ﰡ
(مدنية وقيل مكية حروفها ألف وأربعمائة وأربعة وسبعون كلماتها خمسمائة وأربعة وأربعون آياتها تسعة وعشرون)
[سورة الحديد (٥٧) : الآيات ١ الى ٢٩]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩)
وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (١٤)
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤)
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
أخذ مجهولا ميثاقكم بالرفع: أبو عمرو وكل بالرفع: ابن عامر انْظُرُونا من الأنظار: حمزة الأماني بسكون الياء: يزيد لا تؤخذ بالتأنيث: ابن عامر ويزيد وسهل ويعقوب وما نزل بالتشديد مجهولا: عباس نَزَلَ بالتخفيف من النزول: نافع وحفص. الباقون: بالتشديد ولا تكونوا على الخطاب: رويس
الوقوف:
الْأَرْضِ ج لعطف الجملتين المختلفتين الْحَكِيمُ هـ وَالْأَرْضِ ج لاحتمال أن يكون قوله يُحْيِي مستأنفا لا محل له أو له محل بتقدير هو يحيى وأن يكون حالا من المجرور في قوله لَهُ والجار عاملا فيها. وَيُمِيتُ ج قَدِيرٌ هـ وَالْباطِنُ ج عَلِيمٌ هـ الْعَرْشِ ط فِيها ط كُنْتُمْ ط بَصِيرٌ هـ وَالْأَرْضِ ط الْأُمُورُ هـ فِي اللَّيْلِ ط الصُّدُورِ هـ فِيهِ ط كَبِيرٌ هـ بِاللَّهِ ط مُؤْمِنِينَ هـ إِلَى النُّورِ ط رَحِيمٌ هـ وَالْأَرْضِ ط وَقاتَلَ ط وَقاتَلُوا ط الْحُسْنى ط خَبِيرٌ هـ كَرِيمٌ ج لاحتمال تعلق الظرف بقوله وَلَهُ أَجْرٌ أو بقوله بُشْراكُمُ أي يقال لهم ذلك يومئذ أو هو مفعول «اذكر» فِيها ط الْعَظِيمُ هـ ج وإن وصل وقف على نُورِكُمْ لأن يَوْمَ قد يتعلق بالنور فيوقف على نُورِكُمْ وقد يتعلق بقوله قِيلَ ارْجِعُوا نُوراً ط بابٌ ط الْعَذابُ ط مَعَكُمْ ط الْغَرُورُ هـ كَفَرُوا ط النَّارُ ط مَوْلاكُمْ ط الْمَصِيرُ هـ الْحَقِّ ط إلا لمن قرأ ولا تكونوا على النهي قُلُوبُهُمْ ط فاسِقُونَ هـ مَوْتِها ط تَعْقِلُونَ هـ كَرِيمٌ هـ الصِّدِّيقُونَ هـ والوصل أولى ومن وقف على الصديقين لم يقف على رَبِّهِمْ وَنُورُهُمْ ط الْجَحِيمِ هـ وَالْأَوْلادِ ط حُطاماً ط وَرِضْوانٌ ط الْغُرُورِ هـ وَرُسُلِهِ ط مَنْ يَشاءُ ط الْعَظِيمِ هـ نَبْرَأَها ط يَسِيرٌ هـ ج لاحتمال تعلق اللام بما قبله أو بمحذوف أي ذلك لكيلا آتاكُمْ ط فَخُورٍ هـ لا لأن ما بعده بدل بِالْبُخْلِ ط الْحَمِيدُ هـ بِالْقِسْطِ ط هـ للعطف ظاهرا مع أن إنزال الحديد ابتداء إخبار غير مختص بالرسل بِالْغَيْبِ ط عَزِيزٌ هـ مُهْتَدٍ ج لأن الجملتين وإن اتفقتا لفظا إلا أن الأولى للبعض القليل والثانية للكثير فيبنى على الاستئناف فاسِقُونَ هـ وَرَحْمَةً ط لأن ما بعدها منصوب بابتدعوا المقدر رِعايَتِها ط لأن الجملتين وإن اتفقتا لفظا إلا أن قوله فَآتَيْنَا ليس جزاء ترك الرعاية إنما هو تمام بيان التفرقة بين الفريقين فيرجع إلى قوله فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ أَجْرَهُمْ هـ ط لما مر فاسِقُونَ هـ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ط رَحِيمٌ هـ لا وقد يجوز الوقف بناء على أن المراد ذلك ليعلم يَشاءُ ط الْعَظِيمِ هـ
التفسير:
معنى تسبيح الموجودات قد تقدم في قوله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: ٤٤] والآن نقول: إنه بدأ في سورة بني إسرائيل بلفظ المصدر وهو
هذا مقام مهيب والبحث فيه من وجوه: الأول أن تقدم الشيء على الشيء إما تقدم التأثير كتقدم حركة الإصبع على حركة الخاتم، وإما التقدم بالحاجة لا بالتأثير كتقدم الإمام على المأموم، أو معقول كما إذا جعلنا المبدأ هو الجنس العالي، وإما بالزمان كتقدم الأب على الابن قال: وتقدم بعض أجزاء الزمان على الزمان عندي ليس من هذه الأقسام الخمسة، أما التأثير والحاجة فلأنه لو كان كذلك لوجدا معا كما أن العلة والمعلول يوجدان معا وكذا الواحد والاثنان. وأما الشرف والمكان فظاهران، وأما بالزمان فإن الزمان لا يقع في الزمان وإلا تسلسل. قلت: لم لا يجوز أن يكون تقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض بالحاجة أي بالطبع فإن الزمان كما لا يخفى حين كان كما متصلا غير قار الذات اقتضت حقيقته أن يكون له وجود سيال يعقب بعض أجزائه بعضا لا تنتهي النوبة إلى جزء مفروض منه إلا وقد انقضى منه جزء مفروض على الاتصال. وقال: إذا عرفت ذلك فنقول: القرآن دال على أنه تعالى قبل كل شيء والبرهان أيضا يدل على هذا لأن انتهاء الممكنات لا بد أن يكون إلى الواجب إلا أن تلك القبلية ليست بالتأثير لأن المؤثر من حيث هو مؤثر مضاف إلى الأثر من حيث هو أثر والمضافان معا، والمعي لا يكون قبل ولا بالحاجة لأنهما قد يكونان معا كما قلنا، ولا لمحض الشرف فإن تلك القبلية ليست مرادة هاهنا ولا بالمكان وهو ظاهر، ولا بالزمان لأن الزمان بجميع أجزائه ممكن الوجود، والتقدم على جميع الأزمنة لا يكون بالزمان فإذن تقدم الواجب تعالى على ما عداه خارج عن هذه الأقسام الخمسة وكيفيته لا يعلمها إلا هو. قلت: إنه سبحانه متقدم على ما سواه بجميع أقسام التقدمات الخمسة. أما بالتأثير فظاهر قوله والمضافان معا. قلنا: إن أردت من الحيثية المذكورة فمسلم ولا محذور. ، وإن أردت مطلقا فممنوع. وأما بالطبع فلأن ذات الواجب من حيث هو لا تفتقر إلى الممكن من حيث هو وحال الممكن بالخلاف، وأما بالشرف فظاهر، وأما بالمكان فلأنه وراء كل الأماكن ومعها لقوله فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: ١١٥]
وقد جاء في الحديث «لو أدليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله» «١»
فإن كان عالما لزم تناهيه فإن الإحاطة بما لا يتناهى مستحيلة. وإن لم يعلم لزم نسبة الجهل إليه تعالى وذلك محال. وأيضا الحوادث المستقبلة قابلة للزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك فهو متناه. وأجاب عن الأول بأن إمكان استمرار هذه الأشياء حاصل إلى الأبد، والدليل عليه أن هذه الماهيات لو زال إمكانها لزم انقلاب الممكن إلى الممتنع، ولزم أن تنقلب قدرة الله من صلاحية التأثير إلى امتناع التأثير. قلت: هذه مغالطة فإنه لا يلزم من الإمكان الذاتي للشيء وقوعه في الخارج ولا من عدم وقوعه في الخارج الامتناع الذاتي وأجاب عن الثاني بأنه لا يعلم أن عددها ليس بمعين وهذا لا يكون جهلا إنما الجهل أن يكون له عدد معين ولا يعلمه. قلت: الذي علمه متناه يجب أن يكون معلومه متناهيا، أما الذي لا نهاية لعلمه فلم يبعد بل يجب أن تكون معلوماته غير متناهية. وأجاب عن الثالث بأن الخارج منه إلى الوجود أبدا يكون متناهيا. قلت: الزيادة والنقصان لا يوجبان التناهي كتضعيف الألف والألفين مرارا غير متناهية قال: فالمتكلمون حين أثبتوا إمكان بقاء العالم عولوا في أبدية الجنة والنار على إجماع المسلمين.
واختلفوا في معنى كونه تعالى آخرا على وجوه أحدها: أنه تعالى يفني جميع العالم ليتحقق كونه آخرا، ثم إنه يوجدها ويبقيها أبدا. قلت: هذا حقيق بأن لا يسمى آخرية بل يسمى توسطا. وثانيها أن صحة آخرية كل الأشياء مختصة به فلا جرم وصف بكونه آخرا.
وقوله وَهُوَ مَعَكُمْ معية العلم والقدرة أو استصحاب المكان عند بعض قوله لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وبعده مثله ليس بتكرار لأن الأول في الدنيا لقوله يُحْيِي وَيُمِيتُ والثاني في العقبى لقوله وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ قوله مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ أراد أن المال مال الله والعباد عباد الله إلا أنه قد جعل أرزاقهم متداولة بيد حكمته متعلقة بالوسائط والروابط، فالسعيد من وفقه الله تعالى لرعاية حق الاستخلاف فيتصرف فيما آتاه الله على وفق ما أمره الله من الإنفاق في سبيل الله قبل أن ينتقل منه إلى غيره بإرث أو حادث كما انتقل من غيره إليه بأحد السببين. قوله لا تُؤْمِنُونَ حال من معنى الفعل كقولك «مالك قائما» أي ما تصنع. والواو في قوله وَالرَّسُولُ للحال من ضمير لا تُؤْمِنُونَ فهما حالان متداخلتان. وأخذ الميثاق إشارة إلى الأقوال المذكورة في تفسير قوله وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ [الأعراف: ١٧٢]، والمراد أنه قد تعاضدت الدلائل السمعية والبراهين العقلية على الإيمان بالله فأي عذر لكم في تركه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لموجب ما فإن هذا الموجب لا مزيد عليه ولا ريب أن الإيمان بالله شامل للتصديق بجميع أوامره وأحكامه ومن جملتها الإيمان بالرسول وبالقرآن وبما فيه. استدل القاضي بقوله وَما
على أن العبد قادر على الإيمان وعلى الاستطاعة قبل الفعل وإلا لم يصح التوبيخ كما لا يقال مالك لا تطول ولا تبيض. والبحث في أمثاله مذكور في مواضع. والضمير في قوله لِيُخْرِجَكُمْ لله تعالى أو لعبده والميراث مجاز عن بقائه بعد فناء الخلق وقد مر في «آل عمران» : قال المفسرون: إن أبا بكر أول من أنفق في سبيل الله فنزل فيه وفي أمثاله السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ أي فتح مكة وتمامه أن يقال: ومن أنفق بعد الفتح فحذف لدلالة قوله أُولئِكَ الذين أنفقوا قبل الفتح وهم الذين
قال فيهم رسول الله ﷺ «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» «١»
أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وسبب الفضل أنهم أنفقوا قبل عز الإسلام وقوة أهله فكانت الحاجة إلى الإنفاق حينئذ أمسّ مع أنه كان أصدق إنباء عن ثقة صاحبه بهذا الدين وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات. ومن قرأ بالرفع فتقديره وكل وعده الله والقرض مجاز عن إنفاق المال في سبيل الله. وقد مر في أواخر «البقرة». قال أهل السنة: إنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ أن كل من صدر عنه الفعل الفلاني فله كذا من الثواب وهو الأجر الكريم، فإذا ضم إلى ذلك مثله فهو المضاعفة. وقال الجبائي: إن الأعواض تضم إلى الثواب فهو المضاعفة. وإنما وصف الأجر بالكريم لأنه جلب ذلك الضعف وبسببه حصلت لكل الزيادة فكان كريما من هذا الوجه. ثم أكد الإيمان بالله ورسوله والإنفاق في سبيله بتذكير يوم المحاسبة فقال يَوْمَ تَرَى يا محمد أو يا من له أهلية الخطاب وقد مر إعرابه. عن ابن مسعود وقتادة مرفوعا أن كل إنسان مؤمن فإنه يحصل له النور يوم القيامة على قدر ثوابه منهم من يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعاء، ومنهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه، وأدناهم نورا من يكون نوره على إبهامه ينطفئ مرة ويتقد أخرى. وقال مجاهد: ما من عبد إلا وينادى يوم القيامة يا فلان هذا نورك، ويا فلان لا نور لك. هذا وقد بينا لك في هذا الكتاب مرارا أن الكمالات والخيرات كلها أنوار وأكمل الأنوار معرفة الله سبحانه. وإنما قال بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ لأن ذلك جعل إمارة النجاة ولهذا ورد أن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم. ومعنى سعي النور سعيه بسعيهم جنيبا لهم ومتقدما
ظاهرات الجمال والحسن ينظرن | كما ينظر الأراك الظباء |
ومن قرأ انْظُرُونا أي أمهلونا جعل استبطاءهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم إمهالا لهم. قال الحسن: يعطى يوم القيامة كل أحد نورا على قدر عمله. ثم إنه يؤخذ من جمر جهنم وما فيه من الكلاليب والحسك وتلقى على الطريق فتمضي زمرة من المؤمنين وجوههم كالقمر ليلة البدر، ثم تمضي زمرة أخرى كأضواء الكواكب في السماء. ثم على ذلك ثم على ذلك، ثم تغشاهم الظلمة فينطفئ نور المنافقين فهناك يقول المنافقون للمؤمنين انظرونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ والاقتباس أخذ القبس أي الشعلة من النار قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ أي إلى الموقف حيث أعطينا هذا النور فاطلبوا نورا وهو تهكم بهم أو إلى الدنيا فَالْتَمِسُوا نُوراً بتحصيل سببه وهو الإيمان والعمل الصالح أو اكتساب المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة كأنها خدعة خدع بها المنافقون كقوله يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
[البقرة: ٩] وعلى هذا فالسور هو امتناع العود إلى الدنيا وعلى الأول قالوا: إنهم يرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم فيجدون السور مضروبا بينهم وبين المؤمنين وهو حائط الجنة أو هو الأعراف باطِنُهُ أي باطن السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ وهو ما ظهر لأهل النار مِنْ قِبَلِهِ أي من جهته الْعَذابُ قال أبو مسلم: المراد من قول المؤمنين ارْجِعُوا منع المنافقين عن الاستضاءة كقول الرجل لمن يريد القرب منه «وراءك أوسع لك» والمراد أنه لا سبيل لهم إلى هذا النور، والمراد من السور منعهم من رؤية المؤمنين قال الأخفش: الباء في قوله بِسُورٍ صلة وفائدته التوكيد وأرادوا بقوله أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ مرافقتهم في الظاهر. ومعنى فَتَنْتُمْ محنتم أَنْفُسَكُمْ بالنفاق وأهلكتموها وَتَرَبَّصْتُمْ بالمؤمنين الدوائر وَارْتَبْتُمْ وشككتم في وعيد الله أو في نبوة محمد ﷺ أو في البعث أو
بقوله ﷺ «من كنت مولاه فعلى مولاه»
فهذا علي مولانا احتج بقول الأئمة في تفسير الآية أن المولى معناه الأولى، وإذا ثبت أن اللفظ محتمل وجب حمله عليه لأن ما عداه بين الثبوت ككونه ابن العم والناصر، أو بين الانتفاء كالمعتق والمعتق فيكون على التقدير الأول عبثا، وعلى التقدير الثاني كذبا. قال: وإذا كان قول هؤلاء معنى لا تفسيرا بحسب اللغة سقط الاستدلال. قلت: في هذا الإسقاط بحث لا يخفى. وجوز أن يراد في الآية نفي الناصر لأنه إذا قال هي ناصركم على سبيل التهكم وليس لها نصرة لزم نفي الناصر رأسا كقوله تعالى يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ [الكهف: ٢٩] ويقال ناصره الخذلان ومعينه البكاء.
قوله سبحانه أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا من أنى الأمر يأني إذا جاء إناه أي وقته. قال جمع من المفسرين: نزل في المنافقين الذين أظهروا الإيمان وفي قلوبهم النفاق المباين للخشوع. وقال آخرون: نزل في المؤمنين المحقين. روى الأعمش أن الصحابة لما قدموا المدينة أصابوا لينا في العيش ورفاهية فغيروا بعض ما كانوا عليه فعوتبوا بهذه الآية. وعن أبي بكر الصديق أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من اليمامة فبكوا بكاء شديدا فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب. وعن ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين. وعن ابن عباس أنه عاتبه على رأس ثلاث عشرة. وقوله لِذِكْرِ اللَّهِ من إضافة المصدر إلى الفاعل أي ترق قلوبهم لمواعظ الله التي ذكرها في القرآن وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وأراد أن القرآن جامع للوصفين الذكر والموعظة ولكونه حقا نازلا من السماء. ويجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول أي لذكرهم الله والقرآن كقوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ
[الأنفال: ٢] ويحتمل أن تكون اللام للتعليل أي يجب أن يورثهم الذكر خشوعا ولا يكونوا كمن يذكره بالغفلة. ومن قرأ ولا تكونوا بالتاء الفوقانية فهي الناهية. ومن قرأ بالياء التحتانية احتمل أن يكون منصوبا عطفا على أن تخشع والأمد الأجل والأمل أي طالت المدة بين اليهود والنصارى وبين أنبيائهم، أو طالت أعمارهم في الغفلة والأمل البعيد فحصلت القسوة في قلوبهم بسببه فاختلفوا فيما أحدثوا من التحريف والبدع. وقال مقاتل بن سليمان: طال عليهم أمد خروج النبي صلى الله عليه وسلم، أو طال عليهم عهدهم بسماع التوراة والإنجيل فزال وقعهما في قلوبهم قاله القرطبي، وقرئ الأمد بالتشديد أي الوقت الأطول وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين، وفيه إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسوق في آخر الأمر. قال الحسن: أما والله لقد استبطأ قلوب المؤمنين وهم يقرأون من القرآن أقل مما تقرءون فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسوق. قوله اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ فيه وجهان: الأول أنه تمثيل والمعنى أن القلوب التي ماتت بسبب القساوة فالموظبة على الذكر سبب لعود حياة الخشوع إليها كما يحيي الله الأرض بالغيث، الثاني أنه زجر لأهل الفسق وترغيب في الخشوع لأنه يذكر القيامة وبعث الأموات. ثم استأنف وعد المنفقين ووعيد أضدادهم بقوله إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وأصله المتصدقين وعطف عليه قوله وَأَقْرَضُوا اللَّهَ لأن الألف واللام بمعنى الذي كأنه قال: إن الذين تصدقوا وأقرضوا. والظاهر أن الأول هو الواجب والثاني هو التطوع لأن تشبيهه بالقرض كالدلالة على ذلك. وأيضا ذكر الأول بلفظ اسم الفاعل الدال على الاستمرار ينبئ عن الالتزام والوجوب. ومن قرأ بتشديد الدال فقط فمعناه إن الذين صدقوا الله ورسوله وأقرضوا ويندرج تحت التصديق الإيمان وجميع الأعمال الصالحات إلا أنه أفرد الإنفاق بالذكر تحريضا عليه كما أنه أفرد الإيمان لتفضيله والترغيب فيه. وقال وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ الكاملون في الصدق إذ لا قول أصدق من التوحيد والاعتراف بالرسالة، أو هم الكثير والصدق من حيث إنهم ضموا صدقا إلى صدق وهو الإيمان بالله ورسوله أو به وبرسول رسوله. ثم حث على الجهاد بقوله وَالشُّهَداءُ وهو مبتدأ حبره عِنْدَ رَبِّهِمْ وفيه بيان أنهم من الله بمنزلة وسعة وقد بين ثوابهم الجسماني لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ويجوز أن يكون قوله عِنْدَ رَبِّهِمْ حالا أو صفة للشهداء كقوله «مررت على اللئيم يسبني» وما بعده خبر. وقال الفراء والزجاج: هم الأنبياء لقوله فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء: ٤١] ومن جعل الشُّهَداءُ عطفا على ما قبله قال: أراد أنهم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله. قال مجاهد: كل مؤمن فهو صديق وشهيد. وقال جار الله: المعنى أن الله يعطي
أريد أنهم شهداء عند ربهم على أعمال عباده. وعن الحسن: كل مؤمن فإنه يشهد كرامة ربه. وعن الأصم. إن المؤمن قائم لله تعالى بالشهادة فيما تعبدهم به من الإيمان والطاعة.
ثم ذكر ما يدل على حقارة أمور الدنيا وشبهها في سرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث ورباه إلى أن يتكامل نشؤه. ومعنى إعجاب الكفار أنهم جحدوا نعمة الله فيه بعد أن راق في نظرهم فبعث الله عليه العاهة فصيره كلا شيء كما فعل بأصحاب الجنتين في «الكهف» وفي «سبأ» وبأصحاب الجنة في «نون». ومن جعل الكفار بمعنى الزراع فظاهر قاله ابن مسعود وصيرورته حطاما هي عودة إلى كمال حاله في النضج واليبس. ثم عظم أمور الآخرة بتنوين التنكير في قوله وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ للكافرين وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ للمؤمنين قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة.
فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله ولقائه فنعم المتاع ونعم الوسيلة. ثم حث على المسابقة إلى المغفرة وإلى الجنة وقد مر نصير في «آل عمران» إلا أن البشارة هاهنا أعم لأنه قال هناك أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ [الآية: ١٣٣] إلى آخره. وهاهنا قال أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ولأن هؤلاء أدون حالا من أولئك جعل عرض الجنة هنا أقل فقال وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ فلم يجمع السماء وأدخل حرف التشبيه الدال على أن المشبه أدون حالا من المشبه به. وفي لفظ سابِقُوا هاهنا إشارة إلى أن مراتب هؤلاء مختلفة بعضها أسبق من بعض كالمسابقة في الخيل وفي لفظ سارِعُوا هنالك رمز إلى أن كلهم مستوون في القرب أو متقاربون لأن المرتبة العليا واحدة وهي مرتبة السابقين المقربين وإنها غاية الرتب الإنسانية فافهم هذه الأسرار فإن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
قال الزجاج: لما أمرنا بالمسابقة إلى المغفرة بين أن الوصول إلى الجنة والحصول في النار بالقضاء والقدر فقال ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ أي لا يوجد مصيبة فِي الْأَرْضِ من القحط والوباء والبلاء وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ من المرض والفتن إِلَّا فِي كِتابٍ أي هو مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ وإنما قيد المصائب بكونها في الأرض والأنفس لأن الحوادث المطلقة كلها ليست مكتوبة في اللوح لأن حركات أهل الجنة والنار غير متناهية فإثباتها في الكتاب محال ولهذا
قال «جف القلم بما هو كائن إلى يوم الدين» «١»
ولم يقل إلى الأبد.
رواه البخاري في كتاب النكاح باب ٨ النسائي في كتاب النكاح باب ٤ بلفظ «قد جف القلم بما أنت لاق»
فصل في هذه السورة وأجمل في «التغابن» فقال ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [الحديد: ٢٢] والتفصيل بهذه السورة أليق لأنه فصل أحوال الدنيا والآخرة بقوله اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إلى آخره قوله مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها من قبل أن نخلق المصائب والأنفس أو الأرض أو المخلوقات إِنَّ ذلِكَ الإثبات أو الحفظ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وإن كان عسيرا على غيره. ثم بين وجه الحكمة في ذلك الإثبات قائلا لِكَيْلا تَأْسَوْا أي لكيلا تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ نظيره ما
ورد في الخبر: من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب لأنه لما علم وجوب وقوعه من حيث تعلق علم الله وحكمه وقدرته به عرف أن الفائت لا يرده الجزع والمعطى لا يكاد يثبت ويدوم لأنه عرضة للزوال ونهزة للانتقال فلا يشتد به فرحه.
روى عكرمة عن ابن عباس: ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا للمصيبة صبرا وللخير شكرا أو المراد أنه لم ينف الأسى والفرح على الإطلاق ولكنه نفى ما بلغ الجزع والبطر ولا لوم على ما يخلو منه البشر. والباقي ظاهر وقد مر في النساء. والمقصود أن البخيل يفرح فرحا مطغيا لحبه المال ليفتخر به ويتكبر على الناس ويحمل غيره على إمساك المال لمقتضى شحه الطبيعي وَمَنْ يَتَوَلَّ عن أوامر الله ونواهيه ولا يعرف حق الله فما أعطاه فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن طاعة المطيعين الْحَمِيدُ في ذاته وإن لم يحمده الحامدون. وقيل: إن الآية نزلت في اليهود الذين كتموا صفة محمد ﷺ وبخلوا ببيان نعته.
ثم أراد أن يبين الغرض من بعثة الرسل المؤيدين بالمعجزات ومن إنزال الكتاب والميزان معهم.
يروى أن جبرائيل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح فقال: مر قومك يزنوا به.
وروي عن النبي ﷺ أن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض.
أنزل الحديد والنار والماء والملح. وعن الحسن: إنزالها تهيئتها كقوله وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر: ٦] وقال قطرب: هو من النزل يقال: أنزل الأمير على فلان نزلا حسنا منهم من قال: هو من باب «علفتها تبنا وماء باردا». وللعلماء في المناسبة بين الكتاب والميزان والحديد وجوه. أحدها أن مدار التكليف على فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي.
والثاني لا يتم إلا بالحديد الذي فيه بأس شديد والأول إما أن يكون من باب الاعتقادات ولن يتم إلا بالكتاب السماوي ولا سيما إذا كان معجزا. وإما أن يكون من باب المعاملات ولا ينتظم إلا بالميزان فأشرف الأقسام ما يتعلق بالقوة النظرية الروحانية، ثم ما يتعلق بالعملية الجسمانية، ثم ما يتعلق بالزواجر وقد روعي في الآية هذا النسق. وثانيها
سبحان من خص الفلز بعزه | والناس مستغنون عن أجناسه |
وأذل أنفاس الهواء وكل ذي | نفس فمحتاج إلى أنفاسه |
قال ابن عباس: ينصرونه ولا يبصرونه، وفيه إشارة إلى أن الجهاد المعتبر هو الذي يوجد عن إخلاص القلب خاليا من النفاق والرياء وفي قوله إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ رمز إلى أنه تعالى قادر على إهلاك أعداء الدين وإعلاء كلمته بدون واسطة الجهاد، ولكنه كلفهم ذلك ليتوسلوا به إلى نيل درجة الصديقين والشهداء.
وحين حكى قصة الرسل مجملة أعقبها بنوع من التفصيل والكتاب ظاهره الوحي.
عن ابن عباس هو الخط بالقلم والضمير في فَمِنْهُمْ للذرية أو للمرسل إليهم بدليل الإرسال. والفاسقون إما العاصون بارتكاب الكبائر، وإما الكافرون ولعل هذا أظهر لوقوعه في طباق المهتدين إلا أن يحمل الفاسق على الذي لا يهتدي لوجه رشده قال مقاتل: المراد بالرأفة والرحمة هو ما أوقع الله تعالى في قلوبهم من التواد والتعاطف كما جاء في نعت أصحاب محمد ﷺ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: ٢٩] قال أبو علي الفارسي: الرهبانية لا يستقيم حمل نصبها على جَعَلْنا لأن ما يبتدعونه لا يجوز أن يكون مجعولا لله قال في التفسير الكبير: هذا الكلام إنما يتم لو ثبت امتناع مقدور بين قادرين من أين يليق بأبي علي أن يخوض في أمثال هذه الأشياء. قلت: الظن بالعلماء ينبغي أن يكون أحسن من هذا ولا حاجة إلى إحالة تمام الكلام على المسألة المذكورة ولكن يرد على أبي علي أنه إذا جاز أن يكون الكفر والفسوق وسائر المعاصي الصادرة عن العبد منسوبة إلى تخليق الله، فلم لا يجوز أن يكون الابتداع وهو إحداث أمر من عند نفسه لا على ألسنة الرسل. مجعولا لله سبحانه؟ قال المفسرون: إن الجبابرة ظهروا على أمة عيسى بعد رفعه فقاتلوهم ثلاث مرات فقتلوهم حتى لم يبق منهم إلا القليل، فترهبوا على رؤوس الجبال فارين من الفتنة متحملين كلفا ومشاق زائدة على العبادات المكتوبة عليهم من الخلوة والاعتزال والتعبد في الغيران والكهوف،
روى ابن مسعود أن النبي ﷺ قال «يا ابن مسعود أما علمت أن بني إسرائيل تفرقوا سبعين فرقة كلها في النار إلا ثلاث فرق فرقة آمنت بعيسى عليه السلام وقاتلوا أعداءه في نصرته حتى قتلوا وفرقة لم يكن لها طاقة بالقتال فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وفرقة لم يكن لها طاقة بالأمرين فلبسوا العباء وخرجوا إلى القفار والفيافي وهو قوله وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً»
الآية قال العلماء: لم يرد الله تعالى بقوله
وثالثها أن يكون في الكلام إضمار أي لم نفرضها أولا عليهم بل كانت على جهة الاستحباب، ثم فرضناها عليهم فمارعوها إلا قليلا منهم آمنوا بمحمد ﷺ بعد أن استقاموا على الطريقة. ورابعها أن الصالحين من قوم عيسى ابتدعوا الرهبانية وانقرضوا عليها ثم جاء بعدهم من لم يرعها كما رعاها الحواريون. ثم خاطب المؤمنين منهم بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أي بعيسى اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ محمد ﷺ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ نصيبين مِنْ رَحْمَتِهِ لإيمانكم أولا بعيسى وثانيا بمحمد ﷺ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وهو النور المذكور في قوله يَسْعى نُورُهُمْ أو النور المذكور في قوله أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ [الأنعام: ١٢٢] ويجوز أن يكون الخطاب لأمة محمد ﷺ والمراد اثبتوا على إيمانكم برسول الله ﷺ يؤتكم ما وعد مؤمني أهل الكتاب في قوله أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ [القصص: ٥٤] وذلك أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين وادعوا الفضل عليهم فنزلت وفيه أنهم مثلهم في الإيمانين لأنهم لا يفرقون بين أحد من رسله على أنه يجوز أن يكون النصيب الواحد من الأجر أزيد من نصيبين فإن المال إذا قسم نصفين كان الكفل الواحد نصفا، وإذا قسم عشرة أقسام كان الكفل الواحد جزءا من عشرة. ولا شك أن النصيب الواحد من القسمة الأولى أزيد من النصيب الواحد من القسمة الثانية. قوله لِئَلَّا يَعْلَمَ الآية. أكثر المفسرين والنحويين على أن «لا» زائدة والمعنى ليعلم أَهْلُ الْكِتابِ الذين لم يسلموا أن الشأن لا ينالون ولا يقدرون على شيء من الكفلين. والنور والمغفرة لأنهم لم يؤمنوا بمحمد ﷺ فلم ينفعهم إيمانهم من قبله، أو المراد أنا بالغنا في هذا البيان وأمعنا في الوعد لهم والوعيد ليعلم أهل الكتاب أن الشأن هو أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بقوم معينين، ولا يمكنهم حصر الأجر في طائفة مخصوصين. وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
وقيل: غير زائدة والضمير في أَلَّا يَقْدِرُونَ للرسول وأصحابه. والعلم بمعنى الاعتقاد والمعنى لئلا يعتقد أهل الكتاب أن النبي ﷺ والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله، ولكي يعتقدوا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وقد خص بذلك محمدا ﷺ ومن آمن به وبالله التوفيق وإليه المرجع والمآب والله أعلم.
تم الجزء السابع والعشرون ويليه الجزء الثامن والعشرون أوله تفسير سورة المجادلة