تفسير سورة الحج

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الحج من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة الحج مكية إلا ست آيات من ﴿ هذان خصمان ﴾ إلى ﴿ صراط الحميد ﴾ وهي ثمان وسبعون آية.

﴿يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ﴾ خطابٌ يعم حكمه الملكفين عند النزول ومن سنتظم في سلكهم بعدُ من الموجودين القاصرين عن رتبةِ التكليفِ والحادثين بعدَ ذلك إلى يومِ القيامةِ وإنْ كان خطابُ المشافهةِ مختصًّا بالفريق الأولِ على الوجه الذي مرَّ تقريرُه في مطلعِ سورةِ النساءِ ولفظُ النَّاسِ ينتظمُ الذكورَ والإناثَ حقيقةً وأما صيغةُ جمعِ المذكورِ فواردةٌ على نهجِ التغليبِ لعدمِ تناولِها للإناثِ حقيقةً إلا عندَ الحنابلةِ والمأمورُ به مطلقُ التَّقوى الذي هو التجنبُ عن كلِّ ما يُؤثِّمُ من فعلٍ وتركٍ ويندرجُ فيه الإيمانِ بالله واليومِ الآخرِ حسبما وردَ به الشرعُ اندراجاً أولياً والتعرضُ لعنوانِ الربوبية المبئة عن المالكيةِ والتربيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِ المخاطبينَ لتأييدا الأمرِ وتأكيدِ إيجابِ الامتثالِ به ترهيباً وترغيباً أي احذورا عقوبةَ مالكِ أمورِكم ومُربِّيكم وقولُه تعالى ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَىْء عَظِيمٌ﴾ تعليلٌ لموجبِ الأمرِ بذكرِ بعضِ عقوباتِه الهائلةِ فإنَّ ملاحظةَ عِظَمِها وهولِها وفظاعةِ ما هيَ من مباديهِ ومقدماتِه من الأحوالِ والأهوالِ التي لا مَلْجأَ منها سوى التَّدرعِ بلباسِ التَّقوى مما يوجبُ مزيدَ الاعتناءِ بملابستِه وملازمتِه لا محالةَ والزلزلةُ التحريكُ الشديدُ والإزعاجُ العنيفُ بطريقِ التكريرِ بحيث يزيلُ الأشياءَ من مقارِّها ويُخرجُها عن مراكزِها وإضافتُها إلى الساعةِ إمَّا إضافةُ المصدرِ إلى فاعلِه على المجازِ الحكميِّ كأنَّها هي التي تزلزلُ الأشياءَ أو إضافتُه إلى الظَّرفِ إمَّا بإجرائِه مُجرى المفعولِ به اتساعاً أوبتقدير في كَما في قولِه تعالى بل مكر الليل والنهار وهي الزَّلزلةُ المذكورةُ في قولِه تعالى إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا عن الحسنِ أنَّها تكونُ يومَ القيامةِ وعن ابن عباس رضي الله عنهُمَا زلزلةُ السَّاعةِ قيامُها وعن علقمةَ والشَّعبيِّ أنَّها قبلَ طلوعِ الشَّمسِ من مغربِها فإضافتُها إلى الساعةِ حينئذٍ لكونِها من أشراطِها وفي التعبيرِ عنها بالشيءِ إيذانٌ بأنَّ العقولَ قاصِرةٌ عنْ إدراكِ كُنهِها والعبارةُ ضيقةٌ لا تحيطُ بها إلاَّ على وجهِ الإبهامِ وقوله تعالى
﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا﴾ منتصبٌ بما بعدَهُ قُدِّم عليهِ اهتماما بهِ والضميرُ للزَّلزلةِ أي وقتَ رؤيتِكم إيَّاها ومشاهدتِكم لهولِ مطلعِها ﴿تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ﴾ أي مباشرةٍ للإرضاعِ ﴿عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾ أي تغفلُ مع دهشةٍ عمَّا هيَ بصدد
91
سورة الحج (٣) إرضاعِه من طفلِها الذي ألقمتْهُ ثديَها والتعبيرُ عنه بمَا دونِ مَنْ لتأكيدِ الذهولِ وكونِه بحيثُ لا يخطرُ ببالِها أنَّه ماذا لا أنها تعرف شيئته لكن لا تدري من هو بخصوصه وقيل مَا مصدريةٌ أي تذهلُ عنْ إرضاعِها والأولُ أدلُّ على شدةِ الهولِ وكمالِ الانزعاجِ وقُرَىءَ تُذهَل من الإذهالِ مبنياً للمفعولِ أو مبنياً للفاعلِ مع نصبِ كلُّ أي تُذهلها الزلزلةُ ﴿وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا﴾ أي تلقى جنيها لغيرِ تمامٍ كما أنَّ المرضعةَ تذهلُ عن ولدِها لغيرِ فطامٍ وهذا ظاهرٌ على قولِ علقمةَ والشَّعبيِّ وأمَّا على ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهُمَا فقدْ قيلَ إنَّه تمثيلٌ لتهويلِ الأمرِ وفيه أنَّ الأمرَ حينئذٍ أشدُّ من ذلكَ وأعظمُ وأهولُ ممَّا وُصفَ وأطمُّ وقيلَ إنَّ ذلكَ يكونُ عند النفخةِ الثَّانيةِ فإنَّهم يقومونَ على ما صُعقوا في النفخةِ الأولى فتقومُ المرضعةُ على إرضاعِها والحاملُ على حملِها ولا ريبَ في أنَّ قيامَ الناسِ من قبورِهم بعد النَّفخةِ الثَّانيةِ لا قبلَها حتى يتصورَ ما ذُكر ﴿وَتَرَى الناس﴾ بفتحِ التَّاءِ والرَّاءِ على خطاب كل أحد من المُخاطبينَ برؤيةِ الزَّلزلةِ والاختلافُ بالجمعيةِ والإفرادِ لِمَا أنَّ المرئيَّ في الأولِ هي الزلزلةُ التي يشاهدُهَا الجميعُ وفي الثَّاني حالُ مَن عَدَا المخاطبِ منهم فلا بدَّ من إفرادِ المخاطبِ على وجهٍ يعمُّ كل واحد منهم لكن من غيرِ اعتبارِ اتِّصافِه بتلكَ الحالةِ فإنَّ المرادَ بيانُ تأثيرِ الزَّلزلةِ في المرئيِّ لا في الرَّائي باختلافِ مشاعرِه لأنَّ مدارَه حيثيةُ رؤيتِه للزلزلةِ لا لغيرِها كأنَّه قيلَ ويصيرُ النَّاسُ سُكارى الخ وإنما أوثر عليهِ ما في التنزيلِ للإيذانِ بكمالِ ظهورِ تلك الحالةِ فيهم وبلوغِها من الجلاءِ إلى حدَ لا يكاد يخفى على أحدأى يراهم كلُّ أحدٍ ﴿سكارى﴾ أي كأنَّهم سُكارى ﴿وَمَا هُم بسكارى﴾ حقيقةً ﴿ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ﴾ فيُرهقهم هولُه ويطيرُ عقولَهم ويَسلُبُ تمييزَهُم فهو الذي جعلَهم كما وُصفوا وقُرِىءَ تُرَى بضم التاء وفتح وقُرِىءَ برفعِ النَّاسَ على إسنادِ الفعلِ المجهولِ إليهِ والتأنيثُ على تأويلِ الجماعةِ وقرىء ترى بضم التاء وكسرِ الرَّاءِ أي تُرِي الزلزلةُ الخلقَ جميعَ الناسِ سُكارى وقُرِىءَ سَكْرى وسَكْرى كعطْشى وجَوْعى إجراءً للسُّكرِ مجرَى العللِ
92
﴿وَمِنَ الناس﴾ كلامٌ مبتدأٌ جيءَ به إثرَ بيانِ عظيم شأنِ السَّاعةِ المُنبئةِ عن البعثِ بياناً لحالِ بعضِ المُنكرينَ لها ومحلُّ الجارِّ الرفع على الابتدأ إمَّا بحملِه على المعنى أو بتقديرِ ما يتعلَّقُ به كما مرَّ مراراً أي وبعضُ النَّاسِ أو وبعضٌ كائنٌ من النَّاس ﴿مَن يجادل فِى الله﴾ أي في شأنِه تعالى ويقول فيه مالا خيرَ فيه من الأباطيلِ وقوله تعالى ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ حالٌ من ضمير يجادلُ موضحة لما يشعرُ بها المجادلة من الجهلِ أي مُلابساً بغيرِ علمٍ رُوي أنَّها نزلتْ في النضر بن الحرث وكان جَدَلاً يقولُ الملائكةُ بناتُ الله والقرآنُ أساطيرُ الأولينَ ولا بعثَ بعد الموتِ وهي عامَّة له ولأضرابِه من العُتاةِ المُتمرِّدين ﴿وَيَتَّبِعْ﴾ أي فيما يتعاطاهُ من المُجادلةِ أو في كلِّ ما يأتي وما يذرُ من الأمورِ الباطلةِ التي من جُمْلتِها ذلكَ ﴿كُلَّ شيطان مَّرِيدٍ﴾ عاتٍ متمرِّدٍ متجرِّدٍ للفسادِ وأصلُه العرى المنبىءعن التمخص له كالتِّشمرِ ولعله مأخوذٌ من تجرُّدِ المصارعينَ عند المُصارعة قال الزَّجَّاجُ المريدُ والماردُ المرتفعُ الأملسُ والمرادُ إمَّا رُؤساءُ الكَفَرةِ الذين يَدْعُون مَن دونَهُم إلى الكفرِ وإمَّا إبليسُ وجنودُه
92
سورة الحج (٤ ٥) وقوله تعالى
93
﴿كُتِبَ عَلَيْهِ﴾ أي على الشَّيطانِ صفة أخرى له وقوله تعالى ﴿أَنَّهُ﴾ فاعلُ كتبَ والضَّميرُ للشَّأنِ أي رُقم به لظهور ذلك من حاله أنَّ الشَّأنَ ﴿مَن تَوَلاَّهُ﴾ أي اتَّخذهُ وليًّا وتبعه ﴿فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ﴾ بالفتح على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ والجملة جوابُ الشرطِ إنْ جُعلت مَن شرطيةً وخبرٌ لها إنْ جُعلتْ موصولةً متضمنة لمعنى الشَّرطِ أي من تولاه فشأنه أنه يُضلَّه عن طريق الجنَّةِ أو طريق الحقِّ أو فحقٌّ أنَّه يُضلُّه قطعاً وقيل فإنَّه معطوفٌ على أنَّه وفيه من التَّعسفِ مالا يخفى وقيلَ وقيلَ ممَّا لا يخلو عن النمحل والتأويلِ وقُرىء فإنَّه بالكسرِ على أنَّه خبرٌ لمَن أو جوابٌ لها وقُرىء بالكسرِ فيهما على حكايةِ المكتوبِ كما هو مثلُ ما في قولِك كتبتُ إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدلِ والإحسانِ أو على إضمارِ القولِ أو تضمينِ الكتبِ معناهُ على رأيِ مَن يراهُ ﴿وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير﴾ بحملِه على مباشرةِ ما يُؤدِّي إليه من السيئات
﴿يا أَيُّهَا الناس﴾ إثرَ ما حكى أحوالَ المُجادلين بغير علمٍ وأُشير إلى ما يؤول إليه أمرُهم أقيمتْ الحجة الدالة على تحقيق ما جادلوا فيه من البعثِ ﴿إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ البعث﴾ من إمكانه وكونه مقدروا له تعالى أو من وقوعِه وقُرىء من البَعَثِ بالتَّحريكِ كالجَلَبِ في الجَلْب والتعبيرُ عن اعتقادِهم في حقِّه بالرَّيبِ مع التَّنكيرِ المنبىءِ عن القلَّةِ مع أنَّهم جازمون باستحالتِه وإيرادِ كلمة الشَّكِّ مع تقررِ حالِهم في ذلك وإيثارِ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ عَلى أنْ يقالَ إنِ ارتبتُم في البعثِ فقد مَرَّ تحقيقُه في تفسيرِ قولِه تعالى وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا ﴿فَإِنَّا خلقناكم﴾ أي فانظُروا إلى مبدأ خلقِكم ليزولَ ريبُكم فإنَّا خلقناكُم أي خلقنا كلَّ فردٍ منكُم ﴿مّن تُرَابٍ﴾ في ضمن خلق آدمَ منه خلقاً إجماليًّا فإن خلق كلَّ فردٍ من أفراد البشر له خظ من خلقه عليه السلام إذا لم تكن فطرته الشريفة مقصورةً على نفسه بل كانت أُنموذَجاً منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبِعاً لجَرَيان آثارِها على الكل فكان خلقَه عليه السلامُ من الترابِ خلقا للكل منه كما مرَّ تحقيقُه مراراً ﴿ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ﴾ أي ثمَّ خلقناكُم خلقاً تفصيلياً من نُطفةٍ أي من منيَ من النَّطفِ الذي هو الصَّبُّ ﴿ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ﴾ أي قطعةٍ من الدَّمِ جامدةٍ متكوِّنةٍ من المنيِّ ﴿ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ﴾ أي من قطعة اللَّحمِ متكوِّنةٍ من العَلَقةِ وهي في الأصلِ مقدارُ ما يُمضغ ﴿مُّخَلَّقَةٍ﴾ بالجرِّ صفةُ مضغةٍ أي مستبينة الخلقِ مصوَّرةٍ ﴿وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ أي لم يستبنْ خلقُها وصورتُها بعد والمرادُ تفصيلُ حالِ المضغةِ وكونُها أَوَّلاً قطعةً لم يظهرْ فيها شيءٌ
93
من الأعضاءِ ثمَّ ظهرتْ بعد ذلك شَيئاً فشَيئاً وكان مُقتضى التَّرتيبِ السَّابقِ المبنيِّ على التَّدرجِ من المبادىءِ البعيدةِ إلى القريبةِ أنْ يقدِّمَ غيرَ المخلَّقةِ على المخلَّقةِ وإنَّما أُخِّرتْ عنها لأنَّها عدمُ المَلَكةِ هذا وقد فُسِّرتَا بالمُسوَّاةِ وغيرِ المُسوَّاةِ وبالتَّامةِ والسَّاقطةِ وليس بذاكَ وفي جعلِ كل واحدةٍ من هذه المراتبِ مبدأً لخلقِهم لا لخلقِ ما بعدَها من المراتبِ كما في قولِه تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً الآيةَ مزيدُ دلالة على عظيمِ قدرتِه تعالى وكسرٍ لسَورةِ استبعادِهم ﴿لّنُبَيّنَ لَكُمْ﴾ متعلِّقٌ بخلقنا وتركُ المفعولِ لتفخيمِه كمًّا وكيفاً أي خلقناكُم على هذا النَّمطِ البديعِ لنبين لكم بذلك مالا تحصرُه العبارةُ من الحقائقِ والدَّقائقِ التي من جُملتها سرُّ البعثِ فإنَّ مَن تأمَّل فيما ذُكر من الخلقِ التدريجيِّ تأمُّلاً حقيقيًّا جزمَ جَزْماً ضروريًّا بأنَّ على خلق البشر أو لا من تراب لم يشَمَّ رائحةَ الحياةِ قَطُّ وإنشائِه على وجهٍ مصحِّحٌ لتوليدِ مثلِه مرَّةً بعد أُخرى بتصريفِه في أطوارِ الخلقةِ وتحويلِه منْ حالٍ إلى حالٍ مع ما بينَ تلك الأطوارِ والأحوالِ من المُخالفةِ والتَّباينِ فهو قادرٌ على إعادتِه بل هو أهو في القياسِ نظراً إلى الفاعلِ والقابلِ وقُرىء ليبيِّن بطريقِ الالتفاتِ وقولُه تعالى ﴿وَنُقِرُّ فِى الأرحام مَا نَشَاء﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ حالِهم بعد تمامِ خلقِهم وعدمُ نظمِ هذا وما عُطف عليه في سلكِ الخلق المعلل بالتبين مع كونِهما من متمماتِه ومن مبادي التَّبيين أيضاً لما أنَّ دلالةَ الأوَّلِ عَلى كمالِ قدرتِه تعالى على جميعِ المقدُورات التي منْ جُملتها البعثُ المبحوثُ عنه أجلى وأظهرُ أي ونحنُ نقرُّ في الأرحامِ بعد ذلك ما نشاءُ أن نقرَّه فيهَا ﴿إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ هو وقت الوضعِ وأدناهُ ستَّةُ أشهرٍ وأقصاهُ سنتانِ وقيل أربعُ سنين وفيه إشارةٌ إلى أنَّ بعضَ ما في الأرحامِ لا يشاءُ الله تعالى إقرارَه فيها بعد تكاملِ خلقِه فتسقطه والتَّعرضُ للإزلاقِ لا يُناسبُ المقامَ لأنَّ الكلامَ فيما جرى عليه أطوارُ الخلقِ وهذا صريحٌ في أنَّ المراد بغير المخلَّقةِ ليس من وُلدَ ناقصاً أو مَعيباً وأنَّ ما فُصِّل إلى هنا هو الأطوارُ المتواردةُ على المولودِ قبلَ الولادةِ وقُرىء يُقرُّ بالياءِ ونقُرُّ ويقُرُّ بضمِّ القافِ من قَررتَ الماءَ إذا أصببته ﴿ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ﴾ أي من بطونِ أمَّهاتِكم بعد إقرارِكم فيها عند تمامِ الأجلِ المُسمَّى ﴿طِفْلاً﴾ أي حالَ كونِكم أطفالاً والإفرادُ باعتبارِ كلِّ واحدٍ منهم أو بإرادةِ الجنسِ المنتظمِ للواحدِ والمتعدِّدِ وقُرىء يُخرجكم بالياءِ وقولُه تعالى ﴿ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أشدكم﴾ علة لنجرجكم معطوفةٌ على علةٍ أخرى له مناسبة لها كأنه قيل ثمَّ نُخرجكم لتكبرُوا شيئا فشيئا ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والعقل والتَّمييزِ وقيل التَّقديرُ ثم تمهلكم لتبلغُوا الخ وما قيل إنَّه معطوفٌ على نبين مخل بجزالة النظم الكريم هذا وقد قرىء مما قبله من الفِعلينِ بالنَّصبِ حكايةً وغَيْبةً فهو حينئذٍ عطفٌ على نبين مثلهما والمعنى خلقناكُم على التَّدريجِ المذكورِ لغايتينِ مترتبتينِ عليه إحداهما ان نبين شئوننا والثَّانيةُ أنْ نُقرَّكم في الأرحامِ ثم نُخرجَكم صغاراً ثم لتبلغُوا أشدَّكم وتقديمُ التَّبيينِ على ما بعدَهُ مع أنَّ حصولَه بالفعلِ بعد الكل للإبذان بأنَّه غايةُ الغاياتِ ومقصودٌ بالذات وإعادة اللام ههنا مع تجريدِ الأَوَّلينِ عنها للإشعارِ بأصالتِه في الغرضيَّةِ بالنَّسبةِ إليهما إذْ عليه يدورُ التَّكليفُ المُؤدِّي إلى السَّعادةِ والشَّقاوةِ وإيثارُ البلوغِ مُسنداً إلى المخاطبينَ على التَّبليغِ مُسنداً إليه تعالى كالأفعال السابقة لأنَّه المناسبُ لبيانِ حالِ اتَّصافِهم بالكمالِ واستقلالِهم بمبدئيةِ الآثارِ والأفعالِ والأشُدُّ من ألفاظِ الجموعِ التي لم يستعمل لها واحد كالأسد والقَتُودِ وكأنَّها حين كانتْ شدَّةً في غيرِ شيءٍ بُنيتْ على لفظِ الجمعِ ﴿وَمِنكُمْ مَّن يتوفى﴾ أي بعد بلوغ الأشد أو قبله
94
سورة الحج (٦ ٧) وقُرىء يَتوفَّى مبنيًّا للفاعلِ أي يتوفَّاه الله تعالى ﴿وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمرِ﴾ وهُو الهَرَمُ والخوف وقُرىء بسكونِ الميمِ وإيرادُ الردِّ والتَّوفِّي على صيغةِ المبنيِّ للمفعولِ للجَريِ على سنَنِ الكبرياءِ لتعيين الفاعلِ ﴿لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ﴾ أي علمٍ كثيرٍ ﴿شَيْئاً﴾ أي شيئا من الأشياءِ أو شيئا من العلمِ مبالغةً في انتفاص علمه وانتكاس حاله أي ليعود إلى ما كان عليهِ في أوان الطفولية من ضعف البنية وسخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما علمِه ويُنكر ما عرفَهُ ويعجزُ عمَّا قدرَ عليه وفيهِ من التَّنبيهِ على صحة البعث مالا يخفَى ﴿وَتَرَى الأرض هَامِدَةً﴾ حجَّةٌ أُخرى على صحَّةِ البعثِ والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممَّن يتأتى منه الرؤية وصيغة المضارع للدلالة على التَّجددِ والاستمرارِ وهي بصريةٌ وهامدةً حالٌ من الأرضِ أي ميِّتةً يابسةً من همدتِ النَّارُ إذَا صارتْ رَمَاداً ﴿فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء﴾ أي المطرَ ﴿اهتزت﴾ تحرَّكتْ بالنَّباتِ ﴿وَرَبَتْ﴾ انتفختْ وازدادتْ وقُرىء ربأتْ أي ارتفعتْ ﴿وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ﴾ أي صنفٍ ﴿بَهِيجٍ﴾ حسنٍ رائقٍ يسرُّ ناظرَه
95
﴿ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق﴾ كلامٌ مستأنَفٌ جيءَ به إثرَ تحقيقِ حقِّيةِ البعث وإقامةِ البُرهان عليه من العالَمينِ الإنسانيِّ والنباتيِّ لبيانِ أنَّ ذلك من آثارِ أُلوهيتِه تعالى وأحكامِ شئونه الذَّاتيةِ والوصفيةِ والفعليةِ وأنَّ ما ينكرون وجودَه بل إمكانه من إتيانِ السَّاعةِ والبعثِ من أسبابِ تلك الآثارِ العجيبةِ التي يُشاهدونها في الأنفس والآفاقِ ومبادي صدورِها عنه تعالى وفيه من الإيذن بقوة الدليل وأصله المدلول في التحقيق وإظهار بطلان إنكاره مالا يخفى فإنَّ إنكارَ تحقُّق السبب مع الجزم بتحقيق المُسبَّبِ ممَّا يَقْضي ببُطلانِه بديهةُ العقولِ والمرادُ بالحقِّ هو الثَّابتُ الذي يحِق ثبوتُه لا محالة لكونِه لذاتِه لا الثَّابتُ مطلقاً وَذَلِكَ إشارةٌ إلى ما ذُكر من خلقِ الإنسانِ على أطوارٍ مختلفةٍ وتصريفِه في أحوالٍ مُتباينةٍ وإحياءِ الأراض بعد موتِها وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتِه في الكمالِ وهومبتدأ خبرُه الجارُّ والمجرورُ أي ذلك الصُّنعُ البديع حاصلٌ بسبب أنَّه تعالى هو الحقُّ وحده في ذاتِه وصفاتِه وأفعالِه المحقِّقُ لما سواه من الأشياءِ ﴿وَأنَهُ يحيي الموتى﴾ أي شأنُه وعادته إحياؤُها وحاصلُه أنَّه تعالى قادر على إحيائها بدء وإعادةً وإلاَّ لما أحيا النطقة والأرضَ الميتةَ مراراً بعد مراروما تُفيده صيغةُ المضارعِ من التجدد إنما هوبإعتبار تعلق القدرة ومتعلها لا باعتبارِ نفسِها ﴿وَأَنَّهُ على كل شىء قدير﴾ أي مبالغٌ في القُدرةِ وإلاَّ لما أوجد هذه الموجودات القائتة للحصرِ التي من جُملتها ما ذُكر وأمَّا الاستدلالُ على ذلك بأنَّ قدرته تعالى لذاتِه الذي نسبته إلى الكلِّ سواءٌ فلمَّا دلَّتِ المشاهدةُ على قدرتِه على إحياءِ بعض الأمواتِ لزم اقتدارُه على إحياءِ كلها فمنشأة الغفول عما سيق له النَّظمُ الكريمُ من بيانِ كون الآثار الخاتمة المذكورةِ من فروعِ القُدرةِ العامة اللامة ومسبَّباتِها وتخصيصُ إحياءِ الموتى بالذكر مع كونه من جُملةِ الأشياءِ المقدُورِ عليها للتَّصريحِ بما فيه النِّزاعُ والدفع في نحور المنكرينَ وتقديمُه لإبرازِ الاعتناءِ به
﴿وأن الساعة آتية﴾ أي فيما سيأتي وإيثارُ صيغةِ الفاعلِ على الفعلِ للدلالة على تحقيق إتيانِها وتقرره البتةَ لاقتضاءِ الحكمة إيَّاه لا محالةَ وتعليله بأنَّ التَّغيُّرِ من مقدمات الانصرامِ وطلائعِه مبنيٌّ على ما ذكر من الغفولِ وقولُه تعالَى ﴿لاَ رَيْبَ فيهِ﴾ إما خبر
95
سورة الحج (٨ ٧) ثان ى ن أو حالٌ من ضميرِ السَّاعةِ في الخبرِ ومعنى نفيِ الرَّيبِ عنها أنَّها فى ظهور أمرها ووضوح دلائلِها التَّكوينيَّةِ والتَّنزيليَّةِ بحيثُ ليس فيها مظنةُ أنْ يُرتاب في إتيانِها حسبما مرَّ في مطلعِ سورةِ البقرةِ والجملةُ عطفٌ على المجرورِ بالباء كما قبلها من الجُملتينِ داخلةٌ مثلهما في حيِّزِ السَّببيةِ وكذا قولُه عزَّ وجلَّ ﴿وَإِن الله يبعث مَنْ فى القبور﴾ لكنْ لا من حيثُ أن إتيانَ السَّاعةِ وبعثَ الموتى مؤثِّرانِ فيما ذكر من أفاعليه تعالى تأثيرَ القُدرة فيها بل من حيثُ إنَّ كُلاًّ منهما سببٌ داعٍ له عزَّ وجلَّ بموجبِ رأفتِه بالعبادِ المبنيَّةِ على الحكمِ البالغةِ إلى ما ذُكرَ من خلقِهم ومن إحياءِ الأرضِ الميتة على نمطٍ بديعٍ صالحٍ للاستشهادِ به على مكانِهما ليتأمَّلوا في ذلكَ ويستدلُّوا به على وقوعِهما لا محالة ويصدقوا بمَا ينطق بهما من الوحيِ المُبينِ وينالُوا به السَّعادةَ الأبديَّةَ ولولا ذلكَ لما فعل تعالى ما فعل بل لما خلق العالم رأساً وهذا كما تَرَى من أحكام حقيته تعالى فى أفعاله وابتنائها على الحكم الباهرةِ كما أنَّ ما قبلَهُ من أحكام حقِّيته تعالى في صفاتِه وكونها في غايةِ الكمالِ وقد جُعل إتيانُ السَّاعةِ وبعث مَنْ في القبورِ لكونهما من روادفِ الحكمةِ كناية عن كونِه تعالى حكيماً كأنَّه قيل ذلك بسببِ أنَّه تعالى قادرٌ على إحياءِ المَوْتى وعلى كلِّ مقدورٍ وأنَّه حكيمٌ لا يُخلف ميعادَه وقد وُعد بالسَّاعةِ والبعث فلا بُدَّ أنْ ينفى بما وعد وأنتَ خبيرٌ بأن مآله الاستدلالُ بحكمته تعالى على إتيان السَّاعة والبعثِ وليس الكلامُ في ذلكَ بل إنَّما هُو فى سببيتها لما مرَّ من خلقِ الإنسان وإحياء الارض فنأمل وكن على الحق المبين وقيل قوله تعالى وَإِنَّ الساعة آتية ليس معطُوفاً على المجرورِ بالياء ولا داخلاً في حيِّز السببية بل هو خبرٌ والمبتدأ محذوفٌ لفهم المَعْنى والتَّقديرُ والأمرُ أنَّ السَّاعةَ آتيةٌ وأنَّ الثَّانيةَ معطوفةٌ على الاول وقيل المَعْنى ذلك لتعلمُوا بأن الله هو الحق الآيتين
96
﴿وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله﴾ هو أبُو جهلٍ بنُ هشامٍ حسبَما روي عن ابن عباس رضى الله عنهما وقيل هُو من يتصدَّى لإضلالِ النَّاسِ وإغوائِهم كائناً مَنْ كان كما أنَّ الأولَ من يُقلدهم على أنَّ الشَّيطانَ عبارةٌ عن المضلِّ المُغوي على الإطلاقِ ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من ضمير يجادلُ أي كائناً بغيرِ علم والمراد بالعلم العلم الضروري كماأن المرادَ بالهُدى في قوله قوله تعالى ﴿وَلاَ هُدًى﴾ هو الاستدلالُ والنَّظرُ الصَّحيحُ الهادي إلى المعرفةِ ﴿وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ﴾ وحي مظهرٍ للحقِّ أي يجادل في شأنِه تعالى من غير تمسُّكٍ بمقدِّمةٍ ضروريةٍ ولا بحجَّةٍ نظريةٍ ولا ببرهانٍ سمعيَ كما في قوله تعالى وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا وماليس لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وأما ما قيل من أن المراد به المجادلة الأوَّلُ والتَّكريرُ للتَّأكيدِ والتَّمهيدِ لما بعدَهُ من بيانِ أنه لاسند له من استدلالٍ أو وحيٍ فلا يُساعدُه النظمُ الكريمُ كيفَ لا وإنَّ وصفَه باتِّباعِ كلِّ شيطانٍ موصوفٍ بما ذُكر يُغني عن وصفِه بالعراءِ عن الدَّليلِ العقليِّ والسِّمعيِّ
﴿ثَانِىَ عِطْفِهِ﴾ حالٌ أخرى من فاعلِ يُجادل أي عاطفاً لجانبه وطاوياً كَشْحَه مُعرضاً متكبِّراً فإنَّ ثنْيَ العطف كناية عن
96
سورة الحج (١٠ ١١) التَّكبُّرِ وقُرىء بفتحِ العينِ أي مانعاً لتعطُّفِه ﴿لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله﴾ متعلِّقٌ بيجادلُ فإنَّ غرضَه الإضلالُ عنه وإن لم يعترفْ بأنَّه إضلالٌ والمرادُ به إمَّا الإخراجُ من الهُدى إلى الضَّلالِ فالمفعولُ مَن يُجادلُه من المؤمنينَ أَو النَّاس جميعاً بتغليب المؤمنين على غيرِهم وإمَّا التَّثبيتُ على الضَّلالِ أو الزِّيادةُ عليه مجازاً فالمفعولُ هم الكفرةُ خاصَّةً وقُرىء بفتح الياءِ وجُعل ضلالُه غايةً لجدالِه من حيثُ إنَّ المرادَ به الضَّلالُ المبينُ الذي لا هدايةَ له بعدَهُ مع تمكُّنِه منها قبلَ ذلك ﴿لَهُ فِى الدنيا خِزْىٌ﴾ جملةٌ مستأنفةٌ مَسوقةٌ لبيانِ نتيجةِ ما سلكَه من الطَّريقةِ أي يثبُت له في الدُّنيا بسببِ ما فعله خزيٌ وهُو ما أصابَه يومَ بدرٍ من القتلِ والصَّغَارِ ﴿وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق﴾ أي النَّارِ المُحرقةَ
97
﴿ذلك﴾ أي ما ذكر من العذابِ الدنيويِّ والأُخرويِّ وما فيه من معنى البعد للإيذان بكونه في الغايةِ القاصيةِ من الهول والفظاعةِ وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى ﴿بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ أي بسببِ ما اقترفتَهُ من الكفرِ والمعاصِي وإسنادُه إلى يديهِ لما أنَّ الاكتسابَ عادةً يكونُ بالأيدي والالتفاتُ لتأكيدِ الوعيدِ وتشديدِ التَّهديدِ ومحلُّ أنَّ في قوله عز وعلا ﴿وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ﴾ الرفعُ على أنَّه خبر مبتدأ محذوف أي والأمرُ أنَّه تعالى ليس بمعذِّب لعبيدِه بغيرِ ذنبٍ منْ قِبلهم والتعبيرُ عن ذلك بنفيِ الظلمِ معَ أنَّ تعذيبَهم بغيرِ ذنبٍ ليس بظُلمٍ قطعاً على ما نقرر من قاعدة أهلِ السنة فضلا عن كونه ظالما بالغاً قد مرَّ تحقيقُه في سورة آل عمران والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضون ما قبلها وأمَّا ما قيلَ من أنَّ محلَّ أنَّ هُو الجرُّ بالعطفِ على ما قدمتْ فقد عرفتَ حالَه في سورة الأنفال
﴿وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ﴾ شروعٌ فى بيان المُذبذبين إثرَ بيانِ حالِ المُجاهرين أي ومنهُم من يعبده تعالى على طَرَفٍ من الدِّين لاثبات له فيه كالَّذي ينحرفُ إلى طَرَفِ الجيشِ فإنْ أحسَّ بظَفَرٍ قَرَّ وإلا فَرَّ ﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ﴾ أي دنيويٌّ من الصَّحَّةِ والسَّعةِ ﴿اطمأن بِهِ﴾ أي ثبتَ على ما كانَ عليه ظاهرا ألا أنَّه اطمأنَّ به اطمئنانَ المُؤمنينَ الذينَ لا يَلويهم عنه صارفٌ ولا يثنيهم عاطفٌ ﴿وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ﴾ أي شيءٌ يُفتتنُ به من مكروهٍ يعتريهِ في نفسِه أو أهلِه أو مالِه ﴿انقلب على وَجْهِهِ﴾ رُوِيَ أنَّها نزلتْ في أعاريبَ قدمُوا المدينةَ وكانَ أحدُهم إذَا صحَّ بدنُه ونُتجتْ فرسُه مُهراً سَرِيًّا وولدتِ امرأتُه ولداً سَويًّا وكثُر مالُه وماشيتُه قال ما أصبتُ منذُ دخلتُ في ديني هذا إلاَّ خَيْراً واطمأنَّ وإن كانَ الأمرُ بخلافِه قال ما أصبتُ إلاَّ شرًّا وانقلبَ وعن أبي سعيدٍ الخدريُّ رضيَ الله عنه إن يهُوديًّا أسلمَ فأصابتْهُ مصائبُ فتشاءَم بالإسلامِ فأتَى النبيَّ صلَّى الله عليهِ وسلم فقال أقلنى فقال ﷺ إنَّ الإسلامَ لا يُقال فنزلت وقيل نزلت في المؤلَّفةِ قلوبُهم ﴿خَسِرَ الدنيا والأخرة﴾ فقدَهُما وضيَّعهما بذهابِ عصمتِه وحبوطِ عملِه بالارتدادِ وقُرىء خاسرَ بالنَّصبِ على الحالِ والرَّفعُ على الفاعليةِ ووضع موضع الضمير
97
سورة الحج (١٢ ١٤) تنصيصاً على خُسرانِه أو على أنَّه خبرٌ مبتدأ محذوفٍ ﴿ذلك﴾ أي ما ذُكر من الخُسران وما فيه من معنى البعد للإيذانِ بكونه في غايةِ ما يكونُ ﴿هُوَ الخسران المبين﴾ الواضحُ كونُه خُسراناً إذا لا خُسرانَ مثله
98
﴿يَدْعُو مِن دُونِ الله﴾ استئنافٌ مبيِّنٌ لعِظم الخُسرانِ أي يعبد مُتجاوزاً عبادةَ الله تعالى ﴿مَا لاَ يَضُرُّهُ﴾ إذا لم يعبدْهُ ﴿وَمَا لاَ يَنفَعُهُ﴾ إنْ عبدَهُ أي جماداً ليسَ من شأنه الضرُّ والنفع كما يُلوِّحُ به تكريرُ كلمةِ ما ﴿ذلك﴾ الدُّعاءُ ﴿هُوَ الضلال البعيد﴾ عن الحقِّ والهُدى مستعارٌ من ضلالِ مَن أبعدَ في التَّيهِ ضالاًّ عن الطَّريقِ
﴿يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ﴾ استئنافٌ مسوق لبيانِ مآلِ دُعائِه المذكورِ وتقريرِ كونِه ضلالاً بعيداً مع إزاحةِ ما عسى يُتوهَّمُ من نفيِ الضَّررِ عن معبودِه بطريقِ المباشرةِ نفيه عنه بطريق التسبب أيضاً فالدُّعاءُ بمعنى القول واللاَّمُ داخلةٌ على الجملة الواقعةِ مقولاً له ومَن مبتدأٌ وضرُّه مبتدأٌ ثانٍ خبرُه أقربُ والجملة صلة للمبتدأ الأوَّلِ وقوله تعالى ﴿لبئس المولى ولبئس العشير﴾ جوابٌ لقسم مقدَّرٍ هو وجوابه خبرٌ للمبتدأ الأولِ وإيثارُ مَن على مَا مع كون معبودِه جماداً وإيرادُ صيغةِ التفضيلِ معَ خلوِّه عن النَّفع بالمرَّةِ للمبالغة في تقبيح حاله والإمعانِ في ذمِّه أي يقول ذلك الكافرُ يوم القيامةِ بدعاء وصُراخٍ حين يرى تضرُّرَه بمعبوده ودخولَه النَّارَ بسببه ولا يرى منه أثرَ النَّفعِ أصلاً لمن ضره أقرب من نفعه والله لبئسَ النَّاصرُ هو ولبئسَ الصَّاحبُ هو فكيف بما هو ضررٌ محضٌ عارٍ عن النَّفعِ بالكلِّيةِ ويجوزُ أن يكون يدعُو الثَّاني إعادةً للأولِ لا تأكيد له فقط بل وتمهيداً لما بعدَهُ من بيانِ سوءِ حالِ معبودِه إثرَ بيانِ سوءِ حالِ عبادتِه بقوله تعالى ذلك هُوَ الضلال البعيد كأنَّه قيلَ من جهتِه تعالى بعد ذكر عبادتِه لما لا يضرُّه ولا ينفعُه يدعو ذلك ثم قيلَ لمَن ضره أقرب من نفعه والله لبئسَ المَوْلى ولبئس العَشيرُ فكلمة مَن وصيغةُ التَّفضيلِ للتهكُّمِ به وقيل اللاَّمُ زائدةٌ ومَنْ مفعول يدعو ويؤيده القراء بغير لامٍ أي يعبد من ضره أقربُ من نفعه وإيراد كلمةِ مَن وصيغة التَّفضيلِ تهكُّمٌ به أيضاً والجملة القسميةُ مستأنفة
﴿إِنَّ الله يُدْخِلُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جنات﴾ استئنافٌ جيء به لبيان كمال حسنِ حالِ المؤمنينَ العابدينَ له تعالى وأنَّ الله عزَّ وجلَّ يتفضَّل عليهم بما لا غايةَ وراءه من أجلِّ المنافعِ وأعظمِ الخيراتِ إثرَ بيانِ غايةِ سوءِ حالِ الكفرةِ ومآلِهم من فريقَيْ المجاهرينَ والمذبذبينَ وأنَّ معبودَهم لا يُجديهم شيئاً من النَّفع بل يضرُّهم مضرَّةً عظيمةً وأنَّهم يعترفون بسوءِ ولايتِه وعشرتِه ويذمونه مذمة عامة وقوله تعالى ﴿تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ صفة لجنَّاتٍ فإن أُريد بها الأشجارُ المتكاثقة السائرة لما تحتها فجريانُ الأنهارِ من تحتها ظاهرٌ وإنْ أُريد بها الأرضُ فلا بُدَّ من تقدير مضافٍ
98
سورة الحج (١٥ ١٦) أي من تحت أشجارِها وإن جُعلت عبارةً عن مجموعُ الأرضِ والأشجارِ فاعتبارُ التَّحتيَّةِ بالنَّظرِ إلى الجزءِ الظاهِرِ المصحِّح لإطلاقِ اسمِ الجنَّةِ على الكلِّ كما مر تفصيله في أوائل سورةِ البقرةِ وقوله تعالى ﴿إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ تعليلٌ لما قبلَه وتقريرٌ له بطريقِ التَّحقيقِ أي يفعلُ البتة كلَّ ما يريدُه من الأفعالِ المتقنةِ اللاَّئقةِ المبنيَّةِ على الحكمِ الرَّائقةِ التي من جُملتها إثابةُ مَن آمنَ به وصدق رسول الله ﷺ وعقابُ مَن أشركَ به وكذب برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم ولمَّا كانَ هذا من آثارِ نُصرته تعالى له ﷺ عُقِّب بقولِه عزَّ وعلا
99
﴿مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِى الدنيا والأخرة﴾ تحقيقاً لها وتقريراً لثبوتها على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه وفيه إيجازٌ بارعٌ واختصارٌ رائعٌ والمعنى أنَّه تعالى ناصرٌ لرسوله في الدنيا والآخرة لا محالة من غير صارف بلويه ولا عاطفٍ يَثنيه فمن كانَ يغيظُه ذلك من أعاديهِ وحُسَّادِه ويظنُّ أنْ لَنْ يفعله تعالى بسببِ مدافعتِه ببعضِ الأمورِ ومباشرة ما يردُّه من المكايد فليبالغْ في استفراغِ المجهودِ وليجاوزْ في الجِد كلَّ حدَ معهودٍ فقُصارى أمرِه وعاقبةِ مكرِه أنْ يختنقَ حنقاً ممَّا يرى من ضلالِ مساعيهِ وعدمِ إنتاجِ مقدِّماتِه ومباديهِ ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء﴾ فليمدُدْ حبلاً إلى سقفِ بيتِه ﴿ثُمَّ لْيَقْطَعْ﴾ أي ليختنقْ من قطَع إذا اختنقَ لأنَّه يقطع نفَسَه بحبسِ مجاريهِ وقيل ليطع الحبلَ بعد الاختناقِ على أنَّ المرادَ به فرضُ القطعِ وتقديرُه كما أنَّ المرادَ بالنَّظرِ في قوله تعالى ﴿فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ تقديرُ النَّظر وتصويرُه أي فليصوِّر في نفسِه النَّظرَ هل يُذهبنَّ كيدُه ذلك الذي هو أقصى ما انتهتْ إليه قدرتُه في باب المُضادَّةِ والمُضارَّةِ ما يغيظه من النُّصرةِ كلا ويجوز أنْ يُراد فلينظر الآنَ أنَّه إنْ فعلَ ذلك هَلْ يُذهب ما يغيظُه وقيل المعنى فليمدُدْ حبلاً إلى السَّماءِ المُظِلَّةِ وليصعدْ عليه ثم ليقطعْ الوحيَ وقيل ليقطعَ المسافةَ حتَّى يبلغَ عنانَها فيجتهدَ في دفعِ نصرِه ويأباهُ أنَّ مَساقَ النظمِ الكريمِ بيانُ أنَّ الأمورَ المفروضةَ على تقديرِ وقوعِها وتحقُّقِها بمعزلٍ من إذهابِ ما يغيظُ ومن البيِّنِ أنْ لا معنى لفرضِ وقوعِ الأمورِ الممتنعةِ وترتيبِ الأمرِ بالنَّظرِ عليه لاسيما قطعُ الوحيِ فإنَّ فرضَ وقوعِه مخلٌّ بالمرامِ قطعاً وقيل كان قوم من المسلمينَ لشدَّةِ غيظِهم وحنقِهم على المُشركين يستبطئونَ ما وعد الله ورسوله ﷺ من النَّصرِ وآخرون من المشركين يريدون اتباعه ﷺ ويخشَون أنْ لا يثبت أمرُه فنزلتْ وقد فسِّر النَّصرُ بالرِّزق فالمعنى أنَّ الرزاق بيدِ الله تعالى لا تُنال إلاَّ بمشيئتِه تعالى فلا بُدَّ للعبدِ من الرِّضا بقسمتِه فمن ظنَّ أنَّ الله تعالى غيرُ رازقِه ولم يصبرْ ولم يستسلمْ فليبلغ غايةَ الجزعِ وهو الاختناقُ فإنَّ ذلكَ لا يغلبُ القسمةَ ولا يردُّه مرزوقاً
﴿وكذلك﴾ أي مثلَ ذلك الإنزالِ البديعِ المنطوي على الحِكَم البالغةِ ﴿أنزلناه﴾ أي القرآنَ الكريمَ كلَّه وقوله تعالى ﴿آيات بينات﴾ أي واضحاتِ الدلالة على معانيها الرَّائقةِ حالٌ من الضَّميرِ المنصوبِ مبينةٍ لما أُشير إليه بذلك ﴿وَأَنَّ الله يَهْدِى﴾ به ابتداءً أو يثبِّت على الهُدى أو يزيدُ فيه ﴿من يريد﴾ هدايته
99
سورة الحج (١٧ ١٨) أو تثبيتَه أو زيادتَه فيها ومحلُّ الجملةِ إمَّا الجرُّ على حذف الجارِّ المتعلق بمحذوفٍ مؤخَّرٍ أي ولأنَّ الله يهدي من يريد أنزلَه كذلك أو الرفعُ عَلى أنَّه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي والأمرُ أنَّ الله يهدي من يريد هدايته
100
﴿إن الذين آمنوا﴾ أي بما ذُكر من الآياتِ البيِّناتِ بهدايةِ الله تعالى أو بكلِّ ما يجبُ أنْ يُؤمَنَ به فيدخُل فيه ما ذُكر دخولاً أوليًّا ﴿والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس﴾ قيل هم قوم يعبدون النَّارَ وقيل الشَّمسَ والقمرَ وقيل هم قومٌ من النَّصارى اعتزلُوا عنهم ولبسوا المُسوح وقيل أخذُوا من دين النَّصارى شيئاً ومن دين اليَّهودِ شيئاً وهم القائلون بأنَّ للعالم أصلينِ نوراً وظلمة ﴿والذين أَشْرَكُواْ﴾ هم عَبَدة الأصنامِ وقوله تعالى ﴿إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة﴾ في حيِّز الرفع على أنه خبر لإنَّ السَّابقةِ وتصدير طرفَيْ الجملتين بحرفِ التَّحقيق لزيادة التقرير والتَّأكيدِ أي يقضي بين المؤمنينَ وبين الفرقِ الخمسِ المنفقة على ملَّةِ الكُفرِ بإظهار المحقِّ من المبطل وتوفيةِ كلَ منهما حقَّهُ من الجزاء بإثابة الأوَّلِ وعقاب الثَّاني بحسب استحقاقِ أفراد كلَ منهما وقوله تعالى ﴿إِنَّ الله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ﴾ تعليل لما قبله من الفصل أي عالمٌ بِكُلّ شَيْء من الأشياء ومراقبٌ لأحواله ومن قضيَّتِه الإحاطةُ بتفاصيل ما صدرَ عن كلَّ فردٍ من أفراد الفرق المذكورةِ وإجراءُ جزائه اللاَّئقِ به عليه وقوله تعالى
﴿أَلَمْ تَر أنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن في السماوات وَمَن فِى الأرض﴾ الخ بيان لما يُوجب الفصلَ المذكور من أعمال الفرقِ المذكورةِ مع الإشارةِ إلى كيفيَّتِه وكونه بطريقِ التَّعذيبِ والإثابة والإكرام والإهانة إثرَ بيان ما يُوجبه من كونِه تعالى شهيداً على جميع الأشياء التي من جُملتها أحوالُهم وأفعالُهم والمراد بالرُّؤيةِ العلم عبَّر عنه بها إشعار بظهورِ المعلوم والخطابُ لكلِّ أحدٍ ممَّن يتأتى منه الرُّؤيةُ بناء على أنَّه من الجلاءِ بحيثُ لا يَخْفى على أحدٍ والمرادُ بالسُّجودِ هو الانقيادُ التَّامُّ لتدبيره تعالى بطريق الاستعارةِ المبنية على تشبهه بأكمل أفعالِ المكلَّفِ في باب الطَّاعةِ إيذاناً بكونه في أقصى مراتب التَّسخُّرِ والتَّذلُّلِ لا سجودُ الطَّاعةِ الخاصَّةِ بالعُقلاءِ سواءٌ جُعلتْ كلمةُ من عامةً لغيرهم أيضاً وهو الأنسبُ بالمقام لإفادته شمولَ الحكم لكلِّ ما فيهما بطريقِ القرارِ فيهما أو بطريق الجُزئيَّةِ منهما فيكون قوله تعالى ﴿والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب﴾ إفراداً لها بالذِّكرِ لشُهرتِها واستبعادِ ذلك منها عادة أوجعلت خاصَّةً بالعقلاء لعدم شمول سجود الطَّاعةِ لكلِّهم حسبما ينبيء عنه قوله تعالى ﴿وَكَثِيرٌ مّنَ الناس﴾ فإنَّه مرتفعٌ بفعل مُضمر يدلُّ عليه المذكورُ أي ويسجدُ له كثيرٌ من النَّاسِ سجود
100
سورة الحج (١٩ ٢١) طاعةٍ وعبادةٍ ومن قضيَّتِه انتفاءُ ذلك عن بعضِهم وقيل هو مرفوعٌ على الابتداء حُذف خبرُه ثقةً بدلالة خبر قسيمه عليه نحو حقَّ له الثَّوابُ والأوَّلُ هو الأَولى لما فيه من التَّرغيبِ في السُّجودِ والطَّاعةِ وقد جُوِّز أنْ يكونَ من النَّاسِ خبراً له أي من النَّاسِ الذين هم النَّاسُ على الحقيقةِ وهم الصَّالحون والمتَّقون وأنْ يكون قوله تعالى ﴿وَكَثِيرٌ﴾ معطوفاً على كثيرٌ الأول للإيذانِ بغاية الكثرةِ ثم يخبر عنهم باستحقاقِ العذابِ كأنَّه قيل وكثير وكثيرٌ من النَّاسِ ﴿حَقَّ عَلَيْهِ العذاب﴾ أي بكفرِه واستعصائه وقرئ حُقَّ بالضمِّ وحقًّا أي حقَّ عليه العذابُ حقًّا ﴿وَمَن يُهِنِ الله﴾ بأن كتبَ عليه الشَّقاوةَ حسبما علمه من صرفِ اختياره إلى الشرِّ ﴿فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ﴾ يُكرمه بالسَّعادةِ وقرئ بفتح الراء على أنه مصدرٌ ميميٌّ ﴿إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء﴾ من الأشياء التي من جملنها الإكرامُ والإهانةُ
101
﴿هذان﴾ تعيينٌ لطرفَيْ الخصامِ وإزاحة لما عسى يتبادرُ إلى الوهمِ من كونِه بين كل واحدةٍ من الفرقِ الستِّ وبين البواقي وتحريرٌ لمحلِّه أي فريق المؤمنينَ وفريقُ الكفرة المقسم إلى الفرقِ الخمسِ ﴿خَصْمَانِ﴾ أي فريقانِ مختصمانِ وإنما قيل ﴿اختصموا فِى رَبّهِمْ﴾ حملاً على المعنى أي اختصمُوا في شأنِه عزَّ وجلَّ وقيل في دينه وقيل في ذاته وصفاته والكّل من شئونه تعالى فإنَّ اعتقادَ كلَ من الفريقينِ بحقيَّةِ ما هُو عليه وبُطلانِ ما عليه صاحبُه وبناءَ أقوالِه وأفعالِه عليه خصومةٌ للفريقِ الآخرِ وإنْ لم يجرِ بينهما التَّحاورُ والخصامُ وقيل تخاصمتِ اليَّهودُ والمؤمنونَ فقالتِ اليَّهودُ نحنُ أحقُّ بالله وأقدمُ منكم كتاباً ونبيُّنا قبل نبيِّكم وقال المؤمنون نحنُ أحقُّ بالله منكُم آمنا بمحمد ونبيكم وبما أَنزل الله من كتابٍ وأنتمُ تعرفون كتابَنا ونبيَّنا ثم كفرتُم به حسداً فنزلت ﴿فالذين كَفَرُواْ﴾ تفصيلٍ لَما أُجمل في قوله تعالى يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة ﴿قُطّعَتْ لَهُمْ﴾ أي قُدِّرت على مقاديرِ جثثهم وقرئ بالتَّخفيفِ ﴿ثِيَابٌ مّن نَّارِ﴾ أي نيرانٍ هائلةٍ تحيطُ بهم إحاطةَ الثِّيابِ بلابسِها ﴿يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ الحميم﴾ أي الماءُ الحارُّ الذي انتهتْ حرارتُه قال ابن عباس رضي الله عنهما لو قطرت قطرةٌ منها على جبال الدُّنيا لأذابتَها والجملةُ مستأنفةٌ أو خبرٌ ثانٍ للموصولِ أو حالٌ من ضميرِ لهم
﴿يُصْهَرُ بِهِ﴾ أي يُذاب ﴿مَا فِى بُطُونِهِمْ﴾ من الأمعاء والأحشاء وقرئ يُصهَّر بالتَّشديدِ ﴿والجلود﴾ عطف على مَا وتأخيرُه عنه إمَّا لمراعاة الفواصلِ أو للإشعارِ بغاية شدَّةِ الحرارةِ بإيهامِ أنَّ تأثيرَها في الباطنِ أقدمُ من تأثيرِها في الظَّاهرِ مع أنَّ ملابستَها على العكسِ والجملةُ حالٌ من الحميمُ
﴿وَلَهُمْ﴾ للكفرةِ أي لتعذيبهم وأجلِهم ﴿مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ﴾ جمع مِقْمعةٍ وهي آلةُ القمعِ
﴿كلما أرادوا أن يخرجوا مِنْهَا﴾ أي أشرفُوا على
101
سورة الحج (٢٣ ٢٥) الخروجِ من النَّار ودَنَوا منه حسبما يُروى أنَّها تضربُهم بلهيبها فترفعُهم حتَّى إذا كانُوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهروا فيها سبعينَ خريفاً ﴿مِنْ غَمّ﴾ أي من غمَ شديدٍ من غمومِها وهو بدلُ اشتمالٍ من الهاء بإعادة الجارِّ والرابط محذوفٌ كمَا أُشير إليهِ أو مفعولٌ له للخروج ﴿أُعِيدُواْ فِيهَا﴾ أي في قعرِها بأنْ رُدُّوا من أعاليها إلى أسافلِها من غيرِ أنْ يُخرجوا منها ﴿وَذُوقُواْ﴾ على تقدير قولٍ معطوفٍ على أعيدوا أي وقيل لهم ذُوقُواْ ﴿عَذَابَ الحريق﴾ أي الغليظَ من النَّارِ المنتشر العظيم الإهلاك
102
﴿إِنَّ الله يُدْخِلُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ بيانٌ لحسنِ حالِ المُؤمنين إثرَ بيانُ سوءِ حالِ الكفرةِ وقد غير الأسلوب فيها بإسناد الإدخالِ إلى الله عزَّ وجلَّ وتصديرُ الجملة بحرفِ التَّحقيقِ إيذاناً بكمال مباينةِ حالِهم لحالِ الكفرةِ وإظهاراً لمزيدِ العنايةِ بأمرِ المؤمنين ودلالة على تحقق مضمونِ الكلام ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا﴾ على البناء للمفعولِ بالتَّشديدِ من التحلية وقرئ بالتَّخفيفِ من الإحلاءِ بمعنى الإلباسِ أي يُحلِّيهم الملائكةُ بامره تعالى وقرئ يُحلَّون من حليةِ المرأةِ إذا لبستْ حِليتَها ومِنْ في قولِه تعالَى ﴿من أَسَاوِرَ﴾ إما للتبعيضِ أي بعضِ أساورَ وهي جمع أَسْوِرةٍ جمع سِوارٍ أو للبيانِ لِما أنَّ ذكرَ التحلية مما ينبئ عن الحلى المبهمِ وقيل زائدةٌ وقيل نعتٌ لمفعولٍ محذوفٍ ليحلون فإنَّه بمعنى يلبسون ﴿مّن ذَهَبٍ﴾ بيانٌ للأساورِ ﴿وَلُؤْلُؤاً﴾ عطفٌ على محلِّ من أساورَ أو على المفعولِ المحذوفِ أو منصوبٌ بفعل مضمرٍ يدلُّ عليه يحلون أي يُؤتون وقُرىء بالجرِّ عطفا على أساور وقرئ لؤلؤاً بقلب الهمزة الثَّانيةِ واواً ولولياً بقلبها ياءً بعد قلبهما واواً وليليا بقلبهما ياءً ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ غُيِّر الأسلوبُ حيثُ لم يقُلْ ويلبسون فيها حريراً لكن لا للدِّلالةِ على أنَّ الحريرَ ثيابُهم المعتادة أو لمجرَّدِ المحافظةِ على هيئةِ الفواصلِ بل للإيذانِ بأن ثبوت اللباسِ لهم أمرٌ محققٌ غنيٌّ عن البيان إذ لا يمكن عراؤهم عنْهُ وإنَّما المحتاجُ إلى البيانِ أنَّ لباسَهم ماذا بخلافِ الأساورِ واللؤلؤ فإنَّها ليستْ من اللَّوازمِ الضَّروريَّةِ فجعل بيان تحليتهم بها مقصوداً بالذَّاتِ ولعلَّ هذا هو الباعثُ لى تقديمِ بيانِ التَّحليةِ على بيانِ حالِ اللِّباس
﴿وَهُدُواْ إِلَى الطيب مِنَ القول﴾ وهو قولُهم الحمد لله الذى صدقنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ من الجنة الآيةَ ﴿وَهُدُواْ إلى صراط الحميد﴾ أي المحمودِ نفسُه أو عاقبتُه وهو الجنة ووجه تأخير هذه الهداية عن ذكر الهداية إلى القول المذكور المتأخر عن دخول الجنة المتأخر عن الهداية إلى طريقها لرعاية الفواصل وقيل المراد بالحميد الحق المستحق لذاته لغاية الحمد وهو الله عزَّ وجلَّ وصراطه الإسلام ووجه التَّأخيرِ حينئذٍ أنَّ ذكرَ الحمد يستدعِي ذكرَ المحمودِ
﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾
102
ليس المرادُ به حالاً ولا استقبالاً وإنَّما هو استمرارُ الصَّدِّ ولذلك حسُن عطفُه على الماضي كما في قوله تعالى الذين آمنوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله وقيلَ هُو حالٌ من فاعل كفروا أي وهم يصدُّون وخبر إنَّ محذوفٌ لدلالة آخرِ الآية الكريمة عليه فإنَّ من ألحدَ في الحرمِ حيثُ عُوقب بالعذاب الأليم فلأنْ يُعاقبَ من جمعَ إليه الكفرَ والصد عن سبيل اله بأشدَّ من ذلك أحقُّ وأولى ﴿والمسجد الحرام﴾ عطف على سبيلِ اللَّهِ قيل المرادُ به مكَّةُ بدليل وصفه بقوله تعالى ﴿الذى جعلناه لِلنَّاسِ﴾ أي كائناً من كان من غير فرقٍ بين مكيَ وآفاقيَ ﴿سَوَاء العاكف فِيهِ والباد﴾ أي المقيم والطارئ وسواء أي مستوياً مفعول ثانٍ لجعلناه والعاكفُ مرتفع به واللاَّمُ متعلِّقٌ به ظرفٌ له وفائدةُ وصفِ المسجدِ الحرامِ بذلك زيادةُ تشنيع الصادين عنه وقرئ سواءٌ بالرَّفعِ على أنَّه خبرُ مقدَّمٌ والعاكفُ مبتدأٌ والجملة مفعول ثانٍ للجعل وقرئ العاكفِ بالجرِّ على أنَّه بدلٌ من النَّاسِ ﴿وَمَن يرد فيه﴾ مما ترك مفعولُه ليتناولَ كلَّ متناول كأنه قبل ومن برد فيه مراداً ما ﴿بِإِلْحَادٍ﴾ بعدولٍ عن القصدِ ﴿بِظُلْمٍ﴾ بغير حقَ وهما حالانِ مترادفانِ أو الثَّاني بدلٌ من الأوَّلِ بإعادة الجارِّ أو صلة أي ملحداً بسبب الظُّلمِ كالإشراك واقتراف الآثام ﴿نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ جواب لمن
103
﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا﴾ يقال بوَّأهُ منزلاً أي أنزلَه فيه ولمَّا لزمه جعل الثَّاني مباءة للأول قيل ﴿لإبراهيم مَكَانَ البيت﴾ وعليه مَبْنى قولِ ابن عبَّاسٍ رضيَ اله عنهما جعلناهُ أي اذكر وقتَ جعلنا مكانَ البيت مباءةً له عليه السَّلامُ أي مرجعاً يرجع إليه للعمارةِ والعبادةِ وتوجيه الأمرِ بالذِّكرِ إلى الوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث قد مرَّ بيانُه غيرَ مرَّةٍ وقيل اللاَّمُ زائدةٌ ومكانَ ظرفٌ كما في أصل الاستعمالِ أي أنزلناهُ فيه قيل رفع البيع إلى السَّماءِ أيَّامِ الطُّوفانِ وكان من ياقوتةٍ حمراءَ فأعلم اللَّهُ تعالى إبراهيمَ عليه السَّلامُ مكانَه بريحٍ أرسلها يقال لها الخجوجُ كنست ما حوله فيناه على رأسه القديمِ رُوي أنَّ الكعبةَ الكريمة بُنيت خمس مرَّاتٍ إحداها بناءُ الملائكةِ وكانت من ياقوتةٍ حمراءَ ثمَّ رُفعت أيَّام الطُّوفانِ والثَّانيةُ بناءُ إبراهيمَ عليه السلام والثَّالثة بناءُ قُريشٍ في الجاهليةِ وقد حضر رسولُ الله ﷺ هذا البناءَ والرَّابعةُ بناءُ ابن الزُّبيرِ والخامسةُ بناءُ الحجَّاجِ وقد أوردنا ما في هذا الشَّأنِ من الأقاويل في تفسيرِ قولِه تعالى وَإِذْ يَرْفَعُ إبراهيم القواعد مِنَ البيت وأنْ في قولِه تعالَى ﴿أن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً﴾ مفسِّرةٌ لبوَّأنا من حيث إنَّه متضمِّنٌ لمعنى تعبدنا لأن البوئة للعبادة أو مصدريَّةٌ موصولة بالنَّهي وقد مرَّ تحقيقُه في أوائل سورة هود أي فعلنا ذلك لئلاَّ تشركَ بي في العبادة شيئاً ﴿وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ والقائمين والركع السجود﴾ أي وطهِّرْ بيتي من الأوثانِ والأقذارِ لمن يطوفُ به ويصلِّي فيه ولعلَّ التَّعبيرَ عن الصَّلاةِ بأركانِها للدِلالة على أنَّ كلَّ واحدٍ منها مستقلٌّ باقتضاء ذلك فكيف وقد اجتمعت وقرئ يُشرك بالياء
﴿وَأَذّن فِى الناس﴾ أي ناد فيهم وقرئ آذان ﴿بالحج﴾ بدعوة
103
سورة الحج (٢٨٣٠) الحجِّ والأمر به رُوي أنَّه عليه السلام صعد أبا قبيس فقال يأيها النَّاسُ حجُّوا بيت ربِّكم فأسمعه اللَّهُ تعالى من في أصلاب الرِّجالِ وأرحام النِّساءِ فيما بين المشرقِ والمغربِ ممَّن سبق في علمه تعالى أنْ يحجَّ وقيل الخطابُ لرسولِ الله ﷺ أُمر بذلك في حجَّةِ الوداع ويأباهُ كونُ السُّورةِ مكِّيةً ﴿يَأْتُوكَ﴾ جوابٌ للأمر ﴿رِجَالاً﴾ أي مُشاةً جمع راجلٍ كقيامٍ جمع قائمٍ وقرئ بضمِّ الرَّاءِ وتخفيفِ الجيمِ وتشديدِه ورجالى كعجالى ﴿وعلى كُلّ ضَامِرٍ﴾ عطفٌ على رجالا أي وركبانا على كل بعير مهزولٍ أتعبه بعدُ الشُّقِّةِ فهزله أو زادَ هزالُه ﴿يَأْتِينَ﴾ صفةٌ لضامرٍ محمولة على المعنى وقرئ يأتُون على أنَّه صفةٌ للرِّجالِ والرُّكبانِ أو استئنافٌ فيكون الضَّميرُ للنَّاسِ ﴿مِن كُلّ فَجّ﴾ طريقٍ واسع ﴿عميق﴾ بعيد وقرئ مُعيقٍ يقال بئرٌ بعيدة العُمقِ وبعيدةُ المُعقِ بمعنى كالجَذْبِ والجَبْذِ
104
﴿لّيَشْهَدُواْ﴾ متعلِّقٌ بيأتُوك لا بأذِّنْ أي ليحضرُوا ﴿منافع﴾ عظيمةَ الخطرِ كثيرةَ العددِ أو نوعاً من المنافع الدينيةِ والدنيويةِ المختصَّةِ بهذه العبادة واللاَّمُ في قوله تعالى ﴿لَهُمْ﴾ متعلِّقٌ بمحذوفٍ هو صفةٌ لمنافع أي منافع كائنةً لهم ﴿وَيَذْكُرُواْ اسم الله﴾ عند إعداد الهَدَايا والضَّحايا وذبحها وفي جعله غايةً للإتيانِ إيذانٌ بأنَّه الغاية القصوى دون غيرِه وقيل هو كناية عن الذَّبحِ لأنَّه لا ينفكُّ عنه ﴿فِى أَيَّامٍ معلومات﴾ هي أيَّامُ النَّحرِ كما نيبئ عنه قولُه تعالى ﴿عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام﴾ فإنَّ المراد بالذِّكرِ ما وقع عند الذَّبحِ وقيل هي عشرُ ذي الحجة وقد علِّق الفعلُ بالمرزوقِ وبُيِّنَ بالبهيمة تحريضاً على التَّقرُّبِ وتنبيهاً على الذِّكرِ ﴿فَكُلُواْ مِنْهَا﴾ التفاتٌ إلى الخطاب والفاءُ فصيحةٌ عاطفة لمدخولِها على مقدَّرٍ قد حُذف للإشعار بأنَّه أمرٌ محقَّقٌ غير مُحتاجٍ إلى التَّصريح به كما في قوله تعالى فانفجرت أي فاذكرُوا اسمَ اللَّهِ على ضحاياكم فكلُوا من لحومِها والأمرُ للإباحة وإزاحةِ ما كانت عليه أهلُ الجاهليَّةِ من التَّحرُّجِ فيه أو للنَّدبِ إلى مواساة الفُقراء ومساواتِهم ﴿وَأَطْعِمُواْ البائس﴾ أي الذي أصابه بُؤسٌ وشدَّةٌ ﴿الفقير﴾ المُحتاجَ وهذا الأمرُ للوجوب وقد قيل به في الأوَّلِ أيضاً
﴿ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ﴾ أي ليؤذوا إزالة وَسَخِهم أو ليحكموها بقصِّ الشَّاربِ والأظفارِ ونتفِ الإبْطِ والاستحدادِ عند الإحلال ﴿وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ﴾ ما ينذرون من البِرِّ في حجِّهم وقيل مواجب الحج وقرئ بفتح الواو وتشديدِ الفاءِ ﴿وَلْيَطَّوَّفُواْ﴾ طوافَ الرُّكنِ الذي به يتمُّ التَّحللُ فإنَّه قرينة فضاء التَّفثِ وقيل طواف الوداع ﴿بالبيت العتيق﴾ أي القديمِ فإنَّه أوَّلُ بيت وُضع للنَّاسِ أو المُعتَقِ من تسلُّطِ الجبابرةِ فكأينْ من جبَّارٍ سار إليه ليهدِمه فقصَمه اللَّهُ عزَّ وجلَّ وأما الحجَّاجُ الثَّقفي فإنَّما قصد إخراجَ ابنِ الزُّبيرِ رضي اللَّه عنهما منه لا التَّسلُّطَ عليه
﴿ذلك﴾ أي الأمرُ ذلك وهذا وأمثاله
104
سورة الحج (٣١) يُطلق للفصل بين الكلامينِ أو بين وجهَيْ كلامٍ واحد ﴿وَمَن يُعَظّمْ حرمات الله﴾ أي أحكامَه وسائر مالا يحلُّ هتكُه بالعلم بوجوب مُراعاتها والعملِ بموجبه وقيل الحُرمُ وما يتعلَّق بالحجِّ من التكليف وقيل الكعبةُ والمسجدُ الحرامُ والبلدُ الحرامُ والشَّهرُ الحرامُ ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ﴾ أي فالتَّعظيمُ خير له ثواباً ﴿عِندَ رَبّهِ﴾ أي في الآخرة والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافة إلى ضمير مَن لتشريفه والإشعار بعلَّةِ الحكم ﴿وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام﴾ وهي الأزواجُ الثَّمانيةُ على الإطلاقِ فقوله تعالى ﴿إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ أي إلا ما يتلى عليكم آيةُ تحريمهِ استثناءٌ متَّصلٌ منها على أنَّ مَا عبارةٌ عمَّا حُرِّم منها لعارضٍ كالميتة وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله تعالى والجملةُ اعتراضٌ جيءَ به تقريراً لما قبله من الأمرِ بالأكل والإطعام ودفعاً لما عسى بتوهم أنَّ الإحرامَ يحرِّمُه كما يحرم الصَّيدُ وعدمُ الاكتفاء ببيان عدم كونها من ذلك القبيلِ بحمل الأنعام على ما ذكر من الضَّحايا والهدايا المعهودة خاصَّةً لئلاَّ يحتاج إلى الاستثناء المذكورِ إذ ليس فيها ما حُرِّمَ لعارضٍ قطعاً لمراعاة حسنِ التَّخلصِ إلى ما بعدَهُ من قوله تعالى ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ فإنَّه مترتِّبٌ على ما يُفيده قولُه تعالَى ومن يعظم حرمات الله من وجوب مراعاتها والاجتنابِ عن هتكِها ولمَّا كان بيانُ حلِّ الأنعام من دَوَاعي التَّعاطِي لا مِن مبادئ الاجتنابِ عُقِّب بما يُوجب الاجتنابَ عنه من المحرَّماتِ ثم أمر بالاجتناب عمَّا هو أقصى الحرماتِ كأنَّه قيل ومَن يعظِّم حرماتِ الله فهو خيرٌ له والأنعامُ ليستْ من الحُرُماتِ فإنَّها محلَّلةٌ لكم إلاَّ ما يتلى عليكم آية تحريمه فإنَّه ممَّا يجبُ الاجتنابُ عنه فاجتنبُوا ما هو معظمُ الأمورِ التي يجب الاجتناب عنها وقولُه تعالى ﴿واجتنبوا قَوْلَ الزور﴾ تعميمٌ بعد تخصيصٍ فإنَّ عبادة الأوثان رأس لزور كأنَّه لمَّا حثَّ على تعظيم الحُرمات أتبعَ ذلك ردًّا لما كانت الكفرةُ عليه من تحريم البحائرِ والسَّوائبِ ونحوهِما والافتراءِ على الله تعالى بأنَّه حَكَم بذلك وقيل شهادة الزُّورِ لما روي أنه عليه السلام قالَ عَدلت شهادةُ الزُّورِ الإشراكَ بالله تعالى ثلاثاص وتلا هذه الآية والزُّورُ من الزَّور وهو الانحرافُ كالإفكِ المأخوذِ من الأفْك الذي هو القلبُ والصَّرفُ فإنَّ الكذبَ منحرفٌ مصروفٌ عن الواقعِ وقيل هو قولُ أهلِ الجاهلية في تلبيتهم لبَّيكَ لا شريكَ لكَ إلاَّ شريكٌ هو لك تملكُه وما ملكَ
105
﴿حُنَفَاء للَّهِ﴾ مائلين عن كلِّ دين زائغٍ إلى الدين الحق مخلصين له تعالى ﴿غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ أي شيئاً من الأشياءِ فيدخل في ذلك الأوثانُ دخولاً أوليًّا وهما حالانِ من واو فاجتنبُوا ﴿وَمَن يُشْرِكْ بالله﴾ جملةٌ مبتدأةٌ مؤكدة لما قبلها من الاجتناب عن الإشراك وإظهارُ الاسم الجليل لإظهار حال قُبح الإشراكِ ﴿فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء﴾ لأنَّه مُسْقَط من أوجِ الإيمان إلى حضيض الكفرِ ﴿فَتَخْطَفُهُ الطير﴾ فإنَّ الأهواء المُرديةَ توزِّعُ أفكاره وقرئ فتخَطَّفه بفتح الخاء وتشديد الطَّاءِ وبكسرِ الخاء والطَّاء وبكسر التَّاءِ مع كسرهما وأصلُهما تَخْتطفُه ﴿أَوْ تَهْوِى بِهِ الريح﴾ أي تُسقطه وتقذفُه ﴿فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ بعيدٍ فإنَّ الشَّيطانَ قد طوَّحَ به في الضَّلالةِ
105
سورة الحج (٣٢ ٣٤) وأو للتَّخييرِ كما في أَوْ كَصَيّبٍ أو للتَّنويعِ ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ باب التَّشبيهِ المُركَّبِ فيكون المعنى وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ هلكتْ نفسُه هلاكاً شَبيهاً بهلاكِ أحدِ الهالكينَ
106
﴿ذلك﴾ أي الأمرُ ذلك أو امتثلُوا ذلك ﴿وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله﴾ أي الهَدَايا فإنَّها من معالم الحجِّ وشعائرِه تعالى كما ينبئ عنه والبدن جعلناها لَكُمْ مّن شعائر الله وهو الأوفقُ لما بعده وتعظيمُها اعتقادُ أنَّ التَّقربَ بها من أجلِّ القُرباتِ وأنْ يختارَها حِساناً سِماناً غاليةَ الأثمان روي أنه ﷺ أهدى مائةَ بَدَنةٍ فيها جملٌ لأبي جهلٍ في أنفه بُرَةٌ من ذهبٍ وأن عمر رضي الله عنه أهدى نَجيبةً طُلبتْ منه بثلثمائة دينارٍ ﴿فَإِنَّهَا﴾ أي فإنَّ تعظيمَها ﴿مِن تَقْوَى القلوب﴾ أي من أفعال ذَوي تقوى القلوبِ فحُذفتْ هذه المضافاتُ والعائدُ إلى مَن أو فإن تعظيمها ناشئ من تقوى القلوب وتخصيصُها بالإضافة لأنَّها مراكزُ التَّقوى التي إذا ثبتتْ فيها وتمكَّنتْ ظهر أثرُها في سائر الأعضاءِ
﴿لَكُمْ فِيهَا﴾ أي في الهَدَايا ﴿منافع﴾ هي درُّها ونسلُها وصوفُها وظهرُها ﴿إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ هو وقت نحرِها والتَّصدُّقُ بلحمها والأكلُ منه ﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا﴾ أي وجوبُ نحرِها أو وقت نحرِها منتهيةً ﴿إلى البيت العتيق﴾ أي إلى ما يليهِ من الحرمِ وثمَّ للتَّراخي الزَّمانيِّ أو الرُّتَبِّي أي لكم فيها منافعُ دنيويَّةٌ إلى وقتِ نحرِها ثمَّ منافعُ دينيَّةٌ أعظمها في النَّفعِ محلُّها أي وجوبُ نحرِها أو وقت وجوبِ نحرِها إلى البيتِ العتيقِ أي منتهيةً إليه هذا وقد قيل المرادُ بالشَّعائرِ مناسكُ الحجِّ ومعالمُه والمعنى لكُم فيها منافعُ بالأجر والثَّوابِ في قضاءِ المناسكِ وإقامةِ شعائرِ الحجَّ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى هو انقضاءُ أيَّامِ الحجِّ ثمَّ محلُّها أي محلُّ النَّاسِ من إحرامهم إلى البيتِ العتيقِ أي منتهٍ إليه بأن يطوفُوا به طوافَ الزِّيارةِ يومَ النَّحرِ بعد قضاء المناسكِ فإضافةُ المحلِّ إليها لأدنى ملابسةٍ
﴿وَلِكُلّ أُمَّةٍ﴾ أي لكلِّ أهلِ دينٍ ﴿جَعَلْنَا مَنسَكًا﴾ أي مُتعبَّداً وقُرباناً يتقرَّبون به إلى الله عزَّ وجلَّ وقرئ بكسر السِّين أي موضعُ نُسُكٍ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على الفعل للتَّخصيص أي لكل أمة من الأمم جعلنا منسكاً لا لبعضٍ دونَ بعضٍ ﴿لّيَذْكُرُواْ اسم الله﴾ خاصَّةً دون غيرِه ويجعلُوا نسيكتهم لوجهه الكريمِ عُلِّل الجعلُ به تنبيهاً على أنَّ المقصودَ الأصليَّ من المناسكِ تذكُّرُ المعبودِ ﴿على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام﴾ عند ذبحِها وفيه تنبيه على أن القُربان يجبُ أنْ يكونَ من الأنعام والخطابُ في قولِه تعالَى ﴿فإلهكم إله واحد﴾ للكلِّ تغليباً والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلَها فإنَّ جعلَه تعالى لكل أمة من الأُمم مَنْسكاً ممَّا يدلُّ على وحدانيَّته تعالى وإنَّما قيل إله واحدٌ ولم يُقل واحدٌ لما أنَّ المرادَ بيانُ أنَّه تعالى واحدُ في ذاتهِ كما أنَّه واحدٌ في إلهيته للكلِّ والفاءُ في قوله تعالى ﴿فَلَهُ أَسْلِمُواْ﴾ لترتيب ما بعَدَها منَ الأمر بالإسلام على وحدانيَّتهِ تعالى وتقديم الجار والمجرور على الأمر
106
سورة الحج (٣٥٣٧) للقصر أي فإذا كان إلهكم إلها واحداً فأخلصوا له التَّقرُّبَ أو الذِّكرَ واجعلُوه لوجههِ خاصَّةً ولا تشوبُوه بالشِّرك ﴿وَبَشّرِ المخبتين﴾ تجريد للخطاب إلى رسول الله ﷺ أي المُتواضعينَ أو المُخلِصين فإنَّ الإخباتَ من الوظائف الخاصَّةِ بهم
107
﴿الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ منه تعالى لإشراق أشعةِ جلاله عليها ﴿والصابرين على مَا أَصَابَهُمْ﴾ من مشاقِّ التَّكاليفِ ومُؤناتِ النَّوائبِ ﴿والمقيمى الصلاة﴾ في أوقاتها وقرئ بنصب الصَّلاةِ على تقدير النون وقرئ والمقيمينَ الصَّلاةَ على الأصلِ ﴿وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ﴾ في وجوه الخيراتِ
﴿والبدن﴾ بضمِّ الباءِ وسكون الدال وقرئ بضمِّها وهُما جَمْعا بَدَنةٍ وقيل الأصلُ ضمُّ الدَّالِ كخُشُبٍ وخَشَبةٍ والتَّسكينُ تخفيفٌ منه وقرئ بتشديدِ النُّونِ على لفظِ الوقفِ وإنَّما سُمِّيتْ بها الإبلُ لعظمِ بَدَنِها مأخوذةٌ من بدن بداية وحيثُ شاركها البقرةُ في الإجزاءِ عن سبعةٍ بقوله ﷺ البُدْنةُ عن سبعةٍ والبقرةُ عن سبعةٍ جُعلا في الشَّريعةِ جنساً واحداً وانتصابُه بمضمرٍ يفسِّرهُ ﴿جعلناها لَكُمْ﴾ وقرئ بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ والجملةُ خبرُهُ وقولُه تعالى ﴿مِن شَعَائِرِ الله﴾ أي من أعلامِ دينهِ التي شرعها اللَّهُ تعالى مفعولٌ ثانٍ للجعل ولكُم ظرفٌ لغوٌ متعلقٌ به وقولُه تعالى ﴿لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾ أي منافعُ دينيَّةٌ ودنيويَّةٌ جملةٌ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلها ﴿فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا﴾ بأنْ تقولُوا عند ذبحِها اللَّهُ أكبرُ لا إله إلا الله والله أكبرُ اللهمَّ منكَ وإليكَ ﴿صَوَافَّ﴾ أي قائماتٍ قد صففن أيديهن وأرجلهن وقرئ صَوَافنَ من صَفن الفرسُ إذا قام على ثلاثٍ وعلى طرفِ سُنْبكِ الرَّابعةِ لأنَّ البدنةَ تُعقل إحدى يديها فتقومُ على ثلاثٍ وقرئ صوافا بإبدالِ التَّنوينِ من حرفِ الإطلاق عند الوقف وقرئ صَوَافى أي خَوَالصَ لوجهِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ وصَوَافْ على لغة مَن يُسكِّنُ الياءَ على الإطلاق كما في قوله
لعلِّي أرى باق على الحدثان
﴿فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا﴾ سقطتْ على الأرضِ وهو كنايةٌ عن الموت ﴿فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع﴾ الرَّاضيَ بما عنده وبما يعطى من غير مسئلة ويؤيده أنه قرئ القنع أو السَّائلَ من قَنع إليه قُنوعاً إذا خضعَ له في السُّؤالِ ﴿والمعتر﴾ أي المتعرِّضَ للسُّؤالِ وقرئ المُعتري يقال عَرّهُ وعَرَاهُ واعترَّهُ واعتراهُ ﴿كذلك﴾ مثلَ ذلك التَّسخيرِ البديعِ المفهومِ من قولِه تعالى صواف ﴿سخرناها لَكُمْ﴾ مع كمالِ عظمِها ونهايةِ قوَّتِها فلا تستعصي عليكم حتَّى تأخذوها منقادة فتقلونها وتحبسونها صافَّة قوائمها ثم تطعنونَ في لبَّاتِها ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ لتشكرُوا إنعامَنا عليكم بالتَّقرُّب والإخلاصِ
﴿لَن يَنَالَ الله﴾ أي لن يبلغَ مرضاتَهُ ولن يقعَ منه موقعَ القَبُولِ ﴿لحومها﴾
107
سورة الحج (٣٨٣٩) المُتصدَّقُ بها ﴿وَلاَ دِمَاؤُهَا﴾ المُهَراقةُ بالنَّحر من حيثُ إنَّها لحومٌ ودماءٌ ﴿ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ﴾ ولكن يُصيبه تقوى قلوبِكم التي تدعُوكم إلى الامتثال بأمره تعالى وتعظيمه والتَّقرُّبِ إليه والإخلاصِ له وقيل كانَ أهلُ الجاهليةِ يُلطِّخون الكعبةَ بدماءِ قَرَابينهم فهمَّ به المُسلمون فنزلتْ ﴿كذلك سَخَّرَهَا لكم﴾ تكرير للتذكر والتَّعليلِ بقوله تعالى ﴿لِتُكَبّرُواْ الله﴾ أي لتعرفُوا عظمتَه باقتداره على ما لا يقدِرُ عليه غيرُه فتوحِّدُوه بالكبرياءِ وقيل هو التَّكبيرُ عند الإحلالِ أو الذَّبحِ ﴿على مَا هَدَاكُمْ﴾ أي أرشدَكُم إلى طريق تسخيرِها وكيفيَّة التَّقرُّبِ بها وما مصدريةٌ أو موصولةٌ أي على هدايتِه أيَّاكم أو على ما هَدَاكُم إليه وعلى متعلِّقةٌ بتكبِّروا لتضمُّنهِ معنى الشُّكرِ ﴿وَبَشّرِ المحسنين﴾ أي المُخلصين في كلِّ ما يأنون وما يذرُون في أمورِ دينهم
108
﴿إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا﴾ كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لتوطينِ قلوبِ المُؤمنين ببيانِ أنَّ الله تعالى ناصرُهم على أعدائِهم بحيثُ لا يقدرُون على صدِّهم عن الحجِّ ليتفرَّغُوا إلى أداءِ مناسكِه وتصديرُه بكلمةِ التَّحقيقِ لإبرازِ الاعتناءِ التَّامِّ بمضمونهِ وصيغةُ المفاعلةِ إمَّا للمبالغةِ أو الدلالة على تكرُّرِ الدَّفعِ فإنَّها قد تُجرَّدُ عن وقوعِ الفعلِ المتكرِّرِ من الجانبينِ فيبقى تكرُّره كما في الممارسةِ أي يبالغ في دفع غائلة المشكرين وضررِهم الذي من جُملته الصدُ عَن سَبِيلِ الله مبالغةً من يغالب فيه أو يدفعها عنهم مرَّةً بعد أُخرى حسبما تجدَّدَ منهم القصدُ إلى الإضرارِ بالمسلمينَ كما في قولِه تعالى كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أطفأها الله وقرئ يدفعُ والمفعولُ محذوفٌ وقوله تعالى ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ تعليلٌ لما في ضمن الوعدِ الكريمِ من الوعيد للمشركينَ وإيذانٌ بأنَّ دفعهم بطريقِ القهرِ والخِزْيِ ونفيُ المحبةِ كنايةٌ عن البُغضِ أي أنَّ اللَّهَ يُبغضُ كلَّ خَوَّانٍ في أماناته تعالى وهي أوامرُه ونواهيه أو في جميعِ الأماناتِ التي هي معظمُها كفورٌ لنعمته وصيغةُ المُبالغةِ فيهما لبيان أنَّهم كذلك لا لتقييدِ البُغضِ بغايةِ الخيانةِ والكفرِ أو للمبالغةِ في نفيِ المحبَّةِ على اعتبارِ النفي أو لا وإيراد معنى المبالغةِ ثانياً
﴿أذن﴾ أي رخص وقرئ على البناء للفاعل أي أَذِن اللَّهُ تعالى ﴿لِلَّذِينَ يقاتلون﴾ أي يُقاتلهم المشركون والمأذونُ فيه محذوفٌ لدلالة المذكورِ عليه فإنَّ مقاتلة المشكرين إيَّاهُم دالَّةٌ على مقاتلتهم إياهم دلالة نيرة وقرئ على صيغة المبنيِّ للفاعلِ أي يُريدون أنْ يُقاتلوا المشكرين فيما سيأتي ويَحرصون عليه فدلالتُه على المحذوفِ أظهرُ ﴿بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ﴾ أي بسبب أنَّهم ظُلموا وهم أصحابُ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ورضي عنهم كان المشكون يؤذونهم وكانوا يأتونه ﷺ بين مضروبٍ ومَشْجُوجٍ ويتظلَّمون إليه فيقول ﷺ لم اصبرُوا فإنِّي لم أُومر بالقتالِ حتَّى هاجرُوا فأُنزلتْ وهي أوَّلُ آيةٍ نزلتْ في القتالِ بعد ما نُهيَ عنه في نَيِّفٍ وسبعينَ آيةً ﴿وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ وعدٌ لهم بالنَّصرِ وتأكيدٌ لما مرَّ من العدةِ الكريمةِ بالدَّفعِ وتصريحٌ بأنَّ المرادَ به ليسَ مجرَّدَ تخليصهم من أيدي المشركين بلْ تغليبهم وإظهارَهم عليهم والإخبارُ بقُدرتهِ تعالى على نصرِهم واردٌ على سَننِ الكبرياءِ وتأكيدُه بكلمة التَّحقيقِ واللاَّمِ للمزيد تحقيقِ مضمونِه وزيادةِ توطينِ نفوس المؤمنين
108
سورة الحج (٤٠ ٤١) وقولُه تعالى
109
﴿الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن ديارهم﴾ في حيِّز الجرِّ على أنه صفة للموصولِ الأوَّلِ أو بيانٌ له أو بدلٌ منه أو في محلِّ النصبِ على المدحِ أو في محلِّ الرَّفعِ بإضمارِ مبتدأ والجملةُ مرفوعةً على المدح والمرادُ بديارِهم مكَّةُ المعظَّمةُ ﴿بِغَيْرِ حَقّ﴾ متعلِّقٌ بأُخرجوا أي أُخرجوا بغير ما يُوجب إخراجَهم وقوله تعالى ﴿إَّلا أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله﴾ بدلٌ من حقَ أي بغير موجبٍ سوى التَّوحيدِ الذي ينبغي أنْ يكون مُوجباً للإقرارِ والتَّمكينِ دون الإخراجِ والتَّسيير لكن لا على الظَّاهر بل على طريقة قولِ النَّابغةِ [ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفَهم بهن فُلولٌ من قراع الكتائب] وقي الاستثناءُ منقطعٌ ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ﴾ بتسليط المؤمنين على الكفارين في كلِّ عصرٍ وزمانٍ وقرئ دفاع ﴿لهدمت﴾ لخربت ابتسيلاء المشكرين على أهل الملل وقرئ هُدِمت بالتَّخفيفِ ﴿صوامع﴾ للرَّهابنةِ ﴿وَبِيَعٌ﴾ للنَّصارى ﴿وصلوات﴾ أي وكنائسُ لليهودِ سُمِّيتْ بها لأنَّها يُصلَّى فيها وقيل أصلها صلوتا بالعبريَّةِ فعُرِّبتْ ﴿ومساجد﴾ للمسلمين ﴿يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً﴾ أي ذكراً كثيراً أو وقتاً كثيرا صفةٌ مادحة للمساجدِ خُصَّت بها دلالةً على فضلها وفضلِ أهلها وقيل صفةٌ للأربعِ وليس كذلك فإنَّ بيان ذكرِ الله عزَّ وجلَّ في الصَّوامعِ والبيعِ والكنائسِ بعد انتساخِ شرعيَّتها ممَّا لا يقتضيه المقامُ ولا يرتضيه الأفهامُ ﴿وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ﴾ أي وبالله ينصرن اللَّهُ من ينصر أولياءَهُ أو من ينصر دينَه ولقد أنجزَ اللَّهُ عزَّ سلطانُه وعدَهُ حيث سلَّطَ المهاجرين والأنصارَ على صناديدِ العربِ وأكاسرةِ العجمِ وقياصرةِ الرُّوم وأورثهم أرضَهم وديارَهم ﴿إِنَّ الله لَقَوِىٌّ﴾ على كل ما يريده من مراداتهِ التي من جُملتها نصرُهم ﴿عَزِيزٌ﴾ لا يُمانعه شيءٌ ولا يُدافعه
﴿الذين إِنْ مكناهم فِى الارض أَقَامُواْ الصلاة وَاتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر﴾ وصفٌ من الله عزَّ وجلَّ للذين أُخرجوا من ديارِهم بما سيكون منهم من حسن السِّيرةِ عند تمكينه تعالى إيَّاهُم في الأرض وإعطائه إيَّاهم زمام الأحكام منيء عن عِدَّةٍ كريمة على أبلغ وجهٍ وألطفِه وعن عثمانُ رضيَ الله عنْهُ هذا واللَّهِ ثناءٌ قبل بلاءٍ يُريد أنَّه تعالى أثنى عليهم قبلَ أنْ يُحدثوا من الخيرِ ما أحدثوا قالُوا وفيه دليلٌ على صحَّة أمر الخلفاءِ الرَّاشدينَ لأنَّه تعالى لم يعطِ التَّمكينَ ونفاذَ الأمرِ مع السِّيرةِ العادلةِ غيرهم من المهاجرين لاحظ في ذلك للأنصارِ والطُّلقاءِ وعنِ الحسنِ رحمَهُ الله هم أمة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وقيل الذينَ بدلٌ من قولهِ مَنْ ينصرُه ﴿وَللَّهِ﴾ خاصَّةً ﴿عاقبة الأمور﴾ فإنَّ مراجعها إلى حُكمهِ وتقديره فقط وفيه تأكيدٌ للوعد بإظهار أوليائه وإعلاء كلمته
109
سورة الحج (٤٢٤٥)
110
﴿وإن يكذبوك فقد كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ تسليةٌ لرسول الله ﷺ متضمِّنةٌ للوعدِ الكريمِ بإهلاكِ مَن يُعاديه من الكفَرَةِ وتعيينٌ لكيفيَّةِ نصرِه تعالى له الموعودِ بقوله تعالى وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ وبيان لرجوع عاقبة لأمور إليه تعالى وصيغةُ المضارع في الشَّرطِ مع تحقُّقِ التَّكذيبِ لما أنَّ المقصودَ تسليته ﷺ عمَّا يترتَّبُ على التَّكذيبِ من الحزن المتوقَّعِ أي وإنْ تحزنْ على تكذيبِهم إيَّاك فاعلم أنَّك لست بأوحدى في ذلك فق كذبت قبل تذكيب قومِك إيَّاك قَوْمِ نُوحٍ
﴿وَعَادٍ وَثَمُودَ﴾ ﴿وَقَوْمِ إبراهيم وَقَوْمُ لُوطٍ﴾
﴿وأصحاب مَدْيَنَ﴾ أي رُسُلَهم ممَّن ذُكر ومَن لم يُذكر وإنَّما حُذف لكمال ظهور المرادِ أو لأنَّ المرادَ نفسُ الفعل أي فعلتْ التَّكذيبَ قومُ نوحٍ إلى آخره ﴿وَكُذّبَ موسى﴾ غُيِّر النَّظمُ الكريم بذكرِ المفعولِ وبناء الفعل له لا لأنَّ قومَه بنوُ إسرائيل وهم لم يكذِّبوه وإنَّما كذَّبه القِبْطُ لما أنَّ ذلك إنَّما يقتضي عدمَ ذكرِهم بعُنوان كونِهم قومَ مُوسى لا بعنوانٍ آخرَ على أنَّ بني إسرائيلَ أيضاً قد كذَّبوه مرَّةً بعد أُخرى حسبما ينطِق به قوله تعالى لن نؤمن لك حتى نَرَى الله جَهْرَةً ونحو ذلك من اآيات الكريمة بل للإيذانِ بأنَّ تكذيبَهم له كان في غاية الشَّناعةِ لكون آياتِه في كمال الوضوحِ وقوله تعالى ﴿فَأمْلَيْتُ للكافرين﴾ أي أمهلتهم حتَّى انصرمتْ حبالُ آجالِهم والفاءُ لترتيبِ إمهالِ كل فريق من فرق المكذِّبينَ على تكذيب ذلك الفريقِ لا لترتيب إمهال الكلِّ على تكذيب الكلِّ ووضعُ الظاهر موضعَ الضمير العائد إلى المكذِّبين لذمِّهم بالكفرِ والتَّصريحِ بمكذبِي موسى عليه السلام حيث لم يذكروا فيما قبل صَريحاً ﴿ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ﴾ أي أخذتُ كل فريق من فرق المكذِّبين بعد انقضاء مدَّةِ إملائِه وإمهالِه ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ أي إنكارِي عليهم بالإهلاك أي فكان ذلك في غايةِ ما يكونُ من الهول والفظاعة وقوله تعالى
﴿فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ﴾ منصوبٌ بمضمر يفسره قوله تعالى ﴿أهلكناها﴾ أي فأهلكنا كثيراً من القُرى بإهلاك أهلهِا والجملةُ بدلٌ من قوله تعالى فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ أو مرفوعٌ على الابتداءِ وأهلكنا خبرُهُ أي فكثيرٌ من القرى أهلكناها وقرئ أهلكتُها على وفق قوله تعالى فَأمْلَيْتُ للكافرين ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴿وهى ظالمة﴾ جملة حالية من مفعول أهلكنا وقوله تعالى ﴿فَهِىَ خَاوِيَةٌ﴾ عطفٌ على أهلكناها لأعلى وهي ظالمةٌ لأنَّها حالٌ والإهلاك ليس في حالِ خواتها فعلى الأوَّلِ لا محلَّ له من الإعرابِ كالمعطوف عليه وعلى الثَّاني في محلِّ الرَّفعِ لعطفه على الخبرِ والخَوَاءُ إمَّا بمعنى السُّقوطِ من خَوَى النَّجمُ إذا سقطَ فالمعنى فهي ساقطةٌ حيطانها
110
سورة الحج (٤٦ ٤٧) ﴿على عُرُوشِهَا﴾ أي سُقوفِها بأنْ تعطَّل بنيانُها فخرَّتْ سقوفُها ثم تهدَّمتْ حيطانُها فسقطتْ فوق السُّقوفِ وإسنادُ السُّقوطِ على العُروش إليها لتنزيلِ الحيطانِ منزلةَ كلِّ البنيانِ لكونها عمدةً فيه وإمَّا بمعنى الخُلوِّ من خَوَى المنزلُ إذا خَلاَ من أهله فالمعنى فهي خالية مع بقاء عروشها وسلامتها فتكونُ على بمعنى مع ويجوز أن يكونَ عَلَى عُروشها خبراً بعد خبرٍ أي فهي خالية وهي على عُروشها أي قائمةٌ مشرفةٌ على عروشِها على معنى أنَّ السُّقوفَ سقطتْ إلى الأرضِ وبقيتْ الحيطانُ قائمةً فهي مشرفة على السُّقوفِ السَّاقطةِ وإسنادُ الإشرافِ إلى الكلِّ مع كونِه حال الحيطانِ لما مرَّ آنِفاً ﴿وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ﴾ عطفٌ على قريةٍ أي وكم بئر عارة في البوادي تُركت لا يُستقى منها لهلاكِ أهلِها وقرئ بالتَّخفيفِ من أعطلَه بمعنى عطَّله ﴿وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ﴾ مرفوعِ البنيانِ أو مجصَّصٍ أخليناهُ عن ساكنيهِ وهذا يؤيِّد كونَ معنى خاويةٌ على عروشِها خاليةً مع بقاء عروشِها وقيل المراد بالبئرِ بئرٌ بسفحِ جبلٍ بحضْرَمَوت وبالقصرِ قصرٌ مشرفٌ على قُلَّتهِ كانا لقومِ حنظلةَ بنِ صفوانَ من بقايا قومِ صالحٍ فلما قتلُوه أهلكَهم الله تعالى وعطَّلهما
111
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض﴾ حثٌّ لهم أن يُسافروا ليرَوا مصارع المهلَكين فيعتبروا وهمُ وإنْ كانُوا قد سافروا فيها ولكنَّهم حيث لم يُسافروا للاعتبارِ جُعلوا غيرَ مسافرين فحثُّوا على ذلك والفاءُ لعطفِ ما بعدها على مقدَّرٍ يقتضيه المقام أي أغفِلُوا فلم يسيروا فيها ﴿فَتَكُونَ لَهُمْ﴾ بسبب ما شاهدُوه من موادِّ الاعتبار ومظانِّ الاستبصار ﴿قُلُوبٌ يعقلون بِهَا﴾ ما يجبُ أنْ يعقل من التوحيد ﴿أو آذان يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ ما يجبُ أنْ يُسمع من الوحيِ أو من أخبارِ الأُممِ المُهلَكة ممَّن يُجاورهم من النَّاسِ فإنَّهم أعرف منهم بحالِهم ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار﴾ الضَّميرُ للقصَّةِ أو مبهمٌ يفسِّرُه الأبصارُ وفي تعمى ضمير راجعٌ إليه وقد أقيم الظَّاهرُ مُقامَه ﴿ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور﴾ أي ليس الخلل في مشارهم وإنَّما هو في عقولِهم باتِّباع الهَوَى والانهماكِ في الغَفْلةِ وذكر الصُّدورِ للتَّأكيدِ ونفيِ تَوهُّمِ التَّجوزِ وفضل التَّنبيه على أنَّ العَمَى الحقيقيَّ ليس المتعارف الذي يختصُّ بالبصر قيل لمَّا نزل قوله تعالى وَمَن كَانَ فِى هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى قال ابنُ أُمِّ مكتومٍ يا رسولَ الله أنا في الدُّنيا أعمى أفأكونُ في الآخرةِ أعمى فنزلت
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب﴾ كانوا منكرين لمجئ العذابِ المتوعَّدِ به أشدَّ الإنكارِ وإنَّما كانوا يستعجلون به استهزاءً برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم وتعجيزاً له على زعمِهم فحَكَى عنهم ذلك بطريقِ التَّخطئةِ والاستنكارِ فقوله تعالى ﴿وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ﴾ إما جملة حالية جئ بها لبيانِ بُطلانِ إنكارِهم لمجيئه في ضمن استعجالِهم به وإظهار خطئِهم فيه كأنَّه قيل كيف يُنكرون مجئ العذابِ الموعود والحالُ أنَّه تعالى لا يُخلف وعدَه أبداً وقد سبق الوعدُ فلابد من مجيئِه حتماً أو اعتراضية مبينة لمَا ذُكر وقولُه تعالى ﴿وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كألف سنة مما تعدون﴾ جملة مستأنفة إنْ كانت الأُولى حاليَّةً ومعطوفةٌ عليها إنْ كانتْ اعتراضيةً سيقت لبيان
111
سورة الحج (٤٨ ٤٩) خطئِهم في الاستعجال المذكورِ ببيان كمال سَعةِ ساحةِ حلمه تعالى ووقاره وإظهار غاية ضيق عطهم المستنبع لكون المُدَّة القصيرةِ عنده تعالى مُدداً طوالاً عندهم حسبما ينطِق به قوله تعالَى إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً ولذلك يرَون مجيئَه بعيداً ويتَّخذونه ذريعةً إلى إنكاره ويجترئون على الاستعجالِ به ولا يدرون أنَّ معيار تقدير الأمور كلِّها وقوعاً وأخباراً ما عنده تعالى من المقدار وقراءة يعدّون على صيغة الغَيبة أي يعده المستعجلون أوفقُ لهذا المعنى وقد جعل الخطابُ في القراءةِ المشهورة لهم أيضاً بطريقِ الالتفاف لكن الظَّاهرُ أنَّه للرسولِ ﷺ وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنينَ وقيل المرادُ بوعدِه تعالى ما جعل لهلاك كلِّ أُمَّةٍ من موعد معيَّنٍ وأجل مسمَّى كما في قوله تعالى وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءهُمُ العذاب فتكون الجملةُ الأُولى حالية كانتْ أو اعتراضيةً مبيِّنة لبطلانِ الاستعجالِ به ببيان استحالةِ مجيئِه قبل وقته الموعود والجملةُ الأخيرةُ بياناً لبطلانه ببيانِ ابتناء على استطالةِ ما هو قصير عنده تعالى على الوجه الذي مر بيانه فلا يكون في النَّظمِ الكريمِ حينئذٍ تعرُّضٌ لإنكارِهم الذي دسُّوه تحت الاستعجال بل يكون الجوابُ مبنيًّا على ظاهر مقالِهم ويكتفى في ردِّ إنكارِهم ببيان عاقبةِ من قبلهم من أمثالِهم هذا وحملُ المستعجَلِ به على عذاب الآخرة وجعلُ اليَّومِ عبارةً عن يوم العذابِ المستطال لشدَّتِه أو عن أيام الآخرةِ الطَّويلةِ حقيقةً أو المُستطالة لشدَّةِ عذابها ممَّا لا يُساعده سباقُ النظمِ الجليلِ ولا سياقُه فإنَّ كُلاًّ منهما ناطقٌ بأنَّ المرادَ هو العذابُ الدُّنيويُّ وأن الزَّمانَ الممتدُّ هو الذي مرَّ عليهم قبل حلولِه بطريق الإملاء والإمهال لا الزَّمانُ المقارن له ألا يُرى إلى قوله تعالى
112
﴿وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ﴾ الخ فإنه كما سلف من قوله تعالى فَأمْلَيْتُ للكافرين ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ صريحٌ في أنَّ المرادَ هو الأخذُ العاجلُ الشَّديدُ بعد الإملاء المديدِ أي وكم منْ أهلِ قريةٍ فحُذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مقامه في الإعرابِ ورجع الضَّمائرِ والأحكامِ مبالغةً في التَّعميمِ والتَّهويلِ ﴿أَمْلَيْتُ لَهَا﴾ كما أمليتُ لهؤلاء حتَّى أنكرُوا مجئ ما وُعدوا من العذابِ واستعجلُوا به استهزاءً برسلِهم كما فعل هؤلاء ﴿وهى ظالمة﴾ جملة حالية مفيدةٌ لكمال حلمِه تعالى ومشعرةٌ بطريق التَّعريضِ بظلم المستعجلينَ أي أمليتُ لها والحالُ أنَّها ظالمةٌ مستوجِبةٌ لتعجيل العقوبةِ كدأبِ هؤلاءِ ﴿ثُمَّ أَخَذْتُهَا﴾ بالعذاب والنَّكالِ بعد طول الإملاءِ والإمهالِ وقولُه تعالى ﴿وَإِلَىَّ المصير﴾ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبله ومصرِّحٌ بما أفاده ذلك بطريقِ التَّعريضِ من أنَّ مالَ أمر المُستعجلين أيضاً ما ذُكر من الأخذِ الوبيلِ أي إلى حُكمي مرجعُ الكُلِّ جميعاً لا إلى أحدٍ غيري لا استقلالاً ولا شركة فأفعل بهم ما أفعل ممَّا يليقُ بأعمالِهم
﴿قل يَا أيُّها الناسُ إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أنذركم إنذاراً بيِّناً بما أُوحي من أنباء الأمم المهلكة من غير أن يكون لي دخل في إتيانِ ما تُوعدونه من العذاب حتَّى تستعجلوني به والاقتصارُ على الإنذارِ مع بيان حالِ الفريقين بعدَه لما أُشير إليه من أنَّ مساقَ الحديث للمشركين وعقابِهم وإنَّما ذُكر المؤمنون وثوابُهم زيادةً في غيظهم
112
سورة الحج (٥٠ ٥٢)
113
﴿فالذين آمنوا وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ﴾ لما ندرَ منهم من الذُّنوبِ ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ هي الجنَّةُ والكريمُ من كلِّ نوع ما يجمع فصائله ويجوز كما لأنه
﴿والذين سعوا في آياتنا معاجزين﴾ أي سابقين أو مُسابقين في زعمِهم وتقديرهم طامعين أنَّ كيدَهم للإسلام يتمُّ لهم وأصلُه من عاجزَهُ وعجزَه فأعجزَه إذا سابقَه فسبقَه لأنَّ كُلاًّ من المتسابقينَ يريدُ إعجازَ الآخرِ عن اللَّحاق بهِ وقرئ مُعجزين أي مُثبِّطينَ النَّاسَ عن الإيمان على أنَّه حالٌ مقدرةٌ ﴿أولئك﴾ الموصوفون بما ذُكر من السَّعيِ والمُعاجزة ﴿أصحاب الجحيم﴾ أي ملازمو النَّارَ المُوقدةِ وقيل هو اسم دَرْكةٍ من دَرَكاتِها
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ﴾ الرَّسولُ من بعثه الله تعالى بشريعةٍ جديدةٍ يدعُو النَّاسَ إليها والنَّبيُّ يعمُّه ومَن بعثه لتقريرِ شريعةٍ سابقةٍ كأنبياءِ بني إسرائيلَ الذين كانُوا بين موسى وعِيْسَى عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ ولذلك شبه ﷺ علماءَ أُمَّتِه بهم فالنَّبيُّ أعم من الرسول الله ﷺ ويدل عليه أنه ﷺ سُئل عن الأنبياءِ فقال مائةُ ألفٍ وأربعةٌ وعشرونَ ألفا قيل فكم الرسل منهم فقال ثلثمائة وثلاثة عشر جماء غفيراً وقيل الرَّسولُ من جمعَ إلى المعجزةِ كتاباً منزَّلاً عليه والنَّبيُّ غيرُ الرَّسولِ من لا كتابَ له وقيل الرَّسولُ من يأتيهِ المَلَكُ بالوحيِ والنَّبيُّ يقال لَه ولمن يُوحى إليهِ في المنامِ ﴿إِلاَّ إِذَا تمنى﴾ أي هيَّأ في نفسِه ما يهواه ﴿أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ﴾ في تشهِّيه ما يُوجب اشتغاله بالدنيا كماقال ﷺ وإنَّه ليُغانُ على قَلبي فأستغفرُ الله في اليَّومِ سعين مَرَّة ﴿فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان﴾ فيُبطله ويذهبُ به بعصمتِه عن الرُّكونِ إليه وإرشادِه إلى ما يُزيحه ﴿ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياته﴾ أي يُثبت آياتِه الدَّاعية إلى الاستغراق في شئون الحقِّ وصيغةُ المضارعِ في الفعلينِ للدِّلالةِ على الاستمرار التَّجدُّدي وإظهارُ الجلالةِ في موقعِ الإضمار لزيادة التقرير والإيذانِ بأنَّ الأُلوهيَّةَ من موجباتِ أحكامِ آياتِه الباهرةِ ﴿والله عَلِيمٌ﴾ مبالِغٌ في العلمِ بكلِّ ما مِن شأنِه أنْ يُعلم ومن جُملتِه ما صدرَ عن العباد من قول وفصل عمداً أو خطأ ﴿حَكِيمٌ﴾ في كلِّ ما يفعلُ والإظهار ههنا أيضا لما كر مع ما فيه من تأكيد استقلال الاعتراض التذييلي قيل حدَّث نفسَه بزوال المسكنةِ فنزلتْ وقيل تمنَّى لحرصِه على إيمان قومِه أنْ ينزل عليه ما يُقرِّبهم إليه واستمرَّ به ذلك حتَّى كان في ناديهم فنزلتْ عليه سورةُ النَّجم فأخذَ يقرؤها فلمَّا بلغَ ومناةَ الثَّالثةَ الأُخرى وسوسَ إليه الشَّيطانُ حتَّى سبق لسانُه سهواً إلى أنْ قال تلكَ الغرانيقُ العُلا وإنَّ شفاعتهنَّ لتُرتجى ففرح به المشركون حتَّى شايعُوه بالسُّجودِ لمَّا سجدَ في آخرِها بحيث لم يبْقَ في المسجد مؤمنٌ ولا مشركٌ إلاَّ سجد ثم نبَّهه جَبريل عليه السلام فاغتنم به فعزَّاه الله عزَّ وجلَّ بهذه الآيةِ وهو مردودٌ عند المحقِّقين ولئن صحَّ فابتلاءٌ يتميَّز به الثَّابتُ على الإيمانِ عن المتزلزل فيه وقيل
113
سورة الحج (٥٣ ٥٥) تمنَّى بمعنى قرأ كقوله [تمنَّى كتابَ الله أولَ ليلة تمنِّيَ داودَ الزَّبورَ على رسلِ وأمنيَّتُه قراءتُه وإلقاءُ الشَّيطانِ فيها أنْ يتكلَّم بذلك رافعاً صوتَه بحيثُ ظنَّ السَّامعون أنَّه من قراءة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقد رُدَّ بأنه أيضاً يخلُّ بالوثوقِ بالقُرآنِ ولا يندفعُ بقولِه تعالى فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان ثم يحكم الله آياته لأنَّه أيضاً يحتملُه وفي الآيةِ دِلالةٌ على جوازِ السَّهو من الأنبياءِ عليهم السلام وتطرق الوسوسةِ إليهم
114
﴿لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشيطان﴾ علة لما ينبئ عنه ما ذكر من إلقاءِ الشَّيطان من تمكينه تعالى إيَّاهُ من ذلك في حق النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم خاصَّة كما يعرب عنه سياقُ النظمِ الكريمِ لما أنَّ تمكينَه تعالى إيَّاهُ من الإلقاء في حقِّ سائرِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ لا يمكن تعليلُه بما سيأتي وفيه دلالةٌ على أنَّ ما يُلقيه أمر ظاهرٌ يعرفه المحقُّ والمبطل ﴿فِتْنَةً لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ أي شكٌّ ونفاق كما في قوله تعالى فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ الآيةَ ﴿والقاسية قُلُوبُهُمْ﴾ أي المشركين ﴿وَإِنَّ الظالمين﴾ أي الفريقينِ المذكورينِ فوضعُ الظَّاهرِ موضعَ ضميرِهم تسجيلاً عليهم بالظلم مع ما وُصفوا بهِ من المرض والقساوةِ ﴿لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ أي عداوةٍ شديدةٍ ومخالفةٍ تامَّةٍ ووصفُ الشِّقاقِ بالبُعد مع أنَّ الموصوفَ به حقيقةٌ هو معروضة للمبالغةِ والجملةُ اعتراضٌ تذييلي مقرر لمضمون ما قبله
﴿وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ﴾ أي القرآنَ ﴿الحق مِن رَّبّكَ﴾ أي هو الحقُّ النَّازل من عنده تعالى وقيل ليعلمُوا أنَّ تمكين الشيطان من الإلقاء هو الحقُّ المتضمنُ للحكمةِ البالغة والغايةِ الجميلةِ لأنَّه ممَّا جرتْ به عادتُه في جنس الإنس من لدُنْ آدمَ عليهِ السلام فحينئذٍ لا حاجة إلى تخصيصِ التَّمكينِ فيما سبق بالإلفاء في حقه عليه السلام لكن يأباه قولُه تعالى ﴿فَيُؤْمِنُواْ بِهِ﴾ أي بالقرآنِ أي يثبتوا على الإيمانِ به أو يزدادوا إيماناً بردِّ ما يُلقي الشَّيطانُ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ بالانقياد والخشية والإذعانِ لما فيه من الأوامرِ والنَّواهي ورجعُ الضميرين لا سيَّما الثَّاني إلى تمكين الشيطان من الإلقاء مما لا وجهَ لَهُ ﴿وإن الله لهاد الذين آمنوا﴾ أي في الأمورِ الدِّينيةِ خُصوصاً في المداحض والمشكلاتِ التي من جملتها ما ذكر ﴿إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ﴾ هو النَّظرُ الصحيحُ الموصل إلى الحقِّ الصَّريحِ والجملةُ اعتراض مقر لما قبله
﴿وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ﴾ أي في شكَ وجدال ﴿مِنْهُ﴾ أي من القرآن وقيل من الرسول ﷺ والأَوَّلُ هو الأظهرُ بشهادة ما سبقَ من قولِه تعالى ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياته وقوله تعالى أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ وما لَحِقَ من قوله تعالى وكذبوا بآياتنا وأمَّا تجويزُ كون الضَّميرِ
114
سورة الحج (٥٦ ٥٧) لما أَلْقَى الشَّيطانُ فِى أُمْنِيَّتِهِ فممَّا لا مساغ له لأنَّ ذلك ليس من هنانهم التي تستمرُّ إلى الأمدِ المذكورِ بل إنَّما هي مريتُهم في شأن القُرآن ولا يُجدي حملُ مِن على السَّببيةِ دون الابتدائيَّةِ لما أنَّ مريتهم المستمرَّةَ كما أنَّها ليست مبتدأةً من ذلك ليئست ماشئة منه ضرورةَ أنَّها مستمرَّة منهم من لَدُن نزول القرآن الكريم ﴿حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة﴾ أي القيامةُ نفسُها كما يُؤذِن به قوله تعالى ﴿بغتة﴾ أي فجاءة فإنَّها الموصوفةُ بالإتيان كذلك لا أشراطُها وقيل الموت ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾ أي يومٌ لا يومَ بعده كأنَّ كلَّ يوم يلدُ ما بعده من الأيَّامِ فما لا يومَ بعده يكون عقيماً والمرادُ به السَّاعةُ أيضاً كأنَّه قيل أو يأتيَهم عذابُها فوضع ذلك موضعَ ضميرِها لمزيد التَّهويلِ ولا سبيل إلى حمل السَّاعةِ على أشراطِها لما عرفتَه وأما ما قيل من أنَّ المراد يومُ حربٍ يُقتلون فيه كيومِ بدرٍ سُمِّي به لأنَّ أولاد النِّساء يُقتلون فيه فيصِرْن كأنهنَّ عُقُمٌ لم يلدن أو لأنَّ المقاتلين أبناءُ الحرب فإذا قُتلوا صارتْ عقيماً أي ثَكْلى فوصف اليَّومُ بوصفها اتِّساعاً أو لأنَّه لا خيرَ لهم فيه ومنه الرِّيحُ العقيمُ لما لم ينشئ مطراً ولم يلقح شَجراً أو لأنَّه لا مثلَ له لقتال الملائكةِ عليهم السَّلامُ فيه فممَّا لا يساعده سياقُ النظم الكريم أصلا كيف لا وإن تخصيصَ الملك والتَّصرفِ الكُليِّ فيه بالله عزَّ وجلَّ ثم بيانَ ما يقع فيه من حكمِه تعالى بين الفريقينِ بالثَّواب والعذابِ الأُخرويينِ يقضي بأنَّ المرادَ به يومُ القيامةِ قضاءً بيِّناً لا ريبَ فيه
115
﴿الملك﴾ أي السُّلطانُ القاهرُ والاستيلاء التَّامُّ والتَّصرُّفُ على الإطلاقِ ﴿يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ وحدَه بلا شريكٍ أصلاً بحيث لا يكونُ فيه لأحدٍ تصرُّفٌ من التَّصرُّفاتِ في أمرٍ من الأمورِ لا حقيقةً ولا مجازاً ولا صورةً ولا معنى كما في الدُّنيا فإنَّ للبعضِ فيها تصرُّفاً صُورياً في الجملة وليس التَّنوينُ نائباً عمَّا تدلُّ عليه الغايةُ من زوالِ مريتهم كما قيل ولا عمَّا يستلزمه ذلك من إيمانهم كما قيل لما أنَّ القيدَ المعتبر مع اليَّومِ حيث وُسِّط بين طرفَيْ الجملة يجب أنْ يكون مداراً لحكمها أعني كون الملكِ لله عزَّ وجلَّ وما يتفرَّع عليه من الإثابة والتَّعذيبِ ولا ريبَ في أنَّ إيمانَهم أو زوالَ مريتهم ليس مماله تعلق ما بما ذُكر فضلاً عن المداريةِ له فلا سبيل إلى اعتبارِ شيءٍ منهما مع اليوم قطعاص وإنَّما الذي يدورُ عليه ما ذُكر إتيانُ السَّاعةِ التي هي مُنتهى تصرُّفاتِ الخلق ومبدأُ ظهور أحكام المَلك الحقِّ جلَّ جلالُه فإذن هو نائبٌ عن نفس الجملة الواقعة غايةً لمريتهم فالمعنى الملكُ يوم إذْ تأتيهم السَّاعةُ أو عذابُها لله تعالى وقولُه تعالى ﴿يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ جملةٌ مستأنفةٌ وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الإخبار بكونِ الملكِ يومئذٍ لله كأنَّه قيل فماذا يُصنع بهم حينئذٍ فقيل يحكم بين فريقي المؤمنينَ به والمُمارينَ فيه بالمجازاةِ وقوله تعالى ﴿فالذين آمنوا﴾ الخ تفسير للحُكم المذكور وتفصيلٌ له أي فالذين آمنُوا بالقرآن الكريم ولم يُماروا فيه ﴿وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ امتثالاً بما أُمروا في تضاعيفِه ﴿فِي جنات النعيم﴾ أي مستقرُّون فيها
﴿والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا﴾ أي أصرُّوا على ذلك واستمرُّوا ﴿فَأُوْلَئِكَ﴾ إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الكفر والتَّكذيبِ وما فيه من معنى البعد للإيذانِ ببُعدِ منزلتِهم في
115
سورة الحج (٥٨ ٦٠) الشر والفساد أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الكفر والتَّكذيبِ وهو مبتدأٌ وقولُه تعالى ﴿لَهُمْ عَذَابَ﴾ جملةٌ اسميَّةٌ منْ مبتدأٍ وخبرٍ مقدَّمٍ عليه وقعت خبرا لأولئك أو لهم خبرٌ لأولئك وعذابٌ مرتفعٌ على الفاعلية بالاستقرارِ في الجارِّ والمجرور لاعتماده على المبتدأ وأولئك مع خبرِه على الوجهين خبر للمصول وتصديرُه بالفاء للدِّلالةِ على أنَّ تعذيب الكفَّارِ بسبب أعمالِهم السَّيئةِ كما أنَّ تجريدَ خبرِ الموصول الأوَّلِ عنها للإيذانِ بأنَّ إثابة المؤمنينَ بطريق التَّفضُّلِ لا لإيجاب الأعمال الصَّالحةِ إيَّاها وقولُه تعالى ﴿مُّهِينٌ﴾ صفة لعذابٌ مؤكِّدة لما أفادَه التَّنوينُ من الفخامةِ وفيه من المبالغةِ من وجوهٍ شتَّى ما لا يخفى
116
﴿والذين هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ الله﴾ أي في الجهادِ حسبما يلوحُ بهِ قولُه تعالَى ﴿ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ﴾ أي في تضاعيف المُهاجرة ومحلُّ الموصولِ الرفعُ على الابتداءِ وقولُه تعالَى ﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله﴾ جواب لقسم محذوفٍ والجملةُ خبرُه ومن منع وقوعَ الجملةِ القسميَّةِ وجوابِها خبراً للمبتدأ يُضمر قولاً هو الخبرُ والجملةُ محكية به وقوله تعالى ﴿رِزْقًا حَسَنًا﴾ إمَّا مفعول ثانٍ على أنَّه من باب الرَّعي والذَّبحِ أي مَرزوقاً حسناً أو مصدرٌ مؤكِّد والمراد به ما لا ينقطعُ أبداً من نعيمِ الجنَّةِ وإنَّما سوى بينهما في الوعدِ لاستوائهما في القصد وأصلُ العمل على أن مراتبَ الحُسنِ متفاوتةٌ فيجوزُ تفاوتُ حال المرزوقينَ حسب تفاوت الأرزاقِ الحسنةِ ورُوي أنَّ بعضَ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قالوا يا نبيَّ الله هؤلاءِ الذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله قد علمنا ما أعطاهُم الله تعالى من الخيرِ ونحنُ نجاهد معك كما جاهدُوا فما لنا إنْ مُتنا معك فنزلت وقيل نزلت في طوائفَ خرجُوا من مكةَ إلى المدينةِ للهجرةِ فتبعهم المشركون فقتلوهم ﴿وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين﴾ فإنَّه يرزق بغير حسابٍ مع أنَّ ما يرزقه لا يقدِر عليه أحدٌ غيرُه والجملة اعتراضٌ تذييليٌّ مقررٌ لما قبله وقوله تعالى
﴿لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ﴾ بدلٌ من قوله تعالى لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله أو استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمونه ومُدخلاً إمَّا اسمُ مكانٍ أُريد به الجنَّة فهو مفعول ثانٍ للإدخال أو مصدرٌ ميميٌّ أُكِّد به فعلُه قال ابن عباس رضي الله عنهما إنَّما قيل يَرضونه لما أنهم يرون فيها ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطَر على قلب بشر فيرضونه ﴿وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ﴾ بأحوالِهم وأحوالِ معاديهم ﴿حَلِيمٌ﴾ لا يُعاجلهم بالعقوبة
﴿ذلك﴾ خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك والجملةُ لتقرير ما قبله والتَّنبيهِ على أنَّ ما بعده كلامٌ مستأنفٌ ﴿وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ﴾ أي لم يَزد في الاقتصاصِ وإنَّما سُمِّي الابتداءُ بالعقاب الذي هو جاز الجنايةِ للمشاكلةِ أو لكونِه سبباً له ﴿ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ﴾ بالمعاودة إلى العُقوبة ﴿لَيَنصُرَنَّهُ الله﴾ على مَن بغى عليه لا محالة ﴿إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ أيْ مبالغٌ في العفوِ والغفران
116
سورة الحج (٦١ ٦٥) فيعفُو عن المنتصرِ ويغفرُ له ما صدرَ عنه من ترجيحِ الانتقامِ على العفوِ والصبرِ المندوبِ إليهما بقوله تعالى وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ أي ما ذُكر من الصَّبرِ والمغفرةِ لَمِنْ عَزْمِ الأمور فإنَّ فيه حثًّا بليغاً على العفوِ والمغفرةِ فإنَّه تعالى مع كمالِ قُدرتِه لمَّا كانَ يعفُو ويغفُر فغيرُه أَوْلى بذلك وتنبيهاً على أنَّه تعالى قادرٌ على العقوبةِ إذ لا يُوصف بالعفوِ إلاَّ القادرُ على ضدِّهِ
117
﴿ذلك﴾ إشارةٌ إلى النَّصر وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته ومحله الرفع على الابتداء خبرُهُ قولُه تعالى ﴿بِأَنَّ الله يولج الليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار في الليل﴾ أي بسببِ أنَّه تعالى من شأنه وسننه تغليبُ بعض مخلوقاته على بعضٍ والمداولةُ بين الأشياءِ المتضادَّةِ وعبَّر عن ذلك بإدخالِ أحدِ المَلَوين في الآخرِ بأنْ يزيد فيه ما ينقص على الآخرِ أو بتحصيلِ أحدِهما في مكان الآخر لكونه أظهرَ الموادِّ وأوضحَها ﴿وَأَنَّ الله سَمِيعٌ﴾ بكلِّ المسموعاتِ التي من جُملتها قول الماقب ﴿بَصِيرٌ﴾ بجميع المُبصراتِ ومن جُملتها أفعاله
﴿ذلك﴾ أي الاتِّصافُ بما ذُكر من كمال القدرة والعلمِ وما فيه من معنى البُعدِ لما مر آنِفاً وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى ﴿بأن الله هُوَ الحق﴾ الواجبُ لذاته الثَّابتُ في نفسِه وصفاتِه وأفعالِه وحدَهُ فإنَّ وجوبَ وجودِه ووحدتِه يقتضيانِ كونَه مبدأً لكُلِّ ما يُوجدُ من الموجوداتِ عالِماً بكلِّ المعلوماتِ أو الثَّابتُ إلهية فلا يصلح لها إلاَّ مَن كان عالماً قادراً ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ من دونه﴾ إلها وقرئ على البناءِ للمفعولِ على أن الواو لما فإنه عبارة عن الآلهة وقرئ بالتَّاءِ على خطابِ المُشركين ﴿هُوَ الباطل﴾ أي المعدومُ في حدِّ ذاتِه أو الباطلُ ألوهيَّتُه ﴿وَأَنَّ الله هُوَ العلى﴾ على جميعِ الأشياءِ ﴿الكبير﴾ عن أنْ يكون له شريكٌ لا شيء أعلى منه شأناً وأكبر سلطاناً
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزل من السماء ماء﴾ استفهام تقرير كما يفصح عنه الرفعُ في قوله تعالى ﴿فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً﴾ بالعطف على أنزلَ وإيثار صيغةَ الاستقبالِ للإشعارِ بتجدُّدِ أثرِ الإنزالِ واستمرارِه أو لاستحضارِ صورةِ الاخضرارِ ﴿إِنَّ الله لَطِيفٌ﴾ يصل لطفُه أو علمُه ألى كلِّ ما جلَّ ودقَّ ﴿خَبِيرٌ﴾ بما يليقُ من التَّدابيرِ الحسنةِ ظاهراً وباطناً
﴿له ما في السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ خَلْقاً ومُلْكاً وتصَرُّفاً ﴿وَإِنَّ الله لَهُوَ الغنيُّ﴾ عن كلِّ شيءٍ ﴿الحميد﴾ المستوجبُ للحمدِ بصفاته وأفعاله
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سخر لَكُم مَّا فِى الارض﴾ أي جعلَ ما فيها من الأشياءِ مذلَّلةً لكم معدَّةً لمنافعكم تتصرَّفون فيها كيفَ شئتُم فلا
117
سورة الحج (٦٦ ٦٧) أصلبَ من الحجرِ ولا أشدَّ من الحديدِ ولا أهيبَ من النَّارِ وهي مسخَّرةٌ لكم وتقديمُ الجارِّ والمجرور على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمامِ بالمقدَّمِ لتعجيل المسرَّةِ والتِّشويقِ إلى المؤخَّرِ ﴿والفلك﴾ عطفٌ على مَا أو على اسم أن وقرئ بالرَّفعِ على الابتداء ﴿تَجْرِى فِى البحر بِأَمْرِهِ﴾ حالٌ من الفلك على الأوَّلِ وخبرٌ على الأخيرينِ ﴿وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض﴾ أي من أن تقعَ أو كراهةَ أن تقع بأنْ خلقَها على هيئةٍ متداعيةٍ إلى الاستمساك ﴿إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ أي بمشيئته وذلك يومُ القيامةِ وفيه ردٌّ لاستمساكها بذاتها فإنَّها مساويةٌ في الجسميَّةِ لسائر الأجسامِ القابلةِ للميلِ الهابط فتقبله كقبولِ غيرِها ﴿إِنَّ الله بالناس لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ حيث هيَّأ لهم أسبابَ معاشِهم وفتحَ عليهم أبوابَ المنافعِ وأوضح لهم مناهجَ الاستدلالِ بالآيات التَّكوينيةِ والتَّنزيليةِ
118
﴿وَهُوَ الذى أَحْيَاكُمْ﴾ بعد أنْ كنتُم جماداً عناصرَ ونطفاً حسبما فُصِّل في مطلع السورةِ الكريمة ﴿ثُمَّ يميتكم﴾ عند مجئ آجالِكم ﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ عند البعثِ ﴿إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ﴾ أي جَحودٌ للنِّعمِ مع ظهورِها وهذا وصف للجنس بوصف بعضِ أفرادِه
﴿لِكُلّ أُمَّةٍ﴾ كلام مستأنف جئ به لزجر معاصريه ﷺ من أهل الأديان السَّماويةِ عن منازعته ﷺ ببيان حالِ ما تمسكوا به من الشَّرائع وإظهارِ خطئِهم في النَّظرِ أي لكلِّ أمةٍ معيَّنةٍ من الأممِ الخاليةِ والباقيةِ ﴿جَعَلْنَا﴾ أي وضعنَا وعيَّنا ﴿مَنسَكًا﴾ أي شريعةً خاصَّةً لا لأمةٍ أُخرى منهم على معنى عيَّنا كلَّ شريعةٍ لأمةٍ معيَّنةٍ من الأمم بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتَها المعيَّنةَ لها إلى شريعةٍ أُخرى لا استقلالاً ولا اشتراكاً وقوله تعالى ﴿هُمْ نَاسِكُوهُ﴾ صفة لمَنْسكاً مؤكِّدةٌ للقصر المستفادِ من تقديم الجارِّ والمجرور على الفعل والضَّميرُ لكلِّ أمة باعتبار خصومها أي تلك الأُمَّةُ المعيَّنةُ ناسكوه والعاملون به لا أمةٌ أُخرى فالأمةُ التي كانت من مبعث مُوسى عليه السَّلامُ إلى مبعث عيسَى عليه السَّلامُ منسَكُهم التَّوراةُ هم ناسكوها والعاملونَ بها لا غيرُهم والتي كانت من مَبعثِ عيسى إلى مبعث النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم منسكُهم الإنجيلُ هم ناسكُوه والعاملون به لا غيرُهم وأما الأمَّةُ الموجودةُ عند مبعث النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ومن بعدهم من الموجودينَ إلى يومِ القيامةِ فهُم أمةٌ واحدةٌ منسكهم الفرقانُ ليس إلاَّ كما مرَّ في تفسيرِ قولِه تعالى لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا والفاء في قوله تعالى ﴿فَلاَ ينازعنك فِى الأمر﴾ لترتيب الهي أو موجبِه على ما قبلها فإنَّ تعيينَه تعالى لكل أمة من الأمم التي من جُملتهم هذه الأمةُ شريعةً مستقلَّةً بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتَها المعيَّنةَ لها موجبٌ لطاعةِ هؤلاء لرسولِ الله ﷺ وعدمِ منازعتِهم إيَّاهُ في أمرِ الدِّينِ زعماً منهم أنَّ شريعتَهم ما عُيِّن لآبائِهم الأوَّلينَ من التَّوراةِ والإنجيلِ فإنَّهما شريعتانِ لمن مَضَى من الأمم قبل انتساخهما وهؤلاء أمةٌ مستقلَّةٌ منسكهم القرآنُ المجيد فحسب والنَّهيُ إما على حقيقته أو كلية عن نهيه ﷺ عن الالتفات إلى نزاعهم للنبي على زعمهم المذكورِ وأما جعله عبارةً عن نهيِه صلى الله عليه وسلم
118
سورة الحج (٦٨ ٧١) عن مازعنهم فلا يساعده المقام وقرئ فلا ينزعنَّك على تهييجِه ﷺ والمبالغةِ في تثبيتِه وأيًّا ما كان فمحلُّ النِّزاعِ ما ذكرناهُ وتخصيصُه بأمر النسائك وجعلُه عبارةً عن قول الخُزاعيين وغيرِهم للمسلمينَ ما لكم تأكُلون ما قتلتُم ولا تأكاوا ما قتلَه الله تعالى مما لا سبيلَ إليه أصلاً كيف لا وأنَّه يستدعِي أن يكونَ أكلُ الميتةِ وسائرُ ما يدينونَه من الأباطيلِ من جملة المناسكِ التي جعلها الله تعالى لبعضِ الأُممِ ولا يرتابُ في بُطلانِه عاقلٌ ﴿وادع﴾ أي وادعُهم أو وادعُ النَّاسَ كافَّةً على أنَّهم داخلونَ فيهم دُخولاً أولياً ﴿إلى رَبّكَ﴾ إلى توحيدِه وعبادتِه حسبما بُيِّن لهم في منسكِهم وشريعتِهم ﴿إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي طريقٍ موصِّلٍ إلى الحقِّ سويّ والمرادُ به إما الدِّينُ والشَّريعةُ أو أدلنها
119
﴿وَإِن جادلوك﴾ بعد ظهورِ الحقِّ بما ذُكر من التَّحقيق ولزومِ الحُجَّةِ عليهم ﴿فَقُلْ﴾ لهم على سبيل الوعيدِ ﴿الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من الأباطيلِ التي من جُملتها المجادلةُ
﴿الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ يفصل بين المؤمنين منكُم والكافرينَ ﴿يَوْمُ القيامة﴾ بالثَّوابِ والعقابِ كما فصَل في الدُّنيا بالحججِ والآياتِ ﴿فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ من أمرِ الدِّينِ
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ﴾ استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله والاستفهامُ للتَّقرير أي قد علمتَ ﴿أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السماء والأرض﴾ فلا يَخْفى عليه شيءٌ من الأشياء التي من جملتها ما يقوله الكَفَرةُ وما يعملونَهُ ﴿إِنَّ ذلك﴾ أي ما فى السماء والأرض ﴿فِى كتاب﴾ هو اللَّوحُ قد كُتب فيه قبل حدوثِه فلا يُهمنَّك أمرُهم مع علمِنا به وحفظِنا له ﴿إِنَّ ذلك﴾ أي ما ذُكر من العلمِ والإحاطةِ به وإثباتِه في اللوح أو الحكم ببينكم ﴿عَلَى الله يَسِيرٌ﴾ فإنَّ علمَه وقدرتَه مُقتضى ذاتِه فلا يَخْفى عليه شيءٌ ولا يعسرُ عليه مقدورٌ
﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ حكايةٌ لبعض أباطيلِ المشركينَ وأحوالِهم الدَّالَّةِ على كمال سخافةِ عقولِهم وركاكةِ آرائِهم من بناء أمرِ دينِهم على غيرِ مَبْنى من دليلٍ سمعيَ أو عقليَ وإعراضِهم عمَّا أُلقي عليهم من سلطانٍ بيِّنٍ هو أساسُ الدِّينِ وقاعدتُه أشدَّ إعراضٍ أي يعبدُون متجاوزينَ عبادةَ الله ﴿مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ﴾ أي بجوازِ عبادتِه ﴿سلطانا﴾ أي حجَّةً ﴿وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ﴾ أي بجواز عبادتِه ﴿عِلْمٍ﴾ من ضرورة العقلِ أو استدلاله ﴿وَمَا للظالمين﴾ أي الذينَ ارتكبُوا مثل هذا الظُّلمِ العظيمِ الذي يقضي ببطلانِه وكونِه ظُلماً بديهةُ العقولِ ﴿مِن نَّصِيرٍ﴾ يساعدُهم بنصرةِ مذهبِهم وتقريرِ رأيهم أو بدفعِ العذابِ الذي يعتريهم بسبب ظلمهم
119
سورة الحج (٧٢ ٧٣)
120
﴿وإذا تتلى عليهم آياتنا﴾ عطفٌ على يعبدونَ وما بينهما اعتراضٌ وصيغة المضارعِ للدلالة على الاستمرار التجددي ﴿بينات﴾ أي حالَ كونِها واضحاتِ الدِلالةِ على العقائدِ الحَقَّةِ والأحكام الصَّادقةِ أو على بطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام أو على كونِها من عندِ الله عزَّ وجل ﴿تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر﴾ أي الإنكارَ كالمُكرَم بمعنى الإكرامِ أو الفظيعَ من التَّجهمِ والبُسورِ أو الشَّرِّ الذي يقصدونَهُ بظهورِ مخايلِه من الأوضاعِ والهيئاتِ وهو الأنسبُ بقولِه تعالى ﴿يكادون يَسْطُونَ بالذين يتلون عليهم آياتنا﴾ أي يَثِبُون ويبطِشُون بهم من فرط الغيظِ والغضبِ لأباطيلَ أخذُوها تقليداً وهل جهالةٌ أعظمُ وأطمُّ من أنْ يعبدُوا ما لا يوهم صحَّةَ عبادتِه شيءٌ ما أصلاً بل يقضي ببطلانِها العقلُ والنَّقلُ ويظهروا لمن يهديهم إلى الحقِّ البيِّنِ بالسُّلطانِ المُبينِ مثلَ هذا المنكرِ الشَّنيعِ كَلاَّ ولهذا وضعَ الذين كفروا موضعَ الضَّميرِ ﴿قُلْ﴾ ردًّا عليهم وإقناطاً عما يقصدونَه من الإضرارِ بالمسلمينَ ﴿أَفَأُنَبّئُكُم﴾ أي أخاطبكم فأخبرُكم ﴿بِشَرّ مّن ذلكم﴾ الذي فيكم من غيظكم على التَّالينَ وسطوتِكم بهم أو مما تبغونَهم من الغوائلِ أو مما أصابكم من الضَّجرِ بسبب ما تلَوه عليكم ﴿النار﴾ أي هو النَّارُ على أنَّه جوابٌ لسؤالٍ مقدرٍ كأنَّه قيلَ ما هُو وقيلَ هو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى ﴿وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ﴾ وقرئ النَّارَ بالنَّصبِ على الاختصاص وبالجرِّ بدلاً من شرَ فتكون الجملةُ الفعليةُ استئنافاً كالوجهِ الأول أو حالاً من النَّارِ بإضمار قَدْ ﴿وبئس المصير﴾ النار
﴿يا أيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ﴾ أي بُيِّن لكم حالٌ مستغربةٌ أو قصَّةٌ بديعةٌ رائعةٌ حقيقةٌ بأنْ تسمَّى مَثَلاً وتسيرَ في الأمصارِ والأعصارِ أو جُعل لله مثلٌ أي مثل في استحقاقِ العبادةِ وأُريد بذلك ما حُكي عنهم من عبادتِهم للأصنامِ ﴿فاستمعوا لَهُ﴾ أي للمثلِ نفسِه استماعَ تدبر وتفكُّرٍ أو فاستمعُوا لأجلِه ما أقولُ فقوله تعالى ﴿إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ الخ بيانٌ للمثل وتفسيرٌ له على الأوَّلِ وتعليلٌ لبطلان جعلهم الأصنامَ مثلَ الله سبحانه في استحقاق العبادةِ على الثاني وقرئ بياء الغَيبةِ مبنيًّا للفاعلِ ومبنيًّا للمفعولِ والرَّاجع إلى الموصولِ على الأولين محذوفٌ ﴿لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً﴾ أي لن يقدروا على خلقه أبداً مع صغره وحقارتِه فإنَّ لن بما فيها من تأكيد النَّفيِ دالَّةٌ على مُنافاة ما بين المنفيِّ والمنفيِّ عنه ﴿وَلَوِ اجتمعوا لَهُ﴾ أي لخلقه وجوابُ لو محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه والجملةُ معطوفةٌ على شرطيةٍ أُخرى محذوفةٍ ثقةً بدلالة هذه عليها أي لو لم يجتمعوا عليه لن يخلقُوه ولو اجتمعُوا له لن يخلقُوه كما مرَّ تحقيقُه مراراً وهما في موضع الحالِ كأنَّه قيل لن يخلقوا ذبابا
120
سورة الحج (٧٤ ٧٧) على كلِّ حالٍ ﴿وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً﴾ بيان لعجزهم عن الامتناع عمَّا يفعل يهم الذُّبابُ بعد بيانِ عجزِهم عن خلقِه أي إنْ يأخذِ الذُّبابُ منهم شيئاً ﴿لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ﴾ مع غايةِ ضعفِه ولقد جُهلوا غايةَ التَّجهيلِ في إشراكِهم بالله القادرِ على جميع المقدورات المنفرد بإيجاد كافةِ الموجوداتِ تماثيلَ هي أعجزُ الأشياءِ وبين ذلك بأنَّها لا تقدرُ على أقل الأحياءِ وأذلِها ولو اتَّفقُوا عليه بل لا تقوى على مقاومةِ هذا الأقلِ الأذلِّ وتعجز عن ذبِّه عن نفسِها واستنقاذِ ما يختطفُه منها قيل كانُوا يطيِّبونها بالطِّيبِ والعسلِ ويُغلقون عليها الأبوابَ فيدخل الذُّبابُ من الكُوى فيأكلُه ﴿ضَعُفَ الطالب والمطلوب﴾ أي عابدُ الصَّنمِ ومعبودُه أو الذُّبابُ الطَّالبُ لما يسلبُه من الصَّنمِ من الطِّيبِ والصَّنمُ المطلوبُ منه ذلك أو الصَّنمُ والذُّبابُ كأنَّه يطلبه ليستنقذَ منه ما يسلبه ولو حقَّقتَ وجدتَ الصَّنمَ أضعفَ من الذُّبابِ بدرجاتٍ وعابدَه أجهلَ من كلِّ جاهلٍ وأضلَّ من كلِّ ضالَ
121
﴿مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ أي ما عرفُوه حقَّ معرفتِه حيث أشركُوا به وسمَّوا باسمه ما هو أبعدُ الأشياءِ عنه مناسبةً ﴿إِنَّ الله لَقَوِىٌّ﴾ على خلق الممكناتِ بأسرها وإفناءِ الموجوداتِ عن آخرها ﴿عَزِيزٌ﴾ غالبٌ على جميع الأشياءِ وقد عرفتَ حالَ آلهتِهم المقهورةِ لأذلها العجزة عن أقلها والجملةُ تعليلٌ لما قبلها من نفيِ معرفتهم له تعالى
﴿الله يَصْطَفِى مِنَ الملائكة رُسُلاً﴾ يتوسَّطون بينَه تعالَى وبينَ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ بالوحيِ ﴿وَمِنَ الناس﴾ وهم المختصون بالنفوس الزكية المؤيدون بالقُوَّة القدسيةِ المتعلِّقون بكلا العالمينِ الرُّوحانيِّ والجُسمانيِّ يتلقَون من جانبٍ ويلقون إلى جانب ولا يعوقهم التعلقُ بمصالحِ الخلقِ عن التبتل إلى جناب الحقِّ فيدعونَهم إليه تعالى بما أنزل عليهم ويعلِّمونهم شرائعَه وأحكامَه كأنَّه تعالى لمَّا قرَّر وحدانيَّتَه في الأُلوهية ونفى أنْ يشاركَه فيها شيءٌ من الأشياء بيَّن أنَّ له عباداً مُصطفَين للرِّسالة يُتوسل بإجابتهم والاقتداءِ بهم إلى عبادته عزَّ وجلَّ وهو أعلى الدَّرجاتِ وأقصى الغاياتِ لمن عداه من الموجوداتِ تقريراً للنُّبوة وتزييفاً لقولِهم لَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة وقولهم مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إلى الله زلفى وقولهم الملائكةُ بناتُ الله وغيرِ ذلك من الأباطيلِ ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ عليم بجميعِ المسموعاتِ والمبصراتِ فلا يَخْفى عليه شيءٌ من الأقوالِ والأفعالِ
﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ لا إلى أحدٍ غيرِه لا اشتراكاً ولا استقلالا
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ اركعوا واسجدوا﴾ أي في صلواتِكم أمرَهم بهما لمَا أنَّهم ما كانُوا يفعلونَهما أول الإسلام أوصلوا عبر عن الصَّلاةِ بهما لأنَّهما أعظمُ أركانِها أو اخضعُوا لله تعالى وخِرُّوا له سجدا
121
سورة الحج (٧٨) ﴿وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ﴾ بسائر ما تعبَّدكم به ﴿وافعلوا الخير﴾ وتحرَّوا ما هو خيرٌ وأصلحُ في كلِّ ما تأتون وما تذرونَ كنوافلِ الطَّاعاتِ وصلةِ الأرحامِ ومكارمِ الأخلاقِ ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي افعلُوا هذه كلَّها وأنتُم راجُون بها الفلاحَ غيرَ متيقنينَ له واثقينَ بأعمالكم والآيةُ آيةُ سجدةٍ عند الشافعي رحمه الله لظاهر ما فيها من الأمر باسجود ولقوله ﷺ فُضِّلتْ سورةُ الحجِّ بسجدتينِ مَن لم يسجدْهُما فلا يقرأها
122
﴿وجاهدوا فِى الله﴾ أي لله تعالى ولأجلِه أعداءَ دينِه الظاهرة كأهلِ الزَّيغِ والباطنةِ كالهَوَى والنَّفسِ وعنه ﷺ أنَّه رجعَ من غزوةِ تبوكَ فقال رجعنا من الجهادِ الأصغرِ إلى الجهادِ الأكبرِ ﴿حَقَّ جهاده﴾ أي جهاداً فيه حقًّا خالصاً لوجهه فعكسَ وأضيف الحقُّ إلى الجهادِ مبالغةً كقولِك هو حقٌّ عالمٌ وأُضيف الجهادُ إلى الضَّمير اتِّساعاً أو لأنَّه مختصٌّ به تعالى من حيثُ أنَّه مفعولٌ لوجهِه ومن أجلِه ﴿هُوَ اجتباكم﴾ أي هو اختاركُم لدينِه ونصرتِه لا غيرُه وفيه تنبيهٌ على ما يقتضي الجهادَ ويدعُو إليه ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ﴾ أي ضيقٍ بتكليف ما يشقُّ عليكم إقامتُه إشارة إلى أنَّه لا مانعَ لهم عنْهُ ولا عذرَ لهم في تركِه أو إلى الرُّخصةِ في إغفالِ بعضِ ما أمرَهم به حيث يشقُّ عليهم لقولِه ﷺ إذا أمرتُكم بشيءٍ فأتُوا منه ما استطعتُم وقيل ذلك بأنْ جعلَ لهم من كلِّ ذنبٍ مخرجاً بأنْ رخَّص لهم في المضايقِ وفتحَ لهم بابَ التَّوبةِ وشرَع لهم الكفَّاراتِ في حقوقِه والأروشَ والدِّياتِ في حقوقِ العبادِ ﴿مّلَّةَ أَبِيكُمْ إبراهيم﴾ نُصب على المصدرِ بفعلٍ دلَّ عليه مضمونُ ما قبلَه بحذفِ المضافِ أي وسع عليكم دينَكم توسعةَ ملَّةِ أبيكم أو على الإغراءِ أو على الاختصاصِ وإنَّما جعله أباهم لأنَّه أبوُ رسولِ الله ﷺ وهو كالأبِ لأمَّتِه من حيثُ أنَّه سببٌ لحياتِهم الأبديَّةِ ووجودِهم على الوجه المعتدِّ به في الآخرةِ أو لأنَّ أكثرَ العربِ كانوا من ذريته صلى الله عيه وسلم فغُلِّبُوا على غيرِهم ﴿هُوَ سماكم المسلمين مِن قَبْلُ﴾ في الكتبِ المُتقدِّمةِ ﴿وَفِى هذا﴾ أي في القرآنِ والضَّميرُ لله تعالى ويُؤيِّده أنه قرئ الله سمَّاكُم أو لإبراهيمَ وتسميتُهم بالمسلمينَ في القُرآن وإنْ لم تكُنْ منه ﷺ كانت بسببِ تسميته من قبلُ في قوله وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وقيل وفي هذا تقديرُه وفي هذا بيانُ تسميتِه إيَّاكم المسلمينَ ﴿لِيَكُونَ الرسول﴾ يومَ القيامةِ متعلِّقٌ بسمَّاكُم ﴿شَهِيداً عَلَيْكُمْ﴾ بأنَّه بلَّغكُم فيدلُّ على قبولِ شهادتِه لنفسِه اعتماداً على عصمتِه أو بطاعة مَن أطاعَ وعصيانِ مَن عصى ﴿وَتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس﴾ بتبليغِ الرسل إليهم ﴿فأقيموا الصلاة وآتَوْا الزَّكَاةَ﴾ أي فتقرَّبُوا إلى الله بأنواع الطاعات وتخصيصهما بالذكرلأنافتهما وفضلِهما ﴿واعتصموا بالله﴾ أي ثقُوا به في مجامعِ أمورِكم ولا تطلبُوا الإعانةَ والنُّصرةَ إلاَّ منْه ﴿هُوَ مولاكم﴾ ناصرُكم ومتولِّي أمورِكم ﴿فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير﴾ هو إذْ لا مثلَ له في الوَلاَيةِ والنُّصرةِ
122
سورة الحج (١ ٣) بل لا ولِيَّ ولا نصيرَ في الحقيقةِ سواهُ عزَّ وجلَّ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ سُورةَ الحجِّ أُعطيَ من الأجرِ كحجَّةٍ حجَّها وعمرةٍ اعتمرَها بعددِ مَن حجَّ واعتمرَ فيما مضى وفيما بقى
سورة المؤمنون
مكية وهي عند البصريين مائة وتسع عشرة آية وعند الكوفيين مائة وثماني عشرة آية
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم﴾
123
Icon