ﰡ
مكية عند الجميع، وهي مائة واثنتا عشرة آية، وسميت بذلك لذكر قصص الأنبياء فيها وهي كغيرها من السور المكية، تهدف إلى إثبات عقيدة الإسلام في نفوس المشركين فتراها تعرض لأقوالهم، وترد عليهم مهددة منذرة، وتلفت الأنظار للكون وما فيه حتى يستدل بذلك على خالقه، ثم تعرض لقصص بعض الأنبياء للعبرة والعظة، وهي في البدء والنهاية تصور بعض مشاهد يوم القيامة بأسلوب قوى مؤثر.
المشركون ودعواهم والرد عليهم [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١ الى ١٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤)بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩)
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠)
غَفْلَةٍ غفل عن الشيء من باب دخل، وغفلة أيضا وأغفله عنه غيره وقد تستعمل فيمن تركه إهمالا وإعراضا كما هنا، ومنه قيل أرض غفل أى لا علم بها ورجل غفل لم يجرب الأمور مُعْرِضُونَ من أعرض عنه بمعنى أضرب وولى عنه لاهِيَةً ساهية. معرضة. متشاغلة عن التأمل والتفهم النَّجْوَى التناجي والتسار في القول أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ أتتبعونه أَضْغاثُ أَحْلامٍ هي الرؤيا الكاذبة، التي لا يكون لها تأويل، والأضغاث، جمع ضغث والأصل فيه يطلق على قبضة من حشيش مختلط رطبها بيابسها والرؤيا الكاذبة مختلطة غير منتظمة فلا تأويل لها افْتَراهُ اختلقه من تلقاء نفسه الْمُسْرِفِينَ المبالغين في الكفر والظلم.
المعنى:
لقد صدق عامر بن ربيعة حين جاءه رجل، كان أكرم مثواه في يوم، وقال له أى لعامر: إنى استقطعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واديا ما في العرب واد أفضل منه، وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك فقال عامر: لا حاجة لي في قطعتك، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ.
اقترب للناس زمان حسابهم، وقرب الوقت الذي فيه يحاسبون على أعمالهم، والحال أنهم في غفلة، وهم معرضون عن الذكر الحكيم.
يا للعجب! يقترب الحساب، والناس عنه غافلون، وله ناسون وتاركون، شغلتهم أموالهم وأهلوهم، وهم معرضون ومضربون عما فيه خيرهم، وبه سعادتهم في الدنيا والآخرة إن هذا لعجيب!! هذا أمر في الناس جميعا، وداء أصاب العالم أجمع، ولكن الأوصاف الآتية تجعلنا نتجه بالكلام ناحية المشركين المعاصرين للنبي خاصة فهم الذين لا يأتيهم ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون.
نعم ما يأتيهم ذكر وقرآن من ربهم محدث يتلوه جبريل على النبي سورة بعد سورة وآية بعد آية، فالقرآن نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم منجما تبعا للحوادث، والقرآن أى: هذا الصوت الذي يسمع بالأذن، والحروف التي ترى بالعين هو حادث بلا شك، وأما القرآن بمعنى كلام الله- سبحانه- النفسي فهو قديم قدم باقى الصفات القدسية.
وقيل: الذكر هو ما يذكرهم به المصطفى صلّى الله عليه وسلّم ويعظهم به، وكونه من ربهم فهو موافق لقوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [سورة النجم آية ٣] ولا شك أن ذكره ووعظه حادث فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ [سورة الغاشية آية ٢١].
ما يأتيهم من ذكر ربهم محدث في حال من الأحوال إلا في حال استماعهم وهم يلعبون ويلهون.
لاهية قلوبهم، ومعرضة عن ذكر الله، متشاغلة بالدنيا وزخرفها الكاذب عن الدين وعن ذكر الله الذي به تطمئن القلوب، وتهدأ النفوس.
وأسروا النجوى، وهل النجوى تكون في غير السر؟ إنها لا تكون إلا سرا، والمراد أنهم كتموا التناجي قاصدين، وبالغوا في إخفائه ليبحثوا عما يطفئون به نور الله، ويبطلون به رسالة رسول الله! ولكن هيهات لهم ذلك!
أفتأتون السحر؟ ومحمد لم يأت إلا بالسحر فكيف تجيئون إليه وتتبعونه؟ والحال أنكم تبصرون الأمور على حقيقتها، ولستم غفلا.
ولكن الله أطلع رسوله على ما تناجوا به، وقالوه في السر العميق، وأمره أن يقول لهم: ربي يعلم القول مطلقا سواء جهرتم به أو أسررتم، وسواء كان في السماء أم في الأرض فإنه يعلم السر وأخفى، وهو السميع لكل ما يسمع العليم بطوايا النفوس وخطرات القلوب.
وصفوا رسول الله بأنه ساحر وأن ما يقوله سحر، إذ خفى عليهم سببه، مع أنه يبهر العقول، ويأتى بالأعاجيب.. ثم أضربوا عن ذلك ووصفوه بأنه أضغاث أحلام مفتراة، لا نسق فيها ولا نظام، ولا أساس لها ولا تأويل، ثم نظروا إلى القرآن وإلى ما قالوه فيه فعدلوا عن الحكم الأول والثاني وقالوا: لا: بل قد افتراه واختلقه من عند نفسه، وإنه كاذب في دعواه أنه من عند الله.
ثم أضربوا عن ذلك، وقالوا: بل هو شاعر يؤثر ببليغ كلامه فيفرق بين المرء وأخيه، وأمه وأبيه.
أليس في هذا الاضطراب والتردد، والتلون وتغيير الحكم دليل على أنهم جاهلون بحقيقة ما جاء به، أو عرفوه ولكنهم في حماقة المغلوب ويأس المهزوم رموه بالسحر تارة. والكذب وغيره تارة أخرى.
ثم انتقلوا إلى ناحية أخرى فقالوا: إن لم يكن كذلك فليأتنا بآية غير القرآن كما أرسل موسى بالعصا، وصالح بالناقة، ولقد كان سؤالهم هذا سؤال تعنت، ويعلم الله أنهم لا يؤمنون ولو نزل عليهم ما طلبوا وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا [سورة الأنعام آية ١١١].
اقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهال فقال الله مجيبا لهم:
ما آمنت قبلهم قرية من القرى بعد إجابتهم إلى ما اقترحوا، وقد أهلكناهم بسبب
وقد كانوا ينكرون على الرسول عوارض البشرية، وخصائص الإنسانية مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ؟ [سورة الفرقان آية ٧] فيرد الله عليهم بقوله: وما جعلنا الرسل ذوى جسد لا يأكلون الطعام، وما جعلناهم خالدين فالرسول بشر يأكل ويشرب وينام، ويأتى النساء إلا أن الله اصطفاه واختاره لرسالته وأنزل عليه دستوره وكتابه الذي يخرج أمته من الظلمات إلى النور.
وكان للرسل مع ربهم وعد صريح بنجاتهم ومن آمن معهم، وهلاك الكفار والعصاة من قومهم واقرأ إن شئت قصص الأنبياء في سورة هود.
ثم صدقناهم في الوعد ونجيناهم ومن نشاء من المؤمنين بهم، وأهلكنا المسرفين المكذبين، وتلك عاقبة الظالمين.
لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم، وشرفكم وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «١» وفيه ذكر أمور دنياكم ودينكم وأحكام شرعكم، وجزاء أعمالكم أفلا تعقلون؟!! وتتدبرون أمركم...
إنذار وتهديد [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١١ الى ٢٠]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥)
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠)
قَصَمْنا القصم: الكسر الشديد، وهو أفظع مع الفصم الذي هو الكسر من غير إبانه يَرْكُضُونَ الركض: ضرب الدابة بالرجل، ومنه قوله: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ وركضت الفرس برجلي استحثثته ليعدو، والمراد أنهم يهربون ويسرعون إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم، المترف المتنعم يقال أترف على فلان أى: وسع عليه في معاشه، وعليه وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أى:
وسعنا عليهم حَصِيداً محصودين كما يحصد الزرع بالمنجل خامِدِينَ ميتين نَقْذِفُ نرمي، فَيَدْمَغُهُ المراد: يقهره ويهلكه، وأصل الدمغ: شج الرأس حتى الدماغ، ومنه الدامغة زاهِقٌ، هالك، وتالف يَسْتَحْسِرُونَ، يعيون ويتعبون لا يَفْتُرُونَ: لا يضعفون.
بالغ في زجرهم وتهديدهم بضرب الأمثال وذكر مظاهر القدرة القادرة.
المعنى:
وكثيرا من القرى قصمناها وأهلكنا أهلها، لأنها كانت ظالمة لنفسها بالكفر وارتكاب الإثم، وأنشأنا بعدها قوما آخرين.
روى أن المراد أهل قرية مخصوصة كانت باليمن تسمى (حضور)، وكان لهم نبي فقتلوه فانتقم الله منهم، ولما رأوا أمارة العذاب خرجوا هاربين، فقالت لهم الملائكة استهزاء بهم: لا تركضوا وارجعوا فرجعوا وقتلوا. فلما رأوا القتل قالوا يا ويلنا: إنا كنا ظالمين، ولكن هيهات أن ينفع الندم..!!
فلما أحسوا بأسنا، ورأوا عذابنا الشديد إذا هم يهربون ويفرون مسرعين يركضون دوابهم ويستحثونها، عندئذ. قيل لهم من الملائكة: لا تركضوا، وارجعوا إلى نعمكم التي أبطرتكم وحملتكم على الظلم والكفر والغرور لعلكم تسألون، من الذي أنزل بكم هذا؟! أو تسألون لماذا كان هذا العذاب؟! لما قالت لهم الملائكة: لا تركضوا، وارجعوا إلى مساكنكم ونعمكم، ونزل بهم العذاب من كل جانب كانوا يسمعون مناديا يقول: يا لثارات الأنبياء!! قالوا حينذاك: يا ولينا ويا هلاكنا. إنا كنا ظالمين! فما زالت تلك دعواهم، وما زالوا يرددون تلك المقالة حتى جعلهم ربك كالزرع المحصود بالمنجل، خامدين ميتين لا حركة بهم، كالنار إذا انطفأ لهيبها وأصبحت خامدة لا حياة فيها.
هذا هو الحكم العدل، والقول الفصل، ما يفعل الله بهم هذا إلا بسبب ظلمهم وكفرهم، وها هي ذي آيات عدل الله، ناطقة شاهدة.
وما خلق السماء المرفوعة، والأرض الموضوعة، وما بينهما من عجائب الخلق للهو واللعب كما يفعل بعض الخلق في دنياه، ولكنها آيات شاهدة على حكمة الحكيم، وقدرة القادر العليم، وعدل الحق- سبحانه وتعالى-، وكانت ميادين للتفكير السليم، والنظر
لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا، ومن جهة قدرتنا، ولكنا لم نرد إلا الحكمة والصواب فيما خلقنا وفعلنا، وما كنا فاعلين اللهو واللعب أبدا.
وبعضهم يفسر اللعب بالولد، واتخاذه من لدن الله أى: من الملائكة، وذلك ردا على من اتخذ المسيح أو عزيرا ابنا لله- سبحانه وتعالى-.
بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه، وبل هنا إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب، وتنزيه منه لذاته كأنه قال: سبحاني! لا أتخذ اللهو واللعب من عاداتي، بل من صفاتنا وموجب حكمتنا، وتنزهنا عن القبيح أن نغلب الجد على اللهو واللعب، وندحض الباطل بالحق، استعار القذف والدمغ لضياع الباطل وفنائه، لتصويره بالصورة الحسية المؤثرة، وبيان أثر الحق في محو الباطل ومحقه، فجعل الحق كأنه جرم صلب كالصخرة يقذف به في وجه الباطل، وهو رخو لين، فدمغه وشج رأسه، حتى لم يعد له بقاء في الوجود.
إنه لتصوير رائع مؤثر يهز النفوس، ويستولى على المشاعر، ويجعلنا نتصور الباطل كسير الجناح، ذليل النفس، مشوه الوجه فَإِذا هُوَ زاهِقٌ.
ولكم أيها الظالمون المشركون الويل والثبور والهلاك والدمار، مما تصفون به ربكم من اتخاذ الولد والشريك- سبحانه وتعالى-، وكيف يكون ذلك؟ وله من في السموات والأرض، ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا، فكيف يكون له فيهما شريك؟
ومن خلقه فيهما مجادل ومخاصم؟! ومن عنده من الملائكة لا يستكبرون عن عبادته، والعندية عندية مكانة وتشريف فكيف بكم تستكبرون عن عبادته؟
والملائكة همهم العبادة ليلا ونهارا، لا يستكبرون ولا يعيون، ولا يتعبون، خلقوا هكذا، ليس فيهم داعية من دواعي الشر، وهم لا يفترون...
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩)
المفردات:
يُنْشِرُونَ: النشر: إحياء الموتى من قبورهم، والحشر: سوقهم إلى أرض المحشر لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ لا يتقدمون عليه في قول، بل يقولون بعد قوله، ويصدرون بعد أمره مُشْفِقُونَ خائفون.
ويقول الزمخشري- رحمه الله- وأسكنه فسيح جناته جزاء ما قدمه لخدمة القرآن وبيان أسراره- فيما كتبه في الكشاف عن «أم» التي في هذه الآية: وهذه أم المنقطعة التي هي بمعنى بل (الإضرابية) والهمزة. قد آذنت بالإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها..
المعنى:
بل اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون؟!! والمنكر هو اتخاذهم آلهة من الأرض تحيى الموتى للبعث والحساب، نعم إن من أفظع المنكرات أن يحيى الجماد الموتى، عجبا هم ينكرون البعث والحساب ويقولون: أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد؟ من يحيى العظام وهي رميم؟!! ثم بعد ذلك يتخذون آلهة من الأرض هم ينشرون!! نعم في اتخاذهم هذه الأصناف آلهة إلزام لهم بأن ينسبوا لها إحياء الموتى، فإنه لا يقدر على إعادة الحياة إلا الإله الذي بدأ الحياة، وفي هذا من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل لهم ما لا يخفى فإن ما استبعدوه على الله من البعث لا يصح لأنه لازم للألوهية وانظر إلى قوله- تعالى-: آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ!! فإنهم من الأرض! ولا تعبد إلا فيها...
لو كان في السماء والأرض آلهة شتى تدبر أمرها غير الواحد الأحد الفرد الصمد الذي فطر السموات والأرض لفسدتا إذ من المعلوم أن أى عمل يفسد بتدبير رئيسين كل يدعى لنفسه حق الرياسة والتوجيه لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف، ولله در عبد الملك بن مروان إذ قال حين قتل عمرو بن سعيد: كان والله أعز على من دم ناظري، ولكن لا يجتمع فحلان في شول، ولعلماء التوحيد في بيان الفساد عند وجود الشريكين أدلة منطقية وفروض شتى ليس هذا مكانها، وإن حسن الاطلاع عليها.
ولما أقام الله- سبحانه وتعالى- الأدلة القاطعة على التوحيد قال: فسبحان الله رب العرش عما يصفون: نزه الله نفسه، وأمرنا أن ننزهه عما يصفه المشركون.
بعض من يدعى الشريك لله يرى أن في العالم نورا وظلمة، وخيرا وشرا وغير ذلك مما يشبهه ويقول: لا يمكن أن يصدر هذا من إله واحد. إذ يسأل عن الشر لم فعلته وأنت إله الخير؟
فرد الله عليهم بقوله: إنما هو إله واحد يصدر عنه كل شيء في الوجود، وهو لا يسأل أبدا عن فعله لم فعلت؟! والخلائق هي المسئولة عن أعمالها ومجزية عنها.
وإذا كان الرئيس الموثوق فيه لا يسأل عن عمله، مع أنه عرضة للخطأ لأنه مخلوق ضعيف، فكيف بالخالق- سبحانه وتعالى-؟! أم اتخذوا من دون الله آلهة؟! قل: هاتوا برهانكم ودليلكم على ذلك إن كنتم صادقين.
هاتوا برهانكم من جهة العقل، ولن تجدوا. أما من جهة النقل فلن تجدوا، هذا هو الكتاب المنزل على من معى، وهذا ذكر من قبلي أى الكتاب المنزل على من تقدمني من الأنبياء كموسى وعيسى وداود فعندكم القرآن الذي نزل علىّ، والتوراة التي نزلت على موسى، والإنجيل الذي نزل على عيسى والزبور الذي نزل على داود، هل في هذه الكتب حجة لكم على الشرك بالله.
بل أكثرهم لا يعلمون فهم الجهلاء بأنفسهم وبما يدعون.
ذلك الكتاب المنزل عليكم هو الحق من عند ربكم فاسمعوا له وأطيعوا، وإلا فأنتم معرضون عنه، ومن أعرض عن ذكر الله فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى.
وها هي ذي خلاصة الرسالات السماوية من لدن آدم إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم جميعا، أنه لا إله إلا هو فاعبدوه وحده لا تشركوا به شيئا أبدا فهل لكم حجة عقلية أو نقلية في اتخاذ الآلهة من دون الله؟!! ثم بعد ذلك نفى اتخاذ الولد له- سبحانه- فإن الولد يشبه أباه في شيء ويخالفه
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، قيل: نزلت في خزاعة حينما ادعوا أن الملائكة بنات الله وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [سورة الصافات آية ١٥٨].
سبحانه وتعالى: نزه الله نفسه عن ذلك، وأمرنا أن ننزهه عن ذلك، ثم أخبر عن الملائكة أنهم عباد والعبودية تتنافى مع الولدية، فهم عباد إلا أنهم مكرمون ومقربون ومفضلون على كثير من الخلق لما هم عليه من العبادة، فهم خلق من خلق الله دأبهم العبادة ليلا ونهارا، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، لا يسبقونه في قول بل يعملون كما يؤمرون لا علم لهم بشيء بل الله يعلم ما بين أيديهم من أحوال القيامة وما خلفهم من أحوال الدنيا، وهم لا يشفعون إلا لمن ارتضاه ربه من عباده المؤمنين ثم مع هذا كله هم من عذاب ربهم مشفقون وخائفون.
فكيف تجعلونهم أولادا لله؟!!، وكيف تكفرون أنتم بالله بعد هذا؟!! وبعد أن وصفهم الله بما وصف فاجأهم بالوعيد الشديد، وأنذرهم بالعذاب الأليم ليعتبر الناس وليعلموا جرم الشرك، وفظاعته عند الله، وعظم شأن التوحيد ومكانته عند الله فقال:
ومن يقل منهم- على سبيل الفرض- إنى إله من دون الله فسنجزيه جهنم وبئس القرار. مثل ذلك نجزى نحن الظالمين والمشركين فإنه لا يفعل معهم هذا إلا الله الواحد القهار.
الأدلة الكونية على وجود الواحد الأحد [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)
رَتْقاً الرتق السد ضد الفتق يقال رتقت الفتق أرتقه فارتتق أى التأم والمراد كانت ملتزقتين ففصل الله بينهما رَواسِيَ جبال ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ خوف أن تتحرك وتضطرب فِجاجاً مسالك وطرقا، والفج: الطريق الواسع بين الجبلين الفلك: مدار الشمس والقمر والنجوم.
هذه هي الأدلة المادية على وجود الواحد الصانع القادر المختار بعد الأدلة العقلية والنقلية ومناقشة الكفار السابقة في اتخاذهم شريكا له، وفي هذا لفت لأنظار المشركين إلى جهة الكون وما فيه.
المعنى:
أعموا ولم يروا أن السموات وما فيها والأرض وما عليها كانت رتقا، وكانت السماء والأرض جزءا واحدا ففتقهما القادر المختار وجعل كل جزء في جهة ويدور في فلك، ويؤدى مهمته على أكمل وجه.
يا أخى: اعلم أن القرآن معجز حقا، وليس إعجازه في جمال أسلوبه. وكمال نظامه وترتيبه فقط ولكنه معجز أيضا في دلالته على أمور علمية دقيقة عميقة، لم تظهر لنا إلا بعد أن أثبتها العلم بما لا يقبل الشك، فإذا عدنا إلى القرآن وجدناه ينادى بها من القرن السادس الميلادى، أيام كانت الدنيا تغوص في بحر الجهالة والضلالة، فمن أعلم محمدا بهذا، ومن الذي علمه ذلك!!؟
من هذه نظرية السديم. فقد أثبت العلم أن الشمس والكواكب والأرض كلها كانت قطعة واحدة ثم انفصلت بكثرة الدوران وبقدرة الحكيم الخبير فصارت إلى ما نرى من الدقة والنظام بفعل الجاذبية الذي خلقه الله في الكون.
أليس هذا هو عين ما يقوله القرآن الكريم أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ولقد سبق أن تكلمنا عن نظرية خلق السموات والأرض «نظرية السديم» في الجزء الثاني عشر ص وقد ذكروا رأيا آخر في الآية:
أن السموات والأرض كانتا رتقا لا تمطر ولا تنبت ففتقنا السماء بالمطر والأرض بالنبات.
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ وقد جعل الله- سبحانه وتعالى- كل شيء حي من الماء يغتذى به ويرويه، ولا يمكن أن يصبر عليه وهو حي، على أنه أصله فالحيوان من النطفة التي هي ماء، والنبات لا ينبت أبدا إلا بالماء.
فالماء عنصر مهم جدا لحياة الكائن الحي من حيوان ونبات، ألم تر أن الحيوان قد يعيش بدون غذاء حوالى سبعين يوما ما دام يشرب ماء، ولا يعيش بدون الماء أياما قليلة، والنبات يجف ويموت وهو في وسط الأرض التي منها غذاؤه إذا لم يرو بالماء، فالماء والكائن الحي صنوان لا يفترقان فإذا افترقا هلك الحي.
وجعلنا في الأرض رواسى شامخات من الجبال خوف أن تميد بالناس وتضطرب، وهي تدور حول نفسها وحول الشمس.
وجعلنا فيها طرقا واسعة وأودية مترامية الأطراف بين الجبال ليصلح عليها السير والإنبات لعلكم تهتدون إلى الصانع المختار.
وهم عن آياتها معرضون.
هو الذي خلق الليل والنهار بفضل دوران الأرض حول نفسها، وخلق الشمس والقمر كل واحد منهما يدور في فلك له، يسبحون في الفضاء اللانهائى الذي لا يعلم حدوده إلا الله.
نرى أن الله- سبحانه وتعالى- ساق الدليل على وحدانيته وقدرته، تأييدا لما مضى من قوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا والقرآن يجنح دائما للأدلة الكونية ويلفت النظر إلى هذا الكون وما فيه من عجائب ليعتبر الناس كلهم به أما الجاهل فلما يراه فيه ببصره، ويسمع بأذنه ويلمس بيده، وأما العالم فلما يرى ويحس، ويعلم من أسرار وقضايا علمية، ونظريات كونية، وسبحان من هذا كلامه.
ولسائل أن يسأل. كيف يقول الله لهم أو لم يروا؟ ومتى رأوا حتى يجيء تقريرهما بذلك؟ والجواب كما ذكر الكشاف والفخر: حيث ورد الرتق والفتق في القرآن وقام الدليل الذي لا يقبل الشك على أنه معجزة وأنه من عند الله، وأنه صادق قام ذلك مقام الرؤية، فإذا أضيف إلى ذلك ثبوت نظرية الرتق والفتق علميا كان الاستفهام وما فيه من تقرير وتعجب آية من آيات الله.
من مواقف المشركين مع النبي صلّى الله عليه وسلم [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٤ الى ٤١]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨)
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١)
هُزُواً سخرية بَغْتَةً فجأة فَتَبْهَتُهُمْ فتغلبهم وتحيرهم فَحاقَ أحاط ودار: هذا هو موقفهم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أعيتهم الحيل، وانقطعت بهم السبل.
وغلبتهم الحجج أخذوا يعللون أنفسهم بموت النبي صلّى الله عليه وسلم.
المعنى:
لقد كانوا يمنون أنفسهم بموت النبي صلّى الله عليه وسلّم فيشمتون فيه ويستريحون منه فنفى عنه الشماتة بهذا، وقضى قضاءه العدل بأنه لا يخلد في الدنيا أحد. فلا أنت، ولا هم بباقين فيها، وإذا كان الأمر كذلك أفإن مت فيبقون هم أحياء؟! أفإن مت فهم
فهكذا يحفظ الله دينك بعد موتك يا محمد ما دام القرآن موجودا.
والله- سبحانه وتعالى- قضى أن يختبر الناس بما يعطيهم من خير أو شر وكان ابتلاؤه بالخير دقيقا جدا قل من ينجح فيه فإن شكروا في الخير والنعيم، وصبروا في الشر والبلاء، فذلكم هم الفائزون، وإن أبطرتهم النعمة وجزعوا من البلاء فأولئك هم الخاسرون، وإلى الله ترجع الأمور.
وإذا رآك الذين كفروا ما يتخذونك إلا هزوا وسخرية لأنك تذم آلهتهم، وتعيب أصنامهم، وتذكر الرحمن الرحيم بالخير والتمجيد والتقديس والعبادة ويقولون: أهذا الذي يذكر آلهتكم بالسوء ويذكر الرحمن بالخير؟! ومن أحق بالاستهزاء والسخرية؟
أمن يذكر الأصنام والحجارة بالخير، ويذكر الرحمن بالسوء والشر وهم الكافرون أم النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي يقدس فاطر السموات والأرض؟!.
إنهم هم الأحق بالاستهزاء والسخرية لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه، وهم بذكر الرحمن هم وحدهم كافرون!! كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى الإيمان والإقرار بالعبودية لله وبالرسالة لمحمد اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [سورة الأنفال آية ٣٢].
فيقول الله لهم: خلق الإنسان من عجل حتى كأن العجل جزء من مادة تكوينه، وهذا طبع في الإنسان كله وغريزة فيه، سأريكم آياتي الدالة على القدرة وعلى صدق رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم فلا تستعجلون، وقد رأوا ذلك في نصرة الدين وإتمام نور الله ولو كره الكافرون.
وكانوا يقولون: متى هذا الوعد؟ إن كنتم صادقين أيها المؤمنون.
وهذا الاستعجال فيه معنى التكذيب والكفر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن.
والله حين ينهانا عن العجلة مع أنها غريزة وطبع فينا إنما يطالبنا بأن نحكم العقل
لو يعلم الذين كفروا الوقت الذي يستعجلونه بقولهم: متى هذا الوعد؟ مع أنه وقت صعب، وموقف شديد إذ تحيط بهم النار من كل جانب فلا يقدرون على دفعها على أنفسهم، ولا يجدون لهم ناصرا ينصرهم.
لو يعلمون هذا ويعرفونه حقا لما كفروا بالله واستهزءوا برسول الله، واستعجلوا يوم العذاب، ولكن جهلهم به، وعدم تبصرهم في الأمور بعين سليمة وقلب خال من الغل والحسد، وسوء التقليد هو الذي دفعهم إلى ذلك وهون عليهم عملهم هذا.
وأما أنت يا محمد فصبر جميل فهذه هي طبيعة الناس مع كل من يدعوهم إلى الخير والرضوان فقديما استهزءوا برسل الله قبلك وفعلوا معهم الأفاعيل فكان جزاؤهم من الله أن أحاط بهم العذاب من كل جانب وأذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، ونجى الله رسله ومن معهم من المؤمنين، وإن الله على نصرهم لقدير.
لا راد لقضاء الله [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٤٢ الى ٤٦]
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦)
يَكْلَؤُكُمْ يحرسكم ويحفظكم، والكلاءة: الحراسة والحفظ، كلأه الله حفظه يُصْحَبُونَ يجارون من عذابنا نَفْحَةٌ نصيب قليل.
المعنى:
إن استهزأ بك هؤلاء المشركون تكذيبا لك وإضعافا لشأنك فلا يهولنك ذلك أبدا فقد استهزئ برسل من قبلك، فحاق بالذين سخروا منهم سوء العذاب بما كانوا يستهزئون.
وأنت يا نبي الله قل لهم: من يحفظكم من عذاب الله إن أتاكم؟ ومن يحفظكم ويرعاكم بالليل وأنتم نيام ميتون الموتة الصغرى؟! ومن يكلؤكم وأنتم بالنهار تغدون وتروحون؟! من يحفظكم من عذاب الرحمن وبأسه إذا أراد أن ينزله بكم؟! وانظر إلى تعبير القرآن الكريم الذي آثر ذكر الرحمن صاحب النعم للإشارة إلى أن عدم إيقاع العذاب على الكفار والعصاة من أتم النعم على الإنسان، لعله يبوء إلى نفسه، ويرجع إلى ربه وإذا كان لا راد لقضائه، فلن يمنع مانع من إيقاع العذاب بكم!! بل هم عن ذكر ربهم ذكرا قلبيا تسكن إليه النفوس، وتطمئن له القلوب معرضون بل ألهم آلهة يعبدونها تمنعهم عن عذابنا، وتقف حائلا دون تنفيذ أمرنا؟ ليس لهم ذلك إذ آلهتهم لا يستطيعون نصر أنفسهم فضلا عن نفع غيرهم ونصره. وليس لهم شفيع، ولا هم يمنعون عن عذاب الله أبدا.
ولا يغرنكم تقلب الذين كفروا في النعيم، وما هم فيه من غنى وجاه فهو متاع أعطاهم الله إياه ليس لأحد فيه يد، وليس هناك مانع منع الله من إيقاع العذاب بهم بل متعهم الله به حتى تطول أعمارهم، وتقسو قلوبهم، وتسوء أعمالهم، ويكون حسابهم شديدا، وجزاؤهم نارا وحميما، وليس تركهم عن عجز أو تقصير. أعموا
هذه السورة مكية، وحالة المسلمين في مكة كما تعرف يا أخى كانت شديدة، فهل لنا أن نفهم أن المراد بالأرض أرض الكفر، ومعنى نقص أطرافها دخول الناس في الإسلام شيئا فشيئا، واتساع نفوذ الإسلام شيئا فشيئا على حساب أرض الكفار ونفوذهم، وهذا فهم يصح أن يكون إذا تجاوزنا في فهم نقصان الأطراف نوعا ما أو نقول إن هذا من باب الإخبار بالغيب.
وبعض العلماء يقول: هذه آية سيقت للدلالة على قدرة الله- سبحانه وتعالى- حتى لا يفهم المشركون أن تركهم بدون إيقاع العذاب بهم عن عجز أو تقصير. لا:
بل هي الحكمة الإلهية، والترتيب الرباني للمسلمين. فيكون المعنى أفلا يرى الكفار أنا نأتى الأرض أى الكرة الأرضية ننقصها من أطرافها أى: في الشمال والجنوب فعلماء الطبيعة يقولون: إن الأرض ليست تامة التكوير والاستدارة بل منبعجة في الوسط مفرطحة من جهة القطب الشمالي والجنوبي وهذه آية كونية يفسرها العلم الحديث بعد نزولها بثلاثة عشر قرنا.
والرأى الأول لا بأس به أيضا لقوله تعالى: أَفَهُمُ الْغالِبُونَ؟ فإن معناها كيف يكونون غالبين بعد نقصنا لأرضهم من أطرافها وتقليل عددهم بمن يدخل في الإسلام ولو سرّا وفي هذا إشارة إلى غلبة المسلمين ونصرة أصحاب الحق مهما لاقوا ومهما حصل لهم، قل لهم يا محمد تهديدا لهم: إنما على البلاغ، وعلى الله الحساب، وإنما أنذركم بالوحي والقرآن، وأبين لكم عاقبة كفركم بما أتحدث به عن الأمم السابقة، وذلك شأنى؟ وما أمرنى الله به. ولكن هل يسمع الصم الدعاء؟ إذا ما ينذرون!! لا:
إنه لن يسمع أولئك الذين ختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة فقلوبهم مغلقة لا يدخلها خير أبدا فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ وقد قالوا: إن هناك حواس لإدراك المعنويات من الإنذار والتخويف، ومحلها القلب وسيأتى بيان ذلك قريبا إن شاء الله.
وتالله لئن مستهم نفحة قليلة من عذاب ربك ليقولن: يا ويلنا ويا هلاكنا، إنا كنا ظالمين.
[سورة النبأ آية ٤٠].
عدل السماء [سورة الأنبياء (٢١) : آية ٤٧]
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧)
المفردات:
الْقِسْطَ العدل مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مثقال الحبة وزنها، وحبة الخردل مثل في الصغر.
المعنى:
لا غرابة في عذاب هؤلاء المشركين والتشديد عليهم، والتنكيل بهم فالله حكم بذلك، وحكمه العدل، وهو صاحب الميزان القسط، وهو الذي يقول: ونضع الموازين العادلة يوم القيامة، وهل هناك موازين حقيقية توزن بها الأعمال بعد تجسيمها؟
أو هي موازين توزن بها الأمور المعنوية كما توزن بموازيننا الأمور الحسية؟ وأظن بعد اختراع موازين للضغط وللحرارة، وللحركة وغيرها من الأمور العارضة لا تستبعد من الله القوى القادر أن تكون هناك موازين لوزن العمل والإخلاص فيه لا تخطئ أبدا، وقال بعضهم: إن هذا كناية عن عدل الله المطلق الذي يعطى كل ذي حق حقه مهما كان والله أعلم بكتابه.
فلا تظلم نفس شيئا أبدا أى: فلا ينقص من إحسان محسن، ولا يزاد في إساءة
موسى وهارون [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٤٨ الى ٥٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠)
المفردات:
الْفُرْقانَ التوراة التي أنزلت على موسى.
يقول الفخر الرازي في كتابه الفخر: اعلم أنه- سبحانه وتعالى- لما تكلم في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد. شرع في قصص الأنبياء تثبيتا للقلوب وتطمينا للنفوس وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة هود آية ١٢٠].
المعنى:
وتالله لقد آتينا موسى وهارون التوراة الفارقة بين الحق والباطل والفارقة بين الحلال والحرام، والضياء الذي يتوصل به إلى طريق الهداية وسبل النجاة إذ هي تعرفك بالله وبشرائعه، وكانت ذكرى وموعظة فيها كل ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم، ولكن لن ينتفع بها إلا المتقون، وهكذا القرآن!! نعم: وهذا كله إنما ينتفع به المتقون الذين يخشون ربهم ويخافون حسابه فيأتمرون
وهم من الساعة وهولها مشفقون وخائفون.
وقد كانت التوراة كذلك هدى وضياء وذكرى قبل أن يحرفوا كلمها عن مواضعه، ويغيروا ويبدلوا فيها.
وكما أنزل الله على موسى وهارون الفرقان فكذلك أنزل عليك يا محمد القرآن، وها أنا أنذركم بما فيه، ولست بدعا فالأنبياء قبلي كانت لهم كتب كالتوراة وغيرها.
وهذا القرآن ذكر مبارك ونور وهداية، فيه الخير والهدى والعلم والمعرفة، وفيه النجاة والسعادة، والفوز والفلاح.
فيه أسباب سعادة الدنيا والآخرة إذ هو علاج لكل داء، ودواء لكل مرض، وقد أثبتت الحوادث ذلك فيما نرى.
أفأنتم له منكرون بعد هذا؟!! إن هذا لعجيب!!!
شيء من قصة إبراهيم عليه السلام [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥١ الى ٧٣]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠)
قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥)
قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠)
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣)
رُشْدَهُ الرشد: اسم جامع للهدى والخير ووجوه الصلاح التَّماثِيلُ جمع تمثال وهو الصنم، والتمثال: اسم المصنوع الذي يشبه المصنوع الذي يشبه خلقا من خلق الله تعالى عاكِفُونَ مقيمون على عبادتها فَطَرَهُنَّ خلقهن وأبدعهن لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ لأمكرن بها جُذاذاً فتاتا، والجذ الكسر والقطع وقرئ جذاذا أى: كسرا وقطعا جمع جذيذ وهو الهشيم. قال الشاعر:
جذذ الأصنام في محرابها | ذاك في الله العلىّ المقتدر |
وفرق بعضهم بين الصنم والوثن فالصنم هو المصنوع من المعدن يذوب في النار، والوثن المصنوع من الخشب أو غيره، وأما التمثال فيلاحظ فيه أنه يشبه إنسانا أو حيوانا...
إبراهيم خليل الله وأب الأنبياء، ذكر في القرآن كثيرا لعدة أغراض، وكان قومه أهل أوثان، وكان أبوه نجارا، يصنع الأصنام ويبيعها للناس، وأما إبراهيم فقد صنعه الله على عينه ورباه على يده، وهداه إلى الرشد فعلم أن الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تغنى شيئا، وما هي إلا خشبة أو حجر صنعها أبوه أمامه بالقدوم.
وها هو ذا إبراهيم قد رأى في الأوثان العجب، وفي عبادتهم لها ما يبعث الهم والحزن، فأخذ يناقشهم ويجادلهم تارة بالحسنى، وطورا بالشدة، مرة مع أبيه، وأخرى مع الملك، وثالثة مع الجمهور، جادل وناقش فلما لم ينفع حطم الأصنام بيديه ليكلموه في شأنهم لعلهم بذلك يرجعون إلى الصواب، وانتهى الأمر إلى أن أوقدوا له نارا، وألقوه فيها فنجاه الله منها ثم هاجر من بلده (فدان آدرام) بالعراق إلى الشام ثم وهب الله له إسماعيل وإسحاق ثم يعقوب نافلة، وكانوا لله عابدين.
ولقد آتينا إبراهيم رشده، ووفقناه لوجوه الصلاح والخير، وآتيناه الحكمة من قبل ذلك، وكنا به عالمين، وهذا يفيد أن إبراهيم- عليه السلام- خلق ونفسه مطبوعة على التوحيد، وحب الخير والنظر السليم للأمور، لهذا لم يعجبه ما هم عليه من عبادة الأصنام التي لا تحس ولا تشعر!! واذكر إذا قال إبراهيم لأبيه وقومه: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، وعلى عبادتها مقيمون؟!! وهذا استفهام المراد منه التجاهل والتحقير لشأنها مع علمه بأنهم يعظمونها ويجلونها، وهو يفيد إنكار عبادتهم لها.
وانظر إلى الجهل المطبق، والعمى عن طرق الخير والسداد، وانظر إليهم وهم يجيبونه على سؤاله حيث قالوا: إنا وجدنا آباءنا لها عابدين!!.
ما أقبح الجهل! وما أتعس الجهلاء!! ليس في أصنامهم وأوثانهم من خير أبدا، وليس فيها فضل أبدا، وليس معها مقتض للعبادة والتقديس إلا أن آباءهم لها عابدون؟
وأنهم على آثارهم مقتدون: يا للعار! ويا للشنار!! وما أعظم كيد الشيطان حين استدرجهم إلى تقليد آبائهم في عبادة التماثيل، وهم معتقدون أنهم على شيء، ويجادلون بالباطل أهل الحق! ألا لعنة الله على الضالين المقلدين.
وأما إبراهيم فقال لهم: لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين، وفي العبارة من التأكيد ما لا يخفى حيث قال: «أنتم» وقال «في ضلال»... نعم أنتم وآباؤكم منخرطون في سلك، ومجتمعون في شمل واحد حيث عبدتم حجرا أو خشبة، وسندكم في عبادته هوى متبع وشيطان مطاع.
أما هم فحينما صدموا بهذا الرد الشديد، والحجة التي قرعت أسماعهم، وملأت نفوسهم ألما وحزنا قالوا متعجبين: أجئتنا بالخير والحق الصريح أم أنت من اللاعبين الهازلين؟! وهكذا المغرور المخدوع حينما يجابه بالحقائق الناصعة يستبعد أن ما عليه هو وأبوه ضلال وخطأ، فيتعجب لذلك.
قال إبراهيم: ربكم الذي يستحق العبادة والتقديس وتعفير الوجه له بالتراب، رب السموات والأرض الذي فطرهن، وخلقهن على مثال عجيب ووضع دقيق وأنا على
وذلك أنه كان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه فقالوا لإبراهيم: لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فقال إبراهيم في نفسه: تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ وقد تخلف عنهم بحجة أنه مريض فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ [سورة الصافات آية ٨٩].
فلما ذهبوا دخل على الأصنام، وأمامهم الأكل فجعلهم جذاذا وقطعا أى: كسرهم جميعا إلا كبيرهم فقد وضع الفأس على كتفه. وهذا هو الكيد الذي أقسم ليفعلنه بها وإنما فعل ذلك لعلهم إلى إبراهيم ودينه يرجعون، حيث يرون أن الأصنام لم تقدر على دفع الأذى عن نفسها، أو المعنى لعلهم إلى الصنم الأكبر يرجعون في تكسيرها، ويحملونه تبعة ذلك، ويسألونه أين كنت؟ ولماذا كسرت تلك الأصنام؟ وأنت صحيح. والفأس على كتفك، ولعل المعنى: لعلهم إلى هذا الصنم يرجعون استهزاء بهم وبآلهتهم.
ولما رأوا ذلك، وقد غاظهم ما حل بآلهتهم قالوا، من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين المتجاوزين الحد في عملهم.
قال بعضهم: سمعنا فتى يذكر الآلهة بسوء يقال له: إبراهيم فهو الذي فعل بهم ما فعل.
قال نمروذ وأشراف قومه. ائتوا به على أعين الناس ليكون ظاهرا بمرأى منهم حتى يروه ويشهدوا. فيكون ذلك حجة دامغة عليه.
ولعل نسبة الفعل إلى الصنم من جهة أنه هو الذي غاظه كثيرا فحمله على التكسير فكأنه هو الفاعل للفعل.
فلما حاروا وبهتوا من إجابة إبراهيم ومناقشته لهم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: إنكم أنتم الظالمون، ولكن أترى إبليس يتركهم يتوصلون إلى الحق؟! لا بل وسوس لهم وزين حتى أنهم بعد هذا نكسوا على رؤوسهم ورجعوا إلى الباطل يدافعون عنه وينغمسون في حمأته قائلين:
كيف تطلب منا سؤالهم؟ لقد علمت ما هؤلاء ينطقون!! قال إبراهيم مقاطعا ومفحما لهم فيما يتقولون: أتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا من النفع ولا يضركم شيئا من الضرر، إذ أنه لا يقدر على الكلام أصلا، ولم يمكنه أن يدفع عن نفسه شيئا؟!! أف لكم!! ولما تعبدون من دون الله، أعميتم فلا تعقلون شيئا أبدا؟!! فلما أعيتهم الحيل كلها في إبراهيم وإسكاته، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت:
قالوا: لا ينفعه أبدا إلا الموت، ولا يريحنا منه إلا إهلاكه، وليكن هلاكه على أفظع صورة، وبأقبح شكل، وهو إحراقه بالنار فإذا تم ذلك كان لكم النصر ولآلهتكم الفوز، إن كنتم فاعلين شيئا حقا فافعلوا هذا.
ولكن الله- سبحانه- الذي تكفل لعباده وخاصة الأنبياء بالحفظ والرعاية والكلاءة والمعونة أبى إلا نصر إبراهيم وحفظه من النار التي تذيب الحديد، وتصهر المعدن والفولاذ.
قال الله: يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم فلم يشعر إبراهيم بشيء أبدا يؤلمه
وهكذا تكون عناية الله ورعايته للأنبياء والأولياء والصالحين من عباده، ألم تر إلى قريش وقد جمعت جموعها، وتشاورت في أمرها. واتفقت فيما بينها على أن تقتل محمدا، ولكن أين لهم هذا!! والله تعالى يقول: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة ٦٧]
وروى أبى بن كعب- رضى الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك» قال ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع فاستقبله جبريل فقال:
يا إبراهيم ألك حاجة قال «أما إليك فلا»، فقال جبريل فاسأل ربك فقال. «حسبي من سؤالى علمه بحالي» فقال الله: يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم.
وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين، ونجيناه ولوطا ابن أخيه إلى أرض الشام، التي باركنا فيها حيث كانت مهبط الأنبياء، وإحدى القبلتين، وكانت من حيث الماء والزرع فيها بركة وخير للساكنين بها.
ووهبنا لإبراهيم إسحاق، ومن ولده كان يعقوب جعلناه صالحا تقيا.
وجعلناهم أئمة مهديين يقتدى بهم في الخيرات، وأعمال الصالحات كل ذلك يأمرنا، وبما أنزلناه عليهم من الوحى والإلهام، ومن هنا نفهم أن من ينصب نفسه إماما يجب أن يكون مهديا: بطبعه مصلحا لنفسه ثم يصلح غيره، وأو حينا إليهم فعل الخيرات، والطاعات، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وكانوا لنا عابدين مطيعين.
طرف من قصة لوط ونوح عليهما السلام [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٤ الى ٧٧]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧)
وآتينا لوطا الحكم والنبوة، والعلم والمعرفة، بأمور الدين والدنيا، وآتيناه علما نافعا وفهما سليما، وتلك مقومات النبوة وأسسها، وهكذا يعد الله- سبحانه- من يتحمل رسالته بما يجعله أهلا لها وأحق بها، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
ونجيناه من القرية (سدوم) التي بعث فيها، وكانت تعمل الخبائث والمنكرات، تلك القرية الظالم أهلها بالفسق والفجور، إذ كانوا يأتون في ناديهم المنكر، وكانوا يأتون الرجال من دون النساء كما تقدم في سورة هود.
وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين.
وهذا هو نوح الأب الثاني للبشر، اذكر وقت أن نادى من قبل إبراهيم ولوط، نادى داعيا على قومه فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «١».
فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر، ولم يدع على قومه بهذا إلا بعد أن دعاهم بالحسنى ألف سنة إلا خمسين عاما ولكنهم أبوا إلا العناد والكفر.
فاستجاب الله دعاءه وأنزل بهم العذاب، وأغرقهم بالماء الذي هو مصدر الحياة، فكان عندهم مصدر الفناء، ونجا الله نوحا والمؤمنين معه من الغرق والكرب الشديد، ونصره على القوم الكافرين المكذبين الذين كذبوا بآياتنا، وذلك جزاء الظالمين.
فهل لكم يا كفار مكة أن تعتبروا وتتعظوا بمن سبقكم من قوم لوط ونوح وما حل بهم، وكيف كان النصر للمؤمنين، والعذاب الشديد للكافرين.
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢)
المفردات:
الْحَرْثِ هو الزرع عامة، وقيل: كان الحرث كرما. نَفَشَتْ:
النفش: الرعي ليلا، وفيه معنى التفرق في الزرع بلا نظام لَبُوسٍ اللبوس عند العرب السلاح بأنواعه، والمراد في الآية الدروع خاصة عاصِفَةً شديدة الهبوب يَغُوصُونَ الغوص: النزول تحت الماء. والغواص: الذي يغوص في البحر على اللؤلؤ.
المعنى:
واذكر يا محمد داود وسليمان. اذكر خبرهما وقت أن يحكما في شأن الحرث إذ
فقال صاحب الحرث: إن هذا انفلتت غنمه ليلا فوقعت في حرثى، فلم تبق منه شيئا، فقضى داود بأن يأخذ صاحب الحرث الغنم، فإنها تساوى قيمة الحرث التي أفسدته.
فلما سمع سليمان هذا الحكم رأى ما هو خير منه، وأرفق بالجميع فقال: ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها وسمنها وأصوافها، ويدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه حتى إذا عاد الزرع إلى حاله التي أصابته الغنم في السنة المقبلة رد كل واحد منهما ماله إلى صاحبه.. فقال داود يا بنى: القضاء ما قضيت، وقضى بما قضى به سليمان وأقره. وهذا معنى قوله: ففهمناها سليمان، أى: فهمنا سليمان القضية وحكمها العادل عدلا فيه تعويض وتعمير.
وكلا من داود وسليمان آتيناه حكما صحيحا، وإدراكا للأمور سليما، ومن هنا قيل: لكل مجتهد نصيب،
وفي الحديث الصحيح: أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران. وإن اجتهد فأخطأ فله أجر.
وهل كان حكم داود وسليمان عن اجتهاد أو عن وحى؟ الظاهر أنه عن اجتهاد.
ولما مدح الله داود وسليمان معا أخذ يذكر ما يختص به كل واحد منهما فبدأ بداود لأنه أب سليمان، فقال: وسخرنا مع داود الجبال يسبحن.
فكان داود إذا سبح سبحت الجبال معه، وقيل: كانت الجبال تسير مع داود فإذا رآها أحد سبح لله تعظيما له وتقديسا، وسخرنا مع داود الطير تسبح كما يسبح، وتمتثل أمره إذا أمر، وكنا فاعلين.
وعلمنا داود صنعة دروع لكم تقيكم من بأس الحرب وشدته، فهل أنتم شاكرون؟
ومعنى الاستفهام اشكروا الله على ما أسبغ عليكم من نعمه، ووفقكم إلى ما فيه خيركم وسعادتكم، والتركيب يفيد طلب الشكر طلبا شديدا.
ثم ذكر ما خص به سليمان- عليه السلام- فقال:
وسخرنا له الريح حالة كونها عاصفة شديدة الهبوب، فهي تجرى بأمره وتخضع
وسخرنا له من الشياطين من يغوصون في البحار، ويستخرجون من المعادن ما يحتاج إليه! ويعملون غير ذلك من بناء أبنية، ومحاريب وجفان كالجواب وقدور راسيات، وكنا لهم حافظين، فلا هرب ولا إفساد، ولا لعب بل كل يجتهد حسب ما يكلف.
هذه الآيات شهادة للعمال وأهل الحرف والصنائع، بأن العمل شرف واتخاذ الحرفة كرامة، ولقد قيل: صنعة في اليد أمان من الفقر، وقد أخبر الله- سبحانه وتعالى- عن نبيه داود- عليه السلام- أنه كان يصنع الدروع، وكان يأكل من عمل يده وكان نوح نجارا يصنع السفن، ولقمان خياطا، وهكذا التاريخ يحدثنا أن العمل كان ديدن الصالحين وطريق المؤمنين اثروا العمل على ذل السؤال وفي
الحديث الشريف: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير له من أن يسأل النّاس أعطوه أو منعوه».
فالإسلام دين لا يعرف البطالة ولا الكسل بل هو دين العمل والجد، والكسب والغنى، ولكن عن طريق الحلال لا عن طريق الحرام.
ولقد يفهم الناس خطأ أن الإسلام يدعو إلى الفقر والزهد والمكث في المساجد وعدم العمل، وهذا فهم خطأ، وإنما يحث الدين على القناعة والإجمال في الطلب وعدم التكالب على الدنيا فإن ذلك قد يدفع صاحبه إلى التعدي على أخيه وظلمه إرضاء لشهوة المال وجمعه.
أيوب عليه السلام [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٣ الى ٨٤]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤)
الضُّرُّ بفتح الضاد الضرر في كل شيء، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال.
المعنى:
واذكر يا محمد أيوب وخبره الحق وقت أن نادى ربه أنى مسنى الضر ولحقني التعب والهم، وأنت يا رب أرحم الراحمين.
أما ضر أيوب الذي لحقه فالمفسرون جالوا في تحديده وصالوا، وذكر القرطبي في ذلك خمسة عشر قولا. الأول: أنه وثب ليصلى فلم يقدر على النهوض فقال: مسنى الضر: إخبارا عن حاله لا شكوى لبلائه، وهذا لا ينافي الصبر إلى آخر الأقوال التي ذكرت في تفسير الآية.
والناس يروون في بلاء أيوب أقوالا يوردونها تدل على أنه مرض مرضا مشوها ومنفرا للناس.
وهذا يتنافى مع منصب النبوة، إذ الأنبياء منزهون عن الأمراض المنفرة، ويمكن أن نفهم أن الابتلاء بهذا الشكل كان قبل النبوة فلما صبر وصابر اجتباه الله واختاره نبيا، على أن المبالغين في تصوير ضر أيوب ومرضه إنما اعتمدوا فيما يقولون على ما جاء عند أهل الكتاب في السفر المسمى «سفر أيوب».
وبهذه المناسبة هذا السفر اختلفوا في وضعه هل هم اليهود. أو أيوب، أو سليمان، أو أشعيا، أو رجل مجهول الاسم، أو حزقيال، أو عزرا؟
واختلف أهل الكتاب في زمانه هل هو معاصر لموسى؟ أو لأزدشير، أو لسليمان أو لبختنصر، أو كان زمان قبل إبراهيم إلخ، حتى قال أحد علماء البروتستانت: إن خفة هذه الخيالات دليل كاف على ضعفها.
أما القول الحق فهو: أيوب عبد صالح امتحنه الله في ماله وأهله وولده وبدنه قصير ثم من الله عليه بالعافية، وأعطاه أكثر مما فقد، وأثنى عليه ثناء جميلا في القرآن وجعله نبيا، ولم يكن عنده المرض المنفر.
وورد «أشدّ النّاس بلاء الأنبياء ثمّ الصّالحون ثمّ الأمثل فالأمثل»
وصدق رسول الله.
إسماعيل وإدريس وذو الكفل [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٥ الى ٨٦]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦)
المعنى:
وذكر إسماعيل وهو ابن إبراهيم، وجد النبي- عليهم جميعا الصلاة والسلام- وإدريس نبي بعث بعد شيث وآدم- عليهم السلام- جميعا.
وأما ذو الكفل فالظاهر أنه عبد صالح ناب وأتاب إلى الله- سبحانه-، وكان من بنى إسرائيل.
روى من حديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: كان في بنى إسرائيل رجل يقال له ذو الكفل لا يتورع من ذنب عمله فأتبع امرأة فأعطاها ستين دينارا (على أن يطأها) فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال: ما يبكيك؟ قالت من هذا العمل والله ما عملته قط! قال: أأكرهتك. قالت: لا.
ولكن حملتني عليه الحاجة، قال اذهبي فهو لك. والله لا أعصى الله بعدها أبدا ثم مات من ليلته فوجدوا مكتوبا على باب داره إن الله قد غفر لذي الكفل
، والله أعلم بصحة هذا الحديث! وإسماعيل، وإدريس، وذو الكفل كلهم من الصابرين المحتسبين، وأدخلناهم في رحمتنا، وشملناهم بعطفنا وتوفيقنا. وذلك لأنهم كانوا من الصالحين القانتين.
وقد ذكر القرطبي في تفسيره بعد أن ساق الحديث السابق في ذي الكفل روايات قال عمر بن عبد الرحمن بن الحارث،
وقال أبو موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلم: إن ذا الكفل
إلى آخر ما ذكر... ولكن سياق الآية وفي سورة (ص) التي ذكر فيها كثير من الأنبياء «وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ» (٤٨) من سورة (ص) أليس دليلا على أنه نبي؟! على أن الكشاف: صرح بأنه نبي وله اسمان إلياس وذو الكفل أى: ذو الحظ الكثير.
يونس عليه السلام [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٧ الى ٨٨]
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)
المفردات:
وَذَا النُّونِ هو يونس- عليه السلام-. صاحب الحوت، والنون هو الحوت نَقْدِرَ من القدر والتقدير الذي هو القضاء والحكم، والمراد فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة. ، ويؤيد هذا قراءة نقدر وقيل المراد: أى نقتر يقال قدر يقدر أى: يقتر عليه وقوله تعالى اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أى: يبسط ويقتر أى:
فظن أن لن نضيق عليه.
قصة يونس- عليه السلام- صاحب الحوت من المواضع الدقيقة في القرآن الكريم التي تحتاج من الباحث سعة اضطلاع وحسن تصرف، وذلك أن القصة ذكرت في سورة الأنبياء كما هنا، وفي سورة (ص) الآتية، وفيهما يقول الله: إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً، ويقول في سورة (ص) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
ويقول كما هنا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ. إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.
المعنى:
واذكر يا محمد ذا النون وهو يونس إذ ذهب مغاضبا لله، أى: لأجل الله فيونس غاضب قومه من أجل ربه إذ يكفرون به ولا يصدقون برسله.
والظاهر أن يونس أرسل إلى قومه فعصوه، ولم يتبعه إلا القليل، وكان ذلك مما يحز في نفسه ويؤلمه ويغضبه، وكان يونس ضيق الصدر شديد الإخلاص لقومه كثير الحرص عليهم فهذا كله يجعله يغضب ويثور، وما هكذا تكون الأنبياء والرسل انظر إلى الله يقول لمحمد صلّى الله عليه وسلم: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ «١» وكثيرا ما كان يعالج القرآن ذلك عند النبي صلّى الله عليه وسلّم المعصوم والمبرأ من كل عيب فيقول:
فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [سورة هود آية ١٢].
ولهذا كان الأنبياء الذين بالغوا في الصبر والمثابرة وهم- إبراهيم، وموسى، وعيسى، ونوح. ومحمد- صلوات الله عليهم جميعا- أولى العزم.
فيونس ذهب مغاضبا من أجل عصيان ربه، وليس مغاضبا ربه أو آبقا حقا، وإلا كان من مرتكبا لكبيرة لا تليق بالفرد العادي فما بال يونس النبي الكريم؟! الذي
يقول فيه المصطفى «لا تفضّلونى على يونس بن متّى».
والذي ذكر في قصته أنه خرج مغاضبا من أجل ربه خرج في صورة الآبق إلى ساحل البحر فوجد سفينة فركبها، وهو هائم على وجهه فلما سارت السفينة إلى عرض البحر اضطربت واهتزت وأشرفت على الغرق فقال ربانها: لأن يغرق شخص خير من أن نغرق جميعا فاستهموا فخرج سهمه فألقى في البحر فالتقمه الحوت وهو مليم، (فعل فعلا يلام عليه) إذ كان الأولى أن يصبر حتى يأتى أمر الله في قومه، فلما قر في جوف الحوت أدرك نفسه وعرف موقفه فنادى في الظلمات ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة جوف الحوت: أن لا إله إلا أنت سبحانك يا رب!! إنى كنت من الظالمين فاغفر لي يا رب فغفر الله له ونجاه مما هو فيه، وكذلك ينجى الله المؤمنين. فاعتبروا يا أولى الأبصار واتعظوا بهذا. أما قومه فلما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يونس ٩٨].
زكريا. ويحيى. ومريم [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٩ الى ٩١]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١)
لا تَذَرْنِي لا تتركني وَالَّتِي أَحْصَنَتْ والمراد: حفظت نفسها والإحصان العفة فإنها تحصن النفس من الذم والعقاب.
المعنى:
واذكر زكريا وقت ان نادى ربه نداء خفيّا، وقال إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا، وقد عودتني الجميل وإجابة الدعاء، يا رب: لا تذرني وحيدا لا ولد لي وأنت الباقي بعد فناء خلقك، فأنت حسبي ونعم الوكيل، فإن لم ترزقني ولدا يحمل عبء الرسالة من بعدي فإنى أعلم أنك لا تضيع دينك، وأنه سيقوم بذلك من عبادك من تختاره وترتضيه.
فاستجاب الله دعاءه، ووهب له يحيى ولم يجعل له من قبل شبيها ولا نظيرا وأصلح الله له زوجه خلقا حتى صارت تحمل ولدا بعد أن كانت عقيما، وخلقا حتى صارت مثله في الخلق الطيب.
ولا عجب في هذا فإن زكريا ويحيى وزوجه كانوا دائما يسارعون في الخيرات، ويتسابقون في عمل الصالحات.
وقيل: إن الأنبياء جميعا كانوا دائما يتسابقون مسرعين في عمل الخيرات، وهذا تعليل لإكرام الله لهم، وإجابته طلبهم، فاعتبروا أيها الناس.. وكانوا يدعوننا رغبا ورهبا، وفي الرخاء والشدة، وفي المنشط والمكره، وكانوا لنا خاشعين متواضعين متضرعين.
وجعلناها وابنها آية على القدرة القادرة لله- سبحانه وتعالى-، فقد خلق عيسى من غير أب كما خلق آدم من غير أب وأم، فجعل عيسى آية للناس جميعا.
وذكر مريم وإن لم تكن من الأنبياء هنا لأجل عيسى ابنها.
الوحدة الكبرى عند الرسل جميعا وجريان السنن على وتيرة واحدة [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٢ الى ٩٧]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧)
أُمَّتُكُمْ ملتكم حَدَبٍ أى: مرتفع شاخِصَةٌ يقال: أبصار وعيون شاخصة إذا كانت لا تكاد تطرف من هول ما هي فيه.
المعنى:
بعد ما ذكر أخبار الماضين من الرسل وأقوامهم، وظهر أنهم جميعا يسارعون في الخيرات، ويدعوننا رغبا ورهبا، وكانوا لله خاشعين، وعليه متوكلين، وله مسلمين، دينهم التوحيد الخالص، والإيمان بالله ورسله وكتبه، أشار- سبحانه وتعالى- إلى الدعوة المحمدية على أنها ليست بدعا وليس صاحبها بدعا من الرسل.
إن هذه الملة المحمدية هي ملتكم التي يجب أن تتمسكوا بها، ولا تنحرفوا عنها، هي ملة واحدة كما عرفتم من الأمم مع أنبيائهم، أعنى ملة واحدة غير مختلفة في الأصول والعقائد قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [سورة آل عمران آية ٦٤].
إن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم الواحد الأحد، الفرد الصمد فاعبدوني، ولا تشركوا بي شيئا، وآمنوا برسلي خاصة خاتم النبيين محمدا صلّى الله عليه وسلم.
حول الخطاب إلى الغيبة كأنه ينقل أخبارهم إلى قوم آخرين، على معنى: ألا ترون ما ارتكب الناس من مخالفات في دين الله، لقد جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا، كما يوزع الجماعة الشيء، ويقتسمونه فيكون لهذا قطعة ولذاك قطعة، وهذا تمثيل لاختلافهم وكونهم أحزابا وفرقا شتى، وما علموا أن الكل إلينا راجع، وكلهم واردون على حساب شديد يوم الفزع الأكبر، فاحذروا أيها الناس أن تكونوا مثلهم.
فإن من يعمل بعض الصالحات وهو مؤمن فسيأخذ جزاءه كاملا غير منقوص، ولا كفران لسعيه أبدا، وإن عمله مكتوب عند الملائكة، وفي كتابه الذي يلقاه بيمينه وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً.
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ. نعم حرام على قرية أردنا
وقوله: (حرام) مستعار لمنع الوجود، كقوله في آية أخرى إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ [سورة الأعراف آية ٥٠]، أى: منعهما.
ومعنى الآية بإيجاز: إن قوما ما أراد الله إهلاكهم لعلمه بحالهم غير متصور أبدا أن يرجعوا إلى الإسلام وحدوده إلى أن تقوم القيامة، وحينئذ يثوبون إلى رشدهم ويقولون: يا ويلنا إنا كنا في غفلة من هذا، بل كنا ظالمين!! فهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، وعلى ذلك فقوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ غاية لما قبلها كما ذكرنا ذلك، ولا في قوله لا يَرْجِعُونَ صلة أى زائدة للتأكيد. وهذا شيء مألوف في الأساليب العربية.
وقيل إن معنى الآية: حرام على قرية أهلكناها أن أهلها لا يرجعون إلينا يوم القيامة للحساب إذ الجزاء ليس في الدنيا فقط...
وقوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ إلى آخر الآية. مظهر من مظاهر يوم القيامة، أى إذا فتحت قبور يأجوج ومأجوج وهم الناس جميعا، وقد خرجوا من قبورهم، وأقبلوا من كل حدب يسرعون، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس، «وهم من كل جدث (قبر) يسرعون» وهذا هو النشر بعينه.
واقترب الوعد الحق فإذا هي الأبصار شاخصة أى: أبصار الذين كفروا من هول ما رأوا لا تطرف أبدا، ويقولون: يا ويلنا وهلاكنا قد كنا في غفلة من هذا!! ولم نعمل حسابا لهذا الموقف، بل لم نؤمن أبدا بل كنا ظالمين لأنفسنا ولغيرنا.
وفي التفسير المأثور يروون في قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ أن المراد حتى إذا فتح سد يأجوج ومأجوج، وذلك يكون في الدنيا، وأنهم يعيثون في الأرض فسادا، ويخرجون ويدمرون ثم يهلكهم الله بعد ذلك، وذكر ابن كثير في تفسيره أحاديث تثبت هذا.
والذي يمنع ذلك أنه ليس هناك سد مادى موجود في الدنيا، فإذا تأولنا في السد جاز أن نفهم في تحقيق ذلك جواز طغيان المبادئ الهدامة المنتشرة في روسيا والصين
نهاية الكافرين ونهاية المؤمنين [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٨ الى ١٠٦]
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢)
لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦)
حَصَبُ جَهَنَّمَ حطب جهنم ووقودها، وكل ما ألقيته في النار قد حصبتها به وارِدُونَ داخلون زَفِيرٌ الزفير: صوت نفس المغموم الذي يخرج من القلب حَسِيسَها صوتها وقيل: حركاتها مَا اشْتَهَتْ الشهوة: طلب النفس اللذة الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ هو النفخة الثانية نَطْوِي الطى ضد النشر السِّجِلِّ هو الصحيفة والمراد كطىّ الصحيفة على ما فيها من الكتابة الزَّبُورِ زبرت الكتاب أى كتبته، وعلى ذلك صح إطلاق الزبور على التوراة والإنجيل والقرآن...
ترتيب عجيب محكم، هذه الآيات الكونية ناطقة بالتوحيد، وهؤلاء هم الرسل جميعا يدعون إليه فما حال من يشرك بعد ذلك؟!! لقد ذكرت الآيات مشهدا من مشاهد يوم القيامة تجلت فيه نهاية الموحدين والمشركين روى عن ابن عباس: أنه لما نزلت آية إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ شق على كفار قريش ذلك، وقالوا: شتم آلهتنا، وأتوا ابن الزبعرى وأخبروه فقال: لو حضرت لرددت عليه قالوا: وما كنت تقول؟ قال: كنت أقول له: هذا المسيح تعبده النصارى، وعزير تعبده اليهود، أفهما من حصب جهنم؟
فعجبت قريش من مقالته، ورأوا أن محمدا قد خصم، أى: غلب في المخاصمة، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى وفيها نزل وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ أى: يضجون من سورة الزخرف.
المعنى:
إنكم أيها الكفار والمشركون أنتم وما تعبدون من دون الله من صنم أو وثن أو شيطان أو حيوان أو نجم أو غيره حصب جهنم ووقودها فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ «١» أنتم جميعا لها واردون، وفيها داخلون. وانظر يا أخى إلى نار وقودها الناس والحجارة!! وقالوا: إن المراد بالحجارة حجارة الكبريت. وقانا الله شرها.
انظر إلىّ بعقلك، وتفهم قول الحق- تبارك وتعالى- فإنه أوضح من الشمس.
هذه عاقبة الكفر ومآله.
أما من آمن وعمل صالحا فلا ضير عليه أبدا، وإن عبده غيره إذ لا ذنب عليه وما ذنب المسيح؟ والعزير، وعلى بن أبى طالب مثلا وما ذنب الملائكة التي عبدها بعض الناس؟! فهم داخلون الجنة في قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أى: الجنة بسبب أعمالهم الطيبة لا يسمعون صوت النار ولا يصيبهم شررها أولئك عنها مبعدون، وهم في جنات الخلد يمتعون بما اشتهته أنفسهم، وبما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ
[سورة فصلت الآيتان ٣١ و ٣٢].
وهم فيها لا خوف عليهم ولا هم يحزنون أبدا، لا يحزنهم الفزع الأكبر، والهول الأعظم الذي ينتاب غيرهم فيزلزل قلوبهم، ويهز كيانهم، وتتلقاهم الملائكة بالبشر والترحاب مسلمين عليهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [سورة الزمر آية ٧٣] قائلين لهم: هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فيه الكرامة والمثوبة والحسنى.
وهذا كله يكون يوم يطوى الله السماء ويضعها بعد نشرها كما نرى، كطي الصحيفة للكتاب المكتوب فيها، إنه لتصوير رائع لقدرة القادر الذي يطوى عوالم السماء كما تطوى صحيفة كتابك! سبحانك يا رب! إنك على كل شيء قدير.
طويت السماء بعد أن كانت منشورة، وأعدت الخلق أحياء كما كانوا في الدنيا، تعيد الخلائق كما بدأتها تشبيها للإعادة بالبدء في تناول القدرة لهما على السواء فكما أوجدت الخلائق أولا من العدم إلى الوجود تعيدها كذلك من العدم إلى الوجود بل
وبعض العلماء يرى أن الأرض أرض الكفار، ويرثها العباد الصالحون المؤمنون القائمون بأمر الدين الحاكمون بالقرآن المتمسكون بهدى النبي صلّى الله عليه وسلم، وهذا رأى حسن بلا شك فقد جعل الله العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا، ولكن يا أخى أين نحن من القرآن؟ وأين المسلمون الصالحون؟!.
وبعض الناس يرى أن الأرض هي أرض الدنيا ويرثها أى يملكها العباد الصالحون لعمارتها، ولكن هذا لا يعبأ به حتى يكتب في جميع الكتب:
وأما قول بعضهم إن الأرض يأخذها المؤمن الصالح لا الكافر فهذا مردود بالواقع المحسوس.. والله أعلم بكتابه.
إن في هذا الذي تقدم من أول السورة إلى هنا من توجيه أنظارنا لآيات الله الكونية، ومن قصص لنا فيها عبر ومواعظ وحكم. لبلاغا- والبلاغ الكفاية، وما تبلغ به البغية، وما تنال به الرغبة- ولكن يكون لقوم عابدين خاضعين قانتين إذ هم المنتفعون بهذا البلاغ.
موقف النبي صلّى الله عليه وسلّم من الناس [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠٧ الى ١١٢]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١)
قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢)
آذَنْتُكُمْ أعلمتكم، مأخوذ من الآذن، أى: الإعلام.
بعد ذلك البيان الرائع ماذا يكون موقف النبي؟ إنه الرحمة المهداة، عليه البلاغ، وعلى الله الحساب.
المعنى:
عرفنا فيما مضى جزاء المشركين بالله. والمؤمنين به، وكانت العاقبة للمتقين وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو مفتاح الخير، وباب الرحمة، ولقد صدق الله وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ أى: للناس أجمعين أما أتباعه فرحمته عمتهم وفضله ونوره وسعهم، وغيرهم كذلك، وإن كان عن طريق غير مباشر.
ولسنا مبالغين إذ قلنا إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أول من شرع العدل وسنه وأول من حكم بالقسط، وقنن القوانين الحكمية، وهو أول من بذر بذور الديمقراطية الصحيحة في العالم، وهو أول من نصر الضعيف وأعان المظلوم، وانتصف للفقير من الغنى، وساوى بين الخصمين، وسوى بين أتباعه وأتباع غيره، وأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.
وكتابه هو المصباح الذي أنار للعالم طريقه، وكان فاتحة الخير والهدى والعلم والمعرفة، كان البلسم الذي هذب عقلية الفرس، والرومان، وكون فلسفة إسلامية عالية.
وبدينه ولدت العلوم والمعارف في الشرق أولا ثم انتقلت إلى الغرب عن طريق
وأراد الله للشرق وللمسلمين أن يبتعدوا عن دينهم فأهملوا علومهم ومعارفهم فدارت الدائرة عليهم وأذلهم عدوهم. ولقد صدق الله وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران ١٤٠].
وأملنا في شبابنا خير، هذا الشباب الذي أخذ ينادى بالقرآن ويدرسه ويتفهمه ليعيد للإسلام مجده، ويتحقق جليا أن رسوله الكريم أرسل رحمة للعالمين ويكون على يديه إنقاذ العالم من وهدته، وضرب المثل عمليا للمؤمن القوى الصالح لعمارة الدنيا والفوز بالآخرة.
ويقول ذلك الرسول مأمورا من ربه: قل لهم: إن ديني بسيط جدا. وسهل جدا لا تعقيد فيه، ولا التواء: قل لهم إنما يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فاعبدوه وحده، ولا تشركوا به شيئا من الدنيا أو المال أو الشهوة أو الجاه أو السلطان، وقولوا بقلوبكم ولسانكم: الله أكبر ولله الحمد.
فهل أنتم بعد ذلك مسلمون؟ والمعنى أسلموا لله، وأخلصوا النية له فإن تولوا بعد ذلك فقل آذنتكم بحرب لا هوادة فيها، وأعلمتكم بها أنا وأنتم سواء في هذا العلم فلا عذر ولا خيانة منى.
ولست أدرى والله أقريب أم بعيد ما توعدونه من العذاب! فأنا رسول الله إليكم فقط، ولا أعلم من الغيب شيئا بل العالم بالحقائق حقا هو الله- سبحانه- الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم الجهر من القول، ويعلم ما تكتمون من عداوة وحسد للمسلمين.
ولست أدرى لعل تأخير العذاب عنكم فتنة لكم، وابتلاء ليرى كيف يكون صنيعكم وهو أعلم بكم، ولعله متاع لكم تتمتعون به إلى أجل معلوم وزمن محدود ليكون ذلك حجة عليكم، وليقع الموعد في وقت معين عنده قل لهم يا محمد: رب احكم بالحكم الحق، فأنت الحق، ولا نحب إلا الحق، وربنا رب السموات والأرض صاحب النعم على العالم كله، وربنا الرحمن المستعان وحده، والملجأ إليه وحده، والمفزع إليه وحده، وهو المستعان وحده على ما تصنعون. وقد نصر الله عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. لا إله إلا هو.