ﰡ
قال الجمهور: هي مختلطة، منها مكي، ومنها مدني، قال ابن عطية: وهذا هو الأصح (١)، والله أعلم؛ لأن الآيات تقتضي ذلك، وآيها: ثمان وسبعون آية، وحروفها: خمسة آلاف ومئة وخمسة وسبعون حرفًا، وكلمها: ألف ومئتان وإحدى وتسعون كلمة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١)﴾ [الحج: ١].[١] ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ أطيعوه، وهذا تحذير لجميع العالم.
﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ﴾ حركتها الشديدة ﴿شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ لا يوصف لعظمته، والزلزلة: التحريك العنيف، وزلزلة الساعة: هي كالمعهود في الدنيا، إلا أنها في غاية الشدة، واختلف فيها، فقال الجمهور: هي في الدنيا على القوم الذين تقوم عليهم القيامة، وقيل: هي في القيامة على
...
﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (٢)﴾ [الحج: ٢].
[٢] ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا﴾ يعني: الزلزلة ﴿تَذْهَلُ﴾ تشغل ﴿كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ﴾ من الولد، فتترك إرضاعه في حال إلقامه ثديها؛ لشدة الأمر.
﴿وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ﴾ أي: حبلى ﴿حَمْلَهَا﴾ ولدها قبل تمامه، والحمل -بالفتح-: ما تحمله الإناث، و -بالكسر-: ما يحمل على الظهر والرأس، والتلاوة بالأول، وهذا دليل لمن قال: إن الزلزلة تكون في الدنيا؛ لأن بعد البعث لا يكون حبل، ومن قال: هي في القيامة، جعل ذلك تهويلًا لشأنها، يعني: لو فُرض ثَمَّ حامل، لوضعت.
﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى﴾ تشبيه لهم من الخوف. قرأ أبو عمرو: (النَّاس سُّكَارَى) بإدغام السين في السين (٢) ﴿وَمَا هُمْ بِسُكَارَى﴾ السُّكر الحقيقي الذي هو من الخمر. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (سَكْرَى) بفتح السين وإسكان الكاف من غير ألف فيها. وقرأ الباقون: بضم السين وفتح الكاف وألف بعدها، وهما لغتان لجمع السكران؛ مثل: كَسْلَى وكُسالى (٣)، وقرأ
(٢) المصدران السابقان.
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٣٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٠٠)، =
﴿وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ فأرهقهم هوله بحيث طير عقولهم، وأذهب تمييزهم.
...
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (٣)﴾ [الحج: ٣].
[٣] وكان النضر بن الحارث كثير الجدال في الله تعالى بالباطل، يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، وينكر البعث وإحياء من صار ترابًا، فنزل فيه: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ﴾ (٢) في جداله ﴿كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ﴾ عاتٍ مستمر في الشر.
...
﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (٤)﴾ [الحج: ٤].
[٤] ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ﴾ قُضي على الشيطان ﴿أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ﴾ تبعه.
﴿فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ﴾ لأن من شأنه الإضلال ﴿وَيَهْدِيهِ﴾ يدعوه.
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٦٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٦٢ - ١٦٣).
(٢) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (٦/ ٨).
...
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥)﴾ [الحج: ٥].
[٥] ثم ألزم الحجة على منكري البعث فقال:
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ﴾ شك ﴿مِنَ الْبَعْثِ﴾ أي: إن ارتبتم في البعث، فاستدلوا على صحته ببدء خلقكم.
﴿فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ﴾ يعني: أصلكم آدم ﴿ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ﴾ مَنِيّ، خلقتم أنتم منها ﴿ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ﴾ دم جامد ﴿ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ﴾ لحمة صغيرة قدر ما تمضغ، وذلك أن النطفة تصير دمًا غليظًا، ثم تصير لحمًا.
﴿مُخَلَّقَةٍ﴾ مصورة تامة الخلق.
﴿وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾ النطفة قبل أن تصور، وهي ما تمجه الأرحام، وما يعني السقط ﴿لِنُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ قدرتنا على البعث.
﴿وَنُقِرُّ﴾ نثبتُ ﴿فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ﴾ ثبوتَه.
واتفق الأئمة على أن الأَمَة تكون أمَّ ولد بما أسقطته من ولد [تام الخلق، وتكون عند مالك أم ولد] (٢) بالعلقة والمضغة، سواء كانت مخلقة أو غير مخلقة، وعند أبي حنيفة: إن كان قد تبين له شيء من خلق بني آدم؛ كإصبع أو عين أو غير ذلك، فهي به أم ولد، وعند الشافعي وأحمد: إذا وضعت ما فيه صورة، ولو خفية، صارت أم ولد.
واتفقوا على أن المولود إذا استهل صارخًا، غسل وصلي عليه، فإن لم يستهل صارخًا، لم يصل عليه عند الثلاثة، وعند أحمد: إذا ولد السقط لأكثر من أربعة أشهر، غسل، وصلي عليه.
﴿ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ﴾ من الرحم ﴿طِفْلًا﴾ اسم جنس؛ أي: أطفالًا.
﴿ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ﴾ كمال عقلكم وقوتكم.
﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى﴾ قبل بلوغ الكبر.
﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾ أخسه، وهو الخرف.
(٢) ما بين معكوفتين ساقط من "ش".
﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً﴾ يابسة ﴿فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ﴾ المطر ﴿اهْتَزَّتْ﴾ تحركت بالنبات ﴿وَرَبَتْ﴾ قرأ أبو جعفر (وَرَبَأَتْ) بهمزة مفتوحة بعد الباء؛ أي: ارتفعت، وقرأ الباقون: بحذف الهمزة؛ أي؛ انتفخت (١).
﴿وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ﴾ نوع.
﴿بَهِيجٍ﴾ حسن، فهذا دليل آخر على البعث.
...
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦)﴾ [الحج: ٦].
[٦] ﴿ذَلِكَ﴾ أي: المذكور، مبتدأ، خبره: ﴿بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾ أي: لتعلموا أن الله هو الحق ﴿وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
...
﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧)﴾ [الحج: ٧].
[٧] ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف.
...
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (٨)﴾ [الحج: ٨].
﴿وَلَا هُدًى﴾ ليس معه من ربه رشاد ولا برهان.
﴿وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ واضح.
...
﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (٩)﴾ [الحج: ٩].
[٩] ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾ لاويًا جانبه متكبرًا ﴿لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: (لِيَضلَّ) بفتح الياء على اللزوم، وقرأ الباقون: بالضم (١)، أي: ليُضل هو الناسَ.
﴿لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ﴾ عذاب وهوان، فقتل النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط ببدر صبرًا ﴿وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ وهو النار.
...
﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (١٠)﴾ [الحج: ١٠].
[١٠] ويقال له: ﴿ذَلِكَ﴾ أي: النازل بك.
﴿بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ من العمل.
﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ إنما هو مُجازٍ لهم على أعمالهم.
...
[١١] ونزل فيمن دخل في الإسلام من غير اعتقاد صحته: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ (١) أي: شك واضطراب، وأصله من حرف الشيء، وهو طرفه، نحو حرف الجبل، فقيل للشاك في الدين إنه يعبد الله على حرف؛ لأنه على طرف وجانب في الدين، لم يدخل فيه على الثبات والتمكن؛ كالقائم على حرف الجبل، مضطرب غير مستقر يعرض أن يقع في أحد جانبي الطرف؛ لضعف قيامه.
﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ﴾ صحة وسلامة في نفسه وماله ﴿اطْمَأَنَّ بِهِ﴾ سكن إليه ﴿وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ﴾ اختبار بجدب وعسرة ﴿انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾ رجع إلى الكفر ﴿خَسِرَ الدُّنْيَا﴾ بفوات ما كان يؤمله ﴿وَالْآخِرَةَ﴾ بخلوده في النار. قرأ روح، وزيد عن يعقوب: (خَاسِرَ) بإثبات الألف بعد الخاء على وزن فاعل، وخفض (الآخِرَةِ) (٢).
﴿ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ الضرر الظاهر.
(٢) انظر: "المحتسب" لابن جني (٢/ ٧٥)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٠٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٦٨)، وليست هذه القراءة هي المتواترة عن يعقوب.
[١٢] ﴿يَدْعُو﴾ يعبد ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ﴾ إن لم يعبده.
﴿وَمَا لَا يَنْفَعُهُ﴾ إن عبده.
﴿ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ﴾ عن الهداية الذاهب عن الحق.
...
﴿يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣)﴾ [الحج: ١٣].
[١٣] ﴿يَدْعُو﴾ تكريرًا تأكيدًا لكفره ﴿لَمَنْ ضَرُّهُ﴾ بكونه معبودًا؛ لأنه يوجب القتل في الدنيا، والعذاب في الآخرة ﴿أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ﴾ الذي يتوقع بعبادته، وهو الشفاعة والتوسل بها إلى الله تعالى. و (اللامِ) في قول الكسائي مقدمة في غير موضعها، و (مَنْ) في موضع نصب، و (ضَرُّه) مبتدأ، و (أَقْرَبُ) خبره، والجملة صلة (مَنْ)، وخبر (مَنْ) محذوف، والتقدير: يقول لمن ضره أقرب من نفعه آلهة، والمعنى: أنه يضر ولا ينفع.
﴿لَبِئْسَ الْمَوْلَى﴾ الناصر ﴿وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ﴾ الصاحب المعاشر.
...
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (١٤)﴾ [الحج: ١٤].
[١٤] ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ من إثابة الموحد، وعقاب المشرك.
***
[١٥] ولما ظن الكفار أن محمدًا - ﷺ - لن يُنصر، نزل: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ (١) المعنى: أن الله ينصر نبيه، فمن ظن خلافه.
﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾ فليشدد حبلًا في سقف بيته ﴿ثُمَّ لْيَقْطَعْ﴾ ليختنق به فيموت. قرأ ابن عامر، وأبو عمرو، وورش عن نافع، ورويس عن يعقوب: (لِيَقْطَعْ) بكسر اللام؛ لأنها لام أمر أصلها الكسر، كما لو ابتدأ بها، ولا اعتداد بحرف العطف، والباقون: بإسكانها تخفيفًا (٢)، واعتدادًا بحرف العطف مبتدأ به.
﴿فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ تلخيصه: هل يذهب فعله غيظه؟! وهذا مبالغة في الزجر؛ كما يقال للعدو: إن لم ترض، فاختنق، ومت غيظًا، وإلا، فلا نظر بعد الموت.
...
﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦)﴾ [الحج: ١٦].
[١٦] ﴿وَكَذَلِكَ﴾ أي: مثل ذلك؛ يعني: ما تقدم من آيات القرآن.
﴿أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ﴾ أي: وأنزلنا أن ﴿اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ﴾ هدايته.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٦)، و"تفسير البغوي" (١/ ٢٠٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٦٩).
[١٧] ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ على الحقيقة ﴿وَالَّذِينَ هَادُوا﴾ يعني: اليهود، سموا به؛ لقولهم: ﴿إِنَّا هُدْنَا﴾ [الأعراف: ١٥٦]، أي: ملنا إليك، وقيل: لأنهم هادوا؛ أي: تابوا عن عبادة العجل، وقال أبو عمرو بن العلاء: لأنهم يتهودون؛ أي: يتحركون عند قراءة التوراة، ويقولون: إن السموات والأرض تحركت حين آتى الله موسى التوراة.
﴿وَالصَّابِئِينَ﴾ جمع صابئ، أصله الخروج، يقال: صبأ فلان: إذا خرج من دين إلى دين آخر، وهم قوم عدلوا عن اليهودية والنصرانية، وعبدوا الملائكة، ويستقبلون القبلة، ويوحدون الله تعالى، ويقرؤون الزبور. قرأ نافع، وأبو جعفر: (وَالصَّابِينَ) (وَالصَّابُونَ) بغير همز، والباقون: بالهمز (١).
﴿وَالنَّصَارَى﴾ سموا به لقولهم: ﴿نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٥٢] وقيل: لأنهم نزلوا قرية يقال لها: ناصرة، وقيل: لاعتزائهم إلى نصرة قرية كان ينزلها عيسى عليه السلام.
﴿وَالْمَجُوسَ﴾ هم عبدة النار والشمس والقمر.
﴿وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ هم عبدة الأوثان، قال قتادة: الأديان ستة: خمسة للشيطان، وواحد للرحمن (٢).
(٢) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (٦/ ١٦).
...
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ بقلبك ﴿أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ﴾ قال مجاهد: سجود هذه الأشياء بظلالها (١)، وقيل: المراد بسجود من ليس من أهله: انقياده لما أريد منه.
﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾ يعني: المسلمين ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾ بترك السجود، وهم الكفار، وهم مع كفرهم تسجد ظلالهم لله عز وجل.
﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ﴾ أي: يهنه الله بالشقاوة.
﴿فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾ يكرمه بالسعادة، المعنى: من يُذِلُّه الله تعالى، فلا مُعِزَّله.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ من الإكرام والإهانة بإرادته ومشيئته، وهذا محل سجود بالاتفاق.
[١٩] ونزل في حمزة، وعلي، وعبيدة بن الحارث حين برزوا ببدر إلى عتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ﴾ (١) أي: طائفتان. قرأ ابن كثير: (هَذَانِّ) بالمد وتشديد النون، والباقون: بالتخفيف (٢)، والخصم: مصدر يعم المفرد والجمع، والذكر والأنثى، فلذلك قال:
﴿اخْتَصَمُوا﴾ ردًّا إلى المعنى ﴿فِي رَبِّهِمْ﴾ في دينه.
﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ﴾ هيئت.
﴿لَهُمْ ثِيَابٌ﴾ يلبسونها ﴿مِنْ نَارٍ﴾ وسمي ما يتخذ من النار ثيابًا؛ لإحاطته باللابس كالثوب ﴿يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾ الماء البالغ نهاية الحر. قال ابن عباس: لو سقطت قطرة منه على جبال الدنيا، لأذابتها (٣).
...
﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿يُصْهَرُ بِهِ﴾ يذاب بالحميم المسكوب على رؤوسهم.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٣٥)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٧١).
(٣) انظر: "تفسير أبي السعود" (٦/ ١٠١).
...
﴿وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿وَلَهُمْ مَقَامِعُ﴾ سِياط مختصة بهم، جمع مِقْمَعة.
﴿مِنْ حَدِيدٍ﴾ يُضربون بها.
...
﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا﴾ من النار.
﴿مِنْ غَمٍّ﴾ يلحقهم، فخرجوا.
﴿أُعِيدُوا فِيهَا﴾ وذلك أن النار تضربهم بلهبها، فتلقيهم إلى أعلاها، فيريدون الخروج منها، فتضربهم الزبانية بمقامع الحديد، فيهوون إلى قعرها سبعين خريفًا، فالمراد: إعادتهم إلى معظم النار، لا أنهم ينفصلون عنها بالكلية، ثم يعودون إليها.
﴿وَذُوقُوا﴾ أي: ويقال لهم: ذوقوا ﴿عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ البالغ نهاية الإحراق، هؤلاء أحد الخصمين.
***
[٢٣] وقال في الآخر، وهم المؤمنون: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا﴾ يلبسون الحلي في الجنة.
﴿مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ﴾ جمع سوار.
﴿وَلُؤْلُؤًا﴾ اللؤلؤ: اسم جامع للحَبِّ يخرج من البحر. قرأ نافع، وأبو جعفر، وعاصم، ويعقوب: (وَلُؤْلُؤ) بالنصب على معنى: ويحلون لؤلؤًا، ولأنها مكتوبة في المصاحف بالألف، فأبو جعفر يترك الهمزتين، فيسكن الواو الأولى، وينصب الثانية، وأبو بكر عن عاصم: يترك الأولى فقط، وقرأ الباقون: بالخفض عطفًا على (أساور)، وأبو عمرو يترك الهمزة الأولى، واختلفوا في وجه إثبات الألف فيه، فقال أبو عمرو: أثبتوها كما أثبتوا في (قالوا)، و (كانوا)، وقال الكسائي: أثبتوها للهمزة؛ لأن الهمزة حرف من الحروف (١).
﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا﴾ في الجنة ﴿حَرِيرٌ﴾ هو الإبريسم المحرم لبسُه على الرجال، ولا خلاف بين الأئمة في تحريم لبس الحرير على الرجل إلا في
...
﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿وَهُدُوا﴾ أُرشدوا ﴿إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾ هو القرآن، وقيل: شهادة أن لا إله إلا الله، وقيل غير ذلك ﴿وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ﴾ طريق الجنة، و (الحميد) هو الله المحمود في أفعاله.
...
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ﴾ تقديره، وهم يصدون ﴿سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي؛ لأن الصد بمعنى دوام الصفة لهم، وهذه الآية نزلت عام الحديبية حين صُد النبي - ﷺ - عن المسجد الحرام.
﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي: ويصدون عن المسجد الحرام.
﴿الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ﴾ قبلةً لصلاتهم، ومنسكًا ومتعبدًا، وقال ابن عباس وغيره: المراد منه جميع الحرم (١).
وأجمع الناس على الاستواء في نفس المسجد الحرام، واختلف في مكة، فذهب عمر بن الخطاب، وابن عباس، ومجاهد، وجماعة إلى أن الأمر كذلك في دور مكة، وأن القادم له النزول حيث وجد فارغًا، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبي، وقال ذلك سفيان الثوري وغيره، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول.
وروي أن النبي - ﷺ - وأبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- قُبضوا وما تُدعى دور مكة إلا السوائبَ، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن (٣)، وكانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة، فاتخذ رجل بابًا، فأنكر عليه عمر
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٧٥).
(٣) رواه ابن ماجه (٣١٠٧)، كتاب: المناسك، باب: أجر بيوت مكة، والدارقطني في "سننه" (٣/ ٥٨)، وغيرهما عن علقمة بن نضلة -رضي الله عنه-.
قال ابن عطية: وقال جمهور من الأمة، منهم الإمام مالك: ليست الدور كالمسجد، ولأهلها المتاع بها، والاستبداد، وعلى هذا العمل اليوم، وهذا الخلاف متركب على الاختلاف في مكة، هل هي عَنْوة أو صلح؟ فمن رآها صلحًا، فإن الاستواء عنده في المنازل بعيد، ومن رآها عنوة، أمكنه أن يقول: الاستواء فيها قرره (٢) الأئمة الذين لم يُقطعوها أحدًا، وإنما سكنى من سكن من قبل نفسه (٣).
واختلف الأئمة في فتحها، فذهب مالك وأصحابه: إلى أنها فتحت عنوة بالسيف، وهو الصحيح من مذهب الإمام أحمد، وقال أبو حنيفة والشافعي: فتحت صلحًا.
واختلفوا في جواز بيع دور مكة وإجارتها، فقال أحمد: لا يجوز بيع رَباع مكة والحرم، وهي المنازل، ولا إجارتها؛ لأنها فتحت عنوة، وقال مالك: يجوز إجارتها وبيعها؛ لأن النبي - ﷺ - منَّ بمكة على أهلها، فلم تقسم، ولا سبي أهلها؛ لما عظم الله من حرمتها، ولكن الكراهة عنده في كراء دور مكة قوية؛ طلبًا للمواساة بها، وروي عنه أيضًا كراهة كرائها في أيام الموسم خاصة، وقال أبو حنيفة: لا بأس ببيع بناء بيوت مكة، ويكره بيع أرضها، وكذا الإجارة، وقال صاحباه أبو يوسف ومحمد بن الحسن:
(٢) في "ش" "فيما قدره".
(٣) انظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٤/ ١١٦).
﴿وَمَنْ يُرِدْ﴾ أي: يفعل ﴿فِيهِ﴾ أي: في المسجد ﴿بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ﴾ هو الميل عن الحق، والباء زائدة، معناه: ومن يرد فيه إلحادًا بظلم، والمراد بالإلحاد هنا: الشرك وجميع المعاصي ﴿نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ جواب لـ (مَنْ).
...
﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿وَإِذْ﴾ أي: واذكر إذ ﴿بَوَّأْنَا﴾ هيأنا ﴿لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ﴾ ليبنيه؛ لأن البيت كان رفع إلى السماء زمن الطوفان؛ وكان من ياقوتة حمراء، ثم لما أمر الله إبراهيم -عليه السلام- ببنائه، لم يدر أين يبني، فأعلم الله مكانه بريح أرسلها، فكنست ما حوله، فبناه على أُسِّه القديم ﴿أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا﴾ أي: وقلنا له: لا تشرك بي شيئًا.
﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وهشام عن ابن عامر، وحفص عن عاصم: (بَيْتِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
﴿لِلطَّائِفِينَ﴾ بالبيت ﴿وَالْقَائِمِينَ﴾ أي: المقيمين به.
﴿وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ المصلين.
[٢٧] ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ﴾ أي: نادِ فيهم ﴿بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا﴾ مشاة.
﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ بعير مهزول ﴿يَأْتِينَ﴾ أي: النوق.
﴿مِنْ كُلِّ فَجٍّ﴾ طريق ﴿عَمِيقٍ﴾ بعيد، والضامر: هو كل ما اتصف بذلك من جمل وناقة وغير ذلك.
روي أن إبراهيم -عليه السلام- لما أُمر بالأذان بالحج، قال: "يا رب! وإذا ناديتُ، فمن يسمعني؟ فقيل له: نادِ يا إبراهيم، فعليك النداء، وعلينا البلاغ، فصعد على أبي قبيس فقال: أيها الناس! ألا إن ربكم قد بنى بيتًا، وكتب عليكم الحج، فأجيبوا ربكم، والتفت بوجهه يمينًا وشمالًا، وشرقًا وغربًا، فأجابه كل من كتب له أن يحج من أصلاب الرجال وأرحام الأمهات: لبيك اللهم لبيك، فجرت التلبية على ذلك".
قال ابن عباس: "فأول من أجابه أهل اليمن (١)، فهم أكثر الناس حجًّا" (٢).
واتفق الأئمة على أن الحج فرض على كل مسلم بالغ عاقل صحيح مرة في العمر مع الاستطاعة، فعند الشافعي ومالك: يجب على التراخي، وقيد مالك بما إذا لم يخش الفوت، وعند أبي حنيفة وأحمد: على الفور.
واختلفوا في العمرة، فقال أبو حنيفة ومالك: هي سنة، وقال الشافعي
(٢) انظر: "تفسير الطبري" (١٧/ ١٤٤)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢١٣).
______
(١) لم أقف عليه.
(٢) رواه الترمذي (٧٤٠)، باب: ما جاء في التغليظ في ترك الحجِّ، من حديث عليٍّ رضي الله عنه وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد الله مجهول، والحارث يضعَّف في الحديث. اهـ وذكر الحافظ ابن حجر ما ملخصه: أن هذا الحديث له طرق صحيحة إلا أنها موقوفة، وأن له أصلًا. وقد خطَّأ رحمه الله مَن ادَّعى أنه موضوع، ومَحمَلُ الحديث على مَن استحلَّ التَّرك. انظر: "التلخيص الحبير" (٣/ ١٢٢).
[٢٨] ﴿لِيَشْهَدُوا﴾ ليحضروا ﴿مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ دينية ودنيوية.
﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ﴾ عند التذكية ﴿فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ عندهم؛ لأنهم كانوا يحرصون على علمها وعدها لأجل الحج، وهي عشر ذي الحجة عند الأئمة الثلاثة، وأكثر أهل العلم، وعند مالك: هي أيام النحر الثلاثة.
﴿عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ هي الإبل والبقر والغنم، فلا تجوز الأضحية من غيرها.
﴿فَكُلُوا مِنْهَا﴾ أمر إباحة ليس بواجب، وإنما قال ذلك؛ لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم شيئًا، وأما الأضحية، فإنها مشروعة بأصل الشرع بالاتفاق.
واختلفوا في حكمها، فقال أبو حنيفة: هي واجبة على كل مسلم حر مقيم ملكَ نصابًا من أي الأموال كان، وقال الثلاثة: هي سنة غير مفروضة، واستثنى مالك الحاج الذي بمنى، فإن سنته عنده الهدي، ويجوز الأكل منها باتفاقهم، فقال أبو حنيفة: له أن يأكل منها، ويطعم الأغنياء والفقراء، ويدخر، ويستحب ألّا ينقص الصدقة من الثلث، وقال مالك: يأكل ويطعم، وليس لما يأكله ولا لما يطعمه حد، وقال الشافعي وأحمد: يأكل الثلث، ويهدي الثلث، ويتصدق بالثلث، ولو أكل أكثر، جاز.
واختلفوا في الأفضل مما يضحى به، فقال مالك: الأفضل الغنم، ثم
واختلفوا فيما يجزئ في الأضحية والهدي، فقال أبو حنيفة وأحمد: يجزئ الجذع من الضأن، وهو ما له ستة أشهر، والثني مما سواه، فمن المعز ما له سنة، ومن البقر ما له سنتان، ومن الإبل ما له خمس سنين، وقال مالك: الجذع من الضأن ما له سنة، والثني مما سواه، فمن المعز ما له ثلاث سنين، ومن البقر ما دخل في الثالثة، ومن الإبل ما له ست سنين، وقال الشافعي: من الإبل ما طعن في السادسة، ومن البقر والمعز ما طعن في الثالثة، ومن الضأن ما طعن في الثانية، والسنة أن يذبحها بنفسه إن كان يحسن، وإلا يحضُرها.
واختلفوا فيما إذا ذبحها كتابي، فقال مالك: لا يجوز، وقال الثلاثة: يجوز مع الكراهة.
وله أن ينتفع بجلدها، ولا يعطى الجازر بأجرته شيئًا منها، ولا يبيعها ولا شيئًا منها بالاتفاق، وأما الهدي الواجب بأصل الشرع؛ كدم التمتع والقران، والواجب بإفساد الحج وفواته، وجزاء الصيد، وما أوجبه على نفسه بالنذر، فلا يجوز الأكل منها عند الشافعي، وقال مالك: يأكل من
﴿وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ﴾ هو ذو البؤس؛ أي: الشدة.
﴿الْفَقِيرَ﴾ الذي لا شيء له.
...
﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ يزيلوا أوساخهم، والمراد: الخروج عن الإحرام بالحلق، وقص الشارب، وقلم الأظافر، ولبس الثياب، وقال ابن عباس وابن عمر: قضاء التفث: مناسك الحج كلها (١).
﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ ما ينذرون من البر في حجهم ﴿وَلْيَطَّوَّفُوا﴾ ليدوروا طواف الإفاضة ﴿بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ الكعبة؛ لأنه أول بيت وضع للناس. قرأ ابن عامر، وأبو عمرو، وورش، ورويس، وقنبل: (ثمَّ لِيَقْضُوا) بكسر اللام، والباقون: بإسكانها (٢)، وتقدم توجيه قراءتهم عند
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٧٧).
وطواف الإفاضة ركن، وبه تمام الحج بالاتفاق، وأول وقته عند أبي حنيفة طلوع الفجر من يوم النحر، وآخره آخر اليوم الثاني من أيام التشريق، فإن أخره إلى اليوم الثالث، لزمه شاة، وعند الشافعي وأحمد: أول وقته بعد نصف الليل من ليلة النحر، والأفضل فعله يوم النحر، فإن أخره عن أيام منى، جاز، وعند مالك: يجوز تأخيره إلى آخر ذي الحجة؛ لأنه بكماله عنده من أشهر الحج، لكنه قال: لا بأس بتأخير الإفاضة إلى أيام التشريق، وتعجيلها أفضل، فإن أخرها إلى المحرم، فعليه دم.
...
﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿ذَلِكَ﴾ أي: المذكور من أعمال الحج {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٤)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٩٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٥٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٧٨).
﴿فَهُوَ﴾ أي: التعظيم ﴿خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ في الدار الآخرة.
﴿وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ﴾ أكلًا بعد الذبح ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ تحريمه؛ أي: في سورة المائدة، وهو قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ﴾ [الآية: ٣] استثناء منقطع؛ لأن المحرَّم ليس من جنس الأنعام.
﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ﴾ القذر ﴿مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ بيان للرجس؛ لأن الرجس: الأوثان وغيرها؛ أي: اجتنبوا الرجس من هذا القبيل.
﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ الكذب والبهتان.
روي أن النبي - ﷺ - قام خطيبًا فقال: "يا أيها الناس! عدلت شهادة الزور بالشرك بالله، ثم قرأ هذه الآية" (١).
واختلف الأئمة في عقوبة شاهد الزور، فقال أبو حنيفة: لا يُعزر، بل يوقف في قومه، ويقال لهم: إنه شاهد زور، وقال الثلاثة: يعزر، ويوقف في قومه، ويعرفون أنه شاهد زور، وقال مالك: يشهر في الجوامع
...
﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (٣١)﴾.
[٣١] ﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ﴾ اجتنبوا معصية الله تعالى مخلصين ﴿غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ يعني: من أشرك لا يكون حنيفًا.
﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ﴾ سقط ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ إلى الأرض.
﴿فَتَخْطَفُهُ﴾ تستلبه ﴿الطَّيْرُ﴾ والخطف والاختطاف: تناول الشيء بسرعة. قرأ أبو جعفر، ونافع: (فَتَخَطَّفُهُ) بفتح الخاء وتشديد الطاء؛ أي: تتخطفه، فحذفت إحدى التاءين، وقرأ الباقون: بإسكان الخاء وتخفيف الطاء؛ من خطف يخطف (١).
﴿أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ﴾ أي: تميل وتذهب به ﴿فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ أي: بعيد مهلك لا يرجى خلاصه منه، المعنى: ومن يشرك بالله، فقد هلكت نفسه هلاكًا يشبه أحد الهلاكين. قرأ أبو جعفر: (الرِّيَاحُ) بألف بعد الياء على الجمع، والباقون: بغير ألف على التوحيد (٢).
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٧٩).
[٣٢] ﴿ذَلِكَ﴾ أي: المذكور من اجتناب الرجس وقول الزور.
﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ﴾ وهي الهدي والبدن، وأصلها من الإشعار، وهو إعلامها ليعرف أنها هدي، وتعظيمها: استسمانها واستحسانها.
﴿فَإِنَّهَا﴾ أي: الفعلة، وهي اجتناب الرجس، وتعظيم الشعائر.
﴿مِنْ﴾ أفعال ذوي ﴿تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ وذكر القلوب؛ لأنها منشأ التقوى والفجور، والآمرة بهما.
...
﴿لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿لَكُمْ فِيهَا﴾ أي: في البدن ﴿مَنَافِعُ﴾ قبل تسميتها للهدي؛ من دَرِّها ونسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهورها ﴿إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ وهو أن يسميها ويوجبها هديًا، فإذا فعل ذلك، لم يكن له شيء من منافعها.
﴿ثُمَّ مَحِلُّهَا﴾ أي: حيث يحل نحرها ﴿إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ والمراد: الحرم كله، فتنحر فيه، واتفق الأئمة على جواز ركوب الهدي للحاجة ما لم يضربه.
...
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ أي: جماعة مؤمنة سلفت قبلكم.
﴿لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ﴾ عند النحر ﴿عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ وقيد بهيمة الأنعام؛ لأن من البهائم ما لا يجوز في القرابين؛ كالخيل والحمر.
﴿فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا﴾ أخلصوا وأطيعوا ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ المطيعين المتواضعين، والخبت: المكان المطمئن من الأرض، روي أن قوله: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ نزل في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم (٢).
...
﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ﴾ خافت واضطربت ﴿قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ﴾ من المحن ﴿وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ﴾ في أوقاتها.
﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ يتصدقون.
...
(٢) انظر: "الدر المنثور" للسيوطي (٦/ ٤٨ - ٤٩).
[٣٦] ﴿وَالْبُدْنَ﴾ جمع بَدنَة، سميت بذلك؛ لعظم أبدانها، وهي الإبل خاصة.
﴿جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ أعلام دينه، سميت شعائر؛ لأنها تُشْعَر، وهو أن تطعن بحديدة في سنامها، فيعلم أنها هَدْي، وتقدم الكلام على ذلك واختلاف الأئمة فيه في أول سورة المائدة.
﴿لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ﴾ النفع في الدنيا، والأجر في العقبى.
﴿فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا﴾ عند نحرها ﴿صَوَافَّ﴾ أي: قيامًا على ثلاث قوائم، قد صفت رجليها وإحدى يديها، ويدُها اليسرى معقولة عند الذبح، وهي جمع صافَّة.
واختلف الأئمة في التسمية عند الذبح، فمذهب الشافعي: أن التسمية سنة، وتحل الذبيحة إذا تركها عامدًا أو ناسيًا، ومذهب الثلاثة: إن تركها عمدًا، لم تحل، وإن تركها ناسيًا، حلت.
﴿فَإِذَا وَجَبَتْ﴾ سقطت ﴿جُنُوبُهَا﴾ إلى الأرض ﴿فَكُلُوا مِنْهَا﴾ إن شئتم ﴿وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ﴾ هو ذو القناعة الذي لا يتعرض ولا يسأل.
﴿وَالْمُعْتَرَّ﴾ المتعرض بغير سؤال.
﴿كَذَلِكَ﴾ أي: مثل ذلك التسخير.
﴿سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ﴾ مع عظمها وقوتها ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ إنعامنا عليكم.
[٣٧] ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ﴾ لن ترفع إليه ﴿لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا﴾ وذلك أن الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن، لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى الله تعالى، فنزلت الآية: ﴿وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ (١) يعني: النية والإخلاص، وما أريد به وجه الله. قرأ يعقوب: (لَنْ تنَالَ) (وَلَكِنْ تنَالُهُ) بالتاء على التأنيث فيهما؛ لتأنيث الجماعة، وتأنيث التقوى، وقرأهما الباقون: بالياء على التذكير (٢).
﴿كَذَلِكَ سَخَّرَهَا﴾ يعني: البدن ﴿لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ لأعلام دينه، ومناسك حجه، وهو أن يقول: الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أبلانا وأولانا، وقيل: التسمية والتكبير. على الهدي والأضحية أن يقول الذابح: بسم الله والله أكبر ﴿وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ﴾ الموحدين، روي أن قوله: ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾ نزل في الخلفاء الأربعة كما تقدم في المخبتين، فأما ظاهر اللفظ، فمقتض للعموم في كل محسن.
...
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨)﴾.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٢٢١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٨٣).
﴿عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: بفتح الياء والفاء وإسكان الدال من غير ألف، وقرأ الباقون: بضم الياء وفتح الدال وألف بعدها مع كسر الفاء (١).
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ﴾ خائن في أمانته.
﴿كَفُورٍ﴾ بالله تعالى؛ حيث أشرك.
...
﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩)﴾.
[٣٩] ولما كان المشركون من أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله - ﷺ -، فلا يزالون يجيئون من بين مضروب ومشجوج، ويشكون إلى رسول الله - ﷺ -، فيقول لهم: "اصبروا فإني لم أؤمر بقتال" حتى هاجر رسول الله - ﷺ -، فأنزل الله عز وجل:
﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ﴾ (٢). قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو، ويعقوب، وعاصم، وخلف باختلاف عنه: (أُذِنَ) بضم الهمزة مجهولًا،
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٧٦). قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (٢/ ٣٨٧ - ٣٨٨) غريب جدًّا.
﴿بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ بسبب كونهم مظلومين باعتداء الكفار عليهم.
﴿وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ ونسخت هذه الآية سبعين آية؛ لأنها أول آية نزلت في الإذن بالقتال، ونزلت بالمدينة (٤).
...
﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ يعني: مكة، بدل من ﴿لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ﴾ ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ بغير ذنب ﴿إِلَّا أَنْ يَقُولُوا﴾ المعنى: لم يخرجوا من ديارهم إلا بسبب قولهم:
(٢) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٣) المصادر السابقة.
(٤) في "ش": "في المدينة".
﴿لَهُدِّمَتْ﴾ لخربت. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير: بتخفيف (٢) الدال، والباقون: بتشديدها، فالتخفيف يكون للقليل والكثير، والتشديد يختص بالكثير (٣)، وقرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو جعفر، ويعقوب، وقالون، والأصبهاني عن ورش، وهشام عن ابن عامر: بإظهار التاء عند الصاد من (صَوَامِعُ)، والباقون: بإدغامها (٤).
﴿صَوَامِعُ﴾ منابر الرهبان ﴿وَبِيَعٌ﴾ جمع بِيعة، وهي كنيسة النصارى.
﴿وَصَلَوَاتٌ﴾ أي: مواضع صلوات، وهي كنائس اليهود.
﴿وَمَسَاجِدُ﴾ هي للمسلمين.
﴿يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ المعنى: لولا دفع الله عن المتعبدين بالمجاهدين، لانقطعت العبادات، وخربت المتعبدات، وقدم مصليات الكافرين على مساجد المؤمنين؛ لأنها أقدم.
(٢) في "ش": "بفتح" وهو خطأ.
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٣٧)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٢٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٨٥ - ١٨٦).
(٤) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٧)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٩٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٨٦).
﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ أي: ينصر دينه، وقد نجز وعده بتسليط المهاجرين والأنصار على العرب والعجم، وأورثهم أرضهم وديارهم.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ﴾ على خلقه ﴿عَزِيزٌ﴾ ممتنع في سلطانه.
...
﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)﴾.
[٤١] ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ بنصرهم على عدوهم حتى تمكنوا من البلاد، قال قتادة: هم أصحاب محمد - ﷺ - ﴿أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ أي (١): آخر أمور الخلق ومصيرهم إليه.
...
﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (٤٢)﴾.
[٤٢] ثم سلى نبيه فقال تعالى: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ﴾.
[٤٣] ﴿وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ﴾.
...
﴿وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ﴾ أمهلتهم.
﴿ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ﴾ عاقبتهم.
﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ إنكاري عليهم بإهلاكهم، يخوف به من يخالف النبي - ﷺ - ويكذبه، وقوله: ﴿وَكُذِّبَ مُوسَى﴾ مجهولًا؛ لأن موسى لم يكذبه قومه بنو إسرائيل، وإنما كذبه القبط. قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: (أَخَذْتُهُمْ) (أَخَذْتُهَا) (١) بإظهار الذال عند التاء، والباقون: بالإدغام (٢)، وقرأ ورش عن نافع: (نَكِيرِي) بإثبات الياء وصلًا، ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين (٣).
...
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٩٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٨٨).
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٨٨).
[٤٥] ﴿فَكَأَيِّنْ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو جعفر: بألف ممدودة بعد الكاف، وبعدها همزة مكسورة، وأبو جعفر يسهل الهمزة، والباقون: بهمزة مفتوحة بعد الكاف وبعدها ياء مكسورة مشددة، ووقف أبو عمرو ويعقوب (فَكَأَيْ) بغير نون حيث وقع، ووقف الباقون: (فَكَأَيِّنْ)، وهي كاف التشبيه ضمت إلى الاستفهام، فصار المعنى: وكم (١).
﴿مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ يعني: أهلها. قرأ أبو عمرو، ويعقوب: (أَهْلَكْتُهَا) بالتاء مضمومة من غير ألف على الإفراد، وقرأ الباقون: بالنون مفتوحة وألف بعدها جمعًا على التعظيم (٢).
﴿وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ أي: مشرِكٌ أهلُها ﴿فَهِيَ خَاوِيَةٌ﴾ ساقطة.
﴿عَلَى عُرُوشِهَا﴾ سقوفها؛ بأن سقطت السقوف، ثم سقطت عليها الحيطان.
﴿وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ﴾ أي: وكم من بئر متروكة مع وجود الماء وآلاتها فيها؛ لهلاك أربابها. قرأ أبو عمرو، وأبو جعفر، وورش: (وَبِيرٍ) بغير همز، والباقون: بالهمز (٣).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٧)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٢٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٨٩).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٣٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن =
روي أن هذه البئر كانت بحضرموت في بلدة يقال لها: حاصوراء، وذلك أن أربعة آلاف ممن آمن بصالح -عليه السلام- نجوا من العذاب، فأتوا حضرموت، ومعهم صالح، فلما حضروه، مات صالح، فسمي: حضرموت؛ لأن صالحًا لما حضره (٢) مات، فبنوا حاصوراء، وقعدوا على (٣) هذه البئر، وأمَّروا عليهم رجلًا، فأقاموا دهرًا، وتناسلوا حتى كثروا، ثم إنهم عبدوا الأصنام وكفروا، فأرسل الله عز وجل إليهم نبيًّا يقال له: حنظلة بن صفوان، وكان حمالًا فيهم، فقتلوه في السوق، فأهلكهم الله، وعطلت بئرهم، وخربت قصورهم (٤).
...
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ يعني: كفار مكة، فينظروا إلى مصارع المكذبين من الأمم الخالية ﴿فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ أي: يعلمون بها، فيه دليل على أن العقل محله القلب، وهو قول المالكية والشافعية
(١) في "ت": "أربابها".
(٢) في "ت": "حضروه".
(٣) في "ش": "في".
(٤) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٢٢٤).
﴿أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ ما يذكر لهم من أخبار القرون الماضية، فيعتبروا بها.
﴿فَإِنَّهَا﴾ أي: القصة.
﴿لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ المعنى: أعينهم صحيحة، وقلوبهم عُمي، والعمى الضار هو عمى القلب، فأما البصر، فليس بضار في أمر الدين.
...
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧)﴾.
[٤٧] ولما قال: النضر بن الحارث ﴿اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ [الأنفال: ٣٢]، نزل: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ﴾ (١) بإهلاك الكفار وعذابهم، فأنجز الله ذلك يوم بدر.
﴿وَإِنَّ يَوْمًا﴾ من أيام العذاب الذي استعجلوه.
...
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ﴾ وكَمْ من أهل قرية، عطف الأولى بالفاء؛ لأنها بدل عن قوله ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ وهذه بالواو؛ لأنها في حكم ما تقدمها من الجملتين؛ لبيان أن المتوعد به يحيق بهم لا محالة، وأن تأخيره لعادته تعالى.
﴿أَمْلَيْتُ لَهَا﴾ أمهلتها كما أمهلتكم ﴿وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ مثلكم.
﴿ثُمَّ أَخَذْتُهَا﴾ بالعذاب ﴿وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ وإلي حكم الجميع.
...
﴿قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ أوضحُ لكم ما أُنذركم به، ليس إلي أن أعجل عذابًا، ولا أن أؤخره.
...
[٥٠] ثم قسم حالة المؤمنين والكافرين بقوله: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ الجنة، ورزقهم فيها.
...
﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا﴾ بالطعن فيها ﴿مُعَاجِزِينَ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: بتشديد الجيم من غير ألف؛ أي: مثبطين الناس عن الإيمان، وقرأ الباقون: بالتخفيف والألف (١)؛ أي: مسابقين مشاقين للساعين فيها بالقبول ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾.
...
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢)﴾
[٥٢] ولما ألقى الشيطان بقراءة نفسه في قراءة النبي - ﷺ - محاكيًا نغمته - عليه السلام - لما قرأ في الصلاة: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾ [النجم: ١٩، ٢٠]: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى؛ بحيث يسمعها من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قوله عليه السلام، وأشاعوها، حزن لذلك - ﷺ -، فنزل تسلية له:
﴿إِلَّا إِذَا تَمَنَّى﴾ أي: تلا وقرأ كتاب الله.
﴿أَلْقَى الشَّيْطَانُ﴾ بقراءة نفسه ﴿فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ في قراءته، المعنى: ما من رسول (٢) ولا نبي قبلك إلا مكنا الشيطان أن يلقي في قراءتهم مثل ما ألقى في قراءتك، فلا تهتم لذلك. قرأ أبو جعفر: (أُمْنِيَتِهِ) بتخفيف الياء، والباقون: بتشديدها (٣).
﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ﴾ أي: يبطله.
﴿ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ﴾ أي: يثبتها.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بأحوال الناس ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما يفعله بهم، وما نقل من أن الشيطان ألقاها على لسان النبي - ﷺ -، أو أنه أصابته -عليه السلام- سِنَة، فقالها، أو حدَّثَ نفسه فسها، فهذا كله ضعيف واه لم يُرو بسند صحيح؛ لعصمته - ﷺ -، ونزاهته عن مثل ذلك، وعن جريان الكفر على قلبه أو لسانه عمدًا أو سهوًا، أو يكون للشيطان عليه سبيل.
...
(٢) "ما من رسول" ساقطة من "ش".
(٣) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢١٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٩١).
[٥٣] ﴿لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً﴾ اختبارًا.
﴿لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ هو الشك.
﴿وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ عن قبول الحق، وهم المشركون، وذلك أنهم افتتنوا لما سمعوا ذلك، ثم نسخ ورفع، فازدادوا عتوًا، وظنوا أن رسول الله - ﷺ - يقوله من عند نفسه، ثم يندم فيبطل.
﴿وَإِنَّ الظَّالِمِينَ﴾ المشركين ﴿لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾ أي: خلاف شديد.
...
﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ التوحيد والقرآن، وهم المؤمنون ﴿أَنَّهُ﴾ أي: القرآن ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ وتعطف عليه (وليعلم).
﴿فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ﴾ أي: تلين ﴿لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾ وتطمئن ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ دين الإسلام. وقف يعقوب (لَهَادِي): بإثبات الياء (١).
...
[٥٥] ﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ﴾ شك ﴿مِنْهُ﴾ من القرآن.
﴿حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً﴾ فجأة.
﴿أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾ أي: عقم فلا خير فيه للكفار، وهو يوم بدر في قول الأكثر؛ لأنه ذكر الساعة من قبل، والعقم في اللغة: المنع، يقال: رجل عقيم: إذا مُنع من الولد.
...
﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦)﴾.
[٥٦] ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ تقديره: الملك لله يوم يزول شك الكافرين، وهو يوم القيامة ﴿يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ بين المؤمنين والكافرين.
﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾.
...
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٥٧)﴾.
[٥٧] ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ يُهانون فيه.
***
[٥٨] ونزل في الذين قالوا للنبي - ﷺ -: ما لنا إذا هاجرنا فقتلنا أو متنا؟ ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (١) فارقوا أوطانهم في طاعة الله تعالى.
﴿ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا﴾ قرأ ابن عامر: (قُتِّلُوا) بتشديد التاء، والباقون: بتخفيفها (٢).
﴿لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾ لا ينقطع أبدًا وهو رزق الجنة، وقيل حسنًا؛ أي: حلالًا.
﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ فإنه يرزق بغير حساب.
...
﴿لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩)﴾.
[٥٩] ﴿لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ﴾ هو الجنة؛ لأن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. قرأ نافع، وأبو جعفر: (مَدْخَلًا) بفتح الميم، والباقون: بضمها (٣).
﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ فلا يعجل على المسيء بالعقوبة.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٩١)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٢٢٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٩٢).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٣٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٩٢).
[٦٠] ونزل في المسلمين الذين طلب المشركون قتالهم في الأشهر الحرم، فامتنعوا عليهم، ثم قاتلوهم ﴿ذَلِكَ﴾ (١) أي: الأمر ذلك.
﴿وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ﴾ أي: جازى الظالم بمثل ظلمه. قرأ أبو عمرو، ورويس عن يعقوب: (عَاقَب بِّمِثْلِ) بإدغام الباء في الباء (٢) ﴿ثُمَّ بُغِيَ﴾ تُعُدِّي (٣) ﴿عَلَيْهِ﴾ بالمعاودة إلى العقوبة.
﴿لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ﴾ على ظالمه.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ﴾ عن المؤمنين.
﴿غَفُورٌ﴾ لهم قتالهم في الأشهر الحرم.
...
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١)﴾.
[٦١] ﴿ذَلِكَ﴾ النصر ﴿بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ يدخل ظلمة هذا في مكان ضياء ذاك بمغيب الشمس، وضياء ذاك في مكان ظلمة هذا بطلوعها.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٩٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٠٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٩٣).
(٣) "تعدي" زيادة من "ت".
...
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢)﴾.
[٦٢] ﴿ذَلِكَ﴾ الوصف بكمال القدرة والعلم ﴿بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾ الذي لا يجوز أن يعبد إلا هو ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ﴾ من الآلهة ﴿هُوَ الْبَاطِلُ﴾ قرأ أبو عمرو، ويعقوب، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (يَدْعُونَ) بالغيب، والباقون: بالخطاب (١).
﴿وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ﴾ على كل شيء.
﴿الْكَبِيرُ﴾ عن أن يكون له شريك.
...
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣)﴾.
[٦٣] ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ استفهام معنى الخبر.
﴿فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً﴾ بالنبات.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ﴾ محكم للأمور برفق ﴿خَبِيرٌ﴾ بما ظهر وبطن.
...
[٦٤] ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ خلقًا وملكًا.
﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ﴾ في ذاته عن كل شيء.
﴿الْحَمِيدُ﴾ المستوجب للحمد بصفاته وأفعاله.
...
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (٦٥)﴾.
[٦٥] ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ﴾ جعلها مذللة لكم.
﴿وَالْفُلْكَ﴾ أي: وسخر الفلك ﴿تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ﴾ أي: لكيلا تسقط.
﴿عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ إلا بمشيئته، وذلك يوم القيامة. قرأ أبو عمرو، وقالون، والبزي: (السَّمَا أَنْ) بإسقاط الهمزة الأولى بلا عوض منها، ويهمزون الثانية، وقرأ ورش، وقنبل، وأبو جعفر، ورويس: بتسهيل الثانية، فيجعلونها بين الهمزة والألف، ويفتحونها شبه مَدَّة، وقرأ الباقون، [وهم الكوفيون، وابن عامر، وروح: بتحقيق الهمزتين (١).
﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾. قرأ نافع، وابن كثير، وأبو جعفر،
...
﴿وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (٦٦)﴾.
[٦٦] ﴿وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ﴾ في الأرحام.
﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾ عند انقضاء الأجل.
﴿ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ بالبعث.
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ﴾ هو بديل بن ورقاء ﴿لَكَفُورٌ﴾ بالله تعالى وبأنعمه.
...
﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (٦٧)﴾.
[٦٧] ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ﴾ يعني: شريعة هم عاملون بها. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (مَنْسِكًا) بكسر السين، والباقون: بفتحها، وتقدم توجيه القراءتين في الحرف المتقدم [الآية: ٣٤].
﴿فَلَا يُنَازِعُنَّكَ﴾ أي: لا تنازعهم في الأمر.
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٩٥).
﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ﴾ (١) إلى دينه.
﴿إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ﴾ طريق إلى الحق سويٍّ.
...
﴿وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (٦٨)﴾.
[٦٨] ﴿وَإِنْ جَادَلُوكَ﴾ وقد ظهر الحق.
﴿فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من المجادلة الباطلة.
...
﴿اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩)﴾.
[٦٩] ﴿اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ أيها المؤمنون والكافرون.
﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ من الدين، فتعرفون حينئذ الحق من الباطل.
...
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠)﴾.
[٧٠] ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ فلا يخفى عليه شيء.
﴿فِي كِتَابٍ﴾ في اللوح المحفوظ.
﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾ أي: الإحاطة به ﴿عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾.
...
﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١)﴾.
[٧١] ثم أومأ إلى جهالة الكفار بعبادتهم غير المستحق لها، فقال: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا﴾ حجة وبرهانًا على جواز عبادته ﴿وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ يعني: فعلوه عن جهل لا عن علم.
﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ﴾ المشركين ﴿مِنْ نَصِيرٍ﴾ يدفع عنهم العذاب.
...
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢)﴾.
[٧٢] ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا﴾ أي: القرآن.
﴿بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي: أثر الإنكار ﴿الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ﴾ يصولون ويبطشون.
﴿بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا﴾ هم النبي - ﷺ - وأصحابه رضي الله عنهم، وأصل السطو: القهر.
﴿النَّارُ﴾ أي: هي النار ﴿وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ النار.
...
﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣)﴾.
[٧٣] ولما كانت دعواهم بأن لله شريكًا جارية في الغرابة والشهرة مجرى الأمثال التي يسار بها، قال: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ﴾ أي: جُعل ﴿مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾ استماع تدبر وتفكر، ثم جهلهم لذلك فقال:
﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ آلهة. قرأ يعقوب: (يَدْعُونَ) بالغيب، والباقون: بالخطاب (١) ﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا﴾ لن يقدروا على خلقه مع صغره، والمراد: الذباب المعروف؛ لأنه مثل في الضعف والحقارة ﴿وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ متعاونين عليه، فكيف إذا كانوا منفردين؟
﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ﴾ أي: يسلب ﴿الذُّبَابُ شَيْئًا﴾ من حلي الأصنام، مع ضعفه ﴿لَا يَسْتَنْقِذُوهُ﴾ يخلصوه ﴿مِنْهُ﴾ لعجزهم، وهذه صفة العاجز، فكيف تعبدونه؟! قال ابن عباس: "كانوا يُطْلون أصنامهم بالزعفران، فإذا
...
﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤)﴾.
[٧٤] ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ ما عظموه حق عظمته، ولا وصفوه حق وصفه ﴿إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ لا يغلبه شيء، وآلهتهم مقهورة عاجزة.
...
﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥)﴾.
[٧٥] ولما قال المشركون: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾ [ص: ٨]، نزل: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي﴾ (٢) يختار ﴿مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا﴾ وهم: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل.
وغيرهم ﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ رسلًا، يدعون إلى الحق، ويبلغون ما نزل عليهم؛ مثل: إبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، وغيرهم من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، فأخبر أن الاختيار إليه، يختار من شاء من خلقه.
﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ لقولهم ﴿بَصِيرٌ﴾ بمن يختاره لرسالته.
...
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٢٣٣)، و"تفسير القرطبي" (١٢/ ٩٨).
[٧٦] ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ ما قَدَّموا ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ ما خَلَّفوا.
﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ في الآخرة. قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف: (تَرْجِعُ) بفتح التاء وكسر الجيم، وقرأ الباقون: بضم التاء وفتح الجيم (١).
...
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧)﴾.
[٧٧] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا﴾ في صلاتكم ﴿وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ﴾ وحّدوه، والعبادة عبارة عن الخضوع والتذلل، وهو تعظيم الله [بأمره ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ من صلة الرحم ومكارم الأخلاق.
﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾] (٢)؛ لكي تسعدوا وتفوزوا بالجنة، وهذا محل سجود عند الشافعي وأحمد؛ خلافًا لأبي حنيفة ومالك، وتقدم اختلاف الأئمة في سجود التلاوة وسجود الشكر ملخصًا عند سجدة مريم.
...
(٢) ما بين معكوفتين ساقطة من "ت".
[٧٨] ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ﴾ لله، ومن أجل إعلاء دينه ﴿حَقَّ جِهَادِهِ﴾ بنية صادقة خالصة لله عز وجل، وقد روي أن رسول الله - ﷺ - لما رجع من غزوة تبوك قال: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" (١)، وأراد بالجهاد الأصغر: جهاد الكفار، وبالأكبر: جهاد النفس.
﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ﴾ اختاركم ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ ضيق في شرعة الملة، والحرج: ما يتعذر عليه الخروج عما يقع فيه، وذلك أنها -أي: الملة- حنيفة سمحة، ليست كشدائد بني إسرائيل وغيرهم، بل فيها التوبة والكفارات والرخص، ونحو هذا مما كثر عده.
﴿مِلَّةَ﴾ أي: كَمِلَّة ﴿أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ ونصب بنزع حرف الصفة، وقوله: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ﴾ خطاب للعرب؛ لأنهم كانوا من نسل إبراهيم.
﴿هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ﴾ المعنى: الله سماكم المسلمين.
﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبل إنزال القرآن في الكتب المتقدمة.
﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ المفروضةَ بالمداومة عليها.
﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ أَدُّوها كما أنعم عليكم.
﴿وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ﴾ ثقوا به، وارفضوا التوكل على سواه.
﴿هُوَ مَوْلَاكُمْ﴾ الذي يليكم نصره وحفظه.
﴿فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ لا إله إلا هو إليه المصير، والله أعلم.
...