﴾ في الجنة إذ أرواحهم في حواصل طير خضر ترعى في الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة في العرش ﴿ليدخلنهم﴾ يوم القيامة ﴿مدخلاً٢ يرضونه﴾ وهو الجنة، وقوله تعالى: ﴿وإن الله لهو خير الرازقين﴾ أي لخير من يرزق فما رزقهم به هو خير رزق وأطيبه وأوسعه. وقوله: ﴿وإن الله لعليم حليم﴾ عليم بعباده وبأعمالهم الظاهرة والباطنة حليم يعفو ويصفح عن بعض زلات عباده المؤمنين فيغفرها ويسترها عليهم إذ لا يخلو العبد من ذنب إلا من عصمهم الله من أنبيائه ورسله.
٢ قرأ نافع: ﴿مدخلا﴾ بفتح الميم على أنه اسم مكان من دخل المجرّد، وقرأ غيره مُدخلا بضم الميم: اسم مكان أيضاً من أدخله يدخله الرباعي مدخلا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان فضل الهجرة في سبيل الله حتى إنها تعدل٣ الجهاد في سبيل الله.
٢- جواز المعاقبة بشرط المماثلة، والعفو أولى من المعاقبة.
٣- بيان مظاهر الربوبية من العلم والقدرة الموجبة لعبادة الله تعالى وحده وبطلان عبادة غبره.
٤- إثبات صفات الله تعالى: العلم والحلم والمغفرة والسمع والبصر والعفو والعلو على الخلق والعظمة الموجبة لعبادته وترك عبادة من سواه.
٢ الآية من سورة الشورى.
٣ والرباط: كالهجرة، والجهاد، فقد روي عن سلمان الفارسي أنه مرّ برجال مرابطين على حصن ببلاد الروم. وطال حصارهم للحصن، وإقامتهم عليه فقال لهم: سمعت رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "من مات مرابطاً أجرى الله تعالى عليه مثل ذلك الأجر وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين" واقرأوا إن شئتم: ﴿والذين هاجروا﴾ الآية.
شرح الكلمات:
ألم تر: أي آلم تعلم.
مخضرة: أي بالعشب والكلأ والنبات.
الغني الحميد: الغني عن كل ما سواه المحمود في أرضه وسمائه.
سخر لكم ما في الأرض: أي سهل لكم تملكه والتصرف فيه والانتفاع به.
أحياكم: أي أوجدكم أحياء بعدما كنتم عدما.
لكفور: أي كثير الكفر والجحود لربِّه ونعمه عليه.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد بذكر مظاهر القدرة والعلم والحكمة قال تعالى: ﴿ألم تر١﴾ يا رسولنا ﴿أن الله أنزل من السماء٢ ماءاً﴾ أي مطراً فتصبح الأرض بعد
٢ هذا انتقال إلى التذكير بمظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته الموجبة لتوحيده وشكره بطاعته وطاعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد الإيمان به حق الإيمان وتصديقه بكل ما جاء به ويدعو إليه.
ووقوله: ﴿له ما في السموات وما في الأرض﴾ أي خلقاً وملكاً وتصرفاً، ﴿وإن الله لهو الغني﴾ عن خلقه ﴿الحميد﴾ أي المحمود في الأرض والسماء بجميل صنعه وعظيم إنعامه وقوله تعالى: ﴿ألم تر أن الله سخر لكم٢ ما في الأرض﴾ من الدواب والبهائم على اختلافها ﴿والفلك﴾ أي وسخر لكم الفلك أي السفن ﴿تجري في البحر بأمره﴾ أي بإذنه وتسخيره، ﴿ويمسك السماء٣ أن تقع على الأرض﴾ أي كيلا تقع على الأرض ﴿إلا بإذنه﴾ أي لا تقع إلا إذا أذن لها في ذلك وقوله: ﴿إن الله بالناس لرؤوف رحيم﴾ من مظاهر رأفته ورحمته بهم تلك الرحمة المتجلية في كل جانب من جوانب حياتهم في حملهم في ارضاعهم في غذائهم في نومهم في يقظتهم في تحصيل أرزاقهم في عفوه عن زلاتهم في عدم تعجيل العقوبة لهم بعد استحقاقهم لها في إرسال الرسل في إنزال الكتب فسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وقوله تعالى: ﴿وهو الذي أحياكم﴾ بالإنشاء والإيجاد من العدم، ثم يميتكم عند انتهاء آجالكم ﴿ثم يحييكم﴾ ويبعثكم ليجزيكم بكسبكم كل هذه النعم يكفرها الإنسان فيترك ذكر ربه وشكره ويذكر غيره ويشكر سواه، فهذه المظاهر لقدرة الرب وعلمه وحكمته وتلك الآلاء والنعم الظاهرة والباطنة توجب الإيمان بالله وتحتم عبادته وتوحيده وذكره وشكره، وتجعل عبادة غيره سُخفاً وضلالاً عقلياً لا يُقادر قدره ولا يُعرف مداه.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير التوحيد بذكر مقتضياته من القدرة والنعمة.
٢- إثبات صفات الله تعالى: اللطيف الخبير الغني الحميد الرؤوف الرحيم المحيي المميت.
٢ التسخير: معناه: التذليل للشيء حتى يصبح طوع المسخّر له وهو هنا بمعناه، ويعني: تسهيل الانتفاع فيما هو خارج عن قدرة الإنسان بإرسال الرياح ونزول الأمطار.
٣ وجائز أن يراد بالسماء: ماؤها أي: المطر كقول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم
رعيناه وإن كانوا غضابا
٤- مظاهر قدرة الله تعالى في إمساك السماء أن تقع على الأرض، وفي الإحياء والأماتة والبعث.
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (٧١) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢)
شرح الكلمات:
جعلنا منسكاً: أي مكاناً يتعبدون فيه بالذبائح أو غيرها.
فلا ينازعنك: أي لا ينبغي أن ينازعوك.
هدىً مستقيم: أي دين مستقيم هو الإسلام دين الله الحق.
في كتاب: هو اللوح المحفوظ.
ما لم ينزل به سلطاناً: أي حجة وبرهاناً.
يسطون: يبطشون.
بشر من ذلكم: هو النار.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في بيان هداية الله تعالى لرسوله والمؤمنين ودعوة المشركين إلى ذلك قال تعالى: ﴿ولكل أمة جعلنا١ منسكاً﴾ أي ولكل أمة من الأمم التي مضت والحاضرة أيضاً جعلنا لهم منسكاً أي مكاناً يتنسكون فيه ويتعبدون ﴿هم٢ ناسكوه﴾ أي الآن، فلا تلتفت إلى ما يقوله هؤلاء المشركون، ولا تقبل منهم منازعة في أمر واضح لا يقبل الجدل، وذلك أن المشركين انتقدوا ذبائح الهدى والضحايا أيام التشريق، واعترضوا على تحريم الميتة وقالوا كيف تأكلون ما تذبحون ولا تأكلون ما ذبح الله بيمينه وقوله تعالى لرسوله: ﴿وادع إلى ربك﴾ أي أعرض عن هذا الجدل الفارغ وادع إلى توحيد ربك وعبادته ﴿إنك لعلى هدى مستقيم﴾ أي طريق قاصد هاد إلى الإسعاد والإكمال وهو الإسلام وقوله: ﴿وإن جادلوك٣﴾ في بيان بعض المناسك والنسك فاتركهم فإنهم جهلة لا يعلمون وقل: ﴿الله أعلم بما تعملون﴾ أي وسيجزيكم بذلك حسنة وسيئة ﴿والله يحكم بينكم﴾ أي يقضي بينكم أيها المشركون فيما كنتم فيه تختلفون وعندها تعرفون المحق من المبطل منا وذلك يوم القيامة.
وقوله تعالى: ﴿ألم تعلم أن الله يعلم٤ ما في السماء والأرض﴾ بلى إن الله يعلم كل ما في السموات والأرض من جليل ودقيق وجليّ وخفي وكيف لا وهو اللطيف الخبير ﴿إن ذلك في كتاب﴾ وهو اللوح المحفوظ فكيف يجهل أو ينسى، و ﴿إن ذلك﴾ أي كتبه
٢ سبق مثل هذه الآية في أوّل السورة وهو دال على أنّه لا إله إلا الله إذ وحدة التشريع تدل على وحدة المشرع عقلاً ولا تنتقض.
٣ في الآية الكريمة أسلوب المتاركة إذا لم تنفع المجادلة لعدم استعداد الخصم لقبول الحق أو تعذر معرفته له.
٤ الاستفهام تقريري بالنسبة للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والجملة تحمل التسلية له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتخفيف مما يلاقي من جدال المشركين وعنادهم.
وقوله تعالى: ﴿قل أفأُنبئكم٤ بشرٍ من ذلكم﴾ أي قل لهم يا رسولنا أفأنبكم بشر من ذلك الذي تكرهون وهو من يتلون عليكم آيات الله أنه النار التي وعدها الله الذين كفروا أي من أمثالكم، وبئس المصير تصيرون إليه النار إن لم تتوبوا من شرككم وكفركم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير حقيقة وهي أن كل أمة من الأمم بعث الله فيها رسولاً وشرع لها عبادات تعبده بها.
٢- استحسان ترك الجدال في البدهيات والإعراض عن ما فيها.
٣- تقرير علم الله تعالى بكل خفي وجلي وصغير وكبير في السموات والأرض.
٢ أي: الغضب والعبوس.
٣ السطو: شدة البطش يقال: سطا به يسطو: إذا بطش وسواء كان ذلك بسب وشتم أو ضرب، وسطا عليه: إذا علاه ضرباً وشتماً.
٤ ﴿أفأنبّكم﴾ الهمزة داخلة على محذوف أي: أتكرهون سماع القرآن ومن يقرأه فأنا أنبّئكم بشر من ذلك الذي تأذّيتم به وكرهتموه؟ وقوله: ﴿النار وعدها الله الذين كفروا﴾ الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً كأنهم قالوا: نبئنا فقال: النار.. الخ.
٥- بيان شدة بغض المشركين للموحدين إذا دعوهم إلى التوحيد وذكروهم بالآيات.
٦- مشروعية إغاظة الظالم بما يغيظه من القول الحق.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (٧٦)
شرح الكلمات:
ضرب مثل: أي جعل مثل هو ما تضمنه قوله تعالى: {إن الذين تدعون... الخ.
لن يخلقوا ذباباً: أي لن يستطيعوا خلق ذبابة وهي أحقر الحيوانات تتخلق من العفونات.
ولو اجتمعوا: أي على خلقه فإنهم لا يقدرون، فكيف إذا لم يجتمعوا فهم أعجز.
لا يستنقذوه منه: أي لا يستردوه منه وذلك لعجزهم.
ضعف الطالب والمطلوب: أي العابد والمعبود.
ما قدروا الله حق قدره: أي ما عظم المشركون الله تعالى حق قدره أي عظمته.
يصطفي من الملائكة رسلاً: أي يجتبي ويختار كجبريل.
ومن الناس: كمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ما زال السياق الكريم في الدعوة إلى التوحيد والتنديد بالشرك والمشركين يقول تعالى: ﴿يا أيها الناس ضرب١ مثل فاستمعوا له﴾ أي يا أيها المشركون بالله آلهة أصناماً ضرب لآلهتكم في حقارتها وضعفها وقلة نفعها مثل رائع فاستمعوا له. وبينه بقوله: ﴿إن الذين تدعون من دون الله﴾ من أوثان وأصنام ﴿لن يخلقوا ذباباً٢﴾ وهو أحقر حيوان وأخبثه أي اجتمعوا واتحدوا متعاونين على خلقه، أو لم يجتمعوا له فإنهم لا يقدرون على خلقه وشيء آخر وهو إن يسلب الذباب الحقير شيئاً من طيب آلهتكم التي تضمّخونها به، لا تستطيع آلهتكم أن تسترده منه فما أضعفها إذاً وما أحقرها إذا كان الذباب أقدر منها وأعز وأمنع.
وقوله تعالى: ﴿ضعف الطالب والمطلوب٣﴾ أي ضعف الصنم والذباب معاً كما ضعف العابد المشرك والمعبود الصنم ﴿إن الله لقويٌ عزيز﴾ أي قوي قادر على كل شيء عزيز غالب لا يمانع في أمر يريده فكيف ساغ للمشركين أن يؤلهوا غيره ويعبدونه معه ويجعلونه له مثلاً. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (٧٣) والثانية (٧٤) وقوله تعالى: ﴿الله يصطفي٤ من الملائكة رسلاً ومن الناس﴾ هذا رد على المشركين عندما قالوا: ﴿أأنزل عليه الذكر من بيننا﴾ وقالوا: ﴿أبعث الله بشراً رسولاً﴾ فأخبر تعالى أنه يصطفي أي يختار من الملائكة رسلاً كما اختار جبرائيل وميكائيل، ومن الناس كما أختار نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ﴿إن الله سميع٥﴾ لأقوال عباده طيبها وخبيثها ﴿بصير﴾ بأعمالهم صالحها وفاسدها وعلمه بخلقه وبصره بأحوالهم وحاجاتهم اقتضى أن
٢ الذباب: اسم واحد للذكر والأنثى والجمع والقليل: أذبة والأكثر ذبان والواحدة ذبابة، ولا يقال ذبّانة بالتشديد وكسر الذال، والمذّبة: آلة لذب الذّبان وذباب السيف: طرفه الذي يضرب به.
٣ قيل: الطالب: الآلهة، والمطلوب: الذباب، والعكس صحيح، وجائز أن يكون الطالب: عابد الصنم، والمطلوب: الصنم.
٤ الجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائيا، والإخبار بجملة يصطفي بدل: نصطفي لإفادة الاختصاص أي: هنا الاصطفاء خاص به تعالى لعظيم علمه وحكمته.
٥ الجملة تعليلية، وجملة يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، مقررة لها وتفيد الدعوة إلى مراقبة الله عزّ وجلّ.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
٢- التنديد بالشرك وبطلانه وبيان سفه المشركين.
٣- ما قدر الله حق قدره من سوى به أحقر مخلوقاته وجعل له من عباده جزءاً وشبهاً ومثلاً.
٤- إثبات الرسالات١ للملائكة وللناس معاً.
٥- ذكر صفات الجلال والكمال لله تعالى المقتضية لربوبيته والموجبة لألوهيته وهى القوة والعزة، والسمع والبصر لكل شيء وبكل شيء والعلم بكل شيء.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
شرح الكلمات:
واعبدوا ربكم: أي أطيعوه في أمره ونهيه في تعظيم هو غاية التعظيم وذل له هو غاية الذل.
وافعلوا الخير: أي من كل ما انتدبكم الله لفعله ورغبكم فيه من صالح الأقوال والأعمال.
لعلكم تفلحون: أي كي تفوزوا بالنجاة من النار ودخول الجنة.
حق جهاده: أي الجهاد الحق الذي شرعه الله تعالى وأمر به وهو جهاد الكفار والشيطان والنفس والهوى.
اجتباكم: أي اختاركم لحمل دعوة الله إلى الناس كافة.
من حرج: أي من ضيق وتكليف لا يطاق.
ملة أبيكم: أي الزموا ملة أبيكم إبراهيم وهي عبادة الله وحده لا شريك له.
وفي هذا: أي القرآن.
اعتصموا بالله: أي تمسكوا بدينه وثقوا في نصرته وحسن مثوبته.
ونعم النصير: أي هو تعالى نعم النصير أي الناصر لكم.
معنى الآيات:
بعد تقرير العقيدة بأقسامها الثلاثة: التوحيد والنبوة والبعث والجزاء، نادى الربّ تبارك وتعالى المسلمين بعنوان الإيمان فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي يا من آمنتم بالله رباً وبمحمد رسولاً وبالإسلام في ديناً، ﴿اركعوا واسجدوا١﴾ أمرهم بإقام الصلاة ﴿واعبدوا ربكم﴾ أي أطيعوه فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه معظمين له غاية التعظيم خاشعين له غاية الخشوع ﴿وافعلوا الخير﴾ من كل ما انتدبكم الله إليه ورغبكم فيه من أنواع البر وضروب العبادات ﴿لعلكم تفلحون﴾ أي لتتأهلوا بذلك للفلاح الذي هو الفوز بالجنة بعد النجاة من النار.
وقوله: ﴿ملة أبيكم إبراهيم٣﴾ أي الزموا ملة أبيكم وقوله: ﴿هو سماكم المسلمين﴾ أي الله جل جلاله هو الذي سماهم المسلمين في الكتب السابقة وفي القرآن وهو معنى قوله: ﴿هو سماكم٤ المسلمين من قبل وفي هذا﴾ أي القرآن وقوله: ﴿ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس﴾ أي اجتباكم أيها المؤمنون لدينه الإسلامي وسماكم المسلمين ليكون الرسول شهيداً عليكم يوم القيامة بأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم وتكونوا أنتم شهداء حينئذ على الرسل أجمعين أنهم قد بلغوا أممهم ما أرسلوا به إليهم وعليه فاشكروا هذا الإنعام والإكرام لله تعالى ﴿فأقيموا٥ الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله﴾ أي تمسكوا بشرعه عقيدة وعبادة وخلقاً وأدباً وقضاءاً وحكماً، وقوله تعالى: ﴿هو مولاكم﴾ أي سيدكم ومالك أمركم ﴿فنعم المولى﴾ هو سبحانه وتعالى ﴿ونعم النصير﴾ أي الناصر لكم ما دمتم أولياءه تعيشون على الإيمان والتقوى.
٢ الجهاد هنا: قتال الكفار المعتدين والمانعين لدعوة الله وصد الناس عنها والعلّة فيه إكمال البشر وإسعادهم بالإسلام لله تعالى و ﴿في﴾ في قوله ﴿في الله﴾ : تعليلية أي: لأجل الله أي: لإعلاء كلمة الله تعالى، وفي الحديث الصحيح: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
٣ هذا كقوله تعالى: ﴿اتقوا الله حق تقاته﴾ فإنه مخصوص بالاستطاعة وقوله بعد: ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ مخصّصٌ له أيضاً، ويدخل في الأمر بالجهاد هنا: جهاد النفس والشيطان، وكلمة الحق عند من ينكرها لحديث "كلمة عدل عند سلطان جائر".
٤ الملّة: الدين والشريعة ونصب: ﴿ملة﴾ : بإلزموا ونحوه، والخطاب للعرب إذ إبراهيم أبو العرب المستعربة قاطبة، وهو أيضاً أبو أهل الكتاب وأبّ كل موحد أبوّة تشريف وإتباع وتعظيم.
٥ قوله تعالى ﴿فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة﴾ بعد ذكر المنن إشارة صريحة إلى وجوب شكر الله تعالى على نعمه، وما شكر الله تعالى من لم يقم الصلاة ويؤت الزكاة كما أن من لم يتمسك بدين الله كافر غير شاكر.
من هداية الآيات:
١- فضيلة الصلاة وشرف العبادة وفعل الخير.
٢- مشروعية السجود عند تلاوة هذه الآية ﴿وافعلوا الخير لعلكم تفلحون﴾. ِِِِِ
٣- فضل الجهاد في سبيل الله وهو جهاد الكفار، وان لا تأخذ المؤمن في الله لومة لائم.
٤- فضيلة١ هذه الأمة المسلمة حيث أعطيت ثلاثاً لم يعطها إلا نبي كان يقال للنبي عليه السلام اذهب فليس عليك حرج فقال الله لهذه الأمة: ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾، وكان يقال للنبي عليه السلام أنت شهيد على قومك وقال الله: ﴿لتكونوا شهداء على الناس﴾ وكان يقال للنبي سل تعطه وقال الله لهذه الأمة: ﴿ادعوني استجب لكم﴾ دل على هذا قوله تعالى: ﴿هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾.
٥- فرضية الصلاة، والزكاة، والتمسك بالشريعة.