ﰡ
٨٧٣- إن " طفلا " مطلق مفرد لا يتناول إلا فردا واحدا. وهو القدر المشترك بين جميع الأطفال، ومع ذلك فالمراد به جميع الأطفال على سبيل العموم، فإن جميعنا لا يخرج طفلا واحدا، بل أطفالا. فمعنى الطفولية مضافة لكل بشر منا فيحصل العموم في الأطفال، كما أنا نحن غير متناهين، وتوزيع الحقيقة الحاصلة من الطفولة على ما لا يتناهى يوجب أن يحصل منها أفراد غير متناهية، فقد ورد هذا المطلق في كتاب الله تعالى، والمراد به العموم. ( الفروق : ٣/٧٠-٧١ ).
٨٧٧- يمكن أن يقال : يضمر " وسجد له كثير من الناس "، فيكونان لفظين استعملا في معنيين، فلا جمع. أو يكون لفظ السجود استعمل في مطلق الانقياد دون خصوص الخضوع، وخصوص وضع الجبهة على الأرض، فيكون المراد واحدا، فلا جمع. ( شرح التنقيح : ١١٨ ).
٨٨٢- قوله تعالى :﴿ فاذكروا اسم الله عليها صواف ﴾. قال مالك : " تصف أيدي البدن بالقيود١ لقوله تعالى :﴿ فاذكروا اسم الله عليها صواف ﴾. ( نفسه : ٣/٣٦٥ ).
٨٨٣- قوله تعالى :﴿ فإذا وجبت جنوبها ﴾ أي : سقطت. ( نفسه : ٢/٣٦٥ و٤/١٣٩ ).
٨٨٤- قوله تعالى :﴿ فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ﴾. القانع : الفقير٢. المعتر : الزائر٣. ( نفسه : ٤/١٥٨ ).
٢ - عن يحيى قال: "قال مالك: والقانع هو الفقير" ن: الموطأ: ٢/٤٩٧..
٣ - عن يحيى قال: "قال مالك: سمعت أن المعتر هو الزائر" نفسه: ٢/٤٩٧..
والجواب عن هذه الشبهة من وجوه :
أحدهما : أن المراد بهذه الآية : أن الله تعالى يدفع المكاره عن الأشرار بوجوه الأخبار في كل عصر، فما من زمان إلا وفي أهله من الأخيار، فيكون وجود الأخيار سببا لسلامة الأشرار من الفتن والمحن١. فزمان موسى عليه السلام سلم أهل الأرض من بلاء يعمهم بسبب من فيه من أهل الاستقامة على الشريعة الموسوية. وزمان عيسى عليه السلام سلم فيه أهل الأرض بسبب من فيه من أهل الاستقامة على الشريعة العيسوية. وزمان محمد صلى الله عليه وسلم يسلم فيه أهل الأرض بسبب من فيه من أهل الاستقامة على الشريعة المحمدية. وكذلك سائر الأزمان الكائنة بعد الأنبياء عليهم السلام، كل من كان مستقيما على الشريعة الماضية هو سب لسلامة البقية، فلولا أهل الاستقامة في زمن موسى عليه السلام لم تبق صوامع يعبد الله فيها على الدين الصحيح لعموم الهلاك، فينقطع الخير بالكلية. وكذلك سائر الأزمان، فلولا أهل الخير في زماننا لم يبق مسجد يعبد الله فيه على الدين الصحيح، ولغضب الله تعالى على أهل الأرض.
و " الصوامع " : أمكنة الرهبان في زمن الاستقامة حيث يعبد الله تعالى فيها على دين صحيح. وكذلك البيعة، والصلاة، والمسجد. وليس المراد هذه المواطن إذا كفر بالله تعالى فيها، وبدلت شرائعه، وكانت محل العصيان والطغيان، لا محل التوحيد والإيمان. وهذه المواطن في أزمنة الاستقامة لا نزاع فيها، إنما النزاع لما تغيرت أحوالها ذهب التوحيد، وجاء التثليث وكذبت الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وصار ذلك يتلى في الصباح والمساء. فحينئذ هي أقبح بقعة على وجه الأرض، وألعن ما كان يوجد. فلا تجعل هذه الآية دليلا على تفضيلها.
ثانيها : إن الله تعالى قال :﴿ صوامع وبيع وصلوات ﴾ بالتنكير. والجمع المنكر لا يدل عند العرب على أكثر من ثلاثة من ذلك المجموع بالاتفاق، ونحن نقول : إنه قد وقع في الدنيا ثلاث من البيع، وثلاث من الصوامع، كانت أفضل مواضع العبادات بالنسبة على ثلاثة مساجد. وذلك أن البيع التي كان عيسى عليه السلام وخواصه من الحواريين يعبدون الله تعالى فيها، هي أفضل من مساجد ثلاثة أو أربعة لم يصل فيها إلا السفلة من المسلمين. وهذا لا نزاع فيه، إنما النزاع في البيع والصوامع على العموم، واللفظ لا يقتضيه لأنه جمع منكر، وإنما يقتضيه أن لو كان معرفا، كقولنا : البيع-باللام-.
ثالثا : إن هذه الآية تقتضي أن المساجد أفضل بيت عند الله تعالى عكس ما قاله هذا الجاهل بلغة العرب. وتقريره : أن الصنف القليل المنزلة عند الله تعالى أقرب إلى الهلاك من العظيم المنزلة، والقاعدة : " أن الترقي في الخطاب إلى الأعلى فالأعلى أبدا في المدح والذم والتفخيم والامتنان، فيقال في المدح : الشجاع البطل، ولا يقال : البطل الشجاع، لأنك تعد راجعا عن الأول. وفي الذم : العاصي الفاسق، ولا يقال : الفاسق العاصي. وفي التفخيم : فلان يغلب المائة والألف، ولا يقال : فلان يغلب الألف والمائة. وفي الامتنان : لا أبخل عليك بالدرهم ولا بالدينار، ولا يقال : بالدينار والدرهم ". والسر في الجميع أنك تعد راجعا عن الأول، كقهقرتك عما كنت فيه إلى ما هو أدنى منه.
إذا تقرر ذلك، ظهرت أفضلية المساجد، ومزيد شرفها على غيرها، وأن هدمها أعظم من هدم غيرها، لا يوصل إليه إلا بعد تجاوز ما يقتضي هدم غيرها، كما نقول : " لولا السلطان لهلك الصبيان والرجال والأمراء ". فترتقي أبدا للأعلى فالأعلى لتفخيم أمر عدم السلطان، وأن وجوده سبب عصمة هذه الطوائف. أما لو قلت : " لولا السلطان لهلك الأبطال والصبيان " لعد كلامك متهافتا.
رابعا : إن الآية تدل على أن المساجد أفضل بيت وضع على وجه الأرض للعابدين من وجه آخر، وذلك أن القاعدة العربية : أن الضمائر إنما يحكم بعودها على أقرب مذكور. فإذا قلت : " جاء زيد وخالد وأكرمته " فالإكرام خاص بخالد، لأنه الأقرب. فقوله تعالى :﴿ يذكر فيها اسم الله كثيرا ﴾ يختص بالأخير الذي هو المساجد، لأن قوله :﴿ فيها ﴾ ضمير يختص بالقريب، وهذا قول المفسرين. فتكون المساجد قد اختصت بكثرة ذكر الله تعالى، وهو يقتضي أن غيرها لم يساوها في كثرة الذكر، فتكون أفضل، وهو المطلوب.
فائدة : الصومعة : موضع الرهبان. وسميت بذلك لحدة أعلاها ودقته ؛ ومنه قول العرب : " أصمعت التريدة : إذا رفعت أعلاها ". ومنه قولهم " : رجل أصمع القلب : إذا كان حاد الفطنة ".
والصلاة : اسم لمتعبد اليهود. وأصلها بالعبراني : صلوتا، فعربت.
والبيع : اسم لمتعبد النصارى، اسم مرتجل غير مشتق.
والمسجد : اسم مكان السجود. فإن " مفعلا " في لسان العرب : اسم للمكان، واسم للزمان الذي يقع فيه الفعل، نحو : المضرب، لمكان الضرب وزمانه. ( الأجوبة الفاخرة : ٩٤ وما بعدها ).
٨٨٧- لم يذكر الدماغ قط في هذه المواضع١، فدل على أن محل العقل القلب لا الدماغ، وجعل الله تعالى في مجاري عادته استقامة حال الدماغ شرطا في حصول أحوال العقل والقلب على وجه الاستقامة.
وإذا تقرر أن العقل في القلب، يلزم على أصولنا أن النفس في القلب، لأن جميع ما ينسب إلى العقل من الفكر والعلوم وغير ذلك إنما هي صفات النفس، فتكون النفس في القلب، عملا بظواهر النصوص. ( الأمنية... المطبوع مع كتاب الإمام القرافي وأثر... ٤٩٢ ).
فقوله تعالى :﴿ إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ﴾ " إذا " ليست حالا، ولكن يؤخذ الحال في معنى هذا الشرط والجزاء. وتقديره : " إلا مرتبطا أمنيته بأمنية الشيطان ". ( الاستغناء : ٥٥٠ ).
أليس ورائي إذا تراخت منيتي*** لزوم عصا تحني عليها الأصابع
أخبر أخبار القرون التي مضت*** أدب كأني كلما قمت راكع
٨٩٠- السجود في اللغة : الانخفاض إلى الأرض. سجدت النخلة : إذا مالت. ومنه قول الشاعر :
بوجه يظل البلق في حجراته*** ترى الأكم فيها سجدا للحوافر
( نفسه : ٢/١٩١ ).