تفسير سورة القيامة

التفسير المنير
تفسير سورة سورة القيامة من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

إثبات البعث والمعاد وعلائمه
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١ الى ١٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤)
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥)
الإعراب:
لا أُقْسِمُ.. لا: إما زائدة، أو ليست زائدة، بل هي ردّ لكلام مقدم في سورة أخرى، وقرئ: لأقسم وقد جاء حذف النون مع وجود اللام، والأكثر في كلامهم ثبوت النون مع اللام.
بَلى قادِرِينَ حال، وعامله محذوف لدلالة الكلام عليه، وتقديره: بلى نجمعها قادرين.
لِيَفْجُرَ اللام زائدة، والفعل منصوب بأن مضمرة مقدرة.
يَسْئَلُ أَيَّانَ.. أَيَّانَ: مبني على الفتح، لتضمنه معنى حرف الاستفهام لأنه بمعنى (متى) الذي بني لتضمنه حرف الاستفهام، وبني بالفتحة لأنها أخف الحركات.
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إنما قال جُمِعَ بالتذكير إما لأن تأنيث الشمس غير حقيقي، فيجوز حينئذ تذكير الفعل الذي أسند إليها، وإما لأنه جمع بين المذكر والمؤنث، فغلّب جانب المذكر على جانب المؤنث، كقولهم: قام أخواك هند وزيد.
كَلَّا، لا وَزَرَ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ كَلَّا: حذف خبرها، أي لا وزر هناك، أي لا ملجأ، والْمُسْتَقَرُّ
: مبتدأ، وإِلى رَبِّكَ
: خبره.
251
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
أنث بَصِيرَةٌ
إما لأن الهاء فيه للمبالغة، كعلّامة ونسّابة وراوية، أو لحمل الإنسان على النفس، فلذلك أنث بَصِيرَةٌ
أو لحذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، أي عين بصيرة.
البلاغة:
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً استفهام إنكاري للتوبيخ والتقريع.
يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ الاستفهام بغرض استبعاد الأمر وإنكاره.
فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ توافق الفواصل المسمى بالسجع المرصّع.
قَدَّمَ وَأَخَّرَ
بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
لا أُقْسِمُ أي أقسم، ولا: زائدة في الموضعين، وتزيد العرب كلمة (لا) للتأكيد، وذلك أن المقسم عليه إذا كان منتفيا، جاز الإتيان ب (لا) قبل القسم، لتأكيد النفي، والمقسم عليه هنا: هو إثبات المعاد، والرد على الجهلة المعاندين القائلين بعدم بعث الأجساد. ويرى قوم أن لا ردّ لكلام سابق متقدم وجواب له، فالعرب لما أنكروا البعث، قيل لهم: ليس الأمر كما زعمتم، وأقسم أن البعث حق لا ريب فيه. وقرئ لأقسم بغير ألف بعد اللام، وجواب القسم محذوف، أي لتبعثن، دل عليه ما بعده: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ. بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ هي التي تلوم نفسها، وإن اجتهدت في الطاعة والإحسان، والمراد بهذا القسم تعظيم يوم القيامة، والتنويه بالنفس الطامحة إلى الدرجة الأرقى. أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ المراد به الجنس، وإسناد الفعل إليهم لأن بعضهم يحسب، أو المراد من كان سبب النزول، وهو
عدي بن أبي ربيعة، سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أمر القيامة، فأخبره به، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدّقك، أو يجمع الله هذه العظام؟
أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ للبعث والإحياء بعد تفرقها.
بَلى نجمعها. قادِرِينَ مع جمعها. عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أصابعه، أي نعيد عظامها كما كانت، ونضم بعضها إلى بعض كما هي، مع صغرها ولطافتها، فكيف بكبار العظام؟
لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ليدوم على فجوره في مستقبل الزمان. أَيَّانَ متى، وهو سؤال استهزاء وتكذيب. بَرِقَ الْبَصَرُ دهش وتحير لما رأى ما كان يكذبه، وقرئ برق بفتح الراء.
وَخَسَفَ الْقَمَرُ أظلم وذهب ضوءه. وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ذهب ضوءهما في يوم القيامة، ولا يتنافى ذلك مع الخسوف، فإنه مستعار للمحاق.
252
الْمَفَرُّ الفرار. كَلَّا ردع عن طلب الفرار. لا وَزَرَ لا ملجأ يتحصن به.
الْمُسْتَقَرُّ
أي استقرار أمر الخلائق، فيحاسبون ويجازون. يُنَبَّؤُا
يخبر. بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
بما قدم من عمله وبما أخر منه، فلم يعلمه، أي أول عمله وآخره. بَصِيرَةٌ
حجة شاهدة ناطقة بعمله فلا بد من جزائه. وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
ولو جاء بكل ما يمكن أن يعتذر به وهو جمع معذرة على غير قياس، كالمناكير جمع منكر، فقياسه معاذر، وذلك أولى.
سبب النزول: نزول الآية (٣- ٤) :
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ..:
روي أن عدي بن ربيعة قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
يا محمد حدّثني عن يوم القيامة متى يكون أمره؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك، ولم أومن به، أو يجمع الله هذه العظام بعد بلاها؟! فنزلت.
وقيل: نزلت في أبي جهل كان يقول: أيزعم محمد (صلّى الله عليه وسلّم) أن يجمع الله هذه العظام بعد بلاها وتفرّقها، فيعيدها خلقا جديدا «١» ؟!
التفسير والبيان:
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أي أقسم بيوم القيامة، وأقسم بالنفس اللوّامة وهي التي تلوم صاحبها على تقصيره، لتبعثن، وقد حذف جواب القسم، لدلالة ما بعده عليه، وهو قوله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. وهي نفس المؤمن، تلوم على ما فات وتندم، فتلوم على الشر لم تعمله، وعلى الخير لماذا لم تستكثر منه.
والقسم بشيء لتعظيمه وتفخيمه، ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وفي الإقسام بيوم القيامة على وقوع يوم القيامة مزيد تقرير وتأكيد لوقوعه، فإن
(١) البحر المحيط: ٨/ ٣٨٤- ٣٨٥، تفسير القرطبي: ١٩/ ٦٣
253
الإقسام بالمعدوم لا يعقل معناه، وفي ضم النفس اللوّامة إليه تنبيه على أن الغرض من القيامة: هو إظهار أحوال النفس ومراتبها في السعادة وضدّها «١». والصحيح أنه أقسم بهما جميعا معا، كما قال قتادة رحمه الله «٢»، أي أنه سبحانه سيجمع العظام، ثم يحيي كل إنسان، ليحاسبه ويجزيه.
قال الحسن البصري: إن المؤمن، والله ما نراه إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلمتي، ما أردت بأكلتي، ما أردت بحديث نفسي، وإن الفاجر يمضي قدما وقدما ما يعاتب نفسه. وقال أيضا: ليس أحد من أهل السموات والأرضين إلا يلوم نفسه، يوم القيامة.
وقال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن قوله: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ قال: يقسم ربك بما شاء ممن خلقه.
وقال الفرّاء: ليس من نفس محسنة أو مسيئة إلا وهي تلوم نفسها فالمحسن يلوم نفسه أن لو كان ازداد إحسانا، والمسيء يلوم نفسه ألا يكون ارعوى عن إساءته.
والخلاصة: أن الأشبه بظاهر التنزيل كما قال ابن كثير: أن النفس اللوّامة هي التي تلوم صاحبها على الخير والشر، وتندم على ما فات.
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ؟ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أي أيظن أي إنسان أننا لن نقدر على جمع عظامه، بعد أن صارت رفاتا، فنعيدها خلقا جديدا، وذلك حسبان باطل، فإنا نجمعها، وبلى سنجمعها قادرين عند البعث على إعادة تسوية أكثر العظام تفرقا، وأدقها أجزاء، وهي العظام التي في الأنامل ومفاصلها. وقوله: قادِرِينَ تأكيد القدرة لأنه
(١) غرائب القرآن: ٢٨/ ١٠٥
(٢) تفسير ابن كثير: ٤/ ٤٤٧
254
يستحيل جمع العظام بدون القدرة الكاملة التي نبّه عليها بقوله: أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ لأن من قدر على ضم سلاميات الأصبع مع صغرها ولطافتها كما كانت، كان على ضم العظام الكبار أقدر. وإنما خص البنان وهو الأنملة بالذكر لأنه آخر ما يتم به خلقه، فذكره يدل على تمام الأصبع، وتمام الأصبع يدل على تمام سائر الأعضاء التي هي أطرافها.
وقيل: معنى التسوية: جعلها شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار، بحيث لا يقدر على البطش. والمراد أنه قادر على ردّ العظام والمفاصل إلى هيئتها الأولى، وعلى ضد ذلك.
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ هذا إضراب عما سبق لتقرير أمر آخر، وهو أن الإنسان يريد في الحقيقة أن يدوم على فجوره في مستقبل أيامه، فيقدّم الذنب، ويؤخر التوبة. قال سعيد بن جبير: يقدّم الذنب، ويؤخر التوبة حتى يأتيه الموت على شرّ أحواله.
والخلاصة: أن إنكار البعث يتولد من شبهتين: الأولى- بأن يستبعد الإنسان اجتماع الأجزاء بعد تفرقها وتلاشيها، والثانية- من التهوّر، بأن ينكر المعاد بالهوى واسترسال الطبع والميل إلى الفجور.
فأجاب تعالى عن الشبهة الأولى بقوله: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ.. وأنكر على صاحب الشبهة الثانية بقوله: بل يريد أن يكذب بما أمامه من البعث والحساب، لئلا تنتقص عنه اللذات العاجلة، كما قال تعالى:
يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أي يسأل سؤال استبعاد لوقوعه واستهزاء وتعنتا: متى يوم القيامة؟ ومن لم يؤمن بالبعث ارتكب أعظم الآثام، وبادر إلى انتهاب اللذات غير عابئ بما يفعل.
255
ونظير الآية قوله تعالى: وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الملك ٦٧/ ٢٥] وقوله سبحانه: هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ، إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام ٦/ ٢٨- ٢٩].
ثم ذكر الله تعالى ثلاث علامات للقيامة، فقال:
فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ: أَيْنَ الْمَفَرُّ؟ أي فإذا دهش البصر وتحير من شدة هول البعث ويوم القيامة، وذهب ضوء القمر كله دون أن يعود كما يعود بعد الخسوف في الدنيا، وذهب وتبدد ضوء الشمس والقمر جميعا، فلا يكون هناك تعاقب ليل ونهار، أي أن معالم الكون كلها تتغير، وحينئذ يقول ابن آدم إذا عاين هذه الأهوال يوم القيامة: هل من ملجأ أو موئل، وأين المفر من الله سبحانه ومن حسابه وعذابه؟! والمراد بالإنسان: الجنس، وهو ابن آدم، فيشمل المؤمن والكافر لهول ما يشاهد منها. وقيل: المراد الكافر خاصة دون المؤمن، لثقة المؤمن ببشرى ربه.
فيجيب الله تعالى سلفا في الدنيا بقوله:
كَلَّا لا وَزَرَ، إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ أي ليس لكم مكان تعتصمون فيه، فلا جبل ولا حصن ولا ملجأ من الله يعصمكم يومئذ، وإنما إلى الله ربك المرجع والمصير، في الجنة أو في النار، كما في قوله تعالى: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم ٥٣/ ٤٢] فهناك استقرار العباد على الدوام. ولا بد من تقدير مضاف في قوله: إِلى رَبِّكَ
أي إلى حكم ربك، أو إلى جنته أو ناره.
ثم ربط الله تعالى نوع المصير بالعمل في الدنيا، فقال:
256
يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
أي يخبر الإنسان في يوم القيامة أثناء العرض والحساب بجميع أعماله التي قدمها من خير أو شر، قديمها وحديثها، أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها، كما قال تعالى: وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف ١٨/ ٤٩].
ثم بيّن أن الإنسان عالم بأعماله، فقال:
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
أي بل إن الإنسان شهيد على نفسه، عالم بما فعله، فهو حجة بيّنة على أعماله، ولو اعتذر وأنكر، كما قال تعالى: اقْرَأْ كِتابَكَ، كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء ١٧/ ١٤] والآية إضراب عن الإخبار بأعمال الإنسان إلى مرتبة أوضح وأعرف.
وقال ابن عباس وغيره: إن المراد سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه.
والمعاذير في رأي الواحدي والزمخشري: اسم جمع للمعذرة، كالمناكير للمنكر، ولو كان جمعا لقيل: معاذر، بغير ياء. والمراد بقوله: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
: ولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه، وقيل: ولو جادل عنها، فهو بصير عليها، وقيل: معاذيره: حجته، وهذا قول مجاهد، قال ابن كثير:
والصحيح قول مجاهد وأصحابه، كقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام ٦/ ٢٣] وكقوله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ [المجادلة ٥٨/ ١٨].
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
١- أقسم الله سبحانه بيوم القيامة تعظيما لشأنه، كما أنه أقسم أيضا بنفس
257
المؤمن الطامحة دائما إلى زيادة الخير والطاعة، والإقلال من الشر والمعصية تنويها بشأنها وإخلاصها. والمناسبة بين القيامة وبين النفس اللوامة: أن المقصود من إقامة القيامة إظهار أحوال النفس اللوامة، من السعادة والشقاوة. والقسم بهذه الأشياء عند المحققين قسم بربها وخالقها في الحقيقة، فكأنه قيل: أقسم برب القيامة على وقوع يوم القيامة.
٢- المقسم عليه هو وقوع البعث حتما لا شك فيه، قال الزجاج: أقسم الله بيوم القيامة وبالنفس اللوامة، ليجمعن العظام للبعث. وأكد الله تعالى قسمه بأنه القادر على أن يعيد السّلاميات على صغرها، ويؤلف بينها حتى تستوي «١».
٣- إن شأن الكافر المكذب بما أمامه من البعث والحساب أن يرتكب أعظم الآثام، ويقتحم المعاصي دون حسبان للنتائج والمخاطر، ودون تقدير، لعواقب الأمور والتبعة (المسؤولية) الناجمة عنها.
٤- تتبدل معالم الكون يوم القيامة، وتظهر علامات دالة عليه، منها حيرة البصر ودهشته من الأهوال، وذهاب ضوء القمر دون عودة، وذهاب ضوء الشمس والقمر معا، أي جمع الله، بينهما في ذهاب ضوئهما، فلا ضوء للشمس، كما لا ضوء للقمر بعد خسوفه.
٥- إذا ظهرت علائم القيامة حار الإنسان، وقال: أين المهرب؟ أين المفر؟ ويحتمل ذلك وجهين: أحدهما- أين المفر من الله استحياء منه؟ والثاني- أين المفر من جهنم حذرا منها؟
٦- لا مفر من الله، ولا ملجأ من النار، ولا حصن من العذاب، وإنما
(١) قال تعالى في آخر السورة: فَخَلَقَ فَسَوَّى أي أوجد منه بشرا مركبا من أشياء مختلفة، فسواه شخصا مستقلا.
258
المرجع والمصير والمنتهى إلى حكم الله، وصيرورة كل إنسان إما إلى الجنة وإما إلى النار.
٧- يخبر ابن آدم يوم القيامة عند وزن الأعمال، برّا كان أو فاجرا، بما أسلف من عمل سيئ أو صالح أو أخر من سنة سيئة أو صالحة يعمل بها بعده، أو بأول عمله وآخره، أو بما قدم من المعصية، وأخّر من الطاعة. إن هذا الإنباء يكون في القيامة عند وزن الأعمال، لا عند الموت
لما أخرجه ابن ماجه في سننه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علما علّمه ونشره، وولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورّثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته».
وأخرجه أبو نعيم الحافظ عن أنس بن مالك بلفظ: «سبع يجري أجرهنّ للعبد بعد موته وهو في قبره: من علّم علما، أو أجرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا، أو ورّث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته».
وفي الصحيح عند مسلم: «من سنّ في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء».
٨- الإنسان خير شاهد على نفسه، فهو حجة بيّنة على أعماله، حتى ولو أنكر واعتذر، فقال: لم أفعل شيئا، فإن عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه، فلو اعتذر وجادل عن نفسه، فعليه شاهد يكذّب عذره.
259
٩- استنبط القاضي ابن العربي من قوله تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ..
ست مسائل وهي بإيجاز «١» :
الأولى- فيها دليل على قبول إقرار المرء على نفسه لأنها بشهادة منه عليه، قال الله سبحانه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النور ٢٤/ ٢٤].
الثانية- لا يصح الإقرار إلا من مكلف (بالغ عاقل) لكن بشرط ألا يكون محجورا عليه لأن الحجر يسقط قوله إذا كان لحق نفسه، فإن كان لحق غيره كالمريض، كان منه ساقط، ومنه جائز، كما هو مقرر في الفقه.
الثالثة- قوله تعالى: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
معناه: ولو اعتذر لم يقبل منه، وقد اختلف العلماء في جواز الرجوع عن الإقرار في الحدود الخالصة لله تعالى: فقال أئمة المذاهب الأربعة على المشهور عند المالكية: يقبل رجوعه بعد الإقرار، ويسقط الحد، وهو الصحيح عملا
بما رواه الأئمة، منهم البخاري ومسلم: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ردّ المقرّ بالزنى مرارا أربعا، كل مرة يعرض عنه، ولما شهد على نفسه أربع مرات، دعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: أبك جنون؟ قال: لا، قال:
أحصنت؟ قال: نعم. وقال لأصحابه- فيما رواه أبو داود وغيره- حينما هرب- أي ماعز- فاتبعوه: «هلا تركتموه، لعله أن يتوب، فيتوب الله عليه».
وروي عن مالك أنه قال: لا يعذر المقر إلا إذا رجع لشبهة، عملا
بحديث: «لا عذر لمن أقرّ» «٢».
الرابعة- قال ثعلب: معنى قوله تعالى: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
أنه إذا اعتذر يوم القيامة وأنكر الشرك، لا ينفع الظالمين معذرتهم، ويختم على فمه،
(١) أحكام القرآن: ٤/ ١٨٧٨- ١٨٨٢
(٢) بداية المجتهد: ٢/ ٤٣٠، الدردير والدسوقي: ٤/ ٣١٨ [.....]
260
فتشهد عليه جوارحه، ويقال له: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء ١٧/ ١٤].
الخامسة- الآية في الحر المالك لأمر نفسه. أما العبد: فإن أقر بموجب عقوبة من القتل فما دونه، نفذ عليه. وقال محمد بن الحسن: لا يقبل ذلك منه لأن بدنه مستغرق لحق السيد، وفي إقراره إتلاف حقوق السيد في بدنه، ودليل الرأي الأول
قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبادة بن الصامت: «من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإن من يبد لنا صفحته، نقم عليه الحدّ».
السادسة- قيل: إن معنى قوله تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
أي عليه من يبصر أعماله، ويحصيها، وهم الكرام الكاتبون. والراجح ما ذكر من المعنى المتقدم.
حرص النبي صلّى الله عليه وسلّم على حفظ القرآن وحال الناس في الآخرة
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ١٦ الى ٢٥]
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠)
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥)
الإعراب:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ قال ابن الأنباري رحمه الله تعالى: في هذه الآية دليل على إثبات الرؤية لأن النظر إذا قرن بالوجه، وعدّي بحرف الجر، دل على أنه بمعنى النظر بالبصر، فيقال: نظرت الرجل: إذا انتظرته، ونظرت إليه: إذا أبصرته.
وكلمة وُجُوهٌ مبتدأ، وابتدأ بالنكرة لأنها تخصصت بقوله يَوْمَئِذٍ وناضِرَةٌ خبر وُجُوهٌ.
261
البلاغة:
بَنانَهُ بَيانَهُ جناس ناقص لاختلاف بعض الحروف.
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ.. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ.. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ.. مقابلة بين نضارة وجوه المؤمنين، وكلاحة وجوه المجرمين.
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مجاز مرسل في رأي الزمخشري، من إطلاق الجزء وإرادة الكل، فقال:
الوجه عبارة عن الجملة، قال البيضاوي: وتفسيره بالجملة خلاف الظاهر، وإن المستعمل بمعناه لا يعدّى بإلى لذا قال النيسابوري في غرائب القرآن: ٢٨/ ١١٠: الأولى أن يراد بالوجوه: العيون، فيكون من إطلاق الكل على الجزء، لا عكسه.
المفردات اللغوية:
لا تُحَرِّكْ بِهِ
لا تحرك يا محمد بالقرآن لسانك قبل فراغ جبريل منه، أي قبل أن يتم وحيه. لِتَعْجَلَ بِهِ
لتأخذه على عجل، مخافة أن يتفلت أو يضيع منك. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
في صدرك. وَقُرْآنَهُ
وإثبات قراءته في لسانك. فَإِذا قَرَأْناهُ
بلسان جبريل عليك.
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
استمع قراءته، فكان صلّى الله عليه وسلّم يستمع ثم يقرؤه، ويكرر قراءته حتى يرسخ في ذهنه.
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ تفسير ما أشكل فيه من المعاني، وبيان ما فيه من الحلال والحرام. وهو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب.
كَلَّا ردع للإنسان عن الاغترار بالدنيا العاجلة. الْعاجِلَةَ دار الدنيا وما فيها.
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ تتركون العمل والاستعداد لها، وهو إشعار بأن بني آدم مطبوعون على الاستعجال. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ يوم القيامة. ناضِرَةٌ حسنة مضيئة، متهللة بشرا بما تراه من النعيم. ناظِرَةٌ رائية عيانا تنظر إلى ربها بلا حجاب. وقال مجاهد: تنتظر الثواب من ربها. باسِرَةٌ شديدة العبوس، كالحة متغيرة مسودّة. تَظُنُّ توقن وتتوقع. فاقِرَةٌ داهية عظيمة تكسر فقار الظهر.
سبب النزول: نزول الآية (١٦) :
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ..
أخرج البخاري ومسلم وأحمد عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أنزل الوحي، يحرّك به لسانه، يريد أن يحفظه، فأنزل الله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
الآية.
262
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أن منكر القيامة والبعث معرض عن آيات الله تعالى ومعجزاته، وأنه قاصر شهواته على الفجور، غير مكترث بما يصدر منه، ذكر حال من يثابر على تعلّم آيات الله وحفظها وتلقفها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها، رجاء قبوله إياها، ليظهر بذلك تباين حال من يرغب في تحصيل آيات الله، ومن يرغب عنها، فتلك الآيات تضمنت حال الإعراض عن آيات الله، وهذه تضمنت المبادرة إليها بحفظها، وبضدها تتميز الأشياء «١».
ثم ذكر تعالى سبب إنكار البعث وهو حب الإنسان الدنيا العاجلة، وترك الآخرة، ووبخ أهله، ثم أوضح تعالى انقسام الناس في الآخرة إلى فريقين:
فريق المؤمنين المستمتعين بالنعيم وبرؤية الله عز وجل، وفريق المشركين الذين يترقبون نزول الدواهي العظام من العذاب بهم.
التفسير والبيان:
علّم الله عز وجل رسوله صلّى الله عليه وسلّم كيفية تلقي الوحي من الملك جبريل، فقال: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حرصا منه على القرآن الموحى به إليه، يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك في قراءته، ويحرك شفتيه ولسانه بالقرآن إذا أنزل عليه، قبل فراغ جبريل من قراءة الوحي، حرصا على أن يحفظه صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية.
أي لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي، لتأخذه على عجل، مخافة أن يتفلت منك كما قال تعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، وَقُلْ: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه ٢٠/ ١١٤].
(١) البحر المحيط: ٨/ ٣٨٨
263
إن علينا جمعه في صدرك حتى لا يذهب عليك منه شيء، وعلينا إثبات قراءته في لسانك على الوجه القويم.
فإذا أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل، فاستمع له وأنصت، ثم اقرأه كما أقرأك، وكرره حتى يرسخ في ذهنك.
ثم إننا بعد حفظه وتلاوته نفسر لك ما فيه من الحلال والحرام، ونبين ونوضح لك ما أشكل منه، ونلهمك معناه كما أردنا وشرعنا.
وهكذا اشتملت الآيات الأربع على أحوال ثلاث: هي جمعه في صدره، وحفظه، في الآية الأولى والثانية، وتلاوته وتيسير أدائه كما أنزل، في الآية الثالثة، وتفسيره وبيانه وإيضاح معناه في الآية الرابعة.
ثم انتقل البيان إلى حال الإنسان السابق المنكر البعث، فوبخه وقرعه على إنكاره البعث، فقال تعالى مبينا سبب الإنكار:
كَلَّا، بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ أي أردعكم عما تقولون أيها المشركون من إنكار البعث، فإنه يحملكم على التكذيب بيوم القيامة، ومخالفة ما أنزله الله عز وجل على رسوله صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الحق والقرآن العظيم، محبتكم واهتمامكم بدار الدنيا العاجلة، وتشاغلكم عن الآخرة وترككم العمل لها. ولفظ كَلَّا عند سائر المفسرين: معناه حقا، أي حقا تحبون العاجلة وتذرون الآخرة، والمعنى أنهم يحبون الدنيا ويعملون لها، ويتركون الآخرة ويعرضون عنها.
وقال الزمخشري: كلا: ردع لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن عادة العجلة، وإنكار لها عليه، وحث على الأناة والتؤدة، وقد بالغ في ذلك بإتباعه قوله: بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ كأنه قال: بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عجل، وطبعتم عليه،
264
تعجلون في كل شيء، ومن ثم تحبون العاجلة، وتذرون الآخرة «١».
ثم أبان الله تعالى حال المؤمنين وحال الكافرين في الآخرة، فقال:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ أي وجوه المؤمنين في الجنة حسنة بهية مشرقة مسرورة، ترى ربها عيانا، ووجوه الفجار في النار عابسة كالحة كئيبة، توقن أن سينزل بها داهية عظيمة تكسر فقار الظهر. قال الأزهري عن مجاهد الذي فسر النظر بالانتظار:
قد أخطأ مجاهد لأنه لا يقال: نظر إلى كذا بمعنى انتظر، فإن قول القائل:
نظرت إلى فلان، ليس إلا رؤية عين، فإذا أرادوا الانتظار، قالوا: نظرته، وأشعار العرب وكلماتهم في هذا كثيرة جدا.
قال الزمخشري في قوله تعالى: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ: تنظر إلى ربها خاصة، لا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم المفعول، فإنه يدل على معنى الاختصاص، ثم رجح أن الآية تفيد معنى التوقع والرجاء «٢».
وهذا منه بسبب كونه من المعتزلة الذين يقولون: لا يدل ظاهر الآية على رؤية الله تعالى لأن النظر المقرون بحرف (إلى) ليس اسما للرؤية، بل لمقدمة الرؤية، وهي تقليب الحدقة نحو المرئي، التماسا لرؤيته، فيكون نظر العين مقدمة للرؤية، وتأولوا قوله تعالى: ناظِرَةٌ بمعنى أن أولئك الأقوام ينتظرون ثواب الله.
وأجاب الرازي بأننا نسلم أن النظر عبارة عن تقليب الحدقة.. إلخ لكنا نقول: لما تعذر حمله على حقيقته، وجب حمله على مسببه وهو الرؤية، إطلاقا لاسم السبب على المسبب، وحمله على الرؤية أولى من حمله على الانتظار لأن
(١) الكشاف: ٣/ ٢٩٣- ٢٩٤
(٢) المرجع السابق: ص ٢٩٤
265
تقليب الحدقة كالسبب للرؤية، ولا تعلق بينه وبين الانتظار، فكان حمله على الرؤية أولى من حمله على الانتظار.
ثم أجاب عن قولهم: النظر جاء بمعنى الانتظار بأن هذا كثير في القرآن، ولكنه لم يقرن البتة بحرف (إلى) كقوله تعالى: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد ٥٧/ ١٣] وقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الأعراف ٧/ ٥٣] وقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ [البقرة ٢/ ٢١٠]. وإذا فرضنا أن النظر المعدّى بحرف (إلى) جاء في اللغة بمعنى الانتظار، لكن لا يمكن حمل هذه الآية عليه لأن لذة الانتظار مع يقين الوقوع، كانت حاصلة في الدنيا، فلا بد وأن يحصل في الآخرة شيء أزيد منه، حتى يحسن ذكره، في معرض الترغيب في الآخرة «١». وقال النيسابوري: وحاصل كلامهم أن النظر إن كان بمعنى الرؤية فهو المطلوب، وإن كان بمعنى تقليب الحدقة نحو المرئي، فهذا في حقه تعالى محال لأنه منزه عن الجهة والمكان، فوجب حمله على مسببه وهو الرؤية، وهذا مجاز مشهور «٢».
وأيدت الأحاديث المتواترة ما فهمه الجمهور من دلالة الآية على رؤية الله تعالى، فقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها كما قال ابن كثير، ثم أورد الأحاديث وقال: وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام، وهداة الأنام «٣».
وكذلك قال الشوكاني في تفسيره العظيم (فتح القدير) بعد أن فسر آية إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ بقوله: أي إلى خالقها، ومالك أمرها، ناظرة، أي تنظر
(١) التفسير الكبير للرازي: ٣٠/ ٢٢٦- ٢٢٩
(٢) غرائب القرآن: ٢٨/ ١١١
(٣) تفسير ابن كثير: ٤/ ٤٥٠
266
إليه: هكذا تواترت الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون ربهم يوم القيامة، كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر.
روى البخاري في صحيحة: «إنكم سترون ربكم عيانا»
وأخرج الشيخان في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة: «أن ناسا قالوا:
يا رسول الله، هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارّون في رؤية الشمس والقمر، ليس دونهما سحاب؟ قالوا: لا، قال: إنكم ترون ربكم كذلك»
.
وفي الصحيحين أيضا عن جرير قال: نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى القمر ليلة البدر، فقال: «إنكم ترون ربكم، كما ترون هذا القمر، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها، فافعلوا».
وفي الصحيحين أيضا عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «جنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه، في جنة عدن».
وأخرج مسلم عن صهيب عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة قال: يقول الله تعالى: تريدون شيئا أزيدكم فيقولون: ألم تبيّض وجوهنا! ألم تدخلنا الجنة، وتنجّنا من النار! قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحبّ إليهم من النظر إلى ربّهم، وهي الزيادة» ثم تلا هذه الآية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ الآية [يونس ١٠/ ٢٦].
وقال الألوسي: والذي يقطع الشغب ويدق في فروة من أخس الطلب:
ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي والدارقطني وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى
267
وجهه غدوة وعشية» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ
فهو تفسير منه عليه الصلاة والسلام، ومن المعلوم أنه أعلم الأولين والآخرين، لا سيما بما أنزل عليه من كلام رب العالمين «١».
ونظير الآية قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس ٨٠/ ٣٨- ٤٢].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- تكفل الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أمور لحفظ القرآن إلى الأبد: وهي جمعه في صدره عليه الصلاة والسلام، وتلاوته، وتفسيره لبيان ما فيه من الحدود والحلال والحرام، والوعد والوعيد، والمشكلات.
٢- إن التعجل مذموم مطلقا، ولو في أمور الدين.
٣- إن سبب إنكار المشركين البعث والحساب والجزاء هو إيثار الدار الدنيا والحياة العاجلة فيها، وترك الاستعداد للآخرة والعمل لها، فعلى المؤمن أن يفر من غير الله إلى الله، ولا يستعين في كل أموره إلا به، على نقيض الكافر الذي كان يفر من الله إلى غيره حين قال: (أين المفر؟).
٤- ثبوت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الآخرة، وحرمان الفجار منها، كان ابن عمر يقول: أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم تلا هذه الآية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. وقد تقدم في
(١) تفسير الألوسي: ٢٩/ ١٤٤
268
حديث مسلم عن صهيب أن رؤية الله عز وجل هي الزيادة في قوله تعالى:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس ١٠/ ٢٦].
٥- تكون وجوه الكفار الفجار يوم القيامة كالحة كاسفة عابسة، مستيقنة أنه سيحل بها عذاب شديد، وداهية عظيمة.
تفريط الكافر في الدنيا وإثبات البعث
[سورة القيامة (٧٥) : الآيات ٢٦ الى ٤٠]
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠)
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠)
الإعراب:
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى أي لم يصدق ولم يصل، كقوله تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد ٩٠/ ١١] أي لم يقتحم.
يَتَمَطَّى أصله يتمطط، أي يتبختر، من المطيطاء (اسم مشية بني مخزوم في الجاهلية ومنهم أبو جهل) فأبدل من الطاء الآخرة ياء، مثل تظنيت وأصله: تظننت، وأمليت وأصله:
أمللت، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أَوْلى مبتدأ، ولَكَ خبره، وحذف خبر أَوْلى الثاني، اجتزاء بخبر الأول عنها وأولى: ممنوع من الصرف للتعريف ووزن الفعل لأنه على وزن أفعل.
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَنْ يُتْرَكَ سد مسد مفعولي. يَحْسَبُ وسُدىً حال من ضمير يُتْرَكَ. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ: الذَّكَرَ وَالْأُنْثى الذَّكَرَ وَالْأُنْثى منصوبان على البدل من الزَّوْجَيْنِ.
269
عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى لا يجوز إدغام إحدى الياءين في الأخرى لأن الحركة في الثانية حركة إعراب.
البلاغة:
بَلَغَتِ التَّراقِيَ كناية عن الإشفاء على الموت.
صَدَّقَ وكَذَّبَ بينهما طباق.
السَّاقُ والْمَساقُ بينهما جناس ناقص. وقوله: الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ كناية عن الشدة.
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً استفهام إنكاري بقصد التوبيخ والتقريع.
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى التفات من الغيبة إلى المخاطب، تقبيحا له وتهجينا.
المفردات اللغوية:
التَّراقِيَ جمع ترقوة، وهي العظام الممتدة من الحلق إلى العاتق من اليمين والشمال، والمراد بلوغ الروح أعالي الصدر. وَقِيلَ
قال من حوله. مَنْ راقٍ
من يرقيه وينجيه ليشفى، كما يرقى المريض، والمراد: هل من طبيب يشفي حينئذ. الْفِراقُ فراق الدنيا، أي وظن المحتضر أن الذي نزل به فراق الدنيا وأحبائها وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي التوت إحدى ساقيه بالأخرى عند الموت، فلا يقدر تحريكها. الْمَساقُ السوق إلى الله تعالى وحكمه، والمعنى: إذا بلغت الروح الحلقوم، تساق إلى حكم ربها. فَلا صَدَّقَ الإنسان. وَلا صَلَّى أي لم يصدق بما يجب تصديقه، أو لم يصدّق ماله، بأن لم يؤد زكاته، ولم يؤد صلاته المفروضة. وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى كذب بالقرآن وتولى عن الطاعة. يَتَمَطَّى يتبختر في مشيته إعجابا وافتخارا.
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أي ويل لك، من الولي، فهو دعاء وأصله: أولاك الله ما تكرهه أو أولى لك الهلاك، واللام مزيدة كما في رَدِفَ لَكُمْ أو للتبيين. وقوله: فَأَوْلى أي فهو أولى بك من غيرك. ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى تأكيد، أي أنت أولى بتكرر ذلك عليك مرة بعد أخرى، وتكون الجملة الأولى دعاء عليه بقرب المكروه، والثانية دعاء عليه بأن يكون أقرب إلى المكروه من غيره.
أَيَحْسَبُ يظن. سُدىً مهملا لا يكلف بالشرائع ولا يجازى ولا يحاسب، وهو
270
يتضمن تكرار إنكاره للحشر لأن جزاء التكليف قد لا يكون إلا في الآخرة، وهذا دليل على إثبات البعث لأنه لا بد من الجزاء على الأعمال، حتى لا يتساوى الطائع مع العاصي.
نُطْفَةً ماء قليلا، وتجمع على نطف ونطاف. يُمْنى يصب في الرحم، وقرئ:
«تمنى». ثُمَّ كانَ المني. عَلَقَةً قطعة دم جامد. فَخَلَقَ أي أوجد الله تعالى منه بشرا مركبا من أشياء مختلفة. فَسَوَّى أي فسوّاه شخصا مستقلا، بأن قدّره وعدّله وعدل أعضاءه.
فَجَعَلَ مِنْهُ من المني الذي صار علقة (قطعة دم) ثم مضغة (قطعة لحم). الزَّوْجَيْنِ الصنفين أو النوعين من البشر. الذَّكَرَ وَالْأُنْثى بأن يرزق النوعان تارة، أو ينفرد أحدهما عن الآخر تارة، وهو استدلال آخر بالإبداء على الإعادة والبعث. أَلَيْسَ ذلِكَ الفعال لهذه الأشياء. بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى قال صلّى الله عليه وسلّم: بلى.
سبب النزول: نزول الآية (٣٤، ٣٥) :
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى..: أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر ٧٤/ ٣٠] قال أبو جهل لقريش:
ثكلتكم أمهاتكم، يخبركم ابن أبي كبشة أن خزنة جهنم تسعة عشر، وأنتم الدّهم (العدد) والشجعان، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم، فأوحى الله تعالى إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يأتي أبا جهل، فيقول له: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى.
وأخرج النسائي عن سعيد بن جبير أنه سأل ابن عباس عن قوله: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أشيء قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قبل نفسه، أم أمره الله به؟ قال:
بل قاله من قبل نفسه، ثم أنزله الله.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى تعظيم أحوال الآخرة وهي القيامة العظمى، ووصف ما فيها من أهوال، وما عليه حال السعداء وحال الأشقياء، بيّن أن الدنيا لا بد
271
لها من نهاية ووصول إلى تجرع مرارة الموت وهو القيامة الصغرى لأن الموت أول منزلة من منازل الآخرة، فإذا لم يؤمن الكافر بأمر القيامة، لا يمكنه أن يتخلص من الموت، وتجرع آلامه، وتحمل آفاته.
ثم استدل الله تعالى لإثبات البعث بأمرين:
الأول- أن العدل يقضي بأنه لا بد من الجزاء على الأعمال، حتى لا يتساوى الطائع والعاصي، وذلك لا يكون إلا في الآخرة.
الثاني- أنه تعالى كما قدر على بدء الخلق، فهو قادر على الإعادة والبعث، بل إن الإعادة أهون في تقدير البشر.
التفسير والبيان:
كَلَّا، إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ، وَقِيلَ: مَنْ راقٍ، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ كَلَّا إذا كانت رادعة، فالمعنى: لست يا ابن آدم هناك تكذب بما أخبرت به، بل صار ذلك عندك عيانا، وإذا كانت بمعنى حقا، فالمراد: حقا إذا انتزعت روحك من جسدك وبلغت تراقيك، والتراقي: جمع ترقوة، وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق. والضمير في بَلَغَتِ للنفس لدلالة قرينة الحال أو المقال، كما في قوله تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الواقعة ٥٦/ ٨٣].
والظاهر المعنى الأول، قال الزجاج: كَلَّا ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة، كأنه قيل: لما عرفتم صفة سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء في الآخرة، وعرفتم أنه لا نسبة لها إلى الدنيا فارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة، وتنبهوا لما بين أيديكم من الموت الذي به تنتهي العاجلة، وتنتقلون إلى الآجلة دار الخلود.
وعلى هذا يكون المعنى العام: ارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة،
272
وتنبهوا إذا بلغت الروح أو النفس أعالي الصدر، كناية عن الاحتضار وأهواله والموت وقال من حضر المحتضر: هل من يرقيه ويشفيه، وهل من طبيب شاف؟ ولكن لن يغنوا عنه من قضاء الله شيئا وأيقن الذي بلغت روحه التراقي أنها ساعة الفراق من الدنيا ومن الأهل والمال والولد.
وعبر عن اليقين بالظن لأن الروح ما دامت في البدن، يطمع صاحبها في الحياة، فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة، كما ذكر الرازي.
والآية دالة على أن الروح جوهر قائم بنفسه، باق بعد موت البدن لأنه تعالى سمى الموت فراقا، وهو يدل على أن الروح باقية فإن الفرق والوصال صفة، والصفة تستدعي وجود الموصوف «١».
وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي التوت ساقه على ساقه عند نزول الموت به، فلا يقدر على تحريكها، فماتت رجلاه، ويبست ساقاه ولم تحملاه، وقد كان جوّالا عليهما، واجتمع عليه أمران: الناس يجهّزون جسده، والملائكة يجهزون روحه.
ويصح أن يكون ذلك كناية عن الشدة، كما في قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [القلم ٦٨/ ٤٢] والمراد: اتصلت شدة فراق الدنيا، وترك الأهل والولد والجاه وشماتة الأعداء وحزن الأولياء وغير ذلك، بشدة الإقبال على أحوال الآخرة وأهوالها.
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أي تساق الأرواح بعد قبضها من الأجساد إلى خالقها، ويكون المرجع والمآب إلى حكم ربك، فتصير إما إلى جنة وإما إلى نار.
(١) تفسير الرازي: ٣٠/ ٢٣١
273
فقوله: إِلى رَبِّكَ أي إلى حكمه خاصة. والْمَساقُ السوق، فحكمه هو المسوق إليه. وقيل: السوق إلى الله لا إلى غيره، فهو السائق يسوقه إلى الجنة أو إلى النار.
ثم أوضح الله تعالى كيفية عمل هذا المحتضر فيما يتعلق بأصول الدين وبفروعه وبالدنيا، فقال:
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أي لم يصدق بالرسالة النبوية ولا بالقرآن، ولا صلى لربه الصلاة المطلوبة منه فرضا، بل كذب بالرسول وبما جاء به، وتولى عن الطاعة والإيمان، وزاد على ذلك أنه ذهب إلى أهله جذلان أشرا بطرا، يتبختر ويختال في مشيته افتخارا بذلك، كسلانا لا همة له ولا عمل، كما قال تعالى: وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ، انْقَلَبُوا فَكِهِينَ [المطففين ٨٣/ ٣١].
لقد جمع بين ترك العقيدة أو أصول الدين في أنه ما صدق بالدين، ولكن كذب به، وبين إهمال فروع الدين في أنه ما صلى ولكنه تولى وأعرض، وبين الإساءة لطبيعة الدنيا وسلوكها في أنه ذهب إلى أهله يتمطى، ويتبختر، ويختال في مشيته.
والآية دالة على أن الكافر يستحق الذم والعقاب بترك الصلاة، كما يستحقهما بترك الإيمان.
ثم هدد الله تعالى هذا الكافر وتوعده ودعا عليه بقوله:
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أي وليك الويل، ويتكرر عليك هذا الدعاء، والمعنى: ويل لك وأهلكك الله، وليتكرر هذا الدعاء عليك مرة بعد أخرى، فأنت الجدير بهذا.
وهذا تهديد ووعيد أكيد من الله تعالى للكافر به، المتبختر في مشيه، يقصد
274
به أنه يحق لك أن تمشي هكذا، وقد كفرت بخالقك وبارئك، كما يقال في مثل هذا على سبيل التهكم والتهديد، وهو كقوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان ٤٤/ ٤٩] وقوله سبحانه: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا، إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات ٧٧/ ٤٦] وقوله عز وجل: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [الزمر ٣٩/ ١٥] وقوله عز من قائل: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت ٤١/ ٤٠].
قال قتادة والكلبي ومقاتل: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيد أبي جهل، ثم قال:
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى
توعده، فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني؟ لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا، وإني لأعزّ أهل هذا الوادي، ثم انسلّ ذاهبا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، كما قال له الرسول عليه الصلاة والسلام. ولما كان يوم بدر أشرف على القوم فقال: لا يعبد الله بعد هذا اليوم، فقتل إذ ذاك شرّ قتلة.
ثم أقام الله تعالى دليلين على صحة البعث لتأكيد ما جاء في أول السورة:
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ:
الأول- أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي أيظن أن يترك الإنسان في الدنيا مهملا، لا يؤمر ولا ينهى، ولا يكلف، ولا يحاسب ولا يعاقب بعمله في الآخرة؟ وهذا خلاف مقتضى العدل والحكمة، فلا بد من الجزاء حتى لا يتساوى المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، واقتضت الحكمة الإلهية تأجيل الجزاء إلى عالم الآخرة، وترك تعجيله، ليتسنى وجود الفرصة المواتية الكافية في أثناء العمر والحياة للإيمان والصلاح، كما قال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه ٢٠/ ١٥]. وقال سبحانه: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص ٣٨/ ٢٨].
275
ونظير الآية: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً، وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون ٢٣/ ١١٥].
الثاني- أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى أي أما كان ذلك الإنسان قطرة أو نطفة ضعيفة من مني يراق في الرحم، ثم صار بعد ذلك علقة، أي قطعة دم، ثم مضغة أي قطعة لحم، ثم شكّل ونفخ فيه الروح، فصار خلقا آخر سويا سليم الأعضاء، ذكرا أو أنثى بإذن الله وتقديره؟ أليس ذلك الذي أنشأ هذا الخلق البديع وقدر عليه بقادر على أن يعيد خلق الأجسام من جديد بالبعث، كما كانت عليه في الدنيا؟ بلى، فإن الإعادة أهون من الابتداء.
وقوله: فَخَلَقَ أي فقدّر بأن جعلها مضغة مخلّقة، وقوله فَسَوَّى أي فعدّل أركانه وكمل نشأته ونفخ فيه الروح، وجعل من المني بعد تخليقه صنفي الإنسان: الرجل والمرأة.
وهذا استدلال بالخلق الأول على الإعادة، فإن الخالق الأول هو الخالق الآخر، والأمران سواء عليه.
روى ابن أبي حاتم وغيره أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه الآية قال:
«سبحانك اللهم وبلى».
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن مردويه، والحاكم وصححه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ منكم: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين ٩٥/ ١] وانتهى إلى آخرها: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ [التين ٩٥/ ٨] فليقل: بلى، وأنا على ذلكم من الشاهدين، ومن قرأ: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [القيامة ٧٥/ ١] فانتهى إلى قوله: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [القيامة ٧٥/ ٤٠] فليقل: بلى، ومن قرأ المرسلات، فبلغ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟ [المرسلات ٧٧/ ٥٠] فليقل: آمنا بالله».
276
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- ذكّر الله تعالى الناس قاطبة بشدة الحال وصعوبة الأمر عند نزول الموت، فعند الاحتضار يجتمع على الإنسان أمران: الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه، ويجتمع عليه أيضا شيئان محزنان: فراق الدنيا والأهل والولد حين معاينة الملائكة، واتصال شدة الدنيا بشدة أول الآخرة، فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحمه الله، أي شدة كرب الموت بشدة هول المطلع على الآخرة.
٢- يكون الشّوق في يوم القيامة إلى الخالق، ويكون المرجع والمآب إلى حكم الله، إما إلى الجنة وإما إلى النار.
٣- يكون الكافر أولى وأجدر بالعذاب والهلاك لفساد العقيدة والعمل والخلق، فلم يصدّق بالرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم ولا بالقرآن ولم يصلّ الصلاة المفروضة التي أمره الله بها، وتجرد عن إنسانيته بالتكبر والتبختر، افتخارا بالمال والولد، واعتزازا بالقوة الجسدية أو الجاه، لذا جاء التهديد بعد التهديد، والوعيد بعد الوعيد في قوله تعالى: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى فهو وعيد أربعة لأربعة، أي وعيد بأربعة أنواع من العذاب لأربعة أنواع من الأمور: ترك الإيمان والصلاة وتكذيب الله تعالى والرسول صلّى الله عليه وسلّم والقرآن، والتبختر.
٤- أعاد الله تعالى في آخر السورة ما ذكر في أولها بقوله: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ وقد ذكر هذا لإثبات الحشر والبعث والقيامة بدليلين:
الأول- لا بد في الحياة من التكليف لتنظيم الحياة وتهذيب الأنفس ودرء
277
المفاسد، والتكليف لا يحسن، ولا يليق بالكريم الرحيم إلا إذا كان هناك دار الثواب والبعث والقيامة.
الثاني- الاستدلال بالخلقة الأولى على الإعادة، فمن قدر على بدء الخلق وإيجاد الإنسان، فهو أقدر على إعادته إلى الحياة مرة أخرى.
278

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الإنسان، أو: الدّهر
مدنيّة وهي إحدى وثلاثون آية.
تسميتها:
سميت سورة الإنسان لافتتاحها بالتنويه بخلق الإنسان وإيجاده، بعد أن لم يكن شيئا موجودا، ثم صار خليفة في الأرض، وخلق له جميع ما في الأرض من خيرات ومعادن وكنوز.
مناسبتها لما قبلها:
تتعلق السورة بما قبلها من وجوه ثلاثة:
١- ذكر الله تعالى في آخر السورة السابقة مبدأ خلق الإنسان من نطفة، ثم جعل منه الصنفين: الرجل والمرأة، ثم ذكر في مطلع هذه السورة خلق آدم أبي البشر، وجعله سميعا بصيرا، ثم هدايته السبيل، وما ترتب عليه من انقسام البشر إلى نوعين: شاكر وكفور.
٢- أجمل في السورة المتقدمة وصف حال الجنة والنار، ثم فصل أوصافهما في هذه السورة، وأطنب في وصف الجنة.
٣- ذكر سبحانه في السورة السابقة الأهوال التي يلقاها الفجار في يوم القيامة، وذكر في هذه السورة ما يلقاه الأبرار من النعيم.
279
ما اشتملت عليه السورة:
بالرغم من كون هذه السورة مدنية في قول الجمهور، فإنها عنيت بالحديث عن أحوال الآخرة، ولا سيما تنعم الأبرار في دار الخلد والنعيم، أما من قال بأنها مكية فرأيه متفق مع موضوعها.
وقد افتتحت بالكلام عن مبدأ خلق الإنسان، وتزويده بطاقات السمع والبصر، وهدايته السبيل، ثم انقسامه إلى فئتين: شاكر وكفور، والإخبار عن جزاء الشاكرين والجاحدين ووصف الجنة والنار: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ...
[الآيات: ١- ٦].
ثم أشادت بأعمال الشاكرين من الوفاء بالنذر، وإطعام الطعام لوجه الله، والخوف من عذاب الله: إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ.. [الآيات: ٧- ١١].
وأردفت ذلك بوصف ما لهم عند ربهم من الجنان والثواب والفضل والإكرام:
وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً [الآيات: ١٢- ٢٢].
ثم أبانت مصدر تنزيل القرآن، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالصبر الجميل، وذكر الله، وقيام الليل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا.. [الآيات: ٢٣- ٢٦].
ونوّهت بشيء تضمنته السورة السابقة وهو حب الدنيا العاجلة وترك الآخرة، وتهديدهم بتبديل أمثالهم إن داموا على الكفر والعناد وإمعان الأذى:
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ.. [الآيات: ٢٧- ٢٨].
وختمت السورة الكريمة بإعلان أن القرآن تذكرة وعظة لجميع البشر وندبهم إلى الإيمان والعمل بما جاء فيه: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ.. [الآيات: ٢٩- ٣١].
280
Icon