ﰡ
﴿ وأَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ ﴾ عطف على قوله ان لهم أجراً كبيراً بشروا بفوزهم بالجنة وبكينونة العذاب الأليم لأعدائهم الكفار إذ في علم المؤمنين بذلك وتبشيرهم به مسرة لهم فهما بشارتان وفيه وعيد للكفار * قال الزمخشري: فإِن قلت كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفرة ولم يذكر الفسقة قلت: كان الناس حينئذٍ إما مؤمن تقي وإما مشرك وإنما حدث أصحاب المنزلة بين المنزلتين بعد ذلك. " انتهى ". هذه مكابرة بل قد وقع في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم من بعض المؤمنين هنات وسقطات بعضها مذكور في القرآن وبعضها في الحديث الصحيح الثابت.﴿ وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ ﴾ قال ابن عباس وغيره: نزلت ذامة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم وأبنائهم في أوقات الغضب والضجر * ومناسبتها لما قبلها أن بعض من لا يؤمن بالآخرة كان يدعو على نفسه بتعجيل ما وعد به من الشر في الآخرة كقول النضر: فأمطر علينا حجارة من السماء الآية وكتب ويدع بغير واو على حسب السمع والإِنسان هنا ليس واحداً معيناً والمعنى أن في طباع الإِنسان إذا ضجر وغضب دعا على نفسه وأهله وماله بالشر أن يصيبه كما يدعو بالخير أن يصيبه ثم ذكر تعالى أن ذلك من عدم تثبته وقلة صبره وكونه خلق كثير التسرع لما يرد على قلبه لا يتأتى ولا يستبصر.﴿ وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ ﴾ الظاهر أن آيتين هو المفعول الأول والليل والنهار ظرفان في موضع المفعول الثاني أي وجعلنا في الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل أي جعلنا الليل ممحو الضوء مطموسه مظلماً لا يستبان فيه شىء كما لا يستبان ما في اللوح المحفوظ وجعلنا آية النهار مبصرة أي يبصر فيه الأشياء ويستبان ومعنى:﴿ لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً ﴾ أي: من فضله أي: لتتوصلوا إلى استبانة أعمالكم وتصرفكم في معايشكم والحساب للشهور والأيام والساعات ومعرفة ذلك في الشرع إنما هو من جهة آية النهار وكل شىء مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم.﴿ فَصَّلْنَاهُ ﴾ بيناه تبييناً غير ملتبس والظاهر أن نصب وكل شىء على الاشتغال.﴿ طَآئِرَهُ ﴾ أي أن جميع ما يلقى الإِنسان من خير وشر فقد سبق به القضاء وألزم خطه وعمله ومكسبه في عنقه معبر عن الخط والعمل إذ هما متلازمان بالطائر. وقرىء: ﴿ وَنُخْرِجُ ﴾ بنون مضارع أخرج.﴿ كِتَاباً ﴾ بالنصب وعن أبي جعفر ويخرج بالياء مبنياً للمفعول كتاباً أو يخرج الطائر كتاباً وعنه أيضاً كتاب الرفع على أنه مفعول ما لم يسم فاعله. و ﴿ يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ﴾ صفتان لكتاب ويجوز أن يكون منشوراً حالاً من مفعول يلقاه.﴿ ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ ﴾ معمول لقول محذوف أي يقال له اقرأ كتابك وقال قتادة يقرأ في ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئاً. و ﴿ بِنَفْسِكَ ﴾ فاعل كفى والباء زائدة على سبيل الجواز لا اللزوم ويدل عليه أنه إذا حذفت ارتفع ذلك الإِسم بكفى كقول الشاعر: ويخبرني عن غائب المرء هديه كفى الهدى عما غيب المرء فجراو ﴿ ٱلْيَوْمَ ﴾ منصوب بكفى وعليك يتعلق بحسيباً ومعنى حسيباً حاكماً عليك بعلمه وحسيباً منصوب على التمييز لجواز دخول من عليه والحسيب بمعنى المحاسب ومعناه حافظاً عليك عملك ولذلك عدى بعلى.﴿ مَّنِ ٱهْتَدَىٰ ﴾ الآية قيل نزلت الإشارة في الهدى إلى أبي سلمة بن عبد الأسود وفي الضلال إلى الوليد بن المغيرة وتقدم تفسير ولا تزر في آخر الأنعام.﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ ﴾ الآية فيها نتفاء التعذيب ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى:﴿ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ فيكذب ولا يؤمن بما جاء به من عند الله وانتفاء التعذيب أعم من أن يكون في الدنيا بالهلاك وغيره من العذاب أو في الآخرة بالنار فهو يشملهما.﴿ وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً ﴾ الآية لما ذكر تعالى أنه لا يعذب أحداً حتى يبعث إليه رسولاً بين بعد ذلك علة أهلاكهم وهي مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والتمادي على الفساد والفسق وأراد هنا حقيقته وأن نهلك يعني في الدنيا وقرىء:﴿ أَمَرْنَا ﴾ بتخفيف الميم من الأمر ومفعول أمر محذوف تقديره أمرنا بالطاعة.﴿ مُتْرَفِيهَا ﴾ ويجوز أن تكون أمرنا بمعنى كثرنا تقول العرب أمر القوم بكسر الميم أي كثروا وأمرهم الله بفتح الميم أي كثرهم فصارت الحركة يصير بها الفعل متعدياً تقول العرب شترت عني الرجل بكسر التاء والقول الذي حق عليهم هو وعيد الله الذي قاله رسولهم * والتدمير الاهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء مع هلاك أهلها وقرىء: آمرنا بالمد أي كثرنا عدى أمر بالهمزة بمعنى كثرنا وقرىء: أمرنا بالتشديد أي جعلناهم أمراء أو بمعنى كثرنا وكم في موضع نصب على المفعول بأهلكنا أي كثيراً من القرون أهلكنا ومن القرون بيان لكم وتمييز له كما تميز العدد بالجنس والقرون عاد وثمود وغيرهم ويعني بالإِهلاك هنا الإِهلاك بالعذاب وفي ذلك تهديد ووعيد لمشركي مكة وقال من بعد نوح ولم يقل من بعد آدم لأن نوحاً صلى الله عليه وسلم أول نبي بالغ قومه في تكذيبه وقومه أول من حلت بهم العقوبة العظمى وهو الاستئصال بالطوفان وتقدم القول في عمر القرن ومن الأولى للتبيين والثانية لابتداء الغاية وتعلقاً بأهلكنا لاختلاف معنييهما وكفى بربك إنما يجيء في الأغلب في مدح أو ذم وإعراب كفى بربك كإِعراب كفى بالله وبذنوب عباده تنبيه على أن الذنوب هي أسباب الهلكة. و ﴿ خَبِيرَاً بَصِيراً ﴾ تنبيه على أنه عالم بها ومعاقب عليها ويتعلق بذنوب بخبيراً أو بصيراً.﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ ﴾ قيل نزلت في المنافقين كانوا يغزون مع المسلمين لا للثواب ومن شرطية وجوابه عجلنا له فيها ما نشاء فقيد المعجل بمشيئة ما نشاء تعجيله ولمن نريد بدل من قوله له بدل بعض من كل لأن الضمير في له عائد على من الشرطية وهي في معنى الجمع ولكن جاءت الضمائر هنا على اللفظ لا على المعنى وجعلنا بمعنى صيرنا والمفعول الأول جهنم والثاني له لأنه ينعقد منهما مبتدأ وخبر ويصلاها حال من الضمير في له أو من جهنم.﴿ مَذْمُوماً ﴾ إشارة إلى الإِهانة.﴿ مَّدْحُوراً ﴾ إشارة إلى البعد والطرد من رحمة الله تعالى وهما حالان من الضمير المستكن في يصلاها.
﴿ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ﴾ قيل" نزلت في ناس في مزينة استحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا أجد ما أحملكم عليه فبكوا وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان بعد نزول هذه الآية إذا لم يكن عنده ما يعطي وسئل قال: يرزقنا الله وإياكم من فضله "فالرحمة على هذا الرزق المنتظر * قال الزمخشري: ويجوز أن يكون ابتغاء رحمة من ربك علة لجواب الشرط فهو يتعلق به ويتقدم عليه أي فقل لهم قولاً سهلاً ليناً وعدهم وعداً جميلاً رحمة لهم وتطييباً لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربك أي ابتغ رحمة الله التي ترجوها برحمتك عليهم " انتهى " ما أجازه لا يجوز لأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبله لا يجوز في قولك أن تقم فاضرب زيداً ان تقم زيداً فاضرب وهذا منصوص عليه فإِن حذفت الفاء في مثل ان تقم تضرب خالداً فمذهب سيبويه والكسائي الجواز فتقول ان تقم خالداً تضرب ومذهب الفراء المنع فإِن كان معمول الفعل مرفوعاً نحو ان تفعل يفعل زيد فلا يجوز تقديم زيد على أن يكون مرفوعاً بتفعل هذه وأجاز سيبويه أن يكون مرفوعاً بفعل يفسره يفعل كأنك قلت إن تفعل يفعل زيد يفعل ومنع ذلك الكسائي والفراء.﴿ فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً ﴾ أي مداراة باللسان ويسر يكون لازماً ومتعدياً فميسور من المتعدي تقول يسر ذلك كذا إذا أعددته لك.﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ ﴾ قيل نزلت في إعطائه صلى الله عليه وسلم قميصه ولم يكن له غيره وبقي عرياناً وقيل أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإِبل وعيينة مثل ذلك والعباس بن مرداس خمسين ثم أكملها مائة فنزلت وهذه استعارة استعير فيها المحسوس للمعقول وذلك أن البخل معنى قائم بالإِنسان يمنعه من التصرف في ماله فاستعير له الغل الذي هو ضم اليد إلى العنق فامتنع من تصرف يده وإجالتها حيث يريد وذكر اليد لأن الأخذ بها والإِعطاء واستعير بسط اليد لإِذهاب المال وذلك لأن قبض اليد يحبس ما فيها وبسطها يذهب ما فيها طابق في الاستعارة بين قبض اليد وبسطها من حيث المعنى لأن جعل اليد مغلولة هو قبضها وغلها أبلغ من القبض وقد طابق بينهما أبو تمام * قال في المعتصم تعوّد بسط الكف حتى لو أنه * ثناها لقبض لم تطعه أنامله والظاهر أنه مراد بالخطاب أمة الرسول صلى الله عليه وسلم. وإلا فهو صلى الله عليه وسلم كان لا يدخر شيئاً لغد وكذلك من كان واثقاً بالله تعالى حق الوثوق كأبي بكر حيث تصدق بجميع ماله وختم ذلك بقوله: خبيراً وهو العلم بخفيات الأمور وبصيراً أي بمصالح عباده حيث يبسط لقوم ويضيق على قوم.﴿ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ﴾ تقدم تفسير نظيره صدر هذه الآية والفرق بين خشية إملاق ومن إملاق وبين قوله يرزقهم وإياكم ويرزقكم وإياهم تقدم كل ذلك.﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ ﴾ الآية تقدم تفسير نظيرها في الانعام.﴿ وَسَآءَ سَبِيلاً ﴾ أي وبئس طريقة لأنها سبيل يؤدي إلى النار قال ابن عطية: وسبيلاً نصب على التمييز التقدير وساء سبيله سبيلاً انتهى فإِذا كان سبيلاً نصباً على التمييز فإِنما هو تمييز للمضمر المستكن في ساء وهي الضمير الذي يفسره ما بعده والمخصوص بالذم محذوف وإذا كان كذلك فلا يكون تقديره وساء سبيله سبيلاً لأنه إذ ذاك لا يكون فاعله ضميراً يراد به الجنس مقيداً بالتمييز ويبقى التقدير أيضاً عارياً عن المخصوص بالذم وتقدم تفسير قوله: ولا تقتلوا النفس في أواخر الانعام ولما نهى عن قتل الأولاد نهي عن قتل النفس فانتقل من الخاص إلى العام والظاهر أن هذه كلها منهيات مستقلة ليست مندرجة تحت قوله تعالى: وقضى ربك كاندراج أن لا تعبدوا وانتصب مظلوماً على الحال من الضمير المستكن في قتل والمعنى أنه قتل بغير الحق.﴿ فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ ﴾ وهو الطالب لدمه شرعاً.﴿ سُلْطَاناً ﴾ أي تسلطاً وقهراً والظاهر النهي عما كانت الجاهلية تفعله من قتل الجماعة بالواحد وقتل غير القاتل والمثلة والمكافأة الذي يقتل لمن قتله والضمير في أنه عائد على الولي لتناسق الضمائر ونصره إياه بأن وجب له القصاص فلا تسترد على ذلك أو نصره بمعونة السلطان وبإِظهار المؤمنين على استبقاء الحق.﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ ﴾ تقدم تفسير نظيره في الانعام.﴿ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ ﴾ عام فيما عقده الإِنسان بينه وبين ربه أو بينه وبين آدمي في طاعة.﴿ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ﴾ ظاهره أن العهد هو المسئول من المعاهد أن يفي له ولا يضيعه وقيل هو على حذف مضاف أي ان ذا العهد كان مسئولا ان لم يف به واسم كان مضمر يعود على العهد أو على ذي العهد مسئولا خبر كان وفيه ضمير المفعول أي مسئولا هو أي عدم الإِيفاء به * ثم أمره تعالى بإِيفاء الكيل والوزن المستقيم وذلك فيما يرجع إلى المعاملة بالأموال وفي قوله وأوفوا الكيل دلالة على أن الكيل هو على البائع لأنه لا يقال ذلك للمشتري والتقييد بقوله: إذا كلتم أي وقت كيلكم على سبيل التأكيد ولا يتأخر الإِيفاء بأن يكيل به بنقصان ما تم يوفيه بعد ذلك فلا يتأخر الإِيفاء عن وقت الكيل * قال ابن عطية: واللفظة للمبالغة من القسط انتهى لا يجوز أن يكون من القسط لاختلاف المادتين لأن القسط مادته قسط وذلك مادته قسطس إلا أن اعتقد زيادة السين أخيراً كسين قدموس وضغبوس وعرفاس فيمكن لكنه ليس من مواضع زيادة السين المقيسة.﴿ ذٰلِكَ خَيْرٌ ﴾ أي الإِيفاء والوزن لأن فيه تطييب النفوس بالاتسام بالعدل والإِيصال للحق.﴿ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ أي عاقبة إذ لا تبقى على الموفى والوازن تبعة لا في الدنيا ولا في الآخرة وهو من المآل وهو المرجع.﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ لما أمر تعالى بثلاثة أشياء بالإِيفاء بالعهد والإِيفاء بالكيل والوزن بالقسطاس أتبع ذلك بثلاثة أمناه ولا تقف ولا تمش ولا تجعل ومعنى ولا تقف لا تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل نهي أن يقول ما لا يعلم وأن يعمل بما لا يعلم ويدخل فيه النهي عن اتباع التقليد لأنه اتباع لما لا يعلم صحته وقال الكميت: فلا أرمي البريء بغير ذنب ولا أقفوا الحواض أن قفيافي قوله: ان السمع والبصر والفؤاد دليل على أن العلوم مستفادة من الحواس ومن العقول وجاء هذا الترتيب القرآني في البداءة بالسمع ثم يليه البصر ثم يليه الفؤاد وأولئك إشارة إلى هذه الثلاثة وهم اسم إشارة إلى الجمع المذكر والمؤنث العاقل وغيره وتخيل ابن عطية أن أولئك مختص بالعاقل فقال: وعبر عن السمع والبصر والفؤاد بأولئك لأنها حواس لها إدراك وجعلها في هذه الآية مسؤولة فهي حالة من يعقل وليس ما تخيله صحيحاً بل جميع أسماء الإِشارة مثل أولئك يشترك فيه المذكر والمؤنث والعاقل وغير العاقل قال الزمخشري: وعنه في موضع الرفع بالفاعلية أي كل واحد منها كان مسئولاً عنه فمسئولا مسند إلى الجار والمجرور كالمغضوب في قوله:﴿ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم ﴾[الفاتحة: ٧]، يقال للإِنسان لم سمعت ما لا يحل لك سماعه ولم نظرت ما لا يحل لك نظره ولم عزمت على ما لا يحل لك العزيمة عليه. " انتهى " وهذا الذي ذهب إليه من أن عنه في موضع الرفع بالفاعلية ومعنى به أنه مفعول لم يسم فاعله لا يجوز لأن الجار والمجرور وما يقام مقام الفاعل من مفعول به ومصدر وظرف بشروطها جار مجرى الفاعل وكما أن الفاعل لا يجوز تقديمه فكذلك ما جرى مجراه وأقيم مقامه فإِذا قلت غضب عليّ زيد فلا يجوز على زيد غضب بخلاف غضبت على زيد فيجوز على زيد غضبت وقد حكى الاتفاق من النحويين على أنه لا يجوز تقديم الجار والمجرور الذي لا يقام مقام الفاعل على الفعل أبو جعفر النحاس ذكر ذلك في المقنع من تأليفه فليس عنه مسئولاً كالمغضوب عليه لتقديم الجار والمجرور في عنه مسئولاً وتأخير في المغضوب عليهم قول الزمخشري: ولم نظرت ما لا يحل لك أسقط إلى وهو لا يجوز إلا ان جاء في ضرورة شعر لأن نظر يتعدى بإِلى وكان التركيب ولم نظرت إلى ما لا يحل لك كما قال النظر إليه فعدّاه بإِلى ومسئولاً فيه ضمير يعود على كل من حيث اللفظ وهذا الضمير هو المفعول الذي لم يسم فاعله وعنه في موضع نصب والضمير في عنه عائد على معنى أولئك أي عن كل واحد مما تقدم وانتصب مرحاً على الحال أي مارحاً كما تقول جاء زيد ركضاً أي راكضاً أو على حذف مضاف أي ذا مرح والمرح هو السرور والاغتباط بالراحة والفرح وكأنه ضمن معنى الاختيال لأن غلبة السرور والفرح يصحبها التكبر والاختيال ولذلك علل بقوله:﴿ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ ﴾ أي لن تجعل فيه خرقاً بدوسك لها وشدّة وطئك وانتصب طولاً على التمييز أي لن يبلغ طولك الجبال والظاهر أن ذلك إشارة إلى مصدر النهيين السابقين وهما قفو ما ليس لك به علم والمشي في الأرض مرحاً وسيئة خبر كان وأنت ثم قال مكروها فذكر وقرىء: سيئته فسيئة اسم كان ومكروها الخبر ذلك إشارة إلى جميع التكاليف من قوله: لا تجعل مع الله إلهاً آخر إلى قوله: ولا تمش في الأرض مرحاً، وهي أربعة وعشرون نوعاً من التكاليف بعضها أمر وبعضها نهي بدأها بقوله: لا تجعل، واختتم الآيات بقوله: ولا تجعل، وقال: مما أوحى لأن ذلك بعض مما أوحي إليه إذ أوحى بتكاليف أخر ومما أوحى خبر عن ذلك ومن الحكمة يجوز أن يكون متعلقاً بأوحى وأن يكون بدلاً مما وأن يكون حالاً من الضمير المنصوب المحذوف العائد على ما وكانت هذه التكاليف حكمة لأن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والإِعراض عن الدنيا والإِقبال على الآخرة والعقول تدل على صحتها وهي شرائع في جميع الشرائع لا تقبل النسخ وعن ابن عباس أن هذه الآيات كانت في ألواح موسى صلى الله عليه وسلم أولها لا تجعل مع الله إلهاً آخر قال تعالى:﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾[الأعراف: ١٤٥] وكرر تعالى النهي عن الشرك ففي النهي الأول فتقعد مذموماً مخذولاً وفي الثاني فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً والفرق بين مذموم وملوم أن كونه مذموماً أن تذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح منكر وكونه ملوماً أن يقال له بعد الفعل وذمه لم فعلت كذا وما حملك عليه وما استفدت منه إلا إلحاق الضرر بنفسك فأول الأمر الذم وآخره اللوم والفرق بين مخذولاً ومدحوراً أن المخذول هو المتروك إعانته ونصره والمفوض إلى نفسه والمدحور المطرود المبعد على سبيل الإِهانة له والاستخفاف به فأول الأمر الخذلان وآخره الطرد مهاناً وكان وصف الذم والخذلان يكون في الدنيا ووصف اللوم والدحور يكون في الآخرة ولذلك جاء فتلقى في جهنم والخطاب بالنهي في هذه الآيات كلها للسامع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم * وقال الزمخشري: ولقد جعل الله فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها ومن عدمه لم تنفعه حكمته وعلومه وان بدّ فيها الحكماء وحل بيافوخه السماء ما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم.﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ ﴾ لما نبه تعالى على فساد طريقة من أثبت لله شريكاً ونظيراً أتبعه بفساد طريقة من أثبت لله ولداً والاستفهام معناه الإِنكار والتوبيخ والخطاب لمن اعتقد أن الملائكة بنات الله ومعنى أفأصفاكم أآثركم وخصكم وهذا كما قال أله البنات ولكم البنون ألكم الذكر وله الأنثى وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم ومعنى عظيماً مبالغاً في المنكر والقبح حيث أضفتم إليه الأولاد ثم حيث فضلتم عليه أنفسكم فجعلتم له ما تكرهون ثم نسبة الملائكة الذين هم من شريف ما خلق إلى الأنوثة ومعنى صرفنا نوعنا من جهة إلى جهة ومن مثال إلى مثال والتصريف لغة صرف الشىء بين جهة إلى جهة ثم صار كتابة عن التبيين وقرىء: ليذكر وأصله من التذكر أدغمت التاء في الذال وقرىء: ليذكروا من الذكر ما يزيدهم أي التصريف إلا نفوراً أي بعداً وفراراً عن الحق.﴿ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ ﴾ ذكر قولهم أنه تعالى معه آلهة ورد عليهم ومعنى:﴿ لاَّبْتَغَوْاْ ﴾ أي طلبوا متوصلين إلى ذي العرش إلى مغالبته وإفساد ملكه لأنهم شركاؤه على زعمهم كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض والكاف في كما في موضع نصب أي مثلما وقرىء: تقولون بتاء الخطاب ويقولون بياء الغيبة سبحانه أي تنزيهه وتعالى متعلق به على سبيل الأعمال إذ يصح لسبحان أن يتعلق به عن والتعالي في حقه تعالى هو بالمكانة لا بالمكان وعلو مصدر على غير الصدر إذ لو جاء على تعالى لكان المصدر تعالياً لأن تفاعل بمعنى الفعل المجرد وهو على ونسبة التسبيح للسماوات والأرض ومن فيهن من ملك وإنس وجن حمله بعضهم على النطق بالتسبيح حقيقة وان ما لا حياة فيه ولا نمو يحدث الله له نطقاً وهذا هو الظاهر من اللفظ ولذلك جاء ولكن لا تفقهون تسبيحهم * قال ابن عطية ثم أعاد على السماوات والأرض ضمير من يعقل لما أسند إليها فعل الفاعل وهو التسبيح " انتهى " ويعني بالضمير في قوله: ومن فيهن وكأنه تخيل أن هن لا يكون إلا لمن يعقل من المؤنثات وليس كما تخيل بل هن يكون ضمير الجمع المؤنث مطلقاً.
﴿ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ ﴾ الآية مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر كيدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما كانوا يرومون به أمره تعالى أن يقبل على شأنه من عبادة ربه وأن لا يشغل قلبه بهم وكان قد تقدم القول في الإِلهيات والمعاد والنبّوات فأردف ذلك بالأمر بأشرف العبادات والطاعات بعد الإِيمان وهي الصلاة وتقدم الكلام في إقامة الصلاة والمواجه بالأمر الرسول صلى الله عليه وسلم قال الواحدي اللام وللسبب لأنها إنما تجب بزوال الشمس فيجب على المصلي إقامتها لأجل دلوك الشمس وقال ابن عطية هذه الآية بإِجماع المفسرين إشارة إلى الصلوات الخمس، وقال ابن عباس وغيره: دلوك الشمس زوالها، والإِشارة إلى الظهر والعصر وغسق الليل إشارة إلى المغرب والعشاء وقرآن الفجر أريد به صلاة الصبح فالآية على هذا تعم جميع الصلوات كلها وأعاد قرآن الفجر في قوله: إن قرآن الفجر ولم يأت مضمراً فيكون انه على سبيل التعظيم والتنويه بقرآن الفجر ومعنى مشهوداً أي تشهده الملائكة حفظة الليل وحفظة النهار كما جاء في الحديث أنهم يتعاقبون ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ولما أمره تعالى بإِقامة الصلاة للوقت المذكور ولم يدل أمره تعالى إياه على اختصامه بذلك دون أمته ذكر ما اختصه به تعالى وأوجبه عليه من قيام الليل وهو في أمته تطوع فقال: ومن الليل فتهجد به أي بالقرآن نافلة زيادة مخصوصاً بها أنت وتهجد هنا تفعل بمعنى الإِزالة والترك لقولهم تأثم وتحنث ترك التأثم والتحنث ومنه تحنث بغار حراء أي ترك التحنث وشرح بلازمه وهو التعبد ومن للتبعيض وعسى مدلولها في المحبوبات في الترجي والأجود أن هذه الترجية والأطماع بمعنى الوجوب من الله تعالى وهو متعلق من حيث المعنى بقوله فتهجد وعسى هنا تامة وفاعلها أن يبعثك وربك فاعل بيبعثك * ومقاماً الظاهر أنه معمول ليبعثك وهو منصوب على الظرف أي في مقام محمود ولا يجوز أن يكون ربك اسم عسى وأن يبعثك في موضع الخبر لأنه يلزم من ذلك الفصل بين العامل الذي هو أن يبعثك وبين المعمول الذي هو مقاماً بأجنبي وهو ربك الذي هو اسم عسى وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال:" المقام المحمود هو الذي أشفع فيه لأمتي ".﴿ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي ﴾ الآية لما أمره تعالى بإِقامة الصلاة وبالتهجد ووعده ببعثه مقاماً محموداً وذلك في الآخرة أمره أن يدعوه بما يشمل أموره الدنيوية والأخروية فقال: وقل رب الآية والظاهر أنه عام في جميع أموره ومصادره دنيوية وأخرويه والصدق لفظ يقتضي رفع المذام واستيعاب المدح كما تقول رجل صدق إذ هو مقابل رجل سوء * وسلطاناً أي حجة بينة ونصيرا مبالغة في ناصر.
﴿ قَبِيلاً ﴾ معاينة والزخرف الزينة ويطلق على الذهب.﴿ أَوْ تَرْقَىٰ ﴾ أي تصعد في السماء على حذف مضاف إي إلى معارج والظاهر أن السماء هنا هي المظلة وما اكتفوا بالتغيبة بالرقي في السماء حتى غيوا ذلك بأن ينزل عليهم كتاباً يقرؤنه ولما تضمن اقتراحهم ما هو مستحيل في حق الله وهو أن يأتي بالله والملائكة قبيلاً أمره تعالى بالتسبيح والتنزيه عما لا يليق به ومن أن يقترح عليه ما ذكرتم فقال:﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ ﴾ أي ما كنت إلا بشراً رسولاً من الله إليكم لا مقترحاً عليه ما ذكرتم من الآيات.﴿ وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ ﴾ الآية الظاهر أن قوله وما منع الناس اخبار من الله تعالى عن السبب الضعيف الذي منعهم من الإِيمان إذ ظهر لهم المعجز وهو استبعاد أن يبعث الله رسولاً إلى الخلق واحداً منهم ولم يكن ملكاً وأن يؤمنوا في موضع نصب وإن قالوا في موضع رفع وإذ ظرف العامل فيه منع والناس كفار قريش القائلون تلك المقالات السابقة والهدى القرآن ومن جاء به وليس المراد مجرد القول بل قولهم الناشىء عن اعتقادهم والهمزة في ابعث للإِنكار ورسولاً ظاهره أنه نعت * وقوله:﴿ قُل لَوْ كَانَ ﴾ الآية يمشون يتصرفون فيها بالمشي وليس لهم صعود إلى السماء فيسمعون من أهلها ويعلمون ما يجب علمه بل هم مقيمون في الأرض يلزمهم ما يلزم المكلفين من عبادات مخصوصة وأحكام لا يدرك تفصيلها بالعقل.﴿ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم ﴾ من جنسهم من يعلمهم ذلك ويلقيه إليهم ولما دعاهم صلى الله عليه وسلم إلى الإِيمان وتحدى على صدق نبوته بالمعجز الموافق لدعواه أمره تعالى أن يعلمهم بأنه تعالى هو الشهيد بينه وبينهم على تبليغه وما قام به من أعباء الرسالة وعدم قبولهم وكفرهم وما اقترحوا عليه من الآيات على سبيل العناد وأردف ذلك بما فيه تهديد وهو قوله: انه كان بعباده خبيراً بخفيات أسرارهم بصيراً مطلعاً على ما يظهر من أفعالهم وأقوالهم.﴿ وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ ﴾ إخبار من الله وليس مندرجاً تحت قل لقوله ونحشرهم ومن مفعول يهدي فهو ضمير يعود على معنى من لا على لفظها والمهتدي مطاوع لهدى يقول هداه فاهتدى كما تقول عصمته فاعتصم ومن مفعول بيضلل لهم ضمير يعود على معنى من لا على لفظها والظاهر أن قول عمياً وبكماً وصماً هو حقيقة وذلك عند قيامهم من قبورهم لم يرد الله إليهم أبصارهم وسمعهم ونطقهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله عنهم كما تقدم الكلام عليه في أوائل البقرة. و ﴿ خَبَتْ ﴾ معناه سكن لهبها.﴿ سَعِيراً ﴾ إيقاداً ذلك إشارة إلى ذلك العشر والعذاب.﴿ وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا ﴾ تقدم الكلام عليه في أثناء السورة والرؤية رؤية القلب وهي العلم ومعنى مثلهم من الإِنس وعطف قوله: وجعل لهم على قوله: أولم يروا لأنه استفهام تضمن التقرير والمعنى قد علموا بدليل العقل كيت وكيت.﴿ وَجَعَلَ لَهُمْ ﴾ أي للعالمين ذلك.﴿ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾ وهو الموت.﴿ فَأَبَىٰ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ وهم الواضعون الشىء غير موضعه على سبيل الاعتداء.﴿ إِلاَّ كُفُوراً ﴾ أي جحوداً لما أتى به الصادق صلى الله عليه وسلم من توحيد الله وإفراده بالعبادة وبعثهم يوم القيامة إلى الجزاء.