ﰡ
التقوى وسببها
إن مهمة المربي المخلص الترغيب في الاستقامة، والتحذير من الانحراف، وإلا لم يكن مربّيا صدوقا، ولا معلما ناجحا، لذا عني القرآن الكريم من أجل النجاح في التربية بالحض على تقوى الله تعالى التي تشمل الجانبين الإيجابي والسلبي، بالتزام المأمورات التي تحقق الخيرات والفلاح، واجتناب المنهيات التي تؤدي إلى الشر والخسران، وهناك سبب آخر للأمر بالتقوى: وهو النجاة في عالم الحساب يوم الآخرة، ففي الآخرة الرعب والرّهب، ولا أمان من مخاوف هذا اليوم، والنجاة من أهواله، إلا باستقامة الإنسان، وقد أمر الله تعالى صراحة بالتقوى لتنفع صاحبها في عالم القيامة، فقال سبحانه:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤)«١» «٢» «٣» [الحج: ٢٢/ ١- ٤].
هذا مطلع سورة الحج المدنية النزول، وصدر الآية يتضمن تحذيرا لجميع العالم
(٢) تغفل.
(٣) عات متمرد.
التحريك العظيم، وذلك مع نفخة الفزع ومع نفخة الصعق حسبما تضمن حديث أبي هريرة من ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعق، ونفخة البعث.
وأوصاف يوم القيامة الرهيبة هي:
١- يوم تذهل الزلزلة كل مرضعة عن وليدها الرضيع. والذهول: الغفلة عن الشيء بطارئ من هم أو وجع أو خوف.
٢- وتسقط الحامل جنينها من بطنها من شدة الخوف والفزع.
٣- وتجد الناس كالسّكارى من الخوف، وهم في الواقع غير سكارى من الشراب، ولكن شدة العذاب أفقدتهم وعيهم.
ومع هذا التحذير الشديد ووصف هذه الأهوال العظام، يجادل بعض الناس في المغيبات بغير علم، كالمجادلة في صفات الله وأفعاله، وقدرته على البعث وغيره، ويتبع في جداله بالباطل خطوات كل شيطان متمرد عات، فهو لا يجادل بالحق، وإنما يجادل بالباطل. قال ابن جريج: نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث وأبي بن خلف.
وقيل: في أبي جهل بن هشام. وكان النضر كثير الجدال، يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، والله غير قادر على إحياء من بلي وصار ترابا.
وأما المجادلة بالباطل: فهي المرادة من قوله تعالى: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا [الزخرف:
٤٣/ ٥٨].
ثم أبان الله مصير الذي يتبع الشيطان، وهو أنه قضي على من اتبع الشيطان، وجعله وليا ناصرا له: أن يوقعه في الضلال، ويهديه إلى النار، أي يدله على طريق ذلك. والمقصود أن اتباع الشيطان يؤدي إلى الضلال في الدنيا، وإلى عذاب النار في الآخرة، وهذا وعيد واضح لمن اتبع الشيطان، وتحذير من الانسياق مع وساوسه وأباطيله.
بعض أدلة البعث
أقام الله تعالى أدلة كثيرة على إثبات البعث واليوم الآخر، منها في أوائل سورة الحج خلق الإنسان، وخلق النبات، فالله تعالى خلق الإنسان من تراب، كما في قوله تعالى:
فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ. وخلق النبات من زرع وشجر، كما في قوله سبحانه: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً. وبعد إيراد الأدلة على قدرة الله على البعث، لا يلتفت إلى إنكار منكر له، ويكون الإنكار نوعا من العبث والمكابرة والعناد الذي لا يعتمد على عقل ولا فكر صحيح. قال الله تعالى مبينا موقف هذا المنكر المكابر والرد عليه:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥ الى ٨]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨)«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» [الحج: ٢٢/ ٥- ٨].
هذا لون صريح من مباشرة الحوار الرباني مع الناس، فيا أيها البشر، إن كنتم في شك من إمكان البعث ومجيئه، يوم القيامة، فانظروا إلى بدء خلقكم، فمن قدر على البدء قدر على الإعادة، بدليل مراحل خلق الإنسان السبع الآتية وهي:
١- إننا خلقنا أصلكم آدم من التراب، وخلقنا الغذاء من التراب.
٢- ثم بدأ تخلّق الإنسان بحسب الأحوال المعتادة، ببدء تكون النطفة.
٣- ثم تحولت النطفة بإذن الله إلى علقة، أي قطعة دم متجمد بعد أربعين يوما.
٤- ثم صارت العلقة مضغة، أي قطعة لحم، مخلّقة أي متممة البنية، وغير مخلّقة:
غير متممة البنية، أي التي تسقط، وقد خلقناكم على هذا النحو من التدرج لنبين لكم كمال قدرتنا وحكمتنا، ولتستدلوا بها على إمكان البعث، فإن من خلق الإنسان على هذا النحو من التدرج والتباين الظاهر، قدر على إعادة ما بدأه، بل هذا أهون في تقدير الناس، وإن كان لا فرق في القدرة الإلهية بين الحالين.
(٢) قطعة دم متجمد.
(٣) قطعة لحم.
(٤) واضحة الخلقة.
(٥) كمال قوتكم وعقلكم.
(٦) الخرف والهرم، فهو أخس العمر.
(٧) ميتة يابسة.
(٨) انتفخت وارتفعت.
(٩) صنف حسن.
٦- ثم تمرون في مراحل العمر، فتبلغوا أشدكم في عنفوان الشباب، وتتكامل قواكم البدنية والعقلية.
٧- وبعضكم يتوفاه الله في مرحلة مبكرة من العمر، وبعضكم تتأخر وفاته، ويعيش حتى يصل إلى سن الشيخوخة والهرم، وضعف العقل والقوة والفهم، وتلك هي مرحلة الخرف، التي يعود بها الإنسان إلى حال الطفولة، هذا هو الدليل الأول على قدرة الله على البعث، يعتمد على التأمل في مراحل خلق الإنسان.
والدليل الثاني على إمكان البعث من الله: هو خلق النبات المشابه لخلق الإنسان، فإذا تأمل المرء أحوال الأرض، يراها أولا ميتة يابسة لا نبات فيها ولا زرع، فإذا أنزل الله عليها المطر تحركت بالنبات، ودبت فيها الحياة، وارتفعت وانتفخت بالماء والنبات، ثم أنبتت من كل صنف من النبات والزرع ما هو جميل المنظر، طيب الرائحة، متناسق الألوان أو مختلفها، لاختلاف ألوان الثمار والزروع والطعوم والروائح، والأشكال والمنافع، كما يلاحظ كل إنسان في فصل الربيع والصيف وغيرهما.
ذلك المذكور من خلق الإنسان والحيوان والنبات بسبب أن الله هو الحق الموجود الثابت الذي لا شك فيه، وأنه الإله القادر على إحياء الموتى كإحياء الإنسان والحيوان والنبات، وأنه تعالى القادر على كل شيء، فمن قدر على هذه الممكنات، فهو قادر على إعادة الأجسام إلى أرواحها.
ولتعلموا أن من قدر على إحياء الموتى قادر على الإتيان بالساعة، أي يوم القيامة، فالساعة كائنة واقعة لا شك فيها، ولتتيقنوا أن الله سيبعث أهل القبور، بعد أن بليت أجسادهم، وصاروا رمما، وسيعيدهم الله مرة أخرى أحياء، ليوم الحشر والحساب، والثواب والعقاب.
تختلف أحوال الناس من الهداية الإلهية، على ثلاث فئات، فئة دعاة الضلال، وفئة أهل الشك والنفاق، وفئة الأبرار السعداء، ولكل فئة سلوك ومنهاج، وتفكير ونظام، وتسطر كل فئة بيدها خطوط مستقبلها، فلا يكون بعدئذ مجال للاعتراض، أو ادعاء لظلم، أو مفاجأة بواقع المصير، وقد أخبر القرآن الكريم عن هذه الفئات الثلاث في الآيات الآتية:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٨ الى ١٤]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢)
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الحج: ٢٢/ ٨- ١٤].
هذه أحوال ثلاث فئات من الناس. أما الفئة الأولى: فهم دعاة الضلال وأئمة الكفر، وهم الذين يجادلون في توحيد الله وأفعاله وصفاته بلا عقل صحيح، ولا نقل صريح، بل بمجرد الرأي المحض والهوى الخاص. إنهم يجادلون مستكبرين عن الحق وقبوله، بقصد إضلال الناس عن سبيل الله، سبيل الحق والعدل والتوحيد، فيكون عقابهم في الدنيا الخزي، أي الهوان والذل، وفي الآخرة الزجّ بهم في عذاب
(٢) ذل وهوان.
(٣) أي على شك وضعف في الإيمان والعبادة. [.....]
(٤) الناصر.
(٥) الصاحب المعاشر.
وقد نزلت هذه الآية في أبي جهل، أنذره الله بالخزي (الذل والهوان) في الدنيا، فقتل يوم بدر، أو نزلت في النضر بن الحارث الذي قتل أيضا يوم بدر.
وأما الفئة الثانية: فهم أهل الشك والنفاق والمنفعة، والانتهازيون: وهم الذين يعبدون الله على شك وضعف في العبادة، فإن أصابهم خير مادي من غنيمة ومال، وكثرة نتاج في الماشية، رضوا عن هذا الدين، وإن أصابهم مرض أو فقر أو ضعف نتاج من الماشية، ارتدوا وكفروا، فخسروا أو ضيعوا الدنيا والآخرة، فلم يحصلوا من الدنيا على شيء، من عزّ وكرامة وغنيمة، ولا استفادوا من ثواب الآخرة، لأنهم كفروا بالله العظيم، وذلك هو الخسران البيّن الذي لا خسران مثله. وتأكيدا لعظم تلك الخسارة، ترى هؤلاء المنافقين يعبدون من غير الله آلهة من الأصنام، يستغيثون بها، ويستنصرون، ويسترزقون، وهي لا تضرهم إن لم يعبدوها، ولا تنفعهم في الآخرة إن عبدوها، ذلك الارتداد وعبادة الأصنام: هو الضلال الموغل في البعد، وتراهم أيضا يعبدون من ضرره في الدنيا أقرب من نفعه فيها، وضرره في الآخرة محقق متيقن، لبئس المولى: الناصر هو، ولبئس العشير: الصاحب هو.
وأما الفئة الثالثة: فهم الأبرار السعداء الذين آمنوا بقلوبهم وصدّقوا إيمانهم بأفعالهم وعملوا صالح الأعمال، فيكون جزاؤهم إدخالهم جنات تجري من تحت بساتينها وأشجارها الأنهار، إن الله يفعل ما يريد بإكرام أهل الطاعة والإنابة، ويهين أهل المعصية، ويحرمهم من فضله، يفعل على وفق مراده وإرادته ومشيئته
إن بيان أحوال هذه الفئات الثلاث والموازنة بينهم، يكون خير ترجمان عن واقع الناس، وعن مصائرهم يوم القيامة، فهل من تفكير بإيمان صحيح، وهل من مسعى حميد نحو الطاعة، والفرار من المعصية؟
مناقشة اليائس من النصر
جرت العادة أن كل رسول أو سفير عن غيره يكون محميا ومؤيدا بقوة وسلطان من أرسله، ليتمكن من أداء مهمته على الوجه الأكمل، ويعود سالما غانما إلى مقره ووطنه، والله تعالى أشد غيرة وأعظم سلطانا وتأييدا لرسله الذين بعثهم لهداية البشرية، فيحميهم من أعدائهم، وينصرهم على مخالفيهم في نهاية الأزمة والمحنة، لذا وبخ الله تعالى أولئك الفئة من الناس وهم ضعاف الإيمان أو عديمو الإيمان على ما طرأ عليهم من القلق، وعلى ظنهم أن الله تعالى لن ينصر محمدا عليه الصلاة والسلام وأتباعه، وأبان الله لهم أنه سبحانه أمر نبيه ومن آمن معه بالصبر وانتظار الوعد الإلهي، وأنزل على رسوله الآيات البينات التي يبلغها لقومه، وللناس أجمعين، فقال الله تعالى:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٥ الى ١٦]
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦)
«٢» «٣» «٤» «٥» [الحج: ٢٢/ ١٥- ١٦].
(٢) بحبل.
(٣) الجمهور على أن القطع هنا هو الاختناق.
(٤) صنيعه بنفسه.
(٥) في موضع خبر الابتداء، والتقدير: والأمر أن الله يهدي من يريد.
والأمر الثاني: إنزاله القرآن آيات واضحات ترشد إلى الحق والصواب.
والمعنى: يقول الله تعالى: نحن أمرنا رسولنا والمؤمنين بالصبر على الدعوة إلى الله، وانتظار وعدنا، فمن ظن غير ذلك، وأننا لن ننصر محمدا صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا والآخرة، فليمدد بسبب إلى السماء، أي بحبل إلى سقف بيته، وليختنق به، ولينظر وليتأمل في نفسه: هل يذهب بذلك غيظه من نصرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ كلا، وهذا الكلام على جهة المثل السائر، وهو قولهم: «دونك الحبل فاختنق» يقال ذلك للذي يريد من الأمر ما لا يمكنه. وسمي الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع حياته. وسمي فعله وهو نصب المشنقة «كيدا» استهزاء، لأنه لم يكد به محسوده، وإنما كاد به نفسه، ولم يقدر على غيره.
والمراد من هذا المثل المتحدي به: أن الله تعالى ناصر بالتأكيد دينه وقرآنه ورسوله، لا محالة من ذلك، فليفعل أهل الغيظ ما شاؤوا.
قال ابن عطية رحمه الله: أبين وجوه هذه الآية أن تكون مثلا، ويكون النصر هو النصر المعروف، والقطع: الاختناق، والسماء: الارتفاع في الهواء بسقف أو شجر أو نحوه.
ثم أردف الله تعالى بيان ذلك المثل ببيان آخر، حول القرآن العظيم، والمعنى:
وكما وعدنا رسولنا بالنصر، وأمرناه بالصبر، كذلك أنزلنا القرآن آية بيّنة واضحة، لمن نظر واهتدى، يتعظ بها المعتبر، ويتأمل بها الواعي المتعظ، لا ليقترح معها شيء آخر، ويستعجل القدر، فإن إنزال كل شيء بحكمة وميعاد، وفي الوقت المناسب
حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: ٣٨/ ٣٢]. والأمر أن الله يهدي من يريد، أو لأن الله يهدي بالقرآن ويوفق الذين يعلم أنهم يؤمنون، ومستعدون للإيمان بما أنزل، ويريد الله هدايتهم. وهداية الله تبارك وتعالى: هي خلقه الرّشاد والإيمان في نفس الإنسان.
حسمت هاتان الآيتان من أمرين أحدهما شخصي متعلق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، والآخر عام متعلق بطبيعة بيان القرآن، وهداية الله البشر. إن أمر انتصار النبي صلّى الله عليه وسلّم على مخالفيه حقيقة ثابتة في مضمار العقيدة، ومصداقية التاريخ، وقد تم ذلك بنحو واضح، إلا أن مصائر الأمور تتعلق بالحكمة الإلهية والعلم الرباني، فقد يتأخر النصر، لترك الفرصة أمام الجناة، لتصحو ضمائرهم، وتتفتح عقولهم، وتتدبر أمر الوحي الإلهي.
وإن بيان القرآن الكريم القطعي الذي لا غبار عليه ولا شك في دلالاته وأخباره، ومهامه وغاياته، هو الذي خلّده وأبقاه أبد الدهر، وسيظل منارة الهدي الإلهي، ومفتاح صفحة الكون الذي تستضيء بهديه نفوس الحائرين، ولن تجد أقوم ولا أعدل، ولا أحكم ولا أصلح، ولا أفضل منه، وإن هداية الله وتوفيقه بالقرآن وغيره مستمرة، ومرتبطة بإرادة الله، وإرادة الله الهداية تقع في محلها حسبما يعلم الحق من كان أهلا للهداية وجديرا بها.
العدل الإلهي بين الفرق
انقسمت الشعوب والأمم إزاء الهدي الرباني إلى فرق وأحزاب، وفئات وجماعات، بحسب أهوائهم ونزعاتهم واستعداداتهم، فمنهم أهل الإيمان بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وغيره من الأنبياء، ومنهم من لم يؤمن بالأنبياء جميعا، ومنهم من آمن ببعض
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٧ الى ١٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨)
«١» «٢» [الحج: ٢٢/ ١٧- ١٨].
أخبر الله تعالى في هذه الآيات عن فعله العادل، بجميع الفرق الدينية المختلفة، من المؤمنين بالله ورسله، واليهود، والنصارى، والصابئين: (وهم فرقة بين اليهود والنصارى، أو قوم يعبدون الملائكة، ويستقبلون القبلة، ويوحدون الله، ويقرءون الزبور) والمجوس: وهم عبدة النار والشمس والقمر، والمشركين: وهم عبدة الأوثان، يعبدون مع الله إلها آخر. هؤلاء جميعا يحكم الله بينهم بالعدل، فيدخل من آمن به الجنة، ومن كفر به النار، فإن الله تعالى شهيد مطلع على جميع أعمالهم، حفيظ لأقوالهم وأفعالهم، عليم بسرائرهم، وما تنطوي عليه ضمائرهم.
وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي عالم به: خبر مناسب للفصل بين الفرق، وفصل الله تعالى بين هذه الفرق: هو بإدخال المؤمنين الجنة، والكافرين النار.
وهذا أمر هين سهل على الله تعالى، فإن الله قادر على كل شيء، بدليل أن الله
(٢) ثبت ووجب عليه.
والأشجار والجبال والدواب كلها تسجد لله أيضا، وإن عبدها بعض الناس، فمن الجبال أصنام الحجارة، ومن الشجر: النار والخشب، ومن الدواب: البقر وغير ذلك مما عبد من الحيوان كالديك ونحوه.
والسجود من هذه المخلوقات غير العاقلة: يراد به الخضوع والانقياد للأمر. وكثير من الناس حق له الثواب وهم من أطاع الله، وكثير منهم حق عليه العقاب: وهم من امتنع من طاعة الله وأبى واستكبر.
ومن يهن الله، فيشقيه ويضله لسوء فعله، وسوء استعداده للإيمان، فلا يقدر أحد على دفع الهوان عنه، ولا يسعده أحد، لأن الأمر بيده تعالى، يوفق من يشاء، ويخذل من يريد، بمقتضى الحكمة الإلهية القائمة على العدل المطلق، والعلم الشامل بأحوال الخلائق، فلا شقاء لأحد من دون فعله السيّئ، وعتوه وتمرده، وخروجه عن جادة الطاعة والاستقامة، وإن الله يفعل ما يشاء في عباده من الإهانة والإكرام، والتعذيب والإنعام، حسبما سبق في علمه الأزلي، والناجي: من سجد لله وخضع وانقاد للأمر، والهالك من عتا وتكبر عن طاعة الله تعالى.
الناس مهما اختلفوا في العقائد، فإنهم في النهاية صنفان: مؤمنون وكفار، الأولون آمنوا بالله ربهم، واهتدوا بشرعه وملته، والآخرون جحدوا بالله، وكفروا بما أنزل على رسله، وتنكروا للشرع الإلهي، وكل من هذين الفريقين ينتظر مصيرا معينا بحسب عمله، وما أعظم الفرق بين الجزاءين، وهذا ما أبانته الآيات التالية:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٩ الى ٢٤]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤)
«١» «٢» «٣» [الحج: ٢٢/ ١٩- ٢٤].
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر قال: نزلت هذه الآية: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ في حمزة وعبيدة وعلي بن أبي طالب، وعتبة وشيبة والوليد ابن عتبة. أي الفريقين المتبارزين في بدء معركة بدر الكبرى، إنهم ستة: حمزة وعبيدة وعلي من جانب المسلمين، وعتبة وشيبة والوليد من جانب المشركين.
والآية في الواقع ليست مقصورة على هؤلاء الستة، وإنما الإشارة فيها إلى المؤمنين والكفار على العموم، فهما الخصمان المختصمان في دين الله وصفاته.
والمعنى: أن الإيمان وأهله، والكفر وأهله خصمان مذ كانا إلى قيام الساعة، بالعداوة والجدال والحرب. والمراد بالخصمين: الطائفتان، أو الفريقان المتميزان:
(٢) يذاب به.
(٣) مطارق.
فالذين كفروا بالله ربهم: مصيرهم واضح، قطّعت لهم ثياب من نار، أي تحيط بهم النار إحاطة شاملة، يصبّ على رؤوسهم الحميم، أي الماء البالغ أقصى درجات الغليان، فيذيب جميع ما في بطونهم من أحشاء، ويشوي جلودهم فيحرق الباطن والظاهر، وقوله سبحانه: يُصْهَرُ معناه: يذاب أو يعصر.
ولهم مقامع من حديد، أي لهم مضارب، تضرب بها رؤوسهم، فتنكشف أدمغتهم، فيصب الحميم حينئذ عليها. وكلما أرادوا الخروج أو الهروب من جهنم بسبب شدة العذاب والغم، أي الحزن الشديد، أعيدوا فيها كما كانوا، ويقال لهم:
ذوقوا العذاب المحرق، وهو عذاب النار الشديد، والمعنى: أنهم يهانون بالعذاب قولا وعملا، فإذا ارتفع لهب رفعهم، فيصلون إلى أبواب النار، فيريدون الخروج، فيضربون بالمقامع، وتردهم الزبانية.
ويعادل هؤلاء الفريق فريق أهل الإيمان بالله تعالى، ومصيرهم واضح أيضا، إن الله يدخل المؤمنين الذين يعملون الصالحات، أي الطاعات والقربات، ويتجنبون المنكرات، جنات عالية رفيعة، تجري الأنهار من تحت أشجارها وجوانبها وقصورها.
وحليتهم التي يلبسونها: أساور الذهب في أيديهم، وتزين هاماتهم ورؤوسهم باللؤلؤ: وهو في الدنيا ما يستخرج من جوف الصدف، والأشهر أنه اسم للجوهر، ويرتدون على أجسادهم الحرير الذي كان محرما لباسه على الرجال في الدنيا، في مقابلة ثياب أهل النار التي فصّلت لهم. روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال- فيما يرويه البخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه-: «من لبس الحرير في الدنيا، لم يلبسه في
وأرشد أهل الجنة إلى القول الطيب: وهو كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، وما جرى معها من ذكر الله تبارك وتعالى وتسبيحه وتقديسه، وسائر كلام أهل الجنة من محاورة شيقة وحديث طيب، فإنها لا تسمع فيها لاغية.
وأرشد أهل الجنة أيضا إلى الصراط الحميد: وهو طريق الله تعالى الذي دعا عباده إليه، فهو طريق الحق والاستقامة، المحمود في نفسه أو عاقبته وهو الجنة.
فهل بعد هذه المقارنة بين مصير الكافرين ومصير المؤمنين يبقى أدنى شك في ضرورة الحذر من أفعال الكافرين، والرغبة في أفعال المؤمنين؟!
المسجد الحرام ومكانته
إن من نعم الله الكبرى على المسلمين اتخاذ الكعبة الشريفة قبلة ورمزا موحّدا لاتجاهات مسلمي العالم، لترتبط قلوبهم بإله واحد، وتتجه أنظارهم نحو رب واحد، ويعملون من خلال وحدة العقيدة على بناء وحدة السياسة والمنهاج، والعمل المشترك. فمن صدّ المؤمنين عن البيت الحرام. وحال دون العبادة فيه، ارتكب أعظم الظلم، وناله أفدح الإثم، لأنه قطع عنهم مهوى القلوب، وحجب مثوى أهل الإيمان عن ممارسة الشعائر والعبادات فيه، قال الله تعالى مبينا مكانة هذا البيت الحرام وأغراضه:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦)
قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه، حين صدّوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عام الحديبية عن المسجد الحرام، وقد كره عليه الصلاة والسلام أن يقاتلهم، وكان محرما بعمرة، ثم صالحوه على أن يعود في العام المقبل.
نزلت هذه الآية إذن عام الحديبية عام (٥ هـ)، حين صدّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المسجد الحرام لأنه لم يعلم لهم صدّ قبل ذلك الجمع.
والمعنى: إن هؤلاء الذين كفروا بالله ورسوله، معذبون وهم المشركون في مكة، ويصدون عن سبيل الله صدا دائما مستمرا، وعن دخول المسلمين إلى المسجد الحرام، الذي جعله الله للناس جميعا مقرا لصلاتهم وعباداتهم وطوافهم، وأداء شعائرهم ومناسكهم، يستوي في شأن تعظيمه المقيم فيه، والبادي، أي من كان من أهل البادية وغيرهم ممن قدموا إليه.
ومن يرد فيه انحرافا عن أمر الله، ظالما غير متأول، عامدا السوء، نذقه يوم القيامة من العذاب المؤلم. قال مجاهد: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ أي يعمل فيه عملا سيئا»، وعلى هذا تكون الآية عامة، تشمل كل أنواع المعصية، ويختص الحرم بعقوبة من همّ فيه بسيئة، وإن لم يعملها. ويراد بالآية جعل البيت الحرام مفتوحا لجميع الناس المؤمنين، من غير فرق بين حاضر مقيم وباد: آت من البادية، أو مقيم
(٢) المقيم فيه. [.....]
(٣) الطارئ فيه غير المقيم.
(٤) بميل عن الحق إلى الباطل.
(٥) بيّنا.
ثم أبان الله تعالى مكانة البيت الحرام عند أهل الإيمان، ووبخ من أشرك فيه بالله تعالى، فاذكر أيها النبي محمد للناس وقت أن جعلنا لإبراهيم مكان البيت، أي أوحينا إليه القيام ببناء له، وعيّنا له موقع البناء، والبيت: هو الكعبة، وقيل له: أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً أي ابنه على اسمي وحدي، ولا تشرك بي شيئا من خلقي، في العبادة والتعظيم، وطهّر بيتي من الشرك والأوثان والأصنام وجميع الأنجاس والدماء أن تطرح حوله، واجعله خالصا لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له، وهم الطائفون القائمون بالعبادة، الركّع الساجدون. فالطائف حول الكعبة الشريفة يخص العبادة بالله تعالى، لا يفعل ذلك ببقعة من الأرض سواها، ويذكّره وجود هذا البيت بإخلاص العبادة والتوحيد لله تعالى، والقائم في الصلاة والدعاء إلى الله يدعو ربه وحده، دون أي شيء سواه، والراكع الساجد لله تعالى في عبادة، تخضع هامته ويذل رأسه، ويجمع جميع جسده معبرا عن تمام الانقياد والخضوع لله رب العالمين.
إن مئات الناس وآلاف البشر تراهم حول الكعبة في غاية الخشوع والتضرع والإنابة، باكين نادمين، يطلبون من رب العزة خيري الدنيا والآخرة، والمكان مكان إجابة للدعاء، فتذرف الدموع، وتصفو النفوس، وتخضع لخالق الأرض والسماء، وتتجرد من الأهواء، وتتجه نحو الله لمغفرة الذنوب والتطهر من السيئات. فما أسعد لقاء المؤمن بربه حول البيت الحرام، إنه تمهيد للقاء الله يوم القيامة.
الحج إلى البيت الحرام وأداء بقية المناسك: أحد أركان الإسلام، التي فيها الخير للمسلمين، وصلاح الدنيا والآخرة، وهو عبادة قديمة، وقد جعل الله تعالى البيت الحرام- فيما روي- متعبّدا لآدم عليه السلام، ثم درس بالطوفان وغيره، فلما كان عهد إبراهيم الخليل عليه السلام أمره الله تعالى ببنائه، في موضعه الحالي الذي أمره الله به بواسطة ريح كشفت له عن أساس آدم، فرتب قواعده عليه. ثم أمر الله إبراهيم بمناداة الناس إلى أداء الحج لتحقيق منافع لهم، دنيوية وأخروية، كما قال الله تعالى في الآيات الآتية:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [الحج: ٢٢/ ٢٧- ٢٩].
أخرج ابن جرير الطبري عن مجاهد قال: كانوا لا يركبون، فأنزل الله: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ فأمرهم بالزاد، ورخص لهم في الركوب والمتجر.
والمعنى: ناد يا إبراهيم في الناس بالحج، داعيا لهم إلى الحج إلى البيت الحرام، يأتوك راجلين ماشين، وراكبين على كل بعير ضامر مهزول، من كل طريق بعيد.
وقوله: وَأَذِّنْ من الأذان والتأذين: وهو الاعلام برفع الصوت، على نحو ما يكون للصلاة.
روي أن إبراهيم عليه السلام لما أمر بالأذان بالحج قال: يا رب، وإذا ناديت فمن يسمعني؟ قيل له: ناد يا إبراهيم، فعليك النداء، وعلينا البلاغ،
(٢) أي راجلين ماشين على الأقدام.
(٣) بعير مهزول.
(٤) طريق بعيد.
(٥) الإبل والبقر والغنم والمعز.
(٦) التفث: الوسخ، والمراد هنا تقصير الشعر أو حلقه، وقص الظفر، ونتف الإبط.
وجاء قوله تعالى: يَأْتِينَ بالتأنيث، عودا إلى معنى كُلِّ ضامِرٍ وفعل غير العقلاء كفعل المؤنث، لكنه يتضمن معنى الجماعات أو الرفاق.
ثم أوضح الله تعالى حكمة الحج بقوله: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ أي أدعهم إلى الحج ليحضروا منافع لهم، دينية بالظفر برضوان الله والجنة، ودنيوية بتحقيق منافع البدن والذبائح والتجارات، وتعارف المسلمين، وليذكروا اسم الله، أي يحمدوه ويشكروه، ويثنون عليه بالتكبير والتسبيح، على ما رزقهم من بهيمة الأنعام (وهي الإبل والبقر والغنم) وذلك في أيام معلومات هي أيام النحر الأربعة، أو عشر ذي الحجة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الأيام المعلومات: هي أيام العشر ويوم النحر وأيام التشريق.
واذكر اسم الله على الذبائح، وكلوا من لحومها، وأطعموا البائس الذي أصابه بؤس، أي شدة، والفقير المحتاج، أي يباح الأكل من الذبائح، لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من نسائكهم. واستحب أهل العلم للرجل أن يأكل من هديه أو ضحيته، مع التصدّق بأكثرها. مع تجويزهم الصدقة بالكل، وأكل الكل. والبائس:
الذي قد مسّه ضرّ الفاقة وبؤسها، والمراد في هذه الآية: أهل الحاجة.
ثم أمر الله تعالى بالنظافة وإيفاء النذر والطواف حول الكعبة، فهذه واجبات ثلاثة:
هي إزالة الأوساخ العالقة بالأجساد، بقص الأظفار، وحلق الأشعار ونحوه من الأغسال، وإيفاء النذور التي نذورها تقربا إلى الله تعالى من أعمال البر، والطواف حول البيت الحرام وهو طواف الإفاضة أو طواف الزيارة (الركن) وقيل: طواف الوداع، والبيت العتيق: القديم، فهو أقدم بيت للعبادة، وأول بيت وضع للناس.
روى الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) ومالك في الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خمس من الفطرة: قص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، والاستحداد، والختان».
الغاية من تعظيم حرمات الله
تتجلى في موسم الحج تضحيات عديدة، تتمثل في مفارقة الأهل والأوطان، واجتماع المؤمنين على صعيد واحد، والالتفات نحو شعائر واحدة ومناسك موحدة، تتطلب تعظيمها في نطاق مبدأ توحيد الله وقصد التقرب إليه، ورفض كل مظاهر وألوان الشرك والوثنية، وذبح الهدايا والقرابين إرضاء لله تعالى، وغرس جذور التقوى في القلوب، وإطعام الفقراء والمحتاجين من الهدايا في موسم التجمع العام، قال الله تعالى مبينا هذه الأغراض والغايات السامية:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» [الحج: ٢٢/ ٣٠- ٣٣].
(٢) النجس وهو الأوثان.
(٣) قول الباطل والكذب.
(٤) مائلين عن الباطل إلى الدين الحق.
(٥) تسقطه. [.....]
(٦) موضع بعيد.
(٧) الأنعام المهداة للبيت الحرام.
(٨) مكان نحرها.
(٩) أرض الحرم كله.
وشرائع الإسلام تتفق مع منهج الاعتدال والعقلانية والواقعية، لذا أباح شرع الله ما كانت العرب تفعله من تحريم أشياء برأيها كالبحيرة والسائبة، فأذهب الله جميع ذلك، وأحل للمسلمين جميع الأنعام من الإبل والبقر والغنم إلا ما استثني وتلي في آية المائدة مما فيه ضرر على الصحة والجسد: وهو الأربعة المعروفة: الميتة بأنواعها والدم ولحم الخنزير، وما أهل، أي ذبح لغير الله. وفي هذه الذبائح التي كانت للأوثان ضرر يمس العقيدة، كما يمس الصحة الإنسانية تماما، لذا أمر الله باجتناب الرجس، أي القذر من الأصنام، وسميت رجسا تنفيرا منها وتقبيحا لها، والمراد اجتناب عبادتها وتعظيمها، وأمر الله أيضا باجتناب قول الزور والابتعاد عنه، والزور: لفظ عام يشمل الكذب والكفر وكل ألوان الباطل، لأن كل ما عدا الحق:
فهو كذب وباطل وزور، ومنه شهادة الزور.
روى أحمد وأبو داود وغيرهما عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «عدلت شهادة الزور: الإشراك بالله»
قال ذلك ثلاثا، وتلا هذه الآية.
وبعد اجتناب أنواع الكلام الزور، أمر الله بأن يكون الناس حنفاء لله، أي مخلصين له الدين، منحرفين عن الباطل، مستقيمين أو مائلين إلى الحق: وهو توحيد الله ونبذ الشرك بالله، فإن الشرك جرم عظيم، ومن يشرك مع الله إلها آخر، ويعبد
وسبب تعظيم شعائر الله (وهي كل شيء، لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم) أنه دليل على وجود التقوى المهيمنة على القلوب، والانصياع لأوامر الله، واتباع أحكامه وتوجيهاته. ومن هذه الشعائر: ذبح البدن أي النوق والجمال، ففي البدن:
منافع دنيوية من اللبن والصوف والركوب عليها، وغير ذلك، وفيها منافع أخروية إذا قدمت هديا مبعوثا لموسم الحج، فإذا بعثها صاحبها هديا، فذلك هو الأجل المسمى، أي موعد نحرها، والتصدق بلحومها والأكل منها. ومكان نحرها وانتهاؤه أو محله عند البيت العتيق، أي الكعبة والحرم كله، لأن الحرم كله في حكم البيت الحرام، كما قال الله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: ٥/ ٩٥].
وسمي البيت الحرام بالبيت العتيق لأنه قديم، إذ هو أول بيت وضع للناس، كما تقدم، إلا أن الزبير قال: سمي عتيقا لأن الله أعتقه من الجبابرة بمنعه إياه منهم، أو لأنه لم يملك موضعه قط، فتحرر من الملكية الخاصة.
أماكن النسك لكل أمة
التقرب إلى الله تعالى بالذبائح والقرابين مشروع في كل أمة، وطريق لتخلص الإنسان من هواجس الذنوب والمعاصي وتعكيرها النفس والوجدان، فإذا أريق دم الذبيحة أحس المرء بالراحة النفسية، واطمأن إلى ذاته، وكأن هناك ارتباطا بين القلق النفسي وبين إراقه دماء الذبائح، لذا كانت شريعة القرآن الكريم كغيرها من الشرائع محددة لمواضع النسك والعبادة وذبح القرابين، كما جاء في الآيات الآتية:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥)«١» «٢» »
[الحج: ٢٢/ ٣٤- ٣٥].
المعنى: جعلنا لأهل كل دين سابق منسكا، أي موضع نسك وعبادة، يذبحون فيه الأنعام، تقربا إلى الله تعالى، وذلك ليس خاصا بأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإنما هو في كل الملل.
وقد شرع الله وحدد أماكن الذبح: ذبح الأنعام، لكي يذكروا اسم الله حين ذبحها، أي حين الشروع في الذبح أمرناهم بذكر الله، وأن يكون الذبح له، لأنه هو الرزاق، ويشكروا الله على نعمه التي أنعم بها عليهم، وتلك هي السنة في إراقة دم الذبائح.
وينبغي أن يتجه الذابح إلى الله الذي سخر للإنسان هذه المواشي، والله المقصود هو المعبود الواحد، وإن تنوعت الشرائع، فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهذه هي العلة في تخصيص الذبح باسم الله، وإفراده بالذكر، لأن تفرد الله بالألوهية يقتضي ألا يذكر على الذبائح غير اسمه تعالى. ومتى كان الإله واحدا، فله أسلموا، أي استسلموا وانقادوا لأمره وجميع أحكامه، وبشر أيها النبي بشارة على الإطلاق المخبتين، أي المتواضعين الخاشعين من المؤمنين برضوان الله، إذا اتصفوا بالصفات الأربع الآتية:
أولا- الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي إن الخوف والخشوع يهيمن على قلوبهم ومشاعرهم عند ذكر الله، لما يتصف به من العظمة والجلال.
(٢) المتواضعين لله تعالى.
(٣) خافت هيبة.
ثالثا- وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ أي هم الذين يؤدون الصلاة في أوقاتها تامة الأركان والشروط، بخشوع قلب لله تعالى، وإخلاص وشعور بالغبطة في أداء الصلوات المفروضة وغيرها.
رابعا- وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي إنهم الذين ينفقون من بعض ما آتاهم الله من طيب الرزق، على الأهل والقرابة وأهل الحاجة، مع إحسان في القول، ومحافظة على حدود الله وشرائعه.
هذه الصفات الأربع للمخبتين الخاشعين مثال شريف من خلق المؤمن الهيّن الليّن، إنهم المطمئنون بأمر الله تعالى، المتصفون بالخوف والوجل عند ذكر الله سبحانه، لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه. ولهم صفات عظيمة دينية وخلقية واجتماعية، فهم الذين يقيمون الصلاة، ويداومون على إقامتها، ويصبرون على المحن والضراء، ويمنحون غيرهم من الفقراء والمحتاجين بعض أموالهم التي رزقهم الله بها. إن هذه الصفات والمعاني هي صفات أهل الإيمان بحق، وقد ترددت في آي القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) [الأنفال: ٨/ ٢]. ومثل قوله سبحانه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: ٣٩/ ٢٣].
إن تسخير الأنعام من إبل وبقر وغنم للإنسان وتمكنه من الانتفاع بها من أعظم النعم على البشر، لذا يطلب تعظيم الله حين ذبحها والتسمية عليها، والأكل منها، سواء الذابح والمسكين والمحتاج، وإن الله لا ينتفع من أعمال العباد بشيء، ولكن النفع يعود على الإنسان ذاته، فما يقدّمه من قرابين وهدايا للحرم المكي أو أضاحي أو نذور، فإنما يقصد به تربية الإنسان، وغرس جذور التقوى في نفسه، وأداء واجبه وشكر نعمة الله عليه، وتكبيره على هداية الله إياه، وإحسانه القول والعمل، قال الله تعالى مبينا ما يطلب حال ذبح الإبل:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الحج: ٢٢/ ٣٦- ٣٧].
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريح قال: كان أهل الجاهلية يضمخون البيت الحرام بلحوم الإبل ودمائها، فقال أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم: فنحن أحق أن نضمخ، فأنزل الله تعالى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها.. الآية.
يمتن الله تعالى على عباده أن يسّر لهم الإبل يتقربون بها بالإهداء إلى البيت الحرام، فيذكر سبحانه أننا جعلنا لكم الإبل ومثلها البقر من علائم دين الله وأدلة طاعته، والبدن جمع بدنة: وهي ما أشعر من ناقة أو بقرة، ففي ذبحها في الحرم ثواب كبير في
(٢) أعلام شريعته في الحج.
(٣) أي قائمة معقولة.
(٤) سقطت مقتولة على جنوبها.
(٥) الذي لا يسأل، والمتعرض للسؤال.
فقوله: لَكُمْ فِيها خَيْرٌ الصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة.
فلتذكروا اسم الله عليها، حال نحرها، وكونها صافات أطرافها، قائمات معقولة، بأن تقولوا: بسم الله، والله أكبر، اللهم منك وإليك.
فإذا وجبت جنوبها، أي سقطت على الأرض مقتولة ميتة، فيباح لكم الأكل منها، وعليكم الإطعام منها للفقراء، سواء المتعفف عن السؤال وهو القانع، والمتعرض للسؤال بالسؤال أو السكوت وهو المعتر. من أجل هذا المذكور من الخير في ذبح الأنعام والأكل منها وإطعام الفقراء، ذللناها لكم مع عظمتها وقوتها، وجعلناها منقادة لكم، خاضعة لرغباتكم ومشيئتكم بالركوب والحلب والذبح، لكي تشكروا الله على نعمه، بالتقرب إليه، والإخلاص في العمل. فقوله تعالى:
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تعليل لما قبله، أي من أجل توجيه الشكر والحمد منكم لربكم على نعمه وأفضاله، فهي بمعنى «كي».
والغاية من ذبح الأنعام ليس إيصال لحومها ودمائها إلى الله، فلله الدنيا والآخرة، والله غني عن العالمين، وإنما الغاية تحقيق التقوى والإخلاص، وأداء الأعمال الصالحة، وهذا الغرض التهذيبي يعود نفعه في مدى الحياة على الإنسان ذاته، فبصلاحه يصلح له قلبه وصحته، وجسده وسائر حواسه.
ثم كرر الله تعالى التذكير بالنعمة وتذليل الأنعام للناس، لأن في إعادة التذكير حثا وحضا على القيام بواجب شكر المنعم، والثناء على الله بما هو أهله، فمن أجل تلك الغاية المذكورة من ذبح الأنعام وهي غرس التقوى في القلوب ذلّل الله البدن (الإبل) ليعظم الناس الله، ويشكروه على ما أرشدهم إليه، من الدين الحق والشرع القويم، وكل ما يحبه ويرضاه، والإبعاد عما يكره، واجتناب ما يضر، ثم وعد الله تعالى
روي أن قوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ والآية التي قبلها: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) نزلت في الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله تعالى عنهم، لكن ظاهر اللفظة يقتضي العموم في كل محسن، متواضع خاشع لله رب العالمين.
الإذن بالقتال ضد الأعداء
إن المنهج الرباني في علاج الأمور الشاذة والانحرافات الخطيرة قائم على غاية الحكمة والاعتدال، والتأني والإمهال، فلم يعجل الله البدء بقتال المشركين أنصار الوثنية والضلال، وإنما صبر عليهم مدى خمسة عشر عاما، ليكون للعقل والفكر وإعمال الرأي والقناعة الدور المهم في القضايا، ولتبدأ الأمة الإسلامية قوية ناشطة، معذورة في كل ما تؤديه من واجبات، لأن لغة السيف وقعقعة السلاح إنما تكون حين استفحال العدوان، واليأس من الصلاح والاستقامة، وهذا المنهج هو الذي نجده في ساحة التشريع الإلهي بالإذن بمشروعية القتال، بعد طول الصبر والمصابرة، والدفع بالحكمة والحسنى، فقال الله تعالى:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٨ الى ٤١]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)
«١»
نزلت آية إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة، وآذاهم الكفار، وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، وأراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار، ويغتال ويغدر ويحتال، فنزلت هذه الآية.
ونزلت آية: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ كما
روى أحمد والترمذي وغيرهما عن ابن عباس قال: خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة، فقال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إن لله وإنا إليه راجعون! ليهلكن، فأنزل الله: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩).
والمعنى: إن الله يدفع الشر عن عباده المصدقين بوجوده ووحدانيته، وبما أنزل على رسوله الكريم، الذين توكلوا عليه حق التوكل، وإن الله سبحانه يسخط على خائن العهد والأمانة، وجاحد النعمة والفضل. وكلمة «يدافع» في مواجهة من يتعرض للمؤمنين بالأذى، فيكون فعل الله مدافعة عنهم. وقيل: إن «دفاع» : مصدر دفع، والحساب: مصدر حسب.
وقد أبيح أو رخص للمؤمنين المعتدى عليهم بممارسة القتال، ضد ظلم المشركين إياهم، بإخراجهم من ديارهم وأموالهم، واستمرار إيذائهم، واضطهادهم، ومبادرتهم بكل أنواع التعذيب والمضايقة، وإن الله وحده قادر على نصر أهل الإيمان، إذا التزموا سبيل الطاعة.
(٢) كنائس النصارى.
(٣) معابد اليهود.
ثم ذكر الله تعالى السّنة الثابتة للإله: وهي سنة التدافع، من أجل الحفاظ على مبدأ التوازن بين البشر، فلولا أنه تعالى يدفع بقوم عن قوم، ويكف شرور جماعة بآخرين، ولولا تشريع القتال دفاعا عن الوجود المؤمن والحرمات الإلهية، لهدّمت مواطن العبادة، سواء أكانت معابد لليهود أم النصارى أم للمسلمين.
ثم أكد الله تعالى صنعه أنه ليؤيدن بنصره الذين يقاتلون في سبيل إعلاء كلمة التوحيد، ورفع لواء الدين الحق، إن الله سبحانه هو القوي القادر على نصر أهل طاعته، المجاهدين في سبيله، العزيز المنيع الذي لا يقهر، ولا يغالب، فمن غالبة غلبه، ومن عاداه خذله وقهره.
والجديرون بالنصر: هم الذين إن مكنّهم الله في الأرض، وحقق لهم السلطة على الناس، ومنحهم النفوذ والهيمنة، قاموا بأمور أربعة: وهي إقامة الصلاة المفروضة على الوجه الأكمل، وإيتاء الزكاة الواجبة، والأمر بالمعروف (وهو فعل كل ما أمر به الله شرعا، وحسن عقلا) والنهي عن المنكر (وهو اجتناب كل ما حظر شرعا، وقبح عقلا) فدعوا إلى توحيد الله وإطاعته، ونهوا عن الشرك وقاوموا أهله، والمرجع في الأمور كلها إلى حكم الله العلي القدير، وإلى تقديره في منح الثواب، وتنفيذ العقاب على ما عملوا، وفي هذا تأكيد لوعد الله تعالى بنصر أوليائه، وإعلاء كلمته، وخذلان أعدائه.
إن معرفة أحداث التاريخ وتحليل الوقائع والأسباب له فائدة كبري في علاج أمراض الشعوب والأمم، فالعقلاء: هم الذين يتأملون بما حدث، ويفكّرون بما وقع، ويدرسون الأسباب والنتائج دراسة متأنية قائمة على البحث والتمحيص، للحذر مما وقع، ولرسم سياسة المستقبل، في ضوء مجريات الأمور. وهذا ما جعل القرآن الكريم يعنى بقصص الأقدمين، ليعرف من يأتي بعدهم سبب الداء والدواء، وطريق الحذر واليقظة، ومن هذه المذكّرات للمشركين المكيين وأمثالهم: ما حدّثنا به القرآن من أحوال الغابرين، فقال الله تعالى:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٢ الى ٤٨]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» [الحج:
٢٢/ ٤٢- ٤٨].
قوله تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ: هذه آية إيناس للنبي صلّى الله عليه وسلّم ووعيد لقريش، فهم كالأمم المكذّبة المعذّبة. والمعنى: إن يكذبك أيها النبي قوم قريش، فهذا له سابقة
(٢) أمليت: أمهلت وأخرت عنهم العقوبة، ويكون الإمهال بنية المعاقبة مع العلم بالفعل.
(٣) إنكاري عليهم بالعقوبة.
(٤) فكثير من القرى.
(٥) ساقطة حيطانها على سقوفها.
(٦) متروكة.
(٧) مرفوع البنيان.
(٨) أمهلتها.
والعبرة من الإخبار بهذا: الإنذار لقريش بأن ما جرى على المثيل يجري على مثيله.
وأسباب الإهلاك: هو ما أخبر به الله سبحانه، فكم من قرية أهلكها الله، وهي ظالمة، أي مكذبة رسلها، والمراد أهل القرية، والظالمة: معناه: الظلم بالكفر، وبالإهلاك تصبح ديار القرية ساقطة حيطانها على سقوفها، وتتعطل مرافقها وآبار مياهها المنتفع بها، وتتهدم قصورها المشيدة، أي المبنية بالشّيد: وهو الجصّ.
ثم أثار الله في القرشيين نوازع الفكر والتأمل، وحثهم على النظر والتفكر، فهلا سافروا وتنقلوا في البلاد، فيتأملوا بما حدث من مصارع القوم، ويفكروا بعقولهم في الأسباب والنتائج، ويسمعوا الأخبار بآذانهم، ليطّلعوا على الحقائق، ويدركوا الأسرار، فيتعطوا بما شاهدوا، ويقلعوا عما هم فيه من الشرك وتكذيب الرسول، ولكنهم مع الأسف لم يفكروا، ولم يعتبروا ولم ينظروا، لا بسبب عمى البصر، ولكن بسبب عمى البصيرة، فإن أبصارهم سليمة، ولكنهم عطلوا قدراتهم الفكرية وعقولهم الواعية، فلم يدركوا حقائق الأمور، ولم يتعمقوا في فهم الأحداث. ذكر الرازي في تفسيره: أن الآية تدل على أن العقل هو العلم، وأن محل العلم هو القلب، أي أداة الوعي.
ويتعجل القرشيون إيقاع العذاب الذي تنذرهم به أيها الرسول، فليطمئنوا فإن
وحلم الله واسع، فهو حليم لا يعجل، ومن حلمه: أن يوما واحدا عند الله كألف سنة مما تعدون، أي إن يوما من أيام العذاب الأخروي بمثابة ألف يوم من أيام الدنيا، لشدة عذابه وطول مقامه، فأين هم من عذاب ربك؟! وكثيرا من القرى، أي أهلها أمهلها الله، وأخر عنها العذاب والهلاك، مع أنها قائمة على الظلم، مستمرة على الكفر والعصيان، فاغتروا بذلك التأخير، ثم أخذها الله فأنزل العذاب بأهلها، ثم كان المرجع النهائي إلى الله، فيكون تأخير العذاب من قبيل الإمهال لا الإهمال.
تعيين مهمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم
إن مجيء الرسل للأمم والشعوب رحمة وفضل، وإن إيضاح مهامهم أمر طبيعي، ليدرك الناس السر والمنفعة العائدة عليهم من بعثة الرسل وبعثة نبينا عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين، بعثه ربه إلى الخلائق للإنذار والتخويف، والتبشير والترغيب، فاستهزاء قومه به لا يمنعه من أداء مهمته، ولا من القيام بواجبه، فهو رحمة للعالمين، وبشرى للمحسنين، وإنقاذ للعتاة الظالمين، فمن وعى الكلام واعتبر نجا، ومن أقفل عقله ولم يتعظ هلك وضل، قال الله تعالى مبينا ومحددا مهمة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٩ الى ٥١]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١)
«١» [الحج: ٢٢/ ٤٩- ٥١].
أما الصنف الأول: فهم الذين صدقت قلوبهم بوجود الله وتوحيده، وصدقوا الرسول وما أنزل عليه من الكتاب، وآمنوا بالملائكة واليوم الآخر، وقرنوا بإيمانهم أعمالهم الصالحة من أداء الفرائض، والتقرب بالقربات، وإحسان القول والفعل، وهؤلاء يغفر الله لهم سيئاتهم، ويثيبهم على عملهم الصالح، ويرزقهم رزقا حسنا في الدنيا، ورزقا كريما في الآخرة وهو الجنة التي وصفها تعالى بقوله: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [الزخرف: ٤٣/ ٧١] وأيد ذلك وصف الرسول صلّى الله عليه وسلّم لها بما
أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
ووصف الرزق بالكريم: «رزق كريم» لنفي المذام، كما تقول: ثوب كريم، ومنزل كريم.
وأما الصنف الثاني: فهم الذين كفروا بربهم وبآياته المنزلة في قرآنه، وكانوا معاجزين، مجاهدين في إبطال آيات الله، وردّ دعوة الدين والتكذيب بها، وثبّطوا
وقوله تعالى: سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ معناه: تحيلوا وكادوا، من السعاية.
والآيات: آيات القرآن الكريم، أي كادوا بالتكذيب وسائر أقوالهم. والمعاجزين:
الظانين أنهم يغلبون الله تعالى. وقوله سبحانه: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ: أي هم الكفرة لا غيرهم أهل النار، وشبّههم بالصاحب المالك: من حيث الدوام على العذاب في نيران الجحيم.
إن هذه الموازنة الدقيقة بين الصنفين في دار الدنيا قبل مجيء الآخرة تقتضي من العقلاء الحريصين على مصالحهم ونجاتهم أن يفكروا مليا في الأمر، قبل صدمة المفاجآت، وانقسام الناس قسمين: أبرار أخيار في الجنان، وفجار فساق كفار في النيران.
صيانة الوحي عن الشياطين
قصة الغرانيق
لا يمكن أن يقبل عقل أو يصدق إنسان، بتدخل الشياطين في الوحي الإلهي، لأن الله القادر على كل شيء يمحق كل إفك، ويحجب كل افتراء، ولو جاز شيء من هذا، لارتفع الأمان عن شرع الله، وبطلت الأحكام والشرائع، إذ لا فرق في العقل بين نقصان الوحي أو زيادته، أو تشوية معالمه، وهذا يبطل ما يسمى بقصة الغرانيق أي الأصنام، التي زعم الوثنيون أن النبي محمدا أشاد بها في القرآن فقال: (تلك
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٢ الى ٥٤]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤)
«١» «٢» «٣» «٤» [الحج: ٢٢/ ٥٢- ٥٤].
إن قصة الغرانيق (الأصنام) موضوعة مكذوبة، وضعها الزنادقة، وهذه الآيات تبطل إفك الأفاكين، ومعناها: وما أرسلنا يا محمد قبلك رسولا ولا نبيا إلا إذا تمنى، أي قرأ، ومعناها المشهور: أراد وأحب، فإذا رغب الرسول مقاربة قومه واتباعهم له، وجد الشيطان السبيل، فألقى في أوهام المشركين أن محمدا قال في سورة النجم في مسجد مكة بعد آية: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) [النجم: ٥٣/ ١٩- ٢٠]. قال: «تلك الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترتجى» فقال الكفار: هذا محمد يذكر آلهتنا بما نريد، وفرحوا بذلك، فلما انتهى في آخر النجم إلى السجدة، سجد الناس أجمعون إلا أمية بن خلف، فإنه أخذ قبضة من تراب، فرفعها إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا، إن ما وسوس به الشيطان من مثل هذه الأباطيل والكلمات والخرافات التي تعلّق بها بعض الكفار، يزيله الله، ثم يجعل آياته محكمة محصنة، مثبّتة، لا تقبل التشويه والتزييف، أو الزيادة والنقصان، والله عليم بكل شيء، وبما أوحى إلى نبيه، حكيم في تقديره وخلقه، وأمره وأفعاله، له الحكمة التامة، والحجة البالغة، فيجازي المفتري بافترائه، ويظهر الحق للمؤمنين.
(٢) ألقى الشّبه.
(٣) فيما يقرؤه. [.....]
(٤) فتطمئن وتخشع.
ولِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هم عامة الكفار، ووَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ فئة خاصة كأبي جهل، والنضر بن الحارث، وعتبة، وإن هؤلاء الظالمين أنفسهم لفي شقاق بعيد، أي في بعد عن الخير، وضلال، و «بعيد» معناه أنه انتهى بهم إلى نهاية الانحراف، وتعمّق الضلال فيهم، فأصبحت رجعتهم منه إلى الحق غير مرجوة.
وهذا الإبطال لوساوس الشيطان، لكي يعلم أهل العلم النافع الذين يفرقون بين الحق والباطل، والمؤمنون بالله ورسوله وهم أصحاب النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم: أن ما أوحيناه إليك أيها النبي هو الحق الثابت الصحيح من ربك الذي أنزله بعلمه وحفظه، وصانه من اختلاط غيره به، فيصدقوا بالله تعالى، وينقادوا له، فتخبت له قلوبهم، أي تتطامن وتخضع وتخشع له نفوسهم، وتعمل بأحكامه وشرائعه وآدابه.
وإن الله تعالى لمرشد المؤمنين بالله ورسوله إلى طريق قويم، في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه، ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه، بتأويل المتشابه تأويلا سليما، وتفصيل المجمل تفصيلا واضحا. ثم في الآخرة يهديهم ربهم إلى الطريق القويم الموصل إلى جنان الخلد، ونعيم المصير.
قال القاضي عياض في كتاب الشفاء: لقد أجمعت الأمة على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم، فيما يبلغه عن ربه، معصوم من الإخبار عن شيء، بخلاف ما هو عليه، لا قصدا ولا عمدا، ولا سهوا ولا غلطا.
ما دام الكفر وسوء الاعتقاد في القلب، يظل الشك في أصول الإيمان وتنزيل القرآن قائما في نفوس الكفرة، ومن الصعب اقتلاع الشكوك من نفوس أناس أدمنوا على الضلال، واستمروا في العصيان، فإن ذلك يوجد ما يسمى «الران» أو الغطاء على القلب، فيحجب عنه كل أشعة الخير، وأضواء الهداية الربانية، وهكذا يظل الظلام الدامس جاثما في المكان حتى يبدده ضوء النهار، فإذا أحكم الإنسان إغلاق المنافذ، وحرص على إبقاء التعتيم، أمكنه ذلك، وهذا هو الفعل ذاته الذي يفعله الكافر الجاحد في قلبه، يحكم إغلاقه، ولا يدع شيئا مضيئا ينفذ إليه، وهذه هي حال عتاة الكفار من أهل مكة وأمثالهم، كما تصوّر هذه الآيات:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧)
«١» «٢» «٣» [الحج: ٢٢/ ٥٥- ٥٧].
تقرر الآيات حكما دائما مستمرا: وهو أنه ما يزال الكفار في شك وريبة من هذا القرآن أو من محمد صلّى الله عليه وسلّم، أو مما ألقى الشيطان من وساوس وترهات، حتى تأتيهم الساعة، أي يوم القيامة فجأة من غير أن يشعروا، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم، أي يوم متفرد بالشدة، وهو في الدنيا يوم بدر في الآخرة يوم القيامة، وسمي يوم القيامة أو يوم الاستئصال والقتل عقيما، لأنه لا ليلة بعده ولا يوم. وجملة هذه الآية توعد لأهل الكفر، فهم ما يزالون على كفرهم لا يؤمنون، حتى يهلكوا.
(٢) أي تأتيهم القيامة فجأة.
(٣) أي منفرد عن سائر الأيام لشدته.
١/ ٤]. وقال سبحانه: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) [الفرقان: ٢٥/ ٢٦].
وتصدر أحكام الله قاطعة يوم القيامة، في حق الفريقين من الناس:
- فالذين آمنت قلوبهم، وصدقوا بالله ورسوله والقرآن، وعملوا صالح الأعمال من تنفيذ الأوامر، واجتناب النواهي، هم في جنات النعيم المقيم، الذي لا يزول ولا يتغير، وهذه هي حالهم القائمة، المبنية على حالهم في الدنيا من الإيمان الصحيح والعمل الصالح.
- والذين كفرت قلوبهم بالحق وجحدته، وكذبوا بالقرآن وبالرسول، وخالفوا الرسل، واستكبروا عن اتباعهم، فلهم عند ربهم عذاب مذلّ مخز، مقابل استكبارهم عن اتباعهم الحق، وإعراضهم عن القرآن المجيد، كما جاء في آية أخرى:
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) [غافر: ٤٠/ ٦٠]. أي صاغرين ذليلين، وهذه الحال أيضا: متفرعة عن حال هؤلاء في الدنيا من الكفر الصريح، والضلال، والانحراف عن هدي الله وشرائعه وأحكامه.
لا يملك الإنسان أمام هذه اللون من المقارنة بين مصير المؤمنين الصادقين، والجاحدين المتمردين، إلا أن ينصاع لصفّ الفريق الأول- فريق أهل الإيمان، وتمتلئ نفسه رهبة وخشية وخوفا، من سوء الفريق الثاني- فريق الكفر والضلال، وتزداد الرهبة حين يسمع ويرى عظمة القاضي الأوحد، والإله الأعدل، حيث يظهر إفلاس
ثواب المهاجرين
لقد قام دين الله وانتشرت دعوة محمد بن عبد الله في الآفاق بفضل جهاد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبفضل تضحيات أصحابه وأتباعه وأنصاره، فهم الذين سطروا لأنفسهم بحروف من نور صفحات الخلود، وتركوا الأوطان، وهجروا السوء والضلال، من أجل إرضاء الله تعالى والعمل المخلص لله عز وجل، ومن هنا سجل القرآن المجيد موقف الفخار والاعتزاز للمهاجرين الأولين من مكة إلى المدينة، لنصرة رسول الله وتأييد دعوته، وجهاد أعدائه، ودفع شر المعتدين، قال الله تعالى مبينا مدى إحسانه وفضله على الذين هاجروا في سبيل الله:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠)
«١» «٢» [الحج: ٢٢/ ٥٨- ٦٠].
أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير الطبري عن مقاتل أن آية: ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ... نزلت في سرية بعثها النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلقوا المشركين لليلتين من المحرّم، فقال المشركون بعضهم لبعض: قاتلوا أصحاب محمد، فإنهم يحرّمون القتال في الشهر الحرام، فناشدهم الصحابة، وذكّروهم بالله: أن لا يتعرضوا لقتالهم، فإنهم لا
(٢) ظلم بإعادة العقاب.
هذا وعد كريم من الله تعالى للمهاجرين المجاهدين. فلما مات بالمدينة عثمان بن مظعون، وأبو سلمة بن عبد الأسد، قال بعض الناس: من قتل من المهاجرين، أفضل ممن مات حتف أنفه، فنزلت هذه الآية: وَالَّذِينَ هاجَرُوا مسوّية بينهم في أن الله تبارك وتعالى يرزق جميعهم رزقا حسنا، وليس هذا بقاض بتساويهم في الفضل.
وظاهر الشريعة: أن المقتول في الجهاد أفضل. والجنة درجات. ويستوي جميع المهاجرين في الرزق الحسن وهو الجنة، فالذين خرجوا مهاجرين في سبيل الله وتركوا أوطانهم ابتغاء مرضاة الله، ثم قتلوا في الجهاد، أو ماتوا قضاء وقدرا من غير قتال، ليمنحنهم الله الجنة، وليرزقنهم رزقا حسنا، من فضله وكرمه، إن الله هو خير الرازقين، يرزق من يشاء بغير حساب، كما جاء في آية أخرى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء: ٤/ ١٠٠].
إن هذا الرزق الحسن: هو إدخال هؤلاء المهاجرين المجاهدين في سبيل الله موضعا كريما، يرضون عنه، وهو الجنة، أو رزق الشهداء عند ربهم في البرزخ، وإن الله لعليم تام العلم بمن هاجر وجاهد في سبيله، وبمن يستحق ذلك، فهو عليه.
ذلك الأمر المخبر به من إنجاز الوعد للمهاجرين الذين قتلوا أو ماتوا: هو لأنهم ضحوا في سبيل الله، وقاوموا أهل الظلم، فمن عاقب من المؤمنين من ظلمه من الكفرة، أو من اعتدي عليه، وقوتل ظلما، ومن بغي عليه بإلجائه إلى الهجرة ومفارقة الوطن، لينصرنه الله نصرا مؤزرا، إن الله ليصفح عن المؤمنين، ويغفر لهم خطأهم
٤٢/ ٤٣]. وقال سبحانه: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: ٤٢/ ٤٠] وقال عز وجل: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة: ٢/ ٢٣٧].
وفي هذا دلالة واضحة على أن القادر على العفو، قادر على العقوبة، فليس العفو عن ضعف وعجز، وإنما العافي هو الذي يقدر على ضده.
من أدلة القدرة الإلهية
يقرن الله تعالى عادة إنجاز وعده بالنصر لأوليائه أو بعثه العباد بعد الموت، بأنه صاحب القدرة المطلقة التي لا حدود لها، ويضرب الأمثال على ذلك، ويقيم الأدلة الحسية المشاهدة في الكون على قدرته سبحانه من السمع والبصر، وإيلاج الليل في النهار وعلى العكس، وأنه الحق الثابت، وإنزاله المطر من السماء، وملكه جميع ما في السماوات والأرض، وتسخير ما في الأرض والسفن للناس، وإمساك السماء من وقوعها على الأرض، وإحياء الأنفس، وإماتتها، ولكن الإنسان قصير النظر، جاحد النعمة، لا يقدّر عادة نعم الله عليه، قال الله تعالى موضحا هذه الأدلة القاطعة على قدرته:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦١ الى ٦٦]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥)
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦)
«١»
يورد الله تعالى في هذه الآيات طائفة من البراهين والأدلة على قدرته الفائقة، وعلمه الشامل، ومن اتصف بهذه القدرة العظيمة، كان قادرا على نصر أوليائه، ومنها ما لا يدّعى لغير الله تعالى، وهذه الأدلة:
١- تقصير الليل وزيادة النهار وعكسها، وعبر عن ذلك بكلمة إيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل، تشبيها وتجوزا، وذلك بسبب أن الله سميع لكل قول وهمسة، بصير بكل فعل وحال، لا يخفى عليه شيء مطلقا، وأن الله هو الحق، أي الموجود الثابت الواجب الوجود لذاته، من غير مثيل ولا شريك، أي أنه مصدر الوجود، وأنه المعبود بحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ولأن الله هو المتعالي على كل شيء، بقدرته وعظمته، الكبير عن أن يكون له شريك، فهو العظيم الذي لا أعظم منه، العلي الذي لا شيء أعلى منه شأنا، الكبير الذي لا أكبر منه. فكيف يصح لعبدة الأصنام والأشخاص عبادة من لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا؟! ٢- إنزال المطر من السماء فتصير به الأرض ذات خضرة بالنباتات والأزهار ذات الألوان البديعة، والأشكال الرائعة، بعد يبسها وجمودها، إن الله رحيم لطيف بعباده، يدبّر لهم أمر المعاش والمعاد، خبير بمصالح خلقه ومنافعهم وأحوالهم، لا تخفى عليه خافية.
٣- ملك السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، فجميع ما في السموات وما
٤- تسخير ما في الأرض والفلك وإمساك السماء: فإن الله سبحانه ذلّل لكم أيها الناس جميع ما اشتملت عليه الأرض في ظاهرها وباطنها، من حيوان وجمادات ومعادن وزروع وثمار، لتنتفعوا بها في مصالحكم المختلفة، وذلّل لكم السفن جارية في البحار، لنقل الركاب والبضائع والأشياء بإذن الله، ويحفظ السموات من سقوطها على الأرض إلا بإذنه وأمره، ويحدث ذلك يوم القيامة حيث تتساقط الكواكب والنجوم، وتتصدع السموات وتزول، إن الله تعالى رؤف رحيم بالناس على ظلمهم، لا يعاملهم بما يعملون.
٥- الإحياء والإماتة في ثلاث مراتب منصوص عليها في غير هذه الآية، فكنتم أيها الناس أمواتا، ثم أحياكم بالولادة، ثم يميتكم عند انتهاء الأجل، ثم يحييكم يوم القيامة. وقد عبر الله في هذه الآية أولا بلفظ الماضي أَحْياكُمْ لأن الإحياء قد تم وحدث، ثم عبّر بلفظ المضارع ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ للدلالة على المستقبل وهو الموت في الدنيا، ثم البعث والحياة الجديدة في الآخرة. إن الإنسان جحود نعم الله تعالى، فلم يقدّر تلك النعم، ولم يهتد بها إلى عبادة الله وتوحيده، وهجر ما عداه من الآلهة المزعومة.
وقد تكررت الآيات الدالة على هذه المراحل، مثل قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) [البقرة:
٢/ ٢٨]. إن المرور بهذه المراتب الثلاث مؤذن بعوامل التغير، وأن الله قديم أزلي لا يتغير، وأنه هو القادر الذي جعل الإنسان يمر في هذه المراحل، حتى يظل مرتبطا بالإله الخالق، ويفوض الأمر إليه.
اقتضت الحكمة الإلهية أن تتعدد مظاهر العبادة والشرائع بين الأمم والملل المختلفة، وليس هذا التعدد إلا شكليات وأحوالا، جوهرها واحد، وغايتها واحدة، وهي الاتجاه إلى الله الخالق الذي يعبده جميع الناس، فلا يصح أن يكون التفاوت في هذه العبادات سببا للاختلاف والحوار والعداء والخصام، وإنما ينبغي الاتفاق والاتحاد في المضمون، وتفويض الأمر إلى الله المعبود، وتصفية النفوس من الأحقاد والبغضاء، والحسد والعصبية، فإن لم يتحقق هذا كان الحساب عسيرا، والحكم بين العباد يوم القيامة شديدا، ولا يغيب عن الله شيء في الأرض ولا في السماء، ومعلومات الخلائق كلها مدوّنة في اللوح المحفوظ، وإحضارها وجمعها وحفظها يسير على الله، قال الله تعالى مبينا هذا الاختلاف في المناسك:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٧ الى ٧٠]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠)
«١» [الحج: ٢٢/ ٦٧- ٧٠].
أخبر الله تعالى أنه جعل لكل قوم منسكا، أي عبادة وشريعة، يتعبدون بها، ويسيرون على منهاجها، بحسب ظروف الزمان المكان، ومقتضيات التدرج والتطور، ونضج الفكر والعقل، فأنزل الله التوراة على موسى عليه السلام فيها لون من الشدة تتفق مع طبائع بني إسرائيل، ثم أنزل الله الإنجيل على عيسى عليه السلام لتخفيف حدة المادة والطقوس والشكليات وضرورة العناية بالجوهر والروحانيات، وإشاعة
وإذا كان هذا هو شأن التدرج في الشرائع، فلا يصح لمعاصريك يا محمد أن ينازعوك في أمر الدين والكتاب والشريعة، فلكل أمة شريعة خاصة، تناسب الزمان الذي جاءت فيه، ولا تتأثر أو تنزعج أيها النبي بمنازعتهم لك، واثبت على دينك الحق ثباتا، لا يتزعزع ولا يلين.
وادع هؤلاء المنازعين والمسالمين، أي كل الناس إلى سبيل ربك ودينه الحق، فإنك على طريق واضح مستقيم، موصل إلى المقصود، وهو سعادة الدنيا والآخرة، كما جاء في آية أخرى: وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) [القصص: ٢٨/ ٨٧].
وإن لم يصغ الناس إلى دعوتك الموحدة هذه، وجادلوك بالباطل، بعد أن ظهر الحق، فقل لهم على سبيل التهديد والوعيد: الله عليم بما تعملون وبما أعمل، ويجازي كل امرئ بما عمل، كما قال الله سبحانه في آية أخرى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) [يونس: ١٠/ ٤١].
وقل لهم أيضا متوعدا ومحذّرا: الله يقضي بين المؤمنين والكافرين يوم القيامة، فيما اختلفوا فيه من أمر العقيدة والدين، والقضاء مقدمة للجزاء الحاسم، المتردد بين الجنة والنار، والثواب والعقاب، الجنة والإثابة لمن قبل بدعوة القرآن، والنار والعذاب لمن رفض هذه الدعوة، وبه يتبين الحق من الباطل، والمحق من المبطل.
ثم أخبر الله تعالى عن كمال علمه بالمخلوقات والكائنات كلها قبل خلقها، وبما يستحقه كل من المحسن والمسيء، فلقد علمت أيها الرسول وكل مؤمن برسالتك أن
عبادة المشركين الأصنام
لقد انحدر العقل البشري والفكر الإنساني انحدارا لا مثيل له، حين أقدم المشركون الوثنيون مع الأسف الشديد، على عبادة الأصنام والأوثان، على الرغم من قيام الأدلة الواضحة على وحدانية الله تعالى، وعلى القدرة الإلهية، وعلى علم الله الشامل المحيط بكل شيء، وعلى عدم وجود حجة مقبولة سمعية نقلية أو عقلية على صحة هذه العبادة الباطلة، وعلى ظهور الأدلة الحسية على أن هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع، فلم يبق هناك مجال إلا للحكم بأن أولئك الوثنيين أغبياء جهلة، سذّج وسطحيون، وهم مع كل هذا إذا تلي عليهم القرآن اغتاظوا وغضبوا، وهموا بالبطش بمن يتلو ويذكّر، وها هو القرآن المجيد يصف هذا النحو من سلوك المشركين الشاذ، قال الله تعالى:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧١ الى ٧٣]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣)
«١» «٢»
(٢) يبطشون غيظا.
هذه ألوان من أباطيل المشركين الدالة على جهلهم وكفرهم وسخفهم، فهم يعبدون آلهة من غير الله، ليس لهم دليل نقلي ولا عقلي على صحة عبادتها، والله سبحانه لم ينزل حجة ولا برهانا من السماء، يدل على إباحة عبادتها، وليس لديهم دليل عقلي مقبول يسوغ هذه العبادة، فيكونون ظالمي أنفسهم بتلك العبادة، وليس للظالمين ناصر ينصرهم، أو محام وكيل يدافع عنهم إذا نزل بهم العقاب أو العذاب.
- وإذا تليت على المشركين آيات القرآن، ودلائله الواضحة على توحيد الله، وعلى صدق رسله الكرام، ظهرت على وجوههم علامات الغيظ والغضب، وطفحت قلوبهم بالحقد والنفور.
إنهم يوشك أن يبطشوا بالذين يتلون عليهم آيات الله وسور القرآن، مما يشير إلى امتلاء قلوبهم بالكفر، وتسلط الجهل والعناد عليها، حتى صاروا ميئوسا من علاجهم، وعودتهم أصحاء الفكر والعقيدة.
قل أيها النبي محمد لهؤلاء المشركين على جهة التوعد والتقريع: أأخبركم بشرّ من ذلكم السطو على المؤمنين، وغيظكم الذي ملأ قلوبكم؟ وكأن قائلا قال له: وما هو؟ قال: النار، أي نار جهنم وعد الله بها الكافرين، فعذابها أشد وأعظم مما تهددون به المؤمنين في الدنيا، وبئس المصير، أي بئس النار موئلا ومقاما لكم، كما جاء في آية أخرى: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) [الفرقان: ٢٥/ ٦٦]. والمصير:
مفعل من «صار» : إذا تحول من حال إلى حال.
ثم ذكر الله تعالى مثلا يدل على حقيقة الأصنام وفساد عبادتها، وسخف عابديها،
وعلى أي من القولين دلّ ضعف الذباب المحسوس، وضعف الأصنام الملموس، على أن الأصنام في أحط رتبة، وأخسّ منزلة، ومن عبدها كان على شاكلتها، بل أسوأ منها، لأن كرامة الإنسان وارتقاءه أشرف من أن يذل لحجر أو معدن أو هيكل فارغ المحتوى والمعنى.
تعظيم الله وتوحيده واختياره
الإله المالك الخالق الرازق المنعم المتفضل، يتطلب طبعا وعقلا الإقرار بعظمته، وتوحيده، وإفراد الأمر إليه في اختيار ما يشاء، وإرادة ما يريد، سواء في الإحياء والإماتة، أو الرزق والنعمة، أو إرسال الرسل، واختيار الملائكة، وإنزال الكتب، فهو العليم بالمصلحة، وإليه المرجع والمآب، لا رادّ لقضائه، ولا معقّب لحكمه. غير
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٤ الى ٧٦]
ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦)
[الحج: ٢٢/ ٧٤- ٧٦].
تتضمن الآيات المذكورة موضع الإلهيات والنبوات، أما الإلهيات: فإن الكفار يعبدون ما لا حجة لهم فيه ولا علم، فهم أي الكفار ما قدروا الله حق قدره، أي ما عرفوا حقيقة قدر الله وعظمته وجلاله، وما عظّموه حق التعظيم الواجب لذاته، حين عبدوا معه غيره، من الجمادات التي لا تعقل، ولا تمنع الضرر عن نفسها، ومن الأشخاص الذين هم بأشد الحاجة إلى من يعينهم على شؤون الحياة، والله وحده هو القوي القادر، الذي بقدرته خلق كل شيء، العزيز الذي عزّ كل شيء وقهره، فلا يغالب ولا يمانع، لعزته وعظمته، فهو الجدير بالعبادة والتعظيم.
ومن أجدر بذلك منه تعالى، فهو مصدر الوجود والخلق، ومصدر الخير والرزق والنعمة، والغني عن كل شيء، والقوي القاهر القادر على كل شيء.
ثم انتقل البيان القرآني من أوصاف الألوهية وما يجب لها، إلى أمور النبوة، فأفاد سبحانه أنه يختار من الملائكة رسلا لتبليغ الوحي إلى الأنبياء، ويختار من الناس رسلا لإبلاغ الرسالة إلى العباد، حسبما يشاء، وعلى وفق ما يريد، ويناسب الحكمة والمصلحة، كما قال الله تعالى في آية أخرى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: ٦/ ١٢٤].
وختمت الآية بتقرير بعض صفات الله عز وجل، وهي كونه تام السمع لأقوال عباده، وتام البصر والاطلاع على أحوالهم وأمورهم، وعليما كامل العلم والإحاطة بمن يستحق اختياره للرسالة، فقوله: وَمِنَ النَّاسِ هم الأنبياء المبعوثون لإصلاح الخلق، الذين اجتمعت لهم النبوة والرسالة.
إنه سبحانه يعلم علما تاما بأحوال الملائكة والرسل والمكلفين، ما مضى منها وما يأتي، فلا يخفى عليه شيء من أمورهم، وقوله تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ عبارة عن إحاطة علمه بهم، وحقيقتها: ما قبلهم من الحوادث وما بعدهم.
ويؤيدها آيات كثيرة في معناها، منها قوله سبحانه: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إلى قوله: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الجن: ٢٢/ ٢٦- ٢٨].
وختمت الآية بقوله سبحانه: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي وإليه يوم القيامة مرجع الأمور كلها، فلا أمر ولا نهي لأحد سواه.
وهذا تنبيه إلى القدرة التامة المهيمنة على كل شيء، وإلى تفرد الله سبحانه بالألوهية والحكم. وقوله سبحانه: يَعْلَمُ وقوله: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يتضمن مجموعهما الزجر عن الإقدام على المعصية، وضرورة الإقبال على ساحة الطاعة والامتثال.
لقد آن للعقل البشري أن يستفيق من غيه، وللإرادة الإنسانية أن تعود سريعا إلى ما يدل على أقل واجبات الوفاء نحو الله جل جلاله، وإلى المبادرة بالقيام بالفرائض والطاعات، قبل أن تغرب شمس العمر الإنساني، ويفجأ الموت بشدته وجود الإنسان.
إن برهان الولاء للحق سبحانه: هو العبادة الخالصة لله، لذا أمر الله تعالى بعبادته، وجعل أصول العبادة متمثلة بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والاعتصام بالله وبالقرآن، والجهاد في سبيل الله، وفعل الخير والمعروف. وهذه هي جملة الشرائع الإلهية المحققة للعبودية الشخصية لرب العزة، والمحافظة على عزة المؤمنين، وتقوية الصلات الاجتماعية فيما بينهم، ومسوغات هذه الواجبات كثيرة أهمها ثلاثة: هي اجتباء واختيار المسلمين لها، وكون هذه الشرائع هي شريعة إبراهيم عليه السلام، وتسميتنا مسلمين في القرآن الكريم والكتب السابقة، وهذا ما أوضحته الآيات التالية:
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٧ الى ٧٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)
«١» «٢» [الحج: ٢٢/ ٧٧- ٧٨].
هذه جملة الأوامر التشريعية اليسيرة في القرآن الكريم، أولها الأمر بعبادة الله تعالى، وخصّ الله الركوع والسجود بالذكر تشريفا للصلاة، فيا أيها المؤمنون المصدقون بالله ورسوله، صلوا الصلاة المفروضة عليكم، المشتملة على الركوع والسجود، واعبدوه بسائر ما تعبدكم به من حج وصيام ونحوهما، وأقبلوا على فعل الخير الذي يرضي ربكم، ويقربكم منه، بأداء الطاعات وصلة الأرحام، والتحلي
(٢) ضيق ومشقة.
وحفاظا على جماعة الإيمان، جاهدوا في سبيل نصرة دين الله، ومن أجل إرضاء الله، جهادا حقا خالصا لوجهه الكريم، والجهاد ثلاثة أنواع: جهاد النفس والهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الأعداء، ويكون الجهاد باللسان والنفس والمال.
أخرج الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم».
وأسباب الجهاد ثلاثة:
أولا- إن الله تعالى اجتباكم واختاركم أيها المسلمون من بين سائر الأمم للقيام بهذه المهمة السامية، وخصكم بأكرم الرسل، علما بأنه تعالى لم يجعل الدين ضيقا حرجا شاقا، وإنما جعله سهلا يسيرا، فلم يكلفكم ما لا تطيقون، وإنما الجهاد لرد الاعتداء أمر ميسور، تقتضيه ضرورات الدفاع عن الوجود والحرمات والكرامات، والديار والأوطان، والعقيدة والشريعة الحق.
ثانيا- جعل الله ملتكم هي كملة إبراهيم الخليل أبيكم العظيم، وهي ملة الحنيفية السمحة، القائمة على التوحيد ونبذ الشرك والوثنية.
ثالثا- إن الله تعالى أو إبراهيم الخليل هو الذي سماكم المسلمين، أي المنقادين لأمر الله، من قبل أي في الكتب القديمة، وفي هذا أي في القرآن، والراجح أن الضمير في قوله سبحانه: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ يعود إلى الله تعالى، بدليل قوله:
وَفِي هذا أي في القرآن، فهذه اللفظة تضعف قول من قال: الضمير لإبراهيم.
وهذه التسمية تؤول وتكون عاقبتها أن تتصف أمة الإسلام بالوسطية والاعتدال، عند جميع الأمم، فتتأهل أن يكون الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم شهيدا على أمته بتبليغها ما
وإذا كانت الأمة الإسلامية لها هذه المكانة، فعلى المؤمنين مقابلة هذه النعمة الجليلة بشكرها، وشكرها بإقامة الصلاة وأدائها تامة الأركان والشرائط بخشوع كامل، وخضوع تام لله، وإيتاء الزكاة التي هي طهرة للنفس والمال، والاعتصام بالله، أي الثقة به والالتجاء إليه، والاستعانة بقوته الفائقة على دفع كل مكروه، وهو ناصركم على من يعاديكم، فنعم المولى، أي الحافظ والناصر والمالك والخالق، المتولي أمور الخلائق، ونعم الناصر المعين وهو الله تعالى.