تفسير سورة سورة العلق من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
.
لمؤلفه
الشربيني
.
المتوفي سنة 977 هـ
مكية، وهي عشرون آية، واثنتان وسبعون كلمة، ومائتان وسبعون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الذي له صفة الكمال المستحق للإلهية ﴿ الرحمن ﴾ الذي عم جوده سائر البرية ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أهل طاعته بألطافه السنية.
عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد : أنّ أوّل سورة نزلت من القرآن.
ﰡ
﴿ اقرأ باسم ربك ﴾ وأوّل ما نزل خمس آيات من أولها إلى قوله تعالى :﴿ ما لم يعلم ﴾ وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنها قالت :«أوّل ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة » ولمسلم «الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه، وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاءه الحق ». وفي رواية «حتى فجاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال له : اقرأ. قال : ما أنا بقارئ، قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال : اقرأ، . قلت : ما أنا بقارئ. قال : فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال : اقرأ. قلت : ما أنا بقارئ، . قال : فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال :﴿ اقرأ باسم ربك ﴾ حتى بلغ ﴿ ما لم يعلم ﴾ فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال : زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة : لقد خشيت على نفسي، فقالت له خديجة : كلا أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله تعالى أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة : يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني أكون فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو مخرجيّ هم ؟ فقال : نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي » زاد البخاري قال :«وفتر الوحي حتى حزن النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً حتى يتردّى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل عليه السلام فقال له : يا محمد إنك لرسول الله حقاً فيسكن لذلك جأشه، وتقرّ نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا مثل ذلك، فإذا وافى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له : مثل ذلك ». ففي الحديث دليل صحيح على أن سورة اقرأ أوّل ما نزل من القرآن، وفيه ردّ على من قال : إنّ المدثر أول ما نزل من القرآن، وعلى من قال : إنّ الفاتحة أوّل ما نزل ثم سورة القلم. وهذا الحديث من مراسيل الصحابة، ومرسل الصحابي حجة عند جميع العلماء إلا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني. وإنما ابتدئ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك فيأتيه بصريح النبوّة بغتة فلا تحملها القوى البشرية، فبدئ بأوائل علامة النبوّة توطئة للوحي.
تنبيه : محل﴿ باسم ربك ﴾ النصب على الحال، أي : اقرأ مفتتحاً باسم ربك أو مستعيناً به، قل : بسم الله ثم اقرأ. وقال أبو عبيدة : مجازه اقرأ اسم ربك، يعني : أنّ الباء زائدة، والمعنى : اذكر اسمه، أمر أن يبتدئ القراءة باسم الله تعالى تأديباً. وقيل : الباء بمعنى على، أي : أقرأ على اسم ربك كما في قوله تعالى :﴿ وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها ﴾ [ هود : ٤١ ] قاله الأخفش. فإن قيل : كيف قدم هذا الفعل على الجارّ وقدر مؤخراً في بسم الله الرحمن الرحيم، أي : على سبيل الأولوية كما في ﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ [ الفاتحة : ٤ ]ولأنه تعالى مقدم ذاتاً لأنه قديم واجب الوجود لذاته فيقدم ذكراً ؟ أجيب : بأن هذا في ابتداء القراءة وتعليمها لما مرّ أنها أول سورة نزلت، فكان الأمر بالقراءة أهم باعتبار هذا العارض، وإن كان ذكر الله تعالى أهم في نفسه. وذكرت أجوبة غير هذا في مقدّمتي على البسملة والحمدلة.
وقوله تعالى :﴿ الذي خلق ﴾ يجوز أن لا يقدّر له مفعول، ويراد أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه، وأن يقدّر له مفعول، ويراد خلق كل شيء، فيتناول كل مخلوق ؛ لأنه مطلق، فليس بعض المخلوقات أولى بتقديره من بعض.
وقوله تعالى :﴿ خلق الإنسان ﴾ أي : هذا الجنس الذي من شأنه الإنس بنفسه، وما رأى من أخلاقه وحسنه وما ألفه من أبناء جنسه تخصيص بالذكر من بين ما يتناوله الخلق ؛ لأنّ التنزيل إليه وهو أشرف ما على الأرض، ويجوز أن يراد الذي خلق الإنسان كما قال الله تعالى :﴿ الرحمن ١ علم القرآن ٢ خلق الإنسان ﴾ [ الرحمن : ١ ٣ ] فقيل : الذي خلق مبهماً، ثم فسره بقوله :﴿ خلق الإنسان ﴾ تفخيماً لخلق الإنسان، ودلالة على عجيب فطرته، وقوله تعالى :﴿ من علق ﴾ جمع علقة، وهي الدم الجامد، فإذا جرى فهو المسفوح، ولما كان الإنسان اسم جنس في معنى الجمع جمع العلق، ولمشاكلة رؤوس الآي أيضاً.
وقوله تعالى :﴿ اقرأ ﴾ تكرير للمبالغة، أو الأول مطلق والثاني للتبليغ، أو في الصلاة، قال البيضاوي : ولعله لما قيل له :﴿ اقرأ باسم ربك ﴾ قال : ما أنا بقارئ فقيل له اقرأ :﴿ وربك الأكرم ﴾ أي : الزائد في الكرم على كل كريم، فإنه ينعم على عباده النعم التي لا تحصى، ويحلم عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه، وركوبهم المناهي في إطراحهم الأوامر، ويقبل توبتهم، ويتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم، فما لكرمه غاية ولا أمد، وكأنه ليس وراء التكرّم بإفادة الفوائد العلمية تكرّم حيث قال : الأكرم.
﴿ الذي علم ﴾ أي : بعد الحلم عن معاجلتهم بالعقاب جوداً منه تعالى من غير مانع من خوف عاقبة، ولا رجاء منفعة ﴿ بالقلم ﴾ أي : الخط بالقلم.
﴿ علم الإنسان ما لم يعلم ﴾ فدل على كمال كرمه بأنه علَّم عباده ما لم يعلموه، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم، ولا ضبطت أخبار الأوّلين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به. ولبعضهم في صفة القلم :
ورواقم رقش كمثل أراقم | قطف الخطا نيالة أقصى المدى |
سود القوائم ما يجدّ مسيرها | إلا إذا لعبت بها بيض المدى |
وقال قتادة : القلم نعمة من الله تعالى، ولولا ذلك لم يقم دين ولم يصلح عيش، فدل على كمال كرمه تعالى. وروى عبد الله بن عمر قال :
«قلت : يا رسول الله أكتب ما أسمع منك من الحديث ؟ قال : نعم، فاكتب، فإنّ الله تعالى علم بالقلم ». ويروى أنّ سليمان عليه السلام سأل عفريتاً عن الكلام فقال : ريح لا يبقى، فقال : فما قيده ؟ قال : الكتابة. وعن عمر قال : خلق الله تعالى أربعة أشياء بيده، ثم قال تعالى لسائر الحيوان : كن فكان، وهي القلم والعرش وجنة عدن وآدم عليه السلام.
وفيمن علم بالقلم ثلاثة أقوال :
أحدها : قال كعب : أوّل من كتب بالقلم آدم عليه الصلاة والسلام.
ثانيها : قال الضحاك : إدريس عليه السلام.
ثالثها : أنه جميع من كتب بالقلم ؛ لأنه ما علم إلا بتعليم الله تعالى.
وقال القرطبي : الأقلام ثلاثة في الأصل :
القلم الأوّل : الذي خلقه الله تعالى بيده، وأمره أن يكتب في اللوح المحفوظ.
والثاني : قلم الملائكة الذي يكتبون به المقادير والكوائن.
والثالث : أقلام الناس يكتبون بها كلامهم، ويصلون بها إلى مآربهم.
وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
«لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهنّ الكتابة ». قال بعض العلماء : وإنما حذرهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، لأنّ في إسكانهنّ الغرف تطلعاً إلى الرجال، وليس في ذلك تحصين لهنّ ولا تستر، وذلك أنهنّ لا يملكن أنفسهنّ حين يشرفن على الرجال فتحدث الفتنة فحذر من ذلك، وكذلك تعليم الكتابة ربما كان سبباً للفتنة ؛ لأنها قد تكتب لمن تهوى، والكتابة عين من العيون بها يبصر الشاهد الغائب، والخط إشارة اليد، وفيها تعبير عن الضمير بما لا ينطق به اللسان، فهي أبلغ من اللسان، فأحب صلى الله عليه وسلم أن يقطع عن المرأة أسباب الفتنة تحصيناً لها.
وقوله تعالى :﴿ كلا ﴾ ردع لمن كفر بنعمة الله تعالى بطغيانه، وإن لم يذكره لدلالة الكلام عليه، فإنه تعالى قد عدّ مبدأ أمر الإنسان ومنتهاه إظهاراً لما أنعم عليه من أن نقله من أحسن المراتب إلى أعلاها تقريراً لربوبيته وتحقيقاً لأكرميته، ﴿ إن الإنسان ﴾ أي : هذا النوع الذي من شأنه الأنس بنفسه والنظر في عطفه﴿ ليطغى ﴾ أي : من شأنه إلا من عصمه الله تعالى أن يزيد على الحدّ الذي لا ينبغي له مجاوزته.
﴿ أن رآه ﴾ أي : رأى نفسه ﴿ استغنى ﴾ أي : وجد له الغنى بالمال، وقيل : أن يرتفع عن منزلته في اللباس والطعام وغير ذلك. نزلت في أبي جهل كان إذا زاد ماله زاد في ثيابه ومركبه وطعامه، فذلك طغيانه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون أتاه أبو جهل، فقال : يا محمد أتزعم أنّ من استغنى طغى ؟ فاجعل لنا جبال مكة ذهباً لعلنا نأخذ فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك، قال : فأتاه جبريل عليه السلام فقال : يا محمد خيرهم في ذلك، فإن شاؤوا فعلنا بهم ما أرادوا، فإن لم يفعلوا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدة، فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء إبقاء لهم. وقيل :﴿ أن رآه استغنى ﴾ بالعشيرة والأنصار والأعوان، وحذف اللام من قوله تعالى :﴿ أن رآه ﴾ كما يقال : إنكم لتطغون أن رأيتم غناكم، فرأى علمية، واستغنى مفعول ثان، وأن رأى مفعول له.
﴿ إنَّ إلى ربك ﴾ أي : المحسن إليك بالرسالة التي رفع بها ذكرك لا إلى غيره ﴿ الرجعى ﴾ مصدر كالبشرى بمعنى الرجوع، ففي ذلك تخويف للإنسان بأن يجازي العاصي بما يستحقه.
وقوله تعالى :﴿ أرأيت ﴾ في مواضعها الثلاث للتعجب ﴿ الذي ينهى ﴾ أي : على سبيل التجدد والاستمرار، وهو أبو جهل.
﴿ عبداً ﴾ أي : من العبيد وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ إذا صلى ﴾ أي : خدم سيده الذي لا يقدر أحد أن ينكر سيادته بإيقاع الصلاة التي هي أعظم العبادات. نزلت في أبي جهل، وذلك أنه نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الصلاة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟ فقالوا : نعم. فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته، ولأعفرنّ وجهه في التراب. قال : فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته فنكص على عقبيه، وهو يتقي بيده، فقيل له : مالك ؟ فقال : إن بيني وبينه خندقاً من النار، وهولاً وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً، فأنزل الله تعالى هذه الآية ». وفي رواية :«لو فعله لأخذته الملائكة » زاد الترمذي :«عياناً ». وعن الحسن أنه أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة. وفائدة التنكير في قوله تعالى :﴿ عبداً ﴾ الدلالة على أنه كامل العبودية، كأنه قيل : ينهى أشدّ الخلق عبودية عن العبادة، وهذا عين الجهل.
وقيل : إن هذا الوعيد يلزم كل من ينهى عن الصلاة عن طاعة الله تعالى، ولا يدخل في ذلك المنع من الصلاة في الدار المغصوبة، وفي الأوقات المكروهة ؛ لأنه قد ورد النهي عن ذلك في الأحاديث الصحيحة، ولا يدخل أيضاً منع السيد عبده والرجل زوجته عن صوم التطوّع، وقيام الليل، والاعتكاف ؛ لأنّ ذلك مصلحة، إلا أن يأذن فيه السيد والزوج.
﴿ أرأيت إن كان ﴾ أي : المنهي وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ على الهدى ﴾ وقرأ نافع بتسهيل الهمزة بعد الراء، وعن ورش إبدالها ألفاً، وأسقطها الكسائي، والباقون بالتحقيق.
وقوله تعالى :﴿ أو أمر بالتقوى ﴾ أي : بالإخلاص والتوحيد للتقسيم.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ أرأيت ﴾ تكرير للأوّل، وكذا الذي في قوله :﴿ أرأيت إن كذب وتولى ﴾.
﴿ أرأيت إن كذب ﴾ وهو أبو جهل ﴿ وتولى ﴾ عن الإيمان.
﴿ ألم يعلم ﴾ أي : يقع له علم يوماً من الأيام ﴿ بأن الله ﴾ الذي له صفات الكمال ﴿ يرى ﴾ ويطلع على أحواله من هداه وضلاله، فيجازيه على حسب ذلك، أي : أعجب منه يا مخاطب في نهيه عن الصلاة من حيث إنّ المنهي على الهدى آمر بالتقوى، وفي وجه التعجب وجوه :
أحدها : إنه صلى الله عليه وسلم قال «اللهمّ أعز الإسلام إمّا بأبي جهل وإمّا بعمر بن الخطاب » وهو ينهى عبداً إذا صلى.
الثاني : إنه يلقب بأبي الحكم، فقيل : أيلقب بهذا وهو ينهى عن الصلاة فيتعجب منه، ومن حيث أن الناهي مكذب متول عن الإيمان.
الثالث : إنه كان يأمر وينهى ويعتقد وجوب طاعته، ثم إنه ينهى عن طاعة الله تعالى.
وقوله تعالى :
﴿ كلا ﴾ ردع للناهي
﴿ لئن لم ينته ﴾ أي : عما هو فيه، واللام لام قسم
﴿ لنسفعاً بالناصية ﴾ أي : لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار، والسفع القبض على الشيء وجذبه بشدّة. قال عمرو بن معديكرب :
قوم إذا نقع الصريخ رأيتهم | ما بين ملجم مهره أو سافع |
والنقع الصوت. ولما علم أنها ناصية المذكور اكتفى باللام عن الإضافة، والآية وإن كانت في أبي جهل فهي عظة للناس، وتهديد لمن يمنع غيره عن طاعة الله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ ناصية ﴾ بدل من الناصية، قال الزمخشري : وجاز بدلها عن المعرفة وهي نكرة ؛ لأنها وصفت، أي : ب﴿ كاذبة خاطئة ﴾ واستقلت بفائدة، واعترض عليه بأنّ هذا مذهب الكوفيين فإنهم لا يجيزون إبدال نكرة من معرفة إلا بشرط وصفها، أو كونها بلفظ الأوّل، ومذهب البصريين لا يشترط شيئا، والمعنى : لنأخذن بناصية أبي جهل الكاذبة في قولها، الخاطئة في فعلها، والخاطئ معاقب مأخوذ، والمخطئ غير مأخوذ، ووصفت الناصية بالكاذبة الخاطئة كوصف الوجوه في قوله تعالى :﴿ إلى ربها ناظرة ﴾ [ القيامة : ٢٣ ] وإنما وصفت الناصية بالكاذبة ؛ لأنه كان يكذب على الله تعالى في أنه لم يرسل محمداً صلى الله عليه وسلم، وعلى رسوله في أنه ساحر وليس بنبي، ووصفت بأنها خاطئة لأنّ صاحبها تمرّد على الله تعالى كما قال تعالى :﴿ لا يأكله إلا الخاطئون ﴾ [ الحاقة : ٣٧ ] فهما في الحقيقة لصاحبها، وفيه من الحسن والجزالة ما ليس في قولك : ناصية كاذبٍ خاطئٍ.
وروي أنّ أبا جهل مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقال : ألم أنهك ؟ فأغلظ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : أتنهرني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً، فوالله لأملأنّ عليك هذا الوادي إن شئت خيلاً جرداً ورجالاً مرداً، فأنزل الله تعالى :﴿ فليدع ناديه ﴾.
﴿ فليدع ﴾ أي : دعاء استغاثة ﴿ ناديه ﴾ أي : أهل ناديه ليعينوه فهو على حذف مضاف، لأنّ النادي هو المجلس الذي ينتدى فيه القوم، قال تعالى :﴿ وتأتون في ناديكم المنكر ﴾ [ العنكبوت : ٢٩ ] أي : يتحدّثون فيه أو على التجوّز ؛ لأنه مشتمل على الناس، كقوله تعالى :﴿ واسأل القرية ﴾ [ يوسف : ٨٢ ] ولا يسمى المكان نادياً حتى يكون فيه أهله، والمعنى فليدع عشيرته فلينتصر بهم.
﴿ سندع ﴾ أي : بوعد لا خلف فيه ﴿ الزبانية ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد زبانية جهنم، سموا بها لأنهم يدفعون أهل النار إليها بشدّة، جمع زبني، مأخوذ من الزبن، وهو الدفع. وقال الزمخشري : الزبانية في كلام العرب الشُّرط، الواحد زبنية. وقال الزجاج : هم الملائكة الغلاظ الشداد. قال ابن عباس رضي الله عنهما : لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله تعالى. وروي «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه السورة وبلغ إلى قوله تعالى :﴿ لنسفعاً بالناصية ﴾ قال أبو جهل : أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك ». قال الله تعالى :﴿ فليدع ناديه سندع الزبانية ﴾ فلما ذكر الزبانية رجع فزعاً، فقيل له : خشيت منه ؟ قال : لا ولكن رأيت عنده فارساً وهدّدني بالزبانية، فلا أدري الزبانية، ومال إليّ الفارس فخشيت منه أن يأكلني. قال ابن عباس رضي الله عنهما : والله لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته ».
وقوله تعالى :﴿ كلا ﴾ ردع لأبي جهل، أي : ليس الأمر على ما يظنه أبو جهل ﴿ ولا تطعه ﴾ أي : فيما دعاك إليه من ترك الصلاة كقوله تعالى :﴿ ولا تطع المكذبين ﴾ [ القلم : ٨ ] وقوله تعالى :﴿ واسجد ﴾ يحتمل أن يكون بمعنى السجود في الصلاة، وأن يكون سجود التلاوة في هذه السورة، ويدل لهذا ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : سجدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ﴿ إذا السماء انشقت ﴾ [ الانشقاق : ١ ] وفي ﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق ﴾ سجدتين، وهذا نص أن المراد سجود التلاوة، ويدل للأوّل قوله تعالى :﴿ أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ كلا لا تطعه واسجد ﴾ أي : ودم على سجودك. قال الزمخشري : يريد الصلاة ؛ لأنه لا يرى سجود التلاوة في المفصل، والحديث عليه. ﴿ واقترب ﴾ أي : وتقرّب إلى ربك بطاعته وبالدعاء إليه. قال صلى الله عليه وسلم «أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أي : فحقيق أن يستجاب لكم ». «وكان صلى الله عليه وسلم يكثر في سجوده من البكاء والتضرّع حتى قالت عائشة رضي الله عنها : قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، فما هذا البكاء في السجود ؟ وما هذا الجهد الشديد ؟ قال : أفلا أكون عبداً شكوراً ». وفي رواية :«أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء ».