ﰡ
﴿ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾؛ ولا تُعطِّلوا الحدودَ. قرأ ابنُ كثيرٍ (رَأفَةٌ) بفتحِ الهمزة. وإنَّما ذكرَ الضَّربَ بلفظِ الْجَلْدِ لئلاَّ يُبَرَّحَ ولا يبلغَ به اللحمَ. واختلفَ العلماءُ في قوله ﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ ﴾ فقال قومٌ: معناهُ: ولا تأخذُكم الرأفةُ بهما فتعطِّلوا الحدودَ ولا تقيموها شفقةً عليهما، وهو قولُ عطاء ومجاهدُ وقتادة وعكرمة وسعيدُ بن جبير والنخعي والشعبيُّ. وقال الزهريُّ وسعيدُ بن المسيَّب والحسنُ: (مَعْنَاهُ: اجْتَهِدُواْ فِي الْجَلْدِ وَلاَ تُخَفِّفُوا كَمَا يُخَفَّفُ فِي حَدِّ الشُّرْب، بَلْ يُوجَعُ الزَّانِي ضَرْباً، وَلاَ يُخَفَّفُ رَأفَةً لَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ: لاَ تَأْخُذُكُمْ بهِمَا فَتُخَفِّفُواْ الضَّرْبَ، بَلْ أوْجِعُوهُمَا ضَرْباً). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي لِيَكُنْ إقامةُ الحدِّ عليهما بحضرةِ جماعةٍ من المؤمنين ليستفيضَ الخبرُ بهما، ويُبَلِّغَ الشاهدُ الغائبَ، فيرتدعُ الناس عن مثلهِ، ويرتدعُ المضروبُ ويستحيي فلا يعودُ إلى مثلِ ذلك. واختلَفُوا في مبلغِ عدد الطائفةِ، فقال الزهريُّ: (أقَلُّهُ ثَلاَثَةٌ)، وقال ابنُ زيدٍ: (أرْبَعَةٌ بَعْدَ شُهُودِ الزِّنَا)، وقال قتادةُ: (نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ). وفي الخبرِ:" إقَامَةُ حَدٍّ فِي أرْضٍ خَيْرٌ لأَهْلِهَا مِنْ مَطَرِ أرْبَعِيْنَ يَوْماً "وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ:" يَا مَعْشَرَ النَّاسِ؛ اتَّقُوا الزِّنَا فَإنَّ فِيْهِ سِتَّ خِصَالٍ؛ ثلاَثٌ فِي الدُّنْيَا وَثَلاَثٌ فِي الآخِرَةِ، فَاللاَّتِي فِي الدُّنْيَا: تُذْهِبُ الْبَهَاءَ، وَتُورِثُ الْفَقْرَ، وَتُنْقِصُ الْعُمْرَ. وَأمَّا اللاَّتِي فِي الآخِرَةِ: فَتُوجِبُ السُّخْطَ؛ وَسُوءَ الْحِسَاب؛ وَالْخُلُودَ فِي النَّارِ ". وقال صلى الله عليه وسلم:" أعْمَالُ أُمَّتِي تُعْرَضُ عَلَيَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ، فَاشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى الزُّنَاةِ "وعن وهب بن مُنبه قال: (مكتوبٌ في التوراةِ: الزَّانِي لا يَموتُ حتى يفتقرَ، والقوَّادُ لا يَموتُ حتى يعمَى). فإن قيلَ: لِمَ بدأ اللهُ بذكرِ الزَّانيةِ قبل ذِكر الزَّانِي فقالَ تعالى ﴿ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي ﴾، وبذكرِ السَّارقِ قبلَ ذِكر السَّارقةِ في آيةِ السَّرقة فقالَ:﴿ وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ ﴾[المائدة: ٣٨]؟ قِيْلَ: لأنَ الرجُلَ هو الذي يسرقُ غالباً، والمرأةُ هي السببُ في الزِّنا غالباً، فأخرجَ الخطابَ في المؤمنين على الأغلب.
وذهبَ بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ معنى الآية: الزانِي لا يطَأُ إلاّ زانيةً؛ أي لا يزنِي حينَ يزنِي إلاّ بزانيةٍ مثله، وكذلك الزانيةُ لا يزنِي بها إلاّ زَانٍ مثلُها، حتى إذا طاوعَ أحدُهما الآخرَ، فهُمَا سواءٌ في استحقاقِ الحدِّ وعقاب الآخرة، فكأنَّ المرادَ بالنكاحِ الوطءُ.
﴿ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ ﴾؛ على صحَّة قَذْفِهم إياهُنَّ بالزنا.
﴿ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ﴾.
والْمُحْصَنَاتُ: الحرائرُ الْمُسلِماتُ البالغاتُ العاقلات العفيفاتُ عن فعلِ الزِّنا. وفي ذكرِ عدد الأربعةِ من الشُّهود دليلٌ على أن المرادَ القذفُ بصريحِ الزنا؛ لأن هذا العددَ لا يُشترط إلاّ في الزِّنا، ولا يقبلُ في ذلكَ شهادةُ النساءِ. وفي الآيةِ دليلٌ على أن مَن قَذفَ جماعةً من الْمُحصَناتِ لَم يُضرب إلاّ حدّاً واحداً، وإذا كان القاذفُ عبداً فحدُّهُ النِّصفُ كما بَيَّنَّا في حدِّ الزنا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً ﴾؛ يعني المحدودين في القذفِ لا تقبلُ شهادتُهم أبداً.
﴿ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ ﴾؛ أي الخارجونَ عن طاعةِ الله برَمْيهِمْ إياهُنَّ زُوراً وكَذِباً.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾؛ لِمَن تابَ منهم.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾؛ لِمَن ماتَ على التوبةِ. قال ابنُ عبَّاس: (هَذا الاسْتِثْنَاءُ لاَ يَرْجِعُ إلَى الشَّهَادَةِ، وَإنَّمَا يَرْجِعُ إلَى الْفِسْقِ). وَقِيْلَ: إنَّ توبتَهُ فيما بينه وبينَ اللهِ مقبولةٌ، وأما شهادتهُ فلا تقبلُ أبداً، وهو قولُ شُريحٍ والحسن وإبراهيمَ، وإلى هذا ذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابهُ. وذهبَ بعضُ العلماءِ إلى أن الاستثناءَ راجعٌ إلى الفسقِ وإلى ردِّ الشهادةِ، ويكون معنى قولهِ تعالى (أبَدَاً) ما دامَ على القذفِ ولَم يَتُبْ عنهُ. وأجْمَعُوا جميعاً أنَّ هذا الاستثناءَ لا يرجعُ إلى الْجَلْدِ، وذلك يقتضي أن يكونَ مَقْصُوراً على ما يَلِيْهِ وهو الفسقُ. وأجْمَعُوا أن المقذوفةَ إذا ماتت ولَم تُطالِبْ بحدِّ القذفِ ولَم يُحَدَّ القاذفُ ثُم تابَ، فإنهُ يجوز قَبولُ شهادتهِ؛ لأن على أصْلِنا أنَّ الحاكمَ إذا أقامَ الحدَّ على القاذفِ فكذبَهُ وأبطلَ حينئذٍ شهادتَهُ، ولو جُعِلَ بطلانُ الشهادةِ حُكماً معلقاً بتسمية الفسق ولم يجعل حكماً على حالهِ مرتَّباً على الجلدِ لبطُلَتْ فائدةُ قولهِ﴿ وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً ﴾[النور: ٤] من كتاب الله؛ لأن كلَّ فاسقٍ لا تقبلُ شهادتهُ إلاّ بعد توبتهِ عن الفسقِ.
فَأَقَامَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الْعَصْرِ، وَقَالَ: " يَا هِلاَلُ! أنْتَ الشَّاهِدُ أنَّكَ رَأيْتَهَا تَزْنِي " فَقَالَ: أشْهَدُ باللهِ رَأيْتُهُ عَلَى بَطْنِهَا يَزْنِي بهَا وَإنِّي لَمِنَ الصَّادِقِيْنَ، مَا قَرُبْتُهَا مُنْذُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ، وَإنَّ حَمْلَهَا هَذا الَّذِي فِي بَطْنِهَا مِنْ شُرَيْكِ بْنِ سَحْمَاءَ، وَإنِّي لَمِنَ الصَّادِقِيْنَ. أشْهَدُ باللهِ مَا بَرِئَتْ مِنْهُ وَلاَ بَرِئَ مِنْهَا، وَإنِّي لَمِنَ الصَّادِقِيْنَ... إلَى أنْ قَالَ فِي الْخَامِسَةِ: أنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبيْنَ فِيْمَا رَمَاهَا بهِ مِنْ ذلِكَ. فَقَالَ الْقَوْمُ: آمِيْنَ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " يَا خَوْلَةُ وَيْحَكِ! إنْ كُنْتِ ألْمَمْتِ بذنْبٍ فَأَقِرِّي بهِ، فَإنَّ الرَّجْمَ بالْحِجَارَةِ فِي الدُّنْيَا أيْسَرُ عَلَيْكِ مِنْ غَضَب اللهِ فِي الآخِرَةِ، وَإنَّ غَضَبَهُ عَذابَهُ " فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ كَذبَ. فَأقَامَهَا مَقَامَهُ، فَقَالَتْ: أشْهَدُ باللهِ مَا أنَا زَانِيَةٌ، وَأنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبيْنَ، مَا رَآهُ عَلَى بَطْنِي. أشْهَدُ باللهِ لَقَدْ بَرِئْتُ مِنَ الزِّنَا وَبَرِئَ شُرَيْكُ بْنُ سَحْمَاءَ مِنِّي، وَإنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبيْنَ. أشْهَدُ باللهِ لَقَدْ قَرُبَنِي مُنْذُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ وَإنَّ مَا فِي بَطْنِي لِهِلاَل، وَإنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبيْنَ. وَقَالَتْ فِي الْخَامِسَةِ: أنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِيْنَ. ثُمَّ فَرَّقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: " الْمُتَلاَعِنَانِ لاَ يَجْتَمِعَانِ أبَداً " ".
قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشٍ، وَأنَا وَاللهِ أعْلَمُ حِيْنَئِذٍ أنِّي بَرِيْئَةٌ، وَأنَّ اللهَ مُنَزِّلٌ ببَرَاءتِي، وَلَكِنْ وَاللهِ مَا كُنْتُ أظُنُّ أنْ يَنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْياً يُتْلَى، وَلَشَأْنِي كَانَ أحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أنْ يَتَكَلَّمَ اللهُ فِيَّ بأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنْ كُنْتُ أرْجُو أنْ يَرَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَنَامِهِ رُؤْيَا يُبْرِّؤُنِي اللهُ بهَا. قَالَتْ: فَوَاللهِ مَا قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَجْلِسِهِ وَلاَ خَرَجَ أحَدٌ مِنْ أهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى تَغَشَّاهُ الْوَحْيُ وَأخَذهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرْحَاءِ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ، حَتَّى أنَّهُ لَيَتَحَدَّرَ مِنْهُ مِنَ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ فِي الْيَوْمِ الشَّاتِئ. فَلَمَّا سُرِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا هُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بهَا أنْ قَالَ: " أبْشِرِي يَا عَائِشَةُ؛ إنَّ اللهَ قَدْ بَرَّأكِ " فَقَالَتْ لِي أُمِّي: قُومِي إلِيْهِ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لاَ أقُومُ إلَيْهِ وَلاَ أحْمَدُ إلاَّ اللهَ سُبْحَانَهُ الَّذِي أنْزَلَ بَرَاءَتِي، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ ﴾ وَهِيَ عَشْرُ آيَاتٍ. فَلَمَّا أنْزَلَ اللهُ بَرَاءَتِي قَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه - وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ وَفَقْرِهِ -: وَاللهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَيْهِ شَيْئاً أبَداً بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى﴿ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ ﴾[النور: ٢٢] إلى قولهِ تعالى﴿ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ ﴾[النور: ٢٢] قَالَ أبُو بَكْرٍ: بَلَى؛ وَاللهِ إنِّي أُحِبُّ أنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي. وَأعَادَ إلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ وَقَالَ: لاَ أنْزِعُهَا مِنْهُ أبَداً. ثُمَّ إنَّ الْخَبَرَ بَلَغَ إلَى صَفْوَانَ؛ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! وَاللهِ مَا كَشَفْتُ كَنِفَ أُنْثَى. فَقُتِلَ شَهِيْداً فِي سَبيْلِ اللهِ، وَزَادَ فِي آخِرِهِ: قَالَتْ: وَقَعَدَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطِّلِ لِحَسَّانِ ابْنِ ثَابتٍ فَضَرَبَهُ بالسَّيْفِ، وَقَالَ حِيْنَ ضَرَبَهُ: تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّي فَإنَّنِي غُلاَمٌ هُوَجِيتُ لَسْتُ بشَاعِرِوَلَكِنَّنِي أحْمِي حِمَايَ وَأنْتَقِمُ مِنَ الْبَاهِتِ الرَّامِي الْبُرَاءَ الطَّوَاهِرفَصَاحَ حَسَّانُ وَاسْتَغَاثَ بالنَّاسِ عَلَى صَفْوَانَ، وَجَاءَ حَسَّانُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَغِيْثُ بهِ عَلَى صَفْوَانَ فِي ضَرْبهِ إيَّاهُ، فَسَأَلَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَهَبَ لَهُ ضَرْبَةَ صَفْوَانَ إيَّاهُ، فَوَهَبَهَا لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَوَّضَهُ عَلَيْهَا حَائِطاً مِنْ نَخْلٍ عَظِيْمٍ وَجَاريَةً رُومِيَّةً. ثُمَّ بَاعَ حَسَّانُ ذلِكَ الْحَائِطِ مِنْ مُعَاويَةَ فِي ولاَيَتِهِ بمَالٍ عَظِيْمٍ، وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابتٍ فِي بَرَاءَةِ عَائِشَةَ: حَصَانٌ رزَانٌ مَا تُزَنَّ برِيْبَةٍ وَتُصْبِحُ غَرْثى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِخَلِيَّةُ خَيْرِ النَّاسِ دِيْناً وَمَنْصَباً نَبيِّ الْهُدَى وَالْمَكْرُمَاتِ الْفَوَاضِلِعَقِيْلَةُ حَيٍّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِب كِرَامِ الْمَسَاعِي مَجْدُهَا غَيْرُ زَائِلِمُهَذبَةٌ قَدْ طَيَّبَ اللهُ خَيَمَهَا وَطَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ شَيْنٌ وَبَاطِلِفَإنْ كَانَ مَا قَدْ جَاءَ عنِّي قُلْتُهُ فَلاَ رَفَعْتُ سَوْطِي إلَيَّ أنَامِلِيفَكَيْفَ وَوُدِّي مَا حُييْتُ وَنُصْرَتِي لآلِ رَسُولِ اللهِ زَيْنِ الْمَحَافِلِلَهُ رُتَبٌ عَالٍ عَلَى النَّاسِ فَضْلُهَا تَقَاصَرُ عَنْهَا سَطْوَةُ الْمُتَطَاولِثُمَّ أمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالَّذِيْنَ رَمَواْ عَائِشَةَ فَجُلِدُواْ جَمِيْعاً ثَمَانِيْنَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ ﴾ وهم أربعةٌ: حسَّانُ؛ ومُسْطَحُ؛ وعبدُالله بنُ أُبَي بن سَلُولٍ؛ وَحَمْنَةُ بنْتُ جَحْشٍ. وَقِيْلَ: الْعُصْبَةُ من الواحدِ إلى الأربعين. والإفْكُ في اللغة: الْكَذِبُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ ﴾ خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ولأبي بكرٍ ولعائشةَ فيما لَحِقَهم من الْحُزْنِ والغمِّ الشديد. والمعنى: لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بل هو خيرٌ لكم؛ لأنكم تُؤْجَرُونَ على ما قيلَ لكم من الأذى، وبما يكتبُ لكم من الثواب في الآخرة على الصَّبر، ولِمَا بَيَّنَ اللهُ من طهارةِ عائشة وبرائَتها بآياتٍ تُتْلَى في الْمِحْراب إلى يومِ القيامة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلإِثْمِ ﴾؛ أي لكلِّ أمرئٍ من الخائضِين في هذا الأمر جزاءُ ما كسبَ من الإثمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ ﴾؛ أي والذي تَحَمَّلَ مُعظَمَهُ فبدأ بالخوضِ فيه وهو عبدُالله بن أُبَيّ هو الذي بالغَ في إشاعةِ هذا الحديثِ، وكان أهلُ الحديثِ يجتمعون عندَهُ ويسيقون ذلك بأمرهِ.
﴿ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾؛ يصْغُرُ في مقابلتهِ كلَّ عذابٍ يكون في الدُّنيا. قرأ حُميد الأعرجُ ويعقوب (كُبْرَهُ) بضم الكافِ، قال أبو عمرِو بن العلاء: هُوَ خَطَأٌ لأَنَّ الْكُبْرَ هُوَ بضَمِّ الكَافِ فِي الْوَلاَءِ وَالسِّنِّ، وَمِنْهُ الْحَدِيْثُ" الْوَلاَءُ الْكُبْرُ "وروى ابن أبي مليكة عن عائشةَ قالت في حديثِ الإفك: (ثُمَّ رَكِبْتُ وَأخَذ صَفْوَانُ بالزِّمَامِ، فَمَرَرْنَا بمَلإ مِنَ الْمُنَافِقِيْنَ، فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ، فَقَالَ: مَنْ هَذا؟ قَالُواْ: عَائِشَةُ، قَالَ: وَاللهِ مَا نَجَتْ مِنْهُ وَلاَ نَجَا مِنْهَا، وَقَالَ: امْرَأةُ نَبيِّكُمْ بَاتَتْ مَعَ رَجُلٍ حَتَّى أصْبَحَتْ، ثُمَّ جَاءَ يَقُودُهَا. وَشَرَعَ فِي ذلِكَ حَسَّانُ وَمِسْطَحُ وَحَمْنَةُ، ثُمَّ فَشَا ذلِكَ فِي النَّاسِ). وقولهُ تعالى ﴿ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ يريدُ في الدُّنيا الجلدَ ثَمانين جلدةً، وفي الآخرةِ يُصَيِّرُهُ اللهُ إلى النار.
﴿ وَقَالُواْ هَـٰذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ ﴾؛ أي كَذِبٌ ظاهرٌ بَيِّنٌ. ورُوي: أن المرادَ بهذه الآيةِ أبو أيُّوب الأنصاريُّ وامرأتهُ أُمُّ أيوب، قَالَتْ: أمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟ قَالَ: بَلْ وَذلِكَ الْكَذِبُ الْبَيِّنُ، أرَأيْتِ يَا أُمَّ أيُّوبَ كُنْتِ تَفْعَلِيْنَ ذلِكَ؟ قَالَتْ: لاَ؛ وَاللهِ مَا كُنْتُ أفْعَلُهُ، قَالَ: فَعَائِشَةُ وَاللهِ خَيْرٌ مِنْكِ، سُبْحَانَ اللهِ! هَذا بُهْتَانٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ. والمعنى: هلاَّ إذا سَمعتموهُ ظنَّ المؤمنونَ والمؤمناتُ بأنفسِهم خيراً كما فعلَ أبو أيُّوب وامرأتهُ قالاَ فيها خيراً.
﴿ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَـٰئِكَ عِندَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ ﴾؛ أخبرَ اللهُ تعالى أنَّهم كاذبونَ في قذفِها، يعني: إنَّهم كاذبونَ في الظاهرِ والباطن، وكفَى بهذا براءةً لعائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فمَن جَوَّزَ صِدْقَ أولئكَ في أمرِ عائشة صارَ كافراً باللهِ لا محالةَ؛ لأنه رَدَّ شهادةَ اللهِ لَها بالبراءةِ.
﴿ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾؛ ولا بيانٌ ولا حجَّة.
﴿ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً ﴾؛ أي تظنُّون أن ذلك القذفَ سهلٌ لا إثمَ فيه ﴿ وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٌ ﴾؛ في الوِزْر والعقوبةِ. قرأ أُبَيُّ: (إذْ تَتَلَقَّوْنَهُ) بتاءَين، وقرأت عائشةُ (إذْ تَلِقُونَهُ) بكسرِ اللام وتخفيفِ القاف مِن الْوَلِق، والوَلَقُ الكَذِبُ، يقالُ: وَلَقَ فلانٌ إذا استمرَّ على الكذب، ووَلَقَ فلانٌ السِّرَّ إذا استمرَّ بهِ.
﴿ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾؛ لأن قذفَ الْمُحصَنات لا يكونُ من صفاتِ المؤمنين، وقولهُ تعالى ﴿ لِمِثْلِهِ ﴾ أي إلَى مِثْلِهِ. قولهُ تعالى: ﴿ وَيُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَاتِ ﴾؛ أي الأمرَ والنهيَ.
﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ ﴾؛ بمقالة الكاذِبين في أمرِ عائشةَ.
﴿ حَكِيمٌ ﴾؛ في ما شَرَّعَ من الأحكامِ.
﴿ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي ٱلدُّنْيَا ﴾؛ يعني الجلدَ.
﴿ وَٱلآخِرَةِ ﴾؛ يعني عذابَ النار، يريدُ بذلك المنافقينَ.
﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ﴾؛ ما خُضْتُمْ فيه من الإفكِ، وما فيه من سَخَطِ اللهِ.
﴿ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾؛ ذلكَ، فَحَذرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جميعَ قاذِفِي عائشةَ.
﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ فلَمْ يُعاقِبْكم في ذلك. قال ابنُ عبَّاس: (يُرِيْدُ مُسْطَحَ وَحَسَّانَ وَحَمْنَةَ).
﴿ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ ﴾؛ أي يأمرُ بعصيانِ الله وكلِّ ما يكرهُ اللهُ مما لا يُعْرَفُ في شريعةٍ ولا سُنَّةٍ. وَقِيْلَ: الفحشاءُ: القَبيْحُ من القولِ والعمل، والمنكرُ: الفسادُ الذي يُنْكِرُ العقلُ صحَّتَهُ ويزجرُ عنه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً ﴾ أي ما صَلُحَ منكم من أحدٍ أبداً. وَقِيْلَ: معناهُ: ما طَهُرَ منك أحدٌ يُذْنِبُ ولا صَلُحَ أمرهُ بعد الذي قالَ في عائشةَ ما قالَ، ولا قَبلَ توبةَ أحدٍ منكم.
﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ ﴾؛ أي يُطَهِّرُ مَن يشاءُ من الإثْمِ بالرحمةِ والمغفرة، فيوفِّقهُ للتوبةِ.
﴿ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ ﴾؛ أي سَمِيْعٌ لِمقالَتِكم.
﴿ عَلِيمٌ ﴾؛ بما في نُفوسِكم من النَّدامةِ والتوبة. وَقِيْلَ: معناهُ: سَمِيْعٌ لِمقالة الخائضِين في أمرِ عائشةَ وصفوان، عَلِيْمٌ ببَراءتِهمَا.
﴿ ٱلْمُؤْمِناتِ ﴾، باللهِ ورسوله.
﴿ لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ ﴾؛ أي عُذِّبُوا في الدُّنيا بالحدِّ، وفي الآخرةِ بعذاب النار. وسُمِّيت عائشةُ غافلةً؛ لأنَّها قُذِفَتْ بأمرٍ لَم يخطُرْ ببالِها، فأصابَ كلُّ واحدٍ مِن قاذفيها ذاهبةً في الدُّنيا. أمَّا ابنُ أُبَيِّ فقد ماتَ كافراً ونَهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الصَّلاةِ عليهِ، وأما حَسَّانُ فقد دخلَ على عائشةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا بعد ما ذهبَ بصرهُ في آخرِ عمره، وأنشدَها في بيتِها: حَصَانٌ رزَانٌ مَا تُزَنَّ برِيْبَةٍ وَتَصْبحُ غَرْثى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِقَالَتْ: إنَّكَ لَسْتَ كَذلِكَ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا، قِيْلَ لِعَائِشَةَ: إنَّ اللهَ وَعَدَهُمْ بعَذابٍ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؟ فَقَالَتْ: أوَلَيْسْ: هَذا عَذابٌ؟ َيَعْنِي ذهابَ بصرهِ. واختلفَ المفسِّرون في هذه الآية ﴿ لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾؛ فقال مقاتلُ: (هَذِهِ الآيَةُ خَاصَّةٌ فِي عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ الْمُنَافِقِ وَرَمْيهِ عَائِشَةَ)، وقال ابنُ جبير: (هَذا الْحُكْمُ خَاصَّةً فِيْمَنْ قَذفَ عَائِشَةَ، فَمَنْ قَذفَهَا فَهُوَ مِنْ أهْلِ هَذِهِ الآيَةِ)، وقال الضحَّاك والكلبيُّ: (هَذا فِي عَائِشَةَ وَفِي جَمِْيْعِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْمُؤْمِنِيْنَ)، قال ابنُ عبَّاس: (هَذِهِ الآيَةُ فِي شَأْنِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِيْنَ خَاصَّةً لَيْسَ فِيْهَا تَوْبَةٌ، وَأمَّا مَنْ قَذفَ امْرَأةً مُؤْمِنَةً مِنْ غَيْرِهِنَّ، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُ تَوْبَةً). ثُمَّ قَرَأ﴿ وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ ﴾[النور: ٤] إلى قولهِ:﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ ﴾[النور: ٥]، قَالَ: (فَجَعَلَ اللهُ لِهَوُلاَءِ تَوْبَةً، وَلَمْ يَجْعَلْ لأُوْلَئِكَ). وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قال:" مَنْ أشَاعَ عَلَى رَجُلٍ كَلِمَةً فَاحِشَةً وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ يُرِيْدُ أنْ يَسُبَّهُ بهَا فِي الدُّنْيَا، كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أنْ يَدُسَّهُ بهَا فِي النَّارِ. وَأيَّمَا رَجُلٍ جَاءَ فِي شَفَاعَةِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى فَعَلَيْهِ لَعنَةُ اللهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
﴿ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ٱلْمُبِينُ ﴾؛ أي ويعلمون يومئذٍ أنَّ الله تعالى هو الحقُّ الْمُبيْنُ، يقضِي بحقٍّ ويأخذُ بحقٍّ ويعطي بحقٍّ. قال ابنُ عباس: (وَذلِكَ أنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ أُبَيَّ بْنَ سَلُولٍ كَانَ يَشُكُّ فِي الدِّيْنِ، وَيَعْلَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبيْنُ). قرأ مجاهدُ: (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهَمُ الْحَقُّ) برفعِ القاف على أنه نعتاً للهِ، وتصديقهُ قراءةُ أُبَيٍّ (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ الْحَقُّ دِيْنَهُمْ). وقولهُ تعالى ﴿ ٱلْمُبِينُ ﴾ أي يُبَيِّنُ لَهم حقيقةَ ما كان بعدَهم في الدُّنيا.
﴿ حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ ﴾؛ وكذلكَ لو وجدُوا البيوتَ خاليةً لَم يَجُزْ دخولُها أيضاً إلاّ بإذنِ صاحبها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ٱرْجِعُواْ فَٱرْجِعُواْ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ ﴾؛ أي إذا اُمِرْتُمْ بالانصرافِ فانصرفوا وتقوَّسُوا على باب البيت فلعلَّ صاحبَ البيتِ لا يرضى أن يقعَ بصرُ المستأذنِ على أحدٍ من حَرَمِهِ، وكذلك لو لَم يقُلْ لكم صاحبُ الدار ارجعوا، ولكن وُجِدَ منهُ ما يدلُّ على ذلك وجبَ الرجوعُ، لقوله صلى الله عليه وسلم:" الاسْتِئْذانُ ثَلاَثٌ، فإنْ أُذِنَ لَكَ وَإلاَّ فَارْجِعْ "ورُوي" الاسْتِئْذانُ ثَلاَثٌ: مَرَّةٌ يَسْتَمِعُونَ، وَمَرَّةٌ يَسْتَصْلِحُونَ، وَمَرَّةٌ يَأْذنُونَ "وقولهُ تعالى ﴿ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ ﴾ أي الرجوعُ أطهَرُ وأنفعُ لدِينكم من الجلوسِ على أبواب الناس.
﴿ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾؛ أي بما تعملونَ من الدُّخول بإذنٍ وغير إذن عالِمٌ. فلما نزلَتْ آيةُ الاستئذان؛ قالوا: فكيفَ بالبيوتِ التي بين مكَّة والمدينة والشَّام على ظهرِ الطَّريق ليس فيها ساكنٌ؟ فأنزلَ اللهُ تعالى: ﴿ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ ﴾؛ بغيرِ استئذانٍ. وَقِيْلَ: أرادَ بذلك المواضعَ التي لا يختصُّ سكانُها أحداً دون آخر مثل الخاناتِ والرِّباطَاتِ التي تُتَّخَذُ للمسافرينَ يتظَلَّلون فيها من الحرِّ والبردِ، ويدخلُ في هذا أخذُ ما جرتِ العادةُ بأخذه مثل النواتِ والْخِرَقِ الملقاةِ في الطريق، ويجوز أن يكون المرادُ بالبيوتِ في هذه الآية بيتُ التُّجَّار التي في الأسواقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ ﴾؛ أي منافعُ من اتِّقاء الحرِّ والبرد والاستمتاعِ بها. قال مجاهدُ: (كَانُوا يَصْنَعُونَ فِي طُرُقِ الْمَدِيْنَةِ أقْتَاباً وَأمْتِعَةً فِي الْبُيُوتِ لَيْسَ فِيْهَا أحَدٌ، وَكَانَتِ الطُّرُقُ إذْ ذاكَ آمِنَةً، فَأُحِلَّ لَهُمْ أنْ يَدْخُلُوهَا بغَيْرِ إذْنٍ). وقال عطاءُ: (مَعْنَاهُ بالْمَتَاعِ هُوَ قَضَاءُ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلاَءِ وَالْبَوْلِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾؛ أي لا يخفَى عليه شيءٌ من أعمالِكم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾؛ في الفُروجِ والأبصار.
﴿ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾؛ عن الحرامِ. وَقِيْلَ: ﴿ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ﴾ أي يَسْتَتِرْنَ حتى لا يرَى فروجهن أحدٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾؛ أي لا يُبدينَ مواضعَ زينتِهنَّ إلاّ ما ظهرَ من موضعِ الزِّينة. والزِّيْنَةُ زينَتَانِ: ظَاهِرَةٌ وباطنةٌ، فالباطنةُ: الْمَخَانِقُ وَالْمَعَاضِدُ وَالْقِلاَدَةُ وَالْخِلْخَالُ وَالسِّوارُ وَالْقِرْطُ وَالْمَعَاصِمُ. وأما الزينةُ الظاهرةُ: الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَالْخِضَابُ، فليس على المرأةِ بحُكْمٍ إلاّ هذا بهِ سَتْرُ وجهِها وكفَّيها في الصلاة. وفي غيرِ الصلاة يجوزُ للأجانب من الرِّجال النظرُ إلى وجهِها لغيرِ الشَّهوةِ. فأما النظرُ مع الشهوةِ فلا يجوزُ إلاّ في أربعةِ مواضع: إذا أرادَ أن يتزوَّج امرأةً، أو يشتريَ جاريةً، أو يتحمَّلَ الشهادةَ لَها أو عليها، أو القاضي يقضي لَها أو عليها. وعن ابنِ مسعودٍ: (أنَّ الزِّيْنَةَ الظَّاهِرَةَ: هِيَ الْجِلْبَابُ وَالْمِلاَءَةِ) يَعْنِي الثِّيَابَ لقولهِ﴿ خُذُواْ زِينَتَكُمْ ﴾[الأعراف: ٣١] أي ثيابَكم. وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّها قالت: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" لاَ يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ إذا عَرَكَتْ أنْ تُظْهِرَ إلاَّ وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا وَإلَى هَا هُنَا وَقَبَضَ عَلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ﴾؛ الْخُمُرُ: جَمْعُ خِمَارٍ؛ وهُوَ مَا تُغَطِّي بهِ المرأةُ رأسَها، والمعنى: وَلْيُلْقِيْنَ مَقَانِعَهُنَّ على جيوبهنَّ وصُدورِهن ليَسْتُرْنَ بذلك شُعورَهن ومُرُوطَهن وأعناقَهن ونحورَهن، كما قال ابنُ عباس: (تُغَطِّي الْمَرْأةُ شَعْرَهَا وَصَدْرَهَا وَتِرَابَهَا وَسَوَالِفَهَا) لأن المرأةَ اذا أسْدَلَتْ خِمارَها انكشفَ ما قدَّامها وما خلفها فوقعَ الاطلاعُ عليها. والجيوبُ: جمعُ جَيْبٍ وهو جيبُ القميصِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ ﴾؛ أرادَ به موضعَ الزينةِ الباطنة التي لا يجوزُ كشفُها في الصَّلاةِ، والمعنى: لا يُظْهِرْنَ موضعَ الزينة التي تكون تحتَ خُمُرِهِنَّ إلاّ لأزواجهِنَّ.
﴿ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ ﴾ أي أزواجِهنَّ.
﴿ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ ﴾؛ في النَّسب أو الرَّضاعِ ﴿ أَوْ بَنِيۤ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ ﴾؛ وكلِّ ذِي رحمٍ مَحْرَمٍ منهُنَّ.
﴿ أَوْ نِسَآئِهِنَّ ﴾؛ يعني نساء أهلِ دِينهنَّ وهُنَّ المسلماتُ، ولا يحلُّ لِمسلمةٍ أن تنكشفَ بين يدَي يهوديَّة أو نصرانيةٍ أو مجوسية أو مشركة. وَقِيْلَ: المرادُ بذلك العفائفُ مِن النساءِ اللائي يكن اشكالاً لهن. ولا ينبغِي للمرأة الصالحةِ أن تنظرَ إلى المرأةِ الفاجرة؛ لأنَّها تَصِفُها عند الرجلِ، ولا تضعَ جلبَابَها ولا خِمارَها عندها، ولا يحلُّ لامراة مؤمنةٍ أن تنكشفَ أيضاً عند مُشركةٍ أو كتابية إلاّ أن تكون أمَةً لَها، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ﴾؛ ورُوي أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَتَبَ إلَى أبي عُبَيْدَةَ: (أمَّا بَعْدُ: فَقَدْ بَلَغَنِي أنَّ نِسَاءَكُمْ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ مَعَهُنَ نِسَاءُ أهْلِ الْكِتَاب، فَامْنَعْ مِنْ ذلِكَ). فَلَمَّا أتَى الْكِتَابُ إلَى أبي عُبَيْدَةَ قَامَ ذلِكَ الْمَكَانِ مُبْتَهِلاً وَقَالَ: (اللَّهُمَّ أيَّمَا امْرَأةٍ تَدْخُلُ الْحَمَّامَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ وَلاَ سَقَمٍ تُرِيدُ الْبَيَاضَ لِوَجْهِهَا، فَسَوِّدْ وَجْهَهَا يَوْمَ تَبْيَضُّ الْوُجُوهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ﴾؛ ذهبَ بعضُهم إلى أن المرادَ به العبدَ، فإنه لا بأسَ أن تُظْهِرَ المرأةُ عند عبدِها ما تُظْهِرُ عند مَحارِمها. وكان سعيدُ بن المسيَّب يقول: (لاَيَغُرَّنَّكُمْ قَوْلُهُ: ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ﴾ فَإنَّهَا نَزَلَتْ فِي الإمَاءِ دُونَ الْعَبيْدِ)، وعن مجاهدٍ مثلُ ذلكَ، كأنَّهما ذهبَا إلى أن المرادَ بقوله: ﴿ أَوْ نِسَآئِهِنَّ ﴾ الحرائرَ، والمرادَ بقولهِ ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ﴾ الإماءُ والوَلائِدُ والصِّغارُ من الذُّكور المماليكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوِ ٱلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي ٱلإِرْبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ ﴾؛ يعني الذينَ يتبعون النساءَ من الأجر العمَّال الذين لا حاجةَ لَهم في النِّكاح، وإنَّما يخدُمون القومَ لينالوا من طعامِهم، والإرْبَةُ فِعْلَةٌ مِنَ الإرْب وهو الحاجةُ، كالْمِشْيَةِ من الْمَشْيِ. قال البعضُ: (هُمْ قَوْمٌ طُبعُواْ عَلَى غَيْرِ شَهْوَةٍ، لاَ يَشْتَهُونَ وَلاَ يَعْرِفُونَ مَا يُشْتَهَى مِنَ النِّسَاءِ وَلاَ يَشْتَهِيهُمُ النِّسَاءُ) يعني: لا يَشْتَهُونَ ولا يُشْتَهَوْنَ. وقال سعيدُ بن جبير: (الْمَعْتُوهُونَ)، وقال عكرمةُ: (هُوَ الْمَجْنُونُ)، وقال الْحَكَمُ بن إبان: (هُمُ الْمَخَانِيْثُ الَّذِيْنَ لاَ إرَبَ لَهُمْ فِي النِّسَاءِ، وَلاَ تَقُومُ لَهُمْ شَهْوَةٌ). وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:" أنَّ مُخْنَّثاً كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ، وَكَانُواْ يَعُدُّونَهُ مِنْ غَيْرِ أُوْلِي الإرْبَةِ، فَسَمِعَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ فِي صَفْةِ امْرَأةٍ: أنَّهَا إذا أقْبَلَتُ؛ أقْبَلَتْ بأَرْبَعٍ، وَإذا أدْبَرَتْ؛ أدْبَرَتْ بثَمَانٍ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " أوَهَذا الْمُخَنَّثُ يَعْرِفُ هَذا الْكَلاَمَ؟! لاَ أرَاهُ يَدْخُلُ عَلَيْكُنَّ " "وقال مجاهد وعكرمةُ والشعبيُّ: (هُمُ الَّذِيْنَ لاَ إرَبَ لَهُمْ فِي النِّسَاءِ)، وقال قتادةُ: (هُوَ الَّذِي يَتْبَعُكَ لأَجْلِ أنْ يُصِيْبَ مِنْ طَعَامِكَ، وَلاَ هِمَّةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ). وقال مقاتلُ: (هُوَ الشَّيْخُ الْهَرِمُ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيْعُ غَشَيَانَ النِّسَاءِ وَلاَ يَشْتَهِيْهِنَّ). وأما الْخِصْيَانُ فهُمْ على وجهين: إن كان خَصِيّاً قد جفَّ ماؤهُ، فهو من غيرِ أُوْلِي الإربةِ، وإن كان لَم يجفَّ، فهو من أُوْلِي الإربةِ، كما رُوي عن عائشةَ أنَّها قالت: (إنَّ الْخَصْيَاءَ مِثْلَهُ؛ وَإنَّهَا لَمْ تُحِلَّ مَا حَرَّمَ اللهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ غَيْرِ أُوْلِي ٱلإِرْبَةِ ﴾، قرأ ابنُ كثير والفرَّاء بخفضِ (غَيْرِ) على الصفةِ، وقرأ ابنُ عامرٍ وعاصم بنصب (غَيْرَ) على الاستثناءِ، ويكون (غَيْرَ) بمعنى إلاَّ، وَقِيْلَ: على الحالِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوِ ٱلطِّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَاتِ ٱلنِّسَآءِ ﴾؛ يعني الصغيرَ الذي لا رغبةَ له في النساءِ، ولَم يَبْلُغْ مبلَغاً يطيقُ إتيانَهن، وقد يذكرُ الطِّفلُ بمعنى الجماعةِ، والمرادُ به ها هنا: والجماعةُ من الأطفالِ. وأما الصبيُّ الذي ظهرت لهُ رغبةٌ في النساءِ، فحكمهُ حكمُ البالغِ، لقوله صلى الله عليه وسلم في الصِّبيان:" مُرُوهُمْ بالصَّلاَةِ إذا بَلَغُوا سَبْعاً، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا إذا بَلَغُوا عَشْراً، وَفَرِّقُواْ بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ﴾؛ قال الحسنُ: (كَانَتِ الْمَرْأةُ تَمُرُّ عَلَى الْمَجْلِسِ وَعَلَيْهَا الْخِلْخَالُ، فَتَضْرِبُ إحْدَى رجْلَيْهَا بالأُخْرَى لِيَعْلَمَ الْقَوْمُ أنَّ عَلَيْهَا الْخِلْخَالُ، فَنُهِيْنَ عَنْ ذلِكَ لأَنَّ ذلِكَ مِمَّا يُحَرِّكُ الشَّهْوَةَ؛ لأَنَّ سَمَاعَ صَوْتِ الزِّيْنَةِ بمَنْزِلَةِ إبْدَائِهِ). وفي هذا دليلٌ أن صوتَ المرأةِ عورةٌ؛ لأن صوتَ خِلخَالِها أقلُّ من صوتِها. وأما سِوَى مواضع الزينةِ فلا يحلُّ النظرُ إليه إلاَّ للزَّوجِ خاصَّة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾؛ أي وتُوبُوا إلى اللهِ جميعاً عمَّا كنتم في الجاهليَّة تعملونَ من الخصالِ المذمومة، واعمَلُوا بطاعةِ الله فيما أمرَكم به ونَهاكم عنهُ.
﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾؛ وقولهُ تعالى: ﴿ أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ قرأ ابنُ عامر بضمِّ (الْهَاءِ) ومنهُ (يَا أيُّهُ السَّاحِرُ) و(أيُّهُ الثَّقَلاَنِ)، وينبغي أن لاَ يؤْخَذ بقراءتهِ.
﴿ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ﴾؛ رُشداً وصَلاحاً وصِدقاً ووفاءً وأمانةً وقدرة على الْمَكْسَب، وهذا أمرُ استحبابٍ في العبدِ الذي يقدرُ على الاكتساب وترغيبٍ في الكتابةِ. فأما الذي لا يقدرُ على الكسب ولا يرغبُ في الكتابة، فلا يكون في كتابتهِ إلاّ قطعُ حقِّ المولَى عنه من غيرِ نفع يرجعُ إليه. ومعنى الكتابةِ: أن يُكَاتِبَ مملوكَهُ على مالٍ سَلَّمَهُ إليه نُجوماً فيُعْتَقُ بأدائهِ، وإن كانت الكتابةُ حالَّةً جازت عند أبي حنيفةَ وأصحابهِ، والشافعي لا يُجَوِّزُ إلاّ مُنجَّماً، وأقلُّهُ نَجمان فصاعداً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ آتَاكُمْ ﴾؛ اختلَفُوا في معنى ذلكَ، فرُويَ عن عليٍّ رضي الله عنهُ أنهُ قالَ: (يُحَطُّ عَنِ الْمُكَاتَب رُبُعُ مَالِ الْكِتَابةِ). وعن ابن عباس: (يُحَطُّ عَنْهُ شَيْءٌ)، وعن عبدِالله بن يزيدِ الأنصاريِّ أنه قالَ: (هَذا خِطَابٌ لِلأئِمَّةِ أنْ يُسَلِّمُوا إلَى الْمُكَاتَبيْنَ مَا فَرَضَ اللهُ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ وَفِي ٱلرِّقَابِ ﴾[البقرة: ١٧٧] وهذا أقربُ إلى ظاهرِ الآية، لأن الإتْيَانَ في اللغة هو الإعْطَاءُ دونَ الْحَطِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَبْدِاللهِ بنِ أُبَيِّ سَلُولَ، كَانَتْ لَهُ جَوَارٍ حِسَانٌ: مِسْكَةُ وَأُمَيْمَةُ وَمَقَارَةُ، كَانَ يُكْرِهُهنَّ عَلَى الزِّنَا لِيَكْتَسِبْنَ لَهُ بالْفُجُورِ، وَكَذلِكَ كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ، فَأَتَتِ الْجَوَارِي إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَشْكُونَ إلَيْهِ ذلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). قال مقاتلُ: (نَزَلَتْ فِي سِتِّ جَوَارٍ لِعَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيِّ سلول: مَعاذةُ وَمُسَيْكَةُ وَأُمَيْمَةُ وَعَمْرَةُ وَقُتَيْلَةُ وَأرْوَى، فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُنَّ ذاتَ يَوْمٍ بدِيْنَارٍ، وَجَاءَتْ أُخْرَى ببُرْدَةٍ، فَقَالَ لَهُمَا: ارْجِعَا فَازْنِيَا، وَكَانَ يُؤَجِّرُهُنَّ عَلَى الزِّنَا، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلاَمُ قَالَتْ مَعَاذةُ لِمُسَيْكَةَ: إنَّ هَذا الأَمْرَ الَّذِي نَحْنُ فِيْهِ قَدْ آنَ لَنَا أنْ نَدَعَهُ، فَقَالَ لَهُمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أبي سَلُولٍ: إمْضِيَا فَازْنِيَا. فَقَالَتَا: وَاللهِ مَا نَفْعَلُ ذلِكَ قَدْ جَاءَ اللهُ بالإسْلاَمِ وَحَرَّمَ الزِّنا. ثم مَضَيَا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَشَكَيَا عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). ومعناها: ولا تُكْرِهُوا إمَاءَكم على البغَاءِ؛ أي على الزِّنا.
﴿ لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾؛ مِن كَسْبهِنَّ وبيعِ أولادِهن. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ﴾ يعني إذا أرَدْنَ تَحَصُّناً، خرجَ الكلامُ على وجهِ الحال لا على وجه الشَّرطِ، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ﴾[الاسراء: ٣١]، ويجوزُ أن يكون معناهُ: أن الكلامَ قد تَمَّ عندَ قولهِ ﴿ عَلَى ٱلْبِغَآءِ ﴾ ثُم ابتدأ بالشَّرطِ فقالَ: ﴿ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ﴾ وجوابهُ محذوفٌ؛ تقديرهُ: إنْ أردنَ تحصِيناً فقد أصبنَ، ومثلهُ" قولهُ صلى الله عليه وسلم لعائشةَ: " أدْفِئيني " قالت: إنِّي حَائِضٌ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " وَإنْ لَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِ " "وأراد بذلكَ إنْ كنتِ حائضاً فلا بأسَ بذلك. وقولهُ: ﴿ وَمَن يُكْرِههُنَّ ﴾؛ أي مَن يُجْبرْهُنَّ على الزِّنا، ولَم تقدر الْمُكْرَهَةُ على الدفعِ عن نفسها بوجه من الوجوهِ لَم تأثَمْ، وإن صَبرَتْ عنِ الامتناعِ حتى قُتِلَتْ كان أعظمَ لأجرِها، وإن قُتِلَتْ دَفعاً عن نفسِها كان لَها ذلك. وقولهُ تعالى: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾؛ أي غَفُورٌ لِمن تابَ منهُنَّ وماتَ على التوبةِ، غَفُورٌ لِمن تابَ عن إكراههنَّ على الزنا، رَحِيْمٌ بهم.
﴿ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾؛ عن الشِّركِ والفواحشِ.
ثُم وصفَ اللهُ الزجاجةَ التي فيها المصباحِ؛ فقالَ: ﴿ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ﴾؛ شبَّهَ القنديلَ الذي يكونُ فيه السِّراجُ بالكوكب الدُّرِّيِّ؛ وهو النجمُ الْمُضِيْءُ، ودَرَاري النُّجومِ كبارُها، وقولهُ ﴿ دُرِّيٌّ ﴾ نسبةً إلى أنه كالدُّرِّ في صفائهِ وحُسْنِهِ، كأنَّ الكوكب دُرَّةٌ بيضاءُ. قرأ أبو عمرٍو والكسائيُّ: (دِرِّئٌ) بكسرِ الدال مهموزٌ مَمدود؛ وهو فِعِّيْلٌ من الدَّرْءِ بمعنى الدَّفعِ، يقالُ: دَرَءَ يَدْرَأ إذا دَفَعَ، فكأنه تَلأْلُؤٌ يدفعُ أبصارَ الناظرين إليه. ويقالُ: كأنه رَجَمَ به الشياطينَ فدرأهُم؛ أي دفَعَهم بسرعةٍ في الانقضاضِ، وذلك أضْوَءُ ما يكونُ. وقرأ حمزةُ وأبو بكر: مضمومةُ الدالِ مهموزٌ مَمدود، قال أكثرُ النُّحاة: هو لَحْنٌ؛ لأنه ليسَ في كلامِ العرب، فقيل بضمِّ الفاء وكسر العينِ، وأنكرَهُ الفرَّاءُ والزجَّاج وأبو العباسِ، وقال: (هَذا غَلَطٌ؛ لأنَّهُ لَيْسَ فِي كَلاَمِ الْعَرَب شَيْءٌ عَلَى هَذا الْوَزْنِ). وقرأ الباقون بضمِّ الدالِ وتشديد الياءِ من غير همزٍ، فنسبوهُ إلى الدُّرِّ في صفائه وبَهائهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ ﴾؛ فيه أربعُ قراءاتٍ، قرأ نافع وابن عامر: بياءٍ مضمومة يعنونَ المصباحَ، وقرأ حمزةُ والكسائي وخلف: بتاءٍ مضمومة يعنون الزُّجاجةَ، وقرأ أبو عمرٍو: (تَوَقَّدَ) بالتاء وفتحها وفتح الواو مشدَّدة بمعنى الماضِي، وقرأ ابنُ محيصن: بتاءٍ مفتوحة وتشديد القاف مثل قراءةِ أبي عمرٍو إلاّ أنه رفعَ الدالَ بمعنى الفعلِ المستقبل بمعنى: تتوقَّدُ الزجاجةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾ أي من زَيْتِ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ، فحذفَ المضافَ؛ وأرادَ بالشَّجرة المباركةِ شجرةَ الزَّيتونِ، بُورِكَ لأهلِها فيها، وليس في الشَّجرِ شيءٌ يُورِقُ غِصْنُهُ مِن أوَّله إلى آخرهِ مثلُ الزَّيتون والرُّمانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ﴾؛ أي ليست تُشْرِقُ عليها الشمسُ فقط من دون أن تغرُبَ عليها، ولا غَرْبيَّةٍ تغربُ عليها فقط من دون أن تُشرقَ عليها، بل هي شرقيةٌ غربية تأخذُ حظَّها من الأمرَين جميعاً، لا يظلُّها جبلٌ ولا شجر ولا كهف، نحو أن تكون على تَلٍّ من الأرضِ تقعُ عليها الشمسُ في جميعِ النَّهارِ، وإذا كانت على هذه الصِّفة كان أنضَرَ لَها وأجودَ لزَيتِها وأتَمَّ لنبلتِها وأنضجَ لثمَرِها. وقال الحسنُ: (أرَادَ بهَذا شَجَرَةً فِي الْجَنَّةِ؛ لأَنَّ أشْجَارَ الأَرْضِ لاَ تَخْلُو إمَّا أنْ تَكُونَ شَرْقِيَّةً أوْ غَرْبيَّةً). وسُمِّيت شجرةُ الزَّيتونِ مباركةً؛ لأنَّها كثيرةُ البركةِ والمنافع؛ لأن الزيتَ يُسْرَجُ به وهو إدَامٌ ودِهانٌ، ويُوقَدُ بحطَبها ويدبغُ بها ويُغْسَلُ برمادِها الإبْرِيْسَمُ. وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ائْتَدِمُواْ بالزَّيْتِ وَادْهُنُواْ بهِ، فَإنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ﴾؛ أي يكادُ زيتُ هذه الشَّجرةِ ودُهنها يتَلأْلأُ أو يشرقُ من وراءِ العَصْرِ من صفائهِ وإن لَم تُصِبْهُ نَارٌ؛ أي وإن لَم يوقَدْ بها، فكيفَ إذا استُصْبحَ بها. قال المفسِّرون: هذا مَثَلٌ للمؤمنينَ، فالْمِشْكَاةُ والمصباحُ هو الإيْمانُ والقُرْآنُ، والزجاجةُ صَدْرُ المؤمنِ. ومعنى قولهِ تعالى ﴿ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ﴾ أي يكادُ قلبُ المؤمنِ يعملُ بالْهُدَى وقبلَ أن يأتيهِ العلمُ، فإذا جاءَ العلمُ ازدادَ هدىً على هُدى. وَقِيْلَ: المشكاةُ نفسهُ، والزجاجةُ صدره، والمصباحُ القُرْآنُ والإيْمانُ في قلبهِ توقدُ من شجرةٍ مباركة وهو الإخلاصُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ﴾؛ يريدُ به نورَ السِّراجِ ونورَ الزُّجاجِ ونورَ الدهن ونورَ الكوكب، فكما أن الزيتَ والزجاجَ والكوكب والسراجَ نورٌ على نورٍ في مشكاةٍ لا يتفرَّقُ بشعاعِ السِّراج فيها، فكذلكَ الإيْمانُ في قلب المؤمن من نورٍ على نور، فإن المعرفةَ نورٌ وعلمَهُ نورٌ، إذا أُعْطِيَ شَكَرَ، وإذا ابْتُلِيَ صَبَرَ، وإذا قالَ صَدَقَ، وإذا حَكَمَ عَدَلَ، فهو يتقلَّبُ في الأنوارِ، ومصيرهُ يومَ القيامة إلى النورِ، كما قال تعالى﴿ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ﴾[الحديد: ١٢].
وَقِيْلَ: هذا مثلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لنبيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم: الْمِشْكَاةُ صدرهُ، والزجاجةُ قَلْبُهُ، والمصباحُ فيه النبوَّةُ، تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ وهي شجرةُ النبوَّةِ، يكادُ نورُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يُضِيءُ؛ أي يَبيْنُ للناسِ ولو لَم يتكلَّم به، كما يكادُ ذلك الزيتُ يضيء ولو لَم تَمْسَسهُ نارٌ. وقال ابنُ عمرَ في هذه الآيةِ: (الْمِشْكَاةُ: جَوْفُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَالزُّجَاجَةُ: قَلْبُهُ، وَالْمِصْبَاحُ: النُّورُ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ فِيْهِ، (تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) يَعْنِي بالشَّجَرَةِ إبْرَاهِيْمَ الْخَلِيْلَ عليه السلام.
﴿ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ﴾ أيْ لاَ يَهُودِيٍّ وَلاَ نَصْرَانِيٍّ.
﴿ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ﴾ يَعْنِي النُّورَ الَّذِي جُعِلَ فِي إبْرَاهِيْمَ، وَالنُّورَ الَّذِي جُعِلَ فِي مُحَمَّدٍ عليه السلام). وقال محمَّدُ بنُ كعبٍ: (الْمِشْكَاةُ إبْرَاهِيْمُ، وَالزُّجَاجَةُ إسْمَاعِيْلُ، وَالْمِصْبَاحُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم: سَمَّاهُ مِصْبَاحاً كَمَا سَمَّاهُ سِرَاجاً، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ﴿ وَدَاعِياً إِلَى ٱللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ﴾[الأحزاب: ٤٦].
وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ ﴾؛ يَعْنِي إبْرَاهِيْمَ، سَمَّاهُ مُبَارَكاً؛ لأنَّ أكْثَرَ الأَنْبيَاءِ كَانُواْ مِنْ صُلْبهِ.
﴿ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ﴾ يَعْنِي أنَّ إبْرَاهِيْمَ عليه السلام لَمْ يَكُنْ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيْفاً مُسْلِماً. وَإنَّمَا قَالَ كَذلِكَ لأَنَّ النَّصَارَى يُصَلُّونَ قِبَلَ الْمَشْرِقِ، وَالْيَهُودَ قِبَلَ الْمَغْرِب، قَوْلُهُ ﴿ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ﴾ يَعْنِي تَكَادُ مَحَاسِنُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم تَظْهَرُ لِلنَّاسِ قَبْلَ أنْ يُوحَى إلَيْهِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ﴾ أيْ نُورُ نَبيٍّ مِنْ نَسْلِ نَبيٍّ). وقال الضحَّاكُ: (يَعْنِي بالْمِشْكَاةِ عَبْدَالْمُطَّلِب شَبَّهَهُ بهَا، وَيَعْنِي بالزُّجَاجَةِ عَبْدَاللهِ، وَبالْمِصْبَاحِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ فِي صُلْبهِمَا فَوَرثَ النُّبُوَّةَ مِنَ الشَّجَرَةِ الْمُبَارَكَةِ وَهِيَ إبْرَاهِيْمُ، تُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ، لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبيَّةٍ، بَلْ هِيَ مَكَّةُ فِي وَسَطِ الدُّنْيَا). ووصفَ بعضُ الفصحاءِ هذه الشجرةَ فقال: (هِيَ شَجَرَةُ الرِّضْوَانِ وَشَجَرَةُ الْهُدَى وَالإيْمَانِ، أصْلُهَا نُبُوَّةٌ؛ وَفَرْعُهَا مُرُوءَةُ؛ وَأغْصَانُهَا تَنْزِيْلٌ؛ وَوَرَقُهَا تَأْويْلٌ، وَخَدَمُهَا مِيْكَالَ وَجِبْرِيْلُ). وَقِيْلَ: إنَّما شَبَّهَ اللهُ قلبَ المؤمنِ بالزُّجاجةِ؛ لأنَّها في الزجاجةِ يُرَى مِن خارجها، فكذلكَ ما في القلوب تَبيْنُ على الظاهرِ في الأقوال والأعمالِ، فكما أن الزجاجةَ تنكسِرُ بأدنَى شيءٍ، فكذلك القلبُ يَفْسَدُ بأدنَى آفةٍ تحلُّهُ. وقولهُ تعالى: ﴿ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ ﴾؛ أي يُوَفِّقُ الله للإسلامِ، ويدلُّ بأدلتهِ مَنْ يَشَاءُ ليعرفوا بذلكَ أمرَ دِينهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ﴾؛ أي يضربُ الله الأشباهَ في القُرْآنِ تقريباً للشيءِ الذي أرادَهُ إلى الأفهَامِ، وتسهيلاً لسبيلِ الإدراك على الأنَامِ، كما شَبََّهَ المعرفةَ في قلب المؤمن بالمصباحِ في الزجاجة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ ﴾؛ أي عليمٌ بكلِّ شيء من مصالح العبادِ.
﴿ بِٱلْغُدُوِّ ﴾؛ أي صلاة الغداة، وقولهُ تعالى ﴿ وَٱلآصَالِ ﴾، يعني العَشِيَّاتِ، والأصِيلُ ما بين العصرِ إلى الليلِ، وسُميت الصلاةُ تَسبيحاً لاختصاصها بالتسبيحِ. وقرأ ابنُ عامر: (يُسَبَّحُ) بفتحِ الباء على ما لَم يسمَّ فاعلهُ. ثُم فسَّرَ مَن يُصلي فقال: ﴿ رِجَالٌ ﴾؛ كأنه قالَ: مَن يُسَبِّحُ؟ فقيلَ: رجَالٌ ﴿ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـاةِ ﴾؛ أي لا تشغَلُهم تجارةٌ، ولا بَيْعٌ عن طاعةِ الله، وعن إقامةِ الصَّلاة في البيوتِ، وعن إعطاءِ الزكاة. قال الفرَّاءُ: (التِّجَارَةُ لأَهْلِ الْجَلْب، وَالْبَيْعُ مَا بَاعَهُ الرَّجُلُ عَلَى يَدَيْهِ) وَخَصَّ قَوْمٌ التِّجَارَةَ هُنَا بالشِّرَاءِ لِذِكْرِ الْمَبيْعِ بَعْدَهَا. والمعنى: لا يَمنعُهم ذلك عن حضور المساجد لإقامةِ الصلاة وإتْمَامِها، وإذا حضرَ وقتُ الزكاةِ لَم يحبسُوها عن وقتِها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ ﴾؛ أي يفعلون ذلك خَوْفاً من يومٍ تَرْجِفُ فيه القلوبُ، وتدورُ حُدَقُ العيونِ حالاً بعد حالٍ من الفَزَعِ والخوفِ رجاءَ أن ﴿ لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ ﴾؛ فِي دارِ الدُّنيا.
﴿ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ ﴾؛ بغيرِ استحقاقٍ.
﴿ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾؛ أي بغيرِ حَصْرٍ ولا نِهايةٍ.
﴿ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ﴾؛ أي جَازَاهُ بعملهِ. والسَّرَابُ: هو الشعاعُ الذي يتراءَى للعين وقتَ الهاجرةِ في الفَلَوَاتِ، يُرَى من بعيدٍ كأنه ماءٌ وليس بماء. والبقِيْعَةُ: جمعُ بقَاعٍ، والقِيْعَةُ جمعُ قَاعٍ، نحوُ جَارٍ وجِيرَةٍ، وهو ما انبسطَ من الأرضِ وفيه يكون السَّرابُ. وَقِيْلَ: معناهُ: أنَّ الكافرَ يحسَبُ أن عملَهُ يُغنِي عنه وينفعهُ، فإذا أتاه الموتُ واحتاجَ إلى عملهِ لَم يجدْهُ شَيْئاً؛ أي لا منفعةَ فيهِ ووَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ بالمرصادِ عندَ ذلك فوفَّاهُ جزاءَ عملهِ.
﴿ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ ﴾؛ أي سريعٌ حِسَابُهُ كلَمْحِ البصرِ أو أقلَّ؛ لأنه تَعَالَى لا يتكلمُ بآلةٍ حتى يشغلَهُ سَمعٌ عن سَمعٍ. وسُئِلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: كيفَ يُحَاسِبُهُمْ في حالةٍ واحدة؟ فَقَالَ: (كَمَا رَزَقَكُمْ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ).
وقولهُ تعالى: ﴿ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾؛ أي إذا أخرجَ يَدَهُ من هذه الظُّلمات لَم يرَها ولَم يُقَارِبْ أن يرَاها من شدَّةِ الظلماتِ، فكذلك الكافرُ لا يُبْصِرُ الحقَّ والهدى. وقولهُ تعالى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ ﴾؛ أي مَن لَم يهدهِ اللهُ فما له من إيْمَانٍ، ومَن لَم يجعلِ اللهُ له نوراً في الدُّنيا، فما له من نورٍ. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ:" إنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَنِي مِنْ نُورهِ، وَخَلَقَ أبَا بَكْرٍ مِنْ نُورِي، وَخَلَقَ عُمَرَ وَعَائِشَةَ مِنْ نُورِ أبي بَكْرٍ، وَخَلَقَ الْمُؤْمِنِيْنَ مِنْ أُمَّتِي مِنْ نُورِ عُمَرَ، وَخَلَقَ الْمُؤْمِنَاتِ مِنْ أُمَّتِي مِنْ نُور عَائِشَةَ. فَمَنْ لَمْ يُحِبَّنِي وَيُحِبَّ أبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَائِشَةَ؛ فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ".
﴿ قَدْ عَلِمَ ﴾؛ اللهُ؛ ﴿ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ﴾.
قال المفسِّرون: الصلاةُ لبني آدمَ، والتسبيحُ عامٌّ لِما سواهم من الخلقِ. وفيه وجوهٌ مِن التأويلِ: أحدُها: كلُّ مُصَلٍّ ومُسَبحٍ قد عَلِمَ اللهُ تعالى صلاتَهُ وتسبيحَهُ، والثانِي: أن معناهُ: كُلُّ مُصَلٍّ ومسبحٍ قد عَلِمَ صلاةَ نفسهِ وتسبيحَ نفسهِ، والثالثُ: قد عَلِمَ كلٌّ منهم تسبيحَ اللهِ وصلاتَهُ.
﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾؛ من الطاعةِ وغيرِها. وقولهُ تعالى: ﴿ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾؛ أي له تقديرُهما وتدبيرُهما وتصريفُ أحوالِهما.
﴿ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾.
﴿ ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ﴾؛ أي يجمعُ بين قِطَعِ السَّحاب المتفرقةِ، والسَّحَابُ جمعٌ واحدهُ سَحَابَةٌ، والتَّأْلِيْفُ ضَمُّ بعضٍ إلى بعض حتى يجعلَهُ قطعةً واحدة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً ﴾؛ أي مُتَرَاكِماً بعضهُ فوق بعضٍ.
﴿ فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ﴾؛ أي ترَى المطرَ يخرجُ من وَسَطِهِ وأثنائهِ، والْخِلاَلُ جمعُ الْخَلَلِ مثل الجبال والجبل. قال الليثُ: (الْوَدْقُ الْمَطَرُ كُلُّهُ، شَدِيْدُهُ وَهَيِّنُهُ، وَخِلاَلُ السَّحَاب مَخَارِجُ الْقَطْرِ مِنْهُ). قرأ ابنُ عبَّاس والضحاك: (مِنْ خِلَلِهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ ﴾؛ أي من جبلٍ في السَّماء، وتلك الجبالُ من بَرَدٍ. قال ابنُ عبَّاس: (أخْبَرَ اللهُ أنَّ فِي السَّمَاءِ جِبَالاً مِنْ بَرَدٍ) ومفعولُ الإنزالِ محذوفٌ، تقديرهُ: وينَزِّلُ اللهُ من جبالٍ بَرَدَ فيها، واستغنَى عن ذكرِ المفعول للدلالة عليه، ومِن الأُولَى لابتداء الغايةِ، لأن ابتداءَ الإنزالِ من السَّماء، والثانية للتبعيضِ؛ لأن ما يُنْزِلُهُ اللهُ بعض تلك الجبالِ التي في السَّماء، والثالثةُ لتبيين الجنسِ؛ لأن جنسَ تلك الجبالِ البَرَدَ، كما تقولُ: خَاتَمٌ مِن حديدٍ. وكان عمرُ رضي الله عنه يقول: (جِبَالُ السَّمَاءِ أكْثَرُ مِنْ جِبَالِ الأَرْضِ).
﴿ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ ﴾؛ أي فيصيبُ بالبَرَدِ مَن يشاءُ فيهلكهُ ويهلِكُ زَرْعَهُ.
﴿ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ ﴾؛ فلا يضرُّهُ في زرعهِ وثَمرهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِٱلأَبْصَارِ ﴾؛ أي يكادُ ضَوْءُ برقِ السَّحاب يذهبُ بالأبصارِ من شدَّة ضوئهِ وبريقه ولَمَعَانِهِ؛ لأن مَن نَظَرَ إلى البرقِ خِيْفَ عليه ذهابُ البصرِ. قرأ أبو جعفر: (يُذْهِبُ بالأَبْصَارِ) بضمِّ الياء وكسر الهاء.
﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ ﴾؛ أي إنَّ في ذلك التقلُّب، وفيما ذُكِرَ عِبْرَةً لذوي العقولِ من الناس، يقالُ: فلانٌ صاحِبُ بَصَرٍ؛ أي صاحبُ عَقْلٍ.
﴿ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ ﴾؛ كالإنسانِ والطَّيرِ.
﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ ﴾؛ كالبهائمِ والسِّباعِ. والدَّابَّةُ اسمٌ لكلِّ حيوانٍ مِن مُمَيِّزٍ أو غيرهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَخْلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾؛ ظاهرُ المعنى، قرأ الكوفيُّون غير عاصمٍ (وَاللهُ خَالِقُ) على الاسمِ.
﴿ وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾؛ أي يرشدُ مَن يشاءُ إلى دِين الإسلامِ الذي هو دِينُ اللهِ وطريقُ رضَاهُ وجَنَّتَهُ.
﴿ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ ﴾؛ أي ثُم تعرضُ طائفة منهم.
﴿ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ ﴾؛ أي مِن بعد قولِهم آمَنَّا.
﴿ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ ﴾؛ الذين أعرَضُوا عن حكمِ الله ورسوله.
﴿ بِٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾.
﴿ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾؛ عما يُدْعَوْنَ إليه، نزلت هذه الآياتُ في بشْرِ المنافقِ وخصمهِ اليهوديِّ حين اختصمَا في أرضٍ، فجعلَ اليهوديُّ يجذبهُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليحكُمَ بينَهما، وجعلَ المنافقُ يجذبهُ إلى كعب بن الأشرفِ، يقولُ: إنَّ مُحَمَّداً يَحِيْفُ عليه، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ عن الكتاب والسُّنةِ.
وذلك أن عَلِيّاً رضي الله عنه بَاعَ مِنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أرْضاً بالْمَدِيْنَةِ لاَ يَنَالُهَا الْمَاءُ، فَجَاءَ قَوْمٌ عُثْمَانَ فَنَدَّمُواْ عُثْمَانَ عَلَى مَا صَنَعَ وَقَالُواْ لَهُ: لاَ تَذْهَبْ فِي خُصُومَتِكَ مَعَ عَلِيٍّ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإنَّهُ يَحْكُمُ لَهُ! فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ عُثْمَانُ، وَتَحَاكَمَا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى لِعَلِيٍّ رضي الله عنه، فَأَبَى قَوْمُ عُثْمَانَ أنْ يَرْضُواْ بقَضَائِهِ، فَقَالَ عُثْمَانُ رضي الله عنه: ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ أي سَمعنا قولكَ يا رسولَ اللهِ وأطَعْنا أمرَكَ ورضينا بحُكمِكَ وقضائِكَ، وإنْ كان ذلك فيما يكرهونَهُ ويضرُّ بهم. وقولهُ تعالى: ﴿ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ ﴾؛ يعني الرَّاضِينَ بقضاءِ الله ورسوله. فلما نزلَتْ هذه الآيةُ أقْبَلَ عثمانُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ؛ وَاللهِ لَئِنْ شِئْتَ لأَخْرُجَنَّ مِنْ أرْضِي كُلِّهَا الَّتِي أمْلِكُهَا وَأدْفَعُهَا إلَيْهِ) فأنزلَ اللهُ تعالى: ﴿ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ ٱللَّهَ وَيَتَّقْهِ ﴾؛ معناهُ: ومَن يُطِعِ اللهَ ورسولَهُ فيما ساءَهُ وسرَّهُ ويخشَ الله فيما مضى من ذنوبهِ ويتَّقِ اللهَ فيما بعدُ فلم يَعْصِ اللهَ.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَآئِزُون ﴾، برضَى الله وحسناتهِ.
﴿ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ ﴾، مِن مالِهم كلِّه لفَعَلُوا.
﴿ قُل ﴾ لَهم: ﴿ لاَّ تُقْسِمُواْ ﴾؛ أي لا تَحْلِفُوا، وتَمَّ الكلامُ ها هنا. ثُم قالَ: ﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾؛ أي هذا القولُ منكم يعني القَسَمَ طاعةٌ حَسَنَةٌ. وقال بعضُهم: هذه الآيةُ نزلت في المنافقينَ؛ كانوا يَحْلِفُونَ لئِنْ أمَرَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالخروجِ إلى الجهادِ ليخرجُنَّ، ولَم يكن في نيَّتِهم الخروجُ، فقيلَ لَهم: لا تُقسِمُوا طاعةٌ معروفة مِثْلُ من قَسَمِكُمْ بما لا تصدِّقون، وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾؛ يعني عَلِيْمٌ بما تعملون مِن طاعتكم بالقولِ " و " مخالفتكم بالفعل.
﴿ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ ﴾؛ أي ليس عليهِ إلاَّ أن يُبَلِّغَ ويُبَيِّنَ لكم.
﴿ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾؛ وقولهُ تعالى: ﴿ يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾؛ يجوزُ أن يكون في موضعِ نصبٍ على الحال؛ أي لأَفْعَلَنَّ ذلك في حالِ عِبَادتِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ ﴾.
وقولهُ تعالى: ﴿ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾؛ ظاهرُ الْمُرَادِ.
﴿ وَمَأْوَٰهُمُ ٱلنَّارُ وَلَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ﴾.
﴿ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـٰبَكُمْ مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ ﴾؛ وهو وقتُ القَيْلُولَةِ.
﴿ وَمِن بَعْدِ صَلَٰوةِ ٱلْعِشَآءِ ﴾؛ أرادَ به العشاءَ الأخيرةَ، وهذه الأوقاتُ الثلاثة: ﴿ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ ﴾؛ لأنَّ الإنسانَ يضعُ ثيابه فيها في العادةِ. من قرأ (ثَلاَثُ) بالرفع، فمعناه: هذه الأوقاتُ الثلاثة ثلاثُ عوراتٍ لكم. ومَن قرأ (ثَلاَثَ) بالنصب جعلَهُ بدَلاً من قولهِ (ثَلاَثَ مَرَّاتٍ). قال السديُّ: (كَانَ أُنَاسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يُعْجِبُهُمْ أنْ يُوَاقِعُواْ نِسَاءَهُمْ فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ الثَّلاَثِ لِيَغْتَسِلُواْ ثُمَّ يَخْرُجُواْ إلَى الصَّلاَةِ؛ فَأَمَرَهُمُ اللهُ أنْ يَأْمُرُواْ الْغِلْمَانَ وَالْمَمَالِيْكَ أنْ يَسْتَأْذِنُواْ فِي هَذِهِ الثَّلاَثِ سَاعَاتٍ إذا دَخَلُواْ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ﴾؛ أي لا جناحَ عليكم ولا عليهم في أنْ لاَ يستأذِنُوا في غيرِ هذه الأوقات. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ طَوَٰفُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ﴾؛ أي طَوَّافُونَ عليكم يدخلُونَ ويخرجون ويذهبون ويجيئون ويتردَّدُون في أحوالِهم واشتغَالِهم بغيرِ إذنٍ، يريدُ أنَّهم خَدَمُكُمْ، شئ فلا بأسَ أن يدخلُوا في غيرِ هذه الأوقات بغيرِ إذن. قال مقاتلُ: (مَعْنَاهُ: يَطُوفُ بَعْضُهُمْ وَهُمُ الْمَمَالِيْكُ عَلَى بَعْضٍ وَهُمُ الْمَوَالِي). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأَيَـٰتِ ﴾؛ أي هكذا يُبَيِّنُ اللهُ لكم الدَّلالاتِ والأحكامِ في أمر الاستئذان.
﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ ﴾؛ بمصالحِ العباد.
﴿ حَكِيمٌ ﴾؛ فيما حَكَمَ من استئذانِ الْخَدَمِ في هذه الأوقاتِ الثلاثة.
﴿ كَمَا ٱسْتَأْذَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾؛ المذكورين مِن قَبْلِهم على ما بَيَّنَ اللهُ في كتابهِ، يعني بقوله؛ الأحرارُ الكبارُ الذين أُمِرُوا بالاستئذانِ على كلِّ حالٍ في قوله﴿ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَهْلِهَا ﴾[النور: ٢٧] فليس للعبدِ البالغ أن يدخلَ مَنْزِلَ مولاهُ ولا للولدِ البالغِ أن يدخلَ على أُمِّهِ وعلى ذاتِ محارمه في كلِّ وقتٍ إلاَّ بإذن ﴿ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾.
﴿ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ﴾؛ يعني الْجِلْبَابَ والرِّداءَ والقناعَ الذي فوقَ الخِمَارِ لأجلِ الثياب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ﴾؛ التَّبَرُّجُ: أن تُظْهِرَ المرأةُ مَحَاسِنَهَا مِن وجهِها وجَسَدِها، والمعنى من غير أنْ يُرِدْنَ بوضعِ الجلباب أن يُرَى زينَتُهن. قال مقاتلُ: (لَيْسَ لَهَا أنْ تَضَعَ الْجِلْبَابَ، تُرِيْدُ بذلِكَ أنْ تُظْهِرَ قَلاَئِدَهَا وَقِرْطَهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الزِّيْنَةِ). وقولهُ تعالى: ﴿ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ ﴾؛ معناهُ: وأن يَسْتَعْفِفْنَ فلا يضعْنَ الجلبابَ في الْمِلاَئَةِ والقِنَاعِ فهو خيرٌ لَهنَّ مِن أن يَضَعْنَ.
﴿ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ ﴾؛ مقالةَ العبادِ.
﴿ عِلِيمٌ ﴾؛ بأعمالِهم. يقالُ: امرأةٌ عِدَادٌ أُقْعِدَتْ عنِ الحيضِ، فإذا قالَ: قَاعِدَةٌ بالهاءِ أراد به جالسةً، والجمعُ فيهما جميعاً قَوَاعِدُ.
﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ ﴾؛ يعني بيوتَ عبيدِكم وإمائكم، وذلك أن السيِّدَ يَملِكُ بيتَ عبدهِ، أو الْمَفَاتِحُ معناها الخزائنُ، كقولهِ تعالى﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ ﴾[الأنعام: ٥٩] أي خزائنُ الغيب. ومعناهُ: المفاتيحُ التي يُفْتَحُ بها الخزائنُ، يعني بذلك الوكلاءَ والأُمَنَاءَ والعبيدَ الذين يَملكون أمرَ الخزائنِ وتكون مفاتِحُها بأيديهم، فليس عليهم في الأكلِ جُنَاحٌ إذا كان أكْلاً يَسيراً مثل أن يأكُلَ مِن ثَمَرِ حائطٍ يكون قَيِّماً عليه أو يشربَ مِن لبنِ ماشية يكون قَيِّماً عليها. وقال السديُّ: (الرَّجُلُ يُوَلِّي طَعَامَهُ غَيْرَهُ يَقُومُ عَلَيْهِ، فَلاَ بَأْسَ أنْ يَأْكُلَ مِنْهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾؛ يعني صَدِيْقاً يسرُّهُ أن يأكلَ من طعامهِ، وإنَّما أطلقَهُ على عادةِ الصحابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ كما روي في سبب نزُول هذا: أنَّ مَالِكَ بْنَ يَزِيْدٍ وَالْحَارثَ بْنَ عَمْرٍو كَانَا صَدِيْقَيْنِ، فَخَرَجَ الْحَارثُ غَازياً وَخَلَّفَ مَالِكاً فِي أهْلِهِ وَخَزَائِنِهِ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الْغَزْوِ رَأى مَالِكاً مَجْهُوداً، قَالَ: مَا أصَابَكَ؟ قَالَ: لَمْ يَكُنْ عِنْدِي شَيْءٌ، وَلَمْ يَحِلَّ لِي أنْ آكُلَ مِنْ مَالِكَ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً ﴾ سببُ نزول هذه الآيةِ: أن بَنِي كِنَانَةَ - وَهُمْ حَيٌّ مِنَ الْعَرَب - كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَجُوعُ أيَّاماً وَلاَ يَأْكُلُ حَتَّى يَجِدَ ضَيْفاً فَيَأْكُلُ مَعَهُ، وَإذا لَمْ يَجِدْ أحَداً فَلاَ يَأْكُلُ شَيْئاً، وَرُبَّمَا كَانَتْ مَعَهُ الإبلُ مُجَفَّلَةً فَلاَ يَشْرَبُ مِنْ ألْبَانِهَا حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُشَارِبُهُ، فأعلمَ اللهُ تعالى أن الرجلَ منهم إذا أكلَ وحدَهُ فلا إثْمَ عليهِ. ومعنى ﴿ أَشْتَاتاً ﴾ متفرِّقين. ويستدلُّ مِن هذه الآيةِ أن للجماعةِ في السَّفرِ أن يخلِطُوا طعامَهم فيأكلُوا جميعاً أو يأكلَ واحدٌ منهم مِن زاده ولا حرجَ عليه في ذلك. والغرضُ من هذه الآيات: نفيُ الْحُرْمَةِ عن كلِّ ما تطيبُ به الأنفسُ. وعن ابنِ عبَّاس رضي الله عنه في سبب نزول هذه الآيات: (أنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا أنْزَلَ قَوْلَهُ تَعَالَى:﴿ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ ﴾[النساء: ٢٩] تَحَرَّجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مُؤَاكَلَةِ الْمَرْضَى والزَّمْنَى وَالْعُمْيَانِ وَالْعُرْجِ، وَقَالُواْ: قَدْ نَهَانَا اللهُ عَنْ أكْلِ الْمَالِ بالْبَاطِلِ، وَالأَعْمَى لاَ يُبْصِرُ مَوْضِعَ الطَّيِّب مِنَ الطَّعَامِ، وَالأَعْرَجُ لاَ يَسْتَطِيْعُ الْمُزَاحَمَةَ، وَالْمَرِيْضُ لاَ يَسْتَوفِي حَقَّهُ مِنَ الطَّعَامِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَاتِ). والمعنى: ليس عليكُم في مؤاكلةِ الأعمى والأعرجِ والمريض حرجٌ. وقال الضحَّاكُ: (كَانَ الْعُمْيَانُ وَالْعُرْجَانُ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ مُؤَاكَلَةِ الأَصِحَّاءِ؛ لأَنَّ النَّاسَ يَتَقَذرُونَهُمْ وَيَكْرَهُونَ مُؤَاكَلَتَهُمْ، وَكَانَ أهْلُ الْمَدِيْنَةِ لاَ يُخَالِطُهُمْ فِي طَعَامِهِمْ أعْمَى وَلاَ أعْرَجُ وَلاَ مَرِيْضُ تَقَذُّراً، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَاتِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ ﴾؛ أي يُسَلِّمُ بعضُكم على بعضٍ، وإنَّما قال ﴿ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ ﴾ لأن المؤمنينَ كنفْسٍ واحدةٍ. وَقِيْلَ: هذا في دخُولِ الرجُلِ بيتَ نفسهِ، والسَّلاَمُ على أهلهِ ومَن في بيتهِ. قال قتادةُ: (إذا دَخَلْتَ بَيْتَكَ فَسَلِّمْ عَلَى أهْلِكَ فَهُمْ أحَقُّ مَنْ سَلَّمْتَ عَلَيْهِ، وَإذا دَخَلْتَ بَيْتاً لِيْسَ فِيْهِ أحَدٌ، فَقُلْ: السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِيْنَ، وَمِنَ السُّنَّةِ إذا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَ نَفْسِهِ أنْ يُسَلِّمَ عَلَى أهْلِهِ، فَإنَّهُ يَزْدَادُ بذلِكَ بَرَكَةً فِي بَيْتِهِ وَأهْلِهِ). وقال صلى الله عليه وسلم:" إذا دَخَلْتُمْ بُيُوتَكُمْ فَسَلِّمُواْ عَلَى أهْلِيكُمْ، وَإذا طَعِمْتُمْ طَعَاماً فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، فَإنَّ الشَّيْطَانَ إذا سَلَّمَ أحَدُكُمْ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهُ، وَإذا ذكَرَ اسْمَ اللهِ عَلَى طَعَامِهِ قَالَ لِجُنْدِهِ مِنَ الشَّيَاطِيْنَ: لاَ مَبيْتَ لَكُمْ وَلاَ عَشَاءَ، وَإنْ لَمْ يُسَلِّمْ حِيْنَ يَدْخُلُ بَيْتَهُ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللهِ عَلَى طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ لِجُنْدِهِ: أدْرَكْتُمُ الْعَشَاءَ وَالْمَبيْتَ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةً طَيِّبَةً ﴾؛ أي افعَلُوا ذلكَ تَحِيَّةَ أمَرَكم اللهُ بها، لكم فيها البركةُ والمغفرة والثواب.
﴿ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلآيَٰتِ ﴾؛ أي هكذا بَيَّنَ اللهُ لكم الدلالاتِ والأحكامَ.
﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾؛ أي لكي تَعْقِلُونَ.
﴿ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ ﴾.
قال المفسِّرون: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا صَعَدَ الْمِنْبَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَأرَادَ الرَّجُلُ أنْ يَخْرُجَ لِطَاعَةٍ أوْ عُذْرٍ؛ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى يَقُومَ بحِيَالِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ يَرَاهُ، فَيَعْرِفَ أنَّهُ إنَّمَا قَامَ لِيَسْتَأْذنَ، فَيَأْذِنُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ. قال مجاهدُ: (وَإذا أذِنَ الإمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أنْ يُشِيْرَ بيَدِهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾؛ نزلَتْ في عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه حِيْنَ اسْتَأْذنَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الرُّجُوعِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ إلَى الْمَدِيْنَةِ لِعِلَّةٍ كَانَتْ بهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَا ٱسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ ﴾؛ قِيْلَ: إنَّ هذا منسوخٌ بقوله تعالى﴿ عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾[التوبة: ٤٣]، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمُ ٱللَّهَ ﴾؛ أي استغفِرْ لِهؤلاء المستأذِنين إذا استأذنوكَ لعُذرِهم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾؛ للنَّاسِ.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾؛ بهم.
﴿ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ ﴾؛ أي بَلِيَّةٌ.
﴿ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ في الآخرةِ.
﴿ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ ﴾؛ أي يعلمُ ما يُبْدِيْهِ كلٌّ منكم وما يُخفِيه، وقولهُ تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ ﴾؛ معناهُ: يعني يَعْلَمُ يومَ يُبعثونَ متى هو.
﴿ فَيُنَبِّئُهُمْ ﴾؛ فيهِ؛ ﴿ بِمَا عَمِلُواْ ﴾؛ أي يجزيَهم بما عملوا في دارِ الدُّنيا.
﴿ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ ﴾؛ من أعمالِ العباد وغيرِ ذلك. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ:" مَنْ قَرَأ سُورَةَ النُّورِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ بعَدَدِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ فِيْمَا مَضَى وَفِيْمَا بَقِيَ ".