هي سبع أو ثمان وسبعون آية
اختلف العلماء هل هي مكية أو مدنية ؟ قال ابن عباس : نزلت بالمدينة. وعن ابن الزبير ومجاهد مثله. وقال قتادة : إلا أربع آيات. ﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ﴾ إلى قوله ﴿ عذاب يوم مقيم ﴾ فهن مكيات. وقال ابن عباس : سوى ثلاث آيات. وقيل : أربع آيات إلى قوله ﴿ عذاب الحريق ﴾ وعن النقاش أنه عد ما نزل منها بالمدينة عشر آيات.
وقال الجمهور : إن السورة مختلطة منها مكي ومنها مدني. قال القرطبي : وهذا هو الصحيح لأن الآيات تقتضي ذلك. لأن ﴿ يا أيها الناس ﴾ مكي. و ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ مدني.
قال العزيزي : وهي من أعاجيب السور : نزلت ليلا ونهارا. سفرا وحضرا. مكيا ومدنيا : سلميا وحربيا. ناسخا ومنسوخا. محكما ومتشابها.
وقد ورد في فضلها ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم عن عقبة بن عامر قال. قلت يا رسول الله : أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين ؟ قال : نعم. فمن لم يسجدهما فلا يقرؤها " ١.
قال الترمذي : هذا حديث حسن ليس إسناده بالقوي. وقد روي عن كثير من الصحابة أن فيها سجدتين. وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال بعضهم : أن فيها سجدة واحدة. وهو قول سفيان الثوري. وروي هذا عن ابن عباس وإبراهيم النخعي.
ﰡ
(إن زلزلة الساعة شيء عظيم) تعليل لما قبله من الأمر بالتقوى، والزلزلة شدة الحركة والازعاج، وأصلها من زل عن الموضع، أي زال عنه وتحرك، وزلزل الله قدمه أي حركها، وتكرير الحرف يدل على تأكيد المعنى، وهو من إضافة المصدر إلى فاعله، ومفعوله محذوف تقديره الأرض، ويكون إسناد الزلزلة إلى الساعة على سبيل المجاز العقلي، وهي على هذا الزلزلة التي هي إحدى أشراط الساعة التي تكون في الدنيا قبل يوم القيامة، هذا قول الجمهور، أو إلى الظرف لأنها تكون فيها، كقوله: (بل مكر الليل والنهار)، ووقتها يكون يوم القيامة.
وقيل إنها تكون في النصف من شهر رمضان، ومن بعدها طلوع الشمس من مغربها. ولا حجة فيها للمعتزلة في تسمية المعدوم شيئاً، فإن هذا
وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي والحاكم وصححه وغيرهم، عن عمران بن حصين قال: لما نزلت (يا أيها الناس) -إلى قوله- (عذاب شديد)، أنزلت عليه هذه وهو في سفر فقال: " أتدرون أي يوم ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: " ذلك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار، قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحداً إلى الجنة "، فأنشأ المسلمون يبكون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قاربوا وسددوا وأبشروا فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية، فتؤخذ العدة من الجاهلية، فإن تمت وإلا كملت من المنافقين. وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير ".
ثم قال: " إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة "، فكبروا. ثم قال: " إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة " فكبروا، ثم قال " إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة "، فكبروا، قال: ولا أدري، قال الثلثين أم لا؟ (١).
وأخرج الترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر عنه مرفوعاً نحوه، وقال في آخره " اعملوا وأبشروا، فوالذي نفس محمد بيده إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه، يأجوج ومأجوج ومن مات من بني آدم ومن بني إبليس، فسري عن القوم بعض الذي يجدون، قال: اعملوا وأبشروا فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة " (٢).
_________
(١) المستدرك كتاب الإيمان ١/ ٢٩.
(٢) الترمذي تفسير سورة ٢٢/ ١ - ٢٢ - ٢.
_________
(١) مسلم ٢٢٢ - البخاري ١٥٨٤.
قال المبرد (ما) هنا بمعنى المصدر، أي تذهل عن الإرضاع، قال: وهذا يدل على أن هذه الزلزلة في الدنيا، إذ ليس بعد القيامة حمل وإرضاع، إلا أن يقال: إن من ماتت حاملاً فتضع حملها للهول، ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك، ويقال هذا مثل، كما يقال: (يوماً يجعل الولدان شيباً)، وقيل يكون مع النفخة الأولى، قال ويحتمل أن تكون الزلزلة عبارة عن أهوال يوم القيامة؛ كما في قوله (مسّتهم البأساء والضراء وزلزلوا).
(وتضع كل ذات حمل حملها) أي تلقي جنينها بغير تمام من شدة الهول، كما أن المرضعة تترك ولدها بغير رضاع لذلك (وترى الناس سكارى) قرأ الجمهور بفتح التاء والراء خطاباً لكل واحد؛ أي يراهم الرائي كأنهم سكارى، وقرئ ترى بضم التاء مسنداً إلى المخاطب من أرأيتك، أي تظنهم سكارى، قال الفراء: ولهذه وجه جيد في العربية.
(وما هم بسكارى) حقيقة، وقرئ سكرى بغير ألف، وهما لغتان يجمع بهما سكران، مثل كسلى وكسالى، ولما نفى سبحانه عنهم السكر أوضح السبب الذي لأجله شابهوا السكارى فقال:
(كل شيطان مريد) أي متمرد على الله متجرد للفساد، وهو العاتي، سمي بذلك لخلوه عن كل خير.
وقال الزجاج: المريد والمارد المرتفع الأملس، والمراد إما إبليس وجنوده أو رؤساء الكفار الذين يدعون أشياعهم إلى الكفر. قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحارث؟ وكان كثير الجدال، وكان ينكر أن الله يقدر على إحياء الأموات، وقيل نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة.
(ويهديه إلى عذاب السعير) أي يحمله على مباشرة ما يصير به في العذاب، وفي الآية زجر عن اتباعه، ثم ذكر سبحانه ما هو المقصود من الاحتجاج على الكفار بعد فراغه من تلك المقدمة فقال:
(يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث) قرأ الجمهور بسكون العين وقرئ بفتحها وهي لغة، وشكّهم يحتمل أن يكون في وقوعه أو في مكانه. والمعنى إن كنتم في شك من الإعادة بعد الموت فانظروا في مبدأ خلقكم أي خلق أبيكم آدم ليزول عنكم الريب ويرتفع الشك وتدحض الشبهة الباطلة.
(فإنا خلقناكم من تراب) في ضمن خلق أبيكم آدم وهذا أول تطور الإنسان في أطوار سبعة وهي التراب والنطفة والعلقة والمضغة والإخراج طفلاً وبلوغ الأشد والتوفي أو الرد إلى أرذل العمر كما سيأتي تفصيل ذلك (ثم) خلقناكم (من نطفة) أي من مني سمي نطفة لقلته والنطفة القليل من الماء، وقد يقع على الكثير منه والنطفة القطرة، يقال نطف ينطف أي قطر: وليلة نطوف أي دائمة القطر (ثم من علقة) وهي الدم الجامد والعلق الدم العبيط أي الطري أو المتجمد وقيل الشديد الحمرة، والمراد الدم الجامد المتكون من مني (ثم من مضغة) وهي القطعة من اللحم قدر ما يمضغ الماضغ يتكون من العلقة (مخلَّقة) أي مستبينة الخلق ظاهرة التصوير (وغير مخلقة) أي لم يستبن خلقها ولا ظهر تصويرها.
قال ابن عباس: المخلقة ما كان حياً تام الخلق وغير المخلقة ما كان
وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم، عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله إليه الملك فينفغ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " (١)، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً.
(لنبين لكم) أي خلقناكم على هذا النمط البديع، لنبين لكم، كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم لتستدلوا بها في ابتداء الخلق على إعادته (ونقر) مستأنف أي نثبت (في الأرحام ما نشاء) فلا يكون سقطاً، ولم يقل من نشاء لأنه يرجع إلى الحمل وهو جماد قبل أن ينفخ فيه الروح، وقرئ ما نشاء بكسر النون (إلى أجل مسمى) وهو وقت الولادة (ثمّ نخرجكم) من بطون أمهاتكم (طفلاً) أي أطفالاً وإنما أفرده إرادة للجنس الشامل للواحد والمتعدد.
قال الزجاج: طفلاً في معنى أطفالاً، ودل عليه ذكر الجماعة، يعني في
_________
(١) مسلم ٢٦٤٣ - البخاري ١٥١٤.
وقال المبرّد: هو اسم يستعمل مصدراً كالرضا والعدل، فيقع على الواحد، والجمع قال الله تعالى: (أو الطفل الذين لم يظهروا)؛ ثم قيل نصبه على التمييز، قاله ابن جرير وفيه بعد، والظاهر أنه على الحال والطفل يطلق على الولد الصغير من وقت انفصاله إلى البلوغ، وأما الطفل بالفتح فهو الناعم والمرأة طفلة.
(ثم لتبلغوا أشدّكم) كأنه قيل نخرجكم لتكبروا شيئاً فشيئاً، ثم لتبلغوا إلى الأشد، وقيل أن ثم زائدة، والأشد هو كمال العقل، وكمال القوة والتمييز؛ قيل وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين، وهو في الأصل جمع شدة كأنعم جمع نعمة، وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في الأنعام (ومنكم من يتوفى) أي يموت قبل بلوغ الأشد الكبر، وقرئ مبنياً للفاعل أيضاً.
(ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) أي أخسّه وأدونه وهو الهرم والخرف وهو خمس وسبعون سنة قاله علي، وقيل ثمانون سنة، وقال قتادة: تسعون سنة حتى لا يعقل، ولهذا قال سبحانه (لكيلا يعلم) أي يعقل (من بعد علم) أي بعد عقله الأول (شيئاً) من الأشياء أو شيئاً من العلم، والمعنى أنه يصير من بعد أن كان ذا علم بالأشياء وفهم لها لا علم له ولا فهم كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة الرأي وقلة الفقه والعقل والفهم فينسى ما يعلمه، وينكر ما يعرفه، ومثله قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين) وقوله: (ومن نعمّره ننكّسه في الخلق) قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر بهذه الحالة أي فهذا الرد والنكس خاص بغير قارئ القرآن والعلماء، وأما هؤلاء فلا يردّون في آخر عمرهم إلى الأرذل بل يزداد عقلهم كلما طال عمرهم.
(فإذا أنزلنا عليها الماء) أي ماء المطر والأنهار والبحار والعيون والسواقي (اهتزت) أي تحركت في رأي العين، والاهتزاز شدة الحركة، يقال هززت الشيء فاهتز أي حركته فتحرك، والمعنى تحركت بالنبات؛ لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة حقيقية، فسمّاه اهتزازاً مجازاً، وقال المبرّد المعنى اهتز نباتها، واهتزازه شدة حركته، والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض (وربت) أي ارتفعت، وقيل انتفخت وزادت، والمعنى واحد وأصله الزيادة؛ يقال: ربا الشيء يربو ربواً إذا زاد، ومنه الربا والربوة وربأت أي ارتفعت حتى صارت بمنزلة الرابية، وهو الذي يحفظ القوم على مكان مشرف، ويقال له راب ورابية وربيئة.
(وأنبتت) أي أخرجت (من كل زوج بهيج) أي من كل صنف حسن ولون مستحسن سارّ للناظرين إليه والبهجة الحسن، قاله ابن عباس، يعني الشيء المشرق الجميل و (من) زائدة، والإسناد مجازي، لأن المنبت في الحقيقة هو الله تعالى.
قال الزجاج: ذلك في موضع رفع، أي الأمر ما وصفه لكم وبين بأن الله هو الحق؛ والجملة مستأنفة ولما ذكر افتقار الموجودات إليه سبحانه، وتسخيرها على وفق إرادته واقتداره، قال بعد ذلك هذه المقالات.
(وأنه يحيى الموتى وأنه على كل شيء) من الأشياء (قدير) والمعنى أنه المتفرد بهذه الأمور، وأنها من شأنه لا يدعي غيره أنه يقدر على شيء منها فدل سبحانه بهذا على أنه الحق الحقيقي الغني المطلق، وأن وجود كل موجود مستفاد منه
(لا ريب فيها) ولا تردد، ثم أخبر سبحانه عن البعث فقال: (وأن الله يبعث من في القبور) فيجازيهم بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً
والمعنى ومن الناس فريق يجادل في الله فيدخل في ذلك كل مجادل في ذات الله أو صفاته أو شرائعه الواضحة (بغير علم) أي كائناً بغير علم، قيل والمراد بالعلم هو العلم الضروري (ولا هدى) وهو العلم النظري الاستدلالي؛ لأن الدليل يهدي إلى المعرفة، والأولى حمل العلم على العموم وحمل الهدى على معناه اللغوي وهو الإرشاد.
(ولا كتاب) أي وحي (منير) وهو القرآن، والمعنى أنه يجادل من غير مقدمة ضرورية ولا نظرية ولا سمعية والعلم للإنسان من أحد هذه الوجوه الثلاثة والمنير: النير البيّن الحجة الواضح البرهان، وهو إن دخل تحت قوله بغير علم فإفراده بالذكر كإفراد جبريل بالذكر بعد ذكر الملائكة وذلك لكونه الفرد الكامل الفائق على غيره من أفراد العلم، وأما من حمل العلم على الضروري والهدى على الاستدلالي، فقد حمل الكتاب هنا على الدليل السمعي فتكون الآية متضمنة لنفي الدليل العقلي ضرورياً كان أو استدلالياً، ومتضمنة لنفي الدليل النقلي بأقسامه وما ذكرناه أولى. قيل والمراد بهذا المجادل في هذه الآية هو المجادل في الآية الأولى أعني قوله: (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد) وبذلك قال كثير من المفسرين والتكرير للمبالغة في الذم، كما تقول لرجل تذمّه وتوبّخه: أنت فعلت هذا! أنت
ولا وجه لهذا كما أنه لا وجه لقول من قال إن الآية الأولى خاصة بإضلال المتبوعين لتابعيهم، والثانية عامة في كل إضلال وجدال.
الأول: إن المراد به من يلوي عنقه مرحاً وكبراً ذكر معناه الزجاج قال: وهذا يوصف به المتكبر، قال ابن عباس: أي مستكبراً في نفسه، وقال المبرّد: العطف من انثنى من العنق.
الوجه الثاني: أنّ المراد بقوله: (ثاني عطفه) الإعراض أي معرضاً عن الذكر كذا قال الفرّاء والمفضّل وغيرهما كقوله تعالى: (ولّى مستكبراً كأن لم يسمعها) وقوله: (لووا رؤوسهم) وقوله: (أعرض ونأى بجانبه) وقيل المعنى مانع تعطفه إلى غيره.
(ليضل عن سبيل الله) أي ليستمر أو ليزيد ضلاله، وإن ضلاله كالغرض له لكونه مآله، قرئ ليضل بفتح الياء وضمها والسبيل هنا الدين، يعني أن غرضه هو الإضلال عن السبيل وإن لم يعترف بذلك، وقيل هي لام العاقبة كأنه جعل ضلاله عائداً لجداله (له في الدنيا خزي) مستأنفة مبينة لما يحصل له بسبب جداله من العقوبة والخزي والذل، وذلك بما يناله من العقوبة
(ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق) أي عذاب النار المحرقة، ثم يقال له
(وأن الله ليس بظلام) أي بذي ظلم (للعبيد) أي والأمر أنه سبحانه لا يعذب عباده بغير ذنب. وقد مر الكلام على هذه الآية في آخر آل عمران فلا نعيده
وقيل الحرف الشرط. والشرط هو قوله: (فإن أصابه خير) دنيوي من رخاء وصحة وعافية وسلامة وخصب وكثرة مال (اطمأنّ به) أي ثبت على دينه واستمر على عبادته أو اطمأن قلبه بذلك الخير الذي أصابه وسكن إليه (وإن أصابته فتنة) أي شيء يفتتن به من مكروه يصيبه في أهله وماله أو نفسه ومعيشته كالجدب والمرض وسائر المحن.
(انقلب على وجهه) أي ارتد ورجع إلى الوجه الذي كان عليه من
(ذلك هو الخسران المبين) أي الواضح الظاهر الذي لا خسران مثله. فإنه إذا لم ينضم إليه الأخروي أو بالعكس لم يتمحض خسراناً فلم يظهر كونه كذلك ظهوراً تاماً، فانحصر الخسران المبين فيه على ما دل عليه الإتيان بضمير الفصل. قاله الكرخي.
أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس في الآية قال: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً وأنتجت خيله قال هذا دين صالح. وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه بسند صحيح قال: كان ناس من الإعراب يأتون النبي ﷺ يسلمون، فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن، قالوا إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به، وإن وجدوا عام جدب وعام ولاد سوء وعام قحط، قالوا ما في ديننا هذا خير فأنزل الله هذه الآية.
وعن أبي سعيد قال: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده. فتشاءم بالإسلام، فأتى النبي ﷺ فقال: أقلني أقلني، قال: " إن الإسلام لا يقال "، فقال: لم أصب من ديني هذا خيراً، ذهب بصري ومالي ومات ولدي، فقال: " يا يهودي الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة "، فنزلت هذه الآية. أخرجه ابن مردويه.
وقال الشهاب: دفع التنافي بأن النفي باعتبار ما في نفس الأمر والإثبات باعتبار زعمهم الباطل. انتهى.
(ذلك) أي الدعاء المفهوم من يدعو (هو الضلال البعيد) عن الحق والرشد مستعار من ضلال من سلك غير الطريق فصار بضلاله بعيداً عنها. قال الفراء: البعيد الطويل.
والمعنى أنه يقول ذلك الكافر يوم القيامة (لبئس المولى) أنت (ولبئس العشير أنت)، و (المولى) الناصر، و (العشير) الصاحب.
وقال الزجاج: أي ذلك هو الضلال البعيد يدعوه، وعلى هذا قوله؛ من ضره كلام مستأنف مبتدأ، وخبره لبئس المولى، قال: وهذا لأن اللام لليمين والتوكيد فجعلها أول الكلام.
وقال الزجاج والفراء: يجوز أن يكون (يدعو) مكررة على ما قبلها على جهة تكثير هذا الفعل الذي هو الدعاء، أي يدعو ما لا يضره ولا ينفعه يدعو. وقال الفراء والكسائي والزجاج: معنى الكلام القسم، والتقدير يدعو من لَضره أقرب من نفعه. وقال محمد بن يزيد: المعنى يدعو لن ضره أقرب من نفعه إلهاً، قال النحاس: وأحسب هذا القول غلطاً منه.
وقال الفراء والقفال: اللام صلة، والمعنى يدعو من ضره أقرب من نفعه، واللام في (لبئس المولى ولبئس العشير) على هذا موطئة للقسم.
(إن الله يفعل ما يريد) تعليل لما قبلها، أي يفعل ما يريده من الأفعال لا يسئل عما يفعل، فيثيب من يشاء ويعذب من يشاء، ويكرم من يطيعه، ويهين من يعصيه.
وقال أبو السعود: المعنى أنه تعالى ناصر لرسوله في الدنيا والآخرة لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه، فمن كان يغيظه ذلك من أعاديه وحساده ويظن أن لن يفعله تعالى بسبب مدافعته ببعض الأمور ومباشرة ما يرده من المكايد فليبالغ في استفراغ المجهود وليجاوز في الجدّ كل حد معهود، فقصارى أثره وعاقبة أمره أن يختنق خنقاً مما يرى من ضلال مساعيه، وعدم إنتاج مقدمات مبادية.
وقيل المعنى فليشدد حبلاً في سقف بيته ثم ليقطع، أي ليمد الحبل حتى ينقطع فيموت مختنقاً، والمعنى فليختنق غيظاً حتى يموت، فإن الله ناصره ﷺ ومظهره ولا ينفعه غيظه. وبه قال ابن عباس. وقيل المعنى من كان يظن أن الله لا يرزقه فليقتل نفسه، فلينظر هل ينفعه ذلك أو يأتيه برزق؟.
وقيل هم قوم يعبدون الشمس والقمر، وقيل هم يستعملون النجاسات. وقيل هم قوم من النصارى اعتزلوهم ولبسوا المسوح، وقيل إنهم أخذوا بعض دين اليهود وبعض دين النصارى.
قال قتادة: الصابئون هم قوم يعبدون الملائكة ويصلّون للقبلة ويقرأون الزبور، والمجوس عبدة الشمس والقمر والنيران؛ والذين أشركوا عبدة الأوثان (إن الله يفصل) أي يقضي (بينهم يوم القيامة) فيُدخل المؤمنين منهم الجنة، والكافرين منهم النار، وقيل الفصل هو أن يُميز المُحق من المبطل بعلامة يعرف بها كل واحد منهما.
وقيل يفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعاً فلا يجازيهم جزاء واحداً بغير تفاوت، ولا يجمعهم في موطن واحد قال قتادة: الأديان ستة؛ فخمسة للشيطان وواحد للرحمن. وعن عكرمة قال: فصل قضاء بينهم فجعل الخمسة مشتركة وجعل هذه الأمة واحدة.
وعن ابن عباس قال: (والذين هادوا) اليهود والصابئون ليس لهم كتاب، والمجوس أصحاب الأصنام، والمشركون نصارى العرب (إن الله) تعليل لما قبلها وكأن قائلاً قال: أهذا الفصل عن علم أو لا؟ فقيل إن الله (على كل شيء) من أفعال خلقه وأقوالهم " شهيد " عالم علم مشاهدة لا يعزب عنه شيء منها، ومن قضيته الإحاطة بتفاصيل ما صدر عن كل فرد من أفراد الفرق المذكورة، والظاهر تعميم الكلام لعبدة الأوثان ولعباد الشمس والقمر والنجوم. قاله الكرخي.
(والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب) على (من) فإن ذلك يفيد أن السجود هو الانقياد لا الطاعة الخاصة بالعقلاء، وإنّما أفرد هذه الأمور بالذكر مع كونها داخلة تحت (من) على تقدير جعلها عامة لكون قيام السجود بها مستبعداً في العادة. وقوله:
(وكثير من الناس) مرتفع على الابتداء وخبره محذوف، تقديره وكثير من الناس يستحق الثواب، وإنما لم يرتفع بالعطف على (من) لأن سجود هؤلاء الكثير هو سجود الطاعة الخاصة بالعقلاء، والمراد بالسجود المتقدم هو الانقياد فلو ارتفع بالعطف لكان في ذلك جمع بين معنيين مختلفين في لفظ واحد، وأنت خبير بأنه لا ملجئ إلى هذا بعد حمل السجود على الانقياد، ولا شك أنه يصح أن يراد من سجود كثير من الناس هو انقيادهم، لا نفس السجود الخاص، فارتفاعه بالعطف لا بأس به، وإن أبي ذلك صاحب الكشاف ومتابعوه.
(وكثير) مرتفع بالابتداء وخبره (حق عليه العذاب) قاله الكسائي والفراء وقيل معطوف على كثير، الأول أي وكثير من الناس يسجد؛ وكثير منهم يأبى ذلك. وقيل المعنى وكثير من الناس في الجنة، وكثير حق عليه العذاب. هكذا حكاه ابن الأنباري.
(ومن يهن الله) أي من أهانه الله بأن جعله كافراً شقياً (فما له من مكرم) يكرمه فيصير سعيداً عزيزاً. وحكى الأخفش والكسائي والفراء أي من إكرام؛ فهو على هذا مكرم بفتح الراء اسم مصدر.
(إن الله يفعل ما يشاء) من الأشياء التي من جملتها ما تقدم ذكره من الشقاوة والسعادة والإكرام والإهانة، وظاهر هذه الآية والتي قبلها ينقض على المعتزلة قولهم لأنهم يقولون: شاء أشياء ولم يفعل وهو يقول يفعل ما يشاء
وهذه السجدة من عزائم السجود، فيسنّ للقارئ والمستمع أن يسجدا عند تلاوتها أو سماعها
وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أيضاً عن علي أنه قال: فينا نزلت هذه الآية، وأنا أول من يجثو في الخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة: وقال سبحانه.
(اختصموا) ولم يقل اختصما لأنهم جمع، ولو قال اختصما لجاز، قاله
قال أبو حيان: الظاهر أن الاختصام هو في الآخرة، بدليل التقسيم بالفاء الدالة على التعقيب في قوله: فالذين كفروا، وإن قلنا هذا في الدنيا فالجواب أنه لما كان تحقيق مضمونه في ذلك اليوم صح جعل يوم القيامة ظرفاً له بهذا الاعتبار ثم فصّل سبحانه ما أجمله في قوله يفصل بينهم فقال:
(فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار) أي قدرت لهم على قدر جثثهم لأن الثياب الجدد تقطع على مقدار بدن من يلبسها، فالتقطيع مجاز عن التقدير بذكر المسبب وهو التقطيع وإرادة السبب وهو التقدير والتخمين، والظاهر أنه بعد ذلك جعل تقطيعها استعارة تمثيلية تهكمية شبه إعداد النار وإحاطتها بهم بتفصيل ثياب لهم وجمع الثياب لأن النار لتراكمها عليهم كالثياب الملبوس بعضها فوق بعض وهذا أبلغ من جعلها من مقابلة الجمع بالجمع.
قال الأزهري: المعنى سوّيت وجعلت لبوساً لهم، وإنما شبهت النار بالثياب لأنها مشتملة عليهم كاشتمال الثياب وعبر بالماضي عن المستقبل تنبيهاً على تحقق وقوعه.
وقيل إن هذه الثياب من نحاس قد أذيب فصار كالنار وهي السرابيل المذكورة في آية أخرى، قاله سعيد بن جبير، وزاد ليس من الآنية شيء إذا حمي أشد حراً منه، وقيل المعنى في الآية أحاطت النار بهم، والحق إجراء النظم القرآني على ظاهره ولا نرتضي تأويله بما يخالف لفظه ومعناه، وقرئ قُطِعَت بالتخفيف.
(يصبّ من فوق رؤوسهم الحميم) هو الماء الحار المغلي بنار جهنم انتهت حرارته، والجملة مستأنفة، قال النحاس: يذاب على رؤوسهم
قال ابن عباس: تسيل أمعاؤهم (والجلود) قال ابن عباس: يتناثر
وعن ابن عباس قال: يمشون وأمعاؤهم تتساقط وجلودهم، وعنه قال: يسقون ماء إذا دخل في بطونهم أذابها والجلود مع البطون، والصهر الإذابة والصهارة ما ذاب منه، يقال صهرت الشيء فانصهر أي أذبته فذاب فهو صهير، والمعنى أنه يذاب بذلك الحميم ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء ويصهر به الجلود.
وقيل إنّ الجلود لا تذاب بل تحرق فيقدر فعل يناسب ذلك. ويقال وتحرق به الجلود ولا يخفى أنه لا ملجئ لهذا، فإن الحميم إذا كان يذيب ما في البطون فإذابته للجلد الظاهر بالأولى.
_________
(١) المستدرك كتاب التفسير ٢/ ٣٨٧.
أحدهما: أنها للاستحقاق.
والثاني: أنها بمعنى على، كقوله. ولهم اللعنة وليس بشيء. الوجه الثاني: إن الضمير يعود على الزبانية أعوان جهنم ويدل عليه سياق الكلام وفيه بعد.
وقوله (مقامع) جمع مقمعة ومقمع، يقال قمعته ضربته بالمقمعة وهي قطعة من حديد، يقال: قمعه يقمعه من باب قطع إذا ضربه بشيء يزجره به ويذله والمقمعة المطرقة، وقيل السوط وسميت المقامع مقامع لأنها تقمع
(من حديد) يضربون بها، أخرج أحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله ﷺ قال: " لو أن مقمعاً من حديد وضع في الأرض فاجتمع الثقلان ما أقلوه من الأرض، ولو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ثم عاد كما كان " (١).
_________
(١) المستدرك، كتاب الأهوال ٤/ ٦٠٨.
(أعيدوا فيها) أي ردوا إليها بالضرب بالمقامع، وهي الجرز من الحديد؛ والمراد إعادتهم إلى معظم النار لا أنهم ينفصلون عنها بالكلية ثم يعودون إليها، عن سلمان قال: النار سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا جمرها، ثم قرأ. كلما أرادوا الآية (و) قيل لهم (ذوقوا عذاب الحريق) أي المحرق الغليظ المنتشر العظيم الإهلاك البالغ نهاية الإحراق وأصل الحريق الاسم من الاحتراق تحرق الشيء بالنار واحترق حرقة واحتراقاً، والذوق مماسة يحصل معها إدراك الطعم، وهو هنا توسع، والمراد به إدراك الألم، قال الزجاج: وهذا لأحد الخصمين، وقال في الخصم الآخر وهم المؤمنون.
(ولباسهم) أي جميع ما يلبسونه (فيها حرير) كما تفيده هذه الإضافة، ويجوز أن يراد أن هذا النوع من الملبوس الذي كان محرماً عليهم في الدنيا حلال لهم في الآخرة، وأنه من جملة ما يلبسونه فيها، ففيها ما تشتهيه الأنفس؛ وكل واحد منهم يعطى ما تشتهيه نفسه، وينال ما يريده.
وفي الصحيحين وغيرهما عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " (١) وفي الباب أحاديث. وغيّر الأسلوب حيث لم يقل: ويلبسون فيها حريراً، للمحافظة على الفواصل، وللدلالة على أن الحرير ثيابهم المعتادة في الجنة، فإن العدول إلى الجملة الاسمية يدل على الدوام.
_________
(١) مسلم ٢٠٧٣ - البخاري ٢٢٧٩.
(و) معنى (هدوا إلى صراط الحميد) أنهم أرشدوا إلى الصراط المحمود، وهو الطريق الموصلة إلى الجنة أو صراط الله الذي هو دينه القويم وهو الإسلام قاله الضحاك.
(والسجد الحرام) قيل: المراد به المسجد نفسه كما هو الظاهر من هذا النظم القرآني؛ وقيل: الحرم كله، لأن المشركين صدوا رسول الله ﷺ وأصحابه عنه يوم الحديبية، وقيل المراد به مكة بدليل قوله:
(الذي جعلناه للناس) على العموم يصلّون فيه، ويطوفون به (سواء) مستويان (العاكف) المقيم (فيه) الملازم له، ويدخل فيه الغريب إذا جاور وأقام به ولزم التعبد فيه (والباد) أي الواصل من البادية، والمراد به الطارئ عليه المنتاب إليه من غير فرق بين كونه من أهل البادية أو من غيرهم، وصف المسجد الحرام بذلك لزيادة التقريع والتوبيخ للصادين عنه، وقيل جعلناه للناس قبلة لصلاتهم ومنسكاً ومتعبداً للعاكف والبادي، سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك به. وإليه ذهب مجاهد والحسن وجماعة
قال القرطبي: وأجمع الناس على الاستواء في المسجد الحرام نفسه، واختلفوا في مكة فذهب مجاهد ومالك إلى أن دور مكة ومنازلها يستوي فيها المقيم والطارئ وذهب عمر بن الخطاب وابن عباس وجماعة إلى أن للقادم أن ينزل حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أم أبي.
وذهب الجمهور إلى أن دور مكة ومنازلها ليست كالمسجد الحرام ولأهلها منع الطارئ من النزول فيها.
والحاصل أن الكلام في هذا راجع إلى أصلين: الأول ما في هذه الآية، هل المراد بالمسجد الحرام نفسه أو جميع الحرم أو مكة على الخصوص. والثاني هل كان فتح مكة صلحاً أو عنوة؟ وعلى فرض أن فتحها كان عنوة. وهل أقرها النبي ﷺ في أيدي أهلها على الخصوص أو جعلها لمن نزل بها على العموم، وقد أوضح الشوكاني هذا في شرحه على المنتقي بما لا يحتاج الناظر فيه إلى زيادة. ثم قال فيه بعد ذكر حجج الفريقين.
ومن أوضح الأدلة على أنها فتحت عنوة قوله صلى الله عليه وسلم، " وإنما أحلَّت لي ساعة من نهار " (٢)، فإن هذا تصريح بأنها أحلت له في ذلك بسفك الدماء بها وأن حرمتها ذهبت فيه وعادت بعده، ولو كانت مفتوحة صلحاً لما كان لذلك معنى، وقد ذكر المقبلي في الاتحاف أدلة قوية على أن المراد به نفس المسجد. وعن ابن عباس: المسجد الحرام الحرم كله خلق الله فيه سواء. وعن سعيد بن جبير مثله. وأيضاً قال: هم في منازل مكة سواء
_________
(١) النسائي كتاب الحج باب ٤٢.
(٢) البخاري كتاب العلم باب ٣٧. ٣٩ - أبو داوود كتاب المناسك باب ٨٩.
وعن عمر بن الخطاب أن رجلاً قال له عند المروة: أقطعني مكاناً لي ولعقبي فأعرض عنه وقال: هو حرم الله، سواء العاكف فيه والباد. وكان عمر يمنع أهل مكة أن يجعلوا لها أبواباً حتى ينزل الحاج في عرصات الدور.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله " - ﷺ - " في الآية: " سواء المقيم والذي يدخل " أخرجه الطبراني وغيره، قال السيوطي: بإسناد صحيح.
وعن ابن عمر مرفوعاً قال: " مكة مباحة لا تؤجر بيوتها ولا تباع رباعها " أخرجه ابن مردويه.
وعن علقمة بن نضلة قال: " توفي رسول الله " - ﷺ - " وأبو بكر وعمر وما يدعى رباع مكة إلا السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى سكن. رواه ابن ماجة. وأخرج الدارقطني عن ابن عمر مرفوعاً " من أكل كراء بيوت مكة أكل ناراً، وعلى هذا القول لا يجوز بيع دور مكة وإجارتها لأنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والبادي، وإليه ذهب أبو حنيفة وعلى القول الأول يجوز ذلك، وإليه ذهب الشافعي مستدلاً بقوله تعالى: (الذين أخرجوا من ديارهم) فنسب الديار إليهم نسبة ملك واشتراء.
وقال رسول الله " - ﷺ - " يوم الفتح: " من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن " (١) والأول أقوى والله أعلم.
(ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) مفعول (يرد) محذوف لقصد التعميم، أي من يرد فيه مراداً، أي مراداً بعدول عن القصد والاعتدال. والإلحاد في اللغة الميل، إلا أنه سبحانه بين هنا أنه الميل بظلم. وقد اختلف في هذا
_________
(١) مسلم ١٧٨٠.
وقيل المراد المعاصي فيه على العموم حتى شتم الخادم، وقيل هو دخول الحرم بغير احرام أو ارتكاب شيء من محظورات الحرم؛ وقيل احتكار الطعام، لما روى يعلى بن أمية أن رسول الله " - ﷺ - " قال: " إن احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه " أخرجه أبو داود (١).
وعن ابن عمر " بيع الطعام بمكة الحاد " وعنه سمعت رسول الله " - ﷺ - " يقول: " احتكار الطعام بمكة إلحاد " (٢) أخرجه البيهقي في الشعب، والباء في بإلحاد قيل ليست بزائدة إنْ كان مفعول (يرد) محذوفاً كما ذكرنا. وقيل زائدة، وبه قال الأخفش، والمعنى عنده ومن يرد فيه إلحاداً بظلم، وقال أهل الكوفة: المعنى بأن يلحد، وقيل من يرد الناس بإلحاد، وقيل إن يرد مضمناً معنى يهم، والمعنى من يهم فيه بإلحاد، والباء في بظلم للسببية وقيل غير ذلك.
(نذقه من عذاب أليم) في الآخرة إلا أن يتوب. قاله السدي، قيل المراد بهذه الآية أنه يعاقب بمجرد الإرادة للمعصية في ذلك المكان، وقد ذهب إلى هذا ابن مسعود وابن عمر والضحاك وابن زيد وغيرهم حتى قالوا: لو همّ الرجل في الحرم بقتل رجل بعدن لعذبه الله.
وعن ابن مسعود رفعه قال: لو أن رجلاً همّ بإلحاد بظلم وهو بعدن أبين لأذاقه الله عذاباً أليماً. قال ابن كثير: هذا الإسناد صحيح على شرط البخاري وقفه أشبه من رفعه. وعنه قال: من همّ بخطيئة فلم يعملها في
_________
(١) أبو داوود كتاب المناسك ٨٩.
(٢) مشكاة المصابيح ٢٧٢٣.
وعن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أنَيْس أن رسول الله ﷺ بعثه مع رجلين أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار، فافتخروا في الأنساب، فغضب ابن أنيس فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الإسلام وهرب إلى مكة، فنزلت فيه (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم)؛ يعني من لجأ إلى الحرام بإلحاد بميل عن الإسلام.
والحاصل أن هذه الآية دلت على أن من كان في البيت الحرام مأخوذ بمجرد الإرادة للظلم فهي مخصصة لما ورد من أن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها إلا أن يقال إن الإرادة فيها زيادة على مجرد حديث النفس، وبالجملة فالبحث عن هذا تقرير الحق فيه على وجه يجمع بين الأدلة ويرفع الإشكال يطول جداً، ومثل هذه الآية حديث " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار "، قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: " إنه كان حريصاً على قتل صاحبه " (١)، فدخل النار هنا بمجرد حرصه على قتل صاحبه، وقد أفرد الشوكاني هذا البحث برسالة مستقلة.
_________
(١) مسلم ٢٨٨٨ - البخاري ٢٩.
(وطهر بيتي) من الشرك والأقذار وعبادة الأوثان، وفي الآية طعن على أن من أشرك من قطان البيت، أي هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعده، وأنتم فلم تفوا بل أشركتم. والمعنى تطهيره من الكفر والأوثان والدماء والبدع وسائر النجاسات.
وقيل: عنى به التطهير عن الأوثان فقط، وذلك أن جرهماً والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت وحوله قبل أن يبنيه إبراهيم، وقيل المعنى نزهه أن يعبد فيه صنم، وهذا أمر بإظهار التوحيد فيه. وقد مر في سورة براءة ما فيه كفاية في هذا المعنى.
(للطائفين) الذين يطوفون بالبيت (والقائمين) هم المصلون (و) ذكر قوله: (الركع السجود) بعده لبيان أركان الصلاة دلالة على عظم شأن هذه العبادة، وقرن الطواف بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا في البيت، كالطواف عنده والصلاة إليه.
وقيل: علا على جبل أبي قبيس فلما صعده للنداء خفضت الجبال رؤوسها ورفعت له القرى فأدخل أصبعيه في أذنيه وأقبل بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً، ونادى في الناس بالحج قال: يا أيها الناس إن ربكم بنى بيتاً وكتب عليكم الحج إليه فأجيبوا ربكم، فأجابه كل من كتب له أن يحج ممن كان في أصلاب الرجال وأرحام الأمهات، لبيك اللهم لبيك. قال القسطلاني: فمن لبى مرة حج مرة، ومن لبى مرتين حج مرتين، ومن لبى أكثر حج بقدر تلبيته. انتهى، قيل: أول من أجابه أهل اليمن فهم أكثر الناس حجاً.
وقيل إن الخطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى أعلمهم يا محمد بوجوب الحج عليهم، وعلى هذا فالخطاب لإبراهيم انتهى عند قوله: (والركع السجود) وقيل إن خطابه انتهى عند قوله (مكان البيت)، وما بعده خطاب لنبينا محمد ﷺ أمره أن يقول ذلك في حجة الوداع.
عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله " - ﷺ - " فقال: " يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا " أخرجه مسلم (١)، قال في المدارك: والأول أظهر وقرأ الجمهور بالحج بفتح الحاء، وابن إسحاق في كل القرآن بكسرها.
(يأتوك رجالاً) هذا جواب الأمر وعده الله إجابة الناس له إلى حج البيت ما بين راجل وراكب، فمعنى رجالاً مشاة جمع راجل وقيل: جمع رجل، وقرئ بضم الراء رُجالاً، وقرئ على وزن كسالى، وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي، قال الكرخي: إذ للراكب بكل خطوة سبعون حسنة وللراجل سبعمائة من حسنات الحرم، كل حسنة مائة
_________
(١) مسلم ١٣٣٧ - النسائي كتاب المناسك باب ١.
أقول: المعتمد في الباب أن الركوب أفضل من المشي لأن رسول الله " - ﷺ - " حج راكباً كما في الروايات الصحيحة المشهورة، وفضيلة الاتباع تربو على غيره، وإن كان المشي فضيلة في نفسه سواء قدر على المشي أم لا قبل الإحرام وبعده، والحديث الذي ذكره الكرخي تبعاً للغزالي، والرافعي ضعيف على ما فيه، قاله ابن علان في مثير شوق الأنام إلى بيت الله الحرام، وممن ضعّفه ابن حجر المكي في شرح العباب وشرح المنهاج. والجواب عن التقديم أنه قد لا يفيد التفضيل قطعاً أو على الأصح، وقد يتقدم المفضول ويتأخر الأفضل، قال تعالى: (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) وقال: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) وقال: (إن مع العسر يسراً) إلى غير ذلك من الآيات فليعلم، وقال: (يأتوك) وإن كانوا يأتون البيت لأن من أتى الكعبة حاجاً فقد أتى إبراهيم لأنه أجاب نداءه.
(وعلى كل ضامر) أي وركباناً على كل بعير، والضامر: البعير المهزول، الذي أتعبه السفر، يقال ضمر يضمر ضموراً؛ وضَمَر الفرس من باب دخل وضمُر أيضاً بالضم فهو ضامر فيهما، وناقة ضامر وضامرة وتضمير الفرس أيضاً أن تعلفه حتى يسمن، ثم ترده إلى القوت وذلك في أربعين يوماً، ووصف الضامر بقوله: (يأتين) باعتبار المعنى لأن ضامر في معنى ضوامر.
(من كل فج عميق) الفج الطريق الواسع، الجمع فجاج والعميق البعيد، قال النسفي: قدم الرجال على الركبان إظهاراً لفضيلة المشاة انتهى، وليس بشيء لأن الاستطاعة المفسرة بالزاد والراحلة في الحديث الصحيح شرط في فريضة الحج واستدل بذلك بعضهم على أنه لا يجب الحج على راكب البحر، وهو استدلال ضعيف، لأن مكة ليست على بحر، وإنما يتوصل إليها على إحدى هاتين الحالتين بمشي أو ركوب، فذكر تعالى ما يتوصل به إليها.
قال ابن عباس: أسواقاً كانت لهم ما ذكر الله منافع إلا الدنيا، وعنه قال: منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة، فأما منافع الآخرة فرضوان الله؛ وأما منافع الدنيا فما يصيبون من لحوم البدن في ذلك اليوم، والذبائح والتجارات، ونكر منافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات، وللنسفي في هذا المقام كلام حسن من باب الاعتبار تركنا ذكره روما للاختصار فمن شاء إدراكه فليرجع إلى المدارك.
(ويذكروا اسم الله) عند ذبح الهدايا والضحايا، وقيل إن هذا الذكر كناية عن الذبح لأنه لا ينفك عنه تنبيهاً على أن المقصود مما يتقرب به إلى الله تعالى أن يذكر اسمه (في أيام معلومات) هي أيام النحر كما يفيد ذلك قوله الآتي (على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) وبه قال ابن عمر والصاحبان، وقيل عشر ذي الحجة وهو قول أكثر المفسرين والشافعي وأبي حنيفة.
قال ابن عباس: الأيام المعلومات أيام العشر، وعنه قال: يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وعنه قال: أيام التشريق؛ وعنه قال: قبل يوم التروية
(على) ذبح (ما رزقهم من بهيمة الأنعام) هي الأنعام فالإضافة في هذا كالإضافة في قولهم مسجد الجامع وصلاة الأولى والبهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، فبينت بالأنعام، وهي الإبل والبقر والضأن والمعز التي تنحر في يوم العيد وما بعده من الهدايا والضحايا (فكلوا منها) أي من لحومها والأمر هنا للندب عند الجمهور، وذهبت طائفة إلى أن الأمر للوجوب، وهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب.
(وأطعموا البائس الفقير) البائس ذو البؤس، وهو شدة الفقر فذكر الفقير بعده لمزيد من الإيضاح، وقال ابن عباس: البائس، الزّمِن (١) الذي لا شيء له والأمر هنا للوجوب؛ وقيل للندب.
_________
(١) الزَمن بزاي مشددة مفتوحة بعدها ميم مكسورة وهو ذو العاهة.
قال الزجاج: إن أهل اللغة لا يعرفون التفث، وقال أبو عبيدة: لم يأت في الشعر ما يحتج به في معنى. التفث، وقال المبرد: أصل التفث في اللغة كل قاذورة تلحق الإنسان، وقيل قضاؤه ادهانه لأن الحاج مغبر شعث لم يدهن، ولم يستحد فإذا قضى نسكه وخرج من إحرامه حلق شعره ولبس ثيابه فهذا هو قضاء التفث قال الزجاج: كأنه خروج من الإحرام إلى الإحلال.
وعن ابن عمر قال: التَفثُ المناسك كلها، وعن ابن عباس نحوه،
(وليوفوا) بالتخفيف والتشديد (نذورهم) أي ما ينذرون به من البر في حجهم، والأمر للوجوب، وقيل المراد بالنذر هنا أعمال الحج، أو الهدايا والضحايا (وليطوفوا بالبيت العتيق) هذا الطواف هو طواف الإفاضة الواجب ووقته يوم النحر بعد الرمي والحلق.
قال ابن جرير: لا خلاف في ذلك بين المتأولين والعتيق القديم كما يفيده قوله سبحانه: (إنّ أول بيت وضع للناس) الآية، وقد سمي العتيق لأن الله أعتقه من أن يتسلط عليه جبار، فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله منه، وقيل لأن الله يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب.
وقيل لأنه أعتق من غرق الطوفان فإنه رفع في أيامه، وقيل لأنه لم يملك قط وقيل العتيق الكريم، وقد ورد في وجه تسمية البيت بالعتيق آثار عن جماعة من الصحابة، وهو مطاف أهل الغبراء، كما أن العرش مطاف أهل السماء، فإن الطالب إذا هاجته معية الطرب، وجذبته جواذب الطلب، جعل يقطع مناكب الأرض مراحل، ويتخذ مسالك المهالك منازل فإذا عاين البيت لم يزده التسلي به إلا اشتياقاً، ولم يفده باستلام الحجر إلا احتراقاً فيرده الأسف لهفان ويردده الكهف حوله في الدوران.
وورد في فضل الطواف أحاديث ليس هذا موضع ذكرها.
قال مجاهد: الحرمة مكة والحج والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلها، وقيل هي البيت الحرام، والمشعر الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام، والشهر الحرام، وتعظيمها القيام بمراعاتها وحفظ حرمتها، وقيل هي مناسك الحج، وتعظيمها إقامتها وإتمامها.
(فهو) أي فالتعظيم (خير له) من التهاون بشيء منها (عند ربه) يعني في الآخرة، وقيل إن صيغة التفضيل هنا لا يراد بها معناها الحقيقي، بل المراد أن ذلك التعظيم خير ينتفع به أي قربة وطاعة يثاب عليها عند الله فهو عدة بخير.
(وأحلت لكم الأنعام) أن تأكلوها بعد الذبح وهي الإبل والبقر والغنم كما تقدم (إلا ما يتلى عليكم) تحريمه في الكتاب العزيز من المحرمات وهي الميتة وما ذكر معها في آية المائدة فالاستثناء منقطع لما ذكر في آية المائدة بما ليس من جنس الأنعام كالدم ولحم الخنزير، ويجوز أن يكون متصلاً بأن يصرف إلى ما يحرم من بهيمة الأنعام بسبب عارض كالموت ونحوه، وقيل وجه الانقطاع أنه ليس في الأنعام محرم، قاله الشهاب والسمين، وقيل في قوله: (إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم).
(فاجتنبوا الرجس من الأوثان) الرجس: القذر والوسخ وعبادة الأوثان قذر معنوي والوثن التمثال وأصله من وثن الشيء أي أقام في مقامه وسمى الصليب وثناً لأنه ينصب ويركز في مقامه فلا يبرح عنه، والمراد اجتناب عبادة الأوثان وسماها رجساً لأنها سبب الرجس، وهو العذاب، وقيل جعلها سبحانه رجساً حكماً والرجس النجس وليست النجاسة وصفاً ذاتياً لها، ولكنها
وقال ابن عباس: يقول اجتنبوا طاعة الشيطان في عبادة الأوثان (واجتنبوا قول الزور) الذي هو الباطل وسمي زوراً لأنه مائل عن الحق، ومنه قوله تعالى: (تزاور عن كهفهم) وقوله: (مدينة زوراء) أي مائلة، والمراد هنا قول الزور على العموم فهو تعميم بعد تخصيص، فإن عبادة الأوثان رأس الزور، والمشرك زاعم أن الوثن تحق له العبادة فأعظمه الشرك بالله بأي لفظ كان.
وقال الزجاج: المراد هنا تحليلهم بعض الأنعام وتحريمهم بعضها، وقولهم: هذا حلال وهذا حرام، وقيل المراد به شهادة الزور، وقال ابن عباس: يعني الافتراء على الله والتكذيب به وقيل هو قول المشركين في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك
أخرج أحمد والترمذي وابن المنذر وغيرهم عن أيمن بن حريم قال: قام رسول الله ﷺ خطيباً فقال: " يا أيها الناس عدلت شهادة الزور شركاً بالله ثلاثاً، ثم قرأ هذه الآية (١)، قال أحمد: غريب ولا نعرف لأيمن بن حريم سماعاً من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في الصحيحن وغيرهما من حديث أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثاً، قلنا بلى يا رسول الله، قال الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس فقال وقول الزور ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " (٢).
_________
(١) الترمذي كتاب الشهادات باب ٣.
(٢) مسلم ٨٧ - البخاري ١٢٩١.
وعن أبي بكر الصديق نحوه ولا وجه لهذا (غير مشركين به) شيئاً من الأشياء كما يفيده الحذف من العموم تأكيد لما قبله، وهما حالان من الواو في اجتنبوا، والأولى مؤسسة، والثانية مؤكدة، قيل أن أهل الجاهلية كانوا يحجون مشركين، فلما أظهر الله الإسلام قال الله للمسلمين: حجوا الآن غير مشركين به.
(ومن يشرك بالله) مبتدأة مؤكدة لما قبلها من الأمر بالاجتناب، والغرض بهذا ضرب المثل لمن يشرك بالله، والمعنى أن بعد من أشرك به عن الحق والإيمان (فكأنما خر) أي كبعد من سقط (من السماء) إلى الأرض، أي انحط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر.
(فتخطفه الطير) يقال خطفه يخطفه إذا سلبه، ومنه قوله: (يخطف أبصارهم) أي تخطف لحمه وتسلبه وتقطعه بمخالبها وتذهب به، وقرئ بتشديد الطاء وفتحها وبكسر الخاء والطاء وبكسر التاء مع كسرهما.
(أو تهوي به الريح) أي تقذفه وترمي به (في مكان سحيق) يقال
قال الزمخشري: يجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركب والمفرق، فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس بعده هلاك، بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير متفرقاً موزعاً في حواصلها، وعصفت به الريح حتى هوت به في بعض الأماكن البعيدة وإن كان مفرقاً، فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله بالساقط من السماء والأهواء المردية بالطير المختطفة، والشيطان الموقع في الضلال بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة.
وعن ابن عباس في الآية قال: الشعار البدن والاستسمان والاستحسان والاستعظام وينبغي للإنسان أن يترك المشاحة في ثمنها.
روي أن رسول الله - ﷺ - أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب، وأن عمر أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار.
(فإنها) الضمير يرجع إلى الشعائر بتقدير مضاف محذوف، أي فإن تعظيم الشعائر (من تقوى القلوب) أي مبتدأ وناشئ من أفعال القلوب التي هي من التقوى، وإنما ذكر القلوب لأنها مراكز التقوى
(منافع) ومنها الركوب والدر والنسل والصوف والوبر وغير ذلك مما لا يضرها (إلى أجل مسمى) وهو وقت نحرها، وقيل إلى أن تسمى بدناً، قاله ابن عباس، وعن مجاهد نحوه، وقال: في ظهورها وألبانها وأوبارها وأشعارها وأصوافها منافع إلى أن تسمى هدياً، فإذا سميت هدياً ذهبت المنافع.
(ثم محلِها) أي حيث يحل نحرها حين تسمى (إلى البيت العتيق) المعنى أنها تنتهي إلى البيت وما يلية من الحرم، فمنافعهم الدنيوية المستفادة منها مستمرة إلى وقت نحرها، ثم تكون منافعها بعد ذلك دينية.
وقيل إن محلها هاهنا مأخوذ من إحلال الحرام، والمعنى أن شعائر الحج كلها من الوقوف بعرفة ورمي الجمار والسعي ينتهي إلى طواف الإفاضة بالبيت، فالبيت على هذا مراد بنفسه. قال عكرمة: إذا دخلت الحرم فقد بلغت محلها.
وروي عن الفراء أن المنسك العيد، وبه قال ابن عباس وقيل هو الحج. وقال مجاهد في الآية: إهراق الدماء، وعن عكرمة قال: ذبحاً، وعن
(ليذكروا اسم الله) والمعنى جعلنا لكل أهل دين من الأديان أو لجماعة مسلمة سلفت قبلكم ذبحاً يذبحونه ودماً يريقونه أو متعبداً أو طاعة أو عيداً أو حجاً يحجونه ليذكروا اسم الله وحده ويجعلوا نسكهم خاصاً به (على) ذبح (ما رزقهم من بهيمة الأنعام) سماها بهيمة لأنها لا تتكلم، وقيد بالأنعام لأن القربان لا يكون إلا من الأنعام دون غيرها وإن أجاز أكله، وفي القاموس البهيمة كل ذات أربع قوائم ولو في الماء، أو كل حي لا يميز، والجمع بهائم، والأبهم الأعجم، واستبهم استعجم فلم يقدر على الكلام.
وفي الآية دليل على أن المقصود من الذبح المذكور هو ذكر اسم الله عليه، وقد وردت أحاديث في الأضحية ليس هذا موضع ذكرها. ثم أخبرهم سبحانه بتفرده بالإلهية وأنه لا شريك له فقال:
(فإلهكم إله واحد) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، ثم أمرهم بالإسلام والانقياد لطاعته وعبادته فقال: (فله أسلموا) أي انقادوا وأخلصوا وأطيعوا وتقديم الظرف على الفعل للقصر، والفاء كالفاء التي قبلها.
(وبشر المخبتين) من عباده، أي المتواضعين الخاشعين المخلصين. وقال مجاهد: أي المطمئنين، وقال عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون الناس، وإذا ظلموا لم ينتصروا، وهو مأخوذ من الخبت وهو المنخفض من الأرض، والمعنى بشّرهم يا محمد بما أعد الله لهم من جزيل ثوابه وجليل عطائه، ولا يخفى حسن التعبير بالمخبتين هنا من حيث إن نزول الخبت مناسب للحجاج لما فيهم من صفات المتواضعين، كالتجرد عن اللباس وكشف الرأس والغربة عن الأوطان، ولذا وصف سبحانه هؤلاء المخبتين بقوله:
(ومما رزقناهم ينفقون) أي يتصدقون به وينفقونه في وجوه البر ويضعونه في مواضع الخير، والمراد صدقة التطوع، ويعلم منه أنهم كانوا يتصدقون الصدقة الواجبة بالأولى.
قال ابن لقيمة: فكلام الشافعية موافق لكلام الأزهري، وكلام الحنفية موافق لكلام الصحاح. وقال ابن كثير في تفسيره: واختلفوا في صحة إطلاق
(جعلناها لكم من شعائر الله) أي من أعلام الشريعة التي شرعها الله تعالى وإضافتها إلى اسمه تعظيم لها، وقيل لأنها تشعر، وهو أن تطعن بحديدة في سنامها فيعلم بذلك أنها هدي، وقد تقدم بيانه قريباً.
(لكم فيها خير) أي منافع دينية ودنيوية كما تقدم، وهي جملة مستأنفة، مقررة لما قبلها أو حالية. قاله السمين.
(فاذكروا اسم الله عليها) أي على نحرها بأن تقولوا عند ذبحها: الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر، اللهم منك وإليك (صواف) أي أنها قائمات قد صفت قوائمها لأنها تنحر قائمة معقولة وقرئ صوافي أي خوالص لله لا يشركون به في التسمية على نحرها أحداً وواحد صواف صافة وهي قراءة الجمهور، وواحد صوافي صافية. وفي قراءة ابن مسعود صوافن بالنون جمع صافنة، وهي التي قد رفعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب، ومنه قوله تعالى: (الصافنات الجياد)، وأصل هذا الوصف في الخيل، يقال صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثنى الرابعة.
قال ابن عباس في الآية: إذا أردت أن تنحر البدنة فأقمها على ثلاث قوائم معقولة ثم قل بسم والله أكبر.
وفي الصحيحين وغيرهما عنه أنه رأى رجلاً قد أناخ بدنته وهو ينحرها ْفقال ابعثها قياماً مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وكون قيامها سنّة إنما
_________
(١) ابن كثير ٣/ ٢٢١.
(فإذا وجبت جنوبها) الوجوب السقوط، يقال وجبت الشمس أي سقطت ووجب الجدار سقط، ومنه الواجب الشرعي كأنه سقط علينا ولزمنا، أي فإذا سقط جنبها بعد نحرها على الأرض، وذلك عند خروج روحها فهو كناية عن الموت، وجمع الجنوب مع أن البعير إذا خر يسقط على أحد جنبيه، لأن ذلك الجمع في مقابلة جمع البدن.
(فكلوا منها) إن شئتم، ذهب الجمهور إلى أن هذا الأمر للندب (وأطعموا القانع والمعتر) هذا الأمر قيل هو للندب كالأول، وبه قال مجاهد والنخعي وابن جرير وابن سريج.
وقال الشافعي وجماعة: هو للوجوب، واختلف في القانع من هو؟ فقيل هو السائل؛ يقال قنع الرجل بفتح النون يقنع بكسرها إذا سأل، وقيل هو المتعفف عن السؤال المستغنى ببلغة، ذكر معناه الخليل وبه قال ابن عباس، قال ابن السكيت: من العرب من ذكر القنوع بمعنى القناعة، وهي الرضا والتعفف وترك المسألة، وبالأول قال زيد بن أسلم وابنه وسعيد بن جبير والحسن، وبالثاني قال عكرمة وقتادة.
وقال ابن عمر وابن عباس: القانع الذي يقنع بما آتيته. وأما المعتر فقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد وإبراهيم والكلبي والحسن: أنه الذي يتعرض من غير سؤال وقيل هو الذي يعتريك ويسألك، وقال مالك: أحسن ما سمعت أن القانع: الفقير والمعتر الزائر. وروي عن ابن عباس أن كليهما الذي لا يسأل ولكن القانع الذي يرضى بما عنده ولا يسأل، والمعتر الذي يتعرض لك ولا يسألك وقرأ الحسن والمعتري ومعناه كمعنى المعتر، يقال اعتره واعتراه وعره وعراه إذا تعرض لما عنده أو طلبه. ذكره النحاس.
قال ابن عباس: المعتر السائل، وعنه الذي يعترض، وعنه القانع الذي يجلس في بيته، وعنه أنه سئل عن هذه الآية فقال: أما القانع فالقانع
وقيل القانع المسكين، والمعتر الذي ليس بمسكين، وقيل القانع جارك الذي ينظر ما دخل عليك، والمعتر الذي يعتر ببابك ويريك نفسه، وقد روي عن التابعين في تفسير هذه الآية أقوال مختلفة، والمرجع المعنى اللغوي لا سيما مع الاختلاف بين الصحابة ومن بعدهم في تفسير ذلك.
(كذلك) أي مثل ذلك التسخير البديع المفهوم من قوله صواف (سخرناها) أي ذللنا البدن (لكم) فصارت تنقاد لكم إلى مواضع نحرها فتنحرونها وتنتفعون بها بعد أن كانت مسخرة للحمل عليها والركوب على ظهورها والحلب لها ونحو ذلك (لعلكم تشكرون) هذه النعمة التي أنعم الله بها عليكم.
(ولكن يناله) أي يبلغ إليه (التقوى منكم) أي تقوى قلوبكم ويصل إليه إخلاصكم له في العمل الصالح وإرادتكم بذلك وجهه مع الإيمان، فإن ذلك هو الذي يقبله الله ويجازي عليه.
وقيل المراد أصحاب اللحوم والدماء، أي لن يرضى المضحون والمتقربون إلى ربهم باللحوم والدماء ولكن بالتقوى.
قال الزجاج: أعلم الله أن الذي يصل إليه تقواه وطاعته فيما يأمر به. وحقيقة معنى هذا الكلام تعود إلى القبول، وذلك أن ما يقبله الإنسان يقال قد ناله ووصل إليه، فخاطب الله الخلق كعادتهم في مخاطباتهم.
قال ابن عباس: " كان المشركون إذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء، فينضحون بها نحو الكعبة، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فأنزل الله (لن
(كذلك سخرها لكلم) كرر هذا للتذكير (لتكبروا الله) هو قول الناحر الله أكبر عند النحر فذكر في الآية الأولى الأمر بذكر اسم الله عليها، وذكر هنا للتكبير للدلالة على مشروعية الجمع بين التسمية والتكبير وقيل المراد بالتكبير وصفه سبحانه بما يدل على الكبرياء.
ومعني (على ما هداكم) على ما أرشدكم إليه من علمكم بكيفية التقرب بها و (ما) مصدرية أو موصولة (وبشر المحسنين) قيل المراد بهم المخلصون، وقيل الموحدون، والظاهر أن المراد بهم كل من يصدر منه من الخير ما يصح به إطلاق اسم المحسن عليه.
(عن الذين آمنوا) أي يدافع عن المؤمنين غوائل المشركين، وقيل يعلي حجتهم وقيل يوفقهم، وقال أبو حيان: لم يذكر الله ما يدفعه عنهم ليكون أفخم وأعظم وأعم، والجملة مستأنفة لِيُبيَن هذه المزية الحاصلة للمؤمنين من رب العالمين وأنه المتولي للمدافعة عنهم.
(إن الله لا يحب كل خوان كفور) مقررة لمضمون الجملة الأولى، فإن المدافعة من الله لهم عن عباده المؤمنين مشعرة أثم إشعار بأنهم مبغضون إلى الله غير محبوبين له.
قال الزجاج: من ذكر غير اسم الله وتقرب إلى الأصنام بذبيحته فهو خوّان كفور وإيراد صيغتي المبالغة للدلالة على أنهم كذلك في الواقع لا لإخراج من خان دون خيانتهم أو كفر دون كفرهم.
وهذه الآية مقررة أيضاً لمضمون قوله: (إن الله يدافع) فإن إباحة القتال لهم هي من جملة دفع الله عنهم، والباء في (بأنهم ظلموا) للسببية أي بسبب ما كان يقع عليهم من المشركين من سب وضرب وطرد ثم وعدهم الله سبحانه النصر على المشركين على طريق الرمز والكناية كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم فقال:
قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون؛ ليهلكن القوم فنزلت: (أذن للذين يقاتلون) الخ، وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين، ثم وصف هؤلاء المؤمنين بقوله:
قال سيبويه: هو استثناء منقطع أي لكن لقولهم: (ربنا الله) أي أخرجوا بغير حق يوجب إخراجهم لكن لقولهم: ربنا الله وحده، وقال الفراء والزجاج: هو استثناء متصل والتقدير: الذين أخرجوا من ديارهم بلا حق إلا بأن يقولوا ربنا الله فيكون مثل قوله سبحانه: (وما تنقمون منا إلا أن آمنا بآيات ربنا).
(ولولا دفع الله الناس) وقرئ دفاع (بعضهم) بدل بعض من الناس (ببعض لهدمت) بالتشديد للتكثير وبالتخفيف أي لخربت باستيلاء أهل الشرك على أهل الملل؛ وتكرر الهدم لكثرة المواضع (صوامع) للرهبان ومعابدهم المتخذة في الصحراء، وقيل صوامع الصابئين وهي جمع صومعة وهي بناء مرتفع محدب يقال: صمع الثريدة إذا رفع رأسها ورجل أصمع القلب أي حاد الفطنة والأصمع من الرجال الحديد القول، وقيل الصغير الأذن ثم استعمل في المواضع التي يؤذن عليها في الإسلام.
(وبيع) جمع بيعة وهي كنيسة النصارى في البلد، وقيل مساجد اليهود (وصلوات) هي كنائس اليهود وقيل النصارى، وقد ذكر ابن عطية في صلوات تسع قراءات وهي جمع صلاة وسميت الكنيسة صلاة لأنها يصلى فيها، وقيل هي كلمة معربة أصلها بالعبرانية صلوتاً قاله السمين، ومعناه في لغتهم المصلى فلا يكون مجازاً، قاله الشهاب.
وقيل المعنى المجازي هو تعطيلها من العبادة، والمعنى لولا ما شرعه الله للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء بعضهم ببعض، وإقامة الحدود لاستولى أهل الشرك وذهبت مواضع العبادة من الأرض، وقيل المعنى لولا هذا الدفع لهدمت في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد ﷺ المساجد.
قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل في تأويل هذه الآية فعلى هذا إنما دفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف وقبل النسخ، وقيل المعنى ولولا دفع الله ظلم الظلمة بعدل الولاة، وقيل لولا دفع الله العذاب بدعاء الأخيار.
وعن علي قال: إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لولا دفع الله بأصحاب محمد عن التابعين لهدمت. الآية؟ قال أبو حيان: أجرى الله العادة في الأمم بذلك بأن ينتظم به الأمر وتقوم الشرائع وتصان المتعبدات من الهدم وأهلها من القتل والشتات ويؤيد ذلك قوله تعالى: (وقتل داود جالوت)، ثم قال: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض.
(يذكر فيها اسم الله) ذكراً أو وقتاً (كثيراً) والجملة صفة للمساجد، وقيل لجميع المذكورات الأربع لأن كل واحد منها جمع (ولينصرن الله) اللام هي جواب لقسم محذوف أي والله لينصرن الله (من ينصره) أي دينه وأولياءه ومعنى نصره تعالى هو أن يظفر أولياءه بأعدائهم ويكون النصر بالتجليد في القتال وبإيضاح الأدلة والبينات وبالإعانة على المعارف والطاعات.
وعن عثمان: هذا والله ثناء قبل بلاء يريد أن الله أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا، فتباً لمن يطعن بهم من أهل البدع والرفض بعد ذلك وتعساً لهم.
(أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) هذا جواب الشرط وفيه إيجاب الأمر بالمعروف، على من مكنه الله في الأرض وأقدره على القيام بذلك، وقد تقدم تفسير الآية (ولله عاقبة الأمور) أي مرجعها إلى حكمه وتدبيره دون غيره.
وعن زيد بن أسلم في قوله: (الذين إن مكناهم في الأرض) قال: أرض المدينة (أقاموا الصلاة) قال: المكتوبة (وآتوا الزكاة) قال: المفروضة (وأمروا بالمعروف) قال: بلا إله إلا الله، (ونهوا عن المنكر) قال: عن الشرك بالله (ولله عاقبة الأمور) قال: وعند الله ثواب ما صنعوا، وقد أنجز الله تعالى وعده بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم وأورثهم أرضهم وديارهم.
وعن عثمان بن عفان قال: فينا نزلت هذه الآية أُخرجنا من ديارنا بغير حق ثم مُكِّنَّا في الأرض فأقمنا الصلاة وآتينا الزكاة، وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر فهي لي ولأصحابي.
والمعنى فأنت يا أشرف الخلق لست بأوحدي في التكذيب، فإن هؤلاء قد كذبوا رسلهم قبل قومك فتسل بهم، قاله الخطيب، وتأنيث قوم باعتبار المعنى وهو الأمة أو قبيلة واستغنى في عاد وثمود عن ذكر قوم لاشتهارهم بهذا الاسم الأخصر، والأصل في التعبير العلم ولا علم لغيرهما فلهذا لم يقل: قوم هود وقوم صالح ولم يقل قوم شعيب لأن قومه يشملون أصحاب مدين وأصحاب الأيكة،
(ثم أخذتهم) أي أخذت كل فريق من المكذبين السبعة بالعذاب بعد انقضاء مدة الإمهال (فكيف كان نكير) هذا الاستفهام للتقرير أي فانظر كيف كان إنكاري وتغييري ما كانوا فيه من النعم، وحمل الاستفهام على التعجب أوضح قال أبو حيان: ويصحب هذا الاستفهام معنى التعجب، فكأنه قيل ما أشد ما كان إنكاري عليهم والنكير اسم من المنكر ومصدر بمعنى الإنكار.
قال الزجاج: أي ثم أخذتهم فأنكرت أبلغ إنكار، قال الجوهري: النكير والإنكار تغيير المنكر، فالمراد بالإنكار التغيير للضد بالضد، كالحياة بالموت، والعمارة بالخراب وليس بمعنى الإنكار اللساني والقلبي وأثبت ياء نكير حيث وقع في القرآن ورش في الوصل، وحذفها في الوقف، والباقون يحذفونها وصلاً ووقفاً، ثم ذكر سبحانه كيف عذب أهل القرى المكذبة فقال:
(وبئر) أي ومن أهل بئر (معطلة) هكذا قال الزجاج، يقال بأرت الأرض أي حفرتها، ومنه التأبير وهو شق كيزان طلع الإناث وذر طلع المذكور فيه، والبئر فعل بمعنى مفعول، وهي مؤنثة وقد تذكر على معنى القليب، والمراد بالمعطلة المتروكة. وقيل الخالية عن أهلها لهلاكهم؛ وقيل الغائرة، وقيل معطلة من الدلاء والأرشية. قال قتادة: عطلها أهلها وتركوها. وقال ابن عباس: التي تركت لا أهل لها.
(وقصر مشيد) هو المرفوع البنيان كذا قال قتادة والضحاك. وعن قتادة أيضاً: شيّدوه وحصّنوه فهلكوا وتركوه، وقال سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومجاهد وابن عباس: المراد بالمشيد المجصص مأخوذ من الشيد وهو الجص، وقيل المشيد الحصين، قاله الكلبي.
وقال الجوهري: المشيد المعمول بالشيد، والشيد بالكسر كل شيء طليت به الحائط من جص أو بلاط وبالفتح المصدر، تقول شاده يشيده جصصه والمشيد بالتشديد المطول. قال الكسائي للواحد من قوله تعالى: (في بروج مشيدة) وإنما بني هنا من شاده، وفي النساء من شيَّده لأنه هنا وقع بعد جمع فناسب التكثير، وهنا وقع بعد مفرد فناسب التخفيف، ولأنه رأس آية وفاصلة. والمعنى وكم من قصر مشيد معطل مثل البئر المعطلة، ومعنى التعطيل في القصر هو أنه معطل من أهل أو من آلاته أو نحو ذلك.
قال القرطبي في تفسيره: ويقال أن هذه البئر والقصر بحضرموت معروفان، فالقصر مشرف على قلة جبل (١) لا يرتقي إليه بحال، والبئر في سفحه لا تقر الريح شيئاً سقط فيها إلا أخرجته. وحكى الثعلبي وغيره أن
_________
(١) قُلة جبل بضم القاف أعلى الجبل.
وحكى الثعلبي وغيره أيضاً أن البئر كان بعدن من اليمن في بلد يقال له حضور أنزل بها أربعة آلاف ممن آمن بصالح ونجوا من العذاب ومعهم صالح، فمات صالح فسمّي المكان حضرموت، لأن صالحاً لما حضره مات فبنوا حضوراً؛ وقعدوا على هذه البئر وامّروا عليهم رجلاً منهم، فأقاموا دهراً وتناسلوا حتى كثروا وعبدوا الأصنام وكفروا، فأرسل الله إليهم نبياً يقال له حنظلة بن صفوان وكان حمالاً فيهم فقتلوه في السوق، فأهلكهم الله وعطلت بئرهم وخربت قصورهم ثم ذكر قصة طويلة.
وقال بعد ذلك: وأما القصر المشيد فقصر بناه شداد بن عاد بن إرم لم يبن في الأرض مثله فيما ذكروا وزعموا، وحاله أيضاً كحال هذه البئر المذكورة في إيحاشه بعد الإنس وإقفاره بعد العمران وأن أحداً لا يستطيع أن يدنو منه على أميال لما يسمع فيه من عزيف الجن والأصوات المنكرة بعد النعيم والعيش الرغد وبهاء الملك وانتظام الأهل كالسلك، فبادوا وما عادوا، فذكرهم الله سبحانه في هذه الآية موعظة وعبرة.
قال: وقيل إنهم الذين أهلكهم بختنصر على ما تقدم في سورة الأنبياء في قوله: (وكم قصمنا من قرية)، فتعطلت بئرهم وخرت قصورهم. إهـ.
وقال النسفي: والأظهر أن البئر والقصر على العموم. ثم أنكر الله سبحانه على أهل مكة عدم اعتبارهم بهذه الآثار قائلاً:
(يعقلون بها) ما يجب أن يعقل من التوحيد ونحوه، والعقل هنا بمعنى العلم، والمعنى أنهم بسبب ما شاهدوا من العبر تكون لهم قلوب يعقلون بها ما يجب أن يتعقلوه؛ وأسند التعقل إلى القلوب لأنها محل العقل كما أن الآذان محل السمع وقيل إن العقل محله الدماغ، ولا مانع من ذلك فإن القلب هو الذي يبعث على إدراك العقل وإن كان محله خارجاً عنه. وقد اختلف علماء العقول في محل العقل وماهيته اختلافاً كثيراً لا حاجة إلى التطويل بذكره.
(أو آذان يسمعون بها) ما يجب أن يسمعوه مما تلاه عليهم أنبياؤهم من كلام الله، وما نقله أهل الأخبار إليهم من أخبار الأمم المهلكة وما نزل بالمكذبين (فإنها لا تعمى الأبصار) قال الفراء: الهاء عماد، يجوز أن يقال فإنه وهي قراءة ابن مسعود والمعنى واحد، التذكير على الخبر والتأنيث على الأبصار، أو القصة أي فإن الأبصار لا تعمى، أو فإن القصة لا تعمى الأبصار، أي أبصار العيون (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) أي ليس الخلل في مشاعرهم، وإنما أصابت الآفة عقولهم باتباع الهوى والانهماك في التقليد، أي لا تدرك عقولهم مواطن الحق ومواضع الاعتبار.
قال الفراء والزجاج: إن قوله التي في الصدور من التوكيد الذي تزيده العرب في الكلام، كقوله عشرة كاملة، ويقولون بأفواههم ويطير بجناحيه، ثم حكى سبحانه عن هؤلاء ما كانوا عليه من التكذيب والاستهزاء فقال:
والمعنى والحال أنه لا يخلف وعداً أبداً، وقد سبق الوعد فلابد من مجيئه حتماً أو الجملة اعتراضية مبينة لما قبلها. قال المحلي: أنجزه يوم بدر، أي أنزل العذاب بهم في الدنيا فقتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون.
(وإن يوماً) من أيام عذابهم (عند ربك) في الآخرة (كألف سنة مما تعدون) أي من سني الدنيا، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان حالهم في الاستعجال وخطابهم في ذلك لبيان كمال حكمه لكون المدة القصيرة عنده كالمدة الطويلة عندهم كما في قوله: (إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً). قال الفراء: هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة أي يوم من أيام عذابهم في الآخرة في الثقل والاستطالة كألف سنة. وقيل المعنى وإن يوماً من الخوف والشدة في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا فيها خوف وشدة، وكذلك يوم النعيم قياساً، واقتصر في التشبيه على الألف لأن الألف منتهى العدد بلا تكرار.
وقرئ يعدون بالتحتية لقوله ويستعجلونك، وبالفوقية على الخطاب، واختار الأولى أبو عبيدة والثانية أبو حاتم.
وعن ابن عباس قال: إن يوماً من الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض كألف سنة، وعن عكرمة قال: هو يوم القيامة، وعنه قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة، وقد مضى منها ستة آلاف.
وأخرج ابن عدي والديلمي عن أنس مرفوعاً نحوه، وتمام البحث في مدة الدنيا ماضيها وباقيها في كتابنا لقطة العجلان مما تمس إلى معرفته حاجة الإنسان:
(معاجزين) يقال عاجزه سابقه، لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز
(أولئك أصحاب الجحيم) أي النار الموقدة
(من رسول ولا نبي) من زائدة لتأكيد النفي، وفيه دليل بين على ثبوت التغاير بين الرسول والنبي.
وسئل النبي ﷺ عن الأنبياء فقال: " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، فقيل فكم الرسل منهم؟ فقال: ثلثمائة وثلاثة عشر " (١)، والفرق بينهما أن الرسول الذي أرسل إلى الخلق بإرسال جبريل إليه عياناً ومحاورته شفاهاً، والنبي الذي يكون وحيه إلهاماً أو مناماً.
وقيل الرسول من بعث بشرع وأمر بتبليغه، والنبي من أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله ولم ينزل عليه كتاب ولا بد لهما جميعاً من المعجزة الظاهرة، وقرأ ابن مسعود ولا نبي ولا محدث، وعن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف مثله، وزاد فنسخت محدث، قال: والمحدثون صاحب يس ولقمان ومؤمن آل فرعون وصاحب موسى.
(إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) معنى تمنى تشهى وهيأ في نفسه ما يهواه، قال الواحدي، قال المفسرون: معنى تمنى تلا، قال جماعة المفسرين، في سبب نزول هذه الآية: أنه ﷺ لما شق عليه إعراض قومه عنه تمنى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم، فكان ذات يوم جالساً في ناد من أنديتهم، وقد نزل عليه سورة
_________
(١) الإمام أحمد ٥/ ٢٦٦.
ولم يصح شيء من هذا ولا ثبت بوجه من الوجوه؛ ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه، حيث قال الله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين)، وقوله: (وما ينطق عن الهوى).
وقوله: (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم) فنفى المقاربة للركون فضلاً عن الركون.
قال البزار: هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي (- ﷺ -) بإسناد متصل.
_________
(١) هذه الرواية أدخلها على الإسلام يهودي تجلى الغموض عنه وإن وثقه بعض الناس؛ فإن هذه الرواية تشجب هذا التوثيق وتحجبه؛ ذلك أن ابن سعد في الطبقات يرويها عن رجل يدعى عبد الله بن حنطب ليس له صحبة، والطبري يرويها عن محمد بن كعب القرظي، كان أبوه من سبي بني قريظة، وأن النبي ﷺ أطلقه لأنه رآه دون البلوغ، فتزوج وخلّف محمداً هذا وقد ولد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا ندرك أن هذه الرواية لم يجرؤ واحد على إسنادها لأحد الصحابة رضوان الله عليهم، وربما تكون قد دست من طريق بني قريظة وكان إرسالهم إياها عن طريق ابن حنطب وابن كعب. ويأتي بعد هذا ابن السائب الكلبي والواقدي فيرويانها عن ابن عباس؛ وحسبك فهما كذابان بالإجماع.
وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: إن هذه القصة من وضع الزنادقة، قال القاضي عياض في الشفاء: إن الأمة أجمعت -فيما طريقه البلاغ- أنه معصوم فيه من الأخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه قصداً ولا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً.
قال الرازي: هذه القصة باطلة موضوعة، لا يجوز القول بها، قال تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) وقال تعالى: (سنقرئك فلا تنسى) ولا شك أن من جوز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان، ولو جوزنا ذلك لارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك أي مما ألقاه الشيطان على لسانه، ويبطل قوله تعالى: (بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) فإنه لا فرق عند العقل بين النقصان من الوحي وبين الزيادة فيه.
فبهذه الوجوه النقلية والعقلية عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة انتهى ملخصاً، قال ابن كثير: قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح، والحاصل أن جميع الروايات في هذا الباب إما مرسلة أو منقطعة لا تقوم الحجة بشيء منها، وقد أسلفنا عن الحفاظ في هذا البحث ما فيه كفاية.
وفي الباب روايات من أحب الوقوف على جميعها فلينظرها في الدر المنثور للسيوطي، ولا يأتي التطويل بذكرها هنا بفائدة فقد عرّفناك أنها جميعها لا تقوم بها الحجة، لأنه لم يروها أحد من أهل الصحة، ولا أسندها ثقة بسند صحيح، أو سليم متصل، وإنما رواها المفسرون، والمؤرخون المولعون بكل
والذي جاء في الصحيح من حديث ابن مسعود أن النبي ﷺ قرأ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخاً من قريش أخذ كفاً من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته، قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافراً، أخرجه البخاري ومسلم (١).
وصح من حديث ابن عباس أن رسول الله ﷺ سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس رواه البخاري، فهذا الذي جاء في الصحيح لم يذكر فيه أن النبي ﷺ ذكر تلك الألفاظ ولا قرأها والذي ذكره الفسرون عن ابن عباس في هذه القصة فقد رواه عنه الكلبي وهو ضعيف جداً، بل متروك لا يعتمد عليه، وكذا أخرجه النحاس بسند آخر فيه الواقدي فهذا توهين هذه القصة.
وقد أجابوا عنه من حيث المعنى بوجوه أخرى يطول ذكرها بلا فائدة زائدة وقد استوفاها الخازن في تفسيره، والنسفي في المدارك ونبه الحافظ ابن حجر على ثبوت أصلها في الجملة، وقال إن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح لكنها مراسيل، وإذا تقرر لك بطلان ذلك عرفت أن معنى. تمنى قرأ وتلا كما قدمنا من حكاية الواحدي لذلك عن المفسرين.
قال البغوي: إن أكثر المفسرين قالوا معنى تمنى تلا، وقرأ كتاب الله ومعنى ألقى الشيطان في أمنيته أي في تلاوته وقراءته، قال ابن جرير: هذا القول أشبه بتأويل الكلام، ويؤيد هذا ما تقدم في تفسير قوله: (لا يعلمون الكتاب إلا أماني) وقيل معنى تمنى حدّث، ومعنى في أمنيته في حديثه، روي هذا عن ابن عباس، وقيل معنى تمنى قال، فحاصل معنى الآية أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك من دون أن يتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا جرى على لسانه فتكون هذه الآية تسلية لرسول الله (- ﷺ -).
_________
(١) مسلم ٥٧٦ - البخاري ٥٨٨.
قال ابن عطية: لا خلاف أن القاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة وقعت بها الفتنة، قال القاضي عياض: وهذا أحسن الوجوه وهو الذي يظهر ترجيحه، وكذا استحسن ابن العربي هذا التأويل، وقال في أمنيته في تلاوته، وقد قيل في تأويل الآية: إن المراد بالغرانيق الملائكة ويرد بقوله الآتي: (فينسخ الله ما يلقي الشيطان) أي يبطله، وشفاعة الملائكة غير باطلة.
وقيل إن ذلك جرى على لسانه سهواً ونسياناً وهما مجوزان على الأنبياء، ويرد بأن السهو والنسيان فيما طريقه البلاغ غير جائز، كما هو مقرر في مواطنه، قال الضحاك: يعني بالتمني التلاوة، والقراءة فينسخ الله أي جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهد: إذا تمنى أي تكلم وأمنيته كلامه، فأخبر تعالى في هذه الآية أن سنة الله في رسله إذا قالوا قولاً زاد الشيطان فيه من قبل نفسه فهذا نص في أن الشيطان زاد في قول النبي ﷺ لا أن النبي ﷺ قاله لأنه معصوم، وقد شبق إلى ذلك الطبري مع جلالة قدره وسعة علمه وشدة ساعده في النظر فصوب هذا المعنى قاله الحافظ في الفتح؛ ثم لما سلاه سبحانه بهذه التسلية وأنها قد وقعت لمن قبله من الرسل والأنبياء بين سبحانه أنه يبطل ذلك ولا يثبته ولا يستحر تغرير الشيطان فقال:
(فينسخ الله ما يلقي الشيطان) أي يبطله ويجعله ذاهباً غير ثابت (ثم يحكم الله آياته) أي يثبتها (والله عليم حكيم) أي كثير العلم والحكمة في كل أقواله وأفعاله.
(وإن الظالمين لفي شقاق بعيد) أي عداوة شديدة ووصف الشقاق بالبعد مبالغة والموصوف به حقيقة من قام به ولما بين سبحانه أن ذلك الإلقاء كان فتنة في حق أهل النفاق والشك والشرك بين أنه في حق المؤمنين العالمين بالله العارفين به سبب لحصول العلم لهم بأن القرآن حق وصدق، فقال:
(فتخبت له قلوبهم) أي تخشع وتسكن وتنقاد، فإن الإيمان به وإخبات القلوب له لا يمكن أن يكونا لتمكين من الشيطان بل للقرآن (وإن
(حتى تأتيهم الساعة) أي القيامة أو الموت (بغتة) أي فجأة (أو يأتيهم عذاب يوم عقيم) وهو يوم القيامة لأنه لا يوم بعده فكان بهذا الاعتبار عقيماً وهو في اللغة من لا يكون له ولد، ولما كانت الأيام تتوالى جعل ذلك كهيئة الولادة، ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقم، وقيل يوم حرب يقتلون فيه كيوم بدر، قاله ابن عباس، وعن أبيّ بن كعب نحوه، وعن سعيد بن جبير وعكرمة مثله.
وعن مجاهد قال: يوم القيامة لا ليلة له، وعن الضحاك وسعيد مثله أيضاً؛ وقيل إن اليوم وصف بالعقم لأنه لا رأفة فيه ولا رحمة فكأنه عقيم من الخير، ومنه قوله تعالى: (فأرسلنا عليهم الريح العقيم) أي التي لا خير فيها ولا تأتي بمطر وفيه استعارة بالكناية بأنه شبه اليوم المنفرد عن سائر الأيام، والزمان الذي لا خير فيه بالنساء العقم تشبيهاً مضمراً في النفس، وإثبات العقم تخييل؛ فإن الأيام بعضها نتائج لبعض، فكل يوم يلد مثله.
(فالذين آمنوا وعملوا الصالحات) كائنون (في جنات النعيم) مستقرون في أرضها منغمسون في نعيمها فضلاً من الله
(ثم قتلوا) وقرئ مشدداً على التكثير (أو ماتوا) في حال المهاجرة (ليرزقنهم الله) جواب قسم محذوف (رزقاً) أي مرزوقاً (حسناً) أو مصدر مؤكد وفيه دليل على وقوع الجملة القسمية خبراً للمبتدأ ومن يمنعه، فقوله مرجوح والرزق الحسن هو نعيم الجنة الذي لا ينقطع، وقيل هو الغنيمة
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، عن سلمان الفارسي أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " من مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين، اقرأوا إن شئتم والذين هاجروا -إلى قوله- حليم ".
قلت: ويؤيد. هذا قوله سبحانه: (ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله).
(وإن الله لهو خير الرازقين) أي أفضلهم فإنه سبحانه يرزق بغير حساب بمحض الإحسان، وكل رزق يجري على يد العباد بعضهم لبعض فهو منه سبحانه لا رازق سواه ولا معطي غيره، والجملة تذييل مقررة لما قبلها.
ولما ذكر الرزق أعقبه بذكر المسكن بقوله:
(وإن الله لعليم) بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم. وقيل بأحوال من قضى نحبه مجاهداً، وآمال من مات وهو ينتظر معاهداً (حليم) عن تفريط المفرطين منهم بإمهال من قاتلهم معانداً لا يعاجلهم بالعقوبة.
(ومن عاقب بمثل ما عوقب به) أي من جازى الظالم بمثل ما ظلمه، والعقاب مأخوذ من التعاقب وهو مجيء الشيء بعد غيره، وحينئذ يسمى الابتداء عقاباً باسم الجزاء مشاكلة كقوله: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وقوله: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)، أو من قبيل تسمية السبب باسم المسبب، والعقوبة في الأصل إنما تكون بعد فعل تكون جزاء عنه؛ والمراد بالمثلية أنه اقتصر على المقدار الذي ظلم به ولم يزد عليه.
عن ابن جريج قال: تعاون المشركون على النبي ﷺ وأصحابه فأخرجوه فوعده الله أن ينصره، وهو في القصاص أيضاً (ثم بغى عليه) أي أن الظالم له في الابتداء عاوده بالمظلمة بعد تلك المظلمة الأولى.
وقيل المراد بهذا البغي هو ما وقع من المشركين من إزعاج المسلمين من أوطانهم بعد أن كذبوا نبيهم وآذوا من آمن به. وقيل المعنى ثم كان المجازي
(لينصرنّه الله) اللام جواب قسم محذوف، أي والله لينصرن الله المبغي عليه على الباغي (إنّ الله لعفوّ غفور) أي لكثير العفو والغفران للمؤمنين فيما وقع منهم من الذنوب أو القتال في الشهر الحرام وقيل العفو والغفران لما وقع من المؤمنين من ترجيح الانتقام على العفو.
وقيل يجعل ظلمة الليل مكان ضياء النهار، وذلك بغيبوبة الشمس، ويجعل ضياء النهار مكان ظلمة الليل بطلوع الشمس، فالمراد تحصيل أحد العرضين في محل الآخر، وقد مضى في آل عمران معنى هذا الإيلاج.
(وإن الله سميع) يسمع كل مسموع لا يشغله سمع عن سمع (بصير) يبصر كل مبصر، أو سميع للأقوال وإن اختلفت في النهار الأصوات بفنون اللغات، بصير بما يفعلون لا يستتر عنه شيء بشيء في الليالي وإن توالت الظلمات فلا يعزب عنه مثقال ذرة
(وأن ما يدعون من دونه الباطل) قرئ بالفوقية على الخطاب
وقال مجاهد: الباطل هنا الشيطان (وأن الله هو العلي) أي العالي على كل شيء بقدرته وذاته، المتقدس عن الأشباه والانداد المتصف بصفات الكمال المتنزه عما يقوله الظالمون والمعطلون (الكبير) أي ذو الكبرياء الذي يصغر كل شيء سواه، هو عبارة عن كمال ذاته وعظيم قدرته وسلطانه وتفرده بالإقية، ثم ذكر سبحانه دليلاً بيناً على كمال قدرته فقال:
قال ابن عطية: هذا لا يكون بعد الاخضرار في صباح ليلة المطر إلا بمكة وتهامة، والظاهر أن المراد بالاخضرار اخضرار الأرض في نفسها، لا باعتبار النبات فيها، كما في قوله: (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت)، والمراد بقوله: (إن الله لطيف) أي يصل علمه إلى كل دقيق وجليل، وقيل لطيف بأرزاق عباده، وقيل باستخراج النبات.
(خبير) أي أنه ذو خبرة بتدبير عباده وما يصلح لهم، وقيل خبير بما
ينطوون عليه من القنوط عند تأخير المطر. وقيل خبير بحاجتهم وفاقتهم.
والثاني قوله:
(تجري في البحر بأمره) أي بتقديره وإذنه، فلولا أن الله سخرها لكانت تغوص أو تقف، وهذه نعمة رابعة. والنعمة الخامسة قوله: (ويمسك السماء) كراهة (أن تقع على الأرض) وذلك بأنه خلقها على صفة مستلزمة للإمساك لأن النعم المتقدمة لا تكمل إلا به، والسماء جرم ثقيل، وما كان كذلك لا بد له من السقوط لولا مانع يمنع منه، وهو القدرة، فأمسكها الله بقدرته لئلا تسقط فتبطل النعم التي امتن بها علينا.
(إلا بإذنه)، أي بإرادته ومشيئته، وذلك يوم القيامة، والظاهر أنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال وهو لا يقع في الكلام الموجب إلا أن قوله:
(إن الله بالناس لرءوف رحيم) أي كثير الرأفة والرحمة حيث سخر هذه الأمور لعباده، وهيأ لهم أسباب المعاش، وأمسك السماء أن تقع على الأرض فتهلكهم، تفضلاً منه على عباده وإنعاماً عليهم، ثم ذكر سبحانه نعمة أخرى سادسة فقال:
(هم ناسكوه) الضمير لكل أمة، أي تلك الأمة هي العاملة به لا غيرها، فكانت التوراة منسك الأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى، والإنجيل منسك الأمة التي كانت من مبعث عيسى إلى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم؛ والقرآن منسك المسلمين إلى يوم القيامة، والمنسك مصدر لا اسم مكان كما يدل عليه هم ناسكوه، ولم يقل ناسكون فيه. وقيل هو الذبائح ولا وجه للتخصيص ولا اعتبار بخصوص السبب.
(فلا ينازعنك في الأمر) الفاء لترتيب النهي على ما قبله والضمير
قال الزجاج: إنه نهي له ﷺ عن منازعتهم، أي لا تنازعهم أنت كما تقول لا يخاصمك فلان، أي لا تخاصمه، وكما تقول لا يضاربنك فلان، أي لا تضاربه، وذلك أن المفاعلة تقتضي العكس ضمناً ولا يجوز لا يضربنك فلان وأنت تريد لا تضربه.
وحكي عن الزجاج أنه قال في معنى الآية: فلا ينازعنك، أي فلا يجادلنك؛ قال ودل على هذا وإن جادلوك. وقرئ فلا ينزعنك في الأمر أي لا يستخفنك ولا يغلبنك عن دينك. وقرأ الجمهور فلا ينازعنك من المنازعة كما تقدم.
وقال ابن عباس: هم ناسكوه أي ذابحوه فلا ينازعنك في الأمر أي في الذبح، وعن عكرمة ومجاهد نحوه، وعن مجاهد قال: قول أهل الشرك، أما ما ذبح الله بيمينه فلا تأكلوه، وأما ما ذبحتم بأيديكم فهو حلال.
(وادع) هؤلاء المنازعين أو ادع الناس على العموم (إلى) دين (ربك) وتوحيده والإيمان به (إنك لعلى هدى) أي طريق (مستقيم) لا اعوجاج فيه
(فقل الله أعلم بما تعملون) فكل أمرهم إلى الله، وقل لهم هذا القول المشتمل على الوعيد
وقيل إنها منسوخة بآية السيف وهذا إنما يصح إذا كان المراد من قوله: (وإن جادلوك) الكف عن قتالهم وهو غير متعين؛ بل يصح أن يكون المعنى: فاترك جدالهم وفوض الأمر إلى الله فيكون هذا وعيداً لهم على أعمالهم، وهذا المعنى لا تنسخه آية السيف، بل هو باق بعد مشروعية القتال لعدم المنافاة.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: خلق الله اللوح المحفوظ مسيرة مائة عام، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على عرشه: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة، فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة، فذلك قوله سبحانه
(إن ذلك) يعني إن الحكم منه سبحانه بين عباده فيما يختلفون فيه (على الله يسير) أي هين أو أن إحاطة علمه بما في السماء والأرض جملة وتفصيلاً يسير عليه، وأن تعذر على الخلق.
(يكادون يسطون) السطو: الوثب والبطش، والسطوة شدة البطش، يقال سطا به يسطو إذا بطش به بضرب أو شتم أو أخذ باليد، وأصل السطو: القهر، وقال ابن عباس: أي يبطشون (بالذين يتلون عليهم آياتنا) هم النبي ﷺ وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، والجملة مستأنفة؛ كأنه قيل ما ذلك المنكر الذي يعرف في وجوههم؟
وقد رأينا وسمعنا من ذلك من أهل البدع ما لا يحيط به الوصف والله ناصر الحق ومظهر الدين، ومدحض الباطل، ودامغ البدع وحافظ المتكلمين بما أخذه عليهم المبينين للناس ما نزل إليهم وهو حسبنا ونعم الوكيل؛ ثم أمر رسوله أن يرد عليهم فقال:
(قل أفأنبئكم) أي أخبركم (بشر من ذلكم) الذي فيكم من الغيظ على من يتلو عليكم آيات الله ومقاربتكم للوثوب وهو (النار) التي (وعدها الله الذين كفروا) وقيل المعنى أفأخبركم بشر مما يلحق تالي القرآن منكم من الأذى والتوعد لهم والتوثب عليهم، وقرئ النار بالحركات الثلاث (وبئس المصير) أي الموضع الذي يصيرون إليه وهو النار.
(إن الذين تدعون من دون الله) المراد بهم الأصنام التي كانت حول الكعبة وغيرها، وقيل المراد بهم السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله، لكونهم أهل الحل والعقد فيهم؛ وقيل الشياطين الذين حملوهم على معصية الله، والأول أوفق بالمقام وأظهر في التمثيل.
(لن يخلقوا ذباباً) واحداً مع ضعفه وصغره وقلته وهو اسم للواحد يطلق على الذكر والأنثى وجمع القلة إذبة والكثرة ذبان بالكسر مثل غراب وأغربة وغربان وبالضم كقضبان.
وقال الجوهري: الذباب معروف، الواحد ذبابة، وسمي ذباباً لأنه كلما ذب لاستقذاره آب لاستكباره و (لن) لتأكيد النفي المستقبل وتأكيده هنا للدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل، كأنه قال: محال أن يخلقوا.
وتخصيص الذباب لمهانته واستقذاره، والمعنى لن يقدروا على خلقه مع كونه صغير الجسم حقير الذات وهو أجهل الحيوانات، لأنه يرمي نفسه في المهلكات، ومدة عيشه أربعون يوماً، وأصل خلقته من العفونات ثم يتوالد بعضه من بعض يقع روثه على الشيء الأبيض فيرى أسود، وعلى الأسود فيرى أبيض.
(ولو اجتمعوا له) أي لخلق الذباب، والتقدير لن يخلقوه على كل حال، ولو في هذه الحالة المقتضية لجمعهم، فكأنه تعالى قال: إن هذه الأصنام إن اجتمعت لا تقدر على خلق ذبابة على ضعفها فكيف يليق بالعاقل
(وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه) أي إذا أخذ واختطف منهم هذا الخلق الأقل الأرذل شيئاً من الأشياء بسرعة لا يقدرون على تخليصه منه؛ لكمال عزهم وفرط ضعفهم، والاستنقاذ والانقاذ التخليص، وإذا عجزوا عن خلق هذا الحيوان الضعيف، وعن استنقاذ ما أخذه منهم فهم عن غيره مما هو أكبر منه جرماً وأشد منه قوة وأعجز وأضعف، قال عكرمة: أي لا تستنقذ الأصنام ذلك الشيء، ثم عجب سبحانه من ضعف الأصنام والذباب فقال:
(ضعف الطالب والمطلوب) فالصنم كالطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب أو يطلب استنقاذ ما سلبه منه، والمطلوب الذباب وهذا كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف ولو حققت وجدت الطالب أضعف فإن الذباب حيوان وهو جماد وهو غالب وذاك مغلوب، وقيل الطالب عابد الصنم والمطلوب الصنم قال ابن عباس: الطالب آلهتهم والمطلوب الذباب، ثم بين سبحانه أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة عاجزة إلى هذه الغاية في العجز ما عرفوا الله حق معرفته فقال:
(ما قدروا الله حق قدره) أي ما عظموه حق تعظيمه، ولا عرفوه حق معرفته حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له مع كون حالها هذا الحال، وقد
تقدم في الأنعام
أخرج الحاكم وصححه عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله اصطفى موسى بالكلام وإبراهيم بالخلة " (٢)؛ وأخرج عن
_________
(١) لعل المصنف يريد بعزرائيل ملك الموت، ولم يثبت من طريق صحيح تسمية ملك الموت عزرائيل- المطيعي.
(٢) المستدرك كتاب التاريخ ٢/ ٥٧٥.
(إن الله سميع) لأقوال عباده (بصير) بمن يختاره من خلقه
_________
(١) المستدرك كتاب التاريخ ٢/ ٥٧٦.
(وإلى الله) لا إلى غيره (ترجع الأمور) لما تضمن ما ذكره من أن الأمور ترجع إليه، الزجر لعباده عن معاصيه، والحض لهم على طاعاته، صرح بالمقصود فقال:
(لعلكم تفلحون) أي إذا فعلتم هذه كلها رجوتم الفلاح، وفي هذا إشارة إلى أن دخول الجنة ليس مرتباً على هذه الأعمال مثلاً، بل هذه الأمور كلفنا الله بها شرعاً، وأما قبولها فشيء آخر يتفضل الله به علينا، وهذه الآية
وقد اختلف في عدة سجود التلاوة فذهب أكثر أهل العلم إلى أنها أربع عشرة سجدة، لكن الشافعي رحمه الله تعالى قال: في الحج سجدتان، وأسقط سجدة ص، وقال أبو حنفية: في الحج سجدة، وأثبت سجدة ص، وقيل خمس عشرة سجدة، وقال قوم: ليس في المفصل سجدة، فعلى هذا تكون إحدى عشرة سجدة، وسجود التلاوة سنة عند الشافعي؛ وواجب عند أبي حنيفة، ودلائل الأقوال مبسوطة في مواطنها، ثم أمرهم بما هو سنة الدين وأعظم أعماله فقال:
ومعنى (حقَّ جهاده) المبالغة في الأمر بهذا الجهاد باستفراغ الطاقة لأنه أضاف الحق إلى الجهاد، والأصل إضافة الجهاد إلى الحق أي جهاداً خالصاً لله فعكس ذلك لقصد المبالغة وأضاف الجهاد إلى الضمير اتساعاً أو لاختصاصه به سبحانه من حيث كونه مفعولاً له، ومن أجله، وقيل المراد بحق جهاده هو أن لا يخافوا في الله لومة لائم، وقيل المراد به استفراغ ما في وسعهم في إحياء دين الله وقال مقاتل والكلبي: إن الآية منسوخة بقوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) كما أن قوله: (اتقوا الله حق تقاته) منسوخ بذلك، ورد ذلك بأن التكليف مشروط بالقدرة فلا حاجة إلى المصير إلى النسخ.
عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال لي عمر: ألسنا كنا نقرأ فيما نقرأ (وجاهدوا في الله حق جهاده) في آخر الزمان، كما جاهدتم في أوله؟ قلت بلى
وأخرج الترمذي وصححه وابن حبان عن فضالة بن عبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله " (١)، ثم عظم سبحانه شأن المكلفين بقوله: (هو اجتباكم) أي اختاركم لدينه وفيه تشريف لهم عظيم، ثم لما كان في التكليف مشقة على النفس في بعض الحالات قال:
(وما جعل عليكم في الدين من حرج) أي من ضيق وشدة، وقد اختلف العلماء في هذا الحرج الذي رفعه الله فقيل هو ما أحله الله من النساء مثنى وثلاث ورباع وملك اليمين، وقيل المراد قصر الصلاة والإفطار للمسافر والصلاة بالإيماء على من لا يقدر على غيره وإسقاط الجهاد عن الأعرج والأعمى والمريض وأكل الميتة عند الضرورة واغتفار الخطأ في تقديم الصيام وتأخيره لاختلاف الأهلة وكذا في الفطر والأضحى، وقيل المعنى أنه سبحانه ما جعل عليهم حرجاً بتكليف ما يشق عليهم، ولكن كلفهم بما يقدرون عليه، ورفع عنهم التكاليف التي فيها حرج فلم يتعبدهم بها كما تعبد بها بني إسرائيل.
وقيل المراد بذلك أنه جعل لهم من الذنب مخرجاً بفتح باب التوبة، وقبول الاستغفار والتكفير فيما شرع فيه الكفارة، والأرش أو القصاص في الجنايات ورد المال أو مثله، أو قيمته في الغصب ونحوه؛ فليس في دين الإسلام ما لا يجد العمد فيه سبيلاً إلى الخلاص من الذنوب ومن العقاب، وقيل المراد بالدين التوحيد ولا حرج فيه، بل فيه تخفيف فإنه يكفِّر ما قبله من الشرك وإن امتد ولا يتوقف الإتيان به على زمان أو مكان معين.
_________
(١) الترمذي كتاب فضائل الجهاد الباب ٢ أحمد بن حنبل ٦/ ٢٠ - ٢٢.
والمعنى الأول أولى، والظاهر أن الآية أعم من هذا كله فقط حط سبحانه ما فيه مشقة من التكاليف على عباده إما بإسقاطها من الأصل وعدم التكليف بها كما كلف بها غيرهم أو بالتخفيف، وتجويز العدول إلى بدل لا مشقة فيه أو بمشروعية التخلص عن الذنب بالوجه الذي شرعه الله، وما أنفع هذه الآية وأجل موقعها وأعظم فائدتها، ومثلها قوله سبحانه: (فاتقوا الله ما استطعتم) وقوله: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقوله: (ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا به) وفي الحديث الصحيح أنه سبحانه قال: " قد فعلت " كما سبق بيانه في تفسير هذه الآية والأحاديث في هذا كثيرة.
وعن عائشة أنها سألت النبي - ﷺ - عن هذه الآية فقال: " الضيق ". وقال أبو هريرة لابن عباس: أما علينا في الدين من حرج في أن نسرق أو نزني؟ قال: بلى؛ قال: فما هذه الآية؟ قال: الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم، وعن ابن عباس كان يقول: وما جعل عليكم في الدين من حرج، توسعة الإسلام وما جعل الله من التوبة والكفارات، وعنه قال: هذا في هلال رمضان إذا شك فيه الناس، وفي الحج إذا شكوا في الأضحى، وفي الفطر وأشباهه، وعنه سئل عن الحرج فقال: ادع لي رجلاً من هذيل فجاءه فقال: ما الحرج فيكم؟ قال: الحرجة من الشجر التي ليس فيها مخرج، فقال ابن عباس: الذي ليس له مخرج، وفي لفظ قال الهذيلي: الشيء الضيق قال: هو ذاك، وعن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية ثم قال: ادع لي رجلاً من بني مدلج وقال: ما الحرج فيكم؟ قال: الضيق.
(هو سماكم المسلمين من قبل) أي قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة، قال ابن عباس: الله عز وجل سماكم، وروي نحوه عن جماعة من التابعين، وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه، والترمذي وصححه والنسائي والبيهقي وغيرهم، عن الحرث الأشعري عن رسول الله ﷺ قال: " من دعا بدعوى الجاهلية فإنّه من جثيِّ جهنم " قال رجل: يا رسول الله وإن صام وصلى؟ قال: " نعم فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين والمؤمنين عباد الله " (١)، وقيل إن الكناية راجعة إلى إبراهيم يعني إبراهيم سماكم المسلمين في أيامه من قبل هذا الوقت وهو قوله: (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) فاستجاب الله دعاءه فينا.
(وفي هذا) أي في حكمه أن من اتبع محمداً (- ﷺ -) فهو مسلم، قال النحاس: وهذا القول مخالف لقول علماء الأمة، وقيل أي في القرآن يعني فضلكم على سائر الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم، ثم علل سبحانه ذلك بقوله: (ليكون الرسول شهيداً عليكم) يوم القيامة بتبليغه إليكم
_________
(١) الترمذي كتاب الأدب الباب ٧٨.
(فأقيموا الصلاة) بواجباتها وداوموا عليها (وآتوا الزكاة) بشرائطها وتخصيص الخصلتين بالذكر لمزيد شرفهما (واعتصموا بالله) أي اجعلوه عصمة لكم مما تحذرون والتجئوا إليه في جميع أحوالكم ولا تطلبوا ذلك إلا منه، وقيل الاعتصام هو التمسك بالكتاب والسنة، وقيل تمسكوا بدين الله، وقيل ثقوا به تعالى في مجامع أموركم (هو مولاكم) أي ناصركم ومتولي أموركم دقيقها وجليلها (فنعم المولى) هو (ونعم النصير) أي الناصر لكم هو يعني لا مماثل له في الولاية لأموركم، والنصرة على أعدائكم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة المؤمنون(وهي مكية وآياتها مائة وثماني عشرة)
قال القرطبي: كلها مكيّة في قول الجميع. أي بلا خلاف وآياتها مائة وتسع آية عند البصريين، ومائة وثماني عشرة آية عند الكوفيين وسبب هذا اختلافهم في قوله: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ)، هل هو آية أو بعض آية. وقد أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن عبد الله بن السائب قال: صلى النبي ﷺ بمكة الصبح، فاستفتح سورة المؤمنين حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون. أو ذكر عيسى أخذته سلعة فركع (١). وأخرج البيهقي من حديث أنس عن النبي ﷺ أنه قال: " لما خلق الجنة قال لها تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون " وقد ورد في فضائل العشر الآيات من أول هذه السورة ما سيأتي قريباً.
_________
(١) مسلم ٤٥٥.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠)