سورة١ الحج /٣٤٥-أ/ كلها مكية إلا ثلاث آيات [ ﴿ هذان خصمان اختصموا ﴾ [ الآية : ١٩ ] وغيرها ] ٢
٢ ساقطة من م..
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (٢)قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) فد ذكرنا تأويله في غير موضع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) قال الحسن: إن بين يدي الساعة آيات تحجبن التوبة وقبول الإيمان، منها: الزلزلة التي ذكر، ومنها طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وأمثاله، وهو كقوله: (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا).
وجائز - عندنا - أن تكون هذه الآيات غاية لقبول التوبة والإيمان، يقبل إلى ذلك الوقت، ولا يقبل بعد ذلك وإن تابوا وآمنوا.
أو أن يكون قوله: (لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا)؛ لأنهم لا يؤمنون لما تشغلهم تلك الآيات عن ذلك فلا يؤمنون؛ لأن تلك الآيات تعم الخلائق كلهم: المؤمن والكافر جميعًا؛ فلا يعرف المبطل والضال أنه على الضلال والباطل، فيرجع إلى الهدى، والحق، ليس كعذاب ينزل على قوم خاصة؛ لأن ذلك يعرف أُولَئِكَ أنه إنما ينزل بهم خاصة؛ لما فيهم من التكذيب والعناد، وإذا كانت الآيات عامة، لم يعرف أهل الضلال أنهم على باطل، وأنه إنما ينزل بسببهم؛ لما يرونه أنه قد تعم الخلائق كلها، فقوله: (لَا يَنفَعُ) لأنهم لا يؤمنون، كقوله: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)، أي: لا يكون لهم من يشفع، ليس أن يكون لهم شفعاء فيشفعون فلا تقبل شفاعتهم؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (لَا يَنفَعُ) لأنهم يشغلون عن الإيمان فلا يؤمنون، فلا ينفع لهم، على ما ذكرنا.
ثم اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: (زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ): قبل الساعة، وقيل: القيامة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) هي الساعة، وصفها بالشدة والفزع فقال: (يَوْمَ
وعلى قول من يقول: إن زلزلة الساعة هي الساعة؛ فيخرج قوله: (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ...) الآية على التمثيل، أي: تذهل عما أرضعت أن لو كانت مرضعة، وتضع حملها أن لو كانت حاملا؛ لشدته وهوله. واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) أي: من مكن له وقوي يرى الناس كأنهم سكارى وما هم بسكارى، وإلا لم يجز أن يراهم سكارى وليسوا هم بسكارى في الحقيقة.
وإنما قلنا: إنه يرى من مكن له وقوي، وإلا لو كانوا كلهم سكارى، لكان لا يراهم سكارى؛ لأن السكران لا يرى من كان في مثل حاله سكران.
أو أن يكون خاطب به رسوله، ولا يكون فيه ذلك الهول الذي يكون في غيره.
أو أن يكون ذلك على التمثيل، ليس على التحقيق.
وقول أهل التأويل: يقول لآدم في ذلك: " قم فابعث بعث النار "، فيقول: يا رب كم؟ فيقول: " من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين في النار، وواحد في الجنة "، ويروون الأخبار في ذلك عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فإنْ ثبت ما روي عنه في ذلك وإلا الكف عن مثله أولى؛ لأنه يحزن حيث يؤمر أن يتولى بعث ولده إلى النار من غير أن كان ما يستوجب هذه العقوبة.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: (تَذْهَلُ): أي تسلو عن ولدها وتتركه.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (تَذْهَلُ): أي: تنسى، يقال: ذهل يذهل ذهولا، وأذهلته؛ أي: أنسيته.
وقال غيره: أي: تشغل، والحمل بالنصب: ما في البطن، والحمل بالخفض: ما على
* * *
قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (٤) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ذكر المجادلة في اللَّه، ولم يبين فيم جادلوا؟ وقد كانت مجادلتهم من وجوه:
منهم من جادل في مشيثة اللَّه تبارك وتعالى.
ومنهم من جادل: أن هذا العالم منشأ أم لا؟
ومنهم من جادل في وحدانية اللَّه تعالى: واحد أو عدد؟
ومنهم من جادل في بعث الأنبياء وإرسال الرسل.
ومنهم من جادل في إنزال الكتب.
ومنهم من جادل في دين اللَّه - تعالى - المدعو إليه.
وبمثل هذا قد كثرت مجادلاتهم فيما ذكرنا، وكل ذلك كان مجادلة بغير علم؛ لأنهم لو تفكروا في هذا العالم، ونظروا فيه حق النظر لعرفوا أن لهذا العالم منشئا، وأنه واحد لا عدد، وأنه عالم قادر بذاته، وأنه بعث الرسل والكتب، وعرفوا أيضًا أنه يبعث هذا العالم ويحييهم، وأنه قادر على ذلك، لكنهم لم يتفكروا فيه، ولم ينظروا حق النظر، فجادلوا فيه بغير علم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) يحتمل أن يكون قوله: (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ): الشيطان المعروف نفسه، يتابعه في كل ما يدعوه.
وجائز أن يكون أراد أنه يتبع كل من يعمل عمل الشيطان، وهم القادة الذين كانوا يدعون إلى اتباع ما يدعو الشيطان ويوحي إليهم (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ)، أخبر أن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوكم، فذلك معنى قوله: (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) قيل: فعيل بمعنى فاعل،
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المارد: هو المجاوز عن جنسه في عتوه وتمرده؛ ولذلك سمي الذي لا لحية له: أمرد؛ لخروجه ومجاوزة أجناسه ورجاله، والمارد بالفارسية: ستنبه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (٤) قَالَ بَعْضُهُمْ: كتب على الشيطان أن من تولاه واتبعه أن يضله (وَيَهْدِيهِ) أي: يدعوه (إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ)، وهو ما قال في آية أخرى: (أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كتب على من تولى الشيطان واتبعه أنه يضله، أي: يدعوه إلى ما به ضلاله وهلاكه.
وقوله: قيل: حكم.
وقيل: قضى.
و (كُتِبَ) يحتمل الإثبات، أي: أثبت في أم الكتاب: أن من تولى الشيطان واتبعه أنه يضله، وقد ذكر إضلال الشيطان في غير موضع.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ (٥) أي: خلقنا أصلكم من تراب، وخلقنا أولاده من نطفة (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ...) الآية.
تأويله - واللَّه أعلم -: أن كيف تشكون في البعث وتنكرونه وليس سبب إنكاركم البعث إلا أن تصيروا ترابًا أو ماء في العاقبة، وقد كنتم في مبادئ أحوالكم ترابًا وماء، فكيف أنكرتم بعثكم إذا صرتم ترابًا؟
أو أن يكون معناه: أن كيف أنكرتم البعث وقد رأيتم أنه يقلبكم من حال النطفة إلى حال العلقة، ومن العلقة إلى المضغة، ولا يقلب من حال إلى حال بلا عاقبة تقصد، فلو لم يكن بعث - كما تزعمون - لكان خلقكم وتقليبكم من حال إلى حال عبثًا؛ على ما أخبر: أن خلق الخلق لا للرجوع إليه عبث، كقوله؛ (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، صيّر خلق الخلق لا للرجوع إليه عبثًا، فعلى ذلك الأوّل.
أو أن يكون تأويله - واللَّه أعلم -: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ...) إلى آخر الآية، ولو اجتمع حكماء البشر وعلماؤهم ليعرفوا السبب الذي خلق البشر من ذلك التراب أو من النطفة - ما قدروا عليه، وما وجدوا للبشر فيه أثرا، ولا معنى البشرية فيه،
وقوله: (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ).
قال: (مُخَلَّقَةٍ): أي مخلوقة خلقا، (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ): أي غير مخلوقة خلقا، نطفة على حالها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مُخَلَّقَةٍ) أي: تامة، (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي: غير تامة خلقًا، وهو والأشبه؛ لأن التشديد إنما يذكر لتكثير الفعل، والتخفيف لتقليله، فكأنه قال: (مُخَلَّقَةٍ)، أي: قد أتم خلقها من الجوارح والأعضاء، (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ)، أي: غير تامة خلقا. بل ناقصة.
وقوله: (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى...) كأن قوله: (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ) موصولا بقوله: (مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى): من سثة أشهر إلى سنتين، أو ما شاء اللَّه (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ) من الأرحام بعد الإقرار فيها (طِفْلًا) قَالَ بَعْضُهُمْ: ثم نخرج
كلًّا منكم طفلا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: واسم الطفل يجمع ويفرد.
(ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) قَالَ بَعْضُهُمْ: الأشد هو ثلاث وثلاثون سنة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو من ثماني عثرة سنة إلى ثلاثين سنة، وأصل الأشد: هو من اشتداد كل شيء، وتقوي كل شيء فيه من الجوارح والأعضاء، وكل ما ركب فيه من العقل وغيره، ثم عند ذلك يبين لهم، ويكون قوله: (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) بعد هذا كله إذا بلغوا المبلغ الذي يعرفون تقليبه إياهم من حال إلى حال، على ما ذكر، ثم يحتمل قوله: (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) وجوهًا:
أحدها: يبين قدرته وسلطانه: أن من قدر على تحويلهم من حال التراب إلى حال الإنسانية والبشرية، ومن حال النطفة إلى حال العلقة... ثم إلى آخر ما ذكر لقادر على البعث والإحياء بعد ما صاروا ترابًا.
أو يبين علمه في الظلمات الثلاث التي كان الولد فيها أن كيف قلبه من حال إلى حال
أو يبين حكمته وتدبيره في خلق الإنسان من التراب ومن النطفة ما لو اجتمع جميع الحكماء من البشر والعلماء؛ ليعرفوا المعنى الذي به خلق الإنسان منه وصار به بشرًا ما قدروا عليه، ولا عرفوا السبب الذي به صار كذلك؛ ليعلموا أنه حكيم بذاته وعالم قادر بذاته، لا بتعليم غيره، ولا بإقدار غيره، فمن كان هذا سبيله لا يعجزه شيء؛ ينشئ الأشياء من الأشياء ولا من الأشياء على ما شاء وكيف شاء.
وقوله: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) أي: من يتوفى قبل أن يبلغ أشده، دليله قوله: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) أي: من قبل أن يبلغ ذلك المبلغ وهو الأشد، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي: إلى وقت ما يستقذر ويستخبث، ليس كالصغير؛ لأن الصغير والطفل مِمَّا يؤمل منه في العاقبة المنافع والزيادات، وهذا لا يرجى منه ولا يؤمل منه العاقبة، كلما مر عليه وقت كان أضعف في عقله ونفسه، ولا كذلك الصغير، وهو كما قال: (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً).
قَالَ الْقُتَبِيُّ: (أَرْذَلِ الْعُمُرِ): أي: الخرف والهرم.
وقوله: (لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا) أي: لكيلا يعلم من بعد ما كان يعلمه شيئًا.
ثم ذكر قدرته وسلطانه فقال: (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً) قَالَ بَعْضُهُمْ: ميتة، وقيل: مشققة، وقيل: يابسة، وقيل: بالية.
وقوله: (فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) قال الزجاج: (وَرَبَتْ): من الزيادة والنماء، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: يقال: ربا يربو، أي: زاد، وهو من الربا، وربا من الارتفاع، ربا يربو ربوة، كقوله: (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ).
ثم أضاف الاهتزاز والزيادة إلى الأرض، وهي لا تهتز ولا تربو، إنما يربو ويهتز ما يخرج منها من النبات، لكن أضاف ذلك إليها لما بها كان اهتزاز ذلك النبات، وبها كان النماء؛ فاضيف إليها.
ْأو إن كان من الارتفاع والربوة، فهي ترتفع وتنتفخ وتهتز بالمطر.
وقوله: (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) قيل: البهيج: الحسن؛ يخبر في كل هذا قدرته وسلطانه: أن من قدر على إحياء الأرض بعد ما كانت يابسة ميتة، لقادر على إحياء
تأويله، والله أعلم، أن كيف تشكون في البعث، وتنكرونه، وليس سبب إنكاركم البعث إلا أن تصيروا تراباً أو ماءً في العاقبة وقد كنتم في مبادئ أحوالكم ترابا وماء، فكيف أنكرتم بعثكم إذا صرتم ترابا ؟ أو أن يكون معناه : أن كيف أنكرتم البعث، وقد رأيتم /٣٤٥-ب/ أنه يقلبكم من حال النطفة إلى حال العلقة ومن العلقة إلى المضغة، ولا يقلب من حال إلى حال بلا عاقبة تقصد.
فلو لم يكن بعث كما تزعمون لكان خلقكم وتقليبكم من حال إلى حال عبثا على ما أخبر أن خلق الخلق لا للرجوع إليه عبث قوله :﴿ أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ﴾ [ المؤمنون : ١١٥ ] صير خلق الخلق لا للرجوع إليه عبثا. فعلى ذلك الأول.
أو يكون تأويله، والله أعلم ﴿ فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ﴾ إلى آخر الآية. ولو اجتمع حكماء البشر وعلماؤهم ليعرفوا السبب الذي خلق البشر من ذلك التراب أو من النطفة ما قدروا عليه، وما وجدوا للبشر فيه أثرا ولا معنى للبشرية فيه. فمن قدر على ابتداء إنشاء هذا العالم من التراب أو من النطفة من غير سبب، يوجد فيه، ولا أثر [ فهو قادر ]١ على إعادتهم. وإعادة الشيء في عقولكم أهون وأيسر من الابتداء. فمن قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر.
وقوله تعالى :﴿ ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة ﴾ قال بعضهم :﴿ مخلقة ﴾ أي تامة ﴿ وغير مخلقة ﴾ أي غير تامة خلقا، وهو الأشبه لأن التشديد إنما يذكر لتكثير خلق٢ الفعل، والتخفيف لتقليله. فكأنه قال :﴿ مخلقة ﴾ أي قد أتم خلقها من الجوارح والأعضاء ﴿ وغير مخلقة ﴾ أي غير تامة خلقا بل ناقصة.
وقوله تعالى :﴿ لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ﴾ كأن قوله :﴿ ونقر في الأرحام ما نشاء ﴾ موصول٣ بقوله :﴿ ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة ﴾ ﴿ ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ﴾ من ستة أشهر إلى سنتين أو ما شاء الله.
[ وقوله تعالى ] ٤ :﴿ ثم نخرجكم ﴾ من الأرحام بعد الإقرار فيها ﴿ طفلا ﴾ قال بعضهم : ثم نخرج كلا منكم طفلا. وقال بعضهم : واسم الطفل يجمع، ويفرد.
[ وقوله تعالى ] ٥ :﴿ ثم لتبلغوا أشدكم ﴾ قال بعضهم : الأشد هو ثلاث وثلاثون سنة. وقال بعضهم : هو من ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة.
وأصل الأشد هو اشتداد كل شيء، وتقوي كل شيء عنه من الجوارح والأعضاء، وكل ما ركب فيه من العقل وغيره. ثم عند ذلك يبين لهم. ويكون قوله :﴿ لنبين لكم ﴾ بعد هذا كله إذا بلغوا المبلغ الذي تعرفون تقليبه إياكم٦ من حال إلى حال على ما ذكر.
ثم يحتمل قوله :﴿ لنبين لكم ﴾وجوها :
أحدها : يبين قدرته وسلطانه أن من قدر على تحويلهم من حال التراب إلى حال الإنسانية والبشرية ومن حال النطفة إلى حال العلقة ثم إلى آخر ما ذكر يقدر٧ على البعث والإحياء بعدما صاروا ترابا.
والثاني٨ : يبين علمه في الظلمات الثلاث التي٩ كان الولد فيها : أن كيف قَلَّبَهُ من حال إلى حال في تلك الظلمات ليعلموا أنه لا يخفى عليه شيء.
والثالث١٠ : يبين حكمته وتدبيره في خلق الإنسان من التراب ومن النطفة ما لو اجتمع جميع الحكماء من البشر والعلماء ليعرفوا المعنى الذي به خلق الإنسان منه، وصار به بشرا، ما قدروا عليه، ولا عرفوا السبب الذي به صار كذلك ليعلموا أنه حكيم بذاته وعالم قادر بذاته لا بتعليم غيره ولا بأقدار غيره.
فمن كان هذا سبيله لا يعجزه شيء، ينشئ الأشياء من الأشياء ولا من الأشياء على ما شاء وكيف شاء.
وقوله تعالى :﴿ ومنكم من يتوفى ﴾ أي يتوفى قبل أن يبلغ أشده. دليله : قوله :﴿ ومنكم من يتوفى ﴾ أي من قبل أن يبلغ ذلك المبلغ، وهو الأشد ﴿ ومنكم من يرد إلى أرذل العمر ﴾ أي إلى وقت يستقذر منه، ويستخبث.
ليس كالصغير، لأن الصغير والطفل مما يؤمل منه في العاقبة المنافع والزيادات، وهذا١١ لا يرجى منه، ولا يؤمل منه العاقبة. كلما مر عليه وقت كان أضعف في عقله ونفسه. ولا كذلك الصغير، وهو ما قال :﴿ الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعف وشيبة ﴾ [ الروم : ٥٤ ].
قال القتبي :﴿ أرذل العمر ﴾ أي الخرف والهرم.
وقوله تعالى :﴿ لكيلا يعلم من بعد علم شيئا ﴾ أي لكيلا يعلم من بعدما كان يعلمه شيئا.
ثم ذكر قدرته وسلطانه، فقال :﴿ وترى الأرض هامدة ﴾ قال بعضهم : ميتة. وقيل : خاشعة، وقيل : يابسة. وقيل : بالية.
وقوله تعالى :﴿ فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ﴾ قال الزجاج :﴿ وربت ﴾ من الزيادة والنماء. وكذلك قال أبو عوسجة : يقال : ربا يربو، أي زاد، وهو الربا، وربوات من الارتفاع، ربا يربو ربوة كقوله :﴿ وآويناهما إلى ربوة ذات قرارا ومعين ﴾ [ المؤمنون : ٥٠ ].
ثم أضاف الاهتزاز والزيادة إلى الأرض، وهي لا تهتز، ولا تربو. وإنما يربو، ويهتز ما يخرج منها من النبات. لكن أضاف ذلك إليها لما بها كان اهتزاز ذلك النبات، وبها كان النماء، فأضيف إليها، أو إن كان من الارتفاع والربوة فهي ترتفع، وتنتفخ، وتهتز بالمطر.
وقوله تعالى :﴿ وأنبتت من كل زوج بهيج ﴾ قيل : البهيج : الحسن. يخبر في هذا [ عن ] ١٢ كل قدرته وسلطانه أن من قدر على إحياء الأرض بعدما كانت يابسة ميتة [ هو قادر ] ١٣ على إحياء الموتى بعد الموت وبعدما صاروا ترابا.
وقوله تعالى :﴿ من كل زوج بهيج ﴾ أي من كل جنس حسن بهيج، أي يسر، وهو فعيل بمعنى فاعل. يقال : امرأة ذات خلق باهج.
قال أبو عوسجة : الهَامِدُ البالي، يقال : همد١٤ الثوب إذا بلي، والهامد أيضا الخامد، خمدت النار تخمد خمودا.
وقال بعضهم : قوله :﴿ وربت ﴾ أي ضاعفت١٥ النبات.
٢ في الأصل و م: خلقها..
٣ في الأصل و م: موصولا..
٤ ساقطة من الأصل و م..
٥ ساقطة من الأصل و م..
٦ في الأصل و م: وإياهم..
٧ في الأصل و م: قدر..
٨ في الأصل و م: و..
٩ في الأصل و م: الذي..
١٠ في الأصل و م: أو..
١١ الواو ساقطة من الأصل و م..
١٢ ساقطة من الأصل وم..
١٣ في الأصل وم: لقادر..
١٤ من م، في الأصل: همدت..
١٥ في الأصل وم: أضعفت..
وقوله: (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي: من كل جنس حسن (بَهِيجٍ) أي: يسر، وهو وفعيل بمعنى فاعل، يقال: امرأة ذات خلق باهج.
ومال أَبُو عَوْسَجَةَ: الهامد: البالي، يقال: همد الثوب: إذا بلي، والهامد أيضًا: الخامد، خمدت النار تخمد خمودًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَرَبَتْ) أي: أضعفت النبات.
وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) أي: ذلك الذي تقدم ذكره من الساعة وزلزالها وأهوالها وما ذكر من خلق الإنسان وتقليبه من حال إلى حال، وما ذكر من البعث والإحياء، وإحياء الأرض بعد ما كانت هامدة - هو الحق.
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) أي: كائن لا محالة؛ ألا ترى أنه قال: (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧) هذا كله يدل أن قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) في تحقيق البعث والإحياء بعد الموت، وأنه لا يعجزه شيء، وأنه قادر بذاته، عالم بذاته.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ذَلِكَ) يقول: هذا الذي فعل وظهر من صنعه يدل على أن الله هو الحق وغيره من الآلهة التي يعبدونها باطل، وأنه يحيي الموتى في الآخرة، لا الآلهة التي يعبدونها، (وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي: قدير، على ما يشاء، وهو ما أخبرنا.
وقال الحسن: هو اسم من أسماء اللَّه تعالى سمي به؛ لأنه يحكم بالحق.
* * *
قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (٨) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (٩) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (١٠)
وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) يحتمل قوله: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حسي (وَلَا هُدًى) أي: لا بيان دليلي من جهة العقل (وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ) أي: ولا وحي ينير ما يجال فيه ويخاصم.
ويحتمل أن يكون قوله: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي: بغير إذعان ممن عنده العلم (وَلَا هُدًى) لا استسلام لمن عنده الدليل، ولا خضوع لمن عنده كتاب منير.
وقال بعضهم : ذلك يقول : هذا الذي فعل، وظهر، من صنعه يدل على أن الله ﴿ هو الحق ﴾ وغيره من الآلهة التي يعبدونها باطل ﴿ وأنه يحيي الموتى ﴾ في الآخرة لا الآلهة التي يعبدونها ﴿ وأنه على كل شيء قدير ﴾ على ما يشاء. وهو ما أخبرنا.
وقال الحسن :﴿ الحق ﴾ هو اسم من أسماء الله الحسنى، سمي به لأنه يحكم بالحق.
قَالَ بَعْضُهُمْ: لاوي عنقه إلى معصية اللَّه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ناظر في عطفه، أي: في جانبه، ومثل هذا.
لكن حقيقته تخرج على وجهين:
أحدهما: على التمثيل والكناية عن إعراضه عن دين اللَّه الحق والصدود عنه، كقوله: (انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ)، وقوله: (انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)، ونحوه، كله على التمثيل والكناية عن الإعراض عن الحق والصدود، لا على حقيقة الانقلاب على الأعقاب؛ فعلى ذلك جائز قوله: (ثَانِيَ عِطْفِهِ) يخرج على التمثيل والكناية عن الإعراض عن الحق.
وجائز أن يكون على حقيقة عطف العنق والميل عنهم تكبرًا وتجبرًا منه عليهم.
ثئم بين أنه لِمَ يفعل؟ فقال: (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
ثم أخبر ما له في الدنيا بصنعه؟ فقال: (لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: الخزي: هو العذاب الذي يفضحه، وأصل الخزي: الهوان والذل، وهم لما أعرضوا عن عبادة اللَّه ودينه بلوا بعبادة الأصنام واتباع الشيطان، فذلك الخزي لهم في الدنيا.
ثم أخبر ما له في الآخرة من الجزاء؟ فقال: (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) وعامة أهل التأويل يصرفون الآية إلى واحد منهم وهو النضر بن الحارث، ويقولون: (لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ)؛ لأنه أسر يوم بدر، فضرب عنقه، وقتل صبرا، فذلك الخزي له.
والحسن يقول: هذا الخزي لجميع الكفرة؛ لأنه لم يزل هذا صنيعهم منذ كانوا، فلهم الخزي في الدنيا: الخسف والحصب، على ما كان في الأمم الخالية.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ... (١٠) ليس على تحقيق تقديم الأيدي، ولكن على التمثيل؛ لما بالأيدي يقدم، فذكر اليد لذلك على ما ذكرنا من انقلاب الأعقاب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)؛ لأنه لا يأخذ أحدًا بغير ذنب ولا يأخذه بذنب غيره.
وقوله تعالى :﴿ وان الله ليس بظلام للعبيد ﴾ لأنه لا يأخذ أحدا بغير ذنب، ولا يأخذه١ بذنب غيره.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) اختلف في قوله: (عَلَى حَرْفٍ):
قَالَ بَعْضُهُمْ: (يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ)، أي: على شك يمتحن ربه؛ على أنه إن أعطاه طمعَه وأملَه في هذه الدنيا حقق له الألوهية والعبادة، وإن لم يجد طمعه وأمله لا يحقق له ذلك، ويقول: ليس هو بإله؛ إذ لو كان إلهًا لأعطاه ما يطلب منه على هذا الشك، يعبد بالامتحان.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (عَلَى حَرْفٍ) أي: على شرط، أي: يعبده على شرط الإعطاء؛ يقول إن أعطاني أَملي عبدته، وإن لم يعطني ذلك لم أعبده؛ تكون عبادته على هذا الشرط.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) أي: على حال واحدة، وعلى جهة واحدة، ليس يعبده على حالين كالمؤمن يعبده في حالين جميعًا: حالة الظاهر، وحالة الباطن، وحالة الضراء والسراء، وحالة السعة والشدة على ما تعَبَّدَه اللَّه، كقوله: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، ونحوه، عبده المؤمن على الحالين جميعًا على ما تعبده اللَّه، والمنافق إنما يعبده على حالة السعة والخصب؛ لأنه ليس يعرف ربه حق المعرفة، فإنما يعبد السعة والرخاء، وأمَّا المؤمن فإذا عرف ربه عبده في الأحوال كلها لما عرف نفسه عبدًا لسيده، ولم ير للعبد سعة ترك العبادة لمولاه في كل حال، ورأى للمعبود حق استعباده واستخدامه في كل حال: في حال الضيق وحال السعة.
أو أن يكون رأى ما يصيبه من الشدائد والبلايا بتقصير كان منه وتفريط؛ فعبده في الأحوال كلها.
أو لما رأى وعرف أن نعم ربه عليه كثيرة، ورأى شكر تلك النعم عليه لازمًا؛ فعبده في الأحوال كلها؛ شكرًا لتلك النعم، وأمَّا أُولَئِكَ لم يروا لله على أنفسهم نعمًا فإنما عبدوه على الجهة التي ذكرنا، كانوا فرقا من الكفرة:
منهم من يعبد اللَّه في حال الشدة والضيق ولا يعبده في حال السعة والرخاء، كقوله: (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا)، ونحوه.
وأمَّا المؤمن فهو يعبده في الأحوال كلها لما رآه معبودًا حقيقة، على ما ذكرنا.
وقوله: (وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ): قد ذكرنا أن الفتنة هي المحنة التي فيها بلاء وشدة.
وقوله: (انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ):
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو على التمثيل؛ على ما ذكرنا في قوله: (نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ)، وقوله: (انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: على تحقيق انقلاب وجهه؛ لأنه كان عبادته ظاهرة، لم يكن يعبده في الباطن في حال السعة، فلما أصابته الشدة ترك عبادته ظاهرًا على ما كان باطنه، فهو انقلاب وجهه، واللَّه أعلم.
وقوله: (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ): أما خسران الدنيا؛ لأنه فات عنه ما كان يأمله بزوالها، وخسران الآخرة ظاهر: العذاب والشدائد.
وجائز أن يكون خسران الدنيا هو خضوعه لمن لا يضر ولا ينفع للعبادة للأصنام (ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)؛ لأنه خسر في الدارين جميعًا أمله وطمعه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (١٢)
قيل: إن الآية في المنافقين، وهم كانوا لا يعبدون على حرف ليست بعبادة اللَّه، إنما هي عبادة للشيطان، فأخبر أنه يعبد ما لا يضره إن ترك العبادة له، ولا ينفعه إن عبده؛ يدل على ذلك: قوله: (ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ)؛ لأنه عبد من لا يضره إن لم يعبده، ولا ينفعه إن عبده، فذلك هو الضلال البعيد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣)
قَالَ بَعْضُهُمْ: تأويله: يدعو من ضرره أقرب من نفعه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ)، هذا إن عبده، ضرّه عبادته إتاه في الآخرة والأولى؛ حيث قال: (مَا لَا يَضُرُّهُ) إن ترك عبادته في الدنيا (وَمَا لَا يَنْفَعُهُ) إن عبده، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (لَبِئْسَ الْمَوْلَى) أي: الولي، وهو الشيطان (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) يعني: الصاحب، كقوله: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، أي: صاحبوهن بالمعروف.
[ وذكر في الآية ] ٣ الأولى حين٤ قال :﴿ يدعوا من دون الله ما لا يضره ﴾ إن ترك عبادته في الدنيا ﴿ وما لا ينفعه ﴾ إن عبده، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ لبئس المولى ولبئس العشير ﴾ [ قال بعضهم :﴿ لبئس المولى ﴾ أي الولي ﴿ ولبئس العشير ﴾ ]٥ يعني الصاحب كقوله :﴿ وعاشروهن بالمعروف ﴾ [ النساء : ١٩ ]. أي صاحبوهن بالمعروف. وقال بعضهم :﴿ لبئس المولى ﴾ أي الولي، وهو الشيطان ﴿ ولبئس العشير ﴾ أي القرين الذي لا يفارق.
وقال القتبي : أي الصاحب والخليل، وهو ما ذكرنا، كله واحد. وقال أبو عوسجة :﴿ العشير ﴾ الرفيق الذي تعاشره، وتصاحبه، وتخالطه، والعشير الزوج أيضا.
وقال القتبي :﴿ ثاني عطفه ﴾ يتكبر معرضا. وكذلك قال أبو عوسجة :﴿ ثاني عطفه ﴾ أي متكبرا متجبرا. والعطف في الأصل الجانب، والأعطاف جميع، وقوله :﴿ من يعبد الله على حرف ﴾ قال : لا يدري أحق هو أم باطل ؟ وهو الشك. يقال : إني من هذا الأمر على حرف أي على شك، لست بمستيقن. وقال القتبي : على حرف واحد وعلى وجه واحد وعلى مذهب واحد. وقال قتادة على شك على ما ذكرنا. وقال أبو عبيدة : على حرف أي لا يدوم، ويقول : إنما أنا [ على ] ٦ حرف أي لا أثق بك، ونحو هذا. وأصله : ما ذكرنا في ما تقدم. وقال بعضهم : قوله :﴿ يدعو لمن ضره ﴾ في الآخرة ﴿ أقرب من نفعه ﴾ انقلب على وجهه، أي رجع إلى دينه.
٢ في الأصل و م: يضره، في م: يضر به..
٣ في الأصل و م: و..
٤ في الأصل و م: حيث..
٥ من م، ساقطة من الأصل..
٦ ساقطة من الأصل و م..
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: أي: الصاحب والخليل، وهو ما ذكرنا، كله واحد.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: العشير: الرفيق الذي تعاشره وتصاحبه وتخالطه، والعشير: الزوج أيضًا.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (ثَانِيَ عِطْفِهِ): يتكبر معرضا، وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (ثَانِيَ عِطْفِهِ)، أي: متكبرا متجبرا، والعطف في الأصل: الجانب، والأعطاف جمع.
وقوله: (مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) قال: لا يدري أحق هو أم باطل؟ وهو الشك، يقال: إني من هذا الأمر على حرف، أي: على شك، لست بمستيقن.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: على حرف واحد، وعلى وجه واحد، وعلى مذهب واحد.
وقال قتادة: على شك، على ما ذكرنا.
وقال أبو عبيدة: على حرف، أي: لا يدوم، ويقول: إنما أنا حرف، أي: لا أثق بك، ونحو هذا، وأصله ما ذكرنا فيما تقدم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ) في الآخرة (أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ)، (انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ) أي: يرجع إلى دينه.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (١٤) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (١٥) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ).
المعتزلة كذبت هذه الآية والآية التي تلي هذه الآية، وهو قوله: (وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ)؛ لأنهم يقولون: أراد إيمان جميع الخلائق ثتم لم يفعل ذلك، وأراد جميع الخيرات
ونحن نقول: من أراد اللَّه هداه اهتدى، وما أراد أن يفعل فعل، وهو ما أخبر (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)، أخبر أنه يفعل ما يريد، فيخرج على قولهم على أحد الوجهين: إما على الخلاف في الوعد، وإما على الكذب في القول والخبر، فنعوذ باللَّه من السرف في القول.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (١٥)
تأويل الآية - عندنا - يخرج على وجهين:
أحدهما: من كان يظن أن لن ينصر اللَّه محمدًا - عليه أفضل الصلوات - ثم نصره، فغاظه نصره إياه فيدوم غيظه - (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ) أي: بحبل من السماء فيخنق ويقتل نفسه؛ ليذهب غيظه الذي غاظه نصره؛ يستريح مما غاظه.
والثاني: يخرج على الوعد بالنصر والخبر: أنه ينصره، يقول: من كان يظن أن ما وعد له من النصرة، لا يفعل ذلك له، ولا ينصره، ولا ينجز ما وعد؛ (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ)، أي: ليحبس ما وعد له من النصر؛ إن غاظه ما وعد؛ ليذهب غيظه الذي غاظه؛ فعلى هذا التأويل يكون السماء سماء الأصل، أي: يحبس السبب الَّذِي ينزل من السماء.
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ) أن لن يرزقه اللَّه، ويجعله صلة قوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ)، لأنه يجعل الآية في أهل النفاق، يقول: من كان يظن من أهل النفاق: أن اللَّه لا يرزقه إذا كان في ذلك الدِّين الذي كان فيه ودام - فليمدد بما ذكر.
وقال مجاهد: (كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ)، قال ذلك خيفة ألا يرزق.
وأهل التأويل صرفوا السماء إلى سقف البيت، ويقولون: القطع: الخنق.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ) أي: لن يرزقه اللَّه وهو قول أبي عبيدة
وقال المفسرون: من كان يظن أن لن ينصر اللَّه محمدا (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ)، أي: بحبل إلى سقف البيت، (ثُمَّ لْيَقْطَعْ)، أي: ليختنق: (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) - أي: [حيلته]- غيظه، أي: ليجهد جهده.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ) قال: هذا شيء لا يكون ولا يقدر عليه، وهذا ذم للمقول فيه؛ لأنه جعل السماء سماء الأصل، وقوله: (فَلْيَمْدُدْ) أي: يمد يده.
وقوله: (بِسَبَبٍ)، السبب في الأصل: الحبل، أي: يعلق سببا فيرتقي في السماء، والسبب: الحمار، وسبوب جمع، أي: حمر.
قال: والسبب: الحبل بلغة هذيل.
وقوله: (مَا يَغِيظُ): هو شدة الغضب.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) أي: مثل هذا، وهكذا أنزلناه آيات بينات، يبين ما لهم وما عليهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أما الصابئون: فإن الناس اختلفوا فيهم:
قال أهل التأويل: هم عبّاد الملائكة، وقد ذكرنا أقاويلهم فيه في سورة المائدة، فتركنا ذكره هاهنا لذلك.
(وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا): قيل: هم المشركون من العرب، وهم عبدة الأوثان والأصنام.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
يحتمل قوله: (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ)، أي: يحكم بين هَؤُلَاءِ يوم القيامة؛ لاختلافهم في الدنيا، كقوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ) ثم قال: (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ)، أي: يحكم بين هَؤُلَاءِ يوم القيامة، فالفصل بينهم يوم القيامة هو الحكم الذي ذكر في هذه الآية.
ويحتمل قوله: (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) في المقام: يبعث هَؤُلَاءِ إلى الجنة وهَؤُلَاءِ إلى النار؛ فذلك الفصل بينهم.
وجائز أن يكون قوله: (يَفْصِلُ) أي: يبين لهم الحق من الباطل؛ حتى يقروا جميعا بالحق ويؤمنوا به، لكن لا ينفعهم ذلك يومئذ.
وقوله تعالى :﴿ إن الله يفصل بينهم يوم القيامة ﴾ يحتمل قوله :﴿ يفصل بينهم ﴾ يحكم بين هؤلاء يوم القيامة لاختلافهم في الدنيا كقوله :﴿ وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ﴾ [ البقرة : ١١٣ ] وقوله١ :﴿ فالله يحكم بينهم ﴾ أي يحكم بين هؤلاء ﴿ يوم القيامة ﴾ [ البقرة : ١١٣ ].
فالفصل بينهم يوم القيامة، هو الحكم الذي ذكر في الآية.
ويحتمل قوله :﴿ يفصل بينهم يوم القيامة ﴾ في المقام ؛ يبعث هؤلاء إلى الجنة وهؤلاء إلى النار. فذلك الفصل بينهم. وجائز أن يكون قوله :﴿ يفصل ﴾ أي يبين لهم الحق من الباطل حتى يقروا٢ جميعا بالحق، ويؤمنوا٣ به. ولكن لا ينفعهم ذلك يومئذ.
وقوله تعالى :﴿ إن الله على كل شيء شهيد ﴾ من أعمالهم وأفعالهم وأقرارهم وأقوالهم وجميع ما كان منهم.
٢ في الأصل و م: يقرون..
٣ في الأصل و م: ويؤمنون..
* * *
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (١٨) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (٢٤)
وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) حرف (مَن) في ظاهر اللغة واللسان إنما يعبر به عن الممتحن من البشر والجن والملائكة، وأما الموات فإنه لا يعبر به عنه، وإنَّمَا يعبر عنه بحرف (مَا)، لكن ذكر في آخره - وهو قوله: (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ...) الآية - ما يدل أنه أراد الكل: الممتحن، والموات جميعًا، حيث قال: (وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) وإلا ظاهره ما ذكرنا: أنه إنما يعبرب (مَن) عن الممتحن، وبحرف (ما) عن الكل.
وجائز أن يكون عند الاجتماع يذكر باسم الممتحن؛ على ما يذكر عند اجتماع الذكر والأنثى باسم الذكور.
ثم ما ذكر من سجود هذه الأشياء يخرج على وجوه:
أحدها: سجود خلقة، يسجد كل شيء ذكر بخلقته لله، على ما ذكرنا في التسبيح.
والثاني: سجود عبادة، وهو سجود كل ممكن من إتيانه، وتركه، وهو سجود الممتحن.
والثالث: سجوده: بذل ما بذل في هذه الأشياء من المنافع لا يتأتى بذلها لأحد من الماء، والشمس، والشجر، والدواب، وكل شيء.
والرابع: ما ألهم هذه الأشياء من الطاعة لله والخضوع له؛ ألا ترى أنه قال: (ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ)، ألا ترى أنه ألهم الدواب معرفة إتيان الصالح لهم واتقاء المهالك؛ فجائز أن يعرفن طاعته والخضوع له، واللَّه أعلم.
أحدهما: من خذله اللَّه وطرده عن عبادته وبابه (فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)، كقوله: (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ).
أو أن يقول: ومن أهانه اللَّه في النار بالعذاب، فما له من منج ينجيه عن ذلك.
(إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) هذا على المعتزلة؛ لأنهم يقولون: شاء أشياء فلم يفعل، فهو يقول: (يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ).
وقوله: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩)
اختلفوا في تأويله:
قَالَ بَعْضُهُمْ: نزل هذا في ستة نفر تبارزوا: ثلاثة من المسلمين: حمزة بن المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث، وثلاثة من المشركين: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، فذلك اختصامهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أهل الإسلام وأهل الكتاب في الدِّين: قالت اليهود والنصارى: نحن أولى باللَّه منكم يا معشر المسلمين؛ لأن نبينا قبل نبيكم، وديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم. فقال المسلمون: بل نحن أولى باللَّه، آمنا بكتابنا وكتابكم، ونبيّنا ونبيكم، وبكل كتاب أنزله اللَّه، ثم كفرتم أنتم بنبينا، وكتابنا، وبكل نبي كان قبل نبيكم؛ فأنزل اللَّه تعالى ما فصل بين المؤمنين وأهل الكتاب فقال: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا) بمُحَمَّد وبالقرآن، وهم اليهود والنصارى، (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ...) إلى آخر ما ذكر، وقال في المؤمنين: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ...) الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ): النار والجنة: قالت النار: جعلني اللَّه للعقوبة للعصاة والفسقة، وقالت الجنة: جعلني اللَّه للرحمة للأنبياء والأولياء، ونحوه. لكن متى يكون للنار مخاصمة، وكذلك الجنة، وهو بعيد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: اختصم المسلم والكافر في البعث.
ثم جائز أن يكون هذا الذي ذكر في الآية الأولى، حيث قال: (إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ): ينزل أهل الإسلام في الجنة وأهل الكفر في النار، واللَّه أعلم.
وقوله: (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ) كقوله: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ...) الآية.
وقوله: (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ) قيل: الحميم: الماء الحار الذي انتهى حره غايته.
وقوله: (يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠)
قَالَ الْقُتَبِيُّ: يصهر: يذاب، يقال: صهرت النار الشحمة، والصهارة: ما أذيب من الألية، وكذلك قال: الصّهارة: ما يبقى من الشحم والألية إذا أذيبا، يقال: صهرت الشحم: أي أذبت، أصهره صهرًا.
(وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) قَالَ بَعْضُهُمْ: المقامع: الأعمدة من الحديد، وهو قول أبي معاذ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المقامع: شبه العصي، الواحدة: مقمعة.
قال أبو معاذ: يعني قوله: (يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ) أي: يذاب ما في بطونهم خاصة، وأمَّا الجلود فإتها تحرق؛ لأن الجلد لا يصهر ولا ينصهر، وقال: هذا مثل قول العرب: (أتيته فأطعمني واللَّه ثريدًا، واللَّه ولبنا قارصا - أي: حامضا - واللَّه فإزارًا ورداءً، واللَّه وحملانا فارها) تصير لكل شيء فعلا يشاكله، وفي القرآن مثله كثير، وكذلك في اللسان.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (٢٢) قَالَ بَعْضُهُمْ: إن جهنم إذا جاشت، ألقت من فيها إلى أعلاها، فيريدون الخروج منها، فيعيدهم الخزان فيها بالمقامع، ويقول لهم الخزنة: (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ).
قال أبو معاذ : يعني قوله :﴿ يصهر به ما في بطونهم ﴾ أي يذاب ما في بطونهم خاصة. وأما الجلود فإنها تحرق لأن الجلد لا يصهر، ولا ينصهر، وقال : هذا مثل قول العرب : أتيته، فأطعمني، والله، ثريدا، والله ولبنا قارصا، أي حامضا، والله وإزارا ورداءا أي والله وحملانا فارها ؛ تضمر لكل شيء فعلا يشاكله. وفي القرآن مثله كثير، وكذلك اللسان.
وقال بعضهم : إن في جهنم دركات، فإذا اشتد العذاب بهم ينقلبون من الدركة السفلى إلى الدركة العليا، ويصعدون، ثم يريدون الخروج منها فيعادون فيها [ كقوله ] ١ :﴿ سأرهقه صعودا ﴾ [ المدثر : ١٧ ].
وقال بعضهم : إن النار تضربهم بلهبها، فترفعهم، حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بمقامع من حديد، فإذا انتهوا إلى أسفلها ضربهم زفر لهبها، والله أعلم بذلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن النار تضربهم بلهبها فترفعهم، حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بمقامع من حديد، فإذا انتهوا إلى أسفلها ضربهم زفر لهبها، واللَّه أعلم بذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (٢٣) أي: من تحت أهلها، وهو كما ذكر في آية أخرى: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ).
وقوله: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا) ذكر هذا - واللَّه أعلم - لقوم رغبوا في هذه الدنيا بالتحلي بما ذكر، وتفاخروا به فيها، وهو ما ذكر: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ)، وإلا قلما يرغب الناس في الدنيا في التحلي بما ذكر إلا النساء خاصة.
فإما أن ذكر للنساء أو لقوم تفاخروا به في الدنيا فوعد لهم في الآخرة ذلك (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ).
وقوله: (وَلُؤْلُؤًا) قال الكسائي: من قرأ: (وَلُؤْلُؤًا) بالخفض فهو يخرج على أنهم: يحلون فيها من أساور من ذهب، ويحلون فيها من لؤلؤ حلية سوى الأساور.
ومن قرأ بالنصب: (وَلُؤْلُؤًا)، أي: يحلون فيها لؤلؤًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ)، وكذلك ذكر في الخبر: " هُوَ لَهُم في الدنيا، ولنا في الآخرة ".
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (٢٤)
جائز أن يكون هذا في الدنيا والآخرة: أما في الدنيا: هو قول التوحيد، وشهادة الإخلاص، وأمّا في الآخرة كقوله: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، فهو القول الطيب الذي هدوا إليه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ): هو القرآن (وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ): الإسلام وشرائعه.
وقال قتادة: ألهموا التسبيح والتحميد كما ألهموا النفس.
وقال بعضهم : قوله :﴿ وهدوا إلى الطيب من القول ﴾ هو القرآن ﴿ وهدوا إلى صراط الحميد ﴾ الإسلام وشرائعه.
وقال قتادة : ألهموا التسبيح والتحميد كما ألهموا النفس، وقال :﴿ الطيب من القول ﴾ هو كل قول حسن، وقوله :﴿ الحميد ﴾ يحتمل صراط الحميد أي صراط الله كقوله :﴿ صراط الله ﴾ [ الشورى : ٥٣ ] ويحتمل أن يكون نعت ذلك الصراط أي صراط حميد، والله أعلم.
٢ ساقطة من الأصل و م..
وقوله: (الْحَمِيدِ) يحتمل (صِرَاطِ الْحَمِيدِ)، أي: صراط اللَّه، كقوله: (صِرَاطِ اللَّهِ).
ويحتمل أن يكون نعت ذلك الصراط، أي: صراط حميد، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٥) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) قوله: (كَفَرُوا) هو خبر ماض، وقوله: (وَيَصُدُّونَ) خبر مستقبل، فنسق المستقبل على الماضي.
قال الزجاج: إن الكافرين والصادين عن سبيل اللَّه (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ).
وعندنا تأويله: أن الذين كفروا قبل أن يبعث مُحَمَّد ويصدون الناس عن سبيل اللَّه إذا بعث مُحَمَّد.
ثم يحتمل قوله: (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) أي: كانوا يمنعون المسلمين عن دخول المسجد الحرام للإسلام والسؤال عنه، والثاني: إخراجهم منه، كقوله: (وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ).
وقوله: (الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) ظاهر هذا أن يكون الذي جعل فيه العاكف والبادي سواء هو المسجد الحرام؛ لأنه قال: (جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً)، لكن أهل التأويل صرفوا ذلك إلى مكة، وقالوا: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) في النزول في المنازل، وظاهره ما ذكرنا.
ثم يحتمل أن يكون المسجد الحرام مخصوصًا بهذا ليس كسائر المساجد التي لها أهل: أن أهلها أحق بها من غيرهم، وأمَّا المسجد الحرام فإن الناس شَرَعٌ، سواء العاكف
ويحتمل أنه خص المسجد الحرام بأن الناس سواء فيه؛ ليعلموا أن الحكم في سائر المساجد كذلك: أن الناس فيها سواء أهلها وغير أهلها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: الإلحاد فيه: هو الشرك والكفر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإلحاد: هو كل المعاصي، وأصل الإلحاد: هو العدول والميل عن الطريق. وتأويله: ومن يلحد فيه إلحاد ظلم نذقه كذا.
قَالَ بَعْضُهُمْ: من هَمَّ فيه بإلحاد بظلم نذقه كذا.
ثم يحتمل تخصيص ذلك المكان بما ذكر وجوهًا:
أحدها: ليعلموا أن كثرة الخيرات وتضاعفها مما لا يعمل في إسقاط المساوئ فيه وهدمها؛ لما روي: " أن صلاة واحدة بمكة تعدل كذا وكذا صلاة في غيرها من الأماكن "، وكذلك حسنة فيها.
والثاني: خصت بالذكر فيه على التغليظ والتشديد، على ما خصت تلك البقعة بتضاعف الحسنات.
والثالث: أن أُولَئِكَ اذعوا أنهم أولى باللَّه من غيرهم؛ لنزولهم ذلك المكان، فأخبر أن من يرد فيه بكذا نذقه، ليس تخصيص ذلك المكان بما ذكر، والعفو في غيره، ولكن بما ذكرنا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: معناه: من يرد فيه إلحادًا بظلم، والباء زائدة، ومثله قوله: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ)، معناه: تنبت الدهن. روي بالخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " احْتكارُ الطعام بمكةَ إلْحَاد "، وكذلك روي عن عمر وابن عمر.
وقد كره قوم بيع رباع مكة وإجارتها بقوله: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ)، وعلى ذلك رويت الأخبار بالنهي عن ذلك، روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " مكة مناخ، لا يباع رباعها، ولا يؤاجر بيوتها ".
وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " يا أهل مكة، لا تتخذوا لدوركم أبوابًا؛ ليرد البادي حيث شاء " ونهاهم أن يغلقوا أبواب دورهم.
وليس في ظاهر الآية ذكر مكة؛ إن في الآية ذكر المسجد، حيث قال: (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ)، وإنما ذكر ذلك في المسجد الحرام خاصة.
وقال أبو حنيفة - رحمه اللَّه -: أكره إجارة بيوت مكة في الموسم من الحاج والمعتمر، فأما المقيم والمجاور فلا نرى بأخذ ذلك منهم بأسًا. وهو قول مُحَمَّد.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) قَالَ بَعْضُهُمْ: (بَوَّأْنَا)، أي: هيأنا (مَكَانَ الْبَيْتِ)؛ لينزل فيه، والبيتوتة: الإنزال، كأنه قال: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ)، أي: أنزلناه مكان البيت؛ ليتخذ فيه بيتًا، وقلنا له: لا تشرك بي شيئًا، وهكذا بعث الأنبياء جميعًا، بعثوا ألا يشركوا باللَّه، وأمروا أن يدعو الناس إلى ترك الإشراك باللَّه تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) وادع الناس أيضًا إلى ألا يشركوا بالله شيئًا.
ثم يحتمل قوله: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) ومن ذكر، أي: طهره من الأصنام والأوثان التي فيه لئلا يعبد غيره.
وجائز أن يكون قوله: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) عن جميع الخبائث، وعن كل أنوع الأذى من الخصومات، والبياعات، وغيرها، وذلك للمسجد الحرام ولغيره من المساجد يطهر ويجنب جميع أنواع الأذى والخبث والفحش.
ويحتمل قوله: (لِلطَّائِفِينَ): لكل طائف به، (وَالْقَائِمِينَ)، (وَالْعَاكِفِينَ) ١٢٥: لكل عاكف نحوه، والعكوف هو المقام للعبادة، (وَالْقَائِمِينَ): لكل قائم عاكف نحوه، (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) وساجد نحوه، أي: لكل مصل، وهذا أشبه، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) يحتمل وجهين:
أحدهما: على الإعلام: أن أعلم الناس: أن لله عليهم الحج بالبيت، كقوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ...) الآية.
والثاني: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) أي: ادع الناس ونادهم أن يحجوا البيت.
قال أهل التأويل: لما أمر اللَّه إبراهيم ينادي في الناس بالحج، فنادى، فأسمع الله صوته ما بين المشرق والمغرب، حتى أسمع صوته ونداءه من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فقالوا: (لبيك)، ومن حج بيته فهو الذي أجاب إبراهيم لما ناداهم بالحج.
لكن لا يعلم ذلك إلا بالخبر عن رسول اللَّه أنه كان ما ذكروا، وإلا السكوت عنه وعن مثله أولى.
وقالوا: إن قوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) موصول بمَوله: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ...) الآية.
وجائز أن يكون قوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) لرسول اللَّه، أو لكل رسول بعث الأمر بذلك في كل زمان، واللَّه أعلم بذلك.
وقوله: (يَأْتُوكَ رِجَالًا) أي: على الأرجل مشاة (وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ)، أي: يضمر ويذهب سمنه؛ لبعد المضرب، وهو ما ذكر: (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي: من كل بعيد.
ثم قوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) على الدعاء والأمر، فيكون في قوله: (يَأْتُوكَ رِجَالًا) دلالة لزوم الحج على المشاة، كأنه قال: مرهم يحجّون مشاة على الأرجل وركبانا، وإن كان على الإعلام فهو على الوعد والجزاء: أنهم يأتونك على الأرجل مشاة وعلى الدواب.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا)، من الحلي من الذهب والفضة، تقول: حليت المرأة، أي: اتخذت حليا، ويقال: حلى الشيء يحلى حلًى؛ إذا حسن، ويقال: بعينه إذا حسن في عينه، ويقال: حلى الشيء يحلو حلاوة فهو حلو، ويقال: تحليت، إن شئت جعلته أكلت حلاوته، وإن شئت جعلته من الحلي، ويقال: حلأت الإبل عن الماء، أي: منعت، ويقال: حليت الشيء وأحليته، أي: جعلته حلوًا.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) أي: المقيم، والبادي - وهو الطارئ من البدو - سواء فيه ليس المقيم فيه بأولى من النازح إليه.
(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ) أي: من يرد فيه إلحادا، وهو الظلم والميل عن الحق، فزيدت الباء، كما يقال: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ)، وهو ما ذكرنا.
وقوله: (وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ)، أي: ركبانا على ضمر من طول السفر (مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي: بعيد غامض.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (الْعَاكِفُ): المقيم، (وَالْبَادِ): من كان في البادية، والإلحاد: الميل عن الحق، ومنه اشتق اللحد، لحد القبر.
(وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ)، أي: على كل بعير ضامر، أي: خميص البطن.
(يَأْتُوكَ رِجَالًا) تقول: رجل الرجل يرجل رجلة، فهو راجل، والفج: الطريق، والعميق: البعيد، يقال: عمق، أي: بعد، يعمق عمقا، فهو عميق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) قال الحسن: يشهدون مشاهد فيه، فيذكرون اللَّه فيها ويكتسبون أشياء تنفع لهم في الآخرة، فذلك منافع لهم التي يشهدونها.
وقال غيره من أهل التأويل: (مَنَافِعَ لَهُمْ): التجارات والمنافع التي كانوا يكتسبونها إذا خرجوا للحج.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: التجارة في الدُّنيَا، والأجر في الآخرة، وهو مثل الأول.
وجائز أن يكون قوله: (لِيَشَهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ): الأرزاق التي جعلت لهم في البلدان النائية البعيدة ما لو لم يشهدوها لم يسق اللَّه ذلك إليهم؛ لأن من الأرزاق التي جعلت لهم
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) أي: متاجرهم وقضاء مناسكهم.
وقوله: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) اختلف فيه:
قال الحسن: هو يوم النحر خاصة. وجائز إضافة الواحد إلى الجماعة، كقوله: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا)، وإنما جعل في السماء الدنيا، وكما يقال: (توارى فلان في دور بني تميم)، وإنما توارى في دار من دورهم، ومثل هذا كثير، وذلك جائز في اللسان.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأيام المعلومات: هو يوم النحر ويومان بعده.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المعلومات والمعدودات هي أيام التشريق جميعًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأيام المعلومات: هي أيام العشر؛ لأنها هي أيام الذكر فيها.
وجائز أن يكون قوله: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ) كناية عن الذبح، وأيام الذبح ثلاثة: يوم النحر ويومان بعده؛ ألا ترى أنه قال: (عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا) ذكر الأكل ولم يذكر الذبح، فذلك يدل على أن قوله: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) كناية عن الذبح، وإنما كان كناية عنه؛ لأنه بالذكر يقدم الذبائح ولا يخلو منه دونه، والله أعلم.
وقوله: (فَكُلُوا مِنْهَا):
قَالَ بَعْضُهُمْ: من الأضاحي؛ لأن التناول من الأضاحي كان لا يحل فخرج ذلك مخرج رخصة التناول منها والحل، لكن الأضاحي لا يحتمل؛ لأن الوقت ليس هو وقت الأضاحي ولا أماكنها، إنما هو وقت دم المتعة والقران ودم التطوع. وفيه إباحة التناول من دم المتعة والقِران.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ): قَالَ بَعْضُهُمْ: البائس: من البؤس وهو ما اشتد به من الحاجة والشدة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: البائس: هو الذي به زمانة، والفقير: الصحيح الذي لا شيء له، وهو مثل الأول.
وقوله: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) قال بعض أهل الأدب: التفث: لا يعرف في لسان العرب ما يراد به.
وقال الحسن: التفث: هو التقشف، وهو ترك الزينة، يدل على ذلك ما روي أنه سئل عن الحاج، فقال: " كُل أشْعَث تفِل ".
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: التفث في الأصل: الوسخ، يقال: امرأة تفثة: إذا كانت خبيثة الريح، وهو قريب مما قال الحسن: إنه ترك الزينة.
وأهل التأويل يقولون: التفث: هو حلق الرأس، وقص الأظفار والشارب، والرمي، والذبح، ونحوه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ): المناسك كلها.
وروى في الخبر: " من وقف من عرفة بليل، وصلى معنا الجمع، فقد تم حجه وقضى تفثه "، ظاهر " قضى تفثه "، أي: نسكه.
وجائز أن يكون قوله: " قضى تفثه " أي: جاء وقت الزينة، وهو وقت الحلق واللباس، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ)، أي: ليوفوا ذبح ما أوجبوا ذبحه، ذكر فيما ساق من الهدْي لمتعته ولحجته الأكل منه؛ لقوله: (فَكُلُوا مِنْهَا)، ولم يذكر الأكل مِمَّا أوجب بالنذر؛ فلذلك يقول أصحابنا: إنه يجوز له التناول من هدْي المتعة والقِران، ولا يجوز التناول مما كان وجوبه بالنذر والكفارة، بل عليه أن يتصدق بالكل، وهو ما قال: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: سماه: عتيقًا؛ لأنه يرفع إلى السماء الرابعة، فذلك المرفوع هو البيت العتيق. والبيت العتيق - عندنا - هو الذي بناه إبراهيم - صلوات اللَّه عليه - وأسسه، ويكون قوله: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) الذي أسسه إبراهيم، لا بالبيت الحادث الذي أحدثه الناس؛ ألا ترى أنه روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لعائشة: " لولا أنَّ قومك حَديثُو عَهْد بالإسْلام لرددت البيت على أساس إبراهيم، وجَعَلتُ لَهُ بابين: بابًا يدخل فيه، وبابًا يخرج منه "، وروي في بعض الأخبار يرويه عبد اللَّه بن الزبير قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -
* * *
قوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)
وقوله: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ) قوله: (ذَلِكَ) جائز أن يكون الذي تقدم ذكره
وجائز أن يكون لا على ذلك، ولكن حرف يذكر عند ختم قصة والفراغ منها مبتدأ، لا على ربط شيء، نحو قوله: (هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ...)، كذا (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ...)، كذا، قوله: (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) يصح دون ذكر هذا، لكنه ذكر على ختم كلام الأول وابتداء آخر، فعلى ذلك جائز أن يكون قوله: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ) كذلك.
وقوله: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) كأنه قال: وَمَنْ يُعَظِّمْ حرمات اللَّه، وخرج للحج، وأنفق المال، وأتعب النفس فما له عند ربه من الثواب، فذلك خير له من حفظ ماله وحفظ نفسه، وإلا لا شك أن من عظم حرمات اللَّه خير له ممن لم يعظمها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ)، وفي حرف ابن مسعود: (وَأُحِلَّتْ لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم) من المحرمات من الميتة والدم، وما ذكر في سورة المائدة، وقد ذكرنا هذا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) جائز أن يكون قوله: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ) وهم الأوثان.
وجائز أن يكون قوله: (فَاجتَنِبُوا عبادة الأوثان فإنه رجس، وليس فيه أن غير الأوثان ليس برجس، كقوله: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ)، ليس فيه أن يحل قتل الأولاد في غير خشية الإملاق، فعلى ذلك هذا.
وقوله: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) يحتمل كل قول زور.
ويحتمل الزور الذي قالوا في اللَّه من الولد والشريك وما لا يليق به.
(وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. حُنَفَاءَ لِلَّهِ) تأويله - واللَّه أعلم -: واجتنبوا قول الزور، وكونوا حنفاء لله غير مشركين به.
وقوله: (حُنَفَآءَ (٣١) قد ذكرناه.
وجائز أن يكون قوله: (غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) تفسير قوله: (حُنَفَاءَ لِلَّهِ) أي: كونوا مخلصين لله في جميع أموركم، غير مشركين به في ذلك، واللَّه أعلم.
أحدها: ما وصف وضرب مثله بشيء لا قرار له ولا ثبات، نحو ما قال: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ)، ونحو ما قال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً...) الآية، ضرب مثل الكفر بشيء لا قرار له ولا ثبات، فعلى ذلك مثله بالساقط من السماء تخطفه الطير أو تهوي به الريح، لا يدري أين هو؟ ولا أين يطلب إن أرادوا طلبه؟ ولا يظفر به، فعلى ذلك الكافر.
والثاني: ضرب مثله بالساقط من السماء، وهي أبعد البقاع في الأوهام، لا ينتفع بمن سقط منها ولا بشيء من نفسه، ولا تبقى نفسه؛ فعلى ذلك الكافر لا ينتفع بشيء من محاسنه، ولا تبقى نفسه ينتفع بها لبعده عن دين اللَّه.
والثالث: الساقط من السماء أثر سقوطه منها في نفسه وفي جميع جوارحه، وظهر ذلك كله فيه حتى لا يرجى برؤه وصحته، فعلى ذلك الكافر يظهر آثار الكفر في نفسه وجوارحه؛ لبعده عن دين اللَّه، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذا مثل ضربه اللَّه لمن أشرك به في هلاكه وبعده من الهدى، والسحيق: البعيد، وهو قريب مما ذكرنا.
وقوله: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) هو ما ذكرنا في قوله: (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ)، (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) تأويله - والله أعلم - أي: ومن يعظم شعائر اللَّه بالجوارح، فذلك التعظيم من تقوى القلوب، وهكذا الأمر الظاهر في الناس: أنه إذا كان في القلب شيء من تقوى أو خير، ظهر ذلك في الجوارح، وكذلك الشر أيضًا إذا كان في القلب ظهر في الجوارح.
وقوله: (حُرُمَاتِ اللَّهِ) و (شَعَائِرَ اللَّهِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: هما واحد، وهي المناسك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الحرمات هي جميع محارم اللَّه ومعاصيه يتقيها؛ تعظيما لها، وقد ذكرنا تأويل (شَعَائِرَ اللَّهِ) في سورة المائدة، والسحيق: هو المكان البعيد، يقال:
وقوله: (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ) أي: تذهب به، يقال: هوى يهوي هواء، أي: ذهب بنفسه.
وقوله: (لَكُمْ فِيهَا... (٣٣) أي: فيما ذكر من الشعائر (مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: لكم فيها منافع من ظهورها وألبانها وأصوافها (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)، أي: إلى أن تقلد وتهدى، (ثُمَّ مَحِلُّهَا) إذا قلدت وأهديت (إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ).
وكذلك يقول أصحابنا: إن من أوجب بدنة أو أهدى بدنة، لا يحل له الانتفاع بها ولا بشيء منها إلا في حال الاضطرار، فإذا بلغت محلها، وذبحت، حل الانتفاع بلحمها.
ومنهم من قال في قوله: (لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى): إلى وقت محلها من الركوب بظهرها، وحلب اللبن، وجز الصوف، وغير ذلك مما كانوا ينتفعون بها من قبل، ويروي في ذلك خبرًا: رُوي أن نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا ساق بدنة، فقال: " اركبها " فقال: إنها بدنة فقال: " اركبها " فقال: إنها بدنة يا رسول اللَّه، قال: " اركبها ويلك "، وبه يقول
وجائز أن يكون قوله: (لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى أن تهلك أو تهلكون أنتم، كقوله: (وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)، أي: إلى وقت هلاكها، فعلى ذلك الأول.
ثم يكون قوله: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) - واللَّه أعلم - ابتداء سؤال سئل عن محل الهدايا والقلائد، فقال عند ذلك: (مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، واللَّه أعلم.
والأول أشبه وأقرب لما ذكرنا.
وقوله: (إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ذكر البيت العتيق، ومعلوم: أنه لم يرد به نفس البيت، ولكن إنما أراد به البقعة التي فيها البيت؛ لأن الدماء لا تراق في البيت إنما تراق في تلك البقعة التي هو فيها، الحرم كله منحر ومذبح، وأراد بقوله: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، نفس البيت؛ ألا ترى أنه قال هاهنا: (بِالْبَيْتِ)، فإنما يطاف به، وقال هنالك: (إِلَى الْبَيْتِ)، أضاف إليه؛ دل أنه لم يرد به نفس البيت، ولكن البقعة التي فيها البيت، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) قَالَ بَعْضُهُمْ: المنسك: الموضع الذي يعبدون وينسكون فيه ويصيرون إليه لعبادتهم، ومن ثمة يقال للرجل العابد: ناسك؛ ولذلك قال من قال: (مَنْسَكًا)، أي: يصيرون ويخرجون إليه للعبادة، وقال: المنسك: الدِّين، وقال: الشريعة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المنسك: المنحر والمذبح.
وقوله: (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)، دل قوله: (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ) أن ذكر اسم اللَّه من شرط الذبيحة، حيث ذكر اسم اللَّه ولم يذكر الذبح، ففهموا من ذكر اسم اللَّه الذبح؛ دل أنه من شرط جوازه وحله، سوى الشافعي فإنه لم يفهم ما فهم الناس والأمم جميعًا، حيث لم يجعل ذكر اسم اللَّه من شرط الذبيحة.
وقوله: (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) كأنه ذكر قوله: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا) لقوم أنكروا الذبائح، فقال: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا)، أي: ذبحا ذبحوه، وذكروا اسم معبودهم عليه، ثم أخبر أن معبودهم واحد (فَلَهُ أَسْلِمُوا)، أي: أخلصوا ذلك كله، (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) قال: المتواضعين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المطمئنين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ الخاشعين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل مجتهد في العبادة هو المخبت.
ويقال: المخلصين.
وتفسير المخبت: ما ذكر على إثره، حيث قال: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...) الآية.
ومن قال: المخبت: المطمئن، قال: والخبتة: الطمانينة.
قوله: (مَنْسَكًا) و (مَنْسِكًا)، فيه لغتان:
قال الكسائي: من قرأ: (مَنْسِكًا) بكسر السين فهو من نَسَك يَنْسِك، ومن قرأ: (مَنْسَكًا) بالنصب فهو من نَسَكَ يَنْسَكُ، ثم لا خلاف بين أهل العلم في أن البدن التي تساق والهدايا التي تقلد في الحج والعمرة لا يجوز أن تنحر في غير الحرم، إنما اختلفوا في المحصر إذا أراد أن يحل أين ينحر ويذبح هديه الذي يحل به؟ وقد ذكرنا أقاويلهم واختلافهم في سورة البقرة.
ولم يختلف في أن معنى قول اللَّه: (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) يدخل فيه الحرم كله على ما ذكرنا، وعلى ذلك رويت الأخبار: روي عن جابر بن عبد اللَّه قال: قال
وقوله: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) أي: خافت وفرقت؛ خوفا منه (وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ) من المصائب والرزايا (وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) هذه الآية قد ذكرنا تأويلها في سورة الأنفال.
وقوله: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) قَالَ بَعْضُهُمْ: من فرائض اللَّه.
وقال الحسن: من دين اللَّه.
والأشبه أن يكون قوله: (مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)، أي: من معالم دين اللَّه وعبادته ونسكه؛ لأن الشعائر هي المعالم في اللغة، خصت بها المناسك دون غيرها من العبادات فجعلها معالم لها، والبدنة سميت: بدنة؛ لما تعظم في أنفسها وتبدن، ويقال للرجل إذا عظم في نفسه: بدن فلان.
وظاهر ما روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " البدنة تجزئ عن سبعة، والبقرة تجزئ عن سبعةٍ " أن البدنة هي الجزور والإبل؛ حيث قال: " البدنة تجزئ عن سبعة،
وقوله (لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ) قَالَ بَعْضُهُمْ: المنافع الحاضرة من الركوب، والحلب، والحمل عليها بعد ما قلدت وأوجبت هديًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ) إلى أن تقلد، فإذا قلدت فلهم الأجر في الآخرة، وكأن هذا أشبه، أي: يكون قوله: (لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ) أي: الأجر في الآخرة؛ لأن الانتفاع بها لا يحل إذا أوجبت بدنة إلا في حال الاضطرار؛ لأنّه قال في آية أخرى: (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ)، وفي الانتفاع بها إحلال شعائره؛ لذلك قال أصحابنا: لا ينتفع بالبدن،
وقوله: (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ) دل هذا أن ذكر اسم اللَّه من شرط الذبيحة؛ لأنه لم يذكر الذبح بنفسه، ولكن إنما ذكر: ذكر اسمه، فلولا أنهم فهموا من ذكر اسم الله عليها ذبحها ونحرها، وإلا لم يكتف بذكر اسمه دون ذكر الذبح؛ فدل أنهم إنما عرفوا ذلك به، وأنه من لئرط جوازها، واللَّه أعلم.
وقوله: (صَوَافَّ)، فيه لغات ثلاث:
إحداها: (صوافي): أي بالياء، وهو من الإخلاص لله، والصفو له.
والثانية: (صوافن) بالنون، وهو من عقل ثلاث قوائم منها، وترك أخرى مطلقة.
والثالثة: (صوافٍ) بالتنوين، أي: قياما مصطفة.
وكأن جميع ما ذكر يراد أن يجمع فيها من الإخلاص له وعقل القوائم، والقيام، وكذلك جاءت السنة والآثار. وفي حرف ابن مسعود: (صوافن)، بالنون، وتأويله ما ذكرنا.
وظاهر الآية يدل على القيام؛ لأنه قال: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا)، وقوله: (وَجَبَتْ)، أي: سقطت، والسقوط إنما يكون من القيام، فدل أنها تنحر قيامًا لا مضطجعة، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَكُلُوا مِنْهَا) قد ذكرنا هذا فيما تقدم في قوله: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) و (الْبَائِسَ الْفَقِيرَ): من سألك؛ هذا قول بعض.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْبَائِسَ): المعروف بالبؤس، و (الْفَقِيرَ): المتعفف الذي لا يسأل.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (الْبَائِسَ): المسكين، و (الْفَقِيرَ): فقير.
قَالَ بَعْضُهُمْ: (الْبَائِسَ): الضرير.
و (الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ):
قَالَ بَعْضُهُمْ: (الْقَانِعَ): هو الراضي، وهو من القناعة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو السائل، وهو من القنوع، (وَالْمُعْتَرَّ): الذي يعتريك ولا يسأل،
والبَدْنَةُ سميت بَدَنَةً لما تعظم في نفسها، وتبدن. ويقال للرجل إذا عظم في نفسه : بدن فلان.
وظاهر ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( البدنة تجزئ عن سبعة والبقرة تجزئ عن سبعة ) أن البدنة هي الجزور والإبل حين١ قال :( البدنة تجزئ عن سبعة [ والبقرة تجزئ عن سبعة ) [ بنحوه مسلم ١٢١٣/١٣٨ ] قرن ] ٢ بين البدنة والبقرة بالذكر، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ لكم فيها خير ﴾ قال بعضهم : المنافع الحاضرة من الركوب والحلب والحمل عليها بعدما قلدت، أوجبت هديا. وقال بعضهم :﴿ لكم فيها خير ﴾ إلى أن تقلد، فإذا قلدت فلهم الأجر في الآخرة، وكان هذا أشبه أن٣ يكون قوله ﴿ لكم فيها خير ﴾ الأجر٤ في الآخرة، لأن الانتفاع بها لا يحل إلا إذا أوجبت بدنة إلا في حال الاضطراب لأنه قال في آية أخرى :﴿ لا تحلوا شعائر الله ﴾ [ المائدة : ٢ ] وفي الانتفاع بها إحلال شعائره لذلك قال أصحابنا : لا ينتفع بالبدن.
وما روي عنه صلى الله عليه وسلم ( أنه رأى رجلا يسوق بدنة، فقال له : اركبها فقال : إنها بدنة يا رسول الله، فقال النبي : اركبها، فقال : إنها بدنة، فقال : اركبها ويحك ) [ البخاري ١٦٩٠ ] وفي بعض الأخبار :( ويلك ).
وهذا عندنا لما رأى بالرجل الحاجة الشديدة إلى ركوبها، وهو ما ذكرنا أن الانتفاع بالمحرمات يجوز في حال الاضطراب، ولا يجوز في حال الاختيار٥ ؛ إذ الانتفاع بالمحرمات يجوز في حال الاضطرار. فعلى ذلك بالبدن التي جعلت معالم للمناسك، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فاذكروا اسم الله عليها صواف ﴾ دل هذا أن يذكر اسم الله من شرط الذبيحة لأنه لم يذكر الذبح بنفسه، ولكن إنما ذكر اسمه. فلولا أنهم فهموا من ذكر اسم الله عليها ذبحها نحرها، وإلا لم يكتف بذكر اسمه دون ذكر الذبح. فدل أنهم عرفوا ذلك به، وأنه من شرط [ جواز ذبحها ] ٦ والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ صواف ﴾ /٣٤٩-أ/ فيه لغات ثلاث : إحداها : صوافي بالياء، وهو من الإخلاص لله والصفو لله. والثانية٧ : صوافن بالنون، وهو من عقل ثلاث قوائم منها وترك واحدة مطلقة. والثالثة : صوافا بالتنوين أي قياما مصطفة٨. وكان جميع ما ذُكر يراد أن يجمع فيها من الإخلاص له وعقل القوائم والقيام. وكذلك جاءت السنة والآثار. وفي حرف ابن مسعود : صوافن بالنون. وتأويله ما ذكرنا. وظاهر الآية يدل على القيام لأنه قال :﴿ فإذا وجبت جنوبها ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وجبت جنوبها ﴾أي سقطت : والسقوط إنما يكون من القيام. فدل أنها تنحر قياما لا مضطجعة، والله أعلم.
وقوله تعالى :٩﴿ فكلوا منها ﴾قد ذكرنا هذا في ما تقدم في قوله :﴿ فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ﴾( الحج ٢٨ ) البائس الفقير من سألك. هذا قول بعض وقال بعضهم : البائس المعروف بالبؤس والفقير المتعفف الذي لا يسأل. وقال بعضهم البائس المسكين، والفقير فقير. وقال بعضهم : البائس الضرير.
وقوله تعالى ١٠ :﴿ وأطعموا القانع والمعتر ﴾قال بعضهم ﴿ القانع ﴾ الراضي، وهو من القناعة. وقال بعضهم : هو السائل، وهو من القنوع ﴿ والمعتر ﴾ }الذي يعتريك، ولا يسأل، والقانع : هو الجالس في بيته ونحوه.
وقال القتبي : القانع السائل، يقال : قنع يقنع قنوعا، ومن الرضا قنع يقنع قناعة﴿ والمعتر ﴾الذي يعتريك ولا يسأل يقال :( عرني، واعترني )١١.
وقال أبو عوسجة : القانع السائل، والقنوع السؤال، والقناعة من الرضا ؛ يقال منه : قنع يقنع قناعة ويقول : أقنعته ١٢ أي أرضيته، وقنعته أي غطيت رأسه بالقناع ونحوه ؛ ويقال من المعتر : اغتر اغترارا وعَر َّعَراًّ، كلها واحدة.
وقال :﴿ صواف ﴾أي قياما مصطفة وقال ويكون : صوافن ( وصوافي أي قياما )١٣ على ثلاث قوائم ؛ يقال : صفن الفرس يصفن صفونا إذا قام على ثلاث قوائم.
وقوله :﴿ وجبت جنوبها ﴾أي سقطت إلى الأرض. يقال : وجب يجب وجوبا فهو واجب إذا سقط، ووجبت الشمس إذا غابت. وهذا كله من الصوت ؛ يقال : سمعت وجبته أي ( صوت سقطته )١٤.
وقال :﴿ منسكا ﴾أي موضعا ينسكون إليه للعبادة.
وعن ابن عباس أنه١٥ قال : القانع الذي يقنع بما أعطيته، والمعتر الذي يريك نفسه، ولا يسأل.
وقوله تعالى :﴿ كذلك سخرنها لكم لعلكم تشكرون ﴾أي البُدن التي ذكرناها. ثم يحتمل ما ذكر من تسخيره إياها لنا وجهين :
أحدهما :﴿ كذلك سخرناها لكم ﴾أي كما سخرناها لكم لركوبها والحمل عليها وأنواع الانتفاع بها في حال الحياة.
والثاني١٦ :﴿ كذلك سخرناها لكم ﴾ أي مثل الذي وصفته لكم كل ذلك من تسخيرنا١٧ إياها لكم.
٢ في الأصل و م: فرق..
٣ في الأصل و م: أي..
٤ أدرج قبلها في الأصل و م: أي..
٥ من م، في الأصل: الاختيار..
٦ في الأصل و م: جوازها..
٧ من م، في الأصل: والثاني..
٨ انظر معجم القراءات القرآنية ج ٤/١٨١ و/١٨٢..
٩ ساقطة من الأصل وم..
١٠ ساقطة من الأصل وم..
١١ في الأصل وم: اعتراني وعرني واعتراني..
١٢ في الأصل وم: قنعته..
١٣ في الأصل وم: وصوافن أي قائما..
١٤ في الأصل وم: صوتا..
١٥ ١ ساقطة من الأصل و م.
٢ ساقطة من الأصل وم.
٣ في الأصل و م: تسخيرها.
٤ في الأصل و م: ذلك.
٥ في الأصل : بالتقوى لا، في م: غيرها لا..
١٦ ؟؟؟؟.
١٧ ؟؟؟؟.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (الْقَانِعَ): السائل، يقال: قنع يقنع قنوعًا، ومن الرضا: قنع يقنع قناعة، (وَالْمُعْتَرَّ): الذي يعتريك ولا يسأل، يقال: اعتراني: وعدني، واعتراني.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (الْقَانِعَ): السائل، والقنوع: السؤال، والقناعة من الرضا، يقال منه: قنع يقنع قناعة، ويقول: قنعته، أي: أرضيته، وقنعته، أي: غطيت رأسه بالقناع ونحوه، ويقال من المعتر: اعتر اعترارا واعترى وعرا يعر، وكلها واحد.
وقال: (صَوافَّ)، أي: قياما مصطفة، وقال: ويكون (صوافن)، أي: قائمًا ثلاث قوائم. يقال: صفن الفرس يصفن صفونا: إذا قام على ثلاث قوائم.
وقوله: (وَجَبَتْ جُنُوبُهَا)، أي: سقطت إلى الأرض، يقال: وجب يجب وجوبا، فهو واجب: إذا سقط، ووجبت الشمس: إذا غابت، قال: وهذا كله من الصوت، يقال: سمعت وجبة، أي: صوتًا، وقال: (مَنسَكًا)، أي: موضعا ينسكون إليه للعبادة.
وعن ابن عَبَّاسٍ قال: (الْقَانِعَ): الذي يقنع بما أعطيته، (وَالْمُعْتَرَّ): الذي يريك نفسه ولا يسأل.
وقوله: (كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ) أي: البدن التي ذكرناها.
ثم يحتمل ما ذكر من تسخيره إياها لنا وجهين:
أحدهما: (كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا) أي: كما سخرناها لكم لركوبها والحمل عليها وأنواع الانتفاع بهأ في حال الحياة، كذلك سخرناها لكم، أي: مثل الذي وصفته لكم، كل ذلك من تسخيرها إياها لكم، واللَّه أعلم.
وقوله: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧) هذا يحتمل وجهين: أحدهما: لن يقبل اللَّه ذلك إلا ممن كان من أهل التقوى، لا يقبلها من أهل الكفر؛ لأنهم قد كانوا ينحرون البدن في الجاهلية، على ما ذكرنا، فأخبر أنه لا يقبل ذلك إلا ممن كان من أهل التقوى، وهو كقوله: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).
والثاني: أن يكون قوله: (لَن يَنَالَ اللَّهَ) أي: لن يرفع إلى اللَّه إلا الأعمال الصالحة الزاكية وما كان بالتقوى، وأما ما كان غيرها فإنه لا يرفع ولا يصعد بها، وهو ما قال: (وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ).
وقال بعض أهل التأويل: ذكر هذا؛ لأن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن [نضحوا]
وقوله: (لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) أي: لتصفوا اللَّه بالعظمة والكبرياء على ما هداكم من أسباب تسخير البدن التي بها يوصل إلى الانتفاع بها من أنواع الانتفاع؛ إذ لولا ما هدانا اللَّه وعلمنا من الأسباب التي بها تسخر وتذلل وإلا ما قدرنا على الانتفاع بها؛ لقوتها ولشذتها وصلابتها.
والثاني: بأن يكون قوله: (عَلَى مَا هَدَاكُمْ) من أمر الذين والهدي.
وقوله: (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) يخرج قوله: (الْمُحْسِنِينَ) على وجوه:
أحدها: محسنين إلى أنفسهم، أو المحسنين إلى إخوانهم، أو الذين حسنت أفعالهم، وصلح عملهم، فأما المحسنين إلى اللَّه فلا يحتمل، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) وفي بعض القراءات: (إن اللَّه يدفع عن الذين آمنوا) بغير ألف، وتأويل (يَدْفَعُ)، أي: ، يدفع عن الذين آمنوا جميع شرور الكفرة وأذاهم، وتأويل (يُدَافِعُ)، أي: يدافع الكفار عنهم بنصر المؤمنين عليهم، وكأن قوله: (يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) إنما نزل بمكة، وعد للذين آمنوا هنالك النصر والدفع عنهم في حال قلتهم وضعفهم وكثرة أُولَئِكَ الكفرة وقوتهم، وهنالك كانوا كذلك - أعني: بمكة - قليلا ضعفاء، ويكون نزول قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) بالمدينة؛ لأنه هنالك كان أهل الخيانة؛ لأنهم كانوا أهل كتاب اؤتمنوا على رسالة مُحَمَّد وأشياء فخانوها وكتموها، ولم يكن يومئذ أحد بمكة منهم، إنما كانوا جميعًا أهل شرك، فيشبه أن يكون ما ذكرنا.
أو يكون قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) بإزاء ما قالت اليهود: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، فأخبر أنه لا يحب كل خوان كفور على ما يقولون، بل يبغضهم،
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) قال بعض أهل التأويل: إن المشركين كانوا لا يزالون يؤذون أصحاب رسول اللَّه ويقاتلونهم وهم لم يؤمروا بقتال بعد، فلما هاجروا إلى المدينة أمروا بقتالهم بقوله: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) قَالَ بَعْضُهُمْ: إنه لم يكن لهم الأمر بقتالهم، ولا الإذن حتى أمروا بذلك، وأُذنوا، فقال أُولَئِكَ: لم تؤمروا بقتالنا، فيكف تقاتلوننا؟ فأخبر: أنهم أذنوا وأمروا بالقتال معهم، والله أعلم بذلك.
وظاهره: أنه كان هنالك منع عن القتال حتى أذنوا وأمروا، ولكن لا ندري لأية جهة كان ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) ظاهر على ما أخبر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ... (٤٠) قال بعض أهل التأويل: أخرج الكفار أصحاب رسول اللَّه من مكة بغير حق بأن قالوا: ربنا اللَّه، وآمنوا به ووحدوه؛ لهذا أخرجوهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: على التقديم والتأخير، يقول: كأنه قال: أذن للذين ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق أن يقاتلوهم إلا أن يقولوا: ربنا اللَّه، فإذا قالوا ذلك يرفع عنهم القتال؛ لأن أهل مكة كانوا لا يقرون باللَّه ولا يؤمنون به، فإذا قالوا ذلك وأقروا أنه ربهم رفع عنهم القتال، وأما من يقر به ويصدقه لكنه ينكر رسالة مُحَمَّد ونبوته، فما لم يقر بها ولا يصدق بها فإن القتال لا يرفع عنهم، ومن يقر به ويصدقه بأنه رسوله إلا أنه ينكر الشرائع فإنه يقاتل حتى يقر بها ويصدق بها، فإذا أقر بها رفع عنهم القتال، وذلك كله روي في الخبر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - قال: " أُمِرتُ أنْ أقاتلَ الناسَ حتى يقولوا: لا إلهَ إلا اللَّه، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالَهم إلا بحقهَا "، وفي خبر آخر: " حتى يقولوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وأني رسول اللَّه، فإذا قالوا ذلك عصموا مني... " كذا، وفي خبر آخر: " حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأني رسول اللَّه، وأقاموا الصلاةَ وآتوا الزكاةَ... " إلى آخر ما ذكر، فالأول للذين
وقوله: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ...) إلى آخر ما ذكر، وقال في آية أخرى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) وفي موضع آخر: (لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ)، ونحوه.
قَالَ بَعْضُهُمْ: دفع بالنبيين عن المؤمنين، ودفع بالمجاهدين عن القاعدين ما لو لم يدفع لهدمت كذا وما ذكر، أي: دفع بالأخيار عن الأشرار، وبالأخير عن الأدون، وإلا لهدمت وفسد ما ذكر.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: لولا أن اللَّه يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي، وبمن يصوم عمن لا يصوم، وبمن يحج عمن لا يحج، وبمن يزكي عمن لا يزكي، وبمن يفعل الخيرات عمن لا يفعل - لفسدت الأرض، ولهدمت الصوامع، وما ذكر، وعلى ذلك روي عن أبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه صلى بأهل دمشق صلاة الصبح، فقال: لو يعلم الناس ما في هذه الصلاة من الخير لحضروها. ثم قال: لولا أن اللَّه يدفع بمن يحضر المساجد عمن لا يحضرها، وبالغزاة عمن لا يغزو - لجاءهم العذاب قبلا. أو كلام نحو هذا.
وقال الحسن: إن في الصوامع والبيع والكنائس من الرهبان والأحبار من يتمسك بالإسلام وشرائعه فيدفع بهم عمن لا يتمسك منهم.
وقال بعضههم: لولا دفع اللَّه بأهل هذا الذين كلهم، لكان كذا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: دفع بالمسلمين عن مسجدهم، وبالنصارى عن بيعتهم، وباليهود عن كنيستهم. إلى هذا ذهب أهل التأويل والمتقدمون، ولو قيل غير هذا كان أشبه وأقرب، وهو أن اللَّه خلق هذا الخلق، وجعل بعضهم عونًا لبعض وردءًا في أمر المعاش والدِّين جميعًا، وجعل لبعضهم منافع متصلة ببعض ما لو كلف كله القيام بنفسه فيه، لهلكوا ولم يكن في وسعهم القيام بذلك، نحو أن يكلف أحدًا بالقيام بجميع ما يحتاج إليه من الحراثة، والزراعة، والحصاد، والدياس، والتذرية، والطحن، والخبز، وغيره، ما لو كلف بنفسه بذلك كله لهلك، ولكن جعل بعضهم عونا لبعض وردءًا لهم، وانتفاع بعضهم ببعض، وكذلك الغزل، والنسج، والخياطة، والقطع، والغسل كله على هذا القياس ما لو كلف بنفسه القيام بذلك كله لهلكوا، ولو هلكوا هلك ما لهم خلق من السماوات والأرض
وقَالَ بَعْضُهُمْ: دفع بما يذكر أهل المساجد في المساجد من اسم اللَّه عن أهل الصوامع والبيع والكنائس، وهو قريب مما ذكرنا من قبل.
ثم اختلف فيما ذكر من الصوامع والبيع والصلوات:
قَالَ بَعْضُهُمْ: الصوامع للراهبين، والبيع للنصارى، والصلوات: الكنائس التي تكون لليهود، والمساجد للمسلمين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الصلوات للصابئين.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: الصوامع للصابئين، والبيع للنصارى، وصلوات: بيوت صلوات اليهود، والمساجد للمسلمين.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: الصوامع للرهبان، والبيع للنصارى: مصلاهم، والصلوات لليهود، وهي شبه البيعة، على ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي: من كان من أولياء اللَّه نصره.
وقال الحسن: من حكمه أن من نصر اللَّه نصره. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم في غير موضع.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) يحتمل: قوي لنصر أوليائه، عزيز الانتقام من أعدائه.
أو أن يكون قوله: (لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي: قوي، فيضعف كل قوي من دونه عند قواه، ويذل كل عزيز عند عزه.
أو قوي لا قوي سواه، عزيز لا عزيز سواه.
وفي: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ) وما ذكر - دلالة ترك هدم الكنائس والبيع وما ذكر، والنهي عن هدمها؛ لأنه ذكر الصوامع والبيع، وعلى ذلك تركت الكنائس والبيع في أمصار المسلمين لم تهدم، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك، وإنَّمَا يمنعون عن إحداث البيع والكنائس في أمصار المسلمين وقراهم، وأمَّا العتيقة منها فإنهم يتركون وذلك، واللَّه أعلم.
وقال بعضهم : على التقديم والتأخير ؛ يقول : كأنه قال : أذن للذين ظلموا، وأخرجوا من ديارهم بغير حق، أن يقاتلوهم إلا أن يقولوا ربنا الله. فإذا قالوا ذلك يرفع عنهم القتال لأن أهل مكة كانوا لا يقرون ( بوحدانية الله، ويشركون )٢ به فإذا قالوا ذلك، وأقروا أنه ربهم رفع عنهم القتال. وأما من يُقِرُّ به، ويصدقه، لكنه ينكر رسالة محمد ونبوته، فمن٣ لم يقر بها، ولا يصدق بها، فإن القتال لا يرفع عنه٤، ومن يقر به ويصدقه بأنه رسوله، إلا أنه ينكر الشرائع فإنه يقاتل حتى يقر بها، ويصدق بها، فإذا أقر بها رفع عنه٥ القتال.
وذلك كله روي في الخبر أنه قال صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصموا مني دماؤهم وأموالهم إلا بحقها " ( البخاري ٢٥ ).
وفي خبر آخر ( ( حتى )٦ يقولوا : لا إله إلا الله، وإني رسول الله. فإذا قالوا ذلك عصموا مني كذا ).
وفي خبر آخر :( حتى يقولوا : لا إله إلا الله، وإني رسول الله. وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ) ( البخاري ٢٥ ) إلى آخر ما ذكر.
فالأول ( في الذين )٧ لا يقرون بوحدانية الله. فإذا أقروا به /٣٤٩- ب/ رُفِعَ عنهم القتال.
والثاني : في الذين يُقِرُّونَ به، ولا يؤمنون بالرسالة. فإذا آمنوا بها رفع عنهم القتال.
والثالث : في الذين يقرون بالله، ويؤمنون برسوله، لكنهم ينكرون الشرائع. فإذا أقروا بها رفع عنهم القتال.
كانوا أنواعا ثلاثة على ما ذكرنا فجاء في كل فريق ما ذكرنا والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ﴾إلى آخر ما ذكر كقوله ٨ في آية أخرى :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ﴾( البقرة : ٢٥١ ) وكقوله ٩ في موضع آخر :﴿ لفسدت السموات والأرض ﴾( المؤمنون : ٧١ ) ونحوه.
قال بعضهم : دفع بالنبيين عن المؤمنين، ودفع بالمجاهدين عن القاعدين ما لو لم يدفع لهدمت كذا وما ذكر، أي دفع بالأخيار عن الشرار وبالأخير عن الأَدْوَن، وإلا لهدمت، وفسد ما ذكر.
وقال بعضهم : لو لا أن الله يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج، وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يفعل الخيرات عمن لا يفعل وإلا لفسدت الأرض ولهدمت الصوامع وما ذكر.
وعلى ذلك عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه صلى بأهل دمشق صلاة الصبح، فقال : لو يعلم الناس ما١٠ في هذه الصلاة من الخير لحضروها. ثم قال : لولا أن الله يدفع بمن يحضر المساجد عمن لا يحضرها، وبالغزاة عمن لا يغزو لجاءهم العذاب قبلا، أو كلاما١١ نحوا هذا.
وقال الحسن : إن( في )١٢ الصوامع والبيع والكنائس من الرهبان والأحبار ( من )١٣ يتمسك بالإسلام وشرائعه، فيدفع بهم عمن لا يتمسك منهم.
وقال بعضهم : لولا دفع الله بأهل هذا الدين كلهم١٤ لكان كذا. وقال بعضهم : دفع بالمسلمين عن مسجدهم وبالنصارى عن بيعتهم وباليهود عن كنيستهم. إلى هذا ذهب أهل التأويل والمتقدمون.
ولو قيل غير هذا لكان أشبه وأقرب ؛ وهو أن الله خلق هذا الخلق، وجعل١٥ بعضهم عونا لبعض وردا في أمر المعاش والدين جميعا، وجعل بعضهم منافع متصلة ببعض لما١٦ لو كلف كلا القيام بنفسه لهلكوا، ولم يكن في وسعهم القيام بذلك، نحو أن لم يكلف أحدا القيام بجميع ما يحتاج إليه من الحراثة والزراعة والحصاد والدراس والتذرية والطحن والخبز وغيرها لما ١٧ لو كلف بنفسه بذلك كله لهلك. ولكن جعل بعضهم عونا لبعض وردا ( في انتفاع )١٨ بعضهم ببعض.
وكذلك الغزل والنسيج والخياطة والقطع والغسل كله على هذا القياس لما ١٩ لو كلف ( كل )٢٠ بنفسه القيام بذلك كله لهلكوا، ولو هلكوا هلك ما لهم خلق من السموات والأرض وما فيهما وما سخر لهم.
وقال بعضهم : دفع بما يذكر أهل المساجد في المساجد من أسماء ٢١ الله عن أهل الصوامع والبيع والكنائس، وهو قريب مما ذكرنا من قبل.
ثم اختلف في ما ذكر من الصوامع والبيع والصلوات. قال بعضهم : الصوامع للراهبين، والبيع للنصارى، والصلوات للكنائس التي تكون لليهود، والمساجد للمسلمين. وقال بعضهم : الصلوات للصابئين.
وقال القتبي : الصوامع للصابئين، والبِيَعُ للنصارى، والصلوات٢٢ بيوت صلوات اليهود، والمساجد للمسلمين.
وقال أبو عوسجة : الصوامع للرهبانية، والبيع للنصارى ومصلاهم، والصلوات لليهود، وهي شبه البيعة على ما ذكرنا، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ ولينصرن الله من ينصره ﴾( أي من نصر )٢٣ أولياء الله نصره. وقال الحسن : من حكمه : أن من نصر٢٤ الله نصره. وقد ذكرنا هذا في ما تقدم في غير موضع.
وقوله تعالى :﴿ إن الله لقوي عزيز ﴾ يحتمل﴿ لقوي ﴾لنصر أوليائه ﴿ عزيز ﴾ لانتقام أعدائه. أو يكون قوله :﴿ لقوي عزيز ﴾ قويا٢٥ يضعف كل قوي من دونه عند قواه ( وعزيزا )٢٦ يذل كل عزيز، أو قويا٢٧، لا قوي سواه، عزيزا٢٨ لا عزيز سواه.
وفي ( قوله تعالى )٢٩ :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ﴾ وما ذكر دلالة ترك هدم الكنائس والبيع وما ذكر، والنهي عن هدمها لأنه ذكر الصوامع والبيع. وعلى ذلك تركت الكنائس والبيع في أمصار المسلمين لم تهدم. ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك، وإنما يمنعون عن إحداث البيع والكنائس في أمصار المسلمين وقراهم. وأما العتيقة منها فإنهم يتركون ذلك٣٠، والله أعلم.
٢ في الأصل وم: بالله ولا يؤمنون..
٣ في الأصل وم فما...
٤ في الأصل وم عنهم..
٥ في الأصل وم عنهم..
٦ ساقطة من الأصل وم..
٧ في الأصل وم : للذين.
٨ في الأصل وم : و قال..
٩ في الأصل وم: و..
١٠ من م ساقطة من الأصل..
١١ في الأصل وم كلام..
١٢ من م ساقطة من الأصل..
١٣ ساقطة من الأصل وم..
١٤ في الأصل وم: كلها..
١٥ في الأصل وم: وقال..
١٦ في الأصل وم: ما..
١٧ في الأصل وم: ما..
١٨ في الصل وم: والانتفاع..
١٩ في الأصل وم: ما..
٢٠ ساقطة من الأصل وم..
٢١ في الأصل وم: اسم..
٢٢ في الأصل وم: وصلوات..
٢٣ في الأصل أو من نصر، في م: أو من..
٢٤ في الأصل وم: نصره..
٢٥ في الأصل: وم: أي قوي فيضعف.
.
٢٦ في الأصل وم: و..
٢٧ في الأصل وم: قوي..
٢٨ في الأصل وم: عزيز..
٢٩ ساقطة من الأصل وم..
٣٠ في الأصل وم: وذلك..
قَالَ بَعْضُهُمْ: هذا نعت من اللَّه لأصحاب رسول اللَّه ومن تبعه، ومدح لهم بالدوام على دين اللَّه الذين قبلوه وأخذوه في حال الخوف بعد ما مكن لهم في الأرض، وآمنهم من ذلك الخوف الذي كان في الابتداء، وأخبر أنهم داموا على ذلك ولم يتركوا ما داموا عليه، بل زاد لهم حرصًا على ذلك وجهدًا، وكذلك الآية التي ذكرت في سورة النور، وهو قوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ...) إلى آخر الآية. فإن كان التأويل هذا فهو يرد على الروافض قولهم ومذهبهم؛ لأنهم يقولون: إنه لما ولي أبو بكو ارتدوا جميعًا، وتركوا الدِّين الذي اختاروه، فالآيتان تدلان على نقض قولهم، أنهم ارتدوا؛ لأن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - أخبر أنه مكن لهم في الأرض، واستخلفهم، ووعد لهم الجنة، وإنما ارتد من كان إسلامه بالقهر والغلبة فإذا مكن لهم تركوا ذلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن الآية وإن كان ظاهرها خبرا ووعدا فهي في الحقيقة أمر: أن افعلوا كذا... إلى آخر ما ذكر.
وقوله: (وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) يحتمل قوله: (عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي: ترجع إليه الأمور في الآخرة، كقوله: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).
وجائز أن يكون قوله: (عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) أن يكون عاقبة الأمور لأوليائه من النصر والقهر على أعدائه، فالمراد بالإضافة إليه: أولياؤه، كقوله: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ) أي: إن، تنصروا أولياءه، أو تنصروا دينه، ينصركم، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (٥١)
وقوله: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ...) الآية.
أحدهما : وإن يكذبوك في ما أخبرت لهم، وذكرت من التمكين والثبوت على الدين، ووعدت لهم الجنة، فقد كذبت٢ الأمم الذين من قبلك رسلهم إذا أخبروا لهم بشيء، أو وعدوا لهم بنصر أو نحوه.
والثاني٣ : جائز أن يكون قوله﴿ وإن يكذبوك ﴾في الرسالة وفي ما تخبر عن الله من الأخبار، يصبر رسوله : لست أنت بأول مكذب في الخلق، ولكن قد كذب الأقوام الذين كانوا من قبلك رسلهم في الرسالة. وهو ما قال﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ﴾الآية ( هود : ١٢٠ ).
٢ أدرج بعدها في الأصل وم: لهم..
٣ في الأصل وم: و..
أحدهما : وإن يكذبوك في ما أخبرت لهم، وذكرت من التمكين والثبوت على الدين، ووعدت لهم الجنة، فقد كذبت٢ الأمم الذين من قبلك رسلهم إذا أخبروا لهم بشيء، أو وعدوا لهم بنصر أو نحوه.
والثاني٣ : جائز أن يكون قوله﴿ وإن يكذبوك ﴾في الرسالة وفي ما تخبر عن الله من الأخبار، يصبر رسوله : لست أنت بأول مكذب في الخلق، ولكن قد كذب الأقوام الذين كانوا من قبلك رسلهم في الرسالة. وهو ما قال﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ﴾الآية ( هود : ١٢٠ ).
٢ أدرج بعدها في الأصل وم: لهم..
٣ في الأصل وم: و..
أحدهما: وإن يكذبوك فيما أخبرت لهم وذكرت من التمكين، والثبوت على الدِّين، ووعدت لهم الجنة، فقد كذبت الأمم الذين من قبلك رسلهم إذا أخبروا لهم بشيء، أو وعدوا لهم بنصر، أو نحوه.
وجائز أن يكون قوله: (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) في الرسالة وفيما تخبر عن اللَّه من الأخبار، يصبر رسوله: لست أنت بأول رسول مكذب في الخلق، ولكن قد كذب الأقوام الذين كانوا قبلك رسلهم في الرسالة، وهو ما قال: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ...) الآية.
وقوله: (فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (٤٤) أي: لم يعاقب اللَّه قومًا كذبوا رسلهم وقت تكذيبهم الرسل، بل أمهلهم حتى اغتروا بتأخير العذاب عنهم، وزاد لهم تكذيبًا وعنادًا، فعند ذلك أخذوا، وعوقبوا بالتكذيب، وهو ما أخبر عنهم، وهو كقوله: (لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ).
قال الحسن: إن اللَّه لم يهلك قومًا بأول التكذيب، ولكن أمهلهم قرنًا فقرنا، وقوما بعد قوم، ورسولا بعد رسول، فعند ذلك إذا علم منهم أنهم لا يؤمنون أهلكهم، وإن كان يعلم في الأزل من يؤمن منهم ومن لا يؤمن حتى يعلم علم ظهور وعلم ابتلاء أنهم لا يؤمنون، وهو كقوله: (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ) علم ظهور في الخلق، وإن كان يعلم علم باطن وخفي.
وقوله: (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) لم يهلك اللَّه تعالى أهل قرية إهلاك استئصال وتعذيب إلا بعد عناد أهلها وظلم شرك، كقوله: (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ)، وكقوله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ)، وأمثاله كثير، على ما ذكرنا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) فإذا ذهبت السقف وبقيت الحيطان فهي خاوية على عروشها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: خاوية: خربة، ساقطة حيطانها على سقوفها.
وقال الحسن: العريش: كل ما ارتفع من الأرض وعلا، يقال: عرش، وعروش جمع، وهكذا كان ما أهلك اللَّه من القرى:
وكقوله :﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم ﴾( هود : ١١٧ ) وأمثاله كثيرة١.
وقوله تعالى :﴿ فهي خاوية على عروشها ﴾( قال بعضهم )٢ : فإذا ذهبت السقف وبقيت٣ الحيطان﴿ فهي خاوية على عروشها ﴾ وقال بعضهم : خاوية : خربة ساقطة حيطانها على سقوفها.
وقال الحسن : العريش : كل ما ارتفع من الأرض، وعلا ؛ يقال : عرش، وعروش جميع. وهكذا كان ما أهلك الله من القرى : منها ما أهلك أهلها، وترك القرى والبنيان على حالها لأوليائها ؛ من ذلك فرعون( وقومه وغيرهم )٤ من الأقوام، ومنها ما أهلك القرى بأهلها، لم يترك منها شيئا من نحو قريات لوط وثمود وعاد وغيرها٥.
وقال بعضهم : العروش٦ هي أجزام الشجر، وكأنها أساطينها٧. وأصل الخاوية خلاؤها عن الأهل٨.
وقوله تعالى :﴿ وبئر معطلة ﴾عطلها أهلها، ليس بها أحد. لا أنها خربت على ( ما )٩ ذكرنا من إهلاك أهلها.
وقوله تعالى :﴿ وقصر مشيد ﴾قال بعضهم :﴿ مشيد ﴾مجصص، والشيد الجص، وقال بعضهم﴿ مشيد ﴾ مرتفع، والمشيد بالتشديد المطول المرتفع.
قال القتبي : المشيد المبني بالشيد، وهو الجص، والمشيد المطول، ويقال : هما سواء، وهو مطول. وكذلك قال أبو عوسجة أو قريبا ( منه )١٠.
وكأنه ذكر هذا لأهل مكة لوجهين : أحدهما : أن كانت قرية، فيها قصور مشيدة محصنة، يتحصنون بها. يخبر أن من كان قبلكم أشد قوة وأكثر حصنا وقصورا. فلما كذبوا وسلهم لم ينفعهم ذلك، ولكن نزل بهم العذاب. فعلى ذلك أنتم يا أهل مكة إذا كذبتم رسولكم ينزل بكم مثل ما نزل بأولئك.
( والثاني )١١ : أن يكونوا آمنين فيها مطمئنين. فقال : إن أولئك قد كانوا آمنين مطمئنين في قراهم كأمنكم، ثم نزل بهم ما نزل. فأنتم وإن كنتم آمنين فسينزل بكم ما نزل بأولئك. وهو ما قال سبحانه وتعالى﴿ وضرب مثلا قرية كانت أمنة مطمئنة ﴾ الآية ( النحل : ١١٢ ) والله أعلم.
٢ ساقطة من الأصل وم..
٣ في الأصل وم: بقية..
٤ في الأصل وم: وقوله وغيره..
٥ في الأصل وم : وهؤلاء..
٦ في الأصل وم: والعرش..
٧ في الأصل وم: أسطوانته..
٨ أدرج بعدها في الأصل وم: و كذلك..
٩ ساقطة من الأصل وم..
١٠ ساقطة من الأصل وم..
١١ في الأصل وم أو..
ومنها: ما أهلك القرى بأهلها، لم يترك منها شيئًا، من نحو قريات لوط وثمود وهَؤُلَاءِ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: العرش: هي أجذام الشجر، وكأنها أسطوانة، وأصل الخاوية: خلاؤها عن الأهل، وكذلك قوله: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) عطلها أهلها، ليس بها أحد، لا أنها خربت على أماأ ذكرنا من إهلاك أهلها.
وقوله: (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: (مَشِيدٍ): مجصص، والشيد: الجصّ.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَشِيدٍ): أي: مرتفع، والمُشَيَّد - بالتشديد -: المطول المرتفع.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: المشِيد: المبني بالشيد، وهو الجص، والمشَيَّد: المطول، ويقال: هما سواء، وهو مطول. وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ أو قريبًا، وكأنه ذكر هذا لأهل مكة لوجهين:
أحدهما: أن كانت لهم قرية فيها قصور مشيدة محصنة يتحصنون بها، يخبر أن من كان قبلكم أشد قوة وأكثر حصنا وقصورا، فلما كذبوا رسلهم لم ينفعهم ذلك، ولكن نزل بهم العذاب، فعلى ذلك أنتم يا أهل مكة إذا كذبتم رسولكم ينزل بكم مثل ما نزل بأُولَئِكَ.
أو أن يكونوا آمنين فيها مطمئنين، فقال: إن أُولَئِكَ قد كانوا آمنين مطمئنين في قراهم كأمنكم، ثم نزل بهم ما نزل، فأنتم دوإن كنتم آمنين فينزل بكم ما نزل بأُولَئِكَ، وهو ما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً...) الآية، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) هلا ساروا في أن ارض، فتكون لهم قلوب يعقلون بها فينظروا؛ ليعرفوا ما حل بأُولَئِكَ بالتكذيب؛ فيمتنعون عنه، (أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) أي: يسيروا فيستمعوا إلى الأخبار التي فيها ذكر هلاكهم، وما نزل بهم بالتكذيب والعناد؛ لأن ما حل بالأولين إنما يعرف ذلك بأحد أمرين: إما بالمعاينة بالنظر
أو أن يكون قوله: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي: قد ساروا في الأرض، لكن لم تكن لهم قلوب - عقول أو أفهام - يعقلون بها ما نزل بأُولَئِكَ بالتكذيب فيعتبروا بذلك، ولا كانت لهم آذان يستمعون ما حل بهم، أي: كانت لهم عقول يعقلون بها لو نظروا حق النظر، وآذان يسمعون بها لو سمعوا حق السماع، لكنهم لما لم ينتفعوا بعقولهم وأسماعهم نفى ذلك عنهم، وهو ما قال: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ) الظاهرة، (وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) وهو ما نفى عنهم السمع والبصر؛ لتركهم الانتفاع بها (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هذه الآية في شأن عبد اللَّه بن زائدة ابن أم مكتوم الأعمى، معناه: أن العمى عمى القلب، ليس عمى البصر، وهو كان أعمى البصر، لا أعمى القلب، هذا معناه إن ثبت، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ (٤٧) أي: لن يخلف اللَّه وعده الذي وعد في نزول العذاب، أي: ينزل بهم، لا يتقدم ولا يتأخر عن ميعاده.
وقوله: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ).
قال عامة أهل التأويل - نحو ابن عَبَّاسٍ والضحاك ومجاهد وهَؤُلَاءِ -: إنها هي الأيام التي خلق اللَّه فيها الدنيا وجعلها أجلا لها، يعد كل يوم من تلك الأيام كألف سنة، وإلى هذا صرف عامة أهل التأويل، فلا نعلم لذلك وجهًا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: وإن يومًا عند ربك من عذابهم في الآخرة كألف سنة مما تعدون في الدنيا، اليوم الواحد ألف سنة.
ووجه هذا: أن الوقت القصير القليل يجوز أن يصير مديدًا طويلا؛ لشدة العذاب والبلاء، نحو ما قيل لهم: (كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، قصر مقامهم في الدنيا؛ لشدة ما عاينوا من العذاب، فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون هذا لا للتوقيت والمدة؛ إذ الآخرة مما لا غاية لانتهائها، وكل شيء
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ (٤٨) أي (أَمْلَيْتُ لَهَا) لم آخذها وقت ظلمهم (ثُمَّ أَخَذْتُهَا) من بعد (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ).
وقوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) هو ظاهر، قد ذكرناه في غير موضع.
وقوله: (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ (٥٠) لذنوبهم ومعاصيهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) وقَالَ بَعْضُهُمْ: سماه رزقا كريمًا؛ لأن من رزق ذلك وأعطي يكرم ويعظم قدره.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: سماه: كريمًا؛ لأن الكريم هو الذي يقضي عنده الحوائج والحاجات؛ فعلى ذلك هو الرزق من ناله وأصابه قضى عنده الحوائج؛ لذلك سمي: كريمًا، والله أعلم.
وقوله: (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (٥١) في بعض القرآن: [(مُعَاجِزِينَ)] قَالَ بَعْضُهُمْ: (مُعَجِزِينَ): مثبِّطين مبطئين، يبطئون الناس عن اتباع الشيء.
والأشبه - عندنا - أن يكون قوله: (مُعَاجِزِينَ): سابقين فائتين، لكنه على الإضمار، كأنه قال: (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ) على ظن منهم أنهم سابقون فائتون عن عذابه (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ).
* * *
قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ
والأشبه عندنا أن يكون قوله :﴿ معاجزين ﴾سابقين قانتين، لكنه على الإضمار ؛ كأنه قال :﴿ والذين سعوا في آيتنا معاجزين ﴾ على ظن منهم أنهم سابقون فائتون عن عذابه ﴿ أولئك أصحاب الجحيم ﴾.
وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى... (٥٢) أي: تلا (أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) قيل: في تلاوته، وقراءته الآية.
قال عامة أهل التأويل: إن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - إذا تمنى - أي: تلا في صلاته - أو حدث نفسه، ألقى الشيطان على لسانه عند تلاوته بـ (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) حتى إذا انتهى إلى قوله: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى). قال: " تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى ". ويذكرون أنه أتاه على صور جبريل، فألقى عليه ما ذكروا، ثم أتاه جبريل فأخبره النبي بذلك، فقال له: إنه لم ينزل عليه قط شيئًا مثله. وأمثال ما قالوا.
لكنه لو كان ما ذكر هَؤُلَاءِ كيف عرفه في المرة الثانية أنه جبريل، وأنه ليس بشيطان، ولا يؤمن أنه يلبس عليه في وقت آخر في أمثاله.
وقال قتادة: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان يتمنى أن يذكر اللَّه آلهتهم بعيب، فلما قرأ تلك الآية (وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى)، قال: " إنهن الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى عندهم "، يعني به: عند أُولَئِكَ الكفرة، وهم على ذلك كانوا يعبدونها.
وقال الحسن: إنه أراد بقوله: " تلك الغرانيق العلا وإن، شفاعتهن لترتجى " الملائكة؛ لأنهم كانوا يعبدون الملائكة؛ رجاء أن يشفعوا لهم يوم القيامة، فأخبر أن شفاعة الملائكة ترتجى.
وهذان التأويلان أشبه من الأول.
والأشبه - عندنا -: أن يكون على غير هذا الذي قالوا، وهو أن قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي: عند تلاوته القرآن في قلوب الكفرة ما يجادلون به رسول اللَّه ويحاجونه؛ فيشبهون بذلك على الأتباع ليتبعوهم، وهو نحو قولهم: إنه يحرم ما ذبحه اللَّه، ويحل ما ذبح هو بنفسه. ونحو قولهم عند نزول
وبين في قولهم: إن عيسى عبد دون اللَّه والملائكة عبدوا دونه، فهم ليسوا بحصب جهنم، حيث استثنى أُولَئِكَ فقال: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى... الآية. وأبطل مجادلتهم ومحاجتهم، بصرفهم الآية إلى حساب الجُمَّل بقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ...) الآية، فهذا - واللَّه أعلم - تأويل قوله -: (فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ) نسخ ما ألقى الشيطان في قلوب أُولَئِكَ الكفرة ما به جادلوه، وأحكم آياته بما ذكرنا.
ثم إن ثبت ما ذكر ابن عَبَّاسٍ وعامة من ذكرنا، حيث قالوا: جرى على لسانه ذلك، فجائز عندنا جرى الخطأ على لسان من عصم إذا عرف السامع منه مذهبه ودينه الذي يدين به، عرف أن ما جري غلطا وخطأ، نحو من يعتقد مذهبًا وينتحل نحلة، فجرى على لسانه خلاف ما يعرف منه الاعتقاد، يعرف أنه جرى على لسانه غلطًا، فعلى ذلك الذي ذكره أهل التأويل؛ إن ثبت ما ذكروا عنه أنه قال ذلك.
والأشبه فيه ما ذكرنا من إلقاء الشيطان في قلوب الكفرة ما يجادلون به رسول الله ويحاجونه، كقوله: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ...) الآية.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (إِلَّا إِذَا تَمَنَّى) أي: تلا القرآن (أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي: في تلاوته. وكذلك قال أَبُو عَوْسَجَةَ، وقال: أمانِيَّ مشددة جمع.
وقال غيرهما: إذا تمنى: إذا حدث، وفي أمنيته: في حديثه.
وقال قتادة: تمنى ما ذكرنا من تمني النفس أن يذكر آلهتهم التي كانت تدعى وترجى شفاعتهن، على ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) هذا تأويل القوم: ليجعل ما يُلقي الشيطان في قلوب أُولَئِكَ الكفرة فتنة للذين ذكر؛ لما ظنوا لعله لا يقدر الإجابة لهم، أو لا يحضره ما يجيبهم؛ فيكون ذلك فتنة لهم، واللَّه أعلم.
وقوله: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) كأنهم هم المنافقون؛ لأنهم هم الموصوفون المسمون بهذا الاسم، كقوله: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا).
وقوله: (وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) كأنهم هم الرؤساء المكابرون المعاندون لرسول الله والكفرة كلهم موصوفون بقساوة قلوبهم، كقوله: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً).
وقوله: (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) يحتمل: أي: لفي عناد وفي مكابرة بعيد عن الإجابة له، أو بعيد لاستماع الحق وقبوله.
وقيل: شقاق: أي: خلاف بعيد، أي: لا يرجعون إلى الوفاق أبدًا.
وقوله: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ (٥٤) وقوله: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) هذه الآية كالآيات التي ذكرناها فيما تقدم، من ذلك قوله (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ...) الآية. ونحوها من الآيات التي وصفت أهل التوحيد بالقبول لها والخضوع والإقبال إليها ووصفت أهل الكفر بالرد والتكذيب، فعلى ذلك قوله: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) علم الذين أوتوا العلم أن القرآن ومحمدًا لحق من ربك؛ لأنهم نظروا إليه بالتعظيم والتبجيل والخضوع له، فأقروا به، فزاد لهم بذلك هدى ورحمة وشفاء، وأُولَئِكَ نظروا إليه بالاستخفاف والاستهزاء والتكذيب، فزاد لهم بذلك رجسًا وضلالا وفسادا.
وقوله: (عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥)
قَالَ بَعْضُهُمْ: هو يوم بدر.
فعلى ذلك قوله :﴿ وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك ﴾علم الذين آمنوا٣ أن القرآن ومحمدا الحق من ربك لأنهم نظروا إليه بالتعظيم والتبجيل والخضوع له، فأقروا به، فزاد لهم بذلك هدى ورحمة وشفاء. وأولئك نظروا إليه بالاستخفاف والهواء والتكذيب فزاد لهم بذلك رجسا وضلالا وفسادا٤.
وقوله تعالى :﴿ عذاب يوم عقيم ﴾قال بعضهم : هو يوم بدر، وقال بعضهم : هو عذاب يوم القيامة، وهو شديد. وجائز أنه سماه عقيما لأنه لا ترجى النجاة منه ولا الخير. وكذلك سميت المرأة التي لا تلد عقيما ( لما٥ ) لا يرجى منها الولد.
٢ في الأصل وم: وصف..
٣ في الأصل وم: أوتوا العلم..
٤ من م، في الأصل: وفسادة..
٥ من م، ساقطة من الأصل..
وجائز أنه سمَّاه عقيمًا؛ لأنه لا يرجى النجاة منه، وكذلك سميت المرأة التي لا تلد: عقيمًا؛ لما لا يرجى منها الوليد.
وقوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) قال الحسن: الملك في الأحوال كلها لله في الدُّنيَا والآخرة، لكن تأويل قوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) أي: الحكم يومئذ لله، هو يحكم بينهم دون الخلائق؛ لأن في الدُّنيَا من قد حكم غيره، فأما يومئذ فالحكم له.
وعندنا: تخصيص الحكم يومئذ له بالذكر وإن كان الملك في الأيام كلها لله؛ لأنهم جميعًا يقرون له بالملك يومئذ، لا أحد ينازع، وفي الدنيا من قد ادعى الملك لنفسه، وهو ما ذكره في قوله: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا)، (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)، ونحوه، فعلى ذلك هذا، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٥٧) ظاهر تأويله.
وقوله: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) أما أهل التأويل فإنهم صرفوا تأويل الآية إلى الغزاة والمجاهدين في سبيل اللَّه فقتلوا أو ماتوا حتف أنفهم، فإن لهم ما ذكر من الرزق الحسن والمدخل المرضي، وظاهره أن يكون في الذين هاجروا إلى رسول اللَّه، فإن كان فيهم ففيه دلالة نقض قول الروافض، حيث قالوا: ارتد عامتهم، حيث شهد اللَّه لهم بالجنة، والرزق الحسن، والمدخل المرضي، قتلوا أو ماتوا حتف أنفهم؛ فلا يحتمل أن يكون منهم ما قالوا.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: قوله: (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ)، أي: تخضع وتذل، وهو ما ذكرنا في قوله: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ).
وقال: (عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) كأنه عقم عن أن يكون فيه خيرا وفرجًا للكافر.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ): شديد، وهو ما ذكرنا.
وقوله: (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا) قيل: هو الجنة؛ لأنه إنما ذكر بعد الموت والقتل؛ فلا يكون رزق حسن إلا في الجنة يستحسنها كل طبع وعقل.
أما أهل التأويل فإنهم صرفوا تأويل الآية إلى الغزاة والمجاهدين في سبيل الله قتلوا، أو ماتوا حاف أنفهم، فإن لهم ما ذكر من الرزق الحسن والمدخل المرضي.
وظاهره أن يكون في الذين هاجروا إلى رسول الله. فإن كان فيهم ففيه دلالة نقض قول الروافض حين٢ قالوا : ارتد عامتهم حين٣ شهد الله لهم بالجنة والرزق الحسن والمدخل المرضي ؛ قتلوا، أو ماتوا حتف أنفهم. فلا يحتمل أن يكون منهم ما قالوا.
قال القتبي : قوله :﴿ فتخبت له قلوبهم ﴾ أي تخضع، وتذل. وهو ما ذكرنا في قوله ﴿ وبشر المخبتين ﴾ وقال ﴿ عذاب يوم عقيم ﴾ عن أن يكون فيه خير أو فرج للكافر.
وقال أبو عوسجة :﴿ عذاب يوم عقيم ﴾شديد وهو ما ذكرنا.
وقوله تعالى :﴿ ليرزقنهم الله رزقا حسنا ﴾ قيل : هو الجنة، لأنه إنما بعد الموت والقتل. فلا يكون /٣٥١-أ/ رزق حسن إلا في الجنة، فيستحسنها كل طبع وعقل.
وقوله تعالى :﴿ وإن الله لهو خير الرازقين ﴾أخبر أنه خير الرازقين، وإن لم يكن رازق سواه، لأنهم كانوا يطمعون ويطلبون الرزق والسعة من عند من سواه حين كانوا يعبدون من دونه طمعا في السعة. فأخبر أنه هو الرازق، ومنه يطمع الرزق والسعة، لأنه هو المالك لذلك. وهو ما قال﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ﴾( المؤمنون : ١٤ )، ( وقال :﴿ أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين ﴾( الصافات ١٢٥ ) )٤ وإن لم يكن خالق سواه.
٢ في الأصل وم: حيث..
٣ في الأصل وم: حيث..
٤ ساقطة من الأصل وم..
وقوله: (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) وهو الجنة أيضًا، يرضى بها كل طبع وعقل، (وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) عليم بما صنع بأوليائه أعداؤه، أو ما صنع هو بأوليائه، (حَلِيمٌ) حيث أخر الانتقام من أعدائه، لم ينتقم منهم وقت صنيعهم به، صنعوا بأوليائه، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢)
وقوله: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ) قد ذكرنا فيما تقدم أنه جائز في اللغة ذكر حرف (ذلك) وحرف (هذا) على الابتداء وإن كان مما يخبر به عن غائب، نحو قوله: (هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ)، وقوله: (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) يستقيم ذكره بدون ذكر (هَذَا) وهو أن يقول: وإن للمتقين كذا، وإنّ للطاغين كذا، فعلى ذلك هذا.
أو أن يكون ذكر ذلك صلة ما سبق من ذكر الأنباء والأخبار، يقول: ذلك الذي ذكرت لك وأنبأتك: (وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ).
ثم اختلف في سبب نزول هذه الآية:
قَالَ بَعْضُهُمْ: هي في القصاص: أن من قتل ولي آخر فاقتص منه، ثم أن المقتص منه بغى على ولي المقتول فقتله، لينصرنه على من بغى عليه، وهو ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ)، ثم قال: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ...) كذا، لكن ذكر هاهنا الاعتداء بعد ما أخذ المال وعفا، وفي الأول ذكر البغي بعد القصاص، وهو واحد في معناه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: نزل في المؤمنين والمشركين، وذلك أن المشركين عاقبوا المؤمنين بعقوبات واعتدوا عليهم، ثم إن المسلمين ظفروا بهم، فعاقبوهم جزاء عقوبتهم، ثم إن
ثم اختلف في سبب نزول هذه الآية : قال بعضهم : هي في القصاص : من قتل ولي آخر، فاقتص منه، ثم إن المقتص منه بغى على ولي المقتول، فقتله﴿ لينصرنه الله ﴾على من بغى عليه. وهو ما ذكر في آية أخرى، وهو قوله :﴿ فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ﴾ثم قال :﴿ فمن اعتدى بعد ذلك فله ( عذاب أليم ﴾ )٢ ( البقرة : ١٧٨ ).
لكن ذكر ههنا الاعتداء بعدما أخذ المال، وعفا. وفي الأول البغي بعد القصاص، وهو واحد في معناه.
وقال بعضهم : نزل في المؤمنين والمشركين ؛ وذلك أن المشركين عاقبوا المؤمنين بعقوبات، واعتدوا عليهم. ثم إن المسلمين ظفروا بهم، فعاقبوهم جزاء عقوبتهم، ثم إن المشركين بغوا على المؤمنين، فوعد الله لهم بالنصر عليهم بعد البغي.
وقال بعضهم قريبا من هذا ؛ وهو أن المشركين كانوا يؤذون أصحاب رسول الله ومن آمن منهم، ويعاقبونهم في أشهر الحج، ولم يكن للمؤمنين إذن بقتالهم في ذلك الوقت، فقاتلوهم مكافأة لهم. فأخبر الله عز و جل و وعد لهم النصر إذا بغى أولئك عليهم من بعد. فعلى هذا التأويل يكون وعد النصر لهم إذا بغى أولئك عليهم من بعد. وعلى التأويل الأول يكون لهم الوعد بالنصر بعدما بغى أولئك على هؤلاء، والله أعلم بذلك.
وقوله تعالى :﴿ إن الله لعفو غفور ﴾ أمر للمؤمنين بقتالهم أولئك في أشهر الحج حين٣ كان لم يأذن لهم بالقتال، أو ﴿ إن الله لعفو غفور ﴾ إذا تابوا ورجعوا عما فعلوا والله أعلم.
٢ في الأصل وم: كذا..
٣ ساقطة من الأصل وم..
وقَالَ بَعْضُهُمْ قريبًا من هذا، وهو أن المشركين كانوا يؤذون أصحاب رسول اللَّه ومن آمن منهم، ويعاقبونهم في أشهر الحج، ولم يكن للمؤمنين إذن بقتالهم في ذلك الوقت، فقاتلوهم مكافأة لهم، فأخبر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - ووعد لهم النصر إذا بغى أُولَئِكَ عليهم من بعد؛ فعلى هذا التأويل يكون وعد النصر لهم إذا بغى أُولَئِكَ عليهم من بعد، وعلى التأويل الأول يكون لهم الوعد بالنصر بعد ما بغى أُولَئِكَ على هَؤُلَاءِ، واللَّه أعلم بذلك.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) للمؤمنين بقتالهم أُولَئِكَ في أشهر الحج، حيث كان لم يأذن لهم بالقتال.
أو (إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) إذا تابوا ورجعوا عما فعلوا، واللَّه أعلم.
وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) قد ذكرنا أن حرف (ذَلِكَ) يستقيم ذكره على الابتداء والائتناف على غير صلة.
وجائز أن يكون صلة قوله: (لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ)، أي: ذلك النصر لمن ذكر؛ لأن من قدر على إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل - قادر على ما وعد من النصر لهم.
وقوله: (وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (سَمِيعٌ)، لأقوالهم، (بَصِيرٌ) بحوائجهم،
والسميع، يقال: هو المجيب، أي: مجيب لدعائهم، (بَصِيرٌ) بما يكون من الأعداء.
أو أن يكون على الابتداء في كل أمر، وكذلك: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ (٦٢) ما ذكرنا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ) أي: هو الذي يفعل هذا.
وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) قال الحسن: الحق: هو اسم من أسماء اللَّه، به يعطي وبه يحكم بين الخلق، وبه يقضي، ونحوه.
وجائز أن يكون قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) أي: عنده يتحقق ما يطمع في العبادة ويطلب؛ إذ هو المالك لذلك.
وقوله: (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) أي: ما تطمعون بعبادة من دونه باطل، وهو الأصنام التي عبدوها رجاء الشفاعة، أو طمعا في السعة، فأخبر أنها لا تملك ذلك، وإنما ذلك لله.
وقوله: (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي: من عنده يطلب العلو، ومن عنده يطلب ويطمع الرزق، والسعة، والشفاعة، والنصر، والظفر، والإجابة، لا من عند هَؤُلَاءِ
وقوله تعالى :﴿ وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ﴾أي ما يطمعون في عبادة من دونه باطل، وهو الأصنام التي عبدوها رجاء الشفاعة وطمعا في السعة. فأخبر أنها لا تملك ذلك. وإنما يملك٢ ذلك الله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ وأن الله هو العلي الكبير ﴾أي من عنده يطلب العلو، ومن عنده يطلب، ويطمع الرزق والسعة والشفاعة والنصر والظفر والإجابة، لا من عند هؤلاء الأصنام التي يعبدونها. يذكر سفههم بعبادتهم الأصنام من دون الله.
٢ ساقطة من الأصل وم..
* * *
قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (٦٦)
وقوله: (أَلَمْ تَرَ) اختلف فيه:
قَالَ بَعْضُهُمْ: (أَلَمْ تَرَ) إنما هو حرف تعجيب، يعجب رسول اللَّه جميع ما يفعل من أفعاله.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَلَمْ تَرَ) هو حرف إيضاح الحجج وإنارة براهينه، كقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ)، ونحوه.
وأصله: أن ظاهره وإن كان استفهامًا فهو في الحقيقة تحقيق وإيجاب (أَلَمْ تَرَ) أي: قد رأيت، وقد أخبرت، وهكذا جميع ما خرج الظاهر في الكتاب مخرج الاستفهام فهو في الحقيقة إيجاب وإلزام.
ثم في قوله: (أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) وجهان من الاستدلال على منكري البعث:
أحدهما: يخبر عن قدرته وسلطانه: أن من قدر على إنزال الماء من السماء، وشق الأرض، وإخراج النبات منها مع لينه وضعفه وصلابة الأرض وشدتها - قادر على إحياء الخلق بعد الموت، ولا يحتمل أن يعجزه شيء.
والثاني: حيث قدر على إحياء الأرض بعد مواتها ويبسها، لقادر على البعث والإحياء، وقد عرفوا أن إعادة الشيء أهون من ابتدائه، أو يقدر على الإعادة من لا يملك على الابتداء إذا عرف الابتداء.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) قال الحسن: اللطيف في الشاهد إنما يقال على وجوه ثلاثة: أحدها: أنه يقال للشيء: لطيف؛ لرقته، وذلك عن اللَّه منفي.
والثاني: يقال: لطيف؛ لما يتأتى له الأشياء ولا يصعب عليه.
والثالث: اللطيف: هو الرَّحيم الرءوف. وهذان الوجهان يضافان إلى اللَّه، والأول لا يجوز إضافته إليه.
(خَبِيرٌ): عليم.
والثاني: يخبر أنه لم يأمرهم، ولم ينههم، ولا امتحنهم لمنافع تكون له، ولكن لمنافع الممتحنين (الْحَمِيدُ) هو المحمود في فعاله، أو (الْحَمِيدُ): الحامد.
وقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٦٥) يذكرهم نعمه ليتأدى به شكره؛ لأنه أخبر أنه سخر لهم ما في الأرض من أنواع المنافع؛ ليعلموا أنه لم يخلقهم عبثًا ليتركهم سدى؛ لأن من كان خلقه لما ذكر لم يكن خلقه - ليكون خلقًا - متروكا سدى، ويخبر أنه أعطى لهم الأسباب التي بها يصلون إلى منافع الأرض مع شدتها وصلابتها، والأسباب التي بها يصلون إلى منافع البحر، وهي الفلك التي خلقها لهم؛ ليصلوا بها إلى منافع البحر، حيث خلق الخشب قارًّا على وجه الماء غير متسرب، وغيره من الأشياء من طبعها التسفل والتسرب في الماء من الحديد، والحجر، ونحوهما من الأشياء؛ ليعرفوا فضله ورحمته أن كيف ثبت وقر هذا على وجه الماء، ولم يثبت الحديد والحجر ونحوه، ثم ثبت الحديد على وجه الماء مع الخشب؛ إذ السفن لا تخلو عن الحديد، وبه تقوم السفن، ثم لم يتسرب، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي: يمسك السماء لا بالأسباب ولا بالأشياء التي تمسك الأشياء في الشاهد، وهو ما قال: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا...) الآية.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) أي: من رأفته ورحمته ما خلق لهم وسخر ما ذكر.
وقوله: (وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ... (٦٦) هذا قد ذكرناه.
وقوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ) جائز أن يكون قوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ)، أي: الكافر (لَكَفُورٌ) للبعث أي: جاحد له، والكفور لربّه في نعمه التي أنعمها عليهم، حيث ذكر أنه سخرها لهم في قوله: (سَخَرَ لَكُمْ...) كذا؛ لأنه ينظر في النعم إلى أسبابه والحيل التي يحتال لا إلى فضل ربه وإفضاله في تلك النعم؛ لذلك صار كفورًا لربه في نعمه.
وأمَّا المؤمن فإنّه ليس ينظر إلى الأسباب والحيل فيها، ولكن ينظر إلى فضل الله وإفضاله وإنعامه عليه فيها؛ فيكون شكورًا له فيها غير كفور، والكافر ينظر إلى ما ذكرت؛ لذلك كان ما ذكر.
ويخبر أنه أعطى لهم الأسباب التي بها يصلون إلى منافع الأرض مع شدتها وصلابتها، والأسباب التي بها يصلون إلى منافع البحر، وهي الفلك التي خلقها لهم ليصلوا بها إلى منافع البحر حين١ خلق الخشب قارة على وجه الماء غير متسربة. وغيره من الأشياء، من طبعها التسفل والتسرب في الماء كالحديد٢ والحجر ونحوهما من الأشياء ليعرفوا فضله ورحمته، أن كيف ثبت، وقر هذا/٣٥١- ب/ على وجه الماء ؟ ولم يثبت الحديد والحجر ونحوهما٣ ؟ ثم يثبت الحديد على وجه الماء مع الخشب ؟ إذا السفن لا تخلو من الحديد، وبه تقوم السفن، ثم لم يتسرب، والله أعلم.
وقوله تعالى﴿ ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ﴾أي يمسك السماء لا بالأسباب ولا بالأشياء التي تمسك الأشياء في الشاهد، وهو ما قال :﴿ إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ﴾الآية ( فاطر : ٤١ ).
وقوله تعالى :﴿ إن الله بالناس لرؤوف رحيم ﴾ أي رأفته ورحمته ما خلق لهم، وسخر ما ذكر.
٢ في الأصل وم: من الحديد..
٣ في الأصل وم : ونَحْوُهُ..
وقوله تعالى :﴿ إن الإنسان لكفور ﴾ جائز أن يكون قوله :﴿ إن الإنسان ﴾أي الكافر﴿ لكفور ﴾ للبعث، أي جاحد له. والكفور لربه في نعمه التي أنعمها عليهم حين١ ذكر أنه لهم في قوله :﴿ سخر لكم ﴾كذا، لأنه ينظر في النعم إلى أسبابه والحيل التي يحتال لا إلى فضل ربه وأفضاله في تلك النعم. لذلك صار كفورا لربه في نعمه.
وأما المؤمن فإنه ليس ينظر إلى الأسباب والحيل فيها، ولكن ينظر إلى فضل الله وإفضاله وإنعامه عليه فيها، فيكون شكورا له فيها غير كفور. والكافر ينظر إلى ما ذكرت.
لذلك كان ما ذكرت على المعتزلة في قوله :﴿ إن الإنسان لكفور ﴾لأنه يقول : هذا الذي سخر الفلك، وهم يقولون : لم يسخر الفلك، ولكن إنما سخر الخشب ( الذي منه )٢ تتخذ الفلك لأنهم لا يرون الله في فعل العباد تدبيرا ولا صنعا، وهم يكفرون نعمة ربهم في ما ذكر من تسخير الفلك لنا، وهم داخلون في ظاهر الآية على الوجه الذي ذكرنا.
٢ في الأصل وم : التي منها..
* * *
قوله تعالى: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (٦٨) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠)
وقوله: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا).
اختلف في المنسك:
قَالَ بَعْضُهُمْ: (مَنْسَكًا)، أي: جعلنا لكل أمة دينا يدعون إليه، أي: كل أمة تُدْعى إلى دين واحد وهو دين الإسلام، وهو قول الحسن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا)، أي: شريعة، فهذا على الاختلاف، أي: جعلنا لكل أمة شريعة على حد).
(هُمْ نَاسِكُوهُ) ذلك كقوله: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا).
وقال عامة أهل التأويل: (مَنْسَكًا): أي ذبائح وعيدًا، قالوا: ذكر هذا - والله أعلم - لأن من الناس من ينكر أن يكون الذبح شريعة اللَّه، فأخبر أن الذبح سنة الله وشريعته في الأمم كلها، ليس على ما قالت الثنوية.
وقوله: (فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) على تأويل من يقول: إن المنسك هو الدِّين، أي: لا يخالجنك في نفسك أن الذي أنت عليه هو دين اللَّه وادعُ الناس إليه.
وعلى تأويل من يقول: هو الذبح، يقول: (فَلَا يُنَازِعُنَّكَ)، أي: لا يصدّنك عن الذبح من ينكر ذلك، كقوله: (وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ).
(وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ) أي: ادع إلى توحيد ربك.
أو أن يكون قوله: (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ): إلى عبادة ربك، وانْهَهُم عن عبادة من دونه.
وقوله: (إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ) هذا يدل أن التأويل الذي ذكرنا في المنسك - وهو
وقوله: (وَإِنْ جَادَلُوكَ... (٦٨)
في أمر الذبيحة، أو في الدِّين، وقد جادلوه في الذين كثيرا، لكن قال ذلك - واللَّه أعلم - عند إياسه عن توحيدهم وإسلامهم، يقول - واللَّه أعلم -: (وَإِنْ جَادَلُوكَ) في الدِّين والتوحيد فقل: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ)، وهو كقوله: (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)، فعلى ذلك قوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ) من الذين.
قال بعض أهل التأويل: هذه الآية منسوخة، نسختها آية القتال؛ لأن فيها حظرًا عن القتال، والترك على ما هم عليه، وتسليم الأمر إلى اللَّه يحكم بينهم يوم القيامة.
لكن جائز ما ذكرنا أنه إنما قال ذلك عند الإياس منهم عن توحيدهم.
وقوله: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (٧٠) قد ذكرنا في غير موضع أن حرف (أَلَمْ) حرف يتوجه إلى وجوه: إلى التعجب مرة، وإلى التنبيه والإيقاظ ثانيًا، وإلى إيضاح الحجج والبراهين ثالثًا.
وقوله: (إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ).
وقوله: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) حججا وبراهين، (وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) يخبر عن سفههم أنهم يعبدون غير اللَّه ولا سلطان ولا حجة لهم، ولا لهم بذلك علم؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون برسول يخبرهم، ولا كان لهم كتاب فيعلمون به، فيقول: إنهم يقولون: اللَّه أمرهم بذلك، ولا حجة لهم في ذلك ولا علم.
وفيه أنه إنما بعث الرسل إليهم على علم منهم أنهم يكذبون الرسل؛ لأن من الناس من ينكر بعث الرسل إلى من يعلم أنه يكذبهم ويترك إجابتهم كمن لا يبعث في الشاهد رسولا إلى من يعلم أنه يكذبه ولا يجيبه، فعلى ذلك يقولون: لا يجوز أن يكون اللَّه يبعث الرسول إلى من يعلم أنه يكذبه ولا يجيبه، لكن اللَّه أخبر أنه على علم منهم بالتكذيب وترك الإجابة منهم، حيث قال: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
وأما قولهم: إن من علم في الشاهد تكذيب المرسل إليه رسوله فإنه لا يبعثه إليه؛ لأن المرسل إنما يبعثه لحاجة نفسه ومنافعه، فإذا علم منه تكذيبه وترك الإجابة لم يبعثه، فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - إنما يرسل الرسول لحاجة المرسل إليه ومنافعه، لا لحاجة نفسه ومنفعته، فلا ضرر يلحقه في تكذيبه وجحوده، فجائز أرسله على علم منه بالتكذيب.
وقوله: (إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ) قَالَ بَعْضُهُمْ: إن ذلك العلم في الكتاب الذي عنده.
٢ بقوله:﴿كتب عليكم القتال﴾ (البقرة: ٢١٦)..
وقوله تعالى :﴿ إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ﴾.
وقوله: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) فيه دلالة رد قول القدرية، حيث قالوا: يكذب من كذب الرسل لا بإرادة اللَّه، فذكر أنه على علم منه ذلك منهم، وكذلك روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " سيكُون في آخر الزمَانِ ناسٌ من أمتي يُكذبون بالقدَرِ سَيكفيكم من الرد عليهم أن تقولوا: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) ".
وتأويل هذا - واللَّه أعلم -: أن يُسألوا، فيقال لهم: أراد اللَّه أن يصدق خبره الذي أخبر أو يكذب؟
فإن قالوا: أراد أن يصدق في خبره، لزمهم أن يقولوا: أراد جميع ما كان منهم.
وإ قالوا: أراد أن يكذب خبره، فيكون كفرًا محضًا.
* * *
قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦)
وقوله: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا) هو ما ذكرنا أنه يسفههم بعبادتهم دون اللَّه بلا حجة، ولا برهان، ولا علم، وتركهم عبادة اللَّه مع الحجج، والبراهين، والعلم أنه إله، وأنه ربهم مستوجب للعبادة.
وقوله: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) ينصرهم ويمنعهم من عذاب اللَّه، ففيه دلالة إثبات رسالته؛ لأنه إنما قال ذلك للرؤساء منهم والقادة فلم يتهيأ لهم نصرة شيء، ولا رد ما قال بشيء دل أنه باللَّه كان ذلك، واللَّه أعلم.
(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ): الإنكار، آثروا العناد، والرد لآياته، والكراهية والبغض له.
قوله تعالى: (يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا) يخبر عن سفههم وشدة تعنتهم وعتوهم عند تلاوة الآيات عليهم، وإقامة الحجج عليهم، حيث قال: (يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ) (يَسْطُونَ)، قيل: يأخذون أخذا، وقيل: يبطشون بطشًا.
وقَالَ الْقُتَبِيُّ: (يَسْطُونَ)، أي: يتناولونهم بالمكروه من الشتم والضرب.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: (يَكَادُونَ يَسْطُونَ) أي: يقعون بهم، يقال: سطا يسطو سطوة، ورجل ذو سطوة وبطشة، أي: ذو قوة وقدرة، قال: ويقال: سطوت بفلان، أي: أخذته أخذا شديدًا، أو بطشت به كذلك.
ثم قال: (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ) ظاهر الآية ليس بجواب لما تقدم، ولا صلته، وليس على الابتداء، ولكن على نازلة وأمر كان منهم، لم يذكر لنا ذلك.
فأما ابن عَبَّاسٍ وغيره من أهل التأويل قالوا: إنما أنزلت جوابا لما قالوا لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ولأصحابه، حيث قالوا: ما نعلم قوما أشقى منكم حيث رأوهم قد حظر الدنيا عليهم، لم يعطوا من الدنيا شيئًا، فنزل جوابًا لهم: (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ...) الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو جواب قوله: (يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ) (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ)؛ كقوله: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ...) الآية.
وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ... (٧٣) قد ذكر معنى ضرب الأمثال والحاجة إليها، وذلك أن العقول يجوز أن يعترض ما يستر عليها سبيل الحق وإلا لم يجز ألا تدرك العقول لما جعلت العقول له من درك الحق، لكن يمنع عن درك الحق وسبيله ما ذكرنا من اعتراض السواتر والحجب فيستكشف ذلك بما ذكرنا من الأمثال، ثم في هذا المثل وجهان:
أحدهما: يخبر عن تسفيه أحلامهم في عبادتهم من لا يقدر على خلق أضعف خلق،
والثاني: يخبر عن قطع ما يأملون ويطمعون من عبادتهم الأصنام، حيث قال: (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) ويتركون عبادة من يؤمل منه ويطمع كل خير، والله أعلم.
وقوله: (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) قَالَ بَعْضُهُمْ: أجيبوا له.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: استمعوا استماع من نظر وتأمل الحق ويقبله، إذا أظهر الاستماع من لا ينظر إلى الحق، ومعناه: إذا أظهر له الاستماع من لا ينظر إلى الحق ولا يقبله، والله أعلم.
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) قَالَ بَعْضُهُمْ: (تَدْعُونَ)، أي: تعبدون من دون اللَّه، وقال: (تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) على الدعاء، أي: تسمونهم: آلهة من دون اللَّه، وقد كان منهم الأمران جميعًا: العبادة للأصنام من دون اللَّه، وتسميتهم إياها: آلهة من دون اللَّه.
وقوله: (لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) فيه ما ذكرنا من الوجهين: من تسفيه أحلامهم في عبادتهم من لا يملك خلق أضعف خلق اللَّه، وعجزهم عما يأملون من النفع، وعن دفع من يروم بهم الضرر وسلب ما ذكر منهم.
ثم اختلف في قوله: (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (الطَّالِبُ): الصنم، (وَالْمَطْلُوبُ): هو الذباب، لكن على التأويل يضمر فيه: (لو)، أي: ضعف الصنم لو كان طالبا.
قَالَ بَعْضُهُمْ: (الطَّالِبُ) هو الذباب، (وَالْمَطْلُوبُ): هو الصنم.
فَإِنْ قِيلَ: وصفهما جميعًا بالضعف: الذباب والصنم جميعا، على تأويلهم - أعني: هَؤُلَاءِ - فالصنم ضعيف، عاجز، على ما وصف، وأمّا الذباب فهو ليس بضعيف؛ لأنه غلب ذلك الصنم إن كان طالبا أو مطلوبا، فكيف وصفه بالضعف، وهو الغالب عليه في الحالين؛ لكنه كأنه رجع قوله: (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) إلى العابد والمعبود، كأنه قال: ضعف العابد عمّا يأمل ويطمع من عبادته إياه، وضعف المعبود عن إيفاء ما يؤمل ويطمع منه، فهذا كأنه أشبه وأقرب إلى التأويل من الأول، واللَّه أعلم.
والثاني : يخبر عن قطع ما يأملون، ويطمعون من عبادتهم الأصنام حين٣ قال :﴿ وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه ﴾ويتركون عبادة من يؤمل منه، ويطمع كل خير، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فاستمعوا له ﴾قال بعضهم : أجيبوا له. وقال بعضهم : استمعوا له استماع من ينظر، ويأمل الحق، ويقبله ( لا استماع )٤ من لا ينظر إلى الحق، ولا يقبله، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ إن الذين تدعون من دون الله ﴾وقال بعضهم :﴿ تدعون ﴾أي تعبدون﴿ من دون الله ﴾. وقال ( بعضهم )٥ :﴿ إن الذين تدعون من دون الله ﴾( لا )٦ على الدعاء، أي تسمونهم آلهة من دون الله.
وقد كان منهم الأمران جميعا : العبادة للأصنام من دون الله، وتسميتهم آلهة من دون الله.
وقوله تعالى :﴿ لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ﴾ فيه ما ذكرنا من تسفيه أحلامهم في عبادتهم من لا يملك خلق أضعف خلق الله وعجزهم عما يأملون من النفع وعن دفع من يروم بهم الضرر والسلب ما ذكر منها.
ثم اختلف في قوله :﴿ ضعف الطالب والمطلوب ﴾قال بعضهم : الطالب الصنم، والمطلوب، هو الذباب لكن على هذا التأويل يضمر فيه : لو، أي ضعف الصنم، لو كان طالبا. وقال بعضهم : الطالب هو الذباب، والمطلوب، هو الصنم. فإن قيل : وصفهما جميعا بالضعف : الذباب والصنم جميعا على تأويلهم ؛ أعني هؤلاء.
فالصنم ضعيف عاجز عما وصف. وأما الذباب فهو ليس بضعيف لأنه غلب ذلك الصنم، وإن كان طالبا أو مطلوبا. فكيف وصفه بالضعف، وهو٧ الغالب عليه في الحالين ؟
لكنه كأنه ( أرجع قوله )٨ ﴿ ضعف الطالب والمطلوب ﴾إلى العابد والمعبود، كأنه قال : ضعف العابد عما يأمل، ويطمع من عبادته إياه، وضعف المعبود عن إيفاء ما يؤمل، ويطمع منه. فهذا كأنه أشبه وأقرب إليه من التأويل الأول، والله أعلم.
٢ في الأصل وم: من درك..
٣ في الأصل وم: حيث..
٤ في الأصل وم: و معناه إذا ظهر له الاستماع..
٥ ساقطة من الأصل وم..
٦ ساقطة من الأصل وم..
٧ في الأصل وم: فهو..
٨ في الأصل وم: رجع قول..
قَالَ بَعْضُهُمْ: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي: ما عرفوا اللَّه حق معرفته، قالوا له بالشريك والولد والصاحبة، وما قالوا فيه مما لا يليق به؛ لأنهم لو عرفوه حق معرفته، لم ينسبوا إليه، ولا وصفوه، وعرفوا بذاته وتعاليه عن ذلك، لكن حيث لم يعرفوه حق معرفته شبهوه بواحد من خلقه، على ما ذكرنا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي: ما عظموا اللَّه حق عظمته، حيث صرفوا العبادة والشكر إلى غيره؛ إذ لو عظموه حق تعظيمه، ما صرفوا عبادتهم وشكرهم إلى غير الذي أنعم عليهم، وما أشركوا غيره في ذلك، على علم منهم أنه إنما وصلت إليهم تلك النعم من اللَّه، لا ممن عبدوه، وباللَّه العصمة والصواب.
ثم يكون تعظيمه ومعرفته على الحقيقة بتعظيم أموره، وقبولها، والقيام بها، لا في قوله: يا عظيم، يا كبير، ونحوه، ولكن على ما ذكرت من تعظيم أموره، وقيامه بها، وكذلك المحبة لله إنما تكون في القيام بأموره وإقباله نحوها، والانتهاء عن مناهيه، لا في قوله: أنا حبيبك، أو تصوير شيء في قلبه، ولكن على ما ذكرت، واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) يحتمل قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) لنصر أوليائه، وجعل العاقبة لهم (عَزِيزٌ) أي: منتقم من أعدائه.
أو يقول: (لَقَوِيٌّ)؛ لأنه تضعف جميع القوى عند قوته (عَزِيزٌ): يذل جميع الأعزة عند عزته.
أو يقول: (لَقَوِيٌّ)؛ لأنه به يقوى من قوي، ومنه يستفيد ذلك (عَزِيزٌ)؛ لأنه به يعز من عز به، ومنه كان ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يحتمل قوله: (يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا)، أي: اختار رسلا من الملائكة في بعض ما امتحنهم به من أنواع العبادات له والطاعات، بعث منهم إليهم رسلا بتبليغ ذلك على ما اختار من الناس رسلا إليهم فيما امتحنهم. ويحتمل: اصطفى رسلا من الملائكة إلى الرسل من الإنس، أي: اختار منهم - أعني: من الناس - رسلا من الإنس، واللَّه أعلم، كقوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).
وقوله: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) جائز أن يكون قوله: (بَصِيرٌ) لمن يصلح للرسالة
وقوله تعالى :﴿ إن الله سميع بصير ﴾ جائز أن يكون قوله :﴿ بصير ﴾ بمن يصلح للرسالة ومن لا يصلح، و﴿ بصير ﴾ بمن اختار لها ومن لم يختر﴿ سميع ﴾ لما يتلقى المرسل إليه الرسول من الإجابة والقبول والرد والتكذيب. وإنه على علم منه بالرد والتكذيب للرسل.
وفيه دلالة أنه إنما اصطفاهم للرسالة لا بشيء، يستوجبون منه ذلك، ولكن إفضالا منه.
وفيه دلالة أنه إنما اصطفاهم للرسالة، لا بشيء يستوجبون منه ذلك ولكن إفضالا منه.
قوله: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ... (٧٦) أي: يعلم ما كان قبل أن يخلقهم (وَمَا خَلْفَهُمْ): بعدما خلقهم.
وقال الحسن: يعلم بأوائل أمورهم وبأواخرها.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ): من الدنيا، (وَمَا خَلْفَهُمْ): من الآخرة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ): من الآخرة، (وَمَا خَلْفَهُمْ): من الدنيا.
وجائز أن يكون قوله: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ): ما عملوا بأنفسهم في حياتهم (وَمَا خَلْفَهُم) ما سنوا لغيرهم من بعدهم، كقوله: (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) ما عملوا هم، وما أخرت: ما سنوا لغيرهم من بعدهم.
وجائز أن يكون لا على حقيقة بين الأيدي ولا خلف، ولكن معناه: لا يخفى عليه شيء من أفعالهم وأقوالهم.
(وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) قد ذكرنا معناه فيما تقدم.
* * *
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ).
في الآية دلالة أن الإيمان هو شيء خاص وشيء واحد، لا اسم جميع الخيرات، وهو التصديق؛ لأنه أثبت لهم اسم الإيمان، ثم أمرهم بالركوع والسجود وفعل الخيرات؛ لأن جميع المخاطبين بهذه الآية عرفوا من خوطب بها، فلو كان اسما لجميع الخيرات لكان لا يعرف المخاطب بها؛ لأنه لا يقدر أحد على جميع الخيرات؛ فدل أنه شيء معروف خاص مما يرجع صاحبه إلى حد المعرفة، حيث عرفه المخاطب به، واللَّه أعلم.
ثم يحتمل قوله: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) وجوهًا:
أحدها: أن اجعلوا ركوعكم وسجودكم وعبادتكم عبادة اللَّه لا ثشركوا فيها غيره على
ثم يحتمل قوله :﴿ اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير ﴾وجوها : أحدها : أن اجعلوا ركوعكم وسجودكم وعبادتكم عبادة لله، لا تشركوا فيها غيره على ما أشرك أهل مكة وغيرهم من الكفار في عبادتهم غيره، وهي الأصنام التي عبدوها.
والثاني : اعبدوا ربكم بالأسباب والأشياء التي عرفكم أنها عبادة، وكذلك افعلوا الخيرات التي عرفكم أنها خيرات.
والثالث : أن اجعلوا أحوالكم التي أنتم عليها من قيام وقعود وحركة وسكون عبادة لله، واجعلوا تقلبكم أيضا للمعاش الذي أبيح لكم، وأذن فيه، عبادة لله تعالى.
فالأول : هو عبادة بنفسه التي جعلها الله نصا. والثاني : هو الذي يصيره عباده بالنية والقصد. فيكون في جميع أحواله مؤدي عبادة.
وهكذا الواجب على المرء أن يكون في جميع ما يؤدي من النوافل من الصلاة والصيام وغيره مؤذي فرض ؛ وهو أن يؤذي جميع ذلك بنية الشكر لنعمه وتكفيرا لمعاصيه. وكلاهما لازمان واجبان. فإن فعل ذلك كان مؤذي لازم، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ لعلكم تفلحون ﴾ ظاهره خرج على الترجي، وفي الحقيقة على الوجوب على ما ذكرنا في ما تقدم.
والثاني: اعبدوا ربكم بالأسباب والأشياء التي عرفكم أنها عبادة، وكذلك افعلوا الخيرات التي عرفكم أنها خيرات.
والثالث: أن اجعلوا أحوالكم التي أنتم عليها من قيام وقعود، وحركة وسكون، عبادة لله تعالى، واجعلوا تقلبكم أيضا للمعاش الذي أبيح لكم وأذن فيه عبادة، فالأول هو عبادة بنفسه التي جعلها اللَّه نصًّا، والثاني هو الذي يصير عبادة بالنية والقصد؛ فيكون في جميع أحواله مؤدي عبادة، وهكذا الواجب على المرء أن يكون في جميع ما يؤذي من الصلاة والصيام وغيره مؤدي فرض، وهو أن يؤدي جميع ذلك بنية الشكر لنعمه، وتكفيرًا لمعاصيه، وكلاهما لازمان واجبان، فإن فعل ذلك كان مؤدي لازم، واللَّه أعلم.
وقوله: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ظاهره خرج على الترجي، وفي الحقيقة على الوجوب، على ما ذكرنا فيما تقدم.
وقوله: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ... (٧٨) ليس لحق اللَّه غاية يوصل إليها، وكذلك قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)؛ لأنه لو كان لحقه غاية لكان الرسل والملائكة يقومون بوفاء ذلك ويتوهم منهم المجاوزة عن ذلك؛ إذ كل ذي حد وغاية يتوهم المجاوزة فيه، فإن لم يحتمل المجاوزة دل أن حقه ليس بذي حد وغاية، ويكون تأويل قوله: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) و (حَقَّ تُقَاتِهِ)، حقه الذي احتمل وسعكم وبنيتكم وطاقتكم، كقوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، فيكون هذا تفسيرًا لقوله: (حَقَّ تُقَاتِهِ) و (حَقَّ جِهَادِهِ).
ثم يحتمل قوله: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ) أي: جاهدوا أنفسكم في شهوتها وأمانيها.
أو جاهدوا أعداء اللَّه في دفع الوسواس والمحاربة معهم.
وقوله: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ) يحتمل وجهين:
أحدهما: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ) للإيمان والهدى والتوحيد.
أو (هُوَ اجْتَبَاكُمْ) جنسًا من أفضل الأجناس وأكرمهم من بين سائر الأجناس، كقوله: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).
وقال عامة أهل التأويل في قوله: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) أي: وحدّوا ربكم، جعلوا كل عبادة مذكورة في الكتاب توحيدا؛ فيكون ذكر العبادة هاهنا كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ)، كأنه قال: يَا أَيُّهَا الذين آمنوا وحدوا ربكم.
ثم اختلف في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا):
قَالَ بَعْضُهُمْ: فيه وجوب سجدة التلاوة على ذلك، وهي في الخبر عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -
وكذلك روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قرأها فسجد فيها مرتين، ثم قال ما ذكرناه.
وتأويله - عندنا - أن قوله: " فضلت بسجدتين " التي هي من صلب الصلاة، وسجدة التلاوة في أول السورة، فمن لم يسجدهما فلا يقرأها، وأصله في وجوب سجدة التلاوة: أن كل سجود ذكر في القرآن للخضوع فهو واجب للتلاوة، لازم له، وكل سجود كان الأمر به لحق سجود الصلاة فإنه لا يلزمه السجدة للتلاوة، فالأمر بالسجود في قوله: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) أمر بسجود الصلاة لا غير لم يلزم تاليه السجود بالتلاوة، والله أعلم.
وقوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) يحتمل تأويله وجوهًا:
أحدها: أن عليهم معرفة وحدانية اللَّه، وألوهيته، وتعاليه عن الأشباه والشركاء، وعليهم معرفة نعمه، والقيام بشكرها له، والخضوع له في كل وقت، وإن لم يبعث الرسل، لكنه بفضله ورحمته بعث إليهم الرسل ليكون أيسر عليهم معرفة ذلك وأهون، والقيام بأداء ذلك أخف؛ لأن معرفة الأشياء بالسماع من لسان الصدوق والعدل أيسر، والإدراك أهون من معرفتها بالنظر والتفكر، وهو ما قال: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا)، أخبر أنه لولا فضله ورحمته في بعث الرسل، لاتبعوا الشيطان إلا قليلا، والقليل الذين استثناهم: الذين يتفكرون وينظرون فيعرفون بالتفكر والنظر، وذلك لا يعرف إلا بجهد وتكلف، فعلى ذلك قوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ولكن بعث إليكم الرسل ليكون أوضح لسبيل الحق ومعرفته، وإن كان له ألا يرسل، ويكلف، ذلك بالنظر والتفكر.
والثاني: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) قطع ما يقع لهم الحوائج، وتحريم كل أنواع المطاعم والمشارب واللباس عليكم لكنه إذا حرم نوعًا منها أباح نوعًا آخر بإزائه مما يسد به حاجته ويزيح به علته، ولو حرم كل أنواعها كان حرجا في الدِّين وضيقًا.
والثالث: لم يجعل عليهم من العبادات والفرائض التي كلفهم بها والقيام بأدائها ما لا
والرابع: أنه لم يجعل توبتهم عما ارتكبوا من المعاصي والمآثم قتل بعضهم بعضًا، وإهلاك بعضهم بعضا، على ما جعل ذلك لقوم، حيث قالوا لهم: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)، ولو كلف ذلك كان حرجًا في الدِّين، وأمثال ذلك.
والخامس: جائز أن يكون قوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي: من شك وشبه، أي: قد أزاح عنكم الشبه والشك بالحجج والبراهين التي أقامها لكم، واللَّه أعلم.
وقوله: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ) هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: على الأمر: أن الزموا ملة إبراهيم.
والثاني: أن هذا الذي ذكر هو ملة أبيكم إبراهيم.
وقوله: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا) اختلف فيه:
قال عامة أهل التأويل: قوله: (هُوَ سَمَّاكُمُ) أي: اللَّه سماكم المسلمين.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إبراهيم (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ)، حيث قال: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ورسول اللَّه مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كان من ولد إسماعيل، وقد دعا له ولذريته بذلك.
وقوله: (مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا): قَالَ بَعْضُهُمْ: (مِنْ قَبْلُ): في الكتب المتقدمة (وَفِي هَذَا)، أي: في القرآن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (مِنْ قَبْلُ): في الأمم الذين كانوا من قبل؛ لأنه ما من قوم وأمة إلا وفيهم مسلمون متسمون بهذا الاسم، (وَفِي هَذَا): في قومه، أي: كنتم متسمون بهذا الاسم في الأمم الخالية، كقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)، أي: كنتم خير أمة في الأمم التي كانت من قبل أنها تخرج في هذا الوقت، واللَّه أعلم.
وقوله: (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ) قال قائلون: (عَلَيْكُمْ) بمعنى: لكم، وذلك جائز في اللغة، كقوله: (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) أي: للنصب؛ فعلى ذلك
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ)، بمعنى: عليكم، وتأويله: يكون شهيدًا عليكم إذا خالفتموه ولم تصدقوه، وتكونوا أنتم إذا صدقتم رسولكم ووافقتموه - شهداء على سائر الناس إذا كذبوا رسولهم: أنهم كذبوه وخالفوه.
وفي هذه الآية دلالة اتفاق قرن حجة على من بعدهم، حيث جعلهم شهداء على من بعدهم ومن قبلهم، وقد ذكرنا تأويل الآية في سورة البقرة.
وقوله: (فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) فإذا أراد الصلاة المعروفة والزكاة المعروفة، ففي الأمر بإقامة الصلاة أمر لإصلاح ما بينهم وبين ربهم، وفي الزكاة إصلاح ما بينهم وبين الخلق، كقوله: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)، وفي حرف عبد اللَّه بن مسعود: (إن الصلاة تأمر بالعدل وتنهى عن الفحشاء والمنكر).
وقوله: (وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: بدين اللَّه وهو ما ذكر فيما تقدم ذكره من قوله: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ).
(وَافْعَلُوا الْخَيْرَ...) إلى آخر ما ذكر؛ فكأنه يقول: اعتصموا بالذي ذكر، وأصل الاعتصام هو الالتجاء إليه؛ فكأنه قال: اعتصموا به من كل ما نهى عنه من الشرور، وبكل ما أمر به من الخير.
وقوله: (هُوَ مَوْلَاكُمْ).
قال الحسن: هو مولى كل من تولاه بالطاعة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: المولى: النصير، أي: هو ناصركم وحافظكم.
(فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).
المانع والنصير: المنتصر ينتصر لهم من أعدائهم، ويمنع عنهم الأعداء.
وجائز أن يكون قوله: (هُوَ مَوْلَاكُمْ)، أي: ربكم وسيدكم، كما يقال لمولى العبد: هذا مولاه وسيده، واللَّه أعلم.
ويكون في قوله: (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ) أنه قد بلغكم؛ (وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) بأن الرسول قد بلغهم.
قال أَبُو عَوْسَجَةَ: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)، أي: ما عرفوا اللَّه حق معرفته، يقال في الكلام: ما قدرتك حق قدرك، أي: ما عرفتك حق معرفتك.
قال أبو معاذ: وأصل الحرج في الكلام: شجر من شوك ملتف، والواحدة: حرجة، منه: حرجة مسلم.
وقوله: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ).
أي: اختاركم، وفي حرف ابن مسعود وأبي: (هو اجتباكم وسماكم المسلمين من قبل)، وهذا يؤيد تأويل من يقول: هو سماكم المسلمين، أي: اللَّه سماكم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، قال: لم يفرض اللَّه على هذه الأمة شيئا إلا جعل فيه رخصة لهم عند الاضطرار؛ مثل التيمم إذا لم يجد ماء، ويصلي قاعدًا ومضطجعًا في المرض، وتفطر إذا كنت مريضًا، ونحو هذا، ليس فريضة إلا فيها رخصة، ولم يكن من قبل ذلك، وهو قول مقاتل بن حيان.
وقال قتادة: قوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، أي: ضيق، قال: أعطيت هذه الأمة ثلاثًا لم يعطها إلا نبي: كان يقال للنبي: اذهب فليس عليك حرج، وقال اللَّه لهذه الأمة: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، وكان يقال للنبي: أنت شهيد على قومك، وقال اللَّه لهذه الأمة: (وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)، وكان يقول للنبي: سل تعطه، وقال الله لهذه الأمة: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).
وقَالَ بَعْضُهُمْ في قوله: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)، أي: صلوا لله، كقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ)، يقول: صلوا، لا يصلون.
وقال قتادة: (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا)، قال: لا صلاة إلا بركوع، وإن أقوامًا أحدثوا بدعًا: يسجد أحدهم مائة سجدة لا يركع فيهن، وكان يقال: ثلاث مما أحدث الناس: " رفع الأيدي في الدعاء، والأصوات عند المسألة، والاختصار في السجود ".
وقال أبو هريرة: " لا يصلح سجود إلا بركوع "، واللَّه أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وبه نستعين.
* * *